الموسوعة القرآنية خصائص السور

جعفر شرف الدين

مقدمة التحقيق

[مقدمة التحقيق] (بسم الله الرّحمن الرّحيم) تقديم يأتي في مقدمة اهتمامات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، نشر المفاهيم الصحيحة للثقافة الإسلامية، وتيسير الوصول إلى المصادر الأصلية للمعرفة الدينية التي تستند إلى القرآن الكريم، من حيث ضبط المصطلحات، وشرح المفردات، وتحليل المدلولات التي تعبّر عن الحقائق القرآنية الساطعة بدقة وأمانة. وفي هذا الإطار تأتي الموسوعة القرآنية التي تصدر عن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، وهي عمل موسوعي جديد، يتناول خصائص السور القرآنية، على نحو يساعد في فهم آي الذكر الحكيم، والولوج إلى الآفاق الممتدة لعالم القرآن، كما يساعد في سبر أغوار معانيه السامية، والإلمام بقسمات مضيئة من مبناه الذي جمع البساطة إلى الإعجاز. ومضمون هذه الموسوعة، ماثل في أبواب تسمّى مباحث، تتناول، من كل سورة: أهدافها، وترابط الآيات فيها، وأسرار ترتيب ورودها بين السور الأخرى، ومكوّناتها، ولغة التنزيل العائدة إليها، ومعانيها اللغوية، ومعانيها المجازية، ومسائل متفرقة تواجه القارئ، عنوانها في الموسوعة: لكل سؤال جواب. وقد انتقيت موادّ هذه الموسوعة من أمّهات كتب التراث العربي الإسلامي، ومن المؤلفات الحديثة في علوم القرآن.

والجديد اللّافت في الموسوعة: أنها جمعت، في حيّز واحد، موضوعات قرآنية متفرّقة، تعوّدنا أن نطلبها في مراجع مختلفة، تندرج في ما يعرف ب علوم القرآن، وأن أوثق المراجع المتفق عليها، وأوفاها، قد اختيرت لها، فجاءت مباحثها مستوفية لموضوعاتها، محققة لأغراضها. وجانب آخر تكشفه لنا الموسوعة: أنّها جاءت تطبيقا واضحا لتسمية الدار التي تصدر عنها، دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، وجاءت دعوة إلى التوحيد في زمن لم تظهر الحاجة فيه إلى التوحيد، في دنيا المسلمين، مثلما تظهر الآن، فكان لنا، من ذلك، سمة أخرى حملتنا على دعم هذا العمل ورعايته، ودفعتنا إلى المساهمة فيه بتقديمه إلى جمهور القراء. وفّقنا الله إلى ما فيه الخير والتقدم لأمتنا، وشدّ من أزر العاملين من أجل تعميق التقارب والترابط والتضامن بين المسلمين كافة. إنه سميع مجيب الدعاء. الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (ايسيسكو)

تصدير

بسم الله الرّحمن الرّحيم تصدير يسعدنا أن نقدّم للقارئ هذا العمل القرآنيّ الموسوعيّ الجليل، الذي يغني عن مكتبة، ويوفّر معرفة بالكتاب المنزل تجعل المسلم أكثر وعيا لدينه، وأعمق إيمانا بمعتقده، ويتيح، للمسلمين، المنتمين إلى المذاهب المتنوعة، مزيدا من التفاهم، والسّير المبارك نحو تقارب منشود بلغ تطلّعنا إليه، وهجسنا بتحقيقه بين المسلمين: أننا جعلناه عنوانا لمؤسستنا، فسميناها دار التقريب بين المذاهب فغدا، بالتسمية، شعارا نرفعه ونعمل له. كما تتيح هذه المعرفة، لغير المسلمين، مزيدا من فهم الإسلام وأحكامه، يسهّل الحوار بين المسلمين من جهة، وأبناء الرسالات الأخرى، من جهة ثانية. إن الموسوعة القرآنية سفر نفيس، فريد في بابه، يسدّ ثغرة في المكتبة العربية الإسلامية، ويشكل حاجة للكاتب، والمثقف، واللغوي، والأستاذ، والطالب، وكلّ معنيّ بالإسلام. وقد أعدّها واحد من أبناء هذه الأمّة، يجمع إلى المعرفة التّقوى والذّوق العرفاني، ونعني به الأستاذ جعفر شرف الدين الذي ولّف بين الموضوعات، وصاغ منها منظومة متراصّة البنيان، وظيفتها الإبانة عن خصائص السور القرآنية وكان له ما أراد. وحين عقدت المؤسسة العزم على إصدار هذا العمل الموسوعي، كانت تعي جيّدا ثقل المهمّة التي ستضطلع بها، وسعة الجهد الذي ستبذله، ليأتي العمل

متطابقا مع اسمه، دالا على عنوانه. وعند ما قررنا نشر الموسوعة لم يكن العامل الرئيسي الذي استندنا إليه هو الكسب المادي، بل شعورنا بالمسؤولية إزاء الأمة، وضرورة مشاطرتها الهموم من خلال موقعنا، ومن طريق نشر ثقافة إسلامية رحبة الرؤية، متنوعة المشارب الصافية، تنزع إلى التوحّد في منهج من التغاير المفضي إلى التكامل. إن دار التقريب بين المذاهب، المتطلّعة إلى تحقيق الهدف المبيّن، لم تأل جهدا في إعطاء هذا العمل ما يستحق من علم وخبرة وعناية واهتمام. إن عملنا هذا قد استغرق، من الجهد والمكابدة، سنوات بذلنا فيها ما نستطيع، لنصدر أوّل موسوعة قرآنية تتسم بالشمول، والعمق، والوضوح. وبعد، فهذا ما استطعنا إنجازه وتقديمه، إلى المكتبة العربية الإسلامية في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها العرب والمسلمون. فإن كنّا قد نجحنا، كان ذلك بفضل الله ومنّه وإلّا، فإننا نحمد الله الذي أقدرنا على المحاولة، طامعين في ثواب لها وأجر. إننا، في كل حال، نسأله التوفيق والقبول والرّضا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. دار التقريب بين المذاهب الإسلامية

استهلال

(بسم الله الرّحمن الرّحيم) استهلال هذا عمل قلّ نظيره، يسدّ نقصا في المكتبة العربية- الإسلامية، انبرى له السّيد جعفر شرف الدين، فاختار موضوعاته، وألّف بينها، ثم صاغ من أشتاتها وحدة متراصّة، موضوعها العام: خصائص السّور القرآنية. ونحن، أمام غنى هذا العمل، وكثرة احتمالاته، وتنوّع مصادره، قد حزمنا أمرنا بمعيار قوامه: الدّلالة، والوضوح، واجتناب التّكرار. إننا، في مواضع من الموسوعة، اضطررنا إلى شيء من التصرّف لم يمسّ معه تناغم النص، واستدركنا به ما لم يلتفت إليه بعض المؤلفين الأجلّاء، فأدخلنا على نصوصهم قدرا من التعديل الموضح. وكلمة في السّياق المنهجي مضمونها: أنّنا ذيّلنا مدخل كل بحث بإشارة إلى مصدره، فصّلناها وكرّرناها، في كل مبحث من مباحث السّور، وكان ذلك، منّا، تسهيلا على القارئ، وتوفيرا لجهده. أمّا توثيقنا للسّور والآيات، فقد اعتمدنا فيه المنهج التالي: في كل مبحث من المباحث الثمانية التي تتناول كل سورة، ترد فئتان من الآيات: - آيات من سورة المبحث، وهي بطبيعتها وطبيعة البحث، أكثر عددا من سواها

- آيات من سور أخرى، يستشهد بها للإيضاح، أو المقارنة، أو ما شابه. وفي عملية توثيق لآيات الفئتين والإحالة عليها، اعتمدنا منهجا من المفيد عرضه. ألف- آيات سورة المبحث: عند ما نكون في مبحث يتناول سورة بعينها من السور، سورة «النبأ» مثلا، وترد، في سياق المبحث، آيات من هذه السورة، فإننا نوردها دون أن نسمّي سورتها، مكتفين، من الإشارة إلى اسم السورة، بهلالين قرآنيّين مزهّرين نضع بينهما الآيات، بنصّها الكامل كانت أم بنصّها المجتزئ، من أوّلها كان الاجتزاء أو من آخرها. فإن كانت الآيات بنصها الكامل، أو بنصها المجتزئ المتضمّن خواتم الآيات، تلا كلّ آية رقمها، وكتب الرقم داخل الهلالين المزهّرين، نحو: - وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) - لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) وإن كانت بنصّها المجتزئ الذي لا يحوي خواتم الآيات، جعلنا رقمها خارج الهلالين مع ذكر «الآية» ، نحو: - رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ [الآية 37] . باء- آيات السور الأخرى: عند ما ترد، في المبحث، آيات من سور أخرى، نورد هذه الآيات،

بالكيفيات المبيّنة في الفقرة «ألف» ، مع ذكر السورة التي تنتمي إليها كل آية. وهذه بعض الأمثلة: - إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) [القيامة]- وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) [المدّثّر] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة/ 255] . وبعد، فإننا نسأله، جلّ وعلا، أن يتقبّل عملنا قبولا حسنا، وأن يسدّد خطانا إلى ما نحبّ ونرضى إنه هو السميع العليم. أحمد حاطوم محمد توفيق أبو علي

مقدمة وإهداء

(بسم الله الرّحمن الرّحيم) مقدمة وإهداء الصلاة والسلام على خير خلقه، وخاتم رسله، وسيد أنبيائه، البشير النذير، السراج المنير، الطهر الطاهر، العلم الظاهر، المنصور المؤيد، المحمود، الأحمد، أبي القاسم محمد، وعلى آله الميامين، وأصحابه الطيّبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والحمد لله الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق] . كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) [هود] لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت/ 42] ، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) [البقرة] ، نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) [النحل] ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) [القيامة] . ولهذا تميّز الكتاب المجيد بهذا الاسم المضيء، (القرآن) ، فكان له علما، يخفق في كل قلب، ويتردّد على كل لسان، يراود كل لبّ وجنان، بروح المعاني ومهجة البيان. فالقرآن مصدر القراءة، والقراءة مصدر المعرفة، والمعرفة مصدر الحضارة، والحضارة تاج الحياة. شغل القرآن المجيد على مر العصور والقرون، كبار العلماء في شتى علومهم وفنونهم، فاهتمّوا بحفظه، وتلاوته، وتجويده، وكتابته، وتنقيطه، ولغته، وتقعيد قواعده، وابتدعوا علوم البلاغة ليثبتوا بها إعجازه. وحفظوا لهجات

العرب، وضبطوا مخارج حروفها، لئلا تنطق التّاء طاء، والضّاد ظاء، والقاف كافا إلخ ... واستحدثوا ما سمّي بالإخفاء، والإقلاب، والإدغام. وقد ثبت، بما لا يقبل الشّكّ، أنّه، لولا القرآن لم تضبط لغة، ولا شعر بل لم يضبط النطق والكتابة بلغة الضاد. إنه القرآن. وكفى به حافظا للّغة العربية، وعلومها، محتضنا لتراثها، وتاريخها، وسدّا منيعا يعصمها من الزعازع. وها هي آياته البينات تنطق بهذه الآيات المعجزات المتحديات: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر] . بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) [البروج] . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء] . إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) [يوسف] . إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) [الزخرف] . كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (4) [فصلت] . قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر/ 28] . أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) [هود] . أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) [يونس] . وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) [البقرة] .

هذه الآيات البينات خطاب للناس أجمعين، ينطلق عبر ألف وأربعمائة سنة، بنبرة واثقة عالية: أن أتوا بمثل هذا القرآن، بعشر سور مثله، بسورة من مثله. ويتصاعد التحدي: أن ادعوا من استطعتم، ادعوا شهداءكم ليؤازروكم على الإتيان بمثل هذا القرآن، بعشر سور، بسورة واحدة، ولم لا تستطيعون وقد أنزله الله بلسان عربي مبين، وجعله قرآنا عربيّا غير ذي عوج؟ ويتنامى التحدي ويتكرر، ويعرض الحروف التي تتألف منها آيات القرآن وسوره. فهي ليست لغزا، ولا أحجية، ولا سرّا. إنها، بالتحديد، الأبجدية العربية من ألفها الى الياء. إنها اللغة التي تتخاطبون بها في ندواتكم ومجالسكم، وتنشدون بها في عكاظكم ومربدكم، وتتغنّون بها في رجزكم وحدائكم، في شعركم ونثركم. وتتغنى بها الركبان بعدكم، حتى لتكوننّ من المحفوظات ثم من المأثورات، ثم من المعلّقات. أليست من حروف الأبجدية: الألف والحاء والراء والسين والصاد والطاء والعين والكاف والميم والهاء والياء؟ ثم أليست هذه الأبجدية هي التي تكوّن بألفاظها القرآن: سورا وآيات. ثم أليست هذه الحروف هي التي افتتح الله سبحانه بها كثيرا من السّور، وأعلن أن هذا القرآن إنما كتب بهذه الحروف؟ فاقرأ: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) [يوسف] . الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) [يونس] . الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) [هود] . الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [ابراهيم/ 1] . الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) [الحجر] . الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) [البقرة] .

الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) [لقمان] . الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) [السجدة] . المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرعد/ 1] . المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الأعراف] . حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) [غافر] . حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) [فصلت] . حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) [الجاثية] . حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) [الشورى] . طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) [النمل] . طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) [الشعراء] . طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) [القصص] . كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) [مريم] . بعد هذا الحشد من الآيات التي افتتح الله سبحانه وتعالى بها بضعا وعشرين سورة مباركة، واستهل الافتتاح بإعلان هوية اللغة التي نزل بها القرآن المجيد، وتسمية الحروف التي انتظمت بها آياته وسوره، أفليس حكما مطلقا بهذا الموضوع هذا الإعجاز الصاعق: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) [الإسراء] . وها قد مضى أربعة عشر قرنا، دون أن تتحرك جامعة أو مجمع أو جماعة للإتيان بآية من آياته، فضلا عن عشر سور أو سورة واحدة. ذلك أن إعجاز القرآن المجيد ليس بنظمه الفني، ولا بسمته

البلاغي، ولا بنهجه البياني فحسب، وإنما بدعوته الآخذة بالأعناق الى المحبة، والخير، والجمال، والمعرفة، والعلم، والعمل وإنما بعقله الكوني، وفكره العلمي، وسبقه الزمني. لقد تناول القرآن المجيد الإنسان نطفة، وعلقة، ومضغة، لحما وعظاما، وليدا ورضيعا وغلاما، شابّا وكهلا وشيخا، حيّا وميتا، دنيا وآخرة. وتناول الكون أرضا وسماء، بحارا وماء وأنهارا. وما في أعماق الأرض من معادن وخزائن، وما في صحرائها وأدغالها من إنسان وحيوان ومن طبيعة خاصة. وما في طبقات السماء من كواكب ونجوم وأجرام. وما في أعماق البحار من عوالم الحيوان والنبات والجماد والمحار. وتناول تعاون عناصر الكون هذه وتناغمها وانسجامها وتكاملها: الأرض مع السماء، والشمس مع القمر. وكلاهما مع الأرض والبشر والشجر، والماء والهواء. وكلّ منها مع الإنسان والطبيعة والبيئة والحياة. تناولها القرآن المجيد في شتّى سوره المباركات، وآلاف من آياته البينات بليلها ونهارها، بجبالها ووديانها، بظلامها ونورها، بظلّها وحرورها، بربيعها وخريفها، بصيفها والشتاء. وتناول الأديان برسلها ورسالاتها، بكتبها وأنبيائها، بتوراتها وإنجيلها، بزبورها ومزاميرها وقرآنها، بإبراهيم وإسحاق ويعقوب، بنوح وهود وصالح، بداود وسليمان واليسع، بزكريا ويحيى ويونس، بموسى وهارون، بعيسى ومحمد، وهو (ص) خاتمهم وسيدهم وسيّد الخلق أجمعين. وأمر القرآن المجيد بالمعروف: محبة وصدقا وخيرا ... هجرة وجهادا وصبرا. ونهى عن المنكر: غيبة وافتراء وبهتانا، استعلاء واستكبارا وامتهانا. وفتح العقول والأبصار والأفئدة على العلم والعمل. فسبحان من علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم. قال تعالى في سورة الرحمن:

الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) [الرحمن] . واشترع الشرائع، وسن القوانين، ووضع الأنظمة، وأقرّ العرف. وصاغ أجلّ العبر وضرب أروع الأمثال وقصّ أحسن القصص. وبذلك لم يلامس كتاب إلهي أو بشريّ، في سحيق التاريخ وجديده، أعماق الروح وطمأنينة اليقين، كما لا مسهما القرآن المجيد. ولا استشهد في سبيل دعوته، ونشر كلمته، كما استشهد المسلمون الأولون ومن تبعهم بإحسان الى يومنا الحاضر. كما أنه لم يستشر في المقابل عنف كما استشرى عنف أعداء القرآن، حتى تعدّاه الى الناطقين بلغته، المنتسبين الى هويته. وما صمود القرآن المجيد أمام الدّعوات الهدّامة إلا آية من آياته، ومعجزة من معجزاته، لا يضارعها سوى آيات التحدي لنفس الناطقين بلغته، والصمت المطبق الذي لا يمكن أن يفسّر إلا بالعجز أمام إعجازه، والهزيمة أمام أبعاد إنجازه. وبذلك تجلّى عجز الإنسان في تدبيره وتفكيره أمام عظمة الله في قرآنه. وتجلّى نقص المخلوق، أمام كمال الخالق. وبدا القرآن رفيعا مترفعا، في حين بدت الكتب البشرية صغيرة صاغرة. وهذا ما كنت أحسّه، ويسري في عروقي، إبّان الصّبا وفي طور الشّباب، كلّما سمعت تلاوة الكلام المنزل، وأتاني، من قرآن الفجر، ضوء يوشّي الغبش المنداح من حولي، مع كل صبح جديد. وظلّ ذلك رجعا يتردّد في صدري، يراود مني سمعي والفؤاد، ويؤنسني في وحشتي، حتى تكوّن لي منه شيء كالنداء، هتف بي وألحّ، ثم دفعني إلى المكتبة الإسلامية دفعا رأيتني معه أبحث وأنقّب، أطلب المصادر القرآنية المتنوعة: من مصادر اللغة، إلى مصادر البيان، إلى مصادر النزول وأسبابه من

مصادر القدامى إلى مصادر المحدثين ... كل ذلك طلبته لأخرج منه بموسوعة تروي شيئا من غلّة العطاش إلى فهم الكلام المنزل، والولوج إلى دنياه. ووفّقني سبحانه في سعيي، فكان لي، ولقرّائي، شيء مما تطلعت إليه، وكان سفر متواضع قرّت به عيني، سمّيته الموسوعة القرآنية. أما طريقة إعداد موضوعاتها وتهيئة أبحاثها، وتحضير موادّها، فقد اعتمدت في ذلك ما يعتمده أصحاب دوائر المعارف، بفارق شكلي يتعلق بالاختصاصيين والباحثين المعتمدين لكتابة موادّها. فبدلا من أن نتوجه الى من نراهم مؤهّلين لهذه المهمات، بإعداد كلّ منهم المادة التي يكون الفارس في حلبتها- بدلا من أن نتوجه بذلك إلى هؤلاء الفرسان، كما يتوجه أصحاب الموسوعات، توجهنا إلى مؤلفاتهم في شتى الموضوعات، فعمدنا إلى اختيار عدة كتب لكل موضوع، ثم اعتمدنا كتابا منها، إذا كان مستوفيا لشروط المادة المطلوبة. وإلا فإننا نأخذ فصلا أو بحثا من عدة كتب، حتى إذا تكامل الموضوع اعتمدناه. وقد فرض عليّ جلال القرآن وقدسيّته أن أتبع في ترتيب خصائص السور المباركة، ترتيب هذه السور نفسه، من «الفاتحة» ورقمها: 1، حتى «الناس» ورقمها 114. وإنني هنا أنوّه، بمن بذل جهده معي في توثيق مواد الموسوعة القرآنية وتنسيقها. إنها مديرة مكتبي ابنتي هدى علي الزائدي زادها الله هدى. وربّ ولد لك لم يخرج من صلبك، ولم تلده أم أولادك. وإنني لأرجو أن أفوز بمصداقية النية التي دفعتني للقيام بهذا العمل التوثيقي. وهي نيّة خالصة للقرآنيّين حقا، والإسلاميّين صدقا، وللناطقين بلغة الضاد حيّها دون مهجورها، وغضّها دون يابسها. وهي، من قبل ومن بعد، للقرآن وللإنسان. وهي أوّلا وآخرا، لمنزل القرآن، وبارئ الإنسان، وللقرآنيّ الأول، وللإنسان الأول، ذلك الذي هبط عليه القرآن نبيّا، للإسلام وللإنسان.

ولا مندوحة لي، في ختام هذه المقدمة، من الإشادة بجهد كريم، كان له أبلغ الأثر في استقامة هذا العمل بهذه الكيفية التي آل إليها، وأعني به جهد الباحثين اللغويين، الأستاذ أحمد حاطوم والدكتور محمد توفيق أبو علي، اللذين راجعا هذه الموسوعة، فدقّقا في نصوصها، وحقّقا لفظها، وضبطا ما يحتاج إلى ضبط، من الحروف وعلامات الوقف وعدّلا، من ذلك وأضافا، ما يقتضي الإضافة والتعديل ووحّدا ما يتطلّب التوحيد من إشارات الإحالة، بالأرقام، وذكرا، حيث يلزم، أرقام الآيات التي لم تذكر أرقامها، وأسماء السّور التي لم تذكر أسماؤها، وتثبتا مما ذكر من الأسماء والأرقام، تثبّتهما من نصوص الآيات نفسها، وبذلا، في غير هذه الجوانب، من العناية ما يستحقان جزيل الشكر عليه. وإنني، وأنا أنهي هذا التقديم، أختتمه بإهداء هذا المجهود الى روح من بثّ في روحي روح الايمان: إلى روح الغائب عن عيني، الحاضر في فكري وقلبي، المالئ سمعي وبصري، أبي، نضّر الله ضريحه وأكرم مثواه. إنني أتشرف بإهدائه إليه، لا برّا به أبا ومربيّا وهاديا فحسب، وإنما لأنه كان: أول من فتح سمعي وبصري على قيام الصلاة، لدلوك الشمس، إلى غسق الليل، وقرآن الفجر. وأخلص من شرح صدري للحفاظ على الصلوات والصلاة الوسطى، والقيام لله قانتا. فإليك يا سيدي. يا من بسطت عليّ جناحيك، طفلا ويافعا، وزققتني المعرفة، فتّى وشابا، أهدي هذا الجهد. وقد عمّمتني السنون بوقار الشّيب. عسى أن يكون لك به قرّة عين. ولدك جعفر شرف الدين

مدخل

(بسم الله الرّحمن الرّحيم) مدخل للقرآن المجيد خصائص عامة، ولكل سورة من سوره الكريمة خصائص تنفرد بها. فمن خصائص القرآن الكريم تعدّد أسمائه المباركة، وصفاته الطيبة، وسماته المقدّسة فهو: القرآن الكريم، والفرقان العظيم، والكتاب المجيد، والنور المبين، والكتاب المكنون، والذكر الحكيم، والذكر المبارك، والصراط المستقيم، والعروة الوثقى، والحكمة البالغة، والقول الفصل، وأحسن الحديث، وصحف مكرّمة، وتنزيل رب العالمين، وبيان للناس، وبلاغ للناس وغيرها من الأسماء الشريفة، والنعوت المنيفة كالمثاني، والفصل، والمفصّل، والحكم، والحكمة، والحكيم، والمهدي، والبيان، والبرهان، والمبارك، والمجيد، والوحي، والرسالة، والإمام. والقرآن المجيد كنز، وإعجاز، ولغة، وبيان وتشريع، وتاريخ، وسير، وعبر، وقصص، وعلم، وعمل وقد اكتنزت بهذه المعطيات الأبكار: 1- سوره السبع الطوال وهي البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال. 2- سوره المئون: المؤمنون، والأنبياء، والحجر، والكهف، والإسراء،

ويوسف، والنحل، وطه، والشعراء، والصافّات، وهود، ويونس. 3- سوره المفصّلة: الحجرات، والبروج، والطارق، والبيّنة، والزّلزلة، والناس. 4- المثاني وتطلق على السور البواقي جميعا، وهنّ: سور الممتحنات: الفتح، والحشر، والسجدة، والطلاق، والقلم، والحجرات، والملك، والتغابن، والمنافقون، والجمعة، والصّف، والجن، ونوح، والمجادلة، والممتحنة، والتحريم. وسور «ألم» : البقرة، وآل عمران، والأعراف، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة. وسور المسبّحات: الإسراء، والحديد، والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن، والأعلى. وسور «الحمد» : الفاتحة، والأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر. وسورة «الر» : يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر. والسور «العتاق» «1» : الإسراء، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء. وسور «العزائم» : السجدة، وفصّلت، والنجم، والعلق. وسور «قل» : الكافرون، والإخلاص، والفلق، والناس. وسور «الطواسين» : الشعراء، والنمل، والقصص. والسورتان الزهراوان: البقرة، وآل عمران. والسورتان القرينتان: الأنفال، والتوبة «2» .

_ (1) . أول ما أنزل من السور. (2) . من فهارس القرآن الكريم. ويشتمل على 1500 فن ومطلب، للأستاذ محمود راميار: شركة أوفست المساهمة، طهران 1384 هـ 1965 م، ص 1034.

وجميع سوره المباركة المائة والأربع عشرة سورة، وأحزابه الستون، وأجزاؤه الثلاثون وآياته المباركات البالغة ستة آلاف ومائتين وستّا وثلاثين آية «1» . هذه الآيات البيّنات موزّعة على عناوين موضوعية، هي: الأديان والأنبياء: 2061 آية. الكون والدنيا: 2986 آية. الإنسان والأسرة: 2076 آية. التاريخ والسير والقصص والأمثال: 3180 آية. العلم والعمل: 2367 آية. الأمر بالمعروف (الأخلاق والتشريع) : 3194 آية. النهي عن المنكر (الأخلاق والتشريع) : 1685 آية. وهنا يبرز سؤال: كيف تكون آيات القرآن المجيد 6236 آية، وقد بلغت بعد توزيعها على مواضيعها أضعافا مضاعفة؟ الجواب كامن في الآيات ذاتها، فربّ آية تناولت موضوعا واحدا، وآية تناولت موضوعين، وآية تناولت ثلاثة موضوعات أو أكثر. وبذلك، فإن عدد الموضوعات التي تناولتها آيات القرآن الكريم، تتعدى مجموع عدد آياته، فتصبح أضعافا كما رأينا في الأرقام السابقة. إنّ التّاريخ البشريّ كلّه، قديمه والمحدث، لم يعرف كتابا منزلا من عند الله، أو مؤلّفا من مؤلّفات البشر، قد نال ما ناله القرآن الكريم من اهتمام المسلمين والعرب، والمستعربين والمستشرقين فقد اهتموا به وبعلومه وفنونه بإعجازه الفكري والبلاغي والغيبي والعلمي، بتنوّع معطياته ومبتكراته. ويكفي في

_ (1) . المرجع السابق، ص 1034.

وصف ذلك أن نسجل لابن النديم، أحد كبار جهابذة التتبع لآثار المؤلّفين والمؤرّخين والعلماء والكتّاب والشّعراء، وتحديد أسماء السابقين إلى جمع القرآن المجيد، على عهد النبي (ص) وتعدادها في الصفحة [41] من كتابه «الفهرست» كما يلي: علي بن أبي طالب. سعد بن النعمان بن عمرو. أبو الدرداء عويمر بن زيد. معاذ بن جبل بن أوس. زيد بن ثابت بن زيد بن النعمان. أبيّ بن كعب بن قيس بن مالك بن امرئ القيس. عبيد بن معاوية بن زيد بن ثابت بن الضّحّاك «1» . وإحصاء الكتب المؤلفة في علوم القرآن، من عصر النبيّ (ص) حتّى عصره، وعددها في الصفحتين [50 و 57] من كتابه «الفهرست» كما يلي: 1- الكتب المؤلّفة في نزول القرآن. 2- الكتب المؤلّفة في قراءة القرآن. 3- الكتب المؤلّفة في وجوه قراءات القرآن. 4- الكتب المؤلّفة في لغات القرآن. 5- الكتب المؤلّفة فيما اتفقت ألفاظه ومعانيه في القرآن. 6- الكتب المؤلّفة في غريب القرآن.

_ (1) . تاريخ القرآن للمحقق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب المصري 1402 هـ 1982 م، ص 95.

7- الكتب المؤلّفة في أحكام القرآن. 8- الكتب المؤلّفة في متشابه القرآن. 9- الكتب المؤلّفة في ناسخ القرآن ومنسوخه. 10- الكتب المؤلّفة في أجزاء القرآن. 11- الكتب المؤلّفة في عدد آي القرآن. 12- الكتب المؤلّفة في لامات القرآن. 13- الكتب المؤلّفة في النقط والشكل في القرآن. 14- الكتب المؤلّفة في الوقف والابتداء في القرآن. 15- الكتب المؤلّفة في وقف التمام. 16- الكتب المؤلّفة في مقطوع القرآن وموصوله. 17- الكتب المؤلّفة في معان شتى من القرآن. 18- الكتب المؤلّفة في تفسير القرآن. 19- الكتب المؤلّفة في اختلاف المصاحف «1» . و «فهرست» ابن النديم، من المصادر المهمّة، لمن يريد الوقوف على ثقافة حقبة القرون الأربعة الأولى للإسلام. ويعتبر الأول من نوعه، وهو عمدة في موضوع التراجم، وأصول التأليف في هذا المضمار. وهو على اعتدال حجمه يعدّ ذخيرة قيّمة. ولا يستطيع المتتبّع، بسهولة ويسر، أن يقف على إحصاء ما ألّفه العلماء والباحثون قديما وحديثا حول القرآن. ومن المؤلّفات الجديدة موسوعة قرآنية صدرت عن دار الرفاعي في الرياض، بعنوان: «معجم مصنّفات القرآن الكريم»

_ (1) . تاريخ القرآن، صفحة 174- 175.

ويقع في سبعة مجلّدات من القطع الكبير، فهرس فيها مؤلّفه ما توصّل إليه من المؤلّفات المصنّفة في تفسير القرآن وعلومه. وصدر، قبله وبعده، كثير من المعاجم القرآنية في لبنان ومصر، وفي الجمهورية الإسلامية في إيران، وسورية. وإذا كان ابن النديم قد أحصى، في حدود سنة 377 هـ، واحدا وعشرين نوعا من المؤلّفات القرآنية، لكلّ نوع فريق من المؤلفين، فكيف لنا أن نغطّي الحقبة التي تفصلنا عنه، إذا لم نتوفّر على التواصل مع التراث جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن. ويغوص الباحثون في كل عصر، كما حدث ويحدث، ويستخرجون اللؤلؤ من أصدافه، والمرجان من محاره، ثم يصوغونه لآلئ قرآنية مضيئة، تزين أعناق العصور الفكرية المزدهرة. وقد زيّنا بدورنا «معارف المكتبة القرآنية» بعقود منها، في هذه الموسوعة التي تعنى بخصائص السور القرآنية، بمجلدها الأول، هذا الذي تقرأه، والمجلدات اللاحقة إن شاء الله. وقد أوردنا منها ثماني خصائص كوّنت ثمانية مباحث، لأعلام السلف والخلف، وهي: 1- أهداف السورة ومقاصدها. 2- ترابط الآيات في السورة. 3- أسرار ترتيب السورة. 4- مكنونات السورة. 5- لغة التنزيل في السورة. 6- المعاني اللغوية في السورة. 7- لكل سؤال جواب في السورة. 8- المعاني المجازية في السورة.

الجزء الأول

الجزء الأول سورة الفاتحة

المبحث الأول أهداف سورة"الفاتحة"

المبحث الأول أهداف سورة «الفاتحة» «1» تسمّى «الفاتحة» لأنّ الله عزّ وجل افتتح بها كتابه، ولأن المسلم يفتتح بها الصّلاة. وقيل لأنها أول سورة نزلت من السماء، فأول آيات نزلت من السماء هي الآيات الأولى من سورة «اقرأ» ، وأول سورة نزّلت من السماء هي سورة «الفاتحة» . وتسمّى «سورة الحمد» و «أمّ الكتاب» ، و «أمّا القرآن» ، لأنها أصل القرآن، أو لأنها أفضل سورة في القرآن، فقد اشتملت على أصول العقيدة وعلى الأهداف الأساسية للقرآن، ففيها الثناء على الله وتعظيمه ودعاؤه. وتسمّى «الشافية» لأن فيها شفاء ودواء. وتسمّى «الصلاة» ، قال النبي (ص) : «يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» . يبدأ المؤمن قراءة الفاتحة بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. وتعرف الجملة الأولى بالاستعاذة، وتعرف الثانية ب «التسمية» أو «البسملة» . وقد أمر الله بالاستعاذة عند أول كل قراءة، فقال في سورة النحل المكّيّة: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) [النحل] . وإنما خصت القراءة بطلب الاستعاذة، لأن القرآن مصدر هداية، والشيطان مصدر ضلال فهو يقف للإنسان بالمرصاد

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كل سورة ومقاصدها» لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984 .

في هذا الشأن على وجه خاص، فعلّمنا الله أن نتّقي كيده وشره بالاستعاذة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) : هي بداية مباركة لسور القرآن، ولكل عمل يعمله الإنسان، فيتجرد من حوله وقوته، ويبارك العمل باسم الله وبركة الله وقدرته. وقد تكلم المفسّرون كثيرا في معنى البسملة وفي علاقة بعض ألفاظها ببعض. قال بعضهم: معنى «بسم الله» : بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته. هذا تعليم من الله لعباده ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها حتى يكون الافتتاح ببركة اسمه جلّ وعزّ. وقال الإمام محمد عبده: إنها تعبير يقصد به الفاعل إعلان تجرّده من نسبة الفعل إليه، وأنه لولا من يعنون الفعل باسمه لما فعل، فهو له وبأمره وإقداره وتمكينه، فمعنى: «أفعل كذا باسم فلان» : أفعله معنونا باسمه ولولاه ما فعلته. قال الأستاذ الإمام: وهذا الاستعمال معروف مألوف في كل اللغات، وأقربه ما يرى في المحاكم النظامية حيث يبتدئون الأحكام قولا وعملا، باسم السلطان أو الخديوي فلان. الْحَمْدُ لِلَّهِ: الحمد هو الثناء بالجميل على واهب الجميل و «الله» علم على الذات الأقدس، واجب الوجود، ذي الجلال والإكرام. وهي جملة خبرية معناها: الشكر لله، وفيها عرفان لله بالفضل والمنّة، كما ورد في الأثر: «يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك» . وفي الفتوحات الإلهية: الْحَمْدُ لِلَّهِ: الشكر لله المعبود للخواصّ والعوامّ، المفزوع إليه في الأمور العظام، المرتفع عن الأوهام المحتجب عن الأفهام، الظاهر بصفاته وآلائه للأنام. رَبِّ الْعالَمِينَ (2) : الرب هو المالك المتصرف، ويطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح والتربية. والمتصرف للإصلاح والتربية يشمل العالمين، أي جميع الخلائق. قال في تفسير الجلالين: «أي مالك جميع الخلق من الإنس والجن والملائكة والدوابّ وغيرهم، وكل منها يطلق عليه عالم يقال له عالم الإنس وعالم الجن، إلى غير ذلك» . والله سبحانه لم يخلق الكون ليتركه

هملا، وإنما هو يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربيه، وكل العوالم تحفظ وتتعهد برعاية رب العالمين. والصلة بين الخالق والخلائق صلة دائمة ممتدة في كل وقت وفي كل حالة. لقد حكى القرآن عن عقائد المشركين، وصور التّخبّط الذي كان يحيط بالبشرية في الجاهلية. فمنهم من اتّخذ أصناما يعبدها من دون الله، ومنهم من جعل الالهة المتعددة رموزا للذات الإلهية، وقالوا كما ورد في التنزيل: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] . وقال القرآن عن جماعة من أهل الكتاب: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] . وكانت عقائد الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام، تعج بالأرباب المختلفة، بوصفها أربابا صغارا تقوم إلى جانب كبير الالهة كما يزعمون. جاء الإسلام وفي العالم ركام من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار، يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والدين بالخرافة، والفلسفة بالأسطورة. والضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يخبط في ظلمات وظنون لا يستقر منها على يقين. ومن ثمّ كانت عناية الإسلام الأولى موجهة إلى تحرير أمر العقيدة، وتحديد التصوّر الذي يستقرّ عليه الضمير في أمر الله وصفاته، وعلاقته بالخلائق وعلاقة الخلائق به على وجه القطع واليقين. وكان من رحمة الله بالعباد إنقاذهم من الحيرة، وإخراجهم من الضلال إلى الهدى بهذا الدين الحنيف بما فيه من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق وسهولة ويسر، وتجاوب مع الفطرة. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: الرحمن: صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة، الرحيم: صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإحسان وتعديهما إلى المنعم عليه. ونلاحظ أن كلمة الرحمن لم تذكر في القرآن، إلا وقد أجريت عليها الصفات، كما هو شأن أسماء الذات. قال تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) [الرحمن] ، الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) [طه] . أما

«الرحيم» ، فقد كثر استعمالها وصفا فعليا، وجاءت بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) [البقرة] ووَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) [الأحزاب] ووَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) [يونس] . كما جاءت الرحمة كثيرا على هذا الأسلوب وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الكهف: 16] . ف «الرحمن» : اسم الله يدل على قيام الرحمة بذاته سبحانه، و «الرحيم» صفة تدل على وصول هذه الرحمة إلى العباد. تقول: فلان غني بمعنى: أنه يملك المال، وفلان كريم بمعنى أنه ينقل المال إلى الآخرين. ورحمة الله لعباده لا حد لها، فهو الذي خلقهم وأوجدهم وسخّر لهم الكون كله وأمدّهم بنعمه التي لا تعد ولا تحصى، ثم هو يفتح بابه للتائبين ويعطي السائلين، ويجيب دعاء الداعين. قال تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) [البقرة] . إن واجبنا أن نغرس في أبنائنا محبة الله، وأن نعوّدهم عبادته حبّا له واعترافا بفضله وإحسانه، وذلك هو منهج الإسلام. فإن الله في الإسلام، لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء، كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها، كما تصوّرها أساطير الإغريق، ولا يدبّر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزورة في العهد القديم، كالذي جاء في أسطورة برج بابل في الأصحاح الحادي عشر من سفر التكوين. فالله، في الإسلام، رحمن رحيم، ليس مولعا بالانتقام والتعذيب. وبعض النّاس يحلوا لهم أن يصوّروا الإله منتقما جبّارا لا همّ له إلّا تعذيب الناس وإلقاؤهم في نار جهنم، وهي نغمة نابية عن روح الإسلام، غريبة عن نصوصه وتشريعاته السمحة. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) : أي أن الله هو المالك المتصرّف يوم القيامة، فالناس في الدنيا يملكون ويحكمون ويتصرفون، فإذا كان يوم القيامة وقف النّاس جميعا للحساب الصغير والكبير، السّوقة والأمير، الوزير والخفير، الملك والأجير، كل الناس قد وقفوا حفاة عراة مجرّدين من كل جاه أو

سلطان أو رتبة أو منزلة، وينادي الله سبحانه: لمن الملك اليوم؟ فيكون الجواب: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) [غافر] . ويَوْمِ الدِّينِ وهو يوم الحساب والجزاء، قال ابن عباس: يَوْمِ الدِّينِ هو يوم حساب الخلائق، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ، إلّا من عفا عنه، فالأمر أمره. قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] . والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية، وأساس من أسس السعادة والنجاح للفرد والمجتمع. فالمؤمن، عند ما يتيقّن أن هناك يوما للجزاء والحساب يدفعه إيمانه إلى مراقبة الله والتزام أوامره واجتناب نواهيه. ولهذا فإن التشريعات الإسلامية تتخذ طابعا مميّزا في التطبيق، فإن المؤمن ينفذها راغبا في ثواب الله راهبا لعقابه. أمّا التشريعات الواضعية، فإن تنفيذها مرتبط بالخوف من السلطة. وعند ما يتأكد الشخص من بعده عن أعين السلطة، فإن هذا يهوّن عليه ارتكاب المخالفة. أما القانون الإلهي، فإنه مرتبط بسلطة عليا لا تغيب ولا تختفي أبدا. إنها سلطة الله الذي يعلم السر وأخفى، ويطّلع على الإنسان أينما كان وحيثما وجد. ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة] . إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) : لا نعبد إلّا إيّاك ولا نستعين إلّا بك. فأنت المستحقّ للعبادة، وأنت نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) [الأنفال] . ومعنى العبادة خضوع لا يحدّ لعظمة لا تحد، وهي تدل على أقصى غايات التذلّل القلبي والحب النفسي، والفناء في جلال المعبود وجماله، فناء لا يدانيه فناء. هي سعادة المؤمن، بأنه يقف بين يدي الله خاشعا خاضعا عابدا متبتّلا،

قول عبد الله بن عباس، وابن جرير الطبري

ذاكرا لآيات الله، معتزا بصلته بالله، مناجيا إلها سميعا بصيرا مجيبا. والعبادة لله تحرر المؤمن من كل عبودية لغير الله، لأنه يثق بأن الله هو الخالق الرازق المعطي المانع، وأن بيده الخلق والأمر، وأن أمره بين الكاف والنون: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس] . وإذا صدقت عبودية المؤمن لله تحرّر من عبوديته لكل العبيد، فازداد عزّا بالله، وثقة به واعتمادا عليه، وصار سعيدا بحياته، راضيا عن سعيه، واثقا بأن هناك جزاء عادلا في الاخرة فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزلزلة] . والمؤمن حين يقف بين يدي الله فيقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ، يحسّ سعادة أيّ سعادة، حيث يقف وهو المخلوق الضعيف ليخاطب الله القادر، بقوله: إياك نعبد. فأنا عابد في محرابك، مستعين بك في أموري كلها. قول عبد الله بن عباس، وابن جرير الطبري 1- عن ابن عباس، قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ إيّاك نوحّد ونرجو يا ربنا ونخاف، ووَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إيّاك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلها. 2- وقال الطبري: معنى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ: لك اللهم نخشع ونذلّ ونستكين إقرارا لك بالربوبية لا لغيرك. ومعنى وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وإياك ربنا نستعين على عبادتنا إيّاك، وطاعتنا لك في أمورنا كلها- لا أحد سواك، إذا كان من يكفر بك يستعين في أموره بمعبوده الذي يعبده من الأوثان دونك، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) : الصّراط المستقيم: هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، وقد كثر كلام المفسرين في المراد بالصراط المستقيم. قال ابن عبّاس: الصّراط المستقيم، هو الإسلام. وقال الإمام علي: الصّراط المستقيم، هو كتاب الله تعالى

ذكره. وقال أبو العالية: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) الصراط هو الطريق، والمعنى وفّقنا إلى طريق رسول الله (ص) . وكلّ هذه الآراء تلتقي على أن معنى الصّراط المستقيم هو: جملة ما يوصل النّاس إلى سعادة الاخرة والدنيا من عقائد وآداب وأحكام من جهتي العلم والعمل. وهو سبيل الإسلام الذي ختم الله به الرسالات السماوية، وجعل القرآن دستوره الشامل، وو كل إلى محمد (ص) تبليغه وبيانه. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ: أي: طريق من أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصّدّيقين والشهداء، والصالحين، الذين أطاعوك وعبدوك. أو هو طريق السعداء المهتدين الواصلين. قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) [النساء] . غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ: وهم الكافرون أو هم اليهود. وَلَا الضَّالِّينَ: وهم المنافقون الحائرون المتردّدون بين إيمانهم الظاهر وكفرهم الباطن. طوائف الناس أما الحق: تعدّدت أقوال المفسرين في بيان معنى المنعم عليهم، والمغضوب عليهم، والضالين، والذي نراه: أن المنعم عليهم هم المؤمنون الصادقون والمغضوب عليهم هم الكافرون الجاحدون والضالّون: هم المنافقون الخائنون. ودليل ذلك ما ورد في أول سورة البقرة حيث ذكرت السورة أن النّاس أمام الحق ثلاثة أقسام: المؤمنون: وقد جرى الحديث عنهم عنهم في أربع آيات أولها:

في أعقاب السورة

الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) [البقرة] . والكافرون: وقد تحدثت عنهم السورة في آيتين من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) [البقرة] . والمنافقون: وقد تحدثت عنهم السورة في ثلاث عشرة آية تبدأ بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) [البقرة] . في أعقاب السورة جمع الله معاني القرآن في سورة الفاتحة، فقد اشتملت على تعظيم الله وحمده والثناء عليه، وهذا هو أصل العقيدة: الإيمان بالله والاعتقاد أن الله سبحانه، يتصف بكل كمال وينزّه عن كل نقص. ففي النصف الأول من الفاتحة ثناء على الله بما هو أهله. وفي النصف الثاني دعاء بالتوفيق والاستقامة على الصراط المستقيم. فكأن الفاتحة قسمان، قسم يتوجه العبد فيه بالثناء على الله، وقسم يدعو فيه ربه ويطلب لنفسه الصلاح والهدى. وقد ورد في صحيح مسلم، عن أبي هريرة عن رسول الله (ص) : «يقول تعالى قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل. إذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال الله أثنى عليّ عبدي، فإذا قال مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) قال الله: مجّدني عبدي، وإذا قال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) . قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» . ولعل هذا الحديث الصحيح، يوضح سر اختيار هذه السورة المباركة، ليقرأها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة، أو ما شاء الله أن يردّدها كلّما قام يدعوه في الصّلاة. فكأنها في الإسم «مجمّع أشعّة» تنير

بضوئها كل شيء، وتبسط نورها في المؤمن فيزداد يقينا وإيمانا. وهي نشيد إلهي يردده المؤمن معترفا لله بالفضل، شاكرا له جميل نعمه، مستهديا إيّاه إلى الصراط المستقيم. والنصف الأول من السورة يتعلق بالعقيدة والفكر، والنصف الثاني يتعلق بالسلوك والعمل. والمتتبع لأهداف القرآن الكريم، الواقف على مقاصده ومعارفه، يرى أنه جاء تفصيلا لما أجملته هذه السورة وحددته من صلاح العقيدة، واستقامة السلوك. قال تعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) [الإسراء] . وقال (ص) : «ليس الإيمان بالتمنّي، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل» . وفي «صحيح البخاري» : أن سورة الفاتحة رقية من الداء، وشفاء من الأمراض، فكأنها شفاء حسي ومعنوي، قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82] .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الفاتحة"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفاتحة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها اختلف العلماء في تاريخ نزول الفاتحة، فقيل إنها نزلت بمكة بعد سورة «المدّثّر» ، وهو قول أكثر العلماء. وقيل إنها نزلت بالمدينة، وهو قول مجاهد. وقيل إنها نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة، وسبب ذلك، التنبيه إلى شرفها وفضلها. وإذا كانت قد نزلت بعد سورة «المدّثّر» ، فهي خامسة سور القرآن في النزول. وقد نزلت بذلك في مرتبتها كفاتحة للكتاب، بعد المناسبات التي اقتضت سبق السور الأربع لها. وبهذا تكون من السور التي نزلت بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لأن القرآن افتتح بها في مصحف عثمان، وهو المصحف الذي اعتمد على ترتيبه جمهور المسلمين، وتبلغ آياتها سبع آيات. الغرض منها وترتيبها نزلت هذه السورة لتكون من القرآن بمنزلة المقدمة للكتاب، لأن نظام التأليف يقضي بألا يفاجئ المؤلف قرّاء كتابه بمقصوده منه، بل يجب أن يبدأه على بصيرة به قبل الشروع فيه. وهذه المقدمة يجب أن تشتمل على ثلاثة أركان: أوّلها، افتتاحها باسم الله، والحمد

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

لله، والثناء عليه شكرا له على ذلك التأليف الذي هدى إليه. وثانيها، إظهار الخضوع له، وبيان أنه لا عون إلّا منه سبحانه. وثالثها، الالتجاء إليه بالدعاء لاستمداد ذلك العون. ويجب أن تشتمل، مع هذا، على ما يسمّى براعة الاستهلال، وهي أن يؤتى قبل الشروع في المقصود بما يشعر به، ليدرك القارئ الغرض من وضع الكتاب، ويكون على بصيرة به قبل الشروع فيه. وقد اشتملت هذه السورة على هذه الأركان الثلاثة. فجاء في أوّلها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) ، فافتتحت باسم الله والثناء عليه بهذه الصفات التي تفرّد بها دون غيره. وقد كان العرب، في جاهليتهم يفتتحون كلامهم بقولهم: «باسمك اللهم» ، فاستبدل به القرآن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) ، إشارة إلى أن عهد الإسلام عهد رحمة، وهو العهد الذي يجب أن يشمل العالم كله، ويكون خاتمة العهود كلها. وهذا هو ركنها الأول. ثم جاء فيها بعد ذلك ركنها الثاني بقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) وفي ذلك إقرار بأنه لا معبود غيره، ولا عون إلّا منه. ثم جاء ركنها الثالث بقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) . وفي ذلك براعة الاستهلال المطلوبة، لأنه يشير إلى أن المقصود بالقرآن وضع دين جديد للخلق، يشتمل على أحكام لا عوج فيها ولا انحراف، ويصلح ما أفسده النّاس في شرائع الله من قبل. ولا شك أن هذه الفاتحة، بهذا الشكل، لم يسبق إليها كتاب قبل القرآن. وقد صارت بعده قدوة تتبع، وسنّة تحتذى، وكفى ذلك دليلا على فضلها وحسن ترتيبها.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الفاتحة"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفاتحة» «1» افتتح سبحانه كتابه بهذه السورة، لأنّها جمعت مقاصد القرآن، ولذلك كان من أسمائها: أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والأساس «2» . فصارت كالعنوان ببراعة الاستهلال. قال الحسن البصري: إن الله أودع علوم الكتاب السابقة في القرآن، ثم أودع علوم المفصّل في الفاتحة. فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتاب المنزلة. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان «3» . وبيان اشتمالها على علوم القرآن قرره الزّمخشري، باشتمالها على الثناء على الله بما هو أهله، وعلى التعبّد، والأمر والنهي، وعلى الوعد والوعيد، وآيات القرآن لا تخرج عن هذه الأمور «4» . قال الإمام فخر الدين: المقصود من القرآن كله، تقرير أمور أربعة: الإلهيات، والمعاد، والنبوات، وإثبات القضاء والقدر. فقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) يدل على الإلهيات، وقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . الكشّاف 1: 4 بولاق. ومن أسمائها: السبع المثاني، والقرآن العظيم، والوافية والكنز (الإتقان: 1: 189- 191) . (3) . الشعب، 72 ورقة 87 أ. دار الكتاب المصرية. (4) . أنظر: الكشّاف: 1: 4 وفيه (التعبد بالأمر والنهي) .

يدل على نفي الجبر، وعلى إثبات أنّ الكل بقضاء الله وقدره. وقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) ، إلى آخر السورة، يدل على إثبات قضاء الله، وعلى النبوات، فقد اشتملت هذه السورة على المطالب الأربعة، التي هي المقصد الأعظم من القرآن «1» . وقال البيضاوي: هي مشتملة على الحكم النظرية، والأحكام العملية، التي هي سلوك الصراط المستقيم، والاطلاع على مراتب السعداء، ومنازل الأشقياء «2» . وقال الطيبي: هي مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين: أحدها: علم الأصول، ومعاقدة معرفة الله عز وجل وصفاته، وإليها الإشارة بقوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) ، ومعرفة المعاد، وهو المومى إليه بقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) . وثانيها: علم ما يحصل به الكمال، وهو علم الأخلاق. وأجلّه الوصول إلى الحضرة الصّمدانية، والالتجاء إلى جناب الفردانية، وسلوك طريقة الاستقامة فيها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) . قال: وجميع القرآن تفصيل لما أجملته الفاتحة، فإنّها بنيت على إجمال ما يحويه القرآن مفصّلا، فإنها واقعة في مطلع التنزيل، والبلاغة فيه: أن تتضمن ما سيق الكلام لأجله، ولهذا لا ينبغي أن يقيّد شيء من كلماتها ما أمكن الحمل على الإطلاق «3» . وقال الغزالي في «خواصّ القرآن» : مقاصد القرآن ستة، ثلاثة مهمة، وثلاثة تتمة.

_ (1) . مفاتيح الغيب: 1: 65. (2) . تفسير البيضاوي: 1: 35 بحاشية الشهاب الخفاجي. (3) . الطيبي هو: الحسين بن عبد الله بن محمد الطيبي الإمام المشهور، وأحد كبار علماء الحديث والتفسير واللغة. توفي عام 743 هـ. أنظر الدرر الكامنة لابن حجر: 2: 156، والبدر الطالع للشوكاني: 1: 229، وبغية الوعاة للسيوطي: 228. وكلامه هذا في شرح الكشاف له. مخطوط بالأزهرية. ج 1 ورقة 29 أ. [.....]

الأولى: تعريف المدعوّ إليه، كما أشير إليه بصدرها وتعريف الصراط المستقيم، وقد صرح به فيها وتعريف الحال عند الرجوع إليه تعالى وهو الاخرة، كما أشير إليه بقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) . والأخرى: تعريف أحوال المطيعين، كما أشار إليه بقوله: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الآية 7] . وتعريف منازل الطريق، كما أشير إليه، بقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الفاتحة"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الفاتحة» «1» 1- مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) : هو يوم القيامة. أخرجه ابن جرير «2» وغيره من طريق الضحاك، عن ابن عباس. 2- صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الآية 7] : هم النبيّون، والصّدّيقون، والشهداء والصالحون، كما فسّره في آية النساء «3» . 3- غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) : الأول: اليهود. والثاني: النصارى. كما أخرجه أحمد، وابن حبّان، والترمذي «4» ، من حديث عدي بن

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . 1: 52. (3) . هي قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) [النساء] . (4) . أحمد في «المسند» 4: 378- 379، وابن حبّان (1715) ، والتّرمذي (2956) ، وقال: هذا حديث حسن غريب. وانظر الترمذي (2957) . ورواه أيضا: عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، كما أخرجه في «الدر المنثور» 1: 16، والطبري مجزأ 1: 16، و 64، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» 6: 208: «رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح، غير عباد بن حبيش وهو ثقة» . وفي التعليق على «الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني» 18: 68: «وهو حديث حسن» .

حاتم قال: قال رسول الله (ص) : «إنّ المغضوب عليهم هم اليهود، وإن الضالّين هم النّصارى» . وأخرجه ابن مردويه «1» من حديث أبي ذرّ.

_ (1) . بضمّ ما قبل الواو وفتح ما بعدها، على عادة المحدثين، بخلاف النحاة فيفتحون ما قبل الواو والواو، ويسكنون ما بعدها. انظر «تدريب الراوي» للسيوطي 1: 338- 339. وابن مردويه هو: أبو بكر أحمد بن موسى الأصبهاني، حافظ مشهور، له «التاريخ» و «التفسير المسند» . توفي سنة (416 هـ) .

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الفاتحة"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفاتحة» «1» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) تنتهي آيات هذه السورة بصوت النون أو الميم، مسبوقين بالياء، وفي ذلك ضرب من الإتقان في البناء، يحققه هذا النمط البديع من «النظم» . وإني لأميل مع القائلين: إن البسملة هي الآية الاولى في كلام الله، فيكون العدد سبع آيات. إنّ «الفاتحة» هي أمّ القرآن، ومن أجل ذلك حفلت بالأفكار الكبرى، التي تميّز بها دين الله، أي الإسلام، وهي أنه- عزّ اسمه- ربّ العالمين، الرحمن الرحيم،. وهو وحده الذي يختصّ بالعبادة، وهو وحده المستعان، وفي هذه الآية الخامسة نجد «إيّاك» وقد قدّمت على الفعلين «نعبد» و «نستعين» . وقد أشار أهل العلم إلى أن التقديم مؤذن بأنه، وحده، تقدّست أسماؤه، مخصوص بالعبادة، وهو المستعان لا يشاركه في ذلك غيره، وهذا كله مستفاد من هذه الطريقة في بناء الجملة، وما كان من «التقديم» الذي أشرنا إليه. وإني لأرى أن التقديم قد حقق أيضا غرضا أسلوبيا وهو الحفاظ على «النظم» ، الذي يوفره ورود الآي على الميم والنون في أواخر الفواصل. وقد تحقّق ضرب من التساوق البديع

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

في تقديم «إيّاك» على الفعلين كما بيّنا، وفي ذلك كلّه اتّفاق في النّظم، يتحقق في جماع مواد هذه السورة: ثمّ ماذا؟ إن طول الآيات كلها قدر يكاد يكون متساويا في مادته وبهذا ضرب من التوافق والانسجام يخدم هذا البناء المتساوق في مادّته ومن أجل هذا يعمد أهل التلاوة إلى الوقوف على قوله تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ في الآية السابعة وقفة قصيرة، ليتحقّق نمط من التساوي في طول الآي.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الفاتحة"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفاتحة» «1» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) : «اسم» (في التسمية) صلة زائدة، زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرك، لأن أصل الكلام «بالله» » . وحذفت الألف من «بسم» من الخط تخفيفا لكثرة الاستعمال، واستغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط. فلو كتبت «باسم الرحمن» أو «باسم القاهر» لم تحذف الألف. والألف في «اسم» ألف وصل، لأنك تقول: «سمّي» وحذفت لأنها ليست من اللفظ «3» . وقوله: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً [المائدة: 12] فهذا موصول لأنك تقول: «ثني عشر» . وقوله: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [البقرة: 60] موصول: لأنك تقول: «ثنتي عشرة» ، وقال إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما [يس: 14] ، وقال: ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ [مريم: 28] ، لأنك تقول في «اثنين» : «ثنين» وفي «امرئ» فتسقط الألف. وإنما زيدت لسكون الحرف الذي بعدها لما أرادوا استئنافه فلم يصلوا إلى الابتداء بساكن، فأحدثوا هذه الألف ليصلوا إلى الكلام

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . الجامع 1: 99. (3) . البحر 1: 16 والجامع 1: 99 والمشكل 1: 65، 66 وإعراب القرآن 1: 3. وأقوال الأخفش هذه مستفادة من كتب، غير معاني القرآن، تتناول ما سقط من الموضوعات في مقدمة الفاتحة.

بها. فإذا اتصل (الكلام) بشيء قبله استغنى عن هذه الألف. وكذلك كل ألف كانت في أول فعل أو مصدر، وكان «يفعل» «1» من ذلك الفعل ياؤه مفتوحة فتلك ألف وصل، نحو قوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا. لأنك تقول: (يهدي) فالياء مفتوحة. وقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [البقرة: 16 و 175] ، وقوله: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً [غافر: 36] ، وقوله: وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص] ، وأشباه هذا في القرآن كثيرة. والعلة فيه كالعلة في «اسم» ، و «اثنين» وما أشبهه لأنه لما سكن الحرف الذي في أول الفعل، جعلوا فيه هذه الألف ليصلوا إلى الكلام به إذا استأنفوا، أي: إذا ابتدءوا. وكل هذه الألفات اللواتي في الفعل إذا استأنفتهنّ، أي إذا ابتدأت بهن، كنّ مكسورات، فإذا استأنفت، أي إذا ابتدأت، قلت: (اهدنا الصراط) و (ابن لي) و (اشتروا الضلالة) ، إلا ما كان منه ثالث حروفه مضموما فإنك تضم أوله إذا استأنفت، تقول: (أركض برجلك) [ص: 42] ، وتقول (أذكروا الله كثيرا) [الأنفال: 45] ، وإنما ضمّت هذه الألف، إذا كان الحرف الثالث مضموما، لأنهم لم يروا بين الحرفين إلا حرفا ساكنا، فثقل عليهم أن يكونوا في كسر ثم يصيروا إلى الضم، فأرادوا أن يكونا جميعا مضمومين إذا كان ذلك لا يغيّر المعنى. وقالوا في بعض الكلام في «المنتن» : «منتن» . وإنما هي من «أنتن» فهو «منتن» ، مثل «أكرم» فهو «مكرم» . فكسروا الميم لكسرة التاء. وقد ضم بعضهم التاء فقال «منتن» «2» لضمة الميم وقد قالوا في «النّقد» «3» : «النّقد»

_ (1) . عبر ب «يفعل» عن الفعل المضارع وهذا ديدن الأوائل من النحاة والمعربين. (2) . ذكر ابن منظور في اللسان كسر الميم والتاء، ولم ينسبهما لغتين ونقل رأي ابن جني فيهما، ورأي الجوهري ورأي أبي عمرو في ذلك (نتن) وفي البيان 1: 24 نقل الرأي في الاتباع بالكسر ولم ينسبه. (3) . في الأصل: النقد، وليس ذلك صوابا بدلالة ما بعده من قوله فكسروا النون لكسرة القاف. والنقد صفة الضرس إذا ائتكل وتكسر فهو نقد «اللسان نقد» ولم يذكر لغة الاتباع ومن يأخذ بها. وجاء في خلق الإنسان للأصمعي: يقال نقدت أسنان فلان فهي تنقد نقدا وهو أن يقع فيها القادح،. وقال الشاعر هو صخر الغي: تيس تيوس إذا يناطحها ... يألم قرنا أرومه نقد يعني: أصله قد نقد أي انكسر مما يناطح: و «الأروم» جمع «الأرومة» .

فكسروا النون لكسرة القاف. وهذا ليس من كلامهم إلا فيما كان ثانيه أحد الأحرف الستة نحو «شعير» . والأحرف الستة هي: الخاء والحاء والعين والغين والهمزة والهاء. وما كان على «فعل» «1» مما هي في أوله هذه الألف الزائدة فاستئنافه، أي الابتداء به أيضا مضموم نحو: (اجتثّت من فوق الأرض) [إبراهيم: 26] لأن أول «فعل» أبدا مضموم، والثالث من حروفها مضموم. وما كان على «أفعل أنا» «2» ، فهو مقطوع الألف وإن كان من الوصل، لأن «أفعل» فيها ألف سوى ألف الوصل، وهي نظيرة الياء في «يفعل» . وفي كتاب الله عز وجل ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] ، وأَنَا آتِيكَ بِهِ [النمل: 39 و 40] ووَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [يوسف: 54] «3» . وما كان من نحو الألفات اللواتي ليس معهن اللام في أول «اسم» ، وكانت لا تسقط في التصغير فهي مقطوعة تكون في الاستئناف على حالها في الاتصال نحو قوله: هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ [ص: 23] ، وقوله يا أَبانا [يوسف: 11 و 17 و 63 و 65] ، وقوله: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) [المدّثّر] ، وقالَتْ إِحْداهُما [القصص: 26] ، وحَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ [المؤمنون: 99] ، لأنها إذا صغّرت ثبتت الألف فيها، تقول في تصغير «إحدى» : «أحيدى» ، و «أحد» : «أحيد» ، و «أبانا» : «أبينا» وكذلك «أبيان» و «أبيون» . وكذلك (الألف في قوله) مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التوبة: 100] ، أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا [البقرة: 246] ، لأنك تقول في «الأنصار» : «أنيصار» ، وفي «الأبناء» «أبيناء» و «أبينون» . وما كان من الألفات في أول فعل أو مصدر، وكان «يفعل» من ذلك الفعل ياؤه مضمومة، فتلك الألف مقطوعة، تكون في الاستئناف على حالها في الاتصال، نحو قوله: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة: 4] ، لأنك تقول: «ينزل» . فالياء مضمومة. ورَبَّنا آتِنا [البقرة:

_ (1) . يقصد أن يكون الفعل مبنيا للمجهول. (2) . يقصد أن يكون الفعل مبنيا للمتكلم مضارعا. [.....] (3) . وفي الأصل ائتوني بالياء.

200] «1» ، تقطع لأن الياء مضمومة، لأنك تقول: «يؤتي» . وقال وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [البقرة: 83] «2» ووَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى [النحل: 90] لأنك تقول: «يؤتي» ، و «يحسن» . وقوله: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [يوسف: 54] «3» ، ووَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) [يونس] «4» ، فهذه موصولة لأنك تقول: «يأتي» ، فالياء مفتوحة، إنما الهمزة التي في قوله: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ همزة كانت من الأصل في موضع الفاء من الفعل، ألا ترى أنها ثابتة في «أتيت» وفي «أتى» لا تسقط. وسنفسر لك الهمز في موضعه إن شاء الله. وقوله: (آتنا) يكون من «آتى» و «آتاه الله» ، كما تقول: «ذهب» و «أذهبه الله ويكون على أعطنا» . وقال: فَآتِهِمْ عَذاباً [الأعراف: 38] على «فعل وأفعله» غيره. وأما قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ فوصلت هذه الأسماء التي في أوائلها الألف واللام حتى ذهبت الألف في اللفظ. وذلك لأن كل اسم في أوله ألف ولام زائدتان، فالألف تذهب إذا اتصلت بكلام قبلها. وإذا استأنفتها كانت مفتوحة أبدا، لتفرق بينها وبين الألف التي تزاد مع غير اللام، ولأن الألف واللام هما حرف واحد ك «قد» ، و «بل» . وإنما تعرف زيادتهما بأن تروم ألفا ولا ما أخريين تدخلهما عليهما. فإن لم تصل إلى ذلك عرفت أنهما زائدتان. ألا ترى أن قولك: «الحمد لله» وقولك: «العالمين» وقولك «التي» و «الذي» و «الله» لا تستطيع أن تدخل عليهنّ ألفا ولا ما أخريين؟ فهذا يدل على زيادتهما، فكلما اتصلتا بما قبلهما ذهبت الألف، إلا أن توصل بألف الاستفهام فتترك مخففة، (و) لا يخفف فيها الهمزة إلا ناس من العرب قليل، وهو قوله آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس: 59] وقوله: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) [النمل] وقوله آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ [يونس: 91] .

_ (1) . سورة البقرة، آية: 200 و 201 وسورة الكهف، آية: 10. (2) . وسورة النساء، آية 36، وسورة الأنعام، آية: 151. وسورة الإسراء، آية: 23. (3) . وجاءت الهمزة مكتوبة ياء. (4) . وجاءت الهمزة مكتوبة ياء.

وإنما مدت في الاستفهام ليفرق بين الاستفهام والخبر. ألا ترى أنك لو قلت وأنت تستفهم: «الرجل قال كذا وكذا» فلم تمددها صارت مثل قولك «الرجل قال كذا وكذا» إذا أخبرت؟ وليس سائر ألفات الوصل هكذا. قال أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) [الصافّات] ، وقال أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 8] . فهذه الألفات مفتوحة مقطوعة، لأنها ألفات استفهام، وألف الوصل التي كانت في «اصطفى» و «افترى» قد ذهبت، حيث اتصلت الصاد (والفاء) بهذه الألف التي قبلها للاستفهام. وقال من قرأ هذه الآية كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ [ص] فقطع ألف «أتخذناهم» فإنما جعلها ألف استفهام وأذهب ألف الوصل التي كانت بعدها، لأنها إذا اتصلت بحرف قبلها ذهبت. وقد قرئ هذا الحرف موصولا «1» ، وذلك أنهم حملوا قوله أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) [ص] على قوله ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) [ص] . وما كان من اسم في أوله ألف ولام تقدر أن تدخل عليهما ألفا ولاما أخريين، فالألف من ذلك مقطوعة تكون في الاستئناف، أي في ابتداء الكلام، على حالها في الاتصال، نحو قوله: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59] «2» لأنك لو قلت «الإله» فأدخلت عليها ألفا ولاما جاز ذلك. «ألواح» و «إلهام» و «إلقاء» مقطوع كله، لأنه يجوز إدخال ألف ولام أخريين. فأما «إلى» ، فمقطوعة ولا يجوز إدخال الألف واللام عليها لأنها ليست باسم، وإنما تدخل الألف واللام على الاسم. ويدلك على أن الألف واللام في «إلى» ليستا بزائدتين، أنّك إنّما وجدت الألف واللام تزادان في الأسماء، ولا تزادان في غير الأسماء، مثل «إلى» و «ألّا» . ومع ذلك تكون ألف «إلى» مكسورة وألف اللام الزائدة لا تكون مكسورة.

_ (1) . نسبت في الطبري 23: 181 إلى عامة قراء الكوفة والبصرة وبعض قراء مكة، وهي الراجحة عنده، وفي السبعة 556 والكشف 2: 233 والتيسير 188 إلى أبي عمرو والكسائي، وفي البحر 7: 407 سماهم بالنحويين وحمزة، وفي الجامع 15: 225 زاد ابن كثير والأعمش وفي حجة ابن خالويه 381 بلا نسبة. (2) . والآيات: 59 و 65 و 73 و 85، وسورة هود، الآيات: 50 و 61 و 84.

وأما قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ فرفعه على الابتداء. وذلك أن كل اسم ابتدأته لم توقع عليه فعلا من بعده فهو مرفوع، وخبره إن كان هو إيّاه، فهو أيضا مرفوع، نحو قوله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح: 29] وما أشبه ذلك. وهذه الجملة تأتي على جميع ما في القرآن من المبتدأ فافهمها. فإنما رفع المبتدأ ابتداؤك إياه، والابتداء هو الذي رفع الخبر في قول بعضهم «1» ، [و] كما كانت «أنّ» تنصب الاسم وترفع الخبر فكذلك رفع الابتداء الاسم والخبر. وقال بعضهم: «رفع المبتدأ خبره» وكلّ حسن، والأول أقيس. وبعض العرب يقول (الحمد لله) «2» فينصب على المصدر، وذلك أن أصل الكلام عنده على قوله «حمدا لله» يجعله بدلا من اللفظ بالفعل، وكأنه جعله مكان «أحمد» حتى كأنه قال: «أحمد حمدا» ثم أدخل الألف واللام على هذه. وقد قال بعض العرب (الحمد لله) «3» فكسره، وذلك أنه جعل بمنزلة الأسماء التي ليست بمتمكنة «4» ، وذلك أن الأسماء التي ليست بمتمكّنة تحرّك أواخرها بحركة واحدة لا تزول علّتها، نحو «حيث» جعلها بعض العرب مضمومة على كل حال، وبعضهم يقول «حوث» «5» و «حيث» «6» ضم وفتح. ونحو «قبل» و «بعد» جعلتا مضمومتين على كل حال. وقال الله تبارك وتعالى:

_ (1) . هو رأي البصريين في كتاب «الإنصاف» 1: 3. (2) . نسبت في معاني القرآن 1: 3 إلى أهل البدو في الشواذ (1) زاد رؤبة أيضا وفي الجامع 1: 135 زاد سفيان بن عيينة عليه. وزاد في البحر 1: 18 هارون العتكي عليهما. (3) . نسبت في معاني القرآن 1: 3 إلى أهل البدو أيضا. وفي إعراب ثلاثين سورة 18 إلى الحسن ورؤبة، وفي الشواذ 1 كذلك، وفي المحتسب 1: 37 أهمل رؤبة وزاد ابراهيم بن أبي عبلة وزيد بن علي. وقصرت في الإبانة 75 على الحسن وفي الجامع 1: 136 أسماه الحسن بن أبي الحسن وزاد عليه زيد بن علي وقصرت في البحر 1: 8 على الحسن وزيد بن علي أيضا. (4) . يرى بعضهم في هذه القراءة أن: تفسيرها المقبول هو أنها جرت اتباعا لحركة اللام، كما ضمت اللام اتباعا لضمّة الدال في قراءة بعضهم. (5) . حار ابن منظور في اللسان (حيث) في نسبة: حوث إلى طيّئ. أو تميم وأورد عن اللحياني أنها لغة طيّئ وحدها. (6) . في الأصل: «حيث» و «حوث» بتقديم «حيث» وإنما أخرت عن أختها لقوله فيما بعدها ضم وفتح.

لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم: 4] فهما مضمومتان إلا أن تضيفهما، فإذا أضفتهما صرفتهما. قال تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ [الحديد: 10] وكَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [التوبة: 69] ووَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] وقال مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الحديد: 22] وذلك أن قوله أَنْ نَبْرَأَها اسم أضاف إليه (قبل) وقال مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ [يوسف: 100] وذلك أن قوله أَنْ نَزَغَ [يوسف: 100] اسم هو بمنزلة «النزغ» ، لأن «أن» الخفيفة وما عملت فيه بمنزلة اسم، فأضاف إليها «بعد» . وهذا في القرآن كثير. ومن الأسماء ما ليس متمكّنا، قال الله عز وجل: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي [الحجر: 68] وها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ [آل عمران: 119] مكسورة على كل حال. فشبهوا «الحمد» وهو اسم متمكن في هذه اللغة بهذه الأسماء التي ليست بمتمكنة، كما قالوا «يا زيد» . وفي كتاب الله: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً [غافر: 36] هو في موضع النصب، لأن الدعاء كله في موضع نصب، ولكن شبه بالأسماء التي ليست بمتمكّنة فترك على لفظ واحد، يقولون: «ذهب أمس بما فيه» «1» و «لقيته أمس يا فتى» «2» ، فيكسرونه في كل موضع في بعض اللغات. وقد قال بعضهم: «لقيته الأمس الأحدث» فجرّ أيضا، وفيه ألف ولام، وذلك لا يكاد يعرف. وقال سبحانه: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) [النجم] ، وسمعنا من العرب من يقول: «هي اللات قالت ذلك» فجعلها تاء في السكوت، و «هي اللات فاعلم» جرّ في الموضعين. وقال بعضهم «من الآن إلى غد» فنصب لأنه اسم غير متمكن. وأما قوله: اللات فاعلم فهذه مثل «أمس» وأجود، لأن الألف واللام التي في «اللات» لا تسقطان وإن كانتا زائدتين، وأما ما سمعنا في «اللات والعزى» في السكت عليها ف «اللاة» «3» لأنها هاء فصارت تاء

_ (1) . من أمثال العرب، الفاخر 216 354 ومجمع الأمثال 1451. [.....] (2) . نسب البناء على الكسر إلى أهل الحجاز، بينما نسب إلى تميم لغة عدم الصرف فيه. اللسان (أمس) . (3) . في معاني القرآن 3: 97 أنها للكسائي وفي الجامع 17: 101 أن الدوري أخذها عن الكسائي، وأن البزّي أخذها عن ابن كثير، فقرأ بها.

في الوصل وهي في تلك اللغة مثل «كان من «1» الأمر كيت وكيت» . وكذلك «هيهات» في لغة من كسر. إلّا أنه يجوز في «هيهات» أن تكون «2» جماعة فتكون التاء التي فيها تاء الجميع التي للتأنيث، ولا يجوز ذلك في اللات «3» ، لأن «اللات» و «كيت» لا يكون مثلهما جماعة، لأن التاء لا تزاد في الجماعة إلا مع الألف، فإن جعلت الألف والتاء زائدتين بقي الاسم على حرف واحد «4» . وزعموا أنّ من العرب من يقطع ألف الوصل. أخبرني من أثق به أنه سمع من يقول: «يا ابني» فقطع. وقال قيس بن الخطيم «5» (من الطويل وهو الشاهد الأول) : إذا جاوز الإثنين سرّ فإنّه ... بنشر وتكثير الوشاة قمين «6» وقال جميل «7» (من الطويل وهو الشاهد الثاني) : ألا لا أرى إثنين أكرم شيمة ... على حدثان الدهر منّي ومن جمل «8» وقال الراجز «9» (وهو الشاهد الثالث) : يا نفس صبرا كلّ حي لاق ... وكل إثنين إلى فراق

_ (1) . ساقطة في الجامع 17: 101. (2) . في الصحاح «ليست» : يكون بالياء. (3) . في الصحاح (هـ هيه) : «في اللات والعزى» . (4) . نقله في الصحاح «ليت وهيه» والجامع 17: 101. (5) . هو قيس بن الخطيم الأوسي. انظر ترجمته في الأغاني 3: 159، دار الكتاب المصرية، وطبقات الشعراء 228 ومعجم الشعراء 196 والموشح 116. (6) . في الكامل 2: 703 أنه لجميل بن عبد الله بن معمر بلفظ «بنث» وإفشاء الحديث قمين وفي الصحاح «ثنى» بلفظ «بنث» معزوّا إلى قيس بن الخطيم وفي اللسان «ثنى» و «نث» و «قمن» كذلك وفي الأمالي 2: 177 و 2: 202 كذلك. (7) . هو جميل بن عبد الله بن معمر شاعر الغزل. انظر ترجمته في الأغاني 7: 77 بولاق والشعر والشعراء 434 وطبقات الشعراء 669 والموشح 311. (8) . ديوان جميل بثينة 181 بلفظ أحسن بدل أكرم. وفي اللسان «ثنى» كذلك. (9) . في الخصائص 2: 475 بلا عزو وفي الهمع 157 العجز بلا عزو أيضا وفي الدرر 216 كذلك وقال «ولم أعثر على قائل هذا البيت ولا تتمته» ويمكن حمل الأبيات كلها على الضرورة.

وهذا لا يكاد يعرف. وأما قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) فإنه يجرّ، لأنه من صفة «الله» عزّ وجلّ. وقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ جر باللام كما انجرّ قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) : لأنه من صفة قوله لِلَّهِ فإن قيل: «وكيف يكون جرّا وقد قال» : إِيَّاكَ نَعْبُدُ فلأنه، إذا قال في غير القرآن: «الحمد لما لك يوم الدين» ، فإنه ينبغي أن يقول: «إياه نعبد» ، فإنما هذا على الوحي. وذلك أن الله تبارك وتعالى خاطب النبي (ص) فقال: «قل يا محمد» : الْحَمْدُ لِلَّهِ وقل: «الحمد لما لك يوم الدين» وقل يا محمد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) . وقد قرأها قوم (مالك) «1» نصب على الدعاء وذلك جائز، يجوز فيه النصب والجر، وقرأها قوم (ملك) «2» إلّا أن «الملك» اسم ليس بمشتق من فعل نحو قولك: «ملك وملوك» وأما «المالك» فهو الفاعل كما تقول: «ملك فهو مالك» مثل «قهر فهو قاهر» . وأما فتح نون الْعالَمِينَ، فإنها نون جماعة، وكذلك كل نون جماعة زائدة على حد التثنية أي على غرارها، فهي مفتوحة. وهي النون الزائدة التي لا تغيّر الاسم عمّا كان عليه: نحو نون «مسلمين» و «صالحين» و «مؤمنين» . فهذه النون زائدة لأنك تقول: «مسلم» و «صالح» فتذهب النون، وكذلك

_ (1) . الطبري 1: 152 بلا عزو وفي 1: 154 لم يجزها وفي إعراب ثلاثين سورة 23 إلى أبي هريرة وفي الشواذ (زاد عمر بن عبد العزيز) وفي الإبانة 75 إلى أبي الصالح ومحمد بن السميفع اليماني وفي المشكل 8 أورد جواز النصب ولم يعزه وفي الجامع 1: 139 إلى محمد بن السميفع وفي البحر 1: 20 إلى الأعمش وابن السميفع وعثمان بن أبي سليمان وعبد الملك قاضي الهند وعمر بن عبد العزيز وأبي صالح السمان وأبي عبد الملك الشامي. (2) . في الطبري 1: 156 إلى ابن عبّاس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي الكريم. وفي حجّة ابن خالويه 38 بلا نسبة وفي إعراب ثلاثين سورة 22 كذلك وفي الشواذ (بكسر اللام) إلى أبي حياة وشريح، وبسكونها إلى عبد الوارث عن ابن عمرو وفي حجّة الفارسي (5) إلى غير عاصم ولا الكسائي و (6) إلى عاصم. وفي الإبانة 73 و 75 و 76 والكشف 1: 25 و 27 و 28 و 29 و 32، تفصيل في أمرها. وفي الشكل (8) بلا نسبة وفي التيسير 18 إلى غير عاصم والكسائي، وفي البحر 1: 20 تفصيل في أمرها.

«مؤمن» قد ذهبت النون الاخرة، وهي المفتوحة، وكذلك «بنون» . ألا ترى أنك إنما زدت على «مؤمن» واوا ونونا، وياء ونونا، وهو على حاله لم يتغيّر لفظه، كما لم يتغيّر في التثنية حين قلت «مؤمنان» و «مؤمنين» . إلّا أنك زدت ألفا ونونا، أو ياء ونونا للتثنية. وإنّما صارت هذه مفتوحة ليفرّق بينها وبين نون الاثنين. وذلك أن نون الاثنين مكسورة أبدا، قال تعالى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ [المائدة: 23] وقال أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما [يس: 14] والنون مكسورة. وجعلت الياء للنصب والجرّ، نحو «العالمين» و «المتقين» فنصبهما وجرّهما سواء، كما جعلت نصب «الاثنين» وجرّهما سواء ولكن كسر ما قبل ياء الجميع وفتح ما قبل ياء الاثنين ليفرق ما بين الاثنين والجميع، وجعل الرفع بالواو ليكون علامة للرفع، وجعل رفع الاثنين بالألف. وهذه النون تسقط في الإضافة كما تسقط نون الاثنين، نحو قولك، «بنوك» «ورأيت مسلميك» فليست هذه النون كنون «الشياطين» و «الدهاقين» و «المساكين» . لأن «الشياطين و «الدهاقين» و «المساكين» «1» نونها من الأصل ألا ترى أنك تقول: (الشيطان) و «شييطين» و «دهقان» «دهيقين» و «مساكين» و «مسيكين» فلا تسقط النون. فأمّا «الذين» ، فنونها مفتوحة، لأنك تقول: «الذي» فتسقط النون لأنها زائدة، ولأنك تقول في رفعها: «اللذون» لأن هذا اسم ليس بمتمكن مثل «الذي» . ألا ترى أن «الذي» على حال واحدة. إلا أن ناسا من العرب يقولون: «هم اللذون يقولون كذا وكذا» . جعلوا له في الجمع علامة للرفع، لأن الجمع لا بد له من علامة، واو في الرفع وياء في النصب والجر وهي ساكنة. فأذهبت الياء الساكنة التي كانت في «الذي» لأنه لا يجتمع ساكنان، كذهاب ياء «الذي» إذا أدخلت الياء التي للنصب، ولأنهما علامتان للإعراب، والياء في قول من قال «هم الذين» مثل حرف مفتوح أو مكسور بني عليه اسم وليس فيه

_ (1) . حار الأشموني بين هذيل وعقيل في نسبة هذه اللغة 1: 158. [.....]

إعراب. ولكن يدلّك على أنه المفتوح أو المكسور في الرفع والنصب والجر الياء التي للنصب والجر لأنها علامة للإعراب. وقد قال ناس من العرب «الشياطون» «1» لأنهم شبهوا هذه الياء التي كانت في «شياطين» إذا كانت بعدها نون، وكانت في جمع وقبلها كسرة، بياء الإعراب التي في الجمع. فلما صاروا إلى الرفع أدخلوا الواو. وهذا يشبه «هذا جحر ضبّ خرب» فافهم. وأما قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الآية 5] ولم يقل (أنت نعبد) فلأنّ هذا موضع نصب، والله أعلم. وإذ لم يجز، في موضع النصب على الكاف أو الهاء وما أشبه ذلك من الإضمار الذي يكون للنصب، جعل «إيّاك» أو «إيّاه» أو نحو ذلك ممّا يكون في موضع نصب. قال تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً [سبأ: 24] لأنّ هذا موضع نصب، تقول: «إنّي أو زيدا منطلق» . وضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] . هذا في موضع نصب. كقولك: «ذهب القوم إلا زيدا» . (و) إنما صارت (إياك) في إِيَّاكَ نَعْبُدُ في موضع نصب من أجل (نعبد) وكذلك: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) «2» أيضا. وإذا كان موضع رفع جعلت فيه (أنت) و «أنتما» و «أنتم» و «هو» و «هي» وأشباه ذلك. وأما قوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) فبمعنى: «عرفنا» ، وأهل الحجاز يقولون: «هديته الطريق» أي: عرفته، وكذلك «هديته البيت» في لغتهم، وغيرهم يلحق به «إلى» ، ثم قال: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الآية 7] نصب على البدل. و (أنعمت) مقطوع الألف لأنك تقول «ينعم» فالياء مضمومة فافهم. وقوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الآية 7] هؤلاء صفة الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

_ (1) . لم أعثر على من تكلّم بهذه اللغة، ولكن جاء في اللسان «شطن» : وقرأ الحسن وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) [الشعراء] . قال ثعلب: «هو غلط منه» وقال في ترجمة «جنن» : «المجانين» جمع «المجنون» أمّا «مجانون» فشاذ كما شذّ: «شياطون» في «شياطين» . (2) . في الصحاح «هدى» نقل هذا الرأي الأخفش.

لأن «الصراط» مضاف إليهم، فهم جر للإضافة. وأجريت عليهم «غير» «1» صفة أو بدلا. و «غير» و «مثل» قد تكونان من صفة المعرفة التي بالألف واللام، نحو قولك، «إنّي لأمرّ بالرجل غيرك وبالرجل مثلك فما يشتمني» ، و «غير» و «مثل» إنّما تكونان صفة للنكرة، ولكنهما قد احتيج إليهما في هذا الموضع فأجريتا صفة لما فيه الألف واللام. والبدل في «غير» أجود من الصفة، لأنّ «الذي» و «الذين» لا تفارقهما الألف واللام، وهما أشبه بالاسم المخصوص من «الرجل» وما أشبهه. و «الصراط» فيه لغتان، السين والصاد، إلا أنّا نختار الصاد، لأنّ كتابتها على ذلك في جميع القرآن «2» . وقد قال العرب «هم فيها الجمّاء الغفير» فنصبوا، كأنهم لم يدخلوا الألف واللام، وإن كانوا قد أجروهما كما أجروا «مثلك» و «غيرك» كمجرى ما فيه الألف واللام، وإن لم يكونا في اللفظ. وإنما يكون وصفا للمعرفة التي تجيء في معنى النكرة. ألا ترى أنك إذا قلت: «إنّي لأمرّ بالرجل مثلك» إنما تريد «برجل مثلك» . لأنك لا تحدّد له رجلا بعينه ولا يجوز إذا حددت له ذلك، إلّا أن تجعله بدلا ولا يكون على الصفة. ألا ترى أنه لا يجوز «مررت بزيد مثلك» إلا على البدل. ومثل ذلك: «إني لأمرّ بالرجل من أهل البصرة» ولو قلت: «إني لأمرّ بزيد من أهل البصرة» لم يجز إلا أن تجعله في موضع حال. فكذلك غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.

_ (1) . في التهذيب «غير» رأي الأخفش في هذا البداية وفي إيضاح الوقف والابتداء 1: 477 أنه يراه نصبا على الاستثناء وفي البحر 1: 29، كذلك وفي إعراب القرآن 1: 10 أضاف إلى ذلك أنه نصب على الحال. (2) . جاء في لسان العرب (سرط) أن الصاد في «الصراط» لغة وأن السين هي الأصل، وأن عامة العرب تقولها بالسين، وقريش الأولون تقولها بالصاد. وفي السبعة 105 نسبت القراءة بالسين إلى ابن كثير أبي عمرو في رواية، وفي حجّة الفارسي 1: 37 إلى ابن كثير وابن عمرو ونسب إليهما كذلك القراءة بالصاد وفي الإبانة 13 و 73 إلى ابن كثير في رواية قنبل وفي 13 أيضا أنها لحمزة في رواية خلف وفي التيسير 18 و 19 إلى قنبل وفي البحر 1: 25 إلى قنبل ورويس، وفي حجة الفارسي 1: 37 قراءة الصاد إلى أبي بكر وفي الإبانة 13 غير ابن كثير وحمزة وفي التيسير 19 إلى غير قنبل وخلف وخلاد وفي البحر 1: 25، إلى الجمهور في إعراب ثلاثين سورة 28 بلا نسبة وفي الجامع 1: 148 كذلك.

وقد قرأ قوم (غير المغضوب عليهم) «1» جعلوه على الاستثناء الخارج من أول الكلام، ولذلك تفسير سنذكره إن شاء الله، وذلك أنه إذا استثنى شيئا ليس من أول الكلام في لغة أهل الحجاز فإنه ينصب [و] يقول «ما فيها أحد إلا حمارا» وغيرهم يقول: «هذا بمنزلة ما هو من الأول» فيرفع. فذا يجر غَيْرِ الْمَغْضُوبِ في لغته «2» . وإن شئت جعلت «غير» نصبا على حال وبها نكرة والأول معرفة. وإنما جرّ لتشبيه (الذي ب «الرجل» ) .

_ (1) . في الطبري 1: 83 أورد شذوذ هذه القراءة، وأورد رأي الأخفش هذا، وفي السبعة 112 نسبت إلى النبي الكريم وعمر بن الخطاب والخليل بن أحمد عن أبن كثير وفي الإبانة 76 إلى ابن كثير برواية الخليل بن أحمد، وفي المشكل 12 كذلك، وأضاف إليه «وغيره» وزاد في البحر 1: 39 عمر وابن مسعود والإمام علي بن أبي طالب وعبد الله بن الزّبير. (2) . قراءة الجرّ في حجّة الفارسي 105 إلى نافع وعامر وابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير بخلاف، وفي المشكل 11 علّل الجرّ، ولم ينسبه، وفي البحر 1: 29 إلى الجمهور.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الفاتحة"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفاتحة» «1» إن قيل: الرحمن أبلغ في الوصف بالرحمة من الرحيم، بالنقل عن الزّجّاج وغيره، فلم قدّمه؟ وعادة العرب من صفات المدح الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، كقولهم: فلان عالم نحرير، لأنّ ذكر الأعلى أولا ثمّ الأدنى لا يتجدّد فيه بذكر الأدنى فائدة، بخلاف عكسه؟ قلنا: قال الجوهري وغيره: إنهما بمعنى واحد كنديم وندمان، فعلى هذا لا يرد السؤال. وعلى القول الأول إنما قدّمه، لأن لفظ الله اسم خاص بالباري تعالى لا يسمّى به غيره، لا مفردا ولا مضافا فقدّمه، والرّحيم يوصف به غيره مفردا ومضافا فأخّره، والرحمن يوصف به غيره مضافا، ولا يوصف به مفردا إلا الله تعالى، فوسّطه. قلنا: الواو لا تدل على الترتيب، أو المراد بهذه العبادة التوحيد، وهو مقدّم على أداء العبادات.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الفاتحة"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفاتحة» «1» قوله سبحانه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. استعارة على أحد التأويلين، لأنّ الصراط في أصل اللغة اسم للطريق. وهو هاهنا كناية عن الدّين، لأن الدين مؤدّ إلى استيجاب الثواب واستدفاع العقاب، فهو كالنهج المسلوك إلى مظنّة «2» النجاة والسلامة، ودار الأمن والإقامة. ولما جعل سبحانه الدّين، كالطريق القاصد، والمنهج الواضح، أقام إرشاده إليه ودلالته عليه، مقام الدليل يدل على السّمت «3» ، والهادي الذي يهدي إلى القصد، فقال سبحانه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) . والتأويل الثاني في الصراط، يخرج الكلام عن حيّز الاستعارة، وهو أن يكون المراد به المجاز المسلوك الى الجنّة والنّار، على ما جاءت به الأخبار فكأنهم سألوه سبحانه توفيقهم منجاته «4» ومأمنه.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي» ، تحقيق محمد علي مقلد، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1968. (2) . من ظن مظنّة الشيء: موضعه ومألفه الذي يظن فيه وجوده. (3) . من سمت: لزم السّمت: أي الطريق سار على الطريق بالظن. ومنه قوله: وهنّ إلى البيت سوامت: أي قواصد. (4) . وجدت غير واضحة في الأصل.

سورة البقرة 2

سورة البقرة 2

المبحث الأول أهداف سورة"البقرة"

المبحث الأول أهداف سورة «البقرة» «1» سورة البقرة أطول سورة في القرآن الكريم. لقد استغرقت جزءين ونصفا من ثلاثين جزءا يتكوّن منها القرآن. ولذلك كان الرجل إذا حفظ سورة البقرة عظم في عيون المسلمين. وهي أول سورة نزلت بالمدينة، وعدد آياتها (286) آية وعدد كلماتها 6121 كلمة. قصة التسمية سمّيت سورة البقرة بهذا الاسم لأنّها انفردت بذكر حادثة قتل وقعت في بني إسرائيل على عهد موسى عليه السلام وكان للبقرة، وهي الحيوان المعروف الذي اتّخذ بنو إسرائيل من نوعه إلها في وقت مّا يعبدونه من دون الله، كان لها شأن إلهيّ عجيب في هذه الحادثة. لقد وقعت الجناية وقتل القتيل واختلف أهل الحي الذي وقعت الجناية بينهم في: من يكون القاتل. وأخذ كلّ يدفع الجناية عن نفسه ويتّهم بها غيره، وفيهم من يعلم عين الجاني ويكتم أمره. وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) . وترافع القوم إلى موسى عليه السلام ليحكم في هذه الجناية التي خفي مرتكبها. سأل موسى ربّه، فأمرهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل بلسانها، فيحيا، فيخبر بقاتله. وبسبب ما طبع عليه بنو إسرائيل من العناد في تنفيذ الأوامر فقد وقفوا كالسّاخرين أو الهازئين من الأمر

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كل سورة ومقاصدها» لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

بذبح البقرة في هذا المقام، حتى لقد قالوا لموسى كما ورد في التنزيل: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ [الآية 67] . وما كان لنبيّ الله أن يسخر أو يهزأ، ولكنّها القلوب الملتوية تنصرف عن الحق وتعاند في قبوله، فسألوه عن البقرة: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ [الآية 68] ما لَوْنُها [الآية 69] . وأكثروا من السؤال وشدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم، وسألوا موسى، ما هذه البقرة: أكما عهدنا هذا الجنس من الحيوان، أم هي خلق آخر تفرّد بمزيّة، واختصّ بإعجاز؟ فأوضح الله سبيلهم وبيّن أنّها بقرة لا مسنّة ولا فتيّة بل هي وسط بين ذلك، فليفعلوا ما يؤمرون. وبيّن الله لهم أنّها بقرة صفراء فاقع لونها تسرّ النّاظرين وقال: بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها [الآية 71] . وأخيرا وبعد حيرة ومشقّة عثروا عليها. كانت البقرة ملكا لشيخ كبير فقير، وكان عبدا صالحا زاهدا فلم يترك من المال سوى بقرة واحدة كان يأخذها إلى المرعى ثم يتوجه إلى بارئه بقلب خالص ونفس ثابتة فيقول: اللهم إنّي استودعتك إيّاها لا بني حتّى يكبر. وما زال الرجل يترقرق في صدره هذا الأمل القوي بنور الله حتى مات. وبقيت البقرة لابنه اليتيم. واستمرّ اليتيم، يرعى البقرة، يحدوه شعاع من الأمل ورثه من الصالحات الباقيات لأبيه. ولما أمر الله بني إسرائيل بذبح البقرة، وشدّد عليهم في صفاتها ولونها وسنها، ووجد القوم أنّ هذه الصفات لا تنطبق إلّا على بقرة هذا اليتيم الذي بارك الله له فيها، اشتروها منه بمال وفير، وذبحوها، وضربت جثة القتيل ببعض أعضائها، فتمت إرادة الله، وحدثت المعجزة، وأحيا الله القتيل، ونطق باسم قاتله. قال تعالى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) . ثم قست قلوب اليهود بعد أن شاهدوا هذه المعجزة فصارت قلوبهم كالحجارة أو أشدّ قسوة. وبدل أن يهتدوا بهذه الآية إلى طريق الإيمان،

الأهداف العامة لسورة البقرة

أشاحوا عن الحقّ وساروا في الضّلال، وقتلوا الأنبياء وحرّفوا كلام الله، ودبّروا الفتن والدسائس. وقد حذّرنا الله من كيدهم، وأمرنا ألّا نصغي إلى فتنتهم وتفرقتهم، وأن نأخذ الحذر منهم وأن نعدّ العدّة لمقاومتهم واستخلاص الحقوق المغتصبة من أيديهم. قال رسول الله (ص) : «لن تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود فيختبئ أحدهم «وراء» الحجر فيقول الحجر يا عبد الله هذا يهودي ورائي فاقتله» . وفي قصة البقرة عبرة للمشدّدين فإنّ الله أمر بني إسرائيل بأن يذبحوا بقرة. فلو بادروا إلى ذبح أيّ بقرة لأجزأتهم، ولكنهم تشدّدوا في تعرّف صفاتها، فكانوا كلّما طرحوا سؤالا زيدوا تشديدا حتّى صارت البقرة نادرة. وفي الأثر: «لا تكونوا كبني إسرائيل شدّدوا فشدّد عليهم» . وفي القرآن: فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) [الأعراف] . الأهداف العامة لسورة البقرة سورة البقرة من أجمع سور القرآن الكريم، وقد اشتملت على الأهداف الآتية: 1- بيان أصول العقيدة وذكر أدلّة التوحيد ومبدأ خلق الإنسان. 2- بيان أصناف الخلائق أمام هداية القرآن. وقد ذكرت أنّهم أصناف ثلاثة: المؤمنون، والكافرون، والمنافقون. 3- تعرضت السورة لتاريخ اليهود الطويل، وناقشتهم في عقيدتهم، وذكّرتهم بنعم الله على أسلافهم، وبما أصاب هؤلاء الأسلاف حينما التوت عقولهم عن تلقي دعوة الحق من أنبيائهم السابقين، وارتكبوا من صنوف العناد والتكذيب والمخالفة. واقرأ في ذلك قوله تعالى في السورة. يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) . إلى آخر آية البر في منتصف السورة تقريبا وهي: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الآية 177] . وهذا الغرض من أغراض السورة استدعاه جوار المسلمين لليهود في المدينة. 4- والنصف الأخير من سورة البقرة اشتمل على التشريع الإسلامي الذي

اقتضاه تكوّن المسلمين جماعة متميزة عن غيرها، في عبادتها ومعاملاتها وعاداتها. وقد ذكرت السورة من ذلك القصاص في القتل العمد، وذكرت الصيام والوصية والاعتكاف، والتحذير من أكل أموال الناس بالباطل. وذكرت الأهلّة وأنّها جعلت ليعتمد الناس عليها في أوقات العبادة والزراعة غيرها، وذكرت الحجّ والعمرة، وذكرت القتال وسببه الذي يدعو إليه، وغايته التي ينتهي إليها. وذكرت الخمر والميسر واليتامى، وحكم مصاهرة المشركين وذكرت حيض النساء والتطهر منه والطلاق والعدّة والخلع والرّضاع. وذكرت الأيمان وكفّارة الحنث فيها، وذكرت الإنفاق في سبيل الله، وذكرت البيع والربا، وذكرت طرق الاستيثاق في الديون بالكتابة والاستشهاد والرهن. ويبدأ هذا السياق من قوله تعالى بعد آية البر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الآية 178] . إلى ما قبل آخر السورة. وكان يتخلل كل ذلك- على طريقة القرآن- ما يدعو المؤمنين إلى التزام هذه الأحكام وعدم الاعتداء فيها، من قصص ووعد ووعيد، وإرشاد إلى سنن الله في الكون والجماعات، ثم تختم سورة البقرة ببيان عقيدة المؤمنين على نحو ما بدأت في بيان أوصاف المتقين. ونجد في آخر السورة قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) ومن ثم يتناسق البدء والختام وتتجمّع موضوعات السورة وأهدافها، ويؤكد آخرها أولها وتصير السورة كتلة واحدة، ينتفع المسلمون بها في تنظيم أحوالهم في العبادات والمعاملات. وهي دعامة من دعائم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر قال تعالى:

أصناف الخلق أمام دعوة الإسلام

وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن: 11] . أصناف الخلق أمام دعوة الإسلام جهر عليه الصلاة والسلام بدعوته في مكة. ولمّا يئس من انتشار الدعوة بمكة هاجر إلى المدينة. وهناك بنى مسجده واتخذه مقرّا لنشر الدعوة. وقد آمن به أهل المدينة ولقّبوا ب «الأنصار» ، وأصبحت للإسلام قوة جديدة ولم يبق بيت من بيوت المدينة إلا دخله الإسلام. ولما كانت سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة، استمرّ نزول آياتها بضع سنين، فقد عنيت بذكر أصناف الناس أمام دعوة الإسلام فقسّمتهم إلى ثلاثة أصناف. الصنف الأول: المؤمنون، وقد وصفهم الله بخمس صفات هي: الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، وإخراج الزكاة والصدقات، والإيمان بالكتب والرسل، واليقين الكامل بالحساب والجزاء. وهم بهذه الصفات أهل لهداية الله، وللفلاح والرشاد. الصنف الثاني: الكافرون، وقد وصفهم القرآن بأنّهم فقدوا الاستعداد لقبول الحق بسبب فساد فطرتهم، وإحكام الغشاوة على قلوبهم، وانسداد مسالك الفهم والإدراك في وجدانهم، وقد سمّاهم القرآن بالكافرين والفاسقين والخاسرين والضالّين. هؤلاء الكفار سدّت عليهم منافذ الخير وسبل الهداية، وأعلنوا الكفر والعناد. وهذان الصنفان كثيرا ما تحدث القرآن عنهما في سورة المكيّة وسوره المدنيّة، لأنّ الدعوة الإسلامية لم تخل في مرحلة من مراحلها من مؤمن بها، مصدق لها، كافر بها جاحد لآياتها. الصنف الثالث: المنافقون، ووجود هذه الطائفة نشأ بعد الهجرة إلى المدينة ودخول الأنصار في الإسلام وظهور قوة المسلمين وبخاصة بعد غزوة بدر، فاضطر نفر من الكبراء أن يتظاهروا باعتناق الدين الجديد، ومن هؤلاء عبد الله بن أبيّ بن سلول الذي كان قومه ينظمون له الخرز ليتوّجوه ملكا عليهم قبيل وصول الإسلام إلى المدينة. وقد وصفتهم سورة البقرة بالنفاق والتلوّن وألقت عليهم الأضواء، وذكر المنافقون في سورة التوبة بصفات متعددة، منها

اليهود في المدينة

التخلف عن الجهاد والتظاهر بالإيمان، والتخلي عن تبعاته. ولا نكاد نجد سورة مدنية تخلو من ذكرهم، ولفت الأنظار إلى أوصافهم، وتحذير المؤمنين من كيدهم وخداعهم. اليهود في المدينة في ثنايا الحملة على المنافقين، الذين في قلوبهم مرض، نجد إشارة إلى شياطينهم. والظاهر من سياق سورة البقرة، ومن سياق الأحداث في السيرة، أنّها تعني اليهود الذين تضمنت السورة حملات شديدة عليهم. أما قصتهم أمام الإسلام في المدينة فيمكن تلخيصها بما يأتي: كان لليهود مركز ممتاز في المدينة، بسبب أنهم أهل كتاب بين الأمّيين من العرب- الأوس والخزرج- وكان اليهود يثيرون الفرقة والخصام بين الأوس والخزرج، فلما جاء النبي (ص) إلى المدينة، آخى بين المهاجرين والأنصار، وقضى على الخلاف والنزاع بين الأوس والخزرج، بسبب أخوّة الإسلام ووحدة المسلمين. وقد اشتد حقد اليهود وحسدهم للنبي (ص) . لقد حسدوه مرتين: مرة لأن الله اختاره رسولا من ولد إسماعيل، وحسدوه لما لقيه من نجاح سريع شامل في محيط المدينة. على أنه كان هناك سبب آخر لعداوة اليهود للإسلام منذ الأيام الأولى، ذلك هو شعورهم بالخطر من عزلهم عن المجتمع المدني الذي كانوا يزاولون فيه القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا المضعف، وإلا فعليهم أن يستجيبوا للدعوة الجديدة، ويذوبوا في المجتمع الإسلامي، وهما أمران- في تقديرهم- أحلاهما مر. لهذا كله وقف اليهود من الدعوة الإسلامية موقف التكذيب والإنكار، رغم يقينهم بصدقها. وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) . وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) .

وقد استغرق الجزء الاول من سورة البقرة دعوة اليهود للدخول في دين الله مع تذكيرهم بعثراتهم وخطاياهم والتوائهم وتلبيسهم منذ أيام موسى عليه السلام. رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"البقرة" تاريخ نزولها ووجه تسميتها

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «البقرة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة البقرة بعد سورة المطفّفين، وهي أوّل سورة نزلت بالمدينة، وأطول سورة في القرآن، فيكون نزولها فيما بين الهجرة وغزوة بدر. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لأنّ قصة بقرة بني إسرائيل ذكرت فيها، وتبلغ آياتها ستا وثمانين ومائتي آية. الغرض منها وترتيبها لما هاجر النبيّ (ص) إلى المدينة، أظهر له أحبار اليهود فيها العداوة بغيا وحسدا، ومال إليهم المنافقون من الأوس والخزرج، فكان أولئك الأحبار يسألونه ويتعنّتونه ويأتونه باللّبس ليلبسوا الحق بالباطل، فنزلت سورة البقرة في أولئك الأحبار وفي ما يسألون عنه، وفي أولئك المنافقين الذين مالوا إليهم، وفي ما نزل من أحكام العبادات والمعاملات بعد استقرار الإسلام بالمدينة، وبعد أن صار بها للمسلمين جماعة تحتاج إلى هذه الأحكام في أمر دينها ودنياها. فيكون الغرض المقصود من هذه السورة الرد على أولئك الأحبار ومن مال إليهم من المنافقين، وبيان فساد ما شغبوا به في أمر القرآن، وفي أمر النّبيّ (ص) ، وقد جرّ هذا إلى ذكر كثير من أمورهم، بعضها جرى مجرى الترغيب، بعضها مجرى الترهيب، ثم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبدا المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

دعوة تنزيل القرآن الآيات [1 - 22]

تخلص من هذا إلى بيان ما نزل على المسلمين في هذا العهد من الأحكام اللازمة لهم في عباداتهم ومعاملاتهم. وقد ابتدأت هذه السورة بإثبات نزول القرآن من عند الله، ليكون تمهيدا لبيان فساد ذلك الشّغب الذي قام في امره وفي أمر النّبيّ (ص) ، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعد سورة الفاتحة، فضلا عن أنّها أطول سورة في القرآن. دعوة تنزيل القرآن الآيات [1- 22] قال الله تعالى: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) فذكر أنّ القرآن نزل قطعا من عنده، وأخذ في التنويه بشأنه، فذكر أنّه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب، إلى غير هذا ممّا ذكره من أوصافهم، ثم ذكر مخالفيهم من أحبار اليهود والمنافقين، ووصف نفاق المنافقين من المشركين أشنع وصف، وضرب في شناعة أمرهم المثل بعد المثل، ثم أمرهم أن يعبدوه لأنّه هو الذي خلقهم والذين من قبلهم، وجعل لهم الأرض فراشا والسماء بناء وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) . الاستدلال على تنزيل القرآن الآيات [23- 25] ثم قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فأقام الدليل على تنزيل القرآن من عنده بتحدّيهم أن يأتوا بسورة من مثله، وأمرهم أن يدعوا في ذلك آلهتهم ليعينوهم على الإتيان به، ثمّ حذرهم من الاستمرار في الكفر بعد ذلك التحدّي، وبشّر المؤمنين بأنّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار. كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) . الردّ على مقالة اليهود الأولى في القرآن الآيات [26- 90] ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، فردّ على مقالتهم الأولى، وذلك أنّه لما

ضرب المثل بالذباب والعنكبوت وذكر النحل والنمل قال اليهود: ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ وقال المنافقون: لا نعبد إلها يذكر هذه الأشياء. فردّ عليهم بأنّه لا يستحيي أن يضرب ذلك مثلا، وقد كانت العرب تضرب الأمثال بمثل هذا، فتقول: هو أحقر من ذرّة، وأجمع من نملة. ثم ذكر أنّ المؤمنين يعلمون أنّه الحق من ربهم، وأنّ الكافرين ينكرون ويضلّون به، لأنهم فاسقون ينقضون ما أخذ عليهم من العهد لأول خلقهم أن يؤمنوا بما يأتيهم من هديه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من اتّباع دينه، ويفسدون في الأرض بالقتل والغصب والنهب وسائر أنواع الفساد، ثم أنكر على المنافقين منهم أن يكفروا به مع أنهم كانوا أمواتا فأحياهم إلخ، ومع أنّه هو الذي خلق لهم ما في الأرض جميعا إلخ. ثم انتقل السّياق من هذا إلى ذكر قصة آدم ليمهّد بها إلى ذكر ما أخذه من العهد عليهم عند خلقهم، ولهذا ختمها بقوله: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) . ثمّ انتقل السّياق من توبيخ المنافقين على كفرهم به إلى توبيخ اليهود الذين يزيّنون لهم هذا الكفر، ويؤثرونهم على النّبيّ (ص) وهو يدعو إلى الإيمان به، وفي هذا مشاركة لهم في كفرهم به، فأخذ يذكرهم بنعمته عليهم، ويأخذهم تارة بالترغيب وأخرى بالترهيب، ويذكر في هذا ما مضى من أحوالهم وأخبارهم، فأمرهم أولا أن يذكروا نعمته عليهم، وأن يفوا بالعهد الذي أخذه عليهم فلا يؤثروا من يكفر به على من يؤمن به، وأن يؤمنوا بالقرآن الذي نزل مصدّقا لما معهم، ونهاهم أن يلبسوا الحق بالباطل بمثل تلك المقالة في إنكار ما ضربه مثلا من الذباب ونحوه، إلى غير هذا ممّا أمرهم به ونهاهم عنه. ثم أمرهم سبحانه ثانيا أن يذكروا نعمته عليهم وتفضيله لهم على العالمين، وأن يتّقوا يوما لا يغني فيه أحد عن أحد شيئا، وأخذ يذكّرهم ببعض نعمه عليهم وبعض ما مضى من أحوالهم وأخبارهم، فذكر أنّه نجاهم من آل فرعون، وكانوا يسومونهم سوء

العذاب من ذبح الأبناء واستحياء النساء، وأنّه فرق بهم البحر فأنجاهم وأغرق آل فرعون، وأنّه وعد موسى أربعين ليلة فعبدوا العجل من بعده فعفا عنهم، ولم يعاقبهم بما عاقب به من قبلهم، وأنّه أنزل على موسى التوراة لهدايتهم، وأنه أمرهم بقتل أنفسهم لعبادتهم العجل ثم نسخ ذلك الأمر رحمة بهم، وأنّهم قالوا لموسى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الآية 55] فأخذتهم الصاعقة عقوبة لهم. ثم بعثهم من بعد موتهم وظلّل عليهم الغمام وأنزل عليهم المنّ والسّلوى، وأنه أمرهم أن يدخلوا بيت القدس على حالة مخصوصة فبدّلوا في ذلك وغيّروا، فأخذ من بدّل وغيّر بما أخذه به، وأنّ موسى استسقى لهم فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بعدد أسباطهم، وأنّهم لم يصبروا على طعام واحد في تيههم (المنّ والسلوى) فطلبوا منه أن يدعو ربه ليخرج لهم من الأرض بقلا وقثّاء وبصلا، فأمرهم بأن يهبطوا مصرا من الأمصار ليجيبهم إلى سؤالهم، وذكر أنّ مثل هذا ممّا ضربت به عليهم الذّلة والمسكنة، وممّا كان سببا في غضب الله عليهم، لأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيّين بغير الحق، ويرتكبون من العصيان والاعتداء ما ترتكبون، وقد استطرد من هذا إلى ذكر حسن جزائه لمن آمن به من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين، جمعا بين الوعد والوعيد، وذكرا للترغيب بعد الترهيب. ثم عاد السياق فذكر أنّه سبحانه أخذ عليهم ميثاقهم أن يؤمنوا به، ورفع فوقهم الطور عند أخذه عليهم، فنقضوا ميثاقهم وكفروا به، ولولا فضله عليهم لأهلكهم بذلك كما أهلك من قبلهم، وذكر أنّهم يعلمون الذين اعتدوا منهم في السبت فمسخوا قردة جزاء لهم على اعتدائهم، وأنّ موسى ذكر لهم أنّ الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة فلم يبادروا إلى امتثال أمره، بل أخذوا يطلبون منه أن يسأل ربه ما هي؟ فأجابهم بأنّها بقرة لا فارض ولا بكر، ثم طلبوا منه أن يسأله ما لونها؟ فأجابهم بأنّها بقرة صفراء فاقع لونها، ثم طلبوا منه أن يسأله ثانيا ما هي؟ فأجابهم بأنّها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمة لا شية فيها، فذبحوها بعد كل هذا وما كادوا يفعلون. ثم ذكر بعد هذا معجزتها في النفس التي قتلوها ولم

الرد على مقالتهم الثانية الآيات [91 - 96]

يعرفوا قاتلها، وأنّ قلوبهم قست بعد هذه المعجزة، حتى صارت كالحجارة، أو أشد قسوة. ثم ذكر أنّ مثل هؤلاء لا يصح للنّبيّ (ص) وأصحابه أن يطمعوا في إيمانهم، لأنهم في ذلك مثل أسلافهم. فمنهم من يسمع بشارة التوراة بالنّبيّ (ص) ، ثم يحرفها من بعد ما عقلها وعرفها، وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا أنّ صاحبكم نبي، ولكن إليكم خاصّة. وإذا خلا بعضهم إلى بعض تعاتبوا على هذا الإقرار مع ما فيه من التحريف. ومنهم أمّيّون جهلاء لا يعلمون التوراة إلّا أمانيّ يمنّيهم بها أحبارهم، فيزعمون أنّ الله لا يؤاخذهم بخطاياهم، وأنّ النار لا تمسّهم إلّا أياما معدودة بقدر أيام الخلق، وهي ستة أيام، ثم ردّ عليهم ذلك بأنّ من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فهو مخلّد في النار، ومن آمن وعمل صالحا فهو مخلّد في الجنّة. ثم ذكر لهم بعضا من سيئاتهم، وأنه أخذ عليهم ميثاقهم أن يخصوه بالعبادة ويحسنوا إلى الوالدين وذي القربى، إلى غير هذا بما أخذ ميثاقهم عليه، فتولّوا عنه إلّا قليلا منهم، وأنّه أخذ عليهم ميثاقهم ألّا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا فريقا منهم من ديارهم، فخالفوا هذا أيضا، ثم ذكر أنّ جزاء من يفعل ذلك إنّما هو الخزي في الدنيا، ويوم القيامة يردّ إلى عذاب أشدّ من عذاب دنياه. ثم أخذ السياق يوبّخهم على كفرهم واعتيادهم له من قديمهم، فذكر أنّهم كانوا كلّما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا عليه، فرسولا يكذّبون ورسولا يقتلون. ثم ذكر أنّهم لما جاءهم القرآن أنكروه على عادتهم، مع أنّه جاء مصدّقا لما معهم، ومع أنّهم كانوا من قبله يستفتحون على مشركي العرب بالرسول المنتظر، فلمّا جاءهم ما كانوا ينتظرونه كفروا به حسدا أن يكون هناك رسول من غيرهم فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) . الردّ على مقالتهم الثانية الآيات [91- 96] ثم قال تعالى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ

الرد على مقالتهم الثالثة الآيات [97 - 105]

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) فذكر مقالتهم الثانية في القرآن، وهي زعمهم أنهم مأمورون ألّا يؤمنوا إلّا بما أنزل إليهم، وقد ردّ عليهم بأن القرآن أتى مصدّقا لما معهم، وبأنهم قتلوا أنبياءهم وقد أتوهم بما أنزل إليهم، وبأنّ موسى أتاهم بالتوراة فعبدوا العجل حين غاب عنهم أربعين يوما، وبأنه أخذ ميثاقهم أن يأخذوا ما أتاهم بقوة ويسمعوا له، فقالوا سمعنا وعصينا ولم ينزعوا عبادة العجل من قلوبهم، وبأنّهم لو كانوا هم المخصوصين بالآخرة حتى لا تكون رسالة في غيرهم لتمنّوا الموت استعجالا لثوابها، وهم لا يتمنّونه أبدا خوفا من سوء أعمالهم، وما يعلمه الله من كفرهم وظلمهم وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) . الرد على مقالتهم الثالثة الآيات [97- 105] ثم قال تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) فذكر مقالتهم الثالثة، وهي طعنهم في القرآن بأنّه نزل به جبريل وهو عدوهم، لأنّه ينزل بالشدة والقتال، وميكائيل ينزل بالبشر والرخاء، فردّ عليهم بأنّ جبريل إنّما نزّله بإذنه، وهدّدهم على هذه العداوة لله وملائكته، وذكر أنّه أنزل من ذلك آيات بيّنات لا يكفر بها إلّا الفاسقون، ثمّ وبّخهم على نقض عهدهم مع النّبي (ص) بطعنهم في القرآن، وعلى أنّهم ينبذونه وراء ظهورهم وهو مصدّق لما معهم، ويتبعون ما ينسبونه زورا إلى سليمان وهاروت وماروت من كتب السحر ونحوها، فيستعملونها في الأعمال السحرية كالتفريق بين الرجل وزوجه، ويتعلّمون منها ما يضرّهم ولا ينفعهم، ولو أنّهم آمنوا بالقرآن بدل الايمان بها لكان خيرا لهم، ثم حذّر المؤمنين من مشاركتهم في بعض كفرهم، وكانوا يقولون للنّبي (ص) : (راعنا) إذا تلا عليهم شيئا من العلم ليتمهل عليهم، فأمروا أن يقولوا بدلها: (انظرنا) ليخالفوهم في مقالتهم، ثم حذّر المؤمنين من اتباعهم في هذا أو

الرد على مقالتهم الرابعة الآيات [106 - 110]

نحوه فقال: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) . الرد على مقالتهم الرابعة الآيات [106- 110] ثم قال: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) ، فذكر مقالتهم الرابعة في القرآن، وهي طعنهم في معجزته، وقول بعضهم للنّبي (ص) : يا محمد، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء فقرأه، وفجّر لنا أنهارا، نتّبعك ونصدقك. فذكر لهم أنه سبحانه لا ينسخ آية من آيات الرسل أو ينسيها باية أخرى إلّا كانت الأخرى خيرا من الأولى أو مثلها، وأنّه هو الذي يتصرف في تلك الآيات كيف يشاء بما له من ملك السماوات والأرض، وأنّه لا شريك له في ذلك الملك، ثم وبّخهم وذكر أنهم يتعنّتون بسؤال هذه الآيات كما تعنت أسلافهم على موسى بسؤال مثلها، ثم حذّر المؤمنين من انخداعهم بتعنّتهم في ذلك، وذكر أنّهم يودّون به أن يردّوهم كفارا حسدا لهم على إيمانهم، وأمرهم أن يعفوا ويصفحوا حتى يأتيهم بأمره فيهم، إنّ الله على كل شيء قدير وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) . الرد على مقالتهم الخامسة الآيات [111- 117] ثم قال تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) فذكر مقالتهم الخامسة، وهي قول اليهود والنصارى كما ورد في التنزيل: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى لأنه لا دين إلّا دينهم. وقد ردّ عليهم بأنّ تلك أمانيّ لا دليل عليها، وبأنّ كل من آمن به وأحسن في عمله فله أجره عنده لو لم يكن يهوديا أو نصرانيا، وبأنّ كلّا من اليهود والنصارى يطعن في دين الاخر، ولا يسلّم بأنّه يدخل الجنّة، مع أنّهم جميعا يتلون التوراة، وبأنّ المشركين الذين لا علم عندهم يزعمون أيضا أنّ الاخرة لهم، وبأنّهم

الرد على مقالتهم السادسة الآيات [118 - 134]

يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ويسعون في خرابها، ومثله لا يصح له أن يزعم أنّه لا يدخل الجنة غيره، وإنّما جزاؤه الخزي في الدنيا، وله في الاخرة عذاب عظيم. ثم ذكر أنّ له المشرق والمغرب، وأنّ الناس أينما يولّوا وجوههم فثمّ وجهه، فلا يصحّ أن يسعى في خراب المساجد لاختلاف قبلتها، كما فعل النصارى مع اليهود في بيت المقدس. ثمّ ذكر، إلى هذا، من قبائح النصارى، أنهم يزعمون أنّ لله ولدا، وهو من الكفر الذي لا يصحّ لصاحبه أن يطمع في دخول الجنة، وردّ عليهم هذا بأنّ له ما في السماوات والأرض كلّ له قانتون بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) . الرد على مقالتهم السادسة الآيات [118- 134] ثم قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) فذكر مقالتهم السادسة، وهي قول بعضهم للنّبي (ص) : يا محمد، إن كنت رسولا من الله، كما تقول، فقل لله فليكلمنا حتّى نسمع كلامه. وقد ردّ عليهم بأنّ هذا من التعنّت الذي يسلكه من جاء قبلهم مع رسلهم، وبأنه قد أرسله بالحق بشيرا ونذيرا، وليس عليه إلّا أن يبلّغه، ولا يسأل بعد هذا عن تعنّتهم وكفرهم، لأنّهم لا يرضون عنه حتى يتّبع ملتهم، ولأنّ الهدى هداه ولو شاء لهداهم، وبأنّ المنصفين منهم يؤمنون بما أنزل إليه، ويعرفون أنه الرسول المبشّر به. ولما كانت هذه شهادة منهم وفيها أكبر حجة عليهم، عاد السياق إلى تذكيرهم ثالثا بنعمته سبحانه عليهم وتفضيلهم على العالمين، وتخويفهم من يوم لا يغني فيه أحد عن أحد شيئا ليحملهم على الإقرار بهذه الشهادة، ثم شرع في ذكر قصة إبراهيم وإسماعيل (ع) وبنائهما البيت بمكّة، إلى أن ذكر دعاء إبراهيم له أن يبعث في أهلها رسولا منهم يعلّمهم الكتاب والحكمة، ليدلّهم على موضع البشارة به في كتبهم، ويحملهم على الإقرار بها كما أقرّ بها من آمن منهم. ثمّ ذكر لهم أنّ الملّة هي ملّة إبراهيم التي لا يرغب عنها إلّا من سفه نفسه، وهي دين التوحيد الخالص الذي

الرد على مقالتهم السابعة الآيات [135 - 141]

أسلم فيه لرب العالمين، ووصّى بنيه به من بعده، وكذلك وصّى يعقوب بنيه به أيضا، ثمّ ختم ذلك بأنّ ما قصّه من أمرهم، وما كانوا عليه من الإسلام والتوحيد لا يعود نفعه إلّا إليهم، ولا ينتفع اليهود والنصارى بانتسابهم إليهم لمخالفتهم لهم تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) . الرد على مقالتهم السابعة الآيات [135- 141] ثم قال تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) ، فذكر مقالتهم السابعة، وهي قول بعضهم للنّبيّ (ص) : ما الهدى إلّا ما نحن عليه، فاتّبعنا يا محمّد تهتد. وقد قالت النصارى مثل ذلك أيضا، فجمع مقال الفريقين ليرد عليهم جميعا، ثم ردّ عليهم بأمره (ص) أن يقول لهم: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي بل نتبع ملة إبراهيم الخالصة من الشرك الذي وقعوا فيه، وبأمره المسلمين أن يقولوا لهم: آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ (136) ، فإن آمنوا بذلك ولم يفرقوا بين أحد من الأنبياء، فقد اهتدوا إلى الدين الذي يجمعهم، وإن لم يؤمنوا به فسيبقون على ما هم فيه من شقاق، وهذا الدين هو صبغة الله لا ما صارت إليه اليهودية والنصرانية، ثم أمر النّبيّ (ص) أن يذكر لهم أنّه إنّما يدعوهم إلى الإيمان بربهم، أفيحاجون فيه وهو ربهم جميعا، أم يقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى، والله يعلم أنّهم لم يكونوا كذلك تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) . الرد على مقالتهم الثامنة الآيات [142- 177] ثم قال تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) ، فذكر مقالتهم الثامنة، وهي قول بعضهم بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة: يا محمد، ما ولّاك عن قبلتك التي كنت عليها؟ وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك. وإنّما

يريدون بذلك فتنته عن دينه، فأمر النّبي (ص) أن يردّ عليهم بأنّ المشرق والمغرب لله يولّي إليهما من يشاء، وبأنّه بهذه القبلة يجعلهم أمة وسطا بين أمم الشرك بالشرق، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى بالغرب، ليكونوا شهداء عليهم بعد تبليغهم دينهم، وبأنّه لم يعد بالقبلة إلى ما كانت عليه قبل الهجرة إلّا ليميّز بين المؤمنين الصادقين الذين يعلمون أنها الحق، والمنافقين الذين يبطنون الكفر ويتأثّرون بتلك المقالة، وبأنّ قبلة بيت المقدس لم تكن القبلة اللائقة بالمسلمين، ولهذا كان النّبي (ص) يقلّب وجهه بالدعاء لتحوّل قبلتهم إلى الكعبة والمنصفون من أهل الكتاب يعلمون أنها الحق من ربهم. أما غيرهم، فلا يؤمنون بها وإن أتا هم بكل آية عليها. غير أنّهم مختلفون في قبلتهم، فإذا اتّبع قبلة بعضهم أغضب غيرهم. ثمّ ذكر أنّ لكل أمة قبلة هو مولّيها، فليستبق المسلمون إلى الخيرات من الأعمال الصالحة، لأنّها هي المقصود الأهمّ، وشأن القبلة دون شأنها. ثم أمره أن يولّي وجهه شطر المسجد في أي مكان كان لأنه الحق منه، وأمر المسلمين أن يتّبعوه في ذلك لئلا يكون للناس عليهم حجة، وكان اليهود يقولون: لم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتّى هديناه. وكان أكثر العرب يقولون: إنه كان يقول على ملة إبراهيم، والآن ترك التوجه إلى الكعبة، ومن ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم. ثم ذكر حكمة ثانية لذلك، وهي أن يتمّ عليهم نعمته بجعل كعبتهم قبلتهم، كما جعل رسولهم منهم، ثم أمرهم أن يقابلوا ذلك بذكره وشكره وأن يستعينوا على ذلك بالصبر والصلاة والجهاد في سبيله، فإذا أصابهم في ذلك شيء من الخوف والجوع ونحوهما، فليصبروا عليه ليكون لهم بشرى الصابرين، ثم ختم ذلك ببيان أن الصفا والمروة من شعائر الله بالمسجد الحرام الذي أمروا بالتوجّه إليه، وكان الأنصار من أهل المدينة كارهين أن يطوّفوا بينهما. ولما انتهى السياق من الرد عليهم في ذلك، شرع في تهديدهم على كتمان ما جاء في التوراة من البشارة بالنّبيّ (ص) ، فذكر أنّ من يفعل ذلك منهم يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، وأنّ من

تاب منهم عن الكتمان وآمن يقبل الله توبته، ومن أصرّ على الكفر استحقّ تلك اللعنة، ثم شرع يوبخ اليهود على انقيادهم لأولئك الأحبار الذين يكتمون عنهم ذلك، واتخاذهم أندادا من دون الله، فذكر سبحانه لهم أنّ إلههم واحد لا شريك له، وأنّ في خلق السماوات والأرض وغيرهما آيات دالّة على تفرّده بالألوهية، فلا يليق بهم أن يتّخذوا أحبارهم الذين يكتمون عليهم ذلك أندادا من دونه، فيحبّوهم كحبّه ولا يعصوهم في شيء. ولو يرون ما أعدّ لهم من العذاب لتدبّروا في أمرهم، لأنّهم حين يرونه تتقطع بهم الأسباب، ويتبرّأ المتبوعون من التابعين، فلا يمنعون عنهم شيئا من العذاب. ويودّ التابعون لو أنّ لهم كرّة إلى الدنيا لتبرءوا منهم كما تبّرأوا منهم، ثم أمرهم بعد هذا التحذير البالغ من أحبارهم أن يأكلوا ممّا في الأرض حلالا طيّبا، ولا يتّبعوا خطواتهم في ما يحرمون عليهم من الطيبات، لأنّهم يتّبعون بهذا خطوات الشيطان وهو أشدّ أعدائهم، ويقولون على الله ما لا يعلمون تقليدا لأحبارهم، ولكنّهم إذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله من حل تلك الطيبات، أبوا إلّا تقليد أولئك الأحبار، ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، ومثل من يدعوهم إلى ذلك كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلّا دعاء ونداء، ولا يفهم ممّا يدّعي به شيئا. ثم ترك دعاءهم إلى ذلك لأنّه لا يرجى صلاحهم، وأمر المؤمنين بما أمر به أولئك المخالفين، وأن يشكروه على ما أحلّ من ذلك، وذكر لهم أنّه لم يحرّم عليهم إلّا الميتة والدم وما ذكر معهما، ثم عاد السياق إلى أولئك الأحبار فذكر أنّهم يكتمون ما أنزل الله من البشارة بالنّبي (ص) ، ويشترون بهذا ثمنا قليلا من دنياهم، وهددهم بأنهم يأكلون به نارا في بطونهم، وينالون به غضبه عزّ وجلّ عليهم في أخراهم، إلى غير هذا ممّا ذكره في تهديدهم ثم ذكر أنّهم استحقوا ذلك بأنّه نزّل القرآن بالحق فلم يؤمنوا به، ووقعوا في ذلك الشغب والشقاق البعيد، وهو الذي جاء في تلك المقالات التي ردّت عليهم. ثم ختم ذلك الجدال معهم بأنّ ما يتعلقون به من أمر القبلة لا يذكر فيما يجب من البرّ، ولكن البرّ من آمن بالله واليوم والاخر والملائكة والكتاب والنبيّين وآتى المال، على حبه، ذوي

حكم القصاص الآيتان [178 - 179]

القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، إلى غير هذا من أنواع البرّ، ثم مدح من جمع ذلك كله فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) . حكم القصاص الآيتان [178- 179] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الآية 178] ، فشرع في بيان الأحكام التي أراد ذكرها في هذه السورة، وذلك بعد أن حاجّ اليهود، ومهّد لذلك بأنّ المهم هو ما جاء به القرآن من الأحكام، لا ما تعلّقوا به من أمر القبلة ونحوه، ولا شك أنّ في هذا ما تستشرف به النفس لبيانها، وتتطلّع إلى معرفة بعضها، وقد بدأ منها بحكم القصاص الذي يراد به حفظ النفس، وهو من أهم أغراض الشرائع. وقد كان اليهود يوجبون فيه القتل فقط، وكان العرب لا يقتصرون على قتل القاتل، فأتى الإسلام فيه بالقصاص العادل، وندب إلى أخذ الدّية والعفو عن القاتل، ثم ختمه بما في القصاص من الفوائد العظيمة وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) . حكم الوصية الآيات [180- 182] ثم قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) وكانوا قبل الإسلام يوصون للأبعدين طلبا للفخر والشرف، ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة، فجعل الوصية لهم لأنّهم أولى بمال قريبهم. ثم حذّر من تبديل الوصية إلّا إذا كان فيها جنف أو إثم فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) . حكم الصيام الآيات [183- 187] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) فذكر أنّه أوجب عليهم الصوم كما أوجبه على الذين من قبلهم، وأنه في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وأوجب الفدية على من لا يطيق الصوم فيه لمرض أو نحوه، وندب إلى إحيائه بالتكبير والذكر والدعاء، ثم ذكر أنه أحلّ لهم ليلة الصيام الرفث والأكل

تحريم الكسب الحرام الآية [188]

والشرب إلى طلوع الفجر، إلى أن قال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) . تحريم الكسب الحرام الآية [188] ثم قال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الآية 188] ، فحرّم أن يأكل بعضهم أموال بعض بالباطل، وأن يرشوا بها الحكام ليأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وهم يعلمون. حكم الأهلة الآية [189] ثم قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الآية 189] ، وقد سألوه عن الأهلّة ما بالها تبدو دقيقة كالخيط ثم تزيد حتّى تمتلئ وتستوي ثم تنقص حتّى تعود كما بدت؟ فأجابهم ببيان حكمها، وهو أنّها مواقيت للناس والحج، لأنه لم يبعث إليهم ليعلمهم مثل ذلك من علم الفلك ثم ضرب لسؤالهم مثلا من يأتي البيوت من ظهورها، وكنّى بهذا عن العدول عن الطريق الصحيح في السؤال ثمّ أمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها، ويتّقوه، لعلّهم يفلحون. حكم القتال الآيات [190- 196] ثم قال تعالى وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) ، فأذن لهم في قتال من يقاتلهم، ونهاهم عن قتال من لم يقاتلهم، ثم أمرهم أن يقتلوا من أمروا بقتالهم في أي مكان وجدوهم فيه، ونهاهم أن يقاتلوهم عند المسجد الحرام إلّا إذا بدءوهم بالقتال، إلى أن ختم ذلك بأمرهم بالجهاد بأموالهم أيضا، فقال: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) . حكم الحج والعمرة الآيات [196- 214] ثم قال تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [الآية 196] ، فذكر أحكام الحج والعمرة إلى أن أمرهم بذكر الله عند المشعر الحرام، ثم ذكر أنّ الذين يشهدون هذه المناسك: منهم كافر لا

أحكام متفرقة الآيات [215 - 225]

يقصد من ذكره ودعائه إلّا الدنيا فقط، ومنهم مسلم يقصد من ذكره الدنيا والاخرة. ثم أمرهم بذكره سبحانه في أيام التشريق، ونفي الإثم عمّن تعجّل في يومين منها وعمّن تأخّر إلى آخرها ثم ذكر أنّ ممّن يشهد هذه المناسك فريق المنافقين، وأنّ من يسمعه يعجبه قوله في الحياة الدنيا، وأنّه يشهد الله على إخلاصه وهو ألدّ الخصام. وأنّه إذا انصرف من مناسكه سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، وأنّه إذا قيل له اتّق الله أخذته العزّة بالإثم. ثم ذكر أنّ ممّن يشهد هذه المناسك مؤمنين يبتغون بها رضاه، ويتّقونه حقّ تقواه ثم خاطب أولئك المنافقين الذين يظهرون الإيمان، فأمرهم أن يدخلوا في السّلم، ويتركوا ذلك الفساد في الأرض، وحذّرهم أن يزلّوا عن ذلك، وخوّفهم هول يوم القيامة حين يأتي أمره بالحساب والعذاب، وأمر النّبيّ (ص) أن يذكر لهم ما جرى لبني إسرائيل حين زلّوا ليعتبروا بهم ثم ذكر السبب في نفاقهم وهو اغترارهم بزينة الحياة الدنيا، واعتقادهم أنهم أعلى منزلة من المؤمنين الصادقين، لغناهم وفقرهم. وقد كان هذا هو السبب في كفر من قبلهم فإنّ الناس كانوا أمّة واحدة قائمة على الحق، ولم يختلفوا إلّا بسبب البغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا، وقد هدى الله المؤمنين الصادقين لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ثم ذكر أنّه لا بدّ لمن يريد الاخرة أن يناله من الشدائد والفقر ما نال المؤمنين قبله من الرسل والذين آمنوا معهم مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) . أحكام متفرقة الآيات [215- 225] ثم قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) ، فرجع السياق بعد ذلك الاستطراد إلى الكلام على الأحكام، وذكر حكم الإنفاق من جهة مصرفه وأنّه يصرف للوالدين ومن ذكر معهما، ثم حكم فرض القتال، وأنّه يجوز في الشهر

حكم الإيلاء والعدة والطلاق الآيات [226 - 237]

الحرام للضرورة، ثم ذكر تحريم الخمر والميسر، ثم ذكر حكم الإنفاق من جهة أنّه يكون من فضل الأموال، ثم ذكر كفالة الأيتام بالإصلاح لهم ومخالطتهم في المأكل والمشرب، ثم ذكر حكم نكاح المؤمنين للمشركات ونكاح المشركين للمؤمنات ثم ذكر تحريم الوطء في الحيض ثم ذكر جواز إتيان النساء على أيّ وجه فيما يجوز إتيانهنّ فيه ثم ذكر حكم الحلف به، وأنه لا يؤاخذ باللغو فيه: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) . حكم الإيلاء والعدة والطلاق الآيات [226- 237] ثم قال تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) فذكر الإيلاء وعدّة المولّى عليها، ثم ذكر عدّة المطلقة بعد الدخول: أنه يجوز مراجعتها إن طلقت مرة أو مرتين، ولا يجوز مراجعتها إن طلقت ثلاثا إلّا إذا نكحها شخص آخر، ولا يجوز إمساكها ضرارا بأن يرجعها في آخر عدّتها ليطلّقها ثانيا وتأخذ في عدّة أخرى، ولا يجوز منعها من الزواج بعد انقضاء عدتها غيرة عليها، وإذا كان لها ولد فلها حق الرضاعة والنفقة حولين كاملين. ثم ذكر عدّة المتوفّى عنها زوجها، وأنه يجوز التعريض بخطبتها في عدّتها ثم ذكر أنّه لا عدّة للمطلقة قبل الدخول، ولها من المهر نصفه، ولمّا بيّن حقوق الرجال والنساء في ذلك أرشدهم إلى التسامح فيها، فقال: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) . حكم الصلاة في الأمن والخوف الآيتان [238- 239] ثم قال تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) ، فأمرهم بالمحافظة على الصلوات في حال الأمن، بأن يأتوا بها مستوفية الأركان. فإذا كانوا في شدة خوف أتوا بها كيف أمكنهم رجالا أو ركبانا فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) . حكم الوصية للأزواج الآية [240] ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ

حكم نفقة المطلقات الآيتان: [241 - 242]

مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ [الآية 240] ، فذكر أنّ الذين يتوفون منهم عليهم الوصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكناه، فإن خرجن قبل ذلك بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله لهنّ فيما سبق فلا حرج عليهنّ فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف أي نكاح صحيح، وكانوا في الجاهلية يوجبون عليهنّ القيام بهذه الوصية. حكم نفقة المطلقات الآيتان: [241- 242] ثم قال تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) والمراد بالمتاع هنا نفقتهنّ مدة العدّة، وقد جعل ذلك حقا على المتّقين كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) . الترغيب في الجهاد بالنفس والمال الآيات [243- 284] ثم قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) ، فأخذ يرغب في الجهاد بالنفس والمال بعد أن أذن للمسلمين فيه وفرضه عليهم، وقد مهّد لذلك بذكر قصة تدل على أنّ الحذر من الموت لا يفيد، لأنّ الحذر من الموت هو الذي يخوّفهم من الجهاد فذكر قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالقتال فتقاعسوا خوفا على أنفسهم، فأرسل الله عليهم وباء قضى على كثير منهم، فاعتبر به من نجا وجاهد في سبيل الله شكرا له على نجاته ثم أمر المسلمين بالقتال في سبيله بعد هذا التحذير، ووعد من ينفق منهم شيئا فيه بأن يضاعفه له أضعافا كثيرة. ثم ذكر لهم قصة ثانية تقتلع «1» خوف الجهاد من نفوسهم لقلّة عددهم، وتشتمل على عظات تنفعهم في جهادهم، وهي قصة بني إسرائيل حين طلبوا من نبيهم صموئيل أن يبعث لهم ملكا يقاتلون تحت رايته، فلمّا كتب

_ (1) . ويجوز أن تكون هذه القصة تفصيلا للقصة الأولى. [.....]

عليهم القتال تولوا إلّا قليلا منهم. ولما ذكر لهم صموئيل أنّ الله بعث لهم طالوت ملكا عابوه لفقره. فردّ عليهم بأنّه يفضلهم ببسطة العلم والجسم، وبأنّه سبحانه يؤتي ملكه من يشاء ولا ينازعه أحد في ملكه، ثم ذكر ابتلاءه لجند طالوت حين خرج بهم، وأنّه لم يصبر على هذا الابتلاء إلا قليل منهم، فساروا معه حتى إذا رأوا جالوت وجنوده قالوا لا طاقة لنا بهم، وقال الذين يظنون أنّهم ملاقو الله، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، ثم برزوا لهم واستعانوا بالله عليهم، فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة جزاء له على قتله ثم ختم القصة ببيان حكمة الجهاد في سبيله، فذكر أنّه لولا دفع العصاة بالطائعين لفسدت الأرض، ثم نوّه بشأن ما تلاه من الآيات، في تلك القصة وجعلها دليلا على أنّه من المرسلين ثم ذكر أنّه فضّل بعضهم على بعض في الآيات، وأنّه سبحانه لو شاء، لهدى الناس ولم يقتتلوا من بعد ما جاءهم منها، ولكنّهم اختلفوا: فمنهم من آمن ومنهم من كفر، وقاتل الكافرون المؤمنين فقاتلوهم كما يقاتلونهم. ثم أخذ يحضّهم على الجهاد بطريق الترغيب، فأمرهم أن ينفقوا فيه ممّا رزقهم من قبل أن يأتي يوم لا يقبل فيه فداء، ولا تفيد فيه صداقة ولا شفاعة، ثم ذكر من عظمته ما يؤكد ذلك، ويثبت أنّه لا يمكن أن يشفع أحد عنده إلّا بإذنه، وهو لا يأذن بالشفاعة إلّا في حق الطائعين المجاهدين في سبيله، ثم ذكر أنّه لا يكرههم بذلك على الإنفاق والجهاد، لأنه لا إكراه في الدين، وقد تبيّن الرشد من الغيّ، فمن يؤمن بالله ويكفر بالطاغوت فقد استمسك بالعروة الوثقى، ثم ذكر أنّه هو الذي يتولّى المؤمنين فيخرجهم من الظلمات إلى النور، وأنّ الكافرين أولياؤهم الطاغوت فيخرجونهم من النور إلى الظلمات وبهذا يصير المؤمنون إلى الإيمان باختيارهم وتوفيق الله لهم ويصير الكافرون إلى الكفر باختيارهم وإيثارهم ولاية الطاغوت لهم ثم ضرب لذلك ثلاثة أمثال: أولها مثل إبراهيم ونمرود، فقد أفحمه إبراهيم بدليله ولكنّه تولى الطاغوت فأضلّه وثانيها مثل الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، فقال: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها؟ ثم تولّاه الله فهداه وثالثها مثل إبراهيم حين قال: ربّ

الخاتمة الآيتان [285 - 286]

أرني كيف تحيي الموتى؟ فأراه ذلك وتولّاه فزاده إيمانا على إيمانه. ثم عاد السياق إلى الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله ليفصّل تلك الأضعاف الكثيرة التي ذكرت في الطريق الأول، ويضرب سبحانه لذلك مثل الحبة التي أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، ويبيّن ما يجب في ذلك من ترك المنّ والأذى، لأنّهما يبطلان ثوابه عنده، ومن اختيار الطيبات للإنفاق، فينفق كل شخص من طيبات كسبه، ولا يسمع للشيطان الذي يخوفه من الفقر فيحسن له الإنفاق من الخبيث، بل يسمع لله الذي يعدّه مغفرة منه. ثم أخذ في الكلام على الربا لأنّه هو الذي يربي في النفس الشحّ بالإنفاق، وذلك لأنه يزيد في المال، والإنفاق ينقص منه، فقبّح حال الذين يأكلون الربا، وهددهم عليه أقوى تهديد، وذكر أنه يمحق المال الذي يدخله الربا، ويربي المال الذي يدخله الإنفاق والصدقات، وأنّه لا يحب من يأكل الربا من كل كفّار أثيم وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الإنفاق وغيره لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ثم أمر الذين كانوا يتعاطون الربا قبل تحريمه أن يتركوا ما بقي منه، وآذنهم بحربه إن لم يفعلوا ما أمرهم به، وإذا تابوا فليس لهم إلّا رؤوس أموالهم، وإذا أعسر لها المدين أمهل إلى أن تتيسّر له، والتصدق بها خير لهم لو كانوا يعلمون. ثم أحلّ لهم السلم ليجدوا منه وسيلة للحصول على ما يحتاجون إليه من المال بدل الربا، وأمرهم إذا تداينوا بدين أن يكتبوه ويشهدوا عليه، وإن كانوا على سفر ولم يجدوا كاتبا فرهان مقبوضة، ثم نهاهم عن كتمان الشهادة في ذلك، وأخبرهم بأنّه يعلم ما يفعلونه فيها، وهو الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وإن يبدوا ما في أنفسهم أو يخفوه يحاسبهم به: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) . الخاتمة الآيتان [285- 286] ثم قال تعالى آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ (285) ، فختم السورة بذكر إيمان الرسول والمؤمنين بالقرآن والملائكة وغيرهم

ممّا ذكره، ليختمها بذكر إيمانهم بعد أن بدأها بذكر كفر المنافقين واليهود. وذكر ما ذكر من حسن إخلاصهم وطاعتهم، وطلبهم منه وهو لا يكلّف نفسا إلّا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ألّا يؤاخذهم بنسيانهم أو خطئهم، ولا يحمل عليهم إصرا كما حمله على الذين من قبلهم من اليهود وغيرهم، إلى أن قال على لسانهم: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"البقرة"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «البقرة» «1» قال بعض الأئمّة: تضمّنت سورة الفاتحة الإقرار بالربوبيّة، والالتجاء إليها في دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهود والنصارى، وتضمّنت سورة البقرة قواعد الدين، وآل عمران مكمّلة لمقصودها. فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم، و «آل عمران» بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم. ولهذا ورد فيها كثير من المتشابه لمّا تمسّك به النصارى. في «آل عمران» أوجب الحج. أمّا في البقرة، فذكر أنّه مشروع، وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه «2» . في «آل عمران» ، كان خطاب النصارى، كخطاب اليهود في البقرة، أكثر من خطابهم في سواها، لأنّ التوراة أصل، والإنجيل فرع لها، والنّبي (ص) لمّا هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم، وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب، ولهذا كانت السور المكّية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء، فخوطب به جميع الناس، والسور المدنية فيها خطاب من أقرّ بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين، فخوطبوا ب «يا أهل الكتاب» ، «يا بني إسرائيل» ، «يا أيّها الذين آمنوا» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وذلك في قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ (196) .

وأمّا سورة النساء فتضمّنت أحكام الأسباب التي بين الناس، وهي نوعان: مخلوقة لله، ومقدورة لهم، كالنسب والصهر، ولهذا افتتحت بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها. وقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النساء 1] فانظر إلى هذه المناسبة العجيبة، والافتتاح، وبراعة الاستهلال، حيث تضمنت الآية المفتتح بها ما في أكثر السورة من أحكام: من نكاح النساء ومحرّماته، والمواريث المتعلقة بالأرحام، وأنه ابتدأ هذا الأمر بخلق آدم، ثم خلق زوجته منه، ثم بثّ منهما رجالا كثيرا ونساء في غاية الكثرة. أما المائدة، فسورة العقود تضمنت بيان تمام الشرائع، ومكمّلات الدين، والوفاء بعهود الرسل، وما أخذ على الأمة، ونهاية الدين، فهي سورة التكميل، لأنّ فيها تحريم الصيد على المحرم، الذي هو من تمام الإحرام. وتحريم الخمر، الذي هو من تمام حفظ العقل والدين، وعقوبة المعتدين من السرّاق والمحاربين، الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال، وإحلال الطيبات، الذي هو من تمام عبادة الله. ولهذا ذكر فيها ما يختصّ بشريعة محمد (ص) والتيمّم، والحكم بالقرآن على كل ذي دين. ولهذا كثر فيها لفظ الإكمال والإتمام «1» . وذكر فيها: أنّ من ارتدّ عوّض الله بخير منه، ولا يزال هذا الدين كاملا، ولهذا ورد أنّها آخر ما نزل «2» لما فيها من إرشادات الختم والتمام. وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب. انتهى. وقال بعضهم: افتتحت البقرة بقوله تعالى: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فإنّه إشارة إلى الصراط المستقيم بقوله في الفاتحة: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) ، فإنّهم لما سألوا الله الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه، كما أخرج ابن جرير وغيره من حديث

_ (1) . وذلك في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] وأمثالها. (2) . أخرجه الحاكم في المستدرك عن عائشة: 2: 311 وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه والإمام أحمد في المسند عن معاوية بن صالح عن عائشة: 6: 188.

عليّ مرفوعا: «الصراط المستقيم كتاب الله» «1» . وأخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن مسعود موقوفا «2» . وهذا معنى حسن، يظهر فيه سرّ ارتباط «البقرة» ب «الفاتحة» . وقال الخويي «3» : أوائل هذه السورة، مناسبة لأواخر سورة الفاتحة، لأنّ الله تعالى لمّا ذكر أنّ الحامدين طلبوا الهدى، قال: قد أعطيتكم ما طلبتم: هذا الكتاب هدى لكم فاتّبعوه، وقد اهتديتم إلى الصراط المستقيم المطلوب المسؤول. ثم إنّه ذكر في أوائل هذه السورة الطوائف الثلاث الذين ذكرهم في الفاتحة: فذكر الذين على هدى من ربّهم، وهم المنعم عليهم. والذين اشتروا الضلالة بالهدى، وهم الضالّون: والذين باؤوا بغضب من الله، وهم المغضوب عليهم «4» . انتهى. أقول: قد ظهر لي بحمد الله وجوه من هذه المناسبات. أحدها: أنّ القاعدة التي استقرّ بها القرآن: أنّ كل سورة تفصيل لإجمال ما قبلها، وشرح له، وإطناب لإيجازه. وقد استقرّ لي ذلك في غالب سور القرآن، طويلها وقصيرها. وسورة البقرة، قد اشتملت على تفصيل جميع مجملات الفاتحة. فقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ تفصيله: ما وقع فيها من الأمر بالذكر في عدة آيات، ومن الدعاء في قوله سبحانه: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الآية 186] . وفي قوله: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) . وبالشكر في قوله:

_ (1) . أخرجه ابن جرير عن علي من حديث حمزة الزيات. جامع البيان: 1: 173. (2) . المستدرك: 4: 83. (3) . هو أحمد بن خليل بن سعادة بن جعفر أبو العباس. توفي بدمشق عام 627 انظر عيون الأنباء: 2: 171، شذرات الذهب: 3: 25. (4) . ذكر السيوطي: أن للخويي تفسيرا نقل عنه في الإتقان (2: 7، 12 و 3: 29 و 4: 144) ولم نعثر عليه، ولعلّ هذا النقل منه.

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) . وقوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ (2) تفصيله قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) . وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) . ولذلك افتتحها بقصة خلق آدم (ع) الذي هو مبدأ البشر «1» ، وهو أشرف الأنواع عن العالمين، وذلك شرح لإجمال رَبِّ الْعالَمِينَ (2) . وقوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وقد أومأ إليه بقوله في قصّة آدم (ع) : فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) . وفي قصّة إبراهيم (ع) لمّا سأل الرزق للمؤمنين خاصة بقوله: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ [الآية 126] . فقال: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [الآية: 126] . وذلك لكونه رحمانا. وما وقع في قصة بني إسرائيل: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ [الآية 52] . إلى أن أعاد الآية بجملتها في قوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) . وذكر آية الدّين «2» إرشادا للطالبين من العباد، ورحمة بهم. ووضع عنهم الخطأ والنسيان والإصر وما لا طاقة لهم به، وختم بقوله: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا [الآية 286] وذلك شرح قوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) . وتفصيله: ما وقع من ذكر يوم القيامة في عدّة مواضع، ومنها قوله: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [الآية 284] . والدين (في الفاتحة) : الحساب: (في البقرة) . وقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ مجمل شامل لجميع أنواع الشريعة الفرعية، وقد فصّلت في البقرة أبلغ

_ (1) . وذلك في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الآية 30] إلى قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [الآية 37] . (2) . هي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [الآية 282] .

تفصيل، فذكر فيها: الطهارة، والحيض، والصلاة، والاستقبال، وطهارة المكان، والجماعة، وصلاة الخوف، وصلاة الجمع، والعيد، والزكاة بأنواعها، كالنبات، والمعادن، والاعتكاف، والصوم وأنواع الصدقات، والبر، والحج، والعمرة، والبيع، والإجازة، والميراث والوصية، والوديعة، والنكاح، والصّداق، والطلاق، والخلع، والرجعة، والإيلاء، والعدّة، والرّضاع، والنفقات، والقصاص، والدّيات، وقتال البغاة، والردّة، والأشربة، والجهاد، والأطعمة والذبائح، والأيمان، والنذور، والقضاء، والشهادات، والعتق. فهذه أبواب الشريعة كلّها مذكورة في هذه السورة. وقوله تعالى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ شامل لعلم الأخلاق. وقد ذكر منها في هذه السورة الجمّ الغفير، من التوبة، والصبر، والشكر، والرضى، والتفويض، والذكر، والمراقبة، والخوف، وإلانة القول. وقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخره، تفصيله: ما وقع في السورة من ذكر طريق الأنبياء، ومن حاد عنهم من النصارى، ولهذا ذكر في الكعبة أنّها قبلة إبراهيم، فهي من صراط الذين أنعم عليهم، وقد حاد عنها اليهود والنصارى معا، ولذلك قال في قصّتها: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) . تنبيها على أنّها الصراط الذي سألوا الهداية إليه. ثم ذكر: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [الآية 145] . وهم المغضوب عليهم، والضالّون، الذين حادوا عن طريقهم. ثم أخبر بهداية الذين آمنوا إلى طريقهم. ثم قال: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) . فكانت هاتان الآيتان تفصيل إجمال لقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخر السورة. وأيضا قوله أوّل السورة: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) إلى آخره في وصف الكتاب، إخبار بأنّ الصراط الذي سألوا الهداية إليه هو: ما تضمّنه الكتاب، وإنّما يكون هداية لمن اتّصف بما ذكر (من صفات المتّقين) . ثم ذكر أحوال الكفرة، ثم أحوال المنافقين، وهم من اليهود، وذلك تفصيل لمن حاد عن

الصراط المستقيم، ولم يهتد بالكتاب «1» . وكذلك قوله هنا: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ [الآية 136] . فيه تفصيل النبيّين المنعم عليهم. وقال في آخرها: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [الآية 136] ، تعريفا بالمغضوب عليهم، والضالّين، الذين فرقوا بين الأنبياء. ولذلك عقّبها بقوله: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا [الآية 137] . أي: إلى الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم كما اهتديتم. فهذا ما ظهر لي، والله أعلم بأسرار كتابه. الوجه الثاني: أنّ الحديث والإجماع على تفسير المغضوب عليهم باليهود، والضالّين بالمنافقين، وقد ذكروا في سورة الفاتحة على حسب ترتيبهم في الزمان، فعقّب بسورة البقرة، وجميع ما فيها (من) خطاب أهل الكتاب لليهود خاصة، وما وقع فيها من ذكر النصارى لم يقع بذكر الخطاب «2» . ثم (عقبت البقرة) بسورة آل عمران، وأكثر ما فيها من خطاب أهل الكتاب للنصارى، فإنّ ثمانين آية من أولها نازلة في وفد نصارى نجران، كما ورد في سبب نزولها «3» وختمت بقوله: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [آل عمران: 199] . وهي في النجاشي وأصحابه من مؤمني النصارى، كما ورد به الحديث «4» . وهذا وجه بديع في ترتيب السورتين، كأنّه لما ذكر في الفاتحة الفريقين، قصّ في كلّ سورة ممّا بعدها حال كل فريق

_ (1) . هذا تفصيل للصراط المستقيم عن طريق التبصير بأعداء الصراط المستقيم، والتحذير منهم على وجه التفصيل. وسيأتي تفصيل للصراط المستقيم في «آل عمران» عن طريق التبصير بالعوائق النفسية التي تحول دون الإنسان وسلوك الصراط المستقيم، باعتبار النفس عدوّا للإنسان. وبهذا تظهر عظمة الأسلوب القرآني في الإجمال والتفصيل، وفي استيعابه كل شيء. (2) . وإنّما جاء على أسلوب الخبر، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الآية 62] . وقوله وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الآية 111] . (3) . انظر تفسير القرآن العظيم: (2: 40) لمعرفة سبب النزول، وقصة نجران في سيرة ابن هشام: 1: 573) وما بعدها. (4) . في إسلام النجاشي، انظر البخاري في الجنائز: 2: 108 ومسلم في الجنائز 3: 54، 55، وانظر تفسير الطبري: 7: 496. [.....]

على الترتيب الواقع فيها، ولهذا كان صدر سورة النساء في ذكر اليهود، وآخرها في ذكر النصارى «1» . الوجه الثالث: أنّ سورة البقرة أجمع سور القرآن للأحكام والأمثال، ولهذا سمّيت في أثر: فسطاط القرآن «2» . الذي هو: المدينة الجامعة، فناسب تقديمها على جميع سوره. الوجه الرابع: أنّها أطول سورة في القرآن، وقد افتتح بالسبع الطوال «3» ، فناسب البداءة بأطولها. الوجه الخامس: أنّها أول سورة نزلت بالمدينة، فناسب البداءة بها، فإنّ للأولية نوعا من الأولوية. الوجه السادس: أنّ سورة الفاتحة كما ختمت بالدعاء للمؤمنين بألّا يسلك بهم طريق المغضوب عليهم ولا الضالّين إجمالا، ختمت سورة البقرة بالدعاء بألّا يسلك بهم طريقهم في المؤاخذة بالخطإ والنسيان، وحمل الإصر، وما لا طاقة لهم به تفصيلا، وتضمّن آخرها أيضا الإشارة إلى طريق المغضوب عليهم والضالّين بقوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الآية 285] . فتاخت السورتان وتشابهتا في المقطع، وذلك من وجوه المناسبة في التتالي والتناسق.

_ (1) . وذلك قوله تعالى في سورة النساء: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [الآية 46] ، وما ألحق بعدها. وقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ (171) [النساء] . (2) . أخرجه الدارمي: 2: 446 عن خالد بن سعدان. (3) . السبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، وسيأتي سبب وضع الأنفال والتوبة بينها.

المبحث الرابع مكنونات سورة"البقرة"

المبحث الرابع مكنونات سورة «البقرة» «1» 1- إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الآية 30] . هو آدم، كما دلّ عليه السياق، وورد في مرسل ضعيف أنّ «الأرض» المذكورة: مكة- لكن قال ابن كثير «2» : إنّه مدرج «3» - وذلك ما أخرجه ابن جرير «4» ، وابن أبي حاتم، من طريق عطاء بن السائب، أنّ عبد الرّحمن بن سابط، أنّ النّبيّ (ص) قال: «دحيت الأرض من مكّة، وأوّل من طاف بالبيت الملائكة، قال تعالى إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الآية 30] يعني: مكّة» . 2- اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ [الآية 35] . هي حوّاء، بالمدّ. روى ابن جرير «5» من طريق السّدّيّ بأسانيده: سألت «6» الملائكة آدم عن حوّاء ما اسمها؟ قال: حوّاء. قالوا: ولم سمّيت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حيّ. 3- وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [الآية 35] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . في «تفسيره» 1: 70، وضعيف إسناده أيضا. (3) . المدرج: هو إدخال الراوي نفسه كلمة- قد تكون أحيانا للتفسير- أو أكثر، على متن الحديث- إذا كان الإدراج في المتن كما هو هنا-، وقد يكون الإدراج في المستند أيضا. (4) . 1: 156. (5) . 1: 182. (6) . وفي «الطبري» و «الدر المنثور» : «قالت له الملائكة» .

أخرج ابن جرير «1» وابن أبي حاتم، من طريق عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّها السّنبلة. وله طرق عنه صحيحة. وأخرج ابن جرير «2» من طريق السّدّي بأسانيده: أنها الكرم، وزعم يهود أنها الحنطة. وأخرج أبو الشيخ «3» من وجه آخر عن عكرمة، عن ابن عبّاس، قال: هي اللوز. وإسناده ضعيف وعندي أنها تصحّفت بالكرم. وأخرج عن زيد بن عبد الله بن قسيط «4» قال: هي الأترج «5» . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: هي النّخلة. وأخرج ابن جرير عن مجاهد «6» قال: هي تينة. وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن قتادة «7» بلفظ: هي التين. فهذه ستة أقوال «8» . 4- وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الآية 36] . أخرج ابن جرير «9» ، عن ابن عبّاس: أنه خطاب لآدم، وحوّاء، وإبليس، والحيّة.

_ (1) . 1: 183. وفي سنده: النضر بن عبد الرّحمن، ضعيف جدا. ورواه أيضا: ابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن عساكر. انظر «الدر المنثور» 1: 52 و «تفسير الطبري» تخريج العلّامة أحمد شاكر للأثر (718) . (2) . 1: 184، وابن سعد في «الطبقات» 1: 53: وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. «الدر المنثور» 1: 53. (3) . في «الدر المنثور» 1: 53: «ابن جرير» عوضا عن «أبي الشيخ» غير أني لم أجده في «تفسير الطبري» . (4) . يزيد بن عبد الله بن قسيط: أبو عبد الله المدني، الأعرج، ثقة الحديث، مات سنة (122 هـ!) . (5) . الأترج: شجر يعلو، ناعم الأغصان والورق والثمر، وثمره كالليمون، وهو ذهبي اللون، زكي الرائحة، حامض الماء. [.....] (6) . في «تفسير الطبري» 1: 184: عن ابن جريج عن بعض أصحاب النّبيّ (ص) . ومجاهد، هو ابن جبر، أبو الحجاج، ثقة الحديث، إمام في التفسير والعلم، ومن علماء التابعين، توفي في أوائل القرن الثاني الهجري، وله ثلاث وثمانون سنة. (7) . قتادة بن دعامة السّدوسي، أبو الخطاب البصري، محدّث ثقة ثبت، ومفسّر لغوي. يقال إنّه ولد أكمه. قال فيه الإمام أحمد: قتادة أحفظ أهل الحديث. توفي سنة 118. (8) . قال أبو جعفر الطبري رحمه الله تعالى 1: 185 بعد أن أورد الروايات في ذلك: «ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على اليقين، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا في السنة الصحيحة» . (9) . 1: 191، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» .

5- وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [الآية 50] . هو القلزم «1» ، وكنيته: أبو خالد. كما أخرجه ابن أبي حاتم عن قيس بن عباد «2» . قال ابن عسكر: وكأنّه كنّي بذلك لطول بقائه. وروى أبو يعلى بسند ضعيف، عن أنس، عن النّبيّ (ص) قال: «فلق البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء» «3» . 6- وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الآية 51] . هي ذو القعدة، وعشر من ذي الحجّة. أخرجه ابن جرير «4» عن أبي العالية. 10- ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ [الآيتان 51 و 92] . أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ، عن الحسن البصري قال: كان اسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه: «بهموت» . وأخرجه ابن أبي حاتم، ولفظه: «يهبوث» «5» . 11- ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [الآية 58] . أخرج عبد الرزاق «6» ، عن قتادة: أنّها بيت المقدس. 12- وأخرج ابن جرير «7» من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله

_ (1) . أي البحر الأحمر الآن. وفي «لسان العرب» : يقال: تقلزمه، إذا ابتلعه والتهمه، و «بحر القلزم» مشتق منه، وبه سمّي القلزم، لالتهامه من ركبه، وهو المكان الذي غرق فيه فرعون وآله. (2) . قيس بن عباد الضّبعي: أبو عبد الله البصري، مخضرم، من صالحي التابعين، وكانت له مناقب وحلم وعبادة. توفي بعد سنة 80 هـ (3) . انظر «المطالب العالية» 3: 276، ورواه أيضا ابن مردويه، كما في «الفتح الكبير» للنبهاني. لكن روي ما يشهد له: أحمد في «المسند» 1: 291، والبخاري (3843) في مناقب الأنصار، ونحوه رقم (4680) ، ومسلم (1130) واللفظ له، عن ابن عبّاس قال: قدم رسول الله (ص) المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسئلوا عن ذلك؟ فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيما له. فقال النّبيّ (ص) : «نحن أولى بموسى منكم» ، فأمر بصومه. (4) . 1: 222، وأبو العالية: رفيع بن مهران الرّياحي، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد وفاة النّبيّ (ص) بسنتين، ودخل على أبي بكر، وصلّى خلف عمر. مات حوالي سنة سبعين. (5) . بالمثلثة آخره في «الدرّ المنثور» : «يهبوب» بالموحدة آخره. (6) . وابن جرير 1: 237، وهو مجاهد أيضا، كما في «تفسير البغوي» 1: 54. (7) . 1: 238، بسند ضعيف.

وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً [الآية 58] قال: هو أحد أبواب بيت المقدس، يدعى: «باب حطّة» . وأخرج «1» عن الربيع: أنها بيت المقدس. وعن ابن زيد «2» : أنها أريحا، قرية به. 13- النَّصارى [الآية 62] . سمّوا بذلك لأنّهم كانوا بقرية يقال لها: «ناصرة» . أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة. وقيل: لقولهم كما ورد في التنزيل: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [الصف: 14] ، حكاه ابن عسكر. 14- وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [الآية 72] . اسمه عاميل، ذكره الكرماني «3» . وقيل: نكار. حكاه الماوردي. وقاتله: ابن أخيه. أخرجه ابن جرير «4» ، وغيره، عن ابن عباس. وقيل: أخوه. 15- فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها [الآية 73] . أخرج الفريابي «5» عن ابن عباس. قال: بالعظم الذي يلي الغضروف. وقيل: ضرب بالبضعة [أي قطعة اللحم] التي بين الكتفين. أخرجه ابن جرير «6» عن السّدّيّ. وقيل: بفخذها. أخرجه ابن جرير» عن قتادة ومجاهد.

_ (1) . ابن جرير 1: 237. (2) . وهو عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، من رجال «التهذيب» . (3) . الكرماني: محمود بن حمزة عالم بالقراءات، يعرف بتاج القراء، له كتاب «الغرائب والعجائب» نقل في «التفسير» آراء مستنكرة في معرض التحذير منها، وكان الأولى تركها، وقد تعرض السيوطي في «الإتقان» 2: 186 لنقده، ولما كتبه الكرماني في كتابه «العجائب والغرائب» . وسيكثر السيوطي في هذا الكتاب من النقل عنه، وكتاب الكرماني هذا لا يزال مخطوطا، وتوجد نسخة خطية منه في «مكتبة شستربتي» بإيرلنده تحت رقم (4137) وأخرى في المكتبة الظاهرية بدمشق، والكرماني هذا، هو غير صاحب «شرح البخاري» . توفي نحو سنة (505 هـ) . [.....] (4) . 1: 285. (5) . وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، و «الدر المنثور» 1: 79. (6) . «الطبري» 1: 285. (7) . «الطبري» ط الحلبي 1: 359.

وقيل: بعظم من عظامها. أخرجه عن أبي العالية «1» . وقيل: بلسانها «2» . وقيل: بعجبها «3» . وقيل: بذنبها. حكاه الكرماني في «الغرائب» «4» . 16- وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ [الآية 76] . أخرج ابن جرير «5» ، عن ابن عباس: أنّها في المنافقين من اليهود. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة: أنّها نزلت في ابن صوريا. 17- وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ [الآية 78] . قيل: المراد بهم المجوس. حكاه المهدوي «6» . لأنّهم لا كتاب لهم. 18- إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الآية 80] . زعموها سبعة. أخرجه الطبراني وغيره، «7» ، بسند حسن، عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم، من طرق ضعيفة عنه: أنها أربعون. 19- وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [الآية 87] . هو جبريل، أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود «8» .

_ (1) . الأثر في «الطبري» ، 1: 258، وتقدم التعريف بأبي العالية. (2) . قاله الضّحّاك، كما في «تفسير البغوي» 1: 61. (3) . «العجب» بفتح فسكون، من كل دابة: ما ضمت عليه الورك من أصل الذنب وهو العصعص. و «العجم» لغة في العجب. (4) . قال ابن تيمية في «مقدمة في أصول التفسير» ص 56: «فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه. البعض الذي ضرب به موسى من البقرة. (5) . 1: 292. (6) . أحمد بن عمار، أبو العباس المهدوي، صاحب التفسير المسمّى «التفصيل الجامع لعلوم التنزيل» وهو تفسير كبير، يذكر القراآت والإعراب، واختصره وسمّاه «التحصيل في مختصر التفصيل» وله «هجاء مصاحف الأمصار على غاية التقريب والاختصار» ونسبته «المهدوي» ترجع إلى «المهدية» قرب القيروان، توفي في حدود 430 هـ. انظر: «طبقات المفسّرين» للسيوطي: 30 و «الأعلام» 15: 184. (7) . ذكر الأثر في مجمع الزوائد» 6: 314 دون تخريج ولعلّه سقط من المطبوع منه، والأثر مروي في «تفسير الطبري» 1: 303 و «أسباب النزول» للواحدي: 17. (8) . وأبو الشيخ في كتاب «العظمة» عن جابر مرفوعا «الدر المنثور» .

20- نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [الآية 100] . هو: مالك بن الصّيف. أخرجه ابن جرير، «1» عن ابن عباس. 21- وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [الآية 102] . هما: هاروت، وماروت، كما أخرجه ابن جرير، «2» عن ابن عبّاس. وقيل: جبريل، وميكائيل. أخرجه البخاري في «تاريخه» وابن المنذر، عن ابن عباس، وابن أبي حاتم عن عطية «3» . وقرئ بكسر اللام، «4» فهما «5» : داود، وسليمان. كما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الرّحمن بن أبزى (51) . وأخرج عن الضّحّاك: «6» أنهما علجان من بابل «7» . 22- وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الآية 109] . سمّي منهم: كعب بن الأشرف أخرجه ابن جرير، «8» عن الزّهري وقتادة. (سمّي منهم) : حييّ بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب. أخرجه عن ابن عبّاس «9» . 23- وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ [الآية 113] . قاله رافع بن حريملة.

_ (1) . 1: 351. (2) . 1: 359. [.....] (3) . عطية بن الحارث الهمداني الكوفي: أبو روق، صاحب «التفسير» ، كان صدوقا في الحديث، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة. (4) . أي «الملكين» وهي قراءة شاذة. (5) . عبد الرّحمن بن أبزى: صحابي صغير، كان في عهد عمر رجلا، وكان أميرا على خراسان في عهد علي رضي الله عنه. (6) . الضّحّاك بن مزاحم، من صغار التابعين، عرف بكثرة إرساله، يعتبر من أعلام التفسير في زمنه، مات بعد المائة. (7) . انظر «تفسير ابن كثير» 1: 137. و «علجان» : مثنّى علج. وهو الرجل الضخم من كفّار العجم. وبعض العرب يطلقه على الكافر مطلقا. والجمع «علوج» و «أعلاج» ، كما في «المصباح المنير» . (8) . «الطبري» 1: 388. (9) . الأثر في «الطبري» 1: 388.

24- وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ [الآية 113] . قاله رجل، من أهل نجران. أخرجه ابن جرير «1» عن ابن عباس. 25- كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الآية 113] . قال السّدّيّ «2» : هم العرب. وقال عطاء: أمم كانت قبل اليهود والنصارى. أخرجهما ابن جرير «3» . 26- وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ [الآية 114] . أخرج ابن أبي حاتم «4» عن ابن عبّاس: أنّهم من قريش. ومن طريق العوفي عنه: أنهم النّصارى. وأخرج عبد الرزاق «5» (عن) قتادة: أنهم بختنصّر وأصحابه الذين خرّبوا بيت المقدس. 27- وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ [الآية 118] . سمّي منهم: رافع بن حريملة. أخرجه ابن جرير «6» عن ابن عبّاس. وأخرج «7» عن قتادة قال: هم كفّار العرب. 28- رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الآية 129] . هو النّبيّ (ص) . ولذلك قال (ص) : «أنا دعوة أبي إبراهيم» . أخرجه أحمد «8» من حديث العرباض بن سارية وغيره.

_ (1) . 1: 394. (2) . السّدّي الكبير: إسماعيل بن عبد الرّحمن- وهو غير السدي الصغير محمد بن مروان، المرميّ بالكذب- كان عالما بالتفسير والمغازي، توفي سنة (128 هـ.) (3) . 1: 395. (4) . وابن إسحاق. «الدر المنثور» 1: 108. (5) . و «الطبري» من طريقه 1: 397. (6) . 1: 407 وابن إسحاق وابن أبي حاتم، «الدر المنثور» 1: 110. (7) . «ابن جرير» 1: 407 وعبارة: «وأخرج عن قتادة» سقطت من «الدر المنثور» 1: 110 فليتنبّه. [.....] (8) . في «المسند» 4: 127- 128، والطبري 1: 435، والحاكم في «المستدرك» 2: 600، وصحّحه وأقرّه الذهبي. وصحّحه الشيخ أحمد شاكر أيضا في تعليقه على تفسير الطبري» . والحديث بنحوه رواه الإمام أحمد أيضا في «المسند» 5: 262 من الحديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا نبيّ الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام.

29- وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [الآية 132] . أي: بنيه. أمّا بنو إبراهيم فسمّي منهم في القرآن: إسماعيل، وإسحاق. وسمّى منهم الكلبي: مدن، ومدين، ويقشان «1» ، وزمران، وأشبق، وشوح «2» . أخرجه ابن سعد في «طبقاته» «3» ، ورأيت فيها الأسماء هكذا مضبوطة في نسخة معتمدة، ضبطها الدّمياطي، «4» وأتقنها. ثم قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي «5» قال: ولد لإبراهيم إسماعيل وهو ابن تسعين سنة، وهو بكره. وولد له إسحاق بعده بثلاثين سنة، (وإبراهيم يومئذ ابن عشرين ومائة سنة وماتت سارة، فتزوّج إبراهيم امرأة من الكنعانيين، يقال لها: قنطورا) «6» . ثم ولدت «7» له قنطورا أربعة: ماذي، وزمران، وشرجح، وسبق. (قال: وتزوّج امرأة أخرى يقال لها: حجوني) «8» ثم ولدت له حجوني سبعة: نافس، ومدين، وكيشان،

_ (1) . كذا في «تاريخ الطبري» 2: 270 بمثناة. ووقع في نسخة من «تاريخ الطبري» 1: 309 و 2: 27، «بقشان» بموحدة. ووقع في «تاريخ الطبري» أيضا 1: 309: «يقسان» . وجاء في مطبوع «الدر المنثور في التفسير المأثور» 1: 139: «بيشان» . وقعت الأسماء في «الكامل» لابن الأثير 1: 123 هكذا: «نفشان» ، ومران، ومديان، ومدن، ونشق، وسرح» . (2) . كذا في «الطبقات» لابن سعد: «شوخ» بالخاء المعجمة. (3) . 1: 47. (4) . الدمياطي: عبد المؤمن بن خلف، شرف الدين، حافظ للحديث، ومن أكابر الشافعية، له علم بالأنساب، وكتاب «طبقات ابن سعد» المطبوع، أتى على ذكر الدمياطي في سند النسخة المعتمدة في الطبع، فلعلّها التي اعتمدها السيوطي، وللمترجم «معجم» في ذكر شيوخه، وتوفي عليه رحمة الله في سنة (705) هـ. (5) . هو المعروف بالواقدي، صاحب «المغازي» وغيره، المتوفّى سنة (207 هـ.) ، وحديثه، ردّه بعضهم، وقبله آخرون. انظر كلام الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» 9: 363- 368، والتعليق على «المصنوع في معرفة الحديث الموضوع» للقاري ص 277. (6) . زيادة من «الطبقات» لابن سعد. (7) . في «الطبقات» : «فولدت» . (8) . كذا في مطبوعة «طبقات ابن سعد» ، وفي «الكامل» لابن الأثير 1: 123: «حجون» .

وشرّوخ، وأمّيم، ولوط، ويقشان فجميع ولده «1» ثلاثة عشر رجلا. وأخرج عن الكلبي قال: ولد لإسماعيل اثنا عشر رجلا: يناوذ «2» ، وقيذر، وأذبل، ومنسي «3» ، ومسمع «4» ، ودمار «5» ، وأذر، وطيما «6» ، ويطور، ونبش «7» ، وماشي، وقيذما «8» . 30- قوله تعالى: وَالْأَسْباطِ [الآية 136] ووَ الْأَسْباطِ [الآية 140] . أخرج ابن جرير «9» من طريق حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عبّاس: الأسباط بنو يعقوب، كانوا اثني عشر رجلا، كلّ واحد منهم ولد سبطا، أمّة من الناس. وأخرج ابن أبي حاتم، عن السّدّي قال: الأسباط بنو يعقوب: يوسف، وبنيامين، ووبيل، ويهوذا، وشمعون، ولاوي، ودان، وقهاب، وكود، وباليون. 31- سَيَقُولُ السُّفَهاءُ [الآية 142] . قال البراء بن عازب: هم اليهود. أخرجه أبو داود في «الناسخ والمنسوخ» والنّسائي «10» . وسمّى منهم ابن عبّاس: رفاعة بن قيس، وقردم بن عمرو، وكعب بن

_ (1) . في «الطبقات» : «ولد إبراهيم» . وأسماء بني إبراهيم في «الإتقان» 2: 146 قريبة ممّا ذكر أعلاه. (2) . في «سيرة ابن هشام» 1: 4: «نابت» . (3) . في «السيرة» 1: 5: «مبشا» . (4) . كذا شكّلت في «السيرة» . (5) . كذا في هامش «سيرة ابن هشام» . [.....] (6) . كذا في «السيرة» . (7) . في «السيرة» : «نبش» بفتح فكسر. (8) . انظر للوقوف على مزيد من الاختلاف في الأسماء التعليق على «سيرة ابن هشام» 1: 5، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير 1: 125. (9) . 1: 243. (10) . يوجد اختلاف بين الروايات التي نقلت أمثال تلك الأسماء. أنظر حول ذلك ما علّقه العلّامة الأديب محمود شاكر على «تفسير الطبري» 3: 112، وانظر في أسماء زوجات يعقوب (ع) وأولاده كتاب الأستاذ عفيف طبارة «مع الأنبياء في القرآن الكريم» ص 155. ووقع أسماء أولاد يعقوب في «الإتقان» 2: 146: «يوسف، وروبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وداني، وتفتاني بفاء ومثناة، وكاد، ويأشير، وما يشاجر، ورايلون، وبنيامين» .

الأشرف، ونافع بن أبي نافع «1» ، والربيع بن أبي الحقيق. أخرجه ابن جرير «2» وغيره «3» . 32- وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) . فسّروا في حديث أخرجه ابن ماجة «4» عن البراء بن عازب: بدوابّ الأرض. وكذا قال مجاهد. أخرجه سعيد بن منصور «5» وغيره. وقال قتادة والربيع: هم الملائكة، والمؤمنون، أخرجه ابن جرير «6» . 33- وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا [الآية 170] . سمّي منهم: رافع بن خارجة «7» ، ومالك بن عوف. أخرجه ابن أبي حاتم «8» عن ابن عباس. 34- عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [الآية 187] . سمّي ممّن وقع له ذلك: عمر بن الخطاب، وكعب بن مالك. أخرجه الإمام أحمد «9» بإسناد حسن. 35- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [الآية 189] .

_ (1) . في «السنن الكبرى» إذ لم أجده في «الصغرى» المطبوعة وهي «المجتبي» . وتصريح البراء بأنهم من اليهود جاء عند الطبري في «تفسيره» 2: 3، والبيهقي في «السنن الكبرى» 2: 1، والواحد في «أسباب النزول ص 28 والحازمي في «الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار» ص 64، والحديث صحّحه الحافظ ابن حجر في فتح الباري» 8: 171 في تفسير قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الآية 142] . (2) . كذا في «الطبري» 2: 3، وفي «الإتقان» 2: 148، «رافع بن حرملة» ، والخلط في أسماء يهود كثير مشكل. انظر «تفسير الطبري» 3: 111، بتحقيق شاكر. (3) . 2: 3 بزيادة: «وكناية بن أبي الحقيق» ، وكذا وقع في «الدر المنثور» . (4) . ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «دلائل النبوة» . «الدر المنثور» 1: 142. (5) . في «سننه» برقم (4021) في الفتن. قال الحافظ البوصيري في «زوائد ابن ماجة» : «في إسناده اللّيث، وهو ابن سليم: ضعيف» . (6) . و «الطبري» 2: 33. (7) . 2: 34. (8) . «رافع بن حريملة» ، في المثبت من «سيرة ابن هشام» 1: 552، و «الطبري» 2: 47 و «الدر المنثور» 1: 167. (9) . و «الطبري» 2: 47. [.....]

سمّي منهم: معاذ بن جبل، وثعلبة بن عنمة- بفتح المهملة والنون- الأنصاري السّلمي. أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس «1» .. 36- الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الآية 197] . هي شوّال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجّة. كما أخرجه الحاكم «2» ، وغيره عن ابن عمر، وسعيد بن منصور «3» عن ابن مسعود، والطبراني «4» وغيره عن ابن عباس، وابن المنذر «5» عن ابن الزبير. وقيل: وذو الحجّة. أخرجه الطبراني «6» وغيره من حديث ابن عمر مرفوعا، وسعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب موقوفا. 37- ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [الآية 199] . أخرج ابن جرير «7» من طريق الضّحّاك عن ابن عبّاس في قوله تعالى: أَفاضَ النَّاسُ قال: إبراهيم «8» . 38- وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [الآية 203] . هي أيّام التّشريق الثلاثة. أخرجه الفريابي «9» عن ابن عمر، وعن ابن عباس. وقال ابن عبّاس أيضا: أربعة أيام:

_ (1) . في «المسند» 3: 460، و «الطبري» 2: 96، وقال أحمد شاكر (الأثر: 2941) : وعندي أنه إسناد صحيح. (2) . بسند ضعيف. قاله السيوطي في «الدر المنثور» 1: 203، وانظر «الإصابة» 1: 201. (3) . في «المستدرك» 2: 276، والطبري 2: 151، والدّارقطني 2: 226، والبيهقي 3: 342، وصحّحه الحافظ في «فتح الباري» 3: 420. (4) . والطبري 2: 150، والبيهقي 3: 342. (5) . والطبري 2: 150، والدارقطني 2: 226، والبيهقي 4: 342. (6) . والدّارقطني 2: 226، والبيهقي 4: 342. (7) . في «المعجم الأوسط» وفيه يحيي بن السكن، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 6: 317- 318 وسقطت منه كلمة «شوال» فليتنبه. (8) . 2: 171، عن الضّحّاك من قوله، لا من قول ابن عبّاس كما هو هنا. قال أحمد شاكر رحمه الله تعالى في تعليقه على «الطبري» : ووهم السيوطي- أي في «الدر المنثور» 1: 227، فذكره من رواية الطبري عن ابن عبّاس! ولعلّه سبق ذهنه لكثرة رواية الضحاك عن ابن عبّاس!!» انتهى. (9) . العرب كثيرا ما تدل على الواحد بذكر الجماعة. وانظر «تفسير الطبري» الموضع السابق.

يوم النّحر، وثلاثة بعده، أخرجه ابن أبي حاتم. وقال علي: ثلاثة أيام: يوم الأضحى، ويومان بعده. أخرجه ابن أبي حاتم «1» .. 39- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ [الآية 204] . هو الأخنس بن شريق. أخرجه ابن جرير «2» عن السّدّي. 40- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [الآية 217] . هو رجب «3» . 41- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [الآية 219] . قال أبو حيان «4» : كان السائل عمر ومعاذ. 42- وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [الآية 219] . سمّي من السّائلين: معاذ بن جبل، وثعلبة. أخرجه ابن أبي حاتم عن يحيى بلاغا «5» . 43- وقال ابن عسكر «6» في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ [الآية 215] : نزلت في عمرو بن الجموح، سأل عن مواضع النّفقة فنزلت. ثم سأل بعد ذلك: كم النّفقة؟ فنزل وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [الآية 219] . 44- وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [الآية 220] . قال ابن الفرس «7» في «أحكام

_ (1) . الفريابي محمد بن يوسف (120- 212 هـ) : عالم بالحديث، تركي الأصل، له «مسند» و «تفسير» . (2) . وخرّجه أيضا: عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا «الدر المنثور» 1: 234. (3) . 2: 181، وابن المنذر، وابن أبي حاتم: «الدر المنثور» 1: 238. (4) . انظر «الطبري» 2: 202، و «ابن كثير» 1: 252. (5) . في تفسيره «البحر المحيط» 2: 156، والواحدي في «أسباب النزول» : 48. وأبو حيّان: هو محمد بن يوسف الأندلسي، من كبار العلماء بالعربية، والتفسير، والحديث، والترجم، واللغات، له «التفسير» و «طبقات نحاة الأندلس» توفي سنة (45) . [.....] (6) . «البلاغ» : قول الراوي: «بلغني أن.» من غير ذكر سنده، والبلاغ متوقف في الاحتجاج به حتى يثبت اتصاله وصحة سنده. ملاحظة: انظر الفقرة التالية. (7) . ابن الفرس (524- 599 هـ) : عبد المنعم بن محمد الخزرجي، أبو عبد الله، قاض أندلسي، من علماء غرناطة، ولي القضاء في أماكن، وجعل إليه النّظر في الحسبة والشرطة.

القرآن» : قيل: إنّ السائل عبد الله بن رواحة. زاد أبو حيان «1» : وقيل: ثابت بن رفاعة الأنصاري. 45- وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [الآية 222] . أخرج ابن جرير «2» عن السّدّي، والماوردي «3» ، عن ابن عباس، أنّ السائل عن ذلك ثابت بن الدحداح الأنصاري. وقال السّهيلي: عباد بن بشر، وأسيد بن الحضير «4» . 46- الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ [الآية 243] . أخرج الحاكم في «المستدرك» «5» من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنهم كانوا أربعة آلاف. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه: أنّهم أربعة آلاف من أهل قرية يقال لها داوردان «6» . وأخرج ابن جرير «7» عن السّدّي: أنّهم بضعة وثلاثون ألفا، من قرية يقال لها: داوردان قبل واس؟ وأخرج عن عطاء الخرساني «8» ،: أنهم ثلاثة آلاف (أو أكثر) «9» . ومن طريق ابن جريج، عن ابن

_ (1) . في «البحر المحيط» 2: 161. (2) . 2: 224. (3) . الماوردي: أبو الحسن علي بن محمد، قاضي القضاة، من كبار العلماء، وباحث مشهود ولد في البصرة. له «أدب الدنيا والدين» ، و «الأحكام السلطانيّة» و «أعلام النبوّة» و «النكت والعيون» في تفسير القرآن- ولعلّه روى فيه أثر ابن عباس هذا- من الكتاب، توفي سنة (450) هـ. (4) . رواه مسلم في الحيض (16) ، والتّرمذي (2981) في التفسير، وأبو داود (258) في الطهارة كلّهم عن أنس رضي الله عنه. (5) . 2: 281، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وفي سنده «ميسرة» قال الذهبي في «تلخيص المستدرك» : «لم يرويا له» . وأخرجه أيضا «الطبري» 2: 365. (6) . والذي أثبته ما حقّقه الأستاذ محمود شاكر وصوّبه في تعليقه على «تفسير الطبري» وهو موافق لما في «تاريخ الطبري» و «الدر المنثور» و «معجم البلدان» . (7) . 2: 366. (8) . هو ابن أبي مسلم، صدوق، ويرسل ويدلّس، وقد أخرج له مسلم وغيره، مات سنة 135 هـ. (9) . زيادة من «تفسير الطبري» .

عبّاس: أنهم أربعون ألفا «1» . 47- إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ [الآية 246] . أخرج ابن جرير «2» عن وهب بن منبّه «3» : أنّ اسمه شمويل، ونسبه إلى لاوي بن يعقوب. وأخرج «4» عن السّدّي: أنه شمعون، قال: وإنّما سمّي به، لأنّ أمّه دعت الله أن يرزقها غلاما، فاستجاب لها دعاءها، فولدت غلاما، فسمّته: شمعون. تقول: الله سمع دعائي. وأخرج «5» عن قتادة: أنه يوشع بن نون. وقيل: اسمه حزقيل «6» . حكاه الكرماني في «العجائب» . وقال ابن عساكر، وقال ابن عسكر: قيل: اسمه: اشماويل بن هلفا، واسم أمه حسنة. 48- فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ [الآية 249] . أخرج ابن جرير «7» عن السّدّي: أنّهم ثمانون ألفا. 49- مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [الآية 249] . أخرج ابن جرير «8» عن الرّبيع، وقتادة، ومن طريق ابن جريج، عن ابن عبّاس: أنه نهر بين الأردن وفلسطين. ومن طريق العوفي، عن ابن عبّاس: أنه نهر فلسطين.

_ (1) . قال ابن جرير رحمه الله 2: 368: «وأولى الأقوال في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم بالصواب قول من حدّ عددهم بزيادة عن عشرة آلاف دون من حدّه بأربعة آلاف وثلاثة آلاف، وثمانية آلاف، وذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا الوفا، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم «ألوف» . وإنّما يقال: «هم آلاف» إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف. وغير جائز أن يقال: هم خمسة ألوف، أو عشرة ألوف» . (2) . 2: 273 . (3) . وهب بن منبّه: أبو عبد اللَّه اليماني، من علماء التابعين كان ثقة صدوقا، كثير النقل من كتب الإسرائيليات، مات سنة بضع عشرة ومائة [.....] . (4) . «ابن جرير» 2: 373 . (5) . «ابن جرير» 2: 373 . (6) . انظر «الطبري» 2: 373 الأثر: (5631) . (7) . 2: 392 . (8) . 2: 391. وانظر «الدر المنثور» 1: 318.

50- فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [الآية 249] . عدّتهم ثلاث مائة وبضعة عشر. كما أخرجه البخاري «1» عن البراء. 51- مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [الآية 253] . أخرج ابن جرير «2» عن مجاهد في قوله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، قال: موسى. وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ، قال: محمّدا. 53- الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [الآية 258] . أخرج أبو داود الطيالسي في «مسنده» «3» عن عليّ، قال: الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ: هو مرود بن كنعان. وأخرج ابن جرير «4» مثله عن مجاهد، وقتادة، والربيع، وزيد بن أسلم.

_ (1) . 7: 390 في كتاب المغازي: باب عدة أصحاب بدر، وأحمد في «المسند» 4: 290، والطبري في «تفسيره» 2: 393 . (2) . انظر «تفسيره» 3: 2 . (3) . يبدو أن هذا الأثر سقط من نسخة «مسند الطيالسي» المطبوعة في الهند، وكذلك سقط من كتاب «منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود» لأحمد عبد الرّحمن البنا، ومن «المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية» للحافظ ابن حجر. لكن عزاه المؤلف في كتابه «الدار المنثور» 1: 331 لذاك «المسند» وابن أبي حاتم. والله تعالى أعلى وأعلم . (4) . 2: 6- 17.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"البقرة"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «البقرة» «1» قال تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) . 1- الرّيب: صرف الدهر. والريب والرّيبة: الشكّ والظنّة والتهمة. وقد رابني الأمر وأرابني: علمت منه الريبة، ورأيت منه ما يكره. وقوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ، أي لا شكّ فيه. وأراب الرجل: صار ذا ريبة فهو مريب. وجاءت كلمة «الريب» في قوله تعالى من السورة نفسها: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الآية 23] . لقد وردت كلمة «الريب» في سائر سور القرآن خمس عشرة مرة أخرى في خمس عشرة آية من سور القرآن ومنها: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها [غافر: 59] . كما وردت كلمة «ريبة» في [الآية 110 من سورة التوبة] هي في قوله تعالى: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ. وقد ورد الوصف من هذه الكلمة «مريب» في سبع آيات من سور مختلفة، جاء في ست منها وصفا لموصوف هو: «الشكّ» ، ومن ذلك قوله عز وجل: وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) . ولم يلتفت أهل العلم إلى هذا الوصف، فيعرضوا للشكّ والريب،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

وعلاقة أحدهما بالآخر، وتعيين الحد بينهما، ولم أجد في كتب التفسير شيئا من هذا العلم اللغوي، الذي يبحث في دقائق الفروق. وقد ورد «الشكّ» في خمس عشرة آية في سور مختلفة، جاء في ست منها موصوفا بالوصف «مريب» كما أشرنا. و «الشكّ» نقيض اليقين، فاليقين ثبوت العلم، أما الشكّ فهو نقيضه. وكأنه حال من التردد بعيد عن الاستقرار. والذي أراه أنه أضعف من «الريب» ، ولو لم يكن ذلك لما وصف «الشكّ» في ست آيات ب «مريب» ، منها قوله تعالى: وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) [إبراهيم] . ويدلنا هذا على أن «الشك» قد ورد في تسع آيات أخرى غير موصوف بهذا الوصف، ويبدوا أنها تعني اليقين الثابت، كقوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: 94] . إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [يونس: 104] . قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] . بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) [النمل] . إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ [سبأ: 21] . أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) [ص] . فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ [غافر: 34] . بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) [الدخان] . ألا ترى أن كلمة «الشكّ» في هذه الآيات التسع تعني التردد وعدم اليقين، وهي أضعف في دلالتها على المعنى من «الشكّ» موصوفا «بمريب» في الآيات الست التي أشرنا إلى بعض منها؟ إن «الشكّ» قد ورد في سورة يونس، الآية 94، في أسلوب الشرط وهو من أساليب الإنشاء. وأساليب الإنشاء في جملتها لا تحتمل الصدق

والكذب، بخلاف أسلوب الخبر الذي يحتملهما. وعندي أن استعمال «الشكّ» في الآيات التسع، قد ورد إمّا في حشو جملة الشرط، وإما بعد «بل» للإضراب، وإما في حشو جملة الاستفهام، وإما في جملة توحي بالتردّد وعدم الاستقرار، كما في قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ [سبأ: 21] . وقوله تعالى أيضا: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) [الدخان] . وقوله تعالى: فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ [غافر: 34] . وعلى هذا كان استعمال الريب ألزم وأوجب لما يقتضي المقام أن تستعمل فيه، ولا يمكن أن يحل «الشكّ» محلّه. ألا ترى أن قوله تعالى: لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها [الكهف: 21] . تقرير حق وبيان وعلم بأمر محقق، وهذا يؤذن ألا يستعمل فيه ما قد يفهم منه الضعف والتردّد، فاستبعدت كلمة «الشكّ» واستعملت كلمة «الريب» ، ولا يمكن أن تؤدي الاولى ما تؤديه الثانية. ومثل هذا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ [الحج: 5] . وقوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) [الحج] . وقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) [السجدة] . وقوله تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ [الشورى: 7] . وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الجاثية: 26] . ألا ترى أن قيام الساعة، والبعث، ويوم القيامة، ويوم الجمع حق لا مراء فيه، فإثباته وبيانه يتطلب أن تؤدي الألفاظ هذه الحال المقتضاة، فكان ان استعمل «الريب» ، ولم يستعمل «الشك» . تلكم لغة التنزيل في تخير اللفظ، وأحكام الأداء، وإصابة دقائق المعاني. 2- قال تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) .

أقول استعمال «المدّ» في هذه الآية استعمال لطيف دقيق، فهو غير «المدّ» المعروف بمعنى البسط، وهو استعمال خاص بهذه اللغة الشريفة. قال الزمخشري «الكشاف 1: 67» : وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ [الآية 15] : من مدّ الجيش وأمدّه إذا زاده، وألحق به ما يقوّيه ويكثّره. وكذلك مدّ الدواة وأمدّها: زادها ما يصلحها. ومددت السرج والأرض: إذا استصلحتهما بالزيت والسماد. ومدّه الشيطان في الغيّ وأمدّه: إذا وأصله بالوساوس حتى يتلاحق غيّه انهماكا فيه. فإن قلت: لم زعمت أنه من المدد دون المدّ في العمر والإملاء والإمهال؟ قلت: كفاك دليلا على أنه من المدد دون المدّ، قراءة ابن كثير وابن محيصن: (ويمدّهم) ، وقراءة نافع: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ، على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مدّ له مع اللام كأملى له. فإن قلت: فكيف جاز أن يوليهم الله مددا في الطغيان وهو فعل الشياطين؟ ألا ترى الى قوله تعالى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الأعراف: 202] ؟ قلت: إما أن يحمل على أنهم لمّا منعهم الله ألطافه التي يمنحها للمؤمنين، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه، بقيت قلوبهم بتزايد الرين والظلمة فيها، تزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين فسمى ذلك التزايد مددا. وأسند إليه سبحانه لأنه مسبب عن فعله بسبب كفرهم. وإما على منع القسر والإلجاء، وإما على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره، والتخلية بينه وبين إغواء عباده. فإن قلت: فما حملهم على تفسير المدّ في الطغيان في الإمهال، وموضوع اللغة كما ذكرت لا يطاوع عليه؟ قلت استجرّهم إلى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى الله ما أسندوا إلى الشياطين، ولكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد لصحته، وإلا كان منه بمنزلة الأروى من النعام. وفي قوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) . العمه: مثل العمى. قال الزمخشري: «الكشّاف 1: 69» ، «والعمه مثل العمى، إلّا أنّ العمى عامّ في البصر والرأي، والعمه في الرأي

خاصة، وهو التحيّر والتردّد، لا يدري أين يتوجّه. ومنه قوله: بالجاهلين العمه، أي: الذين لا رأي لهم ولا دراية بالطرق. وسلك أرضا عمهاء أي: لا منار بها» . انتهى كلام الزمخشري. أقول: العمى والعمه متقاربان كلّ التقارب في الدلالة وبينهما فرق ما بين العامّ والخاص. اللغة: الذي أراه أن مادة المعنى في هاتين الكلمتين العين والميم، ثم يأتي الصوت الثالث ليعيّن المعنى، فيدلّ بالفتح في «العمى» على المعنى العام، ويدلّ بالهاء في «العمه» على المعنى الخاص. قلت: بالفتح، وذلك أن الفتح بعد الميم في «العمى» وليس فوق الميم، هو صوت ثالث، فلما أطلق قليلا قليلا ولّد ما اصطلح عليه الألف المقصورة، وحقيقته فتحة لها طول معين يتجاوز الفتحة المألوفة، وهو صوت ثالث في هذه الكلمة كالصوت الصامت في «العمه» وهو الهاء. 3- قال تعالى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [الآية 20] . أقول: أراد- جلّ وعلا- في قوله: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ كلما أضاء البرق لهم مشوا في ضوئه. وهذا المعنى يدفعنا أن نقول في لغتنا العربية المعاصرة: «إن هذه المسألة في ضوء العلم الحديث مقبولة» وليس: على ضوء العلم الحديث. أقول: والذي دفع المعربين في عصرنا إلى استعمال: «على ضوء العلم» هو التأثر باللغات الغربية ولا سيما الفرنسية والإنكليزية. 4- لن: قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) . قال الزمخشري: في «الكشّاف 1: 181» : فإن قلت: ما حقيقة «لن» في باب النفي؟ قلت: «لا» و «لن» أختان في نفي المستقبل، إلّا أنّ في «لن» توكيدا وتشديدا، تقول لصاحبك: لا أقيم غدا، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم

غدا كما تفعل في أنا مقيم وإني مقيم. وهي عند الخليل في إحدى الروايتين عنه، أصلها «لا أن» ، وعند الفرّاء «لا» أبدلت ألفها نونا. وعند سيبويه وإحدى الروايتين عن الخليل حرف مقتضب لتأكيد نفي المستقبل. أقول: ويبدوا لي أنّ قول الفرّاء أوجه، وإن أصلها «لا» وهذا يعني أن التنوين عرض لها. وعلى هذا ألا يصح أن نقول: إنّ «إذا» أو «إذن» جاءت من «إذا» ، وإنّ «من» الموصولة أو الشرطية هي من «ما» ، ثم كان الاختصاص بعد ذلك في الاستعمال، بعد أن غبر عليها الزمان. 5- قال تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ [الآية 31] . قال الزمخشري: «في الكشّاف 1: 126» : وعلّم آدم مسمّيات الأسماء. ثم عرضهم، أي: عرض المسمّيات. أقول: ذهب المفسرون إلى هذا التأويل بسبب الضمير «هم» ، الذي يعود إلى جماعة العاقلين، والأسماء حقّها أن يكون الضمير العائد عليها هو «ها» للتأنيث، فيكون الفعل «عرضها» . أقول أيضا: لعل هذا الاختصاص في الضمائر في الاستعمال لم يكن واضحا وضوحا كافيا في الحقب البعيدة من تاريخ العربية. وجاء في «الكشّاف» : وقرأ عبد الله: عرضهن، وقرأ أبيّ: عرضها. 6- قال تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) . قال الزمخشري: الباء التي في «الباطل» إن كانت صلة مثلها في قولك: لبست الشيء بالشيء، خلطته به، كان المعنى: ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها، فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم، حتى لا يميز حقها وباطلكم، وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك: كتبت بالقلم، كان المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم الذي تكتبونه. أقول: كأن الأصوات الصامتة الساكنة التي ندعوها في كتب العربية القديمة «الحروف الصّحاح» هي مادة المعاني في الألفاظ، ثم تأتي الأصوات الصائتة التي دعيت «أحرف العلة» ،

ويتبعها «الحركات» التي هي بعضها أو جنسها، لتخص هذه المعاني بخصوصيات مفيدة. ألا ترى أن «لبس، يلبس» بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع تعني الخلط، وأنها غير «لبس، يلبس» بكسر ففتح فهذه من اللّباس. وإن مصدر الاولى «اللّبس» بفتح اللام، ومصدر الثانية «اللّبس» بضمها؟ أقول: كان على اللغويين، وأصحاب المعجمات أن يستشهدوا بالآية للدلالة على معنى «الخلط» في ترجمة «لبس» . 7- قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) . قوله جل شأنه: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ، أي فدية. أقول: وانصراف «العدل» إلى الفدية شيء من الكلم الإسلامي، الذي عرفناه في لغة القرآن. 8- عثو: قال تعالى وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) . جاء في كتب اللغة: قال ابن سيده: عثا عثوّا وعثي عثوّا: أفسد أشدّ الإفساد. وقال: وقد ذكرت هذه الكلمة في المعتل بالياء على غير هذه الصيغة من الفعل، وقال في الموضع الذي ذكره: عثي في الأرض عثيّا وعثيّا وعثيانا، وعثى يعثى عن كراع وهو نادر، كل ذلك أفسد. وقال كراع: عثى يعثى مقلوب من عاث يعيث، فكان يجب على هذا يعثي إلّا أنه نادر، والوجه عثي في الأرض يعثى. وقرأ القرّاء كلهم: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) بفتح الثاء من عثي يعثى عثوّا، وهو أشدّ الفساد، وفيه لغتان أخريان لم يقرأ بواحدة منهما: إحداهما عثا يعثو، قال ذلك الأخفش وغيره، ولو جازت القراءة بهذه اللغة، لقرئ: «ولا تعثوا» ولكن القراءة سنّة ولا يقرأ إلّا بما قرأ القرّاء به. واللغة الثانية: عاث يعيث. قال الأزهري: واللغة الجيّدة عثي يعثى، لأنّ يفعل لا يكون إلّا فيما ثانيه وثالثه أحد حروف الحلق.

أقول: وهذه اللغة التي قرأ بها عامة القرّاء وَلا تَعْثَوْا، لم تبق في العربية المعاصرة، بل بقي مقلوبها وهو عاث يعيث. ومن المفيد أن أشير إلى أنّ بين الأجوف والناقص تبادلا في الصيغ، يتبين في طائفة من الأفعال منها: رأى وراء، وأنى وآن، وعثا وعاث وغير ذلك. 9- قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) . أقول: عقّب الله- جل وعلا- على القتل الذي عبّر عنه بسفك الدماء بالإجلاء عن الديار. وهذا يعني أن العدوان بالإجلاء يأتي بعد اقتراف القتل في قسوته وفظاعته. 10- قال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) . أقول: إن لغة الحوار تستدعي استحضار الأحوال الماضية، وهذا يسوّغ بل يوجب استعمال صيغة الفعل الحاضر في سياق الماضي، فجاء في الآية: نؤمن، فلم تقتلون أنبياء الله، وقد عبّر عنه أهل العلم من المتقدمين بقولهم: حكاية حال ماضية. 11- قال تعالى: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً [الآية 128] . إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) . وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) . أقول: المراد بمادة «أسلم» في هذه الآيات الخضوع والإذعان، وقوله تعالى: مُسْلِمَيْنِ لَكَ مخلصين لك وجهينا، وهو من قوله تعالى: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ. أي: أخلص وجهه وأذعن وخضع. ومن هنا كانت كلمة «الإسلام» بمصطلحها المعلوم مشيرة إلى أن «المسلم» من أسلم وجهه لربه، وخضع وأذعن وأطاع. 12- قال تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) .

قال الزمخشري في «الكشّاف 1: 196» : صِبْغَةَ اللَّهِ مصدر مؤكد منتصب على قوله آمَنَّا بِاللَّهِ «1» ، وهي فعلة من «صبغ» ، كالجلسة من «جلس» ، وهي الحالة التي يقع فيها الصبغ. والمعنى: تطهير الله، لأنّ الإيمان يطهّر النفوس. والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمّونه المعمودية، ويقولون هو تطهير لهم. وإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال: الآن صار نصرانيا حقّا، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم: قولوا آمنّا بالله، وصبغنا الله بالإيمان صبغة، لا مثل صبغتنا، وطهّرنا به تطهيرا لا مثل تطهيرنا. أو يقول المسلمون: صبغنا الله بالإيمان صبغته، ولم نصبغ صبغتكم. وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريقة المشاكلة، كما تقول: لمن يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلا يصطنع الكرم. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً يعني أنه يصبغ عباده بالإيمان ويطهّرهم من أو ضار الكفر، فلا صبغة أحسن من صبغته. أقول: لقد احتملت كلمة «الصبغة» هذا المعنى الاصطلاحي، وهو التطهير حتى صرنا نجدها في مصطلح غير المسلمين، بمعنى التطهير والتقديس، فالصبّاغ مثلا في عربية صابئة اليوم، هو الذي يقوم بعمل الصبغ، أي: التطهير بصب الماء على من يريد التطهّر، برسوم معرفة لدى الصابئة. 13- وقال تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها [الآية 148] . الجهة (بكسر الجيم) والوجهة والوجهة (بكسر الواو وضمّها) واحد. والذي جاء في لغة التنزيل: «الوجهة» بكسر الواو، والذي درجت عليه العربية أن فاء الكلمة إذا كان مكسورا حذف في الغالب في المصادر نحو: «عدة» و «سنة» بكسر عين الكلمة إشارة للواو المكسورة التي حذفت، وقد تحذف الواو وهي مفتوحة إذا كانت فاء الكلمة نادرا نحو «سعة» و «ضعة» ، وقد يكون الفتح على السين والضاد بسبب العين الصوت الثالث في الكلمة.

_ (1) . الآية: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ (136) .

هذه ملاحظات وليست قواعد لأننا نعرف أن في العربية كثيرا من الكلم تبدأ بواو مكسورة فلا تحذف الواو ولا تبدل نحو وصال ووفاق. ولكننا نجد وجاه ووجاه قد تحوّلت الى تجاه وتجاه، ووراث إلى تراث، ووصاد إلى إصاد، وغير هذا ممّا اشتملت عليه فرائد العربية. وإبدال الواو «ياء» بسبب كسر ما قبله، لا يقتصر على كون الواو فاء الكلمة، فقد تبدل الواو ياء في المصادر للأفعال الجوف نحو: الصّون مصدر «صان» ، ولكنك تقول الصّيان والصّيانة، والقوم مصدر «قام» ، ولكنك تقول القيام والقيامة. وقد تجد الاسم من هذه المصادر بالواو مع كسرة ما قبله نحو الصّوان للشيء الذي يصان به، ولك أن تقول الصّوان بالضم، كما تقول «القوام» بالكسر، وقوام الأمر نظامه ونصابه وملاكه. وتقول في المصادر على «فعلة» بالكسر غيلة من الفعل «غال يغول» كما تقول «طيلة» و «ميتة» وغير ذلك. 14- قال تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [الآية 187] . والمعنى: تظلمون أنفسكم وتنقصونها حظّها من الخير. والاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة «الكشاف 1: 230» . أقول: لقد تعقّبت الفعل «اختان» ، وهو «افتعل» من «خان» ، فلم أحظ به في غير الآية الكريمة المشار إليها. وليس لنا في العربية المعاصرة غير الفعل المجرد «خان» . غير أن المزيد «اختان» جاء ليؤدي فائدة خاصة، تنأى به عن معنى الفعل المجرد. 15- قال تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [الآية 191] . قوله حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ في الآية يعني: حيث وجدتموهم في حلّ أو حرم. والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة. ومنه رجل ثقف، أي سريع الأخذ لأقرانه، قال: فإمّا تثقفوني فاقتلوني ... فمن أثقف فليس إلى خلود أقول: وهذا المعنى في مادة «ثقف» لا نعرفه في العربية المعاصرة، وذلك أن «الثقافة» بمعناها المعاصر غلبت على الكلمة، حتى نسي الناس أنّ الأصل فيها للثقاف، وهو الآلة التي

تعضّ الرماح وتقبضها لتقويمها، والثقف هو القبض والضبط. 16- قال تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [الآية 196] . قال الزمخشري (الكشاف 1: 239- 240) : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يقال: أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف، أو مرض أو عجز. قال الله تعالى: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 273] . وحصر إذا حبسه عدوّ عن المضيّ، أو سجن، ومنه قيل للمحبس: الحصير وللملك الحصير لأنه محجوب. هذا هو الأكثر في كلامهم، وهما بمعنى المنع في كل شيء، مثل: صدّه وأصدّه، وكذلك قال الفرّاء وأبو عمرو الشيباني، وعليه قول أبي حنيفة رحمهم الله تعالى، كل منع عنده من عدو كان أو مرض أو غيرهما معتبر في إثبات حكم الإحصار. فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي: فما تيسّر منه. والهدي ما أهدي إلى مكّة من النّعم، وقرئ: (حتّى يبلغ الهديّ محلّه) بالتخفيف والتشديد الواحدة هدية وهديّة. ثم أطلق الهدي أو الهديّ على جميع الإبل، وإن لم تكن هديا تسمية للشيء ببعضه. وقال تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [الآية 196] النسك: شاة. وعن كعب بن عجرة أن رسول ا (ص) قال له: «لعلّك آذاك هو امّك» ؟ قال: نعم يا رسول الله. قال: «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك شاة» . والنّسك مصدر، وقيل: جمع نسيكة. وقرأ الحسن: أو نسك بالتخفيف. 17- قال تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [الآية 226] قال الزمخشري في «الكشاف 1: 268» : «قرأ عبد الله: آلوا من نسائهم. وقرأ ابن عباس: يقسمون من نسائهم: فإن قلت كيف عدّي ب «من» ، وهو معدّى ب «على» ؟ قلت: قد ضمّن في هذا القسم

المخصوص معنى البعد، فكأنه قيل: يبعدون من نسائهم مؤلين أو مقسمين. ويجوز أن يراد لهم: (من نسائهم تربّص أربعة أشهر) كقوله: لي منك كذا. والإيلاء من المرأة أن يقول: «والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا، على التقييد بالأشهر، أو لا أقربك على الإطلاق» . أقول: هذا هو معنى «الإيلاء» في الآية، وأصله القسم. وجاء في كتب اللغة: والألوة، والألوة، والألوة، والأليّة على فعيلة، والأليّا كله اليمين، والجمع ألايا. قال الشاعر: قليل الألايا حافظ ليمينه ... وإن سبقت منه الأليّة برّت رواه ابن خالويه: قليل الإلاء، يريد الإيلاء فحذف الياء، والفعل آلى يؤلي إيلاء: حلف، وتألّى يتألّى تألّيا وأتلى يأتلي ائتلاء. وفي التنزيل العزيز: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ [النور 22] . وقال أبو عبيد: «لا يأتل» هو من ألوت. أي: قصّرت. وقال الفرّاء: الائتلاء: الحلف. وقرأ بعض أهل المدينة: ولا يتألّ، وهي مخالفة للكتاب من تألّ، وهي مخالفة للكتاب من تألّيت، وذلك أن أبا بكر- رضي الله عنه- حلف أن لا ينفق على مسطح بن أثاثة وقرابته الذين ذكروا عائشة، فأنزل الله- عز وجل- هذه الآية، وعاد أبو بكر إلى الإنفاق عليهم. وقد تألّيت وأتليت وآليت على الشيء وآليته، على حذف الحرف: أقسمت. أقول: ولم يبق من هذا الفعل في العربية المعاصرة إلا قول المعربين: فلان لا يألو جهدا، أي لا يقصّر، وهو معنى آخر عرفته العربية في عصورها المتتابعة، وليس هذا موطن الشاهد في [الآية 226] . كما بقي قولهم: آليت على أن أقوم بما يجب عليّ بمعنى عزمت وأقسمت. ومما يجب أن نلاحظه أن هذا الاستعمال الأخير لا يرد في اللغة المعاصرة إلّا فعلا ما ضيا ليس غير.

فائدة

18- قال تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [الآية 228] . البعولة: جمع بعل، والتاء لاحقة لتأنيث الجمع كما في الحزونة والسهولة. ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر، من قولك: بعل حسن البعولة. يعني: وأهل بعولتهن. أقول: وردت «فعولة» من أبنية التكسير فيما كان مفردة «فعل» بالفتح فالسكون نحو الحزونة، والسهولة، والفحولة، والخيوطة، جموع حزن، وسهل، وفحل، وخيط. ولقد جرت العامية الحضرية في العراق على شيء من هذا، نحو سير للجلد يقال في جمعه: «سيورة» ، وفي «مهر» يقولون: «مهورة» . فائدة : من أسلوب القرآن في الحفاظ على نظام الجمل في حدودها، وأقسامها، وتساوق بعضها مع بعض، أن الآية قد تأتي غير كاملة، فيما يتطلبه المعنى لغرض من الوفاء بنظام هذه الجملة القرآنية، لتأتي منسجمة مع سائر الجمل في الآيات قبلها وبعدها، ومن ذلك قوله تعالى: ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) «1» . أقول: إن نهاية الآية كان يمكن أن تنتهي عند قوله تعالى: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ من الآية التالية 220، وهي تكملة لقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى بيد أن من حكمته تعالى أن يحافظ على النظام البديع في نظم جرى على هذا. وأنت إذا أردت أن تستوفي هذه النماذج التي تتصل بلغة القرآن ونظامها وبنائها، وجدت الشيء الكثير. ألا ترى أنّ في قوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) . عناية ما بعدها عناية لما توافر لهذا الأسلوب الحكيم البليغ من النظم البديع، متمثّلا في الكسر في كلمة (الداع) ، والاستعاضة عن الكسر الطويل بكسر قصير؟ فليس هذا شيئا يتصل برسم القرآن، وهو مما درج عليه القائلون في

_ (1) . العفو: نقيض الجهد، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع .

أنه «خط المصحف» . إن كلمة (الداع) كان ينبغي أن تكون «الداعي» بالياء الطويلة، وهو شيء متطلب صحيح واجب، واستبعاد هذه الحركة الطويلة يخدم البناء القرآني في جعل هذه الكلمة «الداع» ، بالحركة القصيرة منسجمة مع الحركة التي تليها في «إذا» وهي الكسرة القصيرة. وليس شيء من الاقتصار على القول ب «رسم المصحف» ، أن تأتي الكلمة «دعان» بالنون متلوّة بحركة قصيرة هي الكسرة القصيرة، وكان حقّها الحركة الطويلة فترسم ياء «دعاني» . إن ذلك ليخدم هذا البناء البديع فيتهيّأ منه، أن تكون «وقفة» على (دعان) ، فيحسن بهذا الوقف النظم والبناء، ولا يتم هذا الحسن لو كان الوقف على «دعاني» بالياء. 19- قال تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا (231) . قال الزمخشري «في الكشاف 1: 277» : وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً كان الرجل يطلّق المرأة، ويتركها حتى يقرب انقضاء عدّتها، ثم يراجعها لا عن حاجة، ولكن ليطوّل العدّة عليها، فهو الإمساك ضرارا. أقول: لقد حفلت لغة القرآن بالمصطلح الحضاري العلمي، ولعل التجربة اللغوية في توفير المصطلح تتمثل بجلاء في العربية القرآنية الشريفة، التي برهنت أن العربية لغة الفكر في شتّى صوره. إن «الإمساك ضرارا» في مسألة الطلاق من الكلم الفني ذي الدلالة الاجتماعية في هذه اللغة العريقة القديمة. 20- قال تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [الآية 232] . روي أن الآية نزلت في معقل بن يسار، حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأول. وقيل: في جابر بن عبد الله، حين عضل بنت عمّ له، والوجه أن يكون خطابا له. كذا ذكر الزمخشري. والعضل: الحبس والتضييق. ومنه: عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج، وأنشد لا بن هرمة:

وإن قصائدي لك فاصطنعني ... عقائل قد عضلن عن النكاح وجاء في «لسان العرب» في الكلام على هذه الآية (عضل) : أن العضل في هذه الآية من الزوج لامرأته، وهو أن يضارّها ولا يحسن عشرتها، ليضطرّها بذلك إلى الافتداء بمهرها الذي أمهرها، سمّاه الله تعالى عضلا، لأنه يمنعها حقّها من النفقة، وحسن العشرة، كما أن الوليّ إذا منع حرمته من التزويج، فقد منعها الحق الذي أبيح لها من النكاح إذا دعيت إلى كفء لها. أقول: و «العضل» بهذا المعنى شيء له خصوصية دلالية خاصة أشارت إليه الآية. وهذه الخصوصية أكسبت اللفظ دلالة الاصطلاح الإسلامي الذي عرف من الآية الكريمة. 21- وقال تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [الآية 236] . قوله: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً معناه إلّا أن تفرضوا لهنّ فريضة، أو حتى تفرضوا. وفرض الفريضة تسمية المهر. أقول: و «الفريضة» بهذا الاستعمال كلمة مفيدة، يصح أن نجد لها مكانا في العربية المعاصرة، فكثيرا ما تستعمل في عصرنا الفعل: «عيّن» فيقال: عيّن له مكافأة أو معونة أو شيئا مثل هذا. 22- وقال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [الآية 239] . قوله: فَرِجالًا، أي: فصلّوا راجلين، وهو جمع راجل كقائم وقيام. وقرئ: فرجالا بضمّ الراء، ورجالا بالتشديد، ورجلا. أقول: و «الرجال» : جمع راجل، ومثله «قيام» : جمع قائم وغير ذلك، وقد يتّضح هذا من قوله تعالى: أَوْ رُكْباناً، والركبان: جمع راكب، فكأنّ الآية أشارت لمن يمشي على رجليه، أو لمن هو راكب. وكثيرا ما يأتي اللفظ في العربية واحدا، ودلالته على اثنين، مثلا فالرّجال: جمع راجل كما في الآية، والرجال: جمع رجل أيضا. 23- وقال تعالى: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [الآية 259] .

قال الزمخشري «في الكشاف 1: 307» : لَمْ يَتَسَنَّهْ: لم يتغيّر، والهاء أصلية أو هاء السكت، واشتقاقه من السنة على الوجهين، لأنّ لامها هاء أو واو، وذلك أن الشيء يتغيّر بمرور الزمان. وقيل: أصله «يتسنّن» ، من الحمأ المسنون، فقلبت نونه حرف علة، كتقضّي البازي. ويجوز أن يكون معنى لَمْ يَتَسَنَّهْ لم تمرّ عليه السنون التي مرّت عليه، يعني هو بحالة كما كان، كأنه لم يلبث مائة سنة. وفي قراءة عبد الله: (فانظر إلى طعامك، وهذا شرابك لم يتسنّ) ، وقرأ أبي: (لم يسّنّه) ، بإدغام التاء في السين. أقول: إن كلمة «سنة» مثل شفة من الكلم الثنائي، الذي تحوّل في العربية إلى ثلاثي إفادة من الواو أو الهاء، وقد ذهب اللغويون القدامى إلى أن الواو أو الهاء أصل ثالث، ذهب عن الكلمة فردّ إليها في الكلمات التي قامت على الأصل وهو المفرد «سنة» ، فقالوا في الجمع سنوات وسنهات، كما قالوا شفاه وشفهات وشفوات، وقالوا في المنسوب: سنويّ وسنهيّ، كما قالوا: شفويّ وشفهيّ، وقالوا في الفعل سانه كما قالوا شافه، والمسانهة معروفة كالمشافهة وكذلك المساناة. وقد تجاوزت العربية هذا الحدّ في جعل الصوت الثالث في «السنة» واوا، أو هاء، فأفادت من التاء علامة التأنيث فيها، فكانت الصوت الثالث في مادة «سنت» فقالوا: رجل سنت: قليل الخير، والجمع سنتون ولا يكسّر. وأسنتوا فهم مسنتون: أصابتهم سنة وقحط وأجدبوا، ومنه قول ابن الزّبعرى: عمرو العلى هشم الثريد لقومه ورجال مكّة مسنتون عجاف والتاء في «سنت» عند سيبويه على بدل التاء من الياء، ولا نظير له إلّا قولهم ثنتان، حكى ذلك أبو علي. وفي «الصحاح» : أصله من السنة قلبوا الواو تاء ليفرقوا بينه وبين قولهم: أسنى القوم إذا أقاموا سنة في موضع. وقال الفرّاء: توهّموا أن الهاء أصلية إذ وجدوها ثالثة فقلبوها تاء، تقول منه أصابتهم السنة، بالتاء.

وفي الحديث: وكان القوم مسنتين، أي مجدبين أصابتهم السنة، وهي القحط والجدب. وفي حديث أبي تميمة: الله الذي إذا أسنت أنبت لك، أي: إذا أجدبت أخصبك. ويقال: تسنّت فلان كريمة آل فلان إذا تزوّجها في سنة القحط. وفي «الصحاح» يقال: تسنّتها إذا تزوّج رجل لئيم امرأة كريمة، لقلّة مالها وكثرة ماله. والسّنتة والمسنتة: الأرض التي لم يصبها مطر فلم تنبت، عن أبي حنيفة، قال: فإن كان بها يبيس من يبيس عام أوّل فليست بمسنتة، ولا تكون مسنتة حتى لا يكون بها شيء. وقالوا: عام سنيت مسنت: جدب. وسانتوا الأرض: تتبّعوا نباتها. فأنت ترى أن «السنة» تصرفت بها العربية فكانت منها فوائد كثيرة. 24- قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الآية 279] . قول تعالى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ [الآية] [279] فاعلموا بها من «أذن بالشيء» إذا علم به، وقرئ: فأذنوا بها، والمعنى فأعلموا بها غيركم. وهو من الإذن وهو الاستماع، لأنه من طرق العلم. وقرأ الحسن: فأيقنوا، وهو دليل لقراءة العامّة. فإن قلت: هلّا قيل بحرب الله ورسوله؟ قلت: كان هذا أبلغ لأنّ المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم عند الله ورسوله. «الزمخشري 1: 322» . أقول: والإذن بمعنى الإعلام ليس ممّا نعرفه في غير هذه الآية. أما قول الزمخشري إن الإذن هو الاستماع، فهو إشعار لنا أن «الإذن» ، وهو المصدر من الفعل «أذن» ، قد جاء من «الأذن» ، وهي عضو السمع، كما أن «المعاينة» جاءت من العين، و «الأنفة» جاءت من الأنف. 25- قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الآية 286] . قال الزمخشري «في الكشاف 1: 332» : لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ، ينفعها ما كسبت من خير، ويضرّها ما

اكتسبت من شرّ، لا يؤاخذ بذنبها غيرها، ولا يثاب غيرها بطاعتها. فإن قلت: لم خصّ الخير بالكسب، والشرّ بالاكتساب؟ قلت: في «الاكتساب» اعتمال، فلمّا كان الشرّ ممّا تشتهيه النفس، وهي منجذبة إليه وأمّارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجدّ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه. ولمّا لم تكن كذلك في باب الخير، وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال» . أقول: لو استقرينا الآيات الكريمة في سائر سور القرآن، لنتبيّن حقيقة ما ذهب إليه الزمخشري من أن الفعل المزيد «اكتسب» ، قد خصّ بالشرّ في حين أن الفعل المجرّد «كسب» ، قد خصّ بالخير، لاهتدينا إلى أنّ المزيد والمجرّد بمعنى، وأنّ الفعل المجرّد يأتي للخير كما يأتي في الشرّ، ومثله الفعل المزيد «اكتسب» ، وسنعرض لطائفة من الآيات: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ [الآية 267] . لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [الآية 264] . يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) [الأنعام] . تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ [الآية 134] . لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الآية 286] . إنّ الفعل «كسب» ، في هذه الآيات يجيء خاصا بالخير، غير أننا نجد هذا الفعل خاصا بالشر كما في قوله تعالى: وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) [الأعراف] . أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) [يونس] . وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ [النساء: 111] . وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً [النساء: 112] . ونأتي إلى المزيد «اكتسب» ، فنجده، قد خصّ بالشر، كما في قوله تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [النور: 11] . لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الآية 286] .

كما نجد هذا الفعل المزيد، قد خصّ بالخير، كما في قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء: 32] . لقد بدا لنا أن لا فرق بين المجرّد والمزيد، وأنّ الاختصاص الذي ذهب إليه الزمخشري غير حاصل في كلام الله عز وجل، وذلك ممّا أفدناه من الآيات التي أشرنا إليها، وهي قليل من كثير. والذي سوّغ للزمخشري أن يذهب إلى القول بالاختصاص، والتفريق بين «كسب» ، و «اكتسب» ، أنّ الفعل الأول قد سبقة المجرور باللام، وأنّ الفعل الثاني قد سبقة المجرور ب «على» . ومن المعلوم أنّ استعمال اللام في الجرّ يفيد هذا الذي دفع الزمخشري إلى القول بالاختصاص بالخير، كما أنّ استعمال «على» يفيد ما ذهب إليه من الاختصاص بالشر، كقولنا: يوم لك ويوم عليك. فالاختصاص بالخير أو الشر قد جاء من استعمال الخافض، وهو اللّام في الأوّل، و «على» في الثاني.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"البقرة"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «البقرة» «1» أمّا قوله تعالى الم [الآية 1] ، فإن هذه الحروف أسكنت، لأنّ الكلام ليس بمدرج، وإنّما يكون مدرجا، لو عطف بحرف العطف، وذلك أنّ العرب تقول في حروف المعجم كلّها بالوقف، إذا لم يدخلوا حروف العطف، فيقولون: «ألف باء تاء ثاء» ويقولون: «ألف وباء وتاء وثاء» . وكذلك العدد عندهم، ما لم يدخلوا حروف العطف فيقولون: «واحد اثنان ثلاثة» . وبذلك، وعلى أنه ليس بمدرج، قطعت ألف «اثنين» ، وهي من الوصل. فلو كان وصلها بالذي قبلها، لذهبت، ولكن هذا من العدد والعدد والحروف كلّ واحد منها شيء مفصول على حياله. ومثل ذلك المص (1) [الأعراف] ، الر «2» والمر [الرعد] ، وكهيعص (1) [مريم] وطسم (1) «3» ويس (1) [يس] ، وطه (1) [طه] ، وحم (1) «4» وق [ق] وص [سورة ص] . إلا أنّ قوما قد نصبوا يس (1) وطه (1) وحم (1) «5» وهو

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ . (2) . يونس 10: 1 وهود 11: 1 ويوسف 12: 1 وابراهيم 14: 1 والحجر 15: 1 [.....] . (3) . الشعراء 26: 1 والقصص 28: 1 . (4) . غافر 40: 1، وفصلت 41: 1، والشورى 42: 1، والزخرف 43: 1، والجاثية 45: 1، والأحقاف 46: 1 . (5) . ذكر نصب [يس] في معاني القرآن 3: 371 ولم ينسبه قراءة ونسب في الشواذ 124 فتح النون من [يس] والفاء من [ق] والدال من [ص] إلى عيسى بن عمر، ونسب في المحتسب 2: 203 فتح النون من [يس] إلى ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر، ونسب في الجامع 15: 3 ونصب النون في [يس] إلى عيسى وفي البحر 7: 323 كما في المحتسب .

كثير في كلام العرب، وذلك أنّهم جعلوها أسماء كالأسماء الأعجمية «هابيل» و «قابيل» . فإمّا أن يكونوا جعلوها في موضع نصب ولم يصرفوها كأنّه قال: «اذكر حم وطس ويس» ، أو جعلوها كالأسماء، التي هي غير متمكّنة فحرّكوا آخرها واحدة كفتح «أين» ، وكقول بعض الناس (الحمد لله) بكسر الدال. وقرأ بعضهم (ص) و (ن) و (ق) «1» بالفتح، وجعلوها أسماء ليست بمتمكّنة فألزموها حركة واحدة وجعلوها أسماء للسورة، فصارت أسماء مؤنّثة. ومن العرب من لا يصرف المؤنث إذا كان وسطه ساكنا نحو «هند» و «جمل» و «دعد» . قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الرابع] : وإنّي لأهوى بيت هند وأهلها على هنوات قد ذكرن على هند وهو يجوز في هذه اللغة أو يكون سمّاها بالحرف، والحرف مذكّر، وإذا سمّي المؤنث بالمذكّر لم ينصرف، فجعل ص وما أشبهها، اسما للسورة ولم يصرف، وجعله في موضع نصب. وقرأ بعضهم (صاد والقرآن) «2» فجعلها من «صاديت» ثم أمر، كما تقول «رام» ، كأنه قال: «صاد الحقّ بعملك» اي: تعمّده «3» ، ثم قال وَالْقُرْآنِ [ص: 1] فأقسم، ثم قال بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) [ص] . فعلى هذا وقع القسم. وذلك أنّهم زعموا أن «بل» هاهنا انّما هي «إنّ» فلذلك صار القسم عليها «4» .

_ (1) . في الطبري 23: 118 نسبت إلى عيسى بن عمر وهي مرجوحة عنده وفي الشواذ 129 كذلك وفي المحتسب 2: 230 اقتصر على فتح الدال من (ص) وفي الجامع 15: 143 نسبت الثلاثة إلى عيسى، وزاد في البحر 7: 383 محبوبا عن ابن عمر، وفرقة لم يعيّنها واقتصر في الشواذ 124 على فتح الميم من (حم) ونسبة إلى عيسى بن عمر، وكذلك في الجامع 15: 290. وجاءت في الأصل (ن) مكتوبة اللفظ (نون) . (2) . سورة ص 38: 1. في معاني القرآن 2: 396 خفض الدال من (ص) إلى الحسن. والطبري 23: 118 إلى عبد الله بن أبي إسحاق، وهي مرجوحة بقراءة السكون، وفي الشواذ 129 زاد أبا السمال، وفي المحتسب 2: 230 إلى أبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق. وفي الجامع 5: 142 زاد نصر بن عاصم وفي البحر 7: 383 زاد أبا السمال وإبراهيم بن أبي عبلة . (3) . في إيضاح الوقف والابتداء 1: 483 و 484 نقل الرأي بلفظ مخالف وزيادات . (4) . نقله في الصحاح واللسان «بلل» .

وقد اختلف الناس في الحروف التي في فواتح السور، فقال بعضهم: «إنّما هي حروف يستفتح بها» فإن قيل «هل يكون شيء من القرآن ليس له معنى» ؟. فإنّ معنى هذه أنه ابتدأ بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ في أخرى. فجعل هذا، علامة لانقطاع ما بينهما، وذلك موجود في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول [من الرجز، وهو الشاهد الخامس] : بل. وبلدة ما الإنس من آهالها «1» أو يقول [من الرجز، وهو الشاهد السادس] : بل. ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا «2» ف «بل» ليست من البيت ولا تعدّ في وزنه، ولكن يقطع بها كلام ويستأنف آخر «3» . وقال قوم: «إنّها حروف، إذا وصلت، كانت هجاء لشيء يعرف معناه، وقد أوتي بعض الناس علم ذلك. وذلك أن بعضهم، كان يقول: «الر» و «حم» و «ن» هذا هو اسم «الرحمن» جل وعزّ، وما بقي منها، فنحو هذا» . وقالوا: قوله تعالى كهيعص (1) [مريم] كاف، هاد، عالم، صادق، فأظهر من كل اسم منها حرفا ليستدلّ به عليها. فهذا يدلّ، على أن الوجه الأوّل لا يكون إلّا وله معنى. لأنه يريد معنى الحروف. ولم ينصبوا من هذه الحروف شيئا غير ما ذكرت لك، لأن الم وطسم (1) وكهيعص (1) ليست مثل شيء من

_ (1) . ورد في الصحاح «بلل» بلفظ «آهالها» ولم يعز. وكذلك ورد في «اللسان» «أهل» وبعده: ترى بها العواهق من وئالها وورد في «بلل» مع مصراع ثالث هو: كالنار جرّت طرفي حبالها ولم يعز في أيّ . (2) . ورد في الصحاح «بلل» وفي اللسان «بلل» ولم يعز فيهما. وهو لعبد الله العجاج. انظر ديوانه (348) ، والكتاب (2: 299) ، والأمالي 1: 38، والخصائص (1: 171) ، وشرح شواهد المغني للسيوطي (268) . (3) . نقل الجوهري في الصحاح «بلل» وفعل ابن منظور في اللسان فعله وزاد في مصاريع الرجز اللامي .

الأسماء، وإنما هي حروف مقطّعة. وقرأ قوله تعالى الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران] بفتح الميم، لأنّها لقيها حرف ساكن، فلم يكن من حركتها بدّ. فان قيل: «فهلّا» حرّكه بالجر» ؟ فان هذا لا يلزم فيها، وإنما أرادوا الحركة، فإذا حرّكوها بأي حركة كانت، فقد وصلوا الى الكلام بها، ولو كانت كسرت لجاز، ولا أعلمها إلّا لغة «1» . وقال بعضهم: «فتحوا الحروف التي للهجاء، إذا لقيها الساكن ليفصلوا بينها وبين غيرها. وقالوا: «من الرجل» ففتحوا لاجتماع الساكنين. ويقولون «هل الرجل» و «بل الرجل» وليس بين هذين وبين «ومن الرجل» فرق، إلّا أنّهم قد فتحوا «من الرجل» لئلّا تجتمع كسرتان، وكسروا إِذِ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 93] . وقد اجتمعت كسرتان لأنّ «من» أكثر استعمالا في كلامهم من «إذ» ، فأدخلوها الفتح ليخفّ عليهم. وإن شئت قلت: «ألم» حروف منفصل بعضها من بعض، لأنّه ليس فيها حرف عطف، وهي أيضا منفصلة ممّا بعدها، فالأصل فيه أن تقول (ألم الله) فتقطع ألف اللَّهُ «2» إذا كان ما قبله منفصلا منه كما قلت «واحد، اثنان» فقطعت. وكما قرأ القراء ن وَالْقَلَمِ [القلم: 1] فبيّنوا النون لأنّها منفصلة «3» . ولو كانت غير منفصلة لم تبين إلّا أن يلقاها أحد الحروف الستة. ألا ترى أنّك تقول «خذه من زيد» و «خذه من عمرو» فتبيّن

_ (1) . نسبت في الشواذ 19 إلى عمرو بن عبيد وفي البحر 2: 374 إلى ابن حياة، وروي أن ابن عطية نسبها إلى الرواسي، وأنّ الزمخشري نسبها إلى عمرو بن عبيد. وقد أنكر أبو إسحاق الزّجّاج هذا الرأي على الأخفش، وقال «الذي حكاه الأخفش من كسر الميم خطأ لا يجوز ولا تقوله العرب لثقله» (اعراب القرآن 1: 143) ونقل القرطبي رأي الأخفش في الجامع (4: 1) . (2) . هي قراءة الحسن وعمرو بن عبيد وعاصم بن أبي النجود وأبي جعفر الرواسي (إعراب القرآن 1: 143) وقال ابن مجاهد إنّها قراءة عاصم (السبعة 200) . (3) . في معاني القرآن 3: 172 قرأ الإخفاء، ولم ينسبها قراءة البيان إلى الأعمش وحمزة (3: 172) ، وفي الطبري 29: 16 أنّ الكسائي كان يدغم النون الاخرة في (نون) و (يس) أو يخفيها بناء على الاتصال، ونسب إظهار النون فيهما إلى قرّاء الكوفة. وفي السبعة 646، أنّ إخفاء النون إلى عاصم والكسائي، وتبيينها إلى عاصم في رواية، وإلى ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي عمرو وحمزة، وفي الجامع 18: 223 أنّ الإدغام إلى أبي بكر والمفضّل وهبيرة وورش وابن محيصن وابن عامر والكسائي ويعقوب. أمّا في البحر 8: 307 فإدغام النّون وإسكانها إلى الجمهور وإظهار النون إلى حمزة وأبي عمرو وابن كثير وقالون وحفص .

النون في «عمرو» ولا تبيّن في «زيد» . فلمّا كانت ميم ساكنة، وبعدها حرف مقطوع مفتوح، جاز أن تحرّك الميم بفتحة الألف، وتحذف الالف في لغة من قال: «من أبوك» فلا تقطع. وقد جعل قوم (نون) بمنزلة المدرج، فقرأوا (نون والقلم) فأثبتوا النّون ولم يبيّنوها. وقالوا يس (1) وَالْقُرْآنِ [يس] «1» فلم يبيّنوا أيضا. وليست هذه النّون ها هنا بمنزلة قوله كهيعص (1) [مريم] وطس تِلْكَ [النمل: 1] وحم (1) عسق (2) [الشورى] . فهذه النونات لا تبيّن في القراءة، في قراءة أحد، لأنّ النّون قريبة من الصاد، فالصّاد والنّون من مخرج طرف اللسان. وكذلك التّاء والسّين في طس تِلْكَ وفي حم (1) عسق (2) [الشورى] ، فلذلك لم تبيّن النون إذ قربن منها. وتبيّنت النون في يس (1) ون لبعد النون من الواو، لأنّ النون بطرف اللسان، والواو بالشّفتين. وقال: لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) وقال فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [الآيات 173 و 182 و 203] فنصبهما بغير تنوين. وذلك أنّ كلّ اسم منكور نفيته ب «لا» ، وجعلت «لا» الى جانب الاسم، فهو مفتوح بغير تنوين، لأنّ «لا» مشبّهة بالفعل، كما شبّهت «إنّ» و «ما» بالفعل. و (فيه) في موضع خبرها، وخبرها رفع، وهو بمنزلة الفاعل، وصار المنصوب بمنزلة المفعول به، و (لا) بمنزلة الفعل. وإنّما حذفت التنوين منه لأنّك جعلته و «لا» اسما واحدا، وكلّ شيئين جعلا اسما لم يصرفا «2» . والفتحة التي فيه لجميع الاسم، بني عليها، وجعل غير متمكّن. والاسم الذي بعد «لا» في موضع نصب عملت فيه «لا» . وأما قوله فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ

_ (1) . انظر الهامش السابق أيضا في السبعة 538، تبيين النون فيها إلى رواة نافع، وعدم التبيين إلى نافع في رواية، ونسب في الكشف 2: 214 عدم التبيين إلى ورش وأبي بكر والكسائي وابن عامر وفي الجامع 15: 3 نسب إدغام النون بالواو إلى اهل المدينة والكسائي، واسكان النّون إلى أبي عمرو والأعمش وحمزة، ونسب في البحر 7: 323 سكون النّون مدغمة في الواو إلى الجمهور والكسائي وأبي بكر وورش وابن عامر، وأنّ سائر السبعة قرءوا النّون ساكنة [.....] . (2) . أي «بنيا» .

يَحْزَنُونَ (62) [يونس] «1» فالوجه فيه الرفع، لأنّ المعطوف عليه لا يكون إلّا رفعا ورفعته، لتعطف الاخر عليه. وقد قرأها قوم نصبا، وجعلوا الاخر (رفعا) على الابتداء. وقوله فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الآية 197] ، فالوجه النصب «2» لأنّ هذا نفي ولأنّه كلّه نكرة. وقد قرأ قوم (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) فرفعوه كلّه «3» ، وذلك أنّه قد يكون هذا المنصوب كلّه، مرفوعا في بعض كلام العرب، قال الشاعر «4» [من البسيط وهو الشاهد السابع] : وما صرمتك حتّى قلت معلنة ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل «5» وهذا جواب لقوله «هل فيه رفث أو فسوق» ، فقد رفع الأسماء بالابتداء، وجعل لها خبرا، فلذلك يكون جوابه رفعا. وإذا قال «لا شيء» فإنّما هو جواب «هل من شيء» لأن «هل من شيء» قد أعمل فيه «من» بالجر، وأضمر الخبر، والموضع مرفوع، مثل: «بحسبك أن تشتمني» فإنّما هو: «حسبك أن تشتمني» . فالموضع مرفوع، والباء قد عملت. وقد قرأ قوم: (فلا رفث ولا فسوق)

_ (1) . وورد التعبير أيضا في أحد عشر موضعا آخر من القرآن الكريم مسبوقا بالفاء، أو الواو، أو أن. «انظر المعجم المفهرس» يحزنون . (2) . في معاني القرآن 1: 120 نسبت إلى القرّاء بلا تحديد، واستثنى في السبعة 180 ابن كثير وأبا عمرو، وكذلك الكشف 1: 286 وقال إنّ عليها الأعرج وشيبة والأعمش وأبا رجاء والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى، واستثنى في التيسير 80 ابن كثير وأبا عمرو ونسبت في البحر 2: 88 إلى الكوفيين ونافع، أمّا في حجّة ابن خالويه 71 والمشكل 62، والجامع 2: 408 فلم تنسب . (3) . في المصاحف 58 نسبت إلى عبد الله مع «رفوث» بدل «رفث» ، وفي الشواذ 12 نسبت إلى أبي جعفر المدني، وفي الجامع 2: 409 إلى أبي جعفر بن القعقاع، وإلى نافع في رواية، ونسبت في البحر 2: 88 إلى أبي جعفر، وأنّها رويت عن عاصم بطريق المفضّل عنه (أمّا في المشكل 63 فأوردها ولم ينسبها وفي التيسير 80 عدم الاختلاف في فتح «جدال» انظر الطبري 4: 154 ومعاني القرآن 1: 120 والسبعة 180 وحجّة ابن خالويه 71، والكشف 1: 285 و 286 والتيسير 80 والجامع 2: 408 والبحر 2: 88) . (4) . هو الراعي النّميري. الكتاب 11: 354 واللسان (لقا) . (5) . ورد في شرح الأشموني بلفظ هجرتك «باب لا التي تنفي الجنس» ، وفي شعر الراعي النميري ص 112 بلفظ هجرتك .

ولا جدال في الحجّ) «1» فرفعوا الأوّل على ما يجوز في هذا من الرفع، أو على النهي، كأنّه قال «فلا يكونن فيه رفث ولا فسوق» كما تقول «سمعك إليّ» تقولها العرب فترفعها، وكما تقول للرجل: «حسبك» و «كفاك» . وجعل الجدال (نصبا) على النفي. وقال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد الثامن] : ذاكم وجدّكم الصّغار بأسره ... لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب «3» فرفع أحدهما ونصب الأخر. وأمّا قوله تعالى لا فِيها غَوْلٌ [الصافات: 47] فرفع، لأنّ «لا» لا تقوى أن تعمل إذا فصلت، وقد فصلتها ب «فيها» فرفع على الابتداء ولم تعمل «لا» . وقوله فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) ف «فيه» و «عليه» و «إليه» ، وأشباه ذلك في القرآن كثير. وذلك أنّ العرب، إذا كان قبل هذه الهاء التي للمذكّر ياء ساكنة، حذفوا الياء التي تجيء من بعد الهاء أو الواو، لأنّ الهاء حرف خفي، وقع بين حرفين متشابهين، فثقل ذلك. فمن كان من لغته إلحاق الواو إذا كان قبلها كسرة، ولم يكن قبلها الياء، ترك الهاء مضمومة، إذا كان قبلها الياء الساكنة، ومن كان من لغته إلحاق الياء، ترك الهاء مكسورة إذا كان قبلها الياء الساكنة. وكذلك إذا كان قبل الهاء ألف ساكنة أو واو فإنّه يحذف الواو التي تكون بعد الهاء، ولكن الهاء لا تكون إلّا مضمومة نحو فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ [الشعراء: 45] وقوله تعالى فَكَذَّبُوهُ «4» وقوله

_ (1) . في الطبري 4: 154 نسبت إلى جماعة من البصريين وكثير من أهل مكة منهم عبد الله منهم عبد الله بن كثير وأبي عمرو بن العلاء، «وفي معاني القرآن 1: 120 إلى مجاهد وفي السبعة 180 إلى ابن كثير وأبي عمرو وفي الكشف 1: 285، و 286 والتيسير 80 والبحر 2: 88، كذلك أمّا في الحجة 71، والجامع 2: 408، فقد ذكراها ولم ينسبا . (2) . في الكتاب (1: 352) أنّه رجل من مذحج وقد أيّد ذلك الأعلم في الهامش، وورد في المقاصد النحوية 2: 339 في شواهده الاختلاف في نسبته إلى همام بن مرة أخي جساس أو إلى رجل من بني عبد مناة، او ابن أحمر، أو ضميرة بن ضمرة . (3) . رواه ابن الناظم (هذا لعمركم) (75) وكذلك فعل ابن عقيل (1: 342) وابن هشام في الشذور (86) ، ورواه في المقاصد النحوية «هذا وجدكم» هـ الخزانة 2: 339» ورواه الفرّاء «بعينه» في المعاني (1: 121) . (4) . جاء هذا التعبير في تسعة مواضع من الكتاب الكريم، أوّلها الأعراف 7: 64، وآخرها الشمس 91: 14 .

فَأَنْجَيْناهُ «1» وأشباه هذا في القرآن كثير «2» : ومن العرب من يتمّ، لأنّ ذلك من الأصل، فيقول (فكذّبوهو) (فأنجيناهو) و (فألقى موسى عصاهو) و (لا ريب فيهو هدى للمتقين) ، وهي قراءة أهل المدينة «3» وقد قرأ قوم إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات: 50] فألقوا الواو، وشبّهوا الساكن بالياء والواو والالف. وهذا ليس بجيّد في العربية، وأجوده (منهو نذير) تلحق الواو وإن كانت لا تكتب. وكل هذا إذا سكت عليه، لم تزد على الهاء شيئا. ولا تكسر هذه الهاء، إلّا أنّ تكون قبلها ياء ساكنة، أو حرف مكسور. وإنّما يكسر بنو تميم. فأمّا أهل الحجاز فإنّهم يضمّون بعد الكسر، وبعد الياء أيضا، قال ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) . وأهل الحجاز، يقرءون (من بعد هو) فيثبتون الواو في كل موضع. ومن العرب من يحذف الواو والياء في هذا النحو أيضا، وذلك قليل قبيح يقول: «مررت به قبل» «به قبل» يكسرون ويضمّون ولا يلحقون واوا ولا ياء، ويقولون «رأيته قبل» فلا يلحقون واوا. وقد سمعنا بعض ذلك من العرب الفصحاء. وقد قرأ بعض القراء (فيه هدى) فأدغم الهاء الأولى في هاء هُدىً لأنّهما التقتا وهما مثلان «4» . وزعموا أنّ من العرب من يؤنّث «الهدى» «5» . ومنهم من يسكّن هاء الإضمار للمذكّر قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد التاسع] . فظلت لدى البيت العتيق أخيله ... ومطواي مشتاقان له ارقان

_ (1) . جاء هذا التعبير في ستة مواضع من الكتاب الكريم أوّلها الأعراف 7: 64 وآخرها العنكبوت 29: 15 . (2) . يرجع في تفصيل القراآت في هذا إلى سبعة ابن مجاهد (129) وحجة الفارسي (120) و (130) والكشف 1: 42 والتيسير (29) والجامع 1: 160 والبحر (1: 33) و (1: 37) . (3) . انظر الهامش السابق . (4) . أوردها ابن خالويه في حجّته ولم ينسبها (39) ، وجوّز القرطبي الإدغام في جامعه، ولم ينسبه قراءة (1: 160) [.....] . (5) . هي لغة بعض بني أسد (اللهجات العربية للجندي (511) وهم بنو أسد المذكر والمؤنث للقراء 87، وكتاب التذكير والتأنيث للسجستاني 16 .

وهذا في لغة أسد السراة، زعموا كثير «1» . وقوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) فيه لغتان، منهم من يقوله بالوقف إذا وصل، ومنهم من يلحق فيها الواو. وكذلك هو في كل موضع من القرآن والكلام، إلّا أنّ يكون ما قبلها مكسورا أو ياء ساكنة، فإن كانت ياء ساكنة أو حرفا مكسورا نحو «عليهم» و «بهم» و «من بعدهم» ، فمن العرب من يقول: «عليهمي» فيلحق الياء، ويكسر الميم والهاء ومنهم من يقول: «عليهمو» فيلحق الواو، ويضم الميم والهاء ومنهم من يقول: «عليهم» و «عليهم» ، فيرفعون الهاء ويكسرونها، ويقفون الميم، ومنهم من يقول: «عليهمو» فيكسرون الهاء، ويضمّون الميم ويلحقون الواو ومنهم من يقول: «عليهمي» فيضمون الهاء، ويكسرون الميم، ويلحقون الياء. وكلّ هذا إذا وقفت عليه، فاخره ساكن، والذي قبله مكسور، وهو بمنزلة ما قبله ياء. وهذا في القرآن كثير «2» . ومنهم من يجعل «كم» في «عليكم» و «بكم» ، إذا كانت قبلها ياء ساكنة أو حرف مكسور، بمنزلة «هم» ، وذلك قبيح لا يكاد يعرف، وهي لغة لبكر وائل سمعناها من بعضهم يقولون «عليكمي» و «بكمي» ، وأنشد الأخفش «3» قال سمعته من بكر بن

_ (1) . وينسبها الكسائي لغة لأعراب بني عقيل وبني كلاب (البحر 8: 502) وانظر تفصيل ذلك في (اللهجات العربية للجندي (404) . وقد نقل رأي الأخفش وأفاد منه بيت الشعر ابن جني في المحتسب (1: 244) والجوهري في الصحاح (ها) وابن سيده في المحكم (هو و) . والشاعر هو يعلى الأحول الشكري من اسد السراة (انظر الجمهرة 3: 118) والخزانة 2: 401- 405) وقد ورد البيت في الجمهرة بلفظ «فبت لدى البيت الحرام» وجاء فيها «ومطو الرجل نظيره» أو صاحبه لغة سروية منسوبة إلى السراة. قال الشاعر يعلى الأحول الشكري (البيت) أراد «له» وهذه لغته «وجاء في اللسان بلفظ «الحرام» أيضا (مطا) . أمّا في الصحاح (مطا) والخصائص (1: 128) والخزانة فورد بلفظهما رواه الأخفش . (2) . يراجع لهذه القراآت حجّة الفارسي 1: 42، والكشف 1: 35- 40، والبحر 1: 26- 43، إذ فصل القول فيها في هذه المراجع. وقد ذكر سيبويه أنّ كسر الهاء لغة، وتكلّم عليها في الكتاب (2: 293 و 294) . (3) . هو أبو الخطّاب عبد الحميد بن عبد المجيد الأخفش الأكبر، ترجمته في مراتب النحويّين 23، وطبقات الزبيدي 40، وإنباه الرواة 2: 157 .

وائل «1» [من الطويل وهو الشاهد العاشر] : وإن قال مولاهم على جل حاجة ... من الأمر ردّوا فضل أحلامكم ردّوا «2» وكل هذا، إذا لقيه حرف ساكن، حرّكت الميم بالضم، إن كان بعدها واو، فان كان بعدها واو حذفت الواو، وان كان ياء حذفت الياء، وحرّكت الميم بالكسر. وكذلك الهاء التي للواحد المذكّر، من نحو «مررت به اليوم» و «رأيته اليوم» . وزعموا أنّ بعض العرب، يحرّك الميم، ولا يلحق ياء ولا واوا في الشعر، وذا لا يكاد يعرف. وقال الشاعر [من الرجز وهو الشاهد الحادي عشر] : تالله لولا شعبتي من الكرم ... وشعبتي فيهم من خال وعمّ فأمّا قوله تعالى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) فإنّما دخله حرف الاستفهام، وليس لذكره السواء، لأنّه إذا قال في الاستفهام: «أزيد عندك أم عمرو» وهو يسأل أيّهما عندك فهما مستويان عليه، وليس واحد منهما أحقّ بالاستفهام من الاخر. فلمّا جاءت التسوية في قوله أَأَنْذَرْتَهُمْ أشبه بذلك الاستفهام، إذ أشبهه في التسوية. ومثلها سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [المنافقون: 6] ولكن أَسْتَغْفَرْتَ ليست بممدودة، لأنّ الألف التي فيها ألف وصل، لأنّها من «استغفر» «يستغفر» فالياء مفتوحة من «يفعل» واما أَأَنْذَرْتَهُمْ ففيها ألفان ألف «أنذرت» وهي مقطوعة، لأنّه يقول «ينذر» ، فالياء مضمومة، ثمّ جعلت معها ألف الاستفهام، فلذلك مدّدت وخفّفت الاخرة منهما، لأنّه لا تلتقي همزتان «3» . وقال أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ [الزخرف] . وقال بعضهم: إنّه على قوله

_ (1) . انظر الكتاب (2: 294) حيث ذكر هذه اللغة، ووصفها بشدة الرداءة، واستشهد بهذا الشعر، واللهجات للجندي (52) ، وشرح السيرافي (5: 463) (بدلالة المصدر السابق) . (2) . البيت للحطيئة، انظر ديوانه 140 بلفظ «حادث من الدهر» وهو كذلك في الكتاب 2: 294 والكامل 1: 534. (3) . تخفيف إحدى الهمزتين لغة تميمية (الكتاب 2: 168) .

تعالى أَفَلا تُبْصِرُونَ وجعل قوله تعالى أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ بدلا من تُبْصِرُونَ. لان ذلك عنده بصر منهم، أن يكون عندهم هكذا، وهذه «أم» التي تكون في معنى «أيّهما» . وقد قال قوم «إنّها يمانيّة» ، وذلك أن أهل اليمن، يزيدون «أم» في جميع الكلام. وأمّا ما سمعنا من اليمن، فيجعلون «أم» مكان الألف واللام الزائدتين، يقولون «رأيت امرجل» و «قام امرجل» . يريدون «الرجل «1» . ولا يشبه أن تكون أَمْ أَنَا خَيْرٌ على لغة أهل اليمن. وقد زعم أبو زيد «2» أنّه سمع أعرابيّا فصيحا، ينشدهم «3» [من الرجز وهو الشاهد الثاني عشر] : يا دهر أم كان مشيي رقصا ... بل قد تكون مشيتي ترقّصا «4» فسأله فقال: «معناه ما كان مشيي رقصا ف «أم» ها هنا زائدة. وهذا لا يعرف. وقال علقمة بن عبدة «5» [من الطويل وهو الشاهد الثالث عشر] : وما القلب لها أم ما ذكره ربعيّة «6» ... يخطّ لها من ثرمداء قليب يريد «ما ذكره ربعيّة» يجعله بدلا من «القلب» ، وقال بعض الفقهاء: «إنّ معناه أنّه قال فرعون أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) [الزخرف] أم أنتم بصراء» . وقال الشاعر «7» [من الطويل وهو الشاهد الرابع عشر] :

_ (1) . لغة اليمن هذه تكلم عليها ابن منظور في اللسان «أمم» ، وأوردتها كتب اللهجات، راجع لها «اللهجات للجندي 311» وفيه إشارة إلى مواضع أخرى لها في اللسان وغيره، وراجع مميّزات لغات العرب (12) . (2) . هو أبو زيد الأنصاري، ترجم له في أخبار النحويين 41، ومراتب النحويين 42، وبغية الوعاة 255. (3) . روى الجوهري البيت في الصحاح «أمم» ، ولم ينسبه، وكذلك فعل ابن منظور في اللسان «أمم» ولم ينسبه، ورواه البغدادي في الخزانة (4: 421) ، ولم يهتد إلى قائله. (4) . في الصحاح «يا هند» بدل يا دهر في اللسان «يا دهن» و «توقصا» وقال: «أراد يا دهنا» فرخم «وفي الخزانة «توقصا» أيضا. (5) . هو علقمة بن عبدة الفحل الشاعر التميمي، كان نديما للحارث الأصغر الغسّاني، والنعمان الثالث أبي قابوس اللّخمي، ترجمته في الأغاني (بولاق 21: 172 وطبقات الشعراء للجمعي 1: 139 ت 168، والشعر والشعراء لابن قتيبة 1: 218 ت 13 . (6) . البيت السابع من القطعة الاولى من ديوانه ص 35، بلفظ «وما أنت أم ما ذكرها ربعية» ، «وفي اللسان» «ثرمد» : «ربعية» بالضم» . «أما ذكرها» . (7) . هو ذو الرّمّة غيلان بن عقبة العدوي المتوفي سنة 117 هـ. [.....]

فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النّقا أأنت أم أمّ سالم «1» يريد: «أأنت أحسن أم أمّ سالم» . فأضمر أحسن. يريد: «أليس أنا خيرا من هذا الذي هو مهين» . ولها موضع آخر تكون فيه منقطعة من الكلام، كأنّك تميل الى أوله قال: لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [يونس] . وهذا لم يكن قبله استفهام، وهذا قول العرب: «إنّها لإبل» ثم يقولون «أم شاء» (وقولهم) «لقد كان كذا وكذا أم حدّثت نفسي» ، ومثل قول الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد الخامس عشر] : كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرّباب خيالا «3» وليس قوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ لأنه شك، لكنه قال هذا ليقبّح صنيعهم، كما تقول: «ألست الفاعل كذا وكذا» ليس تستفهم، إنّما توبّخه. ثم قال بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [السجدة: 3] . ومثل هذا في القرآن كثير، قال سبحانه فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) [الطور] ثمّ قال أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ [الطور: 30] (و) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ [الطور: 37] كل هذا، على استفهام الاستئناف. وليس ل «أم» غير هذين الموضعين، لأنّه أراد أن ينبّه، ثمّ ذكر ما قالوا عليه، يعني النبي (ص) ليقبح ما قالوا عليه، نحو قولك للرجل «الخير أحبّ إليك أم الشرّ» ؟ وأنت تعلم أنه يقول «الخير» ولكن أردت أن تقبّح عنده ما صنع. وأمّا قوله تعالى وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: 24] فقد نهاه عن الإثم والكفور جميعا. وقد قال بعض الفقهاء «4» : «إنّ «أو» تكون بمنزلة الواو وقال [من المتقارب وهو الشاهد السادس عشر] : يهينون من حقروا شأيه ... وإن كان فيهم يفي أو يبرّ

_ (1) . ديوانه 2: 767 بلفظ أيا، وهو من شواهد الكتاب 2: 178، والصحاح واللسان «جلل» ، والكامل 2: 770. (2) . الأخطل التغلبي غياث بن غوث. (3) . الديوان 41، والكتاب 1: 484، ومجاز أبي عبيدة 1: 56. (4) . المغني (1: 62) هم الكوفيون، والإنصاف 2: 254 م 67.

يقول: «يفي ويبرّ» . وكذلك هي عندهم ها هنا، وإنّما هي بمنزلة «كل اللحم أو التمر» إذا رخّصت له في هذا النحو. فلو أكل كلّه أو واحدا منه لم يعص. فيقع النهي عن كل ذا في هذا المعنى، فيكون إن أكل الكل أو واحدا (قد) عصى. كما كان في الأمر إن صنع واحدا أطاع. وقال وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) [الصافات] ومعناه «ويزيدون» ، ومخرجها في العربية أنك تقول: «لا تجالس زيدا أو عمرا أو خالدا» فإن أتى واحدا منهم أو كلّهم، كان عاصيا. كما أنّك إذا قلت: «اجلس الى فلان أو فلان أو فلان «فجلس الى واحد منهم أو كلّهم كان مطيعا. فهذا مخرجه من العربية. وأرى الذين قالوا: «إنّما» أو «بمنزلة الواو» إنّما قالوها رأوها في معناها. وأما وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فإنما يقول وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ عند الناس» ، ثم قال أَوْ يَزِيدُونَ «1» عند الناس» لأنّ الله تبارك وتعالى لا يكون منه شكّ. وقد قال قوم إنّما «أو» ها هنا بمنزلة «بل» «2» وقد يقول الرجل: «لأذهبنّ إلى كذا وكذا» ثم يبدو له بعد، فيقول «أو أقعد» فقال ها هنا وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ عند الناس «ثم قال أَوْ يَزِيدُونَ عند الناس» أي أن الناس لا يشكّون أنهم قد زادوا. والوجه الاخر هكذا، أي «فكذا حال الناس فيهم» أي: أن الناس يشكون فيهم. وكذا حال «أم» المنقطعة، ان شئت جعلتها على «بل» ، فهو مذهب حسن. وقال متمّم بن نويرة «3» [من الوافر وهو الشاهد السابع عشر] : فلو كان البكاء يردّ شيئا ... بكيت على جبير أو عفاق «4» على المرأين إذ هلكا جميعا ... بشأنهما وحزن واشتياق «5»

_ (1) . نقله في الجامع 15: 132 وأشرك معه الزجّاج. (2) . هو رأي الكوفيين بلا شرط (المغني 1: 64) «أو» الإنصاف (2: 254 م 67) وسيبويه بشرط تقدم نفي أو نهي، وإعادة العامل المصدر الاول. (3) . ترجمته في الأغاني (بولاق 14: 66) ، والشعر والشعراء 1: 254، ومعجم الشعراء 432، وخزانة الأدب 1: 234. (4) . رواية (مالك ومتمّم) ب «بجير» 124. (5) . رواية (مالك ومتمّم) ب «لشأنهما بشجو» 124.

وقال ابن أحمر «1» [من الطويل وهو الشاهد الثامن عشر] : فقلت البثي شهرين أو نصف ثالث ... إلى ذاك ما قد غيّبتني غيابيا «2» وأمّا قوله تعالى أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) [الصافات] . فان هذه الواو واو عطف كأنّهم قالوا: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) فقيل لهم: «نعم وآباؤكم الأوّلون» فقالوا أَوَآباؤُنَا، وقوله أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ [يس: 77] ، أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ [السجدة: 26] وأشباه هذا في القرآن كثير. فالواو مثل الفاء في قوله تعالى أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ [طه: 128] وقوله أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون: 68] وإن شئت جعلت هذه الفاآت زائدة. وإن شئت، جعلتها جوابا لشيء، كنحو ما يقولون «قد جاءني فلان» فيقول «أفلم أقض حاجته» ، فجعل هذه الفاء معلّقة بما قبلها. وأما قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [الآية 7] فإنّ الختم، ليس يقع على الأبصار. إنّما قال خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ ثم قال وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ مستأنفا. وقوله خَتَمَ اللَّهُ لأنّ ذلك، كان لعصيانهم الله، فجاز ذلك اللفظ، كما تقول: «أهلكته فلانة» إذا أعجب بها، وهي لا تفعل به شيئا، لأنه هلك في اتّباعها. أو يكون «ختم» حكم بها أنّها مختوم عليها. وكذلك فَزادَهُمُ اللَّهُ [الآية 10] على ذا التفسير، والله اعلم. ثم قال تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ [الآية 8] فجعل اللفظ واحدا، ثم قال وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [الآية 8] فجعل اللفظ جميعا، وذلك أنّ «من» اللفظ بها لفظ واحد، ويكون جميعا في المعنى، ويكون اثنين. فان لفظت بفعله على معناه، فهو صحيح. وإن جعلت فعله على لفظه واحدا، فهو صحيح وممّا جاء من ذلك قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ

_ (1) . هو عمرو بن أحمر الباهلي، انظر ترجمته في طبقات في الشعراء 1: 485، والشعر والشعراء 1: 356، وأمالي ابن الشّجري 1: 137، وخزانة الأدب 3: 38. (2) . شعر عمرو بن أحمد الباهلي 171 بلفظ (ألا فالبثا) و (إلى ذا كما ما) الخصائص 2: 317 ب (ألا فالبثا) وفي الأصل «قلت» بلا فاء، و (إلى ذاكما ما غيبتني) وبلا عزو، والصاحبي 128 بلا عزو، ب «فذلكما شهرين» و «إلى ذاكما ما غيبتني» .

لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس: 42] وقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ [يونس: 43] وقال: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ [الأحزاب: 31] فقال يَقْنُتْ فجعله على اللفظ، لأنّ اللفظ في مَنْ مذكّر وجعل تَعْمَلْ ونُؤْتِها على المعنى. وقد قرأ بعضهم: (ويعمل) «1» فجعله على اللفظ لأنّ لفظ مَنْ مذكّر. وقد قرأ بعضهم: (ومن تقنت) «2» فجعله على المعنى لأنه يعني امرأة. وهي حجّة على من قال: «لا يكون اللفظ في «من» على المعنى إلّا ان تكون «من» في معنى «الذي» ، فأمّا في المجازاة والاستفهام فلا يكون اللفظ في «من» على المعنى» . وقولهم هذا خطأ، لأنّ هذا الموضع الذي فيه (ومن تقنت) مجازاة. وقد قالت العرب «ما جاءت حاجتك» فأنّثوا «جاءت» لأنّها ل «ما» ، وإنّما أنّثوا، لان معنى «ما» هو الحاجة. وقد قالت العرب أو بعضهم «من كانت أمّك» فنصب وقال الشاعر «3» [من الطويل هو الشاهد التاسع عشر] : تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من، يا ذئب، يصطحبان «4» ويروى (تعال فإن) . وقد جعل (من) بمنزلة رجل. قال الشاعر «5» [من الرمل وهو الشاهد العشرون] :

_ (1) . معاني القرآن 2: 341 قراءة الأعمش وأبي عبد الرحمن السلميّ. تفسير الطبري 22: 1، 2 عامة قراء الكوفة. السبعة 521 قراءة حمزة والكسائي. الحجة لابن خالويه 264 بلا نسبة. الكشف 2: 196 كالسبعة والتيسير 179 كذلك. البحر 7: 228 أضاف السلميّ وابن وثاب. (2) . الجامع 14: 176 قراءة يعقوب. والبحر 7: 228 قراءة الجحدي والاسواري ويعقوب في رواية، وابن عامر في رواية، ورواها أبو حاتم عن أبي جعفر وشيبة ونافع. (3) . هو الفرزذق همّام بن غالب. [.....] (4) . في الأصل كلمة مطموسة تكاد تقرأ «لعنتم» وفي الهامش «نسخة تعشّ فإن» . وهو في ديوانه 2: 870، بلفظ «تعش» و «واثقتني» وفي الكتاب 1: 404 بلفظ تعال، وفي الكامل 1: 32 برواية الأخفش والمجاز 2: 41 «بتعلل» والصاحبي 173 ب «تعال» . (5) . هو سويد بن أبي كامل بن حارثة اليشكري.

ربّ من أنضجت غيظا صدره ... قد تمنّ لي شرّا لم يطع «1» فلولا أنّها نكرة بمنزلة «رجل» ، لم تقع عليها «ربّ» . وكذلك (ما) نكرة إلّا أنّها بمنزلة «شيء» . ويقال: إنّ قوله تعالى هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: 23] على هذا. جعل (ما) بمنزلة «شيء» ولم يجعلها بمنزلة «الذي» فقال: «ذا شيء لديّ عتيد» . وقال الشاعر «2» [من الخفيف وهو الشاهد الحادي والعشرون] : ربّ ما تكره النفوس من الأمر ... له فرجة كحلّ العقال «3» فلولا أنّها نكرة بمنزلة «من» لم تقع عليها «ربّ» . وقد يكون هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ على وجه آخر، أخبر عنهما خبرا واحدا كما تقول: «هذا أحمر أخضر» . وذلك أن قوما من العرب يقولون: «هذا عبد الله مقبل» . وفي قراءة ابن مسعود «4» (وهذا بعلي شيخ) «5» [هود: 72] كأنه أخبر عنهما خبرا واحدا، أو يكون كأنّه رفعه على التفسير، كأنه إذا قال: هذا ما لَدَيَّ، قيل: «ما هو» ؟ أو علم أنه يراد ذلك منه فقال عَتِيدٌ أي ما عندي عتيد. وكذلك (وهذا بعلي شيخ) . وقال الراجز «6» [وهو الشاهد الثاني والعشرون] : من يك ذا بتّ فهذا بتّي ... مقيّظ مصيّف مشتّي «7» وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النساء: 58] ف «ما» ها هنا اسم ليست له

_ (1) . ديوانه 30 بلفظ «قلبه» و «موتا» . (2) . هو أميّة بن أبي الصّلت، وقيل غيره انظر ديوان أمية بن أبي الصلت 585، حيث تجد التخريجات. (3) . ديوانه 444، بلفظ «تجزع» بدل «تكره» . (4) . هو عبد الله بن مسعود الصحابي الكبير، وله قراءات تفرّد بها وتوفي سنة 32 هـ (طبقات ابن خياط 16 وطبقات ابن سعد 3: 150 والمعارف 249 وتقريب التهذيب 1: 450) . (5) . وانظر لهذه القراءة معاني القرآن 2: 23، والمصاحف 63، والبحر 5: 244، وأضيف في الجامع 9: 70 أبيّ، ونسبت في المحتسب 1: 324 إلى الأعمش. (6) . هو رؤبة بن العجاج، انظر ديوانه 189. (7) . في الكتاب 1: 258، ومجاز القرآن 2: 247، والصحاح «بتت» بلفظ «كان» بدل يك في (قيظ) كذلك وفي (صيف) و «شتا» ب «يك» وفيها جميعها بلا نسبة.

صلة لأنّك إن جعلت يَعِظُكُمْ بِهِ صلة ل (ما) صار كقولك: «إنّ الله نعم الشيء» أو «نعم شيئا» فهذا ليس بكلام. ولكن تجعل (ما) اسما وحدها، كما تقول: «غسلته غسلا نعمّا» تريد به: «نعم غسلا» . فإن قيل: «هي بمنزلة» «يا أيّها الرّجل» لأنّ «أيّ» هاهنا اسم ولا يتكلم به وحده، وحتى يوصف فصار (ما) مثل الموصوف هاهنا. لأنك إذا قلت «غسلته غسلا نعمّا» فإنّما تريد المبالغة والجودة، فاستغني بهذا حتى تكلّم به وحده. ومثل «ما أحسن زيدا» (ما) هاهنا وحدها اسم، وقوله «إني ممّا أن أصنع كذا وكذا» (ما) ها هنا وحدها اسم، كأنّه قال تعالى: «إنّي من الأمر» أو «من أمري صنيعي كذا وكذا» وممّا جاء على المعنى قوله سبحانه كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الآية 17] لان «الذي» يكون للجميع، كما قال عز وجلّ وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) [الزّمر] . قال تعالى يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [الآية 9] ولا تكون المفاعلة إلّا من شيئين، فإنّه إنّما يقول: «يُخادِعُونَ اللَّهَ عند أنفسهم يمنّونها أن لا يعاقبوا وقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم» ذلك لحجّة الله الواقعة على خلقه بمعرفته. وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [الآية 9] وقال بعضهم يَخْدَعُونَ «1» كأنّه يقول: «يخدعون أنفسهم بالمخادعة لها» وبها نقرأ. وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة تقول: «باعدته مباعدة» و «جاوزته مجاوزة» في أشياء كثيرة. وقد قال وَهُوَ خادِعُهُمْ [النساء: 142] فذا على الجواب. يقول الرجل لمن كان يخدعه، إذا ظفر به «أنّا الذي خدعتك» ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. وكذلك وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] واللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الآية 51] على الجواب. والله لا يكون منه المكر

_ (1) . الطبري 1: 277 بلا عزو، وحجّة ابن خالويه 44، وفي السبعة 139 قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وفي حجّة الفارسي 233 كذلك، وفي التيسير 72 إلى الحرميين وأبي عمرو وفي الجامع 1: 196 إلى نافع وابن كثير وأبي عمرو، وفي البحر إلى الجمهور، وفي الكشف 1: 224 إلى غير ابن عامر والكوفيّين.

والهزء. والمعنى: أنّ المكر حاق بهم، والهزء صار بهم. وأمّا قوله سبحانه: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [الآية 10] فمن فخّم، نصب الزاي، فقال: فَزادَهُمُ «1» ومن أمال كسر الزّاي فقال: (زادهم) «2» لأنها من «زدت» أوّلها مكسور. فناس من العرب يميلون ما كان من هذا النحو، وهم بعض أهل الحجاز، ويقولون أيضا (ولمن خاف مقام ربّه) «3» و (فانكحوا ما طاب لكم من النّساء) «4» و (وقد خاب) «5» ولا يقولون (قال) ولا (زار) لأنّه يقول (قلت) و (زرت) فأوّله مضموم. فإنّما يفعلون هذا في ما كان أوّله من «فعلت» مكسورا إلّا أنّهم ينحون الكسرة كما ينحون الياء في قوله وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ [الإنسان: 21] . وقَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) [الشمس] «6» . ويقرأ جميع ذلك بالتفخيم وما كان من نحو هذا من بنات الواو، وكان ثالثا نحو وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) [الشمس] «7» ونحو وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) [الشمس] «8» فإنّ كثيرا من العرب يفخّمه، ولا يميله، لأنّها ليست بياء فتميل إليها، لأنّها من

_ (1) . نسبت في السبعة 140 إلى إسحاق وإلى عاصم في رواية، وفي 141 إلى الكسائي وأبي عمرو وابن كثير. وفي حجّة ابن خالويه 45 بلا نسبة. ونسبت في حجّة الفارسي 240 و 241 إلى ابن كثير وأبي عمرو، والكسائي وعاصم، وفي الكشف 1: 174 إلى القراء كلهم إلّا حمزة وابن ذكوان، وفي البحر 1: 59 نسب التفخيم للحجاز. (2) . نسبت في السبعة 139 إلى حمزة وابن عامر وبإشمام الإضجاع إلى نافع، وفي 140 بإشمام كسر قليل إلى إسحاق. وفي حجّة ابن خالويه 45 بلا نسبة، وفي حجّة الفارسي 239 إلى حمزة وابن عامر، وبإشمام الإضجاع إلى نافع وفي الكشف 1: 174 تفرّد بها حمزة، ووافقه ابن ذكوان، وفي البحر 1: 59 مثل ما في الكشف، ثم نسبت الإمالة لتميم. (3) . الرحمن 55: 46، ونسبت في السبعة إلى حمزة، وفي الكشف 1: 174 تفرّد حمزة بالإمالة، وكذلك في التيسير 50. (4) . النساء 4: 3 نسبت في السبعة إلى حمزة، وفي الكشف 1: 174 كذلك في البحر 3: 162 إلى ابن إسحاق والجحدري والأعمش، وحوّلها أبيّ في مصحفه إلى ياء، وفي التيسير 50 تفرّد حمزة بالإمالة. [.....] (5) . طه 20: 61 و 111، والشمس 91: 10 في الكشف 1: 174، والتيسير 50 تفرّد حمزة بالامالة. (6) . انظر الكشف 1: 181، و 2: 378 و 382، والتيسير 223. (7) . معاني القرآن 3: 266 وتفسير الطبري 30: 216 (البابي 2) والسبعة 688 و 689، وإعراب ثلاثين سورة 97، والكشف 1: 189 و 190، و 2: 378- 382، والتيسير 223. (8) . معاني القرآن وتفسير الطبري، وإعراب ثلاثين سورة، والكشف والتيسير وكلها كالسابق.

«طحوت» و «تلوت» . فإذا كانت رابعة فصاعدا أمالوا، وكانت الإمالة هي الوجه، لأنّها حينئذ قد انقلبت الى الياء. ألا ترى أنك تقول «غزوت» و «أغزيت» ومثل ذلك وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) [الشمس] «1» وقَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) [الأعلى] «2» ووَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) [الليل] «3» أمالها لأنّها رابعة، و «تجلّى» فعلت منها بالواو، لأنها من «جلوت» و «زكا» من «زكوت يزكو» ووَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) [الشمس] «4» من «الغشاوة» . وقد يميل ما كان منه بالواو نحو (تلاها) و (طحاها) ناس كثير «5» ، لأنّ الواو تنقلب الى الياء كثيرا، مثل قولهم في (حور) (حير) وفي «مشوب» «مشيب» وقالوا «أرض مسنيّة» إذا كان يسنوها المطر. فأمالوها الى الياء، لأنّها تنقلب إليها. وأمالوا كلّ ما كان نحو «فعلى» و «فعلى» نحو «بشرى» و «مرضى» و «سكرى» ، لان هذا لو ثنّي كان بالياء فمالوا إليها. وأمّا قوله تعالى بِما كانُوا يَكْذِبُونَ [الآية 10] ، وبها نقرأ. فيعني «يكذبون على الله وعلى الرسل» . جعل السياق «ما» والفعل اسما للمصدر، كما جعل «أن» والفعل اسما للمصدر في قوله «أحبّ أن تأتيني» ، وأمّا المعنى فإنّما هو «بكذبهم» و «تكذيبهم» . وأدخلت «كان» ، لتخبر أنه كان فيما مضى، كما تقول: «ما أحسن ما كان عبد الله» فأنت تتعجّب من عبد الله لا من «كونه» . وإنّما وقع التعجّب في اللفظ على كونه وبعضهم «6» قرأ: (بما

_ (1) . الكشف 1: 181، و 2: 378 و 382، والتيسير كالسابق. (2) . حجة ابن خالويه 340، والتيسير 221. (3) . السبعة 688 و 689، والكشف كالسابق، والتيسير 224. (4) . الكشف 1: 181، و 2: 378 و 382، والتيسير 223. (5) . لم نجد ما يدلّ على القبائل التي تقولها، ولكن عزي إلى قريش ومن جاورها من كنانة، إيثار الياء في الفعل المبني للمجهول من الأجوف الواوي، البحر 1: 61. (6) . الذي عليه رسم المصحف تخفيف الذال وهي القراءة المنسوبة في تفسير الطبري 1: 284 إلى أعظم قراء اهل الكوفة، وفي السبعة 141 إلى عاصم وحمزة والكسائي، وفي حجّة الفارسي 247، كذلك وفي الجامع 1: 198، كذلك وفي الكشف 1: 227، والتسير 72، أما في حجّة ابن خالويه 45، فبلا نسبة. أمّا «يكذبون» بالتضعيف فهي في تفسير الطبري 1: 284 قراءة أعظم قراء أهل المدينة والحجاز والبصرة وفي السبعة 141 قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر، وفي حجّة الفارسي 247 كذلك، وفي البحر 1: 60 قراءة الحرميين والعربيين. وفي الكشف 1: 227 والتيسير 72 قراءة غير الكوفيين، وفي حجّة ابن خالويه 45 فبلا نسبة

كانوا يكذّبون) على معنى يجحدون، لأن الجحود كفر. وقال فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94] وليس هذا في معنى «فاصدع بالذي تؤمر به» . لو كان هذا المعنى لم يكن كلاما حتى تجيء ب «به» ولكن «اصدع بالأمر» جعل «ما تؤمر» اسما واحدا. وقال لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا [آل عمران: 188] يقول «بالإتيان» يجعل «ما» و «أتوا» اسما للمصدر. وإن شئت قلت: «أتوا» ها هنا «جاءوا» كأنه يقول: «بما جاءوا» يريد «جاءوه» كما تقول «يفرحون بما صنعوا» أي «بما صنعوه» ومثل هذا في القرآن كثير. وتقديره «بكونهم يكذبون» ف «يكذبون» «1» مفعول ل «كان» كما تقول: «سرني زيد بكونه يعقل» أي: بكونه عاقلا. وأما قوله تعالى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ [الآية 11] فمنهم من يضمّ أوله، لأنّه في معنى «فعل» فيريد أن يترك أوله مضموما ليدل على معناه «2» ، ومنهم من يكسره، لأنّ الياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم والكسر القياس «3» . ومنهم من يقول في الكلام: «قد قول له» و «قد بوع المتاع» إذا أراد «قد بيع» و «قيل» . جعلها واوا حين ضمّ ما قبلها، لأنّ الياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم. ومنهم من يروم الضمّ في «قيل» مثل رومهم الكسر في «ردّ» ، لغة لبعض العرب ان يقولوا «ردّ» فيكسرون الراء ويجعلون عليها حركة الدال التي في موضع العين. وبعضهم لا يكسر الراء ولكنه يشمّها الكسر، كما يروم في «قيل» الضم. وقال

_ (1) . عاد إلى الكلام على الآية العاشرة. (2) . نسبت قراءة الضم في السبعة 141 إلى الكسائي، و 142 إلى ابن عامر وهشام بن عمار، وفي حجّة الفارسي 255 أغفل ابن عامر، وفي الكشف 1: 119 والتيسير 72 والبحر 1: 61، كذلك أضاف البحر أنّها لغة كثير من قيس وعقيل ومن جاور هم، وعامة بني أسد. وفي حجّة ابن خالويه 45 بلا نسبة. (3) . في السبعة 142، أنّها قراءة نافع وابن كثير وعاصم، ابن عمرو وحمزة، وفي حجّة الفارسي 255 و 256 بإضافة ابن عامر، وفي الكشف 1: 229 أنّها لغير هشام الكسائي وفي التيسير 72، والبحر 1: 61، وفي الأخير أنّها لغة قريش.

الفرزدق «1» [من الطويل وهو الشاهد الثالث والعشرون] : وما حلّ من جهل حبا حلمائنا ... ولا قائل المعروف فينا يعنّف «2» سمعناه ممّن ينشده من العرب هكذا. وأمّا قوله تعالى أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ [الآية 13] فقد قرأ هما قوم مهموزتين جميعا «3» ، قرءوا: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ «4» [الآية 6] وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] «5» وقرءوا أَإِذا «6» أَإِنَّا «7» كل هذا، يهمزون فيه همزتين وكل هذا، ليس كلام العرب، إلّا شاذا «8» . ولكن إذا اجتمعت همزتان شتّى ليس بينهما شيء فان إحداهما تخفّف في جميع كلام العرب إلّا في هذه اللغة الشاذة القليلة، وذلك أنّه إذا اجتمعت همزتان في كلمة

_ (1) . هو همّام بن غالب بن صعصعة، ترجمته في الأغاني (بولاق) 8: 186 و 19: 2، والشعر والشعراء 1: 471، وطبقات فحول الشعراء 2: 299. [.....] (2) . في الديوان 2: 561 ب (حل) ، و (قائل بالعرف) ، وفي الكتاب 2: 260 كرواية الأخفش، وفي اللسان «حبا» . (3) . في السبعة 137، أنّها قراءة نافع وفي 138 قراءة عاصم وحمزة والكسائي، والكشف 1: 76 الكوفيين وابن عامر، والبحر 1: 68 كذلك، والتيسير 34 لغير أبي عمرو والحرميين، وحجّة ابن خالويه 46، والجامع 1: 206 بلا نسبة. (4) . في السبعة 1: 135 قراءة عاصم، وحمزة والكسائي، إذا حقّق، وابن عامر وحجّة الفارسي 183، كذلك الجامع 1: 185، كذلك مع إهمال ابن عامر، وتحقيق الكسائي. وفي الكشف 1: 73 و 74 إلى اهل الكوفة وابن ذكوان، وفي التيسير 32 إلى غير الحرميين، ولا أبي عمرو أو ابن كثير أو قالون أو هشام 2، وفي حجة ابن خالويه 42 بلا نسبة. (5) . وفي الكشف 2: 212 إلى غير حمزة أو هشام. (6) . أ: الواقعة 56: 47، في السبعة 623 إلى ابن عامر، وفي 285 إلى الكسائي، وفي حجّة ابن خالويه 313 بلا نسبة، ب النازعات 79: 11 في السبعة 670 إلى الكسائي وعاصم وحمزة . (7) . أ: الواقعة 56: 47 في السبعة 633 إلى ابن عامر وفي 285 إلى الكسائي ونافع وفي الحجة بلا نسبة. ب. النازعات 79: 10 في السبعة 670 إلى الكسائي وعاصم وحمزة وفي الكشف 1: 75 إلى الكوفيين وابن عامر. (8) . في اللهجات والتراث 257، أنّ التحقيق لهجة غير الحجاز، وفي 258 هي لهجة قبائل شرق الجزيرة كتميم وغيرها، وفي 259 هي لهجة تميم، وتميم الرباب وغنى، وعكل، وأسد، وعقيل، وقيس، وبنو سلامة، من أسد.

واحدة، أبدلوا الاخرة منهما أبدا، فجعلوها، إن كان ما قبلها مفتوحا، ألفا ساكنة، نحو «آدم» و «آخر» و «آمن» وإن كان ما قبلها مضموما، جعلت واوا، نحو «أوزز» إذا أمرته ان يؤز، وإن كان ما قبلها مكسورا، جعلت ياء، نحو «ايت» وكذلك إن كانت الاخرة متحركة، بأي حركة كانت، والأولى مضمومة، او مكسورة، فالآخرة تتبع الأولى نحو «أن أفعل» من «أأب» فتقول «أووب» . ونحو «جاء» في الرفع والنصب والجر. فاما المفتوحة، فلا تتبعها الاخرة إذا كانت متحركة، لأنها لو تبعتها جعلت همزة مثلها. ولكن تكون على موضعها، فإن كانت مكسورة، جعلت ياء، وإن كانت مضمومة جعلت واوا، وان كانت مفتوحة جعلت أيضا واوا لأنّ الفتحة تشبه الألف. وأنت إذا احتجت إلى حركتها، جعلتها واوا، ما لم يكن لها أصل في الياء معروف، فهذه الفتحة ليس لها أصل في الياء فجعلت الغالب عليها الواو، نحو «آدم» و «أوادم» . فلذلك جعلت الهمزتان إذا التقتا، وكانتا من كلمتين شتّى، مخففة إحداهما، ولم يبلغ من استثقالهما، ان تجعلا مثل المجتمعتين في كلمة واحدة. ولأن اللتين في كلمة واحدة، لا تفارق إحداهما صاحبتها، وهاتان تتغيران عن حالهما وتصير كلّ واحدة منها على حالها أثقل منهما كلمتين لأنّ ما في الكلمتين: كلّ واحدة على حالها، فتخفيف الاخرة أقيس كما أبدلوا الاخرة حين اجتمعتا في كلمة واحدة، وقد تخفف الاولى. فمن خفف الاخرة في قوله كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا قال (السفهاء ولا) فجعل الألف في (ألا) واوا «1» . ومن خفّف الأولى، جعل الألف التي في (السفهاء) كالواو، وهمز ألف (ألّا) «2» . وأمّا أَأَنْذَرْتَهُمْ فإنّ الأولى لا تخفّف، لأنّها أوّل الكلام. والهمزة، إذا كانت أوّل الكلام لم تخفّف، لأن المخفّفة ضعفت، حتى صارت كالساكن، فلا يبتدأ بها. وقد

_ (1) . الكشف 1: 78. وفي التيسير 34 قراءة الحرميين وأبي عمرو وفي الجامع 1: 206 قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وفي البحر 1: 68 قراءة الحرميين وأبي عمرو. (2) . في السبعة 138 بإسقاط الأولى إلى أبي عمرو، وفي الجامع 1: 206. والبحر 1: 68 بلا نسبة.

قرأ بعض العرب: (ءاإذا) «1» و (ءاأنذرتهم) «2» «ءاأنا قلت لك كذا وكذا» ، فجعل ألف الاستفهام، إذا ضمت الى همزة، يفصل بينها وبينها بألف، لئلّا تجتمع الهمزتان. كل ذا قد قيل، وكل ذا قد قرأه الناس. وإذا كانت الهمزة ساكنة، فهي في لغة هؤلاء الذين يخفّفون، ان كان ما قبلها مكسورا ياء، نحو (أنبيهم بأسمائهم) «3» ونحو (نبّينا) «4» . وإن كان مضموما جعلوها واوا نحو «جونه» «5» ، وان كان ما قبلها مفتوحا جعلوه ألفا نحو «راس» و «فاس» . وإن كانت همزة متحرّكة بعد حرف ساكن، حرّكوا الساكن بحركة ما بعده، وأذهبوا الهمزة يقولون في «في الأرض» : (فلرض) «6» وفي ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ [الأعراف: 51] : «7» : (منلاه) «8» يحرّكون الساكن بالحركة التي كانت في الهمزة، أيّ حركة كانت، ويحذفون الهمزة. وإذا اجتمعت همزتان من كلمتين شتّى، والأولى مكسورة، والاخرة مكسورة، فأردت ان تخفّف الاخرة، جعلتها بين الياء الساكنة وبين الهمزة، لأنّ الياء الساكنة تكون بعد المكسورة، نحو «هؤلاء يماء الله» ، تجعل الاخرة بين بين والأولى محققة. وان كانت الاخرة مفتوحة، نحو «هؤلاء أخواتك» ، أو مضمومة، نحو «هؤلاء أمّهاتك» لم تجعل بين بين، وجعلت

_ (1) . أ: الواقعة 56: 47. وفي الحجة 313، بلا نسبة ب. النازعات 79: 11 (انظر ما سبق) . (2) . البقرة 2: 6 في السبعة 134 إلى أبي عمرو، وفي 135 في رواية إلى نافع. وفي حجّة الفارسي 183 إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وفي الكشف 1: 74 إلى أبي عمرو وقالون عن نافع وهشام عن ابن عامر، مع تخفيف الثانية. وفي التيسير 32 إلى قالون وهشام في رواية، وفي الجامع 1: 185 إلى ابن أبي إسحاق وفي البحر 1: 47 إلى ابن هشام، او ابن عباس وابن أبي إسحاق. (3) . البقرة 2: 33 وهي في السبعة 153 قراءة منسوبة إلى ابن عامر، وفي حجّة ابن خالويه 51 كذلك، وفي المحتسب 66 إلى الحسن، وفي شواذ ابن خالويه 4 إلى ابن أبي عبلة، وفي البحر 1: 149 بلا نسب، أمّا في المعاني 1: 26 فلم يعز قراءة. (4) . سورة يوسف 12: 36. (5) . في اللسان «جون» أنّ الفارسي، كان يفضّل ترك الهمز فيها. وفي المزهر 2: 276 أنّها لغة قريش. [.....] (6) . لم نجد من قرأ بهذا. (7) . ورد هذا التركيب في تسعة مواضع من القرآن الكريم، أوّلها الأعراف 7: 59، وآخرها المؤمنون 23: 32. (8) . لم نجد من قرأ بهذا.

ياء خالصة، لانكسار ما قبلها، لأنّك إنّما تجعل المفتوح، بين الألف الساكنة وبين الهمزة، والمضموم بين الواو الساكنة وبين الهمزة، إذا أردت بين بين، وهذا لا يثبت بعد المكسور. وإن كان الأوّل مهموزا أو غير مهموز، فهو سواء إذا أردت تخفيف الاخرة، ومن ذلك قولهم «مئين» و «مئير» في قول من خفّف. وإن كان الحرف مفتوحا، بعد همزة مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة، جعلت بين بين، لأن المفتوح تكون بعده الألف السّاكنة والياء الساكنة، نحو «البيع» ، والواو الساكنة نحو «القول» وهذا مثل يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ [النحل: 48] ووَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ [الحج: 65] «1» و (آاذا) و (آانا) إذا خففت الاخرة في كل هذا جعلتها بين بين. والذي نختاره تخفيف الاخرة إذا اجتمعت همزتان، إلّا أنّا نحقّقهما في التعليم كلتيهما، نريد بذلك الاستقصاء. وتخفيف الاخرة قراءة أهل المدينة، وتحقيقهما جميعا قراءة أهل الكوفة، وبعض أهل البصرة. ومن زعم أنّ الهمزة لا تتبع الكسرة إذا خففت وهي متحركة، وإنّما تجعل في موضعها، دخل عليه ان يقول «هذا قارو» و «هؤلاء قاروون» و (يستهزوون) «2» ، وليس هذا كلام من خفّف من العرب، وإنّما يقرءون (يستهزئون) و (قارئون) . وإذا كان ما قبل الهمزة مضموما، وهي مضمومة، جعلتها بين بين. وان كانت مكسورة أو مفتوحة، لم تكن بين بين، وما قبلها مضموم، لأن المفتوحة بين الألف الساكنة والهمزة، والمكسورة بين الياء الساكنة والهمزة. وهذا لا يكون بعد المضموم، ولكن تجعلها واوا بعد المضموم، إذا كانت مكسورة أو مفتوحة فتجعلها واوا خالصة لأنّهما يتبعان ما قبلهما نحو «مررت بأكمو» و «رأيت أكموا» و «هذا غلاموبيك» تجعلها واوا، إذا أردت التخفيف، إلّا أن تكون المكسورة مفصولة، فتكون على موضعها لأنها قد بعدت. والواو قد تقلب الى الياء مع هذا،

_ (1) . في الكشف 1: 75 أنّ التخفيف في الثانية قراءة الكوفيين، وابن ذكوان، وورش، وابن كثير وأنّ قالون وأبا عمرو، خفضا عن نافع، وخفض هشام عن ابن عامر، مع وضع ألف بين الهمزتين. (2) . ورد هذا التعبير في 14 موضعا من القرآن الكريم، أوّلها في الأنعام 6: 5، وآخرها في الأحقاف 46: 26.

وذلك نحو «هذا غلاميخوانك» و (لا يحيق المكر السيّئ يلّا) «1» . وإذا كانتا في معنى «فعل» ، والهمزة في موضع العين، جعلت بين بين، لأنّ الياء الساكنة تكون بعد الضمة، ففي «قيل» يقولون «قيل» ، ومثل ذلك «سيل» و «ريس» ، فيجعلها بين بين إذا خففت، ويترك ما قبلها مضموما. وأمّا «روس» فليست «فعل» ، وإنّما هي «فعل» ، فصارت واوا، لأنها بعد ضمة معها في كلمة واحدة. وقوله وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا [الآية 14] فأذهب الواو لأنه كان حرفا ساكنا لقي اللام وهي ساكنة، فذهبت لسكونه، ولم تحتج إلى حركته، لأنّ فيما بقي دليلا على الجمع. وكذلك كل واو ما قبلها مضموم تكون من هذا النحو. فإذا كان ما قبلها مفتوحا، لم يكن بد من حركة الواو، لأنك لو التقيتها لم تستدل على المعنى نحو اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [الآية 16] «2» وحرّكت الواو بالضم لأنك لو قلت «اشتر الضلالة» فألقيت الواو لم تعرف أنّه جمع، وإنّما حركتها بالضم لأنّ الحرف الذي ذهب من الكلمة مضموم، فصار يقوم مقامه. وقد قرأ قوم، وهي لغة لبعض العرب (اشتروا الضلالة) «3» لمّا وجدوا حرفا ساكنا، قد لقي ساكنا، كسروا كما يكسرون في غير هذا الموضع، وهي لغة شاذة. وأمّا قوله وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ [الآية 14] فإنّك تقول «خلوت الى فلان في حاجة» «4» كما تقول: «خلوت بفلان» إلّا أنّ «خلوت بفلان» له معنيان: أحدهما هذا، والاخر سخرت به. وتكون «إلى» في موضع «مع» نحو مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: 52] «5»

_ (1) . فاطر 35: 43. ونسبت في الكشف 2: 212 إلى حمزة، وفي التيسير 183 نسب تحويل الهمزة الثانية إلى ياء في الوقف، إلى حمزة او أبي عمرو، وعبارته لا توحي بتحديد ولا وضوح فيها. وعبارة الأخفش لا واو فيها، تحّولت إلى ياء قط. (2) . وضم الواو القراءة التي عليها الجمهور من القراء. السبعة 143، وحجّة الفارسي 277، والكشف 1: 275 والمشكل 1: 20، والجامع 1: 210، والبحر 1: 71. (3) . في الشواذ 2 إلى يحيى بن يعمر. وأضاف المحتسب 54 ابن أبي إسحاق وأبا السّمال، وأسقط الجامع 1: 210 أبا السّمال. وفي الكشف 1: 275، والمشكل 1: 20، والبحر 1: 71 بلا نسبة. (4) . في البحر 1: 68 قال الأخفش: «خلوت اليه» جعلته غاية حاجتي. (5) . وسورة الصف 61: 14 وفي اللسان (خلا) نقلت هذه الآراء كلها ونسبت إلى اللحياني.

كما كانت «من» في معنى (على) في قوله تعالى وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ [الأنبياء: 77] اي: على القوم، وكما كانت الباء في معنى «على» في قوله «مررت به» و «مررت عليه» . وفي كتاب الله عز وجل مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ [آل عمران: 75] يقول «على دينار» . وكما كانت «في» في معنى «على» نحو فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71] . ويقول «على جذوع النخل» . وزعم يونس «1» ان العرب تقول: «نزلت في أبيك» تريد «عليه» وتقول: «ظفرت عليه» أي «به» و «رضيت عليه» أي: «عنه» قال الشاعر «2» [من الوافر وهو الشاهد الرابع والعشرون] : إذا رضيت عليّ بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها وأما قوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) فهو في معنى «ويمدّ لهم» كما قالت العرب: «الغلام يلعب الكعاب» تريد «يلعب» «3» بالكعاب» وذلك أنهم يقولون «قد مددت له» و «أمددته» في غير في هذا المعنى، وهو قوله جلّ ثناؤه وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ [الطور: 22] وقال وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) [الكهف] . وقرأ بعضهم (مدادا) و (مدّا) من «أمددناهم» وتقول «مدّ النهر فهو مادّتها» و «أمدّ الجرح فهو ممدّ» . وقال يونس: «ما كان من الشرّ فهو «مددت» وما كان من الخير فهو «أمددت» «4» . فتقول كما فسرت له، فإذا أردت أنّك تركته قلت: «مددت له» «5» وإذا أردت أنك أعطيته، قلت: «أمددته» «6» .

_ (1) . هو أبو عبد الرحمن يونس بن حبيب الضبّي الإمام النحوي البصري، ولد سنة أربع وتسعين للهجرة، وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائة، انظر ترجمته في أخبار النحويّين 27، ومراتب النحويّين 21، وطبقات النحويين 51، وإنباه الرواة 4: 68، وبغية الوعاة 426. (2) . هو القحيف بن حمير بن سليم الندي العقلي. وانظر مجاز القرآن 2: 84 بلفظ «لعمر أبيك» ولا عزو، والكامل 2: 538 و 3: 824 معزوا إلى العامري، وأدب الكاتب 395 معزوّا إلى القحيف العقيلي، وشرح شواهد المغني 142 معزوّا إليه، كذلك وانظر شرح العيني 3: 282، والخزانة 4: 247. (3) . يلعب الثانية مستدركة من الهامش. (4) . في التكملة «مدد» قال يونس: ما كان من الخير فإنّك تقول: «أمددته» ، وما كان من الشر فإنّك تقول «مددته» وفي اللسان «مدد» العبارة نفسها تقريبا. [.....] (5) . في الأصل «مددت» والزيادة من الجامع 1: 209. (6) . في الجامع 1: 209 حكي عن الأخفش: مددت له إذا تركته، وأمددته إذا أعطيته.

وقوله تعالى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الآية 16] فهذا على قول العرب: «خاب سعيك» وإنّما هو الذي خاب، وإنّما يريد «فما ربحوا في تجارتهم» ومثله بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [الآية 177] إنّما هو «ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله» «2» وقال الشاعر «3» [من المتقارب وهو الشاهد الخامس والعشرون] : وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب «4» وقال الشاعر «5» [من الطويل وهو الشاهد السادس والعشرون] : وشرّ المنايا ميّت وسط أهله ... كهلك «6» الفتاة أسلم الحيّ حاضره «7» إنما يريد «وشر المنايا منية ميّت وسط أهله» ، ومثله: «أكثر شربي الماء» و «أكثر أكلي الخبز» وليس أكلك بالخبز ولا شربك بالماء. ولكن تريد أكثر أكلي أكل الخبز وأكثر شربي شرب الماء. قال تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] يريد: «أهل القرية» ، وَالْعِيرَ [يوسف: 82] أي: «واسأل اصحاب العير» . وقال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [الآية 171] فكأنّه يريد- والله أعلم- «مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به» . فحذف هذا الكلام، ودلّ ما بقي على معناه. ومثل هذا في القرآن كثير. وقد قال بعضهم وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ يقول «مثلهم في دعائهم الالهة كمثل الذي ينعق بالغنم» لان- آلهتهم لا تسمع ولا تعقل، كما لا تسمع الغنم ولا تعقل. وقوله تعالى

_ (1) . سبأ 34: 33. وفي إعراب القرآن 2: 880 والجامع 14: 302 عن الأخفش «هذا مكر الليل والنهار» . (2) . عبارة الكتاب 1: 108 نفسها. (3) . هو النابغة الجعدي أبو ليلى عبد الله بن قيس. (4) . شعر النابغة الجعدي 26، وفي الكتاب 1: 110 للمعنى نفسه، وفي مجالس ثعلب 77 ب «يصاحب» بدل «تواصل» ، وفي الأمالي 1: 192 ب «تصادق» وانظر اللسان «خلل» ، والصحاح «خلل» ، والإنصاف 1: 44. (5) . هو الحطيئة جرول بن أوس العبسي. (6) . في ديوان الحطيئة 45 بلفظ «هالك» بدل «ميت» ، و «ايقظ» بدل «أسلم» ، وفي الكتاب 1: 109 بلفظ «الفتى قد» بدل «الفتاة» . وكذلك في الإنصاف 1: 44. (7) . عبارة تكاد تطابق عبارة الكتاب 1: 109.

كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً [الآية 17] فهو في معنى «أو قد» ، مثل قوله «فلم يستجبه» أي «فلم يجبه» وقال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد السابع والعشرون] : وداع دعا يا من يجيب الى النّدى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي: «فلم يجبه» . قال تعالى وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) فكان (الذي) بمعنى جميعا فقال وَتَرَكَهُمْ لأن «الذي» في معنى الجميع، كما يكون «الإنسان» في معنى «الناس» . وقال تعالى وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) فرفع على تأويل: «هم صمّ بكم عمي» رفعه على الابتداء ولو كان على أوّل الكلام لكان النصب فيه حسنا. وأما حَوْلَهُ [الآية 17] فانتصب على الظرف، وذلك أنّ الظرف منصوب. والظرف هو ما يكون فيه الشيء، كما قال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد الثامن والعشرون] : هذا النهار بدا لها من همّها ... ما بالها بالليل زال زوالها نصب «النهار» على الظرف وإن شاء رفعه وأضمر فيه. وأما «زوالها» فإنه كأنه قال: «أزال الله الليل زوالها» . وأما يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [الآية 20] فمنهم من قرأ (يخطف) «3» من «خطف» ، وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف «4» . وقد رواها يونس (يخطّف) «5» بكسر الخاء لاجتماع

_ (1) . هو سعد بن كعب الغنويّ. والبيت في الأصمعيّات 96، وفي المجاز 1: 67 و 112 و 245 و 326، والصّحاح «جوب» ، والعجز في أدب الكاتب 419. (2) . هو الأعشى ميمون، وهو في الصبح المنير 22 يضم زوالها، واللسان «زول» . (3) . في الشواذ 3 نسبت إلى ابن مالك ومجاهد. وفي المحتسب 62 إلى مجاهد والحسن. وفي الجامع 1: 222 إلى يونس وعلي بن الحسين ويحيى بن وثاب وفي البحر 1: 89 إلى مجاهد وعلي بن الحسين ويحيى بن زيد. (4) . في الصحاح «خطف» بعبارة مقاربة ونقلها الجامع 1: 222. (5) . في معاني القرآن 1: 17 بلا نسبة، وفي الشواذ 3، والمحتسب 59، كذلك وفي الجامع 1: 222 إلى الحسن، وقتادة، وعاصم الجحدري، وأبي رجاء العطاردي. [.....]

الساكنين. ومنهم من قرأ (يخطف) «1» على «خطف يخطف» وهي الجيدة «2» ، وهما لغتان. وقال بعضهم (يخطّف) «3» وهو قول يونس من «يختطف» ، فأدغم التاء في الطاء، لأنّ مخرجها قريب من مخرج الطاء. وقال بعضهم (يخطّف) فحوّل الفتحة على الذي كان قبلها «4» ، والذي كسر، كسر لاجتماع الساكنين، فقال (يخطّف) «5» ومنهم من قال (يخطّف) «6» كسر الخاء لاجتماع الساكنين ثم كسر الياء، أتبع الكسرة وهي قبلها وذلك في كلام العرب كثير، فهم يتبعون الكسرة في هذا الباب الكسرة، يقولون «قتلوا» و «فتحوا» يريدون: «اقتلوا» و «افتحوا» «7» . وقال ابو النجم «8» [من الرجز وهو الشاهد التاسع والعشرون] : تدافع الشّيب ولم تقتّل «9» وسمعناه من العرب مكسورا كلّه، فهذا مثل «يخطف» إذا كسرت ياؤها (لكسرة خائها) وهي بعدها فأتبع الاخر الاول. وقوله تعالى وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ [الآية 20] فمنهم، من يدغم

_ (1) . في السبعة 146 هي اتفاق، وحجّة الفارسي 294 كذلك. (2) . في الصحاح «خطف» بعبارة مقاربة، وفي الجامع 1: 222 كذلك. (3) . في معاني القرآن 1: 18، والجامع 1: 222 بلا نسبة. (4) . في معاني القرآن 1: 18 بلا نسبة، وفي الشواذ 3 إلى الأعمش، وفي البحر 1: 90 إلى الحسن والجحدري وابن أبي إسحاق، وفي الجامع 1: 222 إلى الحسن وحده، وفي اللسان (خطف) اليه ايضا. (5) . وفي الشواذ 3 بلا نسبة، وفي الجامع 1: 222 إلى الحسن أيضا وقتادة وعاصم الجحدري وأبي رجاء العطاردي، وفي البحر 1: 90 كذلك. (6) . في معاني القرآن 1: 17 بلا نسبة، وفي الشواذ 3 إلى الأعمش، وفي المحتسب 59 بلا نسبة، وفي الجامع 1: 222 بلا نسبة، وفي البحر 1: 90 إلى الحسن والأعمش، وفي إعراب القرآن 1: 25 بلا نسبة. وفي اللسان «خطف» إلى الحسن. (7) . قياسا على الشاهد الشعري اللاحق يبدو أنّ هذه لغة عجلية أو نجديّة كما يوحي هامش 3/ هـ 820 من الكامل للمبرّد. (8) . هو أبو النجم الفضل بن قدامة العجلي. طبقات الشعراء 2: 737، الشعر والشعراء 603، ومعجم المرزباني 180، والكامل للمبرّد 3: 819، والأغاني (بولاق) 9: 77. (9) . في اللسان (فلل) ب «تدافع الشيب ولم تقتل» وفي «فلن» تدافع الشّيب ولم تقتّل. وفي المقاصد النحوية 4: 228 بلا شكل. والخزانة 1: 401 كذلك.

ويسكن الباء الاولى لأنهما حرفان مثلان «1» . ومنهم، من يحرّك فيقول (لذهب بّسمعهم) «2» وجعل «السمع» في لفظ واحد، وهو جماعة، لأنّ «السمع» قد يكون جماعة و «قد يكون واحدا، ومثله قوله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [الآية 7] ومثله قوله تعالى لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [ابراهيم: 43] وقوله تعالى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً [القمر: 45] ومثله وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [النساء: 4] . وقوله فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً [الآية 22] فقطع الألف، لأنه اسم تثبت الألف فيه في التصغير، فإذا صغّرت قلت: «أنيدادا» . وواحد «الأنداد» : ندّ. و «الندّ» : المثل. وقوله تعالى الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [الآية 24] ف «الوقود» : الحطب. و «الوقود» الاتّقاد وهو الفعل. يقرأ الْوَقُودِ «3» و (الوقود) «4» ويكون أن يعني بها الحطب، ويكون أن يعني بها الفعل. ومثل ذلك «الوضوء» وهو: الماء، و «الوضوء» وهو الفعل، وزعموا أنهما لغتان في معنى واحد «5» . وقوله تعالى: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الآية 25] فجرّ «جنات» وقد وقعت عليها «أنّ» ، لأنّ كلّ جماعة في آخرها تاء زائدة، تذهب في الواحد، وفي تصغيره، فنصبها جرّ، ألا ترى أنّك تقول: «جنّة» فتذهب التاء. وقال أيضا خَلْقِ السَّماواتِ [الأنعام: 1] «6» و «السماوات» جرّ،

_ (1) . في السبعة 116 أنّه مذهب أبي عمرو. (2) . في السبعة 113 أنّه مذهب نافع، و 115 مذهب ابن كثير، و 116 مذهب عاصم، و 122 مذهب حمزة، و 123 مذهب الكسائي وابن عامر. (3) . قراءة الفتح في الجامع 1: 236 بلا نسبة، وفي الإملاء 1: 25 إلى الجمهور، وفي البحر 1: 107 إلى الجمهور . (4) . قراءة الضّمّ في الشواذ 4 إلى مجاهد وطلحة، وفي الجامع 1: 236 أضاف الحسن، وفي البحر 1: 107 زاد الحسن باختلاف، ثم أبا حياة، وعيسى بن عمر الهمداني. (5) . في إعراب القرآن 1: 30 نقل السراي، وأشار إلى اللغتين أيضا ولم يعز هما، وفي الصّحاح «ووضئ» نقل عبارة الأخفش بنصّها تقريبا، وذكره، ويقرب من ذلك ما في الجامع 1: 236، ولم نعثر على معاد كلّ من اللغتين، وإن كان ما في اللهجات العربية 191- 196 يشير إلى أنّ الضّمّ سمة من سمات لهجة البدو وتميم، وأن الفتح سمة لهجة الحضر وأهل الحجاز. [.....] (6) . ورد هذا التعبير في القرآن الكريم مرات كثيرة، أوّلها الانعام 6: 1 انظر المعجم المفهرس «الأرض» .

و «الأرض» نصب، لأنّ التاء زائدة. ألا ترى أنك تقول: «سماء» ، ووَ قالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا [الأحزاب: 67] «1» لان هذه، ليست تاء، إنّما هي هاء، صارت تاء بالاتصال، وإنّما تكون تلك في السكوت، ألا ترى أنّك تقول: «رأيت ساده» فلا يكون فيها تاء. ومن قرأ (أطعنا ساداتنا) «2» جرّ لأنّك إذا قلت: «ساده» ذهبت التاء. وتكون في السكت فيها تاء، تقول: «رأيت سادات» ، وإنّما جرّوا هذا في النصب، ليجعل جرّه ونصبه واحدا، كما جعل تذكيره في الجر والنصب واحدا، تقول: «مسلمين و «صالحين» نصبه وجره بالياء. وقوله تعالى بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور: 27] ولا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ [الحجرات: 2] فإن التاء من اصل الكلمة تقول «صوت» و «صويت» فلا تذهب التاء، و «بيت» و «بويت» فلا تذهب التاء. وتقول: «رأيت بويتات العرب» فتجرّ، لأن التاء الاخرة زائدة، لأنّك تقول: «بيوت» ، فتسقط التاء الاخرة. وتقول: «رأيت ذوات مال» لأن التاء زائدة، وذلك لأنك لو سكتّ على الواحدة لقلت: «ذاه» ولكنها وصلت بالمال فصارت تاء لا يتكلّم بها إلا مع المضاف اليه. وقوله تعالى هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [الآية 25] لأنه في معنى «جيئوا به» ، وليس في معنى «أعطوه» . فأمّا قوله: مُتَشابِهاً فليس أنّه أشبه بعضه بعضا، ولكنّه متشابه في الفضل. أي: كل واحد له من الفضل في نحوه، مثل الذي للآخر في نحوه. وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ [الآية 26] ف «يستحيي» لغة أهل الحجاز «3» بياءين وبنو تميم يقولون

_ (1) . الأحزاب 33: 67 وفي الطبري 22: 50 إلى عامّة قرّاء الأمصار، وهي الراجحة وفي السّبعة 523 إلى غير ابن عامر، وفي حجّة ابن خالويه 265 بلا نسبة، وفي الكشف 2: 199 مثل السبعة، وكذلك في التيسير 179، وفي البحر 7: 252 إلى الجمهور، وفي الكشاف 3: 562 بلا نسبة. (2) . في معاني القرآن 2: 350 إلى الحسن، وكذلك في الطبري 22: 50، وهي المرجوحة، وفي السبعة 523 إلى ابن عامر وحده، وفي حجة ابن خالويه 265 بلا نسبة، وفي الكشف 2: 199 إلى ابن عامر، وكذلك في التيسير 179، وفي الجامع 14: 249 إلى الحسن، وفي الكشّاف 3: 562 بلا نسبة، وفي البحر 7: 252 إلى الحسن وأبي رجاء وقتادة والسلمي وابن عامر، والعامة في الجامع في البصرة. (3) . البحر 1: 120 لغة الحجاز وهي قراءة الجمهور. وانظر اللهجات العربية 151 و 545، والقراآت واللهجات 37 ولهجة تميم 56.

«يستحي» بياء واحدة «1» ، والأولى هي الأصل، لأنّ ما كان من موضع لامه معتلا، لم يعلّوا عينه. ألا ترى أنّهم قالوا: «حييت» و «جويت» فلم تعلّ العين. ويقولون: «قلت» و «بعت» فيعلّون العين، لمّا لم تعتلّ اللام، وإنّما حذفوا لكثرة استعمالهم هذه الكلمة، كما قالوا «لم يك» و «لم يكن» و «لا أدر» و «لا أدري» . وقال تعالى مَثَلًا ما بَعُوضَةً [الآية 26] «2» لأن «ما» زائدة في الكلام، وإنّما هو «إنّ الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا» . وناس من بني تميم يقولون (مثلا مّا بعوضة) «3» يجعلون (ما) بمنزلة «الذي» ويضمرون «هو» كأنهم قالوا: «لا يستحيي أن يضرب مثلا، الذي هو بعوضة» يقول: «لا يستحي أن يضرب الذي هو بعوضة، مثلا» . وقوله تعالى فَما فَوْقَها [الآية 26] قال بعضهم: «أعظم منها» وقال بعضهم: كما تقول: «فلان صغير» فيقول: «وفوق ذلك» يريد: «أصغر من ذلك» . وقوله تعالى ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [الآية 26] فيكون «ذا» بمنزلة «الذي» . ويكون «ماذا» اسما واحدا، إن شئت بمنزلة «ما» ، كما قال تعالى: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [النحل: 30] فلو كانت «ذا» بمنزلة «الذي» ، لقالوا «خير» ، ولكان الرفع وجه الكلام. وقد يجوز فيه النصب، لأنّه لو قال: «ما الذي قلت» ، فقلت «خيرا» أي: «قلت خيرا» ، لجاز. ولو قلت: «ما قلت» :

_ (1) . في الشواذ 4 قراءة ابن محيصن وابن كثير، بخلاف وفي الجامع 1: 242 أضاف أنّها لغة تميم وبكر بن وائل، ولم يذكر الخلاف. وفي البحر 1: 121 قراءة ابن كثير في رواية شبل وابن محيصن ويعقوب، وهي لغة بن تميم، وفي الكشاف 1: 114 اقتصر على قراءة ابن كثير في رواية شبل، وذكر اللغتين ولم ينسبهما. وفي الإملاء 1: 26 عدّها شذوذا ولم ينسبها. وانظر اللهجات العربية 151 و 545، والقراآت واللهجات 37، ولهجة تميم 56. وفي الصحاح «حيا» نقلت عبارة الأخفش بنصّها تقريبا. (2) . في معاني القرآن 1: 21 و 22 لم تنسب قراءة، وكذلك المشكل 24، وفي البحر 1: 22 قراءة الجمهور. (3) . في معاني القرآن 1: 22، علّل الرفع ولم ينسبه قراءة وفي المجاز 1: 35 أنّها قراءة رؤبة وأنّها لغة تميمية، وفي الشواذ 4 نسب الرفع قراءة إلى رؤبة بن العجاج، وفي المحتسب 1: 64 كذلك. وفي المشكل 24، لم ينسب قراءة، وفي الجامع 1: 243 نسب قراءة إلى الضّحّاك وابراهيم بن أبي عبلة ورؤبة، وقال إنها لغة تميم، وفي البحر 1: 123 أضيف قطرب أيضا. وفي الكشاف 1: 115 إلى رؤبة قراءة وفي الإملاء 1: 26 عدّت شذوذا بلا عزو.

هذا باب من المجاز

«فقلت» : «خير» أي: «الذي قلت خير» ، لجاز غير أنّه ليس على اللفظ الأول، كما يقول بعض العرب، إذا قيل له: «كيف أصبحت» ؟ قال: «صالح» أي: «أنا صالح» . ويدلّك على أنّ «ماذا» اسم واحد، قول الشاعر «1» [من الوافر وهو الشاهد الثلاثون] : دعي ماذا عملت، سأتّقيه ... ولكن بالمغيّب نبّئيني فلو كانت «ذا» ها هنا بمعنى (الذي) لم يكن كلاما. وأمّا قوله تعالى عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [الآية 27] ف «أن يوصل» بدل من الهاء، في «به» كقولك «مررت بالقوم بعضهم» . وأمّا «ميثاقه» ، فصار مكان «التوثّق» ، كما قال تعالى أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) [نوح] والأصل «إنباتا» ، وكما قال «العطاء» في مكان «الإعطاء» . وقوله تعالى وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الآية 28] فإنّما يقول كنتم ترابا ونطفا فذلك ميّت. وهو سائغ في كلام العرب، تقول للثوب: «قد كان هذا قطنا» و «كان هذا الرّطب بسرا» . ومثل ذلك، قولك للرجل: «اعمل هذا الثوب» إنّما معك غزل. هذا باب من المجاز وأمّا قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ [الآية 29] وهو إنما ذكر سماء واحدة، فهذا لأنّ ذكر «السماء» ، قد دلّ عليهنّ كلّهنّ. وقد زعم بعض المفسّرين، أنّ «السماء» جميع، مثل «اللبن» . فما كان لفظه لفظ الواحد، ومعناه الجماعة، جاز أن يجمع، فقال فَسَوَّاهُنَّ فزعم

_ (1) . في الكتاب 1: 405 بلا عزو، ولم يعزه الأعلم في الهامش وفي المقاصد النحوية 1: 191 معزوّا إلى سحيم بن وثيل الرياحي، وروي عن الأصمعي أنّه لأبي زبيد الطائي، والى المثقّب العبدي عائذ بن محصن بن ثعلبة، وفي 1: 488 معزوا إلى سحيم بن وثيل الرّياحي. وفي الخزانة 2: 554 ش 444، أنّه مجهول القائل، وأنكر ما زعمه العيني في المقاصد عن عزوه الى المثقب وفي شرح شواهد المغني «ما» بلا عزو. وفي «أما» معزوّا إلى المثقّب العبدي وفي الدر 1: 60 إنكار نسبته إلى المثقّب، ولا وجود له في شعر المثقب العبدي. وفي اللسان (أبي) منسوبا إلى أبي حية النميري، وقبله: أبا لموت الذي لا بدّ أنّي ... ملاق، لا أباك تخوّفيني وورد صدره في التمام 52، وشذور الذهب 328 بلا عزو.

بعضهم، أنّ قوله السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزّمّل: 18] جمع مذكر ك «اللّبن» . ولم نسمع هذا من العرب، والتفسير الأول جيد. وقال يونس «1» : السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ذكر كما يذكر بعض المؤنث، كما قال الشاعر «2» [من المتقارب وهو الشاهد الحادي والثلاثون] : فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها وقوله «3» [من المتقارب وهو الشاهد الثاني والثلاثون] : فإمّا تري لمّتي بدّلت ... فإنّ الحوادث أودى بها وقد تكون «السماء» ، يريد به الجماعة، كما تقول: «هلك الشاة والبعير» ، يعني كل بعير، وكل شاة. وكما قال تعالى خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12] أي: من الأرضين. وأمّا قوله جل جلاله اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [الآية 29] ، فإنّ ذلك لم يكن من الله تبارك وتعالى لتحوّل، ولكنه يعني فعله، كما تقول: «كان الخليفة في أهل العراق يوليهم ثم تحوّل الى أهل الشام» انما تريد «4» تحوّل فعله. وأمّا قوله سبحانه، حكاية على لسان الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الآية 30] ، فلم يكن ذلك إنكارا منهم، على ربّهم، إنّما سألوا ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم، أنّهم يسبّحون ويقدّسون. أو قالوا ذلك، لأنّهم كرهوا أن يعصى الله، لأنّ الجنّ، قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت. وأما قوله تعالى نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ

_ (1) . هو يونس بن حبيب وقد مرت ترجمته قبلها. (2) . هو عامر بن الجوين الطائي، الكتاب 1: 420، ومجاز القرآن 2: 67، والمذكّر والمؤنث للمبرّد 112، وجاء برواية «أبقلت» ووصف همزة «إبقالها» في المقاصد 2: 464، وجاء منسوبا إلى الخنساء في شواهد العامليّ 150. (3) . هو الأعشى ميمون بن قيس، والبيت في الصبح المنير 120 بلفظ «فإمّا تريني ولي لمّة» و «ألوى» بدل «أودى» . وهو في الكتاب 1: 339 بلفظ رواية الأخفش، وفي مجاز القرآن 1: 267 بلفظ «فإن تعهديني ولي لمة» ، وفي معاني القرآن 1: 128 بلفظ: «فإن تعهدي لامرئ لمة» و «أزري» بدل «ألوى» . وفي المذكّر والمؤنّث للمبرّد 112 بلفظ «فإن تبصريني» ، وفي شرح القصائد السبع الطوال 405، بلفظ معاني القرآن. (4) . في الأصل: يريد بالياء.

هذا باب الاستثناء

وَنُقَدِّسُ لَكَ [الآية 30] ، وقال وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: 5] وقال أيضا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر: 3] فذلك لان الذكر كلّه، تسبيح وصلاة. تقول: «قضيت سبحتي من الذكر والصلاة» فقال «سبّح بالحمد» . أي: «لتكن سبحتك بالحمد لله» . وقوله تعالى أَتَجْعَلُ فِيها جاء على وجه الإقرار كما قال الشاعر «1» [من الوافر وهو الشاهد الثالث والثلاثون] : ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح أي: أنتم كذلك. وقوله جلّ شأنه الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ [الآية 31] ، فيريد عرض عليهم أصحاب الأسماء، ويدلّك على ذلك قوله أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [الآية 31] ، فلم يكن ذلك، لأنّ الملائكة ادّعوا شيئا، إنما أخبر عن جهلهم بعلم الغيب، وعلمه بذلك، وفعله، فقال تعالى: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) أي كما يقول الرجل للرجل: «أنبئني بهذا إن كنت تعلم» ، وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهل. فأعظموه عند ذلك، فقالوا: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا [الآية 32] بالغيب على ذلك. ونحن نعلم أنه لا علم لنا بالغيب» ، إخبارا عن أنفسهم، بنحو ما خبّر الله عنهم. وقوله سبحانه سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا فنصب «سبحانك» لأنه أراد «نسبّحك» ، جعله بدلا من اللفظ بالفعل، كأنه قال: «نسبّحك بسبحانك» ، ولكن «سبحان» مصدر لا ينصرف. و «سبحان» في التفسير: براءة وتنزيه قال الشاعر «2» [من السريع وهو الشاهد الرابع والثلاثون] : أقول لمّا جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر يقول: براءة منه. هذا باب الاستثناء وقوله تعالى فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [الآية 34] ، فانتصب، لأنّك شغلت

_ (1) . هو جرير بن عبد الله بن الخطفي، والبيت في ديوانه 1: 89، ومجاز القرآن 1: 35 و 184 و 2: 118 و 150. (2) . هو الأعشى ميمون بن قيس والبيت في الصبح المنير 106 بلفظ «فجره» ، و «الفاجر» في الكتاب 1: 163 كما في رواية الأخفش، وفي مجاز القرآن 1: 36 و 132 كذلك. [.....]

هذا باب الدعاء

الفعل بهم عنه، فأخرجته من الفعل من بينهم. كما تقول: جاء القوم إلّا زيدا» ، لأنّك لمّا جعلت لهم الفعل، وشغلته بهم، وجاء غيرهم، شبّهته بالمفعول به بعد الفاعل، وقد شغلت به الفعل. هذا باب الدعاء وهو قوله تعالى يا آدَمُ اسْكُنْ [الآية 35] ويا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ [الآية 33] ويا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ [الأعراف: 104] فكلّ هذا إنّما ارتفع، لأنّه اسم مفرد، والاسم المفرد مضموم في الدعاء، وهو في موضع نصب، ولكنه جعل كالأسماء التي ليست بمتمكّنة. فإذا كان مضافا انتصب لأنه الأصل. وإنّما يريد «أعني فلانا» و «أدعو» ، وذلك مثل قوله تعالى يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا [يوسف: 11] ورَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] ، إنّما يريد: «يا ربّنا ظلمنا أنفسنا» وقوله رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [الآية 127] . هذا باب الفاء قوله سبحانه وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [الآية 35] فهذا الذي يسميه النحويون «جواب الفاء» . وهو ما كان جوابا للأمر والنهي، والاستفهام، والتمنّي، والنفي، والجحود. ونصب ذلك كلّه، على ضمير «1» «أن» ، وكذلك الواو. وإن لم يكن معناها مثل معنى الفاء. وإنما نصب هذا، لأنّ الفاء والواو من حروف العطف، فنوى المتكلم أن يكون ما مضى من كلامه اسما، حتى كأنه قال «لا يكن منكما قرب الشجرة» ، ثم أراد أن يعطف الفعل اسما، على اسم، وهذا تفسير جميع ما انتصب من الواو والفاء. ومثل ذلك قوله جلّ شأنه لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [طه: 61] » ، هذا جواب النهي ولا يُقْضى عَلَيْهِمْ

_ (1) . أي على إضمار «أن» ، وكثيرا ما استعمل الأخفش هذه الكلمة بهذا المعنى. (2) . وكتابتها في المصحف كما أثبت، ولكنّها جاءت في الأصل والكتاب 1: 421 بفتح الياء والحاء. وقد استشهد بها لجواز الجزم والنصب، وفي الجامع 11: 215 أنّ ضم الياء وكسر الحاء قراءة الكوفيّين، وهي لغة تميم وأنّ فتح الياء والحاء قراءة سائر الآخرين، وهي لغة أهل الحجاز.

فَيَمُوتُوا [فاطر: 36] جواب النفي. والتفسير ما ذكرت لك. وقد يجوز، إذا حسن، أن تجري الاخر على الأوّل، أن تجعله مثله، نحو قوله تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) [القلم] أي: «ودّوا لو يدهنون» . ونحو قوله تعالى وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ [النساء: 102] جعل الأول فعلا، ولم ينو به الاسم، فعطف الفعل على الفعل، وهو التمني، كأنه قال «ودّوا لو تغفلون ولو يميلون» وقال تعالى: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) [المرسلات] أي «ولا يؤذن لهم ولا» يعتذرون» . وما كان بعد هذا، جواب المجازاة بالفاء والواو، فإن شئت أيضا نصبته على ضمير «أن» ، إذا نويت بالأوّل، أن تجعله اسما، كما قال أيضا: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ [الشورى: 33] أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ [الشورى] فنصب «1» ، ولو جزمه على العطف كان جائزا «2» ، ولو رفعه على الابتداء، جاز أيضا «3» . وقال تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ [الآية 284] فتجزم فَيَغْفِرُ، إذا أردت العطف «4» ، وتنصب إذا أضمرت «إن» ، ونويت أن يكون الأوّل اسما «5» ، وترفع

_ (1) . في الطبري 25: 135، قرّاء الكوفة والبصرة، وفي السبعة 581 الى ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي، وفي الكشف 2: 251، والتيسير 195 والجامع 16: 34، إلى غير نافع وابن عامر، وفي البحر 7: 521 إلى الجمهور، وفي معاني القرآن 3: 24، وحجّة ابن خالويه 293 بلا نسبة. (2) . في معاني القرآن 3: 24، والكشّاف 4: 227، والبحر 7: 521 بلا عزو. (3) . نسبت قراءة الرفع إلى عامّة قراء المدينة. الطبري 25: 35، وفي السبعة 581، والكشف 2: 251، والتيسير 195، والجامع 16: 33، إلى نافع وابن عامر وفي البحر 7: 521 زاد الأعرج، وأبا جعفر، وشيبة وزيد بن علي ولم ينسبه في معاني القرآن 3: 24، ولا حجّة ابن خالويه 293. (4) . في السبعة 195 نسبت إلى ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وحمزة، والكسائي، وفي الكشف 1: 323 إلى غير ابن عامر وعاصم وفي التيسير 85 كالسبعة والجامع 3: 424 كذلك وفي البحر 2: 360 إلى غير ابن عامر وعاصم ويزيد ويعقوب وسهل وفي حجّة ابن خالويه 80 بلا عزو. (5) . في الجامع 3: 424 نسبت إلى ابن عباس، والأعرج، وأبي العالية، وعاصم الجحدري، في رواية وفي البحر 360 إلى ابن عباس والأعرج وابن حياة. وفي حجّة ابن خالويه 80، بلا نسبة.

على الابتداء «1» وكلّ ذلك من كلام العرب وقال تعالى: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 14] ثم قال وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ [التوبة: 15] فرفع وَيَتُوبُ لأنّه كلام مستأنف ليس على معنى الاول. ولا يريد «قاتلوهم: «يتب الله عليهم» ولو كان هذا لجاز فيه الجزم لما ذكرت وقال الشاعر «2» [من الوافر وهو الشاهد الخامس والثلاثون] : فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشّهر الحرام ونمسك بعده بذناب عيش ... أجبّ الظهر ليس له سنام فنصب «ونمسك» على ضمير «أن» ، ونرى أن يجعل الأوّل اسما، ويكون فيه الجزم أيضا على العطف، والرفع على الابتداء. قال الشاعر «3» [من الطويل وهو الشاهد السادس والثلاثون] : ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلوم مجرّا ومسحبا «4» ومن يغترب عن قومه لا يجد له ... على من له رهط حواليه مغضبا «5» وتدفن منه المحسنات وإن يسئ ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا «6» ف «تدفن» يجوز فيه الوجوه كلها. قال الشاعر «7» [من الطويل وهو الشاهد السابع والثلاثون] :

_ (1) . في السّبعة 195 إلى عاصم وابن عامر، وفي الكشف 1: 323، والتيسير 85 والجامع 3: 424 كذلك، وزاد في البحر 2: 360 يزيدا ويعقوب وسهلا. (2) . هو النابغة الذبياني وهما في ديوانه 231 و 232، بلفظ الأخفش عينه. (3) . الأعشى ميمون بن قيس. (4) . الأبيات في الصبح المنير 85، وقد جاءت مرتّبة بتوسّط هذا البيت لا بتقدمه. وبلفظ «ويحطم بظلم لا يزال يرى له» ، وانظر الصحاح «كبكب» ، واللسان «زيب» و «كبكب» ، وتاج العروس «زيب» . (5) . بلفظ «متى» بدل «ومن» . وفي الكتاب 1: 449 كما عند الأخفش وفي إعراب الزجّاج 3: 906 كذلك. (6) . بلفظ «المحسنات» بدل «الصالحات» ، وكذلك في الكتاب 1: 449، ومعاني القرآن 2: 290، وإعراب الزجّاج 3: 906. (7) . هو النابغة الذبياني. [.....]

فإن يرجع النّعمان نفرح ونبتهج ... ويأت معدّا ملكها وربيعها «1» وإن يهلك النّعمان تعر مطيّة ... وتخبأ في جوف العياب قطوعها «2» وقال تبارك وتعالى وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة: 95] فهذا لا يكون إلّا رفعا، لأنّه الجواب الذي لا يستغنى عنه. والفاء إذا كانت جواب المجازاة، كان ما بعدها أبدا مبتدأ، وتلك فاء الابتداء لا فاء العطف. ألا ترى أنك تقول «ان تأتني فأمرك عندي على ما تحبّ» . فلو كانت هذه فاء العطف لم يجز السكون، حتى تجيء لما بعد «إن» بجواب. ومثلها وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [الآية 126] وقرأ بعضهم (فأمتعه ثم اضطرّه) «3» ف أَضْطَرُّهُ إذا وصل الألف، جعله أمرا. وهذا الوجه، إذا أراد به الأمر، يجوز فيه الضم والفتح. غير أنّ الألف ألف وصل، وإنّما قطعتها، «ثمّ» في الوجه الاخر، لأنّ كل ما يكون معناه «أفعل» ، فإنه مقطوع، من الوصل كان أو من القطع، قال تعالى: أَنَا آتِيكَ بِهِ [النمل: 39- 40] وهو من «أتى» «يأتي» وقال أيضا بقراءة من قرأ قوله سبحانه من الآية 23 من سورة يس: (أتّخذ من دونه آلهة) فترك ألف التي بعد ألف الاستفهام، لأنّها ألف «أفعل» . وقال الله تبارك وتعالى فيما يحكي عن الكفّار: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) [المنافقون] فقوله تعالى فَأَصَّدَّقَ جواب للاستفهام، لأنّ لَوْلا ها هنا بمنزلة «هلّا» وعطف وَأَكُنْ على موضع فَأَصَّدَّقَ، لأنّ جواب الاستفهام، إذا ما لم يكن فيه فاء، جزم. وقد قرأ بعضهم (فأصدق وأكون) «4» عطفها على ما بعد

_ (1) . في الديوان ب «أن» بلا فاء. وبعده بيت آخر هو: ويرجع الى غسان ملك وسؤدد ... وتلك المعنى لو أننا نستطيعها (2) . في الديوان: «يخبأ» بالياء المثنّاة من تحت. وفي معاني القرآن 1: 87 كما في رواية الأخفش. (3) . في معاني القرآن 1: 78 نسبت إلى ابن عبّاس، وفي الطّبري 3: 54 كذلك، وزاد في الجامع 2: 119 قتادة ومجاهدا، وفي البحر 1: 384 أغفل قتادة وزاد «غير هما» . (4) . في معاني القرآن 3: 160 أنّها لعبد الله بن مسعود، وفي تأويل مشكل القرآن 1: 56 إلى أبي عمرو بن العلاء، وفي الطّبري 28: 118 بزيادة محيصن، وفي السبعة 637 إلى أبي عمرو، وحده وفي الشواذ 157 الى ابن عبّاس وابن جبير وفي الكشف 1: 322 الى أبي عمرو، وفي التيسير 211 كذلك، وفي الجامع 18: 131 زاد ابن محيصن، وفي البحر 8: 275 إلى الحسن وابن جبير وأبي رجاء وابن ابي إسحاق ومالك بن دينار والأعمش وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري وأبي عمرو، وكذا في مصحف عبد الله وأبيّ.

الفاء، وذلك خلاف الكتاب. وقد قرئ قوله تعالى من الآية 186 من سورة الأعراف: (ومن يضلل الله فلا هادي له ويذرهم) بالجزم «1» . فجزم (يذرهم) ، على أنّه عطف على موضع الفاء، لأنّ موضعها يجزم، إذا كانت جواب المجازاة، ومن رفعها على أن يعطفها على ما بعد الفاء، فهو أجود، وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف «2» . وقال تعالى وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ [الآية 271] جزم «3» ورفع «4» على ما فسّرت. وقد يجوز في هذا، وفي الحرف الذي قبله النصب «5» لأنه قد جاء بعد جواب المجازاة، مثل وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا [الشورى: 35] وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) [آل عمران] فانتصب

_ (1) . هي في السبعة 299 إلى حمزة والكسائي، وعامّ في رواية، وفي الكشف 1: 485، والتيسير 115، بإسقاط عاصم، وفي البحر 4: 433 إلى ابن مصرف، والأعمش، والخويي، وأبي عمرو فيما ذكر أبو حاتم، وفي حجّة ابن خالويه 143، والجامع 7: 334 بلا نسبة. (2) . هي في السبعة 298 إلى ابن مجاهد، وأبي عمرو في رواية وابن كثير، ونافع، وابن عامر واقتصر في التيسير 115 على عاصم وأبي عمرو وفي البحر 4: 433 كذلك. وفي حجّة ابن خالويه 143، والجامع 7: 234 بلا نسبة. (3) . في الطّبري 5: 585 إلى عامّة قرّاء أهل المدينة والكوفة والبصرة. وفي السبعة 191، إلى عاصم في رواية، ونافع وحمزة والكسائي، وفي الكشف 1: 317 أسقط عاصما والجامع 3: 335 كذلك وفي البحر 2: 325 باختلاف بين النون والياء والتاء في «نكفر» ، زاد الأعمش وابن عباس وعكرمة. وفي حجّة ابن خالويه 79 بلا نسبة. (4) . في الطبري 5: 584 بالتاء في (تكفر) إلى ابن عباس، وبالياء بلا نسبة وفي السبعة كالسّابق، إلى ابن كثير وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر، ونافع في رواية أبي خليد وفي حجّة ابن خالويه 79 بلا نسبة، وفي الكشف 1: 317 إلى غير نافع وحمزة والكسائي وفي المشكل 79 بالياء في (يكفر) بلا نسبة وفي الجامع 3: 335 إلى أبي عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وفي البحر 2: 325 إلى ابن عامر وابن هرمز وابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر باختلاف بين الياء والتاء والنون في (تكفر) . (5) . في البحر 2: 325 إلى الأعمش في رواية، وعكرمة أيضا، وشهر بن حوشب باختلاف بين الياء والتاء في (الكفر) .

الاخر، لأنّ الأوّل نوى أن يكون بمنزلة الاسم، وفي الثاني الواو «1» . وإن شئت جزمت على العطف، كأنّك قلت «ولمّا يعلم الصابرين» «2» . فإن قال قائل: «ولمّا يعلم الله الصابرين» وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ فهو لم يعلمهم؟ قلت بل قد علم، ولكنّ هذا، فيما يذكر أهل التأويل، ليبيّن للناس، كأنّه قال «ليعلمه الناس» كما قال جلّ جلاله لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) [الكهف] وهو قد علم، ولكن ليبيّن ذلك. قد قرأ أقوام، أشباه هذا، في القرآن (ليعلم أيّ الحزبين) «3» ولا أراهم قرءوه، إلّا لجهلهم بالوجه الاخر. وممّا جاء بالواو وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [الآية 42] إن شئت، جعلت وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ نصبا، إذا نويت أن تجعل الأول اسما، فتضمر مع تَكْتُمُوا «أن» ، حتّى تكون اسما. وإن شئت عطفتها، فجعلتها جزما على الفعل الذي قبلها. قال تعالى أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما [الأعراف: 22] فعطف القول على الفعل المجزوم، فجزمه. وزعموا أنّه في قراءة ابن مسعود (وأقول لكما) «4» على ضمير «أن» ، ونوى أن يجعل الأوّل اسما، وقال الشاعر «5» [من الطويل وهو الشاهد الثامن والثلاثون] : لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضّي لبانات ويسأم سائم «6» - ثواء وثواء أو ثواء رفع نصب وخفض- فنصب على ضمير «أن» لأنّ

_ (1) . في معاني القرآن 1: 235 إلى غير الحسن، وفي الطّبري 7: 247 أنّ القراءة على هذا الحرف، وفي الجامع 4: 220 إلى الحسن ويحيى بن يعمر، وفي البحر 3: 66 إلى ابن وثاب النخعي. (2) . في معاني القرآن 1: 235 إلى الحسن، والطّبري 7: 247 كذلك، وفي الشواذ 22 إلى الحسن، وفي البحر 3: 66 إلى الجمهور وإلى الحسن وابن يعمر وابن حياة وعمرو بن عبيد. وقد نقله في الإملاء 1: 150، مع وجه ثالث هو الرفع. (3) . يبدو أنّ الأخفش أوّل من أشار إلى هذه القراءة، لأنّها تروى عنه في الشواذ 78، والبحر 6: 103، وهي قراءة الزهري، كما في الجامع 10: 340، والبحر كما سبق. (4) . تفرّد الأخفش برواية هذه القراءة. (5) . هو الأعشى ميمون بن قيس. [.....] (6) . البيت في الصبح المنير 56، بلفظ رواية الأخفش نفسه، وفي مجاز القرآن 1: 72 بلفظ «تقضي» ، وفي الكتاب 1: 423 بلفظ «تقضي لبانات ويسأم» .

التقضّي اسم، ومن قال «فتقضى» رفع «ويسأم» ، لأنه قد عطف على فعل. وهذا واجب، وقال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد التاسع والثلاثون] : فإن لم أصدق ظنّكم بتيقّن ... فلا سقت الأوصال منّي الرّواعد ويعلم أكفائي من الناس أنّني ... أنّا الفارس الحامي الذمار المذاود «2» وقال الشاعر «3» [من الوافر وهو الشاهد الأربعون] : فإن يقدر عليك أبو قبيس ... نمطّ بك المنيّة في هوان «4» وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آن «5» فنصب هذا كلّه، لأنّه نوى أن يكون الأوّل اسما، فأضمر بعد الواو «أن» ، حتى يكون اسما مثل الأوّل، فتعطفه عليه. وأمّا قوله تعالى لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ [الآية 167] وفَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) [الشعراء] فهذا على جواب التمني، لأن معناه «ليت لنا كرّة» . وقال الشاعر: [من الوافر وهو الشاهد الحادي والأربعون] : فلست بمدرك ما فات منّي ... ب «لهف» ولا ب «ليت» ولا «لو أني» «6» فأنزل «لو أني» ، بمنزلة «ليت» ، لأنّ الرجل إذا قال: «لو أنّي كنت فعلت كذا وكذا» ، فإنما تريد «وددت لو كنت فعلت» . وإنما جاز ضمير «أن» في غير الواجب، لأنّ غير الواجب يجيء ما بعده، على خلاف ما قبله ناقضا له. فلمّا حدث فيه خلاف لأوّله، جاز هذا الضمير. والواجب يكون آخره على أوّله، نحو قول الله عز وجل

_ (1) . هو حسّان بن ثابت الأنصاري. (2) . البيت في ديوانه: 195 ب يعلم والمناجد. (3) . هو النابغة الذبياني. (4) . البيت في ديوانه 149 ب «تحط بك المنية في رهان» ، وفي الصحاح (قبس) ب «يحط» بدل «نمط» و «المعيشة» بدل «المنية» وفي اللسان «قبس» كما في الصحاح. (5) . البيت في ديوانه 49 ب «تخضب» ، وفي الجامع 17: 175 ب «تخضب» كذلك. (6) . في الصحاح واللسان «لهف» ، وفي الخصائص 3: 135 وشرح القطر 205، ب «راجع» بدل «مدرك» .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج: 63] فالمعنى: «اسمعوا أنزل الله من السماء ماء» فهذا خبر واجب وأَ لَمْ تَرَ تنبيه. وقد تنصب الواجب في الشعر. قال الشاعر «1» [من الوافر وهو الشاهد الثاني والأربعون] : سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا «2» وهذا لا يكاد يعرف. وهو في الشعر جائز. وقال طرفة «3» [من الطويل وهو الشاهد الثالث والأربعون] : لها هضبة لا يدخل الذلّ وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصما «4» واعلم أنّ إظهار ضمير «أن» ، في كلّ موضع أضمر فيه من الفاء، لا يجوز، ألا ترى أنّك إذا قلت: «لا تأته فيضربك» ، لم يجز أن تقول: «لا تأته فأن يضربك» وإنّما على «أن» فلا يحسن إظهاره، كما لا يجوز في قولك «عسى أن تفعل» : «عسى الفعل» ولا في قولك: «ما كان ليفعل» : «ما كان لأن يفعل» ، ولا إظهار الاسم الذي في قولك «نعم رجلا» فرب ضمير لا يظهر، لأنّ الكلام إنّما وضع على أن يضمر، فإذا ظهر، كان ذلك على غير ما وضع في اللفظ، فيدخله اللبس. وأمّا قوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها [الآية 36] ، فإنّما يعني «الزّلل» ، تقول: «زلّ فلان» و «أزللته» و: «زال فلان» و «أزاله فلان» ، والتضعيف القراءة الجيّدة، وبها نقرأ «5» . وقال بعضهم: (فأزالهما) أخذها من «زال» .

_ (1) . هو المضيرة بن حبناء بن عمرو الحنظلي. شرح الشواهد للسيوطي 169، وقيل بل هو المغيرة بن حنين بن عمرو التميمي الحنظلي «المقاصد النحوية 4: 390، وشرح الشواهد للعاملي 386، ولم يجد البغدادي الشاهد في شعر المغيرة بن حبناء، الخزانة 4: 601. (2) . البيت في الكتاب 1: 423 وعجز في 1: 448، والعجز أيضا في شرح الأبيات للفارقي 110، وبرواية أخرى فيه بلفظ «لأستريحا» . (3) . هو طرفة بن العبد البكري، ترجمته في الشعر والشعراء 1: 185 وطبقات الشعراء 1: 138 والخزانة 1: 414 وأسماء المغتالين 2: 212. (4) . ديوان طرفة 194 بلفظ «لنا» بدل «لها» ، و «ينزل» بدل «يدخل» وفي شرح الأبيات للفارقي 111 ب «ليعصما» بدل «فيعصما» . (5) . في الطبري 1: 524 إلى عامة القرّاء، والجامع 1: 311 إلى الجماعة، والكشف 1: 235 والتيسير 73 إلى غير حمزة، وفي حجّة ابن خالويه 51، والإملاء 1: 31 بلا نسبة.

تقول: «زال الرجل» و «أزاله فلان» «1» . وقال سبحانه اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الآية 36] «2» فإنّما قال اهْبِطُوا والله أعلم، لأنّ إبليس كان ثالثهم، فلذلك جمع. وقال تعالى فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الآية 37] فجعل آدم المتلقّي «3» . وقد قرأ بعضهم (آدم) نصبا ورفع الكلمات، جعلهن المتلقّيات «4» . وقال تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ [الآية 38] وذلك، أن «إمّا» في موضع المجازاة، وهي «إمّا» لا تكون «أمّا» وهي «إن» زيدت معها «ما» «5» ، وصار الفعل الذي بعدها بالنون الخفيفة، او الثقيلة، وقد يكون بغير نون. وإنّما حسنت فيه النون، لمّا دخلته «ما» ، لأنّ «ما» نفي، وهو ما ليس بواجب، وهي من الحروف التي تنفي الواجب، فحسنت فيه النون، نحو قولهم «بعين مّا أرينّك» «6» حين أدخلت فيها «ما» ، حسنت النون. ومثل «إمّا» ها هنا قوله تعالى فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً (26) [مريم] ، وقوله قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) [المؤمنون] فالجواب في قوله فَلا تَجْعَلْنِي. وأشباه هذا، في القرآن والكلام، كثير. وأمّا «إمّا» في غير هذا

_ (1) . وفي السبعة 153، والكشف 1: 235، والتيسير 73، والجامع 1: 311، إلى حمزة وفي الشواذ 4 إليه بإماله وفي البحر 1: 161 كذلك، وأضاف إليه أبا عبيدة ونسبها بلا إمالة إلى الحسن وأبي رجاء وفي الطبري 1: 524، وحجّة ابن خالويه 51، والكشّاف 1: 128، والإملاء 1: 31 بلا نسبة. (2) . في الأصل (اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) وهي الآية الثالثة والعشرين بعد المائة من السورة العشرين (طه) . وفي الآية الثامنة والثلاثين من سورة البقرة، أي الآية التي ستأتي بعد آيتين قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ [الآية 38] وهذا يدل على أنّ الأخفش كان يقتضب الكلام ولم يكن يقرأ في نسخة من الكتاب الكريم. [.....] (3) . في الطبري 1: 542 هي قراءة الحجّة من القراء وأهل التأويل ومن علماء السلف والخلف وفي الكشف 1: 236، والتيسير 73، والبحر 1: 165، إلى غير ابن كثير وفي حجّة ابن خالويه 51 بلا نسبة. (4) . في السبعة 153، والكشف 1: 236، والتيسير 73، والجامع 1: 326، والبحر 1: 165، إلى ابن كثير وفي معاني القرآن 1: 28، والطّبري 1: 542، إلى بعض القرّاء بلا تعيين وفي حجّة ابن خالويه 51 بلا نسبة. (5) . هذا الرأي لسيبويه المغني 1: 59. (6) . هو مثل معناه «اعمل كأنّي أنظر إليك» ، يضرب في الحثّ على ترك البطء وما صلة دخلت للتأكيد، ولأجلها دخلت النون في الفعل، ومثله: ومن عضة ما ينبتنّ شكيرها. مجمع الأمثال 1: 100.

باب الاضافة

الموضع، الذي يكون للمجازاة، فلا تستغني حتّى ترد «إمّا» مرتين، نحو قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) [الإنسان] ونحو قوله حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ [مريم: 75] وإنّما نصب، لأنّ «إمّا» هي بمنزلة «أو» ، ولا تعمل شيئا، كأنّه قال «هديناه السبيل شاكرا أو كفورا» ، فنصبه على الحال و «حتّى رأوا ما يوعدون العذاب أو الساعة» ، فنصبه على البدل. وقد يجوز الرفع بعد «إمّا» ، في كلّ شيء يجوز فيه الابتداء، ولو قلت: «مررت برجل إمّا قاعد وإمّا قائم» جاز، وهذا الذي في القرآن، جائز أيضا، ويكون رفعا، إلا أنّه لم يقرأ. وأمّا التي تستغني عن التثنية، فتلك تكون مفتوحة الألف أبدا نحو قولك «أمّا عبد الله فمنطلق» ، وقوله تعالى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) [الضحى] ووَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصّلت: 17] فكلّ ما لم يحتج فيه الى تثنية «أمّا» ، فألفها مفتوحة، إلّا تلك التي في المجازاة. و «أمّا» أيضا لا تعمل شيئا، ألا ترى أنّك تقرأ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) فتنصبه ب «تنهر» ، ولم تغيّر «أمّا» شيئا منه. باب الاضافة أمّا في قوله تعالى فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [الآية 38] فانفتحت هذه الياء على كل حال، لأنّ الحرف الذي قبلها ساكن. وهي الألف التي في «هدى» . فلمّا احتجت الى حركة الياء، حرّكتها بالفتحة، لأنّها لا تحرّك إلّا بالفتح. ومثل ذلك قوله جل شأنه عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها [طه: 18] ولغة للعرب يقولون «عصيّ يا فتى» «1» ، و (هديّ فلا خوف عليهم) «2» لما كان

_ (1) . هي لغة هذيل الكشاف 1: 130، و 3: 57، والجامع 1: 328، والبحر 1: 169، واللهجات العربية 153 و 425. (2) . في المحتسب 1: 76 إلى النبي (ص) وأبي الطفيل وعبد الله بن أبي إسحاق وعاصم الجحدري وعيسى بن عمر الثقفي، وفي البحر 1: 169 اقتصر على عبد الله بن أبي إسحاق وعاصم وعيسى بن أبي عمر (كذا) ، وفي الجامع 1: 328 اقتصر على الجحدري، وفي الكشّاف 1: 130، والكشف 1: 184، بلا نسبة، وفي البيان 1: 76 إلى النبي (ص) ، والإملاء 1: 32 بلا نسبة.

قبلها حرف ساكن، وكان ألفا، قلبته الى الياء، حتّى تدغمه في الحرف الذي بعده، فيجرونها مجرّى واحدا وهو أخفّ عليهم. وأمّا قوله تعالى هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) [ق] وهذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر: 41] وثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ [آل عمران: 55 ولقمان: 15] . فإنّما حركت بالإضافة، لسكون ما قبلها، وجعل الحرف الذي قبلها ياء ولم يقل «علاي» «1» ولا «لداي» كما تقول «على زيد» ، و «لدى زيد» ، ليفرّقوا بينه وبين الأسماء، لأن هذه ليست بأسماء. و «عصاي» ، و «هداي» ، و «قفاي» ، أسماء. وكذلك أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ [يوسف: 43] و (يا بشراي هذا غلام) «2» لأنّ آخر «بشرى» ساكن. وقرأ آخرون قوله تعالى، من الآية 19 من سورة يوسف: قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ «3» ، لا يريد الاضافة، وبه نقرأ. فإذا لم يكن الحرف ساكنا، كنت في الياء بالخيار، إن شئت أسكنتها وإن شئت فتحتها، نحو: (إنّي أنا الله) «4» وإِنِّي أَنَا اللَّهُ «5» ، ووَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً [نوح: 28] «6»

_ (1) . لغة بلحارث بن كعب «اللسان «علا» ، وقيل لغة طيء، اللهجات العربيّة 585. (2) . يوسف 12: 19. نسبت في الطبري 16: 3 إلى عامة قرّاء أهل المدينة مع إدغام الألف في الياء وفي السبعة 347 بإسكان الياء إلى نافع، وفتحها إلى ابن كثير، ونافع أيضا وأبي عمرو وابن عامر، وفي الكشف 2: 7 والتيسير 128 إلى غير الكوفيّين وفي الجامع 9: 153 إلى أهل المدينة وأهل البصرة، وبإدغام الالف في الياء إلى ابن إسحاق، وفي البحر 5: 290 إلى ورش عن نافع، مع سكون ياء الإضافة وإلى أبي الطفيل والحسن بن أبي إسحاق والجحدري، بقلب الألف ياء وإدغامها وأنها لغة هذيل وناس غيرهم، وفي معاني القرآن 2: 39، وحجّة ابن خالويه 169 بلا نسبة. (3) . في الطبري 16: 4 إلى عامة قراء الكوفيين، وفي السبعة 347 إلى عاصم وحمزة والكسائي، وفي الكشف 2: 7، والتيسير 128، والجامع 6: 153، والبحر 5: 290، إلى الكوفيين، وفي معاني القرآن 2: 39، وحجّة ابن خالويه، 169، بلا نسبة. (4) . القصص 28: 30، وهي في السبعة 496 قراءة عاصم وأبي بكر، وفي الكشف 1: 327 إلى ابن كثير، و 328 إلى الكسائي. وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف. (5) . في السبعة 496 الى نافع وابن كثير وأبي عمرو، وفي الكشف 1: 325 إلى نافع برواية، ورش وإلى قالون، 2: 176 إلى الحرميين وأبي عمرو، وفي التيسير 63 كذلك. (6) . في السبعة 654 إلى عاصم وهشام برواية حفص، وإلى نافع برواية ابي قرة، وفي الحجّة 325 بلا نسبة وفي الكشف 1: 325 إلى نافع برواية ورش، وإلى قالون، و 329 إلى ابن عامر في رواية هاشم، و 2: 338 إلى حفص وهشام وفي التيسير 69 إلى هشام. وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف.

و (بيتي) «1» وفَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (6) [نوح] «2» و (دعائي) «3» . وكذلك إذا لقيتها ألف ولام زائدتان، فإن شئت حذفت الياء لاجتماع الساكنين، وإن شئت فتحتها، كيلا يجتمع حرفان ساكنان. إلّا أنّ أحسن ذلك الفتح، نحو قول الله تبارك وتعالى جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي [غافر: 66] «4» ونِعْمَتِيَ الَّتِي «5» وأشباه ذا. وبه نقرأ. وإن لقيته أيضا ألف وصل بغير لام، فأنت فيه أيضا بالخيار، إلّا أنّ أحسنه، في هذا، الحذف، وبه نقرأ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف: 144] «6» وهارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) [طه] «7» .

_ (1) . وفي السبعة 654 إلى عاصم برواية أبي بكر، وغير من أخذ بقراءة الفتح، وفي الحجّة 325 بلا نسبة، وفي الكشف 1: 325 إلى ورش، 327 إلى ابن كثير، و 328 إلى حمزة، و 329 إلى الكسائي وإلى ابن عامر في رواية ابن ذكوان. (2) . وفي السبعة 652 بالهمز إلى وحمزة والكسائي، وفي رواية عبّاس إلى أبي عمرو وفي الحجّة 325 بلا نسبة، وفي الكشف 1: 327 إلى ابن كثير، و 328 إلى حمزة، و 329 إلى الكسائي، و 2: 338 إلى الكوفيين. وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف. [.....] (3) . بالهمز في السبعة 652 إلى ابن كثير وابن عامر وأبي عمرو ونافع، وفي الحجّة 325 بلا نسبة، وفي الكشف 1: 325 إلى نافع برواية ورش، وإلى قالون، 327 إلى ابن كثير، وفي التيسير 65 إلى نافع وأبي عمرو وابن كثير، و 66 إلى ابن عامر وبلا همز، في السبعة 652 إلى خلف وابن كثير وفي الحجّة 325 بلا نسبة. (4) . وقراءة الفتح في الكشف 1: 325 إلى نافع ورش وإلى قالون، وفي التيسير 67 نسبها إلى «كلّهم» قراءة السكون، في الكشف 1: 327 إلى ابن كثير، و 328 إلى حمزة، و 329 إلى الكسائي وفي التيسير 66 إلى حمزة والكسائي. (5) . البقرة 2: 40 و 47 و 122 وقراءة الفتح في السبعة 197 إلى غير عاصم برواية المفضل، والكشف 1: 325 إلى نافع برواية ورش وإلى قالون، وفي التيسير 67 نسبها إلى «كلّهم» وقراءة السكون في السبعة 197 إلى عاصم برواية المفضّل، وفي الكشف 1: 327 إلى ابن كثير، و 328 إلى حمزة، و 329 إلى الكسائي. (6) . قراءة الإسكان في السبعة 301 إلى حمزة ونافع وعاصم، وباختلاف عن ابن عامر، والكشف 1: 327 إلى نافع وابن كثير، و 328 إلى حمزة، و 329 إلى الكسائي وفي التيسير 67 إلى نافع. وقراءة فتح الياء في السبعة 302 إلى أبي عمرو وباختلاف عن ابن عامر، وفي الكشف 1: 325 إلى نافع برواية ورش، وإلى قالون، و 326 إلى أبي عمرو وفي التيسير 68 إلى أبي عمرو. (7) . قراءة الإسكان في السبعة 426 إلى نافع وحمزة والكسائي وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وفي الكشف 1: 325 إلى ورش وقالون، و 327 إلى نافع وابن كثير، و 328 إلى حمزة، و 329 إلى الكسائي وفي التيسير 67 إلى نافع. وقراءة فتح الياء في السبعة 426 إلى أبي عمرو وابن كثير وفي الكشف 1: 325 إلى نافع في رواية ورش، وإلى قالون و 326 إلى أبي عمرو و 2: 109 إلى ابن كثير وأبي عمرو، وهذا مناقض لما جاء في 1: 327 عن ابن كثير وفي التيسير 68، إلى أبي عمرو.

فإذا كان شيء من هذا الدّعاء، حذفت منه الياء، نحو يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) [الزمر] ورَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ [يوسف: 101] ورَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) [المؤمنون] . ومن العرب من يحذف هذه الياءات في الدّعاء وغيره، من كلّ شيء «1» . وذلك قبيح، قليل، إلّا ما في رؤوس الآي، فإنّه يحذف الوقف، كما تحذف العرب في أشعارها من القوافي، نحو قول طرفة بن العبد [من الطويل وهو الشاهد الرابع والأربعون] : أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض «2» وقوله «3» [من الوافر وهو الشاهد الخامس والأربعون] : ألا هبّي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرين» هذا إذا وقفوا، فإذا وصلوا قالوا: «من بعضي» و «الأندرينا» ، وذلك في رؤوس الآي كثير، نحو قوله تعالى بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ [ص: 8] وإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) . فإذا وصلوا أثبتوا الياء. وقد حذف قوم الياء في السكوت والوصل وجعلوه على تلك اللغة القليلة، وهي قراءة العامّة، وبها نقرأ، لأنّ الكتاب عليها. وقد سكت قوم بالياء ووصلوا بالياء «5» ، وذلك على خلاف الكتاب، لأنّ الكتاب ليست فيه ياء، وهي اللغة الجيّدة «6» . وقد سمعنا عربيّا فصيحا ينشد [من الطويل وهو الشاهد السادس والأربعون] : فما وجد النّهديّ وجدا وجدته ... ولا وجد العذريّ قبل جميل «7» يريد «قبلي» فحذف الياء. وقد أعمل بعضهم «قبل» ، إعمال ما ليس فيه ياء،

_ (1) . هي لغة هذيل البحر 5: 261، اللهجات العربيّة 549 و 550. (2) . ديوانه 172، ومجاز القرآن 2: 3، والكتاب 1: 174، والكامل 2: 549. (3) . هو عمرو بن كلثوم التغلبي. (4) . البيت هو مطلع معلّقته المشتهرة. ويمكن الرجوع فيه إلى كل شروح المعلّقات المختلفة. (5) . هي قراءة يعقوب، واللهجات العربيّة 551. (6) . هي لغة الحجاز، اللهجات العربية 550. (7) . ورد في الإنصاف 2: 283، والهمع، 1: 210 والدرر 1: 176 بلا عزو.

فقال: «قبل جميل» وهو يريد «قبلي» . كما قال بعض العرب «يا ربّ اغفر لي» فرفع وهو يريد «يا ربّي» . وأمّا قوله سبحانه وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) [الأحزاب] وفَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) [الأحزاب] فتثبت فيه الألف لأنّهما رأس آية «1» ، لأنّ قوما من العرب، يجعلون أواخر القوافي إذا سكتوا عليها، على مثل حالها إذا وصلوها، وهم أهل الحجاز. وجميع العرب إذا ترنّموا في القوافي، أثبتوا في أواخرها الياء والواو والالف. وأمّا قوله تعالى يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ [مريم: 45] فأنّث هذا الاسم بالهاء، كقولك «رجل ربعة» و «غلام يفعة» . أو يكون أدخلها، لما نقص من الاسم عوضا «2» . وقد فتح قوم، كأنّهم أرادوا «يا أبتا» ، فحذفوا الألف، كما يحذفون الياء «3» ، كما قال الشاعر [من الوافر وهو الشاهد الحادي والأربعون] : ولست بمدرك ما فات منّي ... ب «لهف» ولا ب «ليت» ولا «لو أنّي» يريد: «لهفاه» . وممّا يدلك على أنّ هذا الاسم أنّث بالهاء، قول الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد السابع والأربعون] : تقول ابنتي لمّا رأتني شاحبا ... كأنّك فينا يا أبات غريب «5» فردّ الألف، وزاد عليها الهاء، كما أنّث في قوله «يا أمتاه» «6» ، فهذه ثلاثة

_ (1) . إثبات الألف في الأولى والثانية وصلا ووقفا في الطبري 21: 132 إلى عامّة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين، وفي السبعة 519 و 520 إلى عاصم في رواية أبي بكر، وإلى نافع وابن عامر وإلى أبي عمرو في رواية أيضا وفي الكشف 2: 194 إلى نافع وابن عامر وأبي بكر وفي التيسير 178 إلى غير حمزة وأبي عمرو وابن كثير وحفص والكسائي. وفي الجامع 14: 145 إلى نافع وابن عامر في رواية، وأبي عمرو والكسائي أيضا وفي البحر 7: 217 إلى غير حمزة وأبي عمرو وابن كثير والكسائي وحفص. (2) . في الكشف 2: 3 نسبت في الآية السابقة 19: 44 قراءة (أبه) بالهاء إلى ابن كثير وابن عامر. [.....] (3) . في الكشف 2: 3 إلى ابن عامر وفي البحر 6: 193 زاد الأعرج وأبا جعفر. (4) . هو أبو أبي الحدرجان كما في نوادر أبي زيد 239، وليس أبا الحدرجان كما في معجم شواهد العربية 38. (5) . في نوادر أبي زيد 239 بلفظ «أباه» بالهاء، وفي الصحاح «أبا» ، والخصائص 1: 339 وشرح الأبيات للفارقي 83، والمقاييس «شحب» ، والأساس «شحب» ، واللسان «إلى» ، ثم أعاد ذكره ب «رأت وشك رحلتي» بدل «رأتني شاحبا» ولم يعزه إلّا أبو زيد. (6) . في اللسان «أمم: الام والأمة الوالدة. ويقال يا أمة لا تفعلي.

باب المجازاة

أحرف. ومن العرب من يقول: «يا أمّ لا تفعلي» ، رخّم كما قال: «يا صاح» «1» . ومنهم من يقول «يا أميّ» و «يا أبي» ، على لغة الذين قالوا: «يا غلامي «2» . ومنهم من يقول «يا أب» و «يا أمّ» ، وهي الجيّدة في القياس «3» . وأمّا قوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 40] ، فمن العرب من يهمز «4» ومنهم من لا يهمز «5» . ومنهم من يقول (إسرائل) يحذف الياء التي بعد الهمزة، ويفتح الهمزة «6» ، ويكسرها «7» . باب المجازاة فأمّا قوله تعالى وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الآية 40] فإنّما جزم الاخر، لأنّه جواب الأمر وجواب الأمر مجزوم مثل جواب ما، بعد حروف المجازاة، كأنه تفسير «إن تفعلوا» أوف بعهدكم «8» وقال في موضع آخر ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ [الفتح: 15] . وقال جلّ جلاله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) [الأنعام] ، فلم يجعله جوابا، ولكنه كأنهم كانوا يلعبون، فقال «ذرهم في حال لعبهم» وقال أيضا ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ [الحجر: 3] وليس من أجل الترك يكون ذلك، ولكن قد علم الله أنه يكون، وجرى على الإعراب كأنّه قال: «إن تركتهم ألهاهم الأمل» «9» ، وهم كذلك، تركهم أو لم يتركهم. كما أنّ بعض الكلام، يعرف لفظه والمعنى على خلاف ذلك، وكما أنّ بعضهم

_ (1) . في الصحاح واللسان والتاج «صحب» ، أنه لا يجوز ترخيم المنادى إلا في هذا وحده في كلام العرب. (2) . هي لغة الحجاز. اللهجات العربية 550. (3) . هي لغة هذيل. البحر 5: 261، واللهجات العربيّة 549 و 550. (4) . في البحر 1: 171 إلى الجمهور. (5) . في البحر 1: 171 إلى أبي جعفر والأعشى وعيسى بن عمر، والجامع 1: 331 بإغفال أبي جعفر. (6) . في البحر 1: 171 بلا نسبة. (7) . في البحر 1: 171 إلى ورش. (8) . هذا الرأي للخليل كما في الكتاب 1: 449. (9) . في الكتاب 1: 451 هذا المعنى والاستشهاد بالآية ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) [الأنعام] ولكن بعبارة أخرى.

يقول: «كذب عليكم الحجّ» «1» ف «الحجّ» مرفوع، وإنّما يريدون أن يأمروا بالحج. قال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد الثامن والأربعون] : كذب العتيق وماء شنّ بارد ... إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي وقال «3» [من الوافر وهو الشاهد التاسع والأربعون] : وذبيانيّة توصي بنيها ... ألا كذب القراطف والقروف «4» قال أبو عبد الله «5» : «القراطف» ، واحدها «قرطف» : وهو كلّ ما له خمل من الثياب. و «القروف» ، واحدها «قرف» : وهو وعاء من جلود الإبل كانوا يغلون اللحم، ويحملونه فيه في أسفارهم. ويقولون: «هذا جحر ضبّ خرب» والخرب هو الجحر. ويقول: أحدهم: «هذا حبّ رمّاني» . فيضيف الرمّان إليه وإنّما له الحبّ وهذا في الكلام كثير. وقوله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: 14] ووَ قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: 53] فأجراه على اللفظ حتى صار جوابا للأمر «6» . وقد زعم قوم، أنّ هذا إنّما هو على «فليغفروا» و «قل لعبادي فليقولوا» ، وهذا لا يضمر كلّه، يعني الفاء واللام. ولو جاز هذا لجاز قول الرجل: «يقم زيد» ، وهو يريد

_ (1) . نسبتها كتب اللغة إلى الخليفة عمر بن الخطاب، الصحاح واللسان والتاج «كذب» وعبارة الصحاح: «قال الأخفش: فالحجّ مرفوع ب «كذب» ومعناه نصب، لأنّه يريد أن يأمر بالحج كما يقال: «أمكنك الصيد» يريد: «ارمه» قال الشاعر: «البيت» ، وفي اللسان نسبت العبارة إلى النضر بن شميل مع تغيير طفيف فيها. وفي التكملة «كذب» بعبارة مغايرة. [.....] (2) . قيل هو عنترة، وقيل بل الخرز بن لوذان السّدوسي. ديوان عنترة 273، والكتاب وتحصيل عين الذهب 2: 302، واللسان «كذب» ، والتاج «كذب» ، وقال إنه في ديوانيهما. (3) . هو معقر بن حمار البارقي «الصحاح» «ق ر ف» «والجمهرة» «ر ف ق» اللسان «كذب» ، و «قرف» ، وشرح التبريزي للسقط 1366، والخزانة 2: 289، والتاج كذب. (4) . في الصحاح «قرف» ب «وصت» و «بأن كذب» «والجمهرة» رفق ب «أوصت» و «بأن» وفي الخزانة كالجمهرة وفي المقاييس كالصحاح وفي التاج «كذب» . كالجمهرة. (5) . هو أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي أو محمد بن سلّام الجمحيّ. انظر مناقشة إشارة هذه الكنية إليه في منهج الأخفش الأوسط 51، 54. (6) . نقله في زاد المسير 5: 47، والبحر 6: 49، والإملاء 2: 69، ورد عليه الرأي في الأخير.

باب تفسير أنا وأنت وهو

«ليقم زيد» . وهذه الكلمة أيضا أمثل، لأنّك لم تضمر فيها الفاء مع اللام. وقد زعموا أنّ اللام قد جاءت مضمرة، قال الشاعر «1» [من الوافر وهو الشاهد الخمسون] : محمّد تفد نفسك كلّ نفس ... إذا ما خفت من شيء تبالا «2» يريد: «لتفد» ، وهذا قبيح. وقال: «يتق الله امرؤ فعل كذا وكذا» ومعناه: «ليتّق الله» . فاللفظ يجيء كثيرا، مخالفا للمعنى. وهذا يدلّ عليه. قال الشاعر «3» في ضمير اللام [من الطويل وهو الشاهد الحادي والخمسون] : على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي ... لك الويل حرّ الوجه أو يبك من بكى «4» يريد «ليبك من بكى» فحذف، وسمعت من العرب من ينشد هذا البيت بغير لام [من الطويل وهو الشاهد الثاني والخمسون] : فيبك على المنجاب أضياف قفرة ... سروا وأسارى لم تفكّ قيودها يريد: «فلبيك» فحذف اللام. باب تفسير أنا وأنت وهو وأمّا قوله تعالى وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) ووَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) ، فتقرأ وَإِيَّايَ وقد شغلت الفعل، بالاسم المضمر، الذي بعده الفعل. لأنّ كلّ ما كان من الأمر والنهي في هذا النحو، فهو منصوب، نحو قولك: «زيدا فاضرب أخاه» . لأنّ الأمر والنهي، مما يضمران كثيرا، ويحسن فيهما الإضمار، والرفع أيضا جائز، على أن لا يضمر. قال الشاعر «5» [من الطويل وهو الشاهد الثالث والخمسون] :

_ (1) . قيل هو الأعشى، وقيل أبو طالب، وقيل الإمام عليّ بن أبي طالب. (2) . الكتاب 1: 408، وشرح التبريزي لسقط الزند 1125، وأمالي الشجري 1: 375. وليس في ديوان الأعشى، ولا ديوان أبي طالب. (3) . هو متمّم بن نويرة- متمّم ومالك 84، والكتاب 1: 409 وشرح الخوارزمي لسقط الزند 1124، وشرح شواهد المغني 204. (4) . متمّم ومالك 84 ب «وليبك» بدل «أويبك» . وانظر شرح ابن يعيش 7: 60 والمغني 1: 225. (5) . لم تفد المراجع والمصادر شيئا في معرفته. والشاهد في الكتاب 1: 70 وإعراب القرآن للزّجّاج 1: 190 والمغني 1: 165.

وقائلة خولان فانكح فتاتهم ... وأكرومة الحيّين خلو كما هيا وأمّا قوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما [النور: 2] ووَ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] فزعموا- والله أعلم- أنّ هذا على الوحي، كأنّه يقول: «وممّا أقصّ عليكم الزّانية والزّاني، والسّارقة والسّارق» . ثمّ جاء بالفعل، من بعد ما أوجب الرفع، على الأوّل على الابتداء، وهذا على المجاز، كأنّه قال «أمر السّارق والسّارقة وشأنهما ممّا نقصّ عليكم» ومثله قوله مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [محمد: 15] ثمّ قال من الآية نفسها فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ كأنه قال: «وممّا أقصّ عليكم مثل الجنة» ، ثمّ أقبل يذكر ما فيها، بعد أن أوجب الرفع في الأوّل على الابتداء. وقد قرأها قوم نصبا «1» ، إذ كان الفعل يقع على ما هو من سبب الأوّل، وهو في الأمر والنهي. وكذلك ما وقع عليه حرف الاستفهام، نحو قوله جلّ جلاله أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر: 24] . وإنّما فعل هذا في حروف الاستفهام، لأنّه إذا كان بعده اسم وفعل، كان أحسن أن يبتدأ بالفعل قبل الاسم، فإن بدأت بالاسم، أضمرت له فعلا، حتى تحسّن الكلام به، وإظهار ذلك الفعل قبيح. وما كان من هذا، في غير الأمر والنهي والاستفهام والنفي، فوجه الكلام فيه الرفع، وقد نصبه ناس من العرب كثير. وهذا الحرف قد قرئ نصبا ورفعا وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: 17] » . وأمّا قوله تعالى إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) [القمر]

_ (1) . قراءة النصب الآية النور، في الشواذ 32 إلى عيسى بن عمرو، في المحتسب 2: 100، وفي الجامع 12: 156 كذلك، وزاد في البحر 6: 427 يحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبا جعفر وشيبة وأبا السمال ورويسا. وقراءته لآية المائدة في الشواذ 32، إلى عيسى بن عمر، وفي البحر 3: 476 إلى عيسى وابن أبي عبلة. (2) . قراءة الرفع في معاني القرآن 3: 14، إلى عاصم وأهل المدينة والأعمش، مع التنوين عند الأخير، وفي الطبري 24: 104 إلى عامة قرّاء الأمصار، إلّا ابن أبي إسحاق، وأنّ الأعمش كان ينوّن وفي الجامع 15: 349 إلى ابن عباس «وغيره» . وفي البحر 7: 491 إلى الجمهور وابن وثاب والأعمش وبكر بن حبيب وقراءة النصب في معاني القرآن 3: 14 إلى الحسن وفي الطبري 24: 105 إلى ابن أبي إسحاق وفي الشواذ 133 إلى ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وفي الجامع 15: 349 إلى الحسن وابن أبي إسحاق وفي البحر 7: 491 زاد الأعمش، وروى المفضّل عن عاصم صرفها، وعدم التصرف.

فهو يجوز فيه الرفع «1» ، وهي اللغة الكثيرة غير أنّ الجماعة اجتمعوا على النصب «2» ، وربّما اجتمعوا على الشيء، كذلك ممّا يجوز، والأصل غيره. لأنّ قولك: «إنّا عبد الله ضربناه» ، مثل قولك «عبد الله ضربناه» ، لأنّ معناهما في الابتداء سواء. قال الشاعر «3» [من المتقارب وهو الشاهد الرابع والخمسون] : فأمّا تميم بن مرّ ... فألفاهم القوم روبى نياما وقال «4» [من الطويل وهو الشاهد الخامس والخمسون] : إذا ابن أبي موسى بلال بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر ويكون فيهما النصب. فمن نصب (وأمّا ثمود) ، نصب على هذا. وأمّا قوله تعالى يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) [الإنسان] وقوله أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) [النازعات] ثم قال وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) [النازعات] وقال الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) [الرحمن] ثم قال وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) [الرحمن] وقال وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) [الفرقان] فهذا، إنّما ينصب وقد سقط الفعل على الاسم بعده، لأنّ الاسم الذي قبله قد عمل فيه، فأضمرت فعلا، فأعملته فيه، حتّى يكون العمل من وجه واحد. وكان ذلك أحسن، قال الشاعر [من الوافر وهو الشاهد السادس والخمسون] : نغالي اللّحم للأضياف نيئا ... ونرخصه إذا نضج القدور «5» يريد «نغالي باللّحم» فإن قلت

_ (1) . هي قراءة نسبت في الشواذ 148، والمحتسب 2: 200، والجامع 17: 147، إلى أبي السمال وفي البحر 8: 183 زاد عن ابن عطية قوما من أهل السنة. (2) . في القرطبي 17: 147 الى الجماعة، وفي البحر 8: 183 الى الجمهور. [.....] (3) . هو بشر بن أبي خازم الأسدي. انظر ديوانه 190 والكتاب 1: 42، والصحاح «روب» . (4) . هو ذو الرّمّة غيلان انظر ديوانه 2: 1042 والكتاب 1: 42، ومعاني الفراء 1: 241 ب «أتيته» . (5) . في معاني القرآن 2: 383. وفي التهذيب «غلا» ب «تغالى» و «تبذله» ، وأساس البلاغة «غ ل و» واللسان «غلا» ، ب «التقدير» ، وشرح الأبيات للفارقي 24 و 201 ب «نبذله» ، والصحاح «غلا» وفيها كلها بلا عزو.

يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ ليس بنصب في اللفظ، فهو في موضع نصب قد عمل فيه كما فعلت: «مررت بزيد وعمرا ضربته» ، كأنك قلت: «مررت زيدا» وقد يقول هذا بعض الناس. قال الشاعر «1» [من المنسرح وهو الشاهد السابع والخمسون] : أصبحت لا أحمل السّلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا «2» والذّيب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرّياح والمطرا وكلّ هذا، يجوز فيه الرفع على الابتداء، والنصب أجود وأكثر. وأمّا قوله تعالى يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ «3» . فإنّما هو على معنى «يغشى طائفة منكم وطائفة في هذه الحال» . وهذه واو ابتداء لا واو عطف، كما تقول: «ضربت عبد الله وزيد قائم» . وقد قرئت نصبا «4» ، لأنّها مثل ما ذكرنا، وذلك لأنّه قد يسقط الفعل، على شيء من سببها، وقبلها منصوب فعطفتها عليه، وأضمرت لها فعلها فنصبتها به. وما ذكرنا في هذا الباب من قوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما، وقوله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور: 2] ليس في قوله فَاقْطَعُوا وفَاجْلِدُوا خبر مبتدأ، لأنّ خبر المبتدأ هكذا، لا يكون بالفاء. فلو قلت «عبد الله فينطلق» لم يحسن. وإنّما الخبر، هو المضمر الذي فسّرت لك، من قوله «وممّا نقصّ عليكم» وهو مثل قول الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الثالث والخمسون] : وقائلة خولان فانكح فتاتهم ... وأكرومة الحيّين خلو كما هيا وكأنّه قال: «هؤلاء خولان» كما تقول: «الهلال فانظر إليه» كأنّك قلت: «هذا الهلال فانظر اليه» فأضمر الاسم. فأمّا قوله تعالى

_ (1) . هو الربيع بن ضبع الفزاري «المعمّرون 9» ، والكتاب 1: 46. (2) . في الكتاب «كما سبق» ب «أردّ» بدل أملك، وفي التحصيل ب «أن يقرأ» ، وفي البيان 2: 68 و 291 ب «أرد» في كليهما. (3) . آل عمران 3: 154، وقد وردت قراءة الرفع في معاني القرآن 1: 240 والطّبري 7: 321 بلا نسبة. (4) . في معاني القرآن 1: 240، والطّبري 7: 321 ذكر النّصب ولم ينسب قراءة.

باب الواو

وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النساء: 16] ، فقد يجوز أن يكون هذا خبر المبتدأ، لأنّ «الذي» إذا كان صلته فعل، جاز أن يكون خبره بالفاء، نحو قول الله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء: 97] ثم قال، في الآية نفسها: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [النساء: 97] . باب الواو أمّا قوله تعالى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ [الآية 45] ، فلأنّه حمل الكلام على «الصلاة» . وهذا كلام منه ما يحمل على الأوّل، ومنه ما يحمل على الاخر. وقال أيضا وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] فهذا يجوز على الأوّل والاخر وأقيس هذا، إذا ما كان بالواو، أن يحمل عليهما جميعا. تقول: «زيد وعمرو ذاهبان» . وليس هذا مثل «أو» ، لأنّ «أو» إنّما يخبر فيه عن أحد الشيئين. وأنت في «أو» بالخيار، إن شئت جعلت الكلام على الأوّل، وإن شئت على الاخر وأن تحمله على الاخر أقيس، لأنّك إن تجعل الخبر على الاسم الذي يليه الخبر، فهو أمثل من أن تجاوزه الى اسم بعيد منه. قال تعالى وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: 11] ، فحمله على الأول وقال في موضع آخر وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [القصص: 73] وقال وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً [النساء: 112] فحمله على الاخر. قال الشاعر [من البسيط وهو الشاهد الثامن والخمسون] : أمّا الوسامة أو حسن النّساء فقد ... أوتيت منه لو أنّ العقل محتنك وقال ابن أحمر «1» [من الطويل وهو الشاهد التاسع والخمسون] : رماني بداء «2» كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل «3» الطويّ رماني

_ (1) . انظر ترجمته فيما سبق، وفي مجاز القرآن 2: 161 نسب البيت إلى الأزرق بن طرفة بن العمرّد الفراصي الباهل. (2) . في الكتاب 1: 38، ومجاز القرآن 2: 161، ومعاني القرآن 1: 458، والصحاح «جول» ، وإعراب القرآن للزجاجي 2: 611، ب «بأمر» بدل «بداء» . (3) . في تحصيل الشّنتمري 1/ هـ 38، ومعاني القرآن، والصحاح، وإعراب القرآن للزّجاجي «كما سبق» ب «جول» بدل «أجل» وفي مجاز القرآن كما سبق ب «دون» بدل «أجل» .

باب اسم الفاعل

وقال الاخر «1» [من المنسرح وهو الشاهد الستون] : نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرّأي مختلف وهذا مثل قول البرجمي «2» [من الطويل وهو الشاهد الحادي والستون] : من يك أمسى بالمدينة داره ... فإنّي وقيّارا بها لغريب «3» باب اسم الفاعل وقال تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الآية 46] ، فأضاف قوله مُلاقُوا رَبِّهِمْ، ولم يقع الفعل. وإنّما يضاف، إذا كان قد وقع الفعل، تقول: «هم ضاربو أبيك» إذا كانوا قد ضربوه. وإذا كانوا في حال الضرب، أو لم يضربوا، قلت: «هم ضاربون أخاك» ، إلّا أنّ العرب قد تستثقل النون، فتحذفها في معنى إثباتها، وهو نحو مُلاقُوا رَبِّهِمْ مثل كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] «4» ولم تذق بعد. وقد قرأ بعضهم: (ذائقة الموت) «5» على ما فسّرت لك. وقال الله جلّ ثناؤه: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ [القمر: 27] ، وهذا قبل الإرسال، ولكن حذفت النون استثقالا. وقال وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ [الكهف: 18] ، فأثبت التنوين، لأنه كان في الحال. وقال إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا [الدخان: 15] ، على ذلك أيضا. وزعموا

_ (1) . هو في الكتاب 1: 38، وتحصيل عين الذهب كذلك والمقاصد النحوية 1: 228 قيس بن الخطيم، وفي مجاز القرآن 1: 39 الى عبد الله بن امرئ القيس الأنصاري، وفي معاني القرآن 2: 363 هو مرار الأسدي وفي 1: 434 و 445 و 3: 77 بلا عزو وفي الإنصاف 1: 61 الى درهم بن زيد الأنصاري. وفي ديوان قيس بن الخطيم هـ 115، أنّه عمرو بن امرئ القيس الخزرجي. (2) . هو في الكتاب 1: 38، وتحصيل عين الذهب كذلك والخزانة 4: 223، واللسان «قير» والمقاصد النحوية 2: 318. والبرجمي هو ضابي بن الحارث البرجمي، ترجمته في الشعر والشعراء 1: 350، وطبقات الشعراء 1: 172. (3) . في الكتاب، وتحصيل عين الذهب، والخزانة، واللسان، والمقاصد النحوية، كما سبق ب «رحله» بدل «داره» . واختلفت في «قيار» بين الرفع والنصب. (4) . والأنبياء 21: 35، والعنكبوت 29: 57. [.....] (5) . في الشواذ 23 إلى اليزيدي وفي الجامع 4: 297 إلى الأعمش، ويحيى، وابن أبي إسحاق وفي البحر 3: 133 كما السّابقين، وزاد أبا حياة في نقل ابن عطية.

أنّ هذا البيت ينشد هكذا [من البسيط وهو الشاهد الثاني والستون] : هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد ربّ أخا عمرو «1» بن مخراق «2» فأضاف، ولم يقع الفعل، ونصب الثاني على المعنى، لأنّ الأوّل فيه نيّة التنوين. وقال إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ [العنكبوت: 33] فالنّصب وجه الكلام، لأنّك لا تجري الظاهر على المضمر، والكاف في موضع جرّ، لذهاب النون. وذلك لأنّ هذا، إذا سقط على اسم مضمر، ذهب منه التنوين والنون، إن كان في الحال وإن لم يفعل، تقول: «هو ضاربك الساعة أو غدا» و «هم ضاربوك» . وإذا أدخلت الألف واللام، قلت: «هو الضارب زيدا» ، ولا يكون أن تجرّ زيدا، لأنّ التنوين كأنّه باق في «الضارب» ، إذا كان فيه الألف واللام، لأنّ الألف واللام تعاقبان التنوين. وتقول: «هما الضاربان زيدا» و «هما الضاربا زيد» لأنّ الألف واللام لا تعاقبان التنوين في الاثنين والجمع. فإذا أخرجت النون من الاثنين والجمع من أسماء الفاعلين، أضفت، وإن كان فيه الألف واللام، لأنّ النون تعاقب الاضافة وطرح النون، هاهنا، كطرح النون في قولك: «هما ضاربا زيد» ولم يفعلا، لأن الأصل في قولك: «الضاربان» إثبات النون، لأنّ معناه وإعماله مثل معنى «الذي فعل» وإعماله قال الشاعر «3» [من المنسرح وهو الشاهد الثالث والستون] : الحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائنا نطف «4» وفي كتاب الله وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ

_ (1) . في الكتاب 1: 87 ب «عون» ، والخزانة 3: 376، والمقاصد النحوية 3: 563 كذلك. (2) . البيت في الخزانة، كما سبق ينسب إلى جابر بن رألان السنبسي، وقيل جرير، وقيل تأبّط شرّا، وفي المقاصد النحوية، كما سبق إلى جرير، وليس في ديوان تأبّط شرّا، ولا في ديوان جرير. (3) . هو عمر بن امرئ القيس الخزرجي «ديوان قيس بن الخطيم هـ 115» ، وقيل بل قيس بن الخطيم أو شريح بن عمرو، أو عمرو بن قيس، أو مالك بن العجلان «الخزانة 2: 188» ، وشرح الأبيات للفارقي 212. (4) . شرح الأبيات للفارقي كما سبق ب «ورائهم» ، وفي الخزانة الروايتان، وانظر فيها 2: 337 و 483 و 3: 400 و 473، وفي الصّحاح «وكف» ب «ورائهم وكف» ، وفي التهذيب «وكّف» ب «العشير ولا. ورائهم وكف» ، وفي الخزانة 2: 337 ب «وكف» .

[الحج: 35] «1» ، وقد نصب بعضهم، فقرأ: (والمقيمي الصلاة) «2» و «الحافظو عورة» استثقالا للاضافة، كما حذفت نون «اللذين» و «الذين» . قال الشاعر «3» [من الكامل وهو الشاهد الرابع والستون] : أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا ... قتلا الملوك وفكّكا الأغلالا وقال «4» [من الطويل وهو الشاهد الخامس والستون] : فإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد «5» فألقى النون. وزعموا أنّ عيسى بن عمر «6» كان يجيز [من المتقارب وهو الشاهد السادس والستون] : فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلّا قليلا «7» كأنّه إنّما طرح التنوين لغير معاقبة إضافة، وهو قبيح إلّا في كلّ ما كان معناه «اللّذان» و «الّذين» ، فحينئذ يطرح منه ما طرح من ذلك. ولو جاز هذا البيت، لقلت: «هم ضاربو زيدا» ، وهذا لا يحسن. وزعموا أنّ بعض العرب قرأ (واعلموا أنّكم غير معجزي الله) [التوبة: 2] وهو أبو السمّال «8» وكان فصيحا. وقد قرئ هذا الحرف (إنّكم

_ (1) . الحج 22: 35، وهي في الجامع 12: 59، والبحر 6: 369، قراءة الجمهور، ومعاني القرآن 2: 225 بلا نسبة. (2) . وهي في الشواذ 95 إلى ابن أبي إسحاق، وفي المحتسب 2: 80 زاد الحسن وأبا عمرو، وكذلك في البحر 6: 369 وفي الجامع 12: 59 قصرت على أبي عمرو، وفي معاني القرآن 2: 225 بلا نسبة، وب «المقيمين» ونصب الصلاة إلى عبد الله بن مسعود. (3) . هو الأخطل غياث بن غوث التغلبي. ديوانه 44، والكتاب، وتحصيل عين الذهب 1: 95. (4) . هو الأشهب بن رميله، كما في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 96، ومجاز القرآن 2: 190، والخزانة 2: 507 و 3: 473، وفيها أيضا أنّ أبا تمام نسبه في مختار أشعار القبائل إلى حريث بن محفض. (5) . في الكتاب «كما سبق» ب «وإنّ» ، وفي الخزانة 2: 507 اختلاف رواياته ب «الألى» و «مارت» بدل «حانت» . (6) . هو أبو عمر عيسى بن عبد الله الثقفي المولود بين عامي 75 و 80 المتوفى عام 149، ترجمته في مراتب النحويين 31، وطبقات النحويين 40، وإنباه الرواة 2: 374، وبغية الوعاة 270. (7) . البيت لأبي الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو في ديوانه 38، وفي الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 85. (8) . هو أبو السمال قعنب بن أبي قعنب العدوي البصري، له اختيار في القراءة شاذ عن العامة، رواه عنه أبو زيد سعيد بن أوس ترجمته في غاية النهاية 2: 27، وطبقات القرّاء 2: 27.

باب اضافة الزمان إلى الفعل

لذائقو العذاب الأليم) «1» وهو في البيت أمثل، لأنّه أسقط التنوين، لاجتماع الساكنين. وإذا ألحقت النون، نصبت لأنّ الإضافة قد ذهبت، قال تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ [النساء: 162] وقال وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 35] قال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد السابع والستون] : النّازلون بكلّ معترك ... والطيّبون معاقد الأزر باب اضافة الزمان الى الفعل قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الآية 48] فنوّن اليوم، لأنّه جعل «فيه» مضمرا، وجعله من صفة اليوم، كأنّه قال «يوما لا تجزي نفس عن نفس فيه شيئا» . وإنّما جاز إضمار «فيه» ، كما جاز إضافته إلى الفعل، تقول: «هذا يوم يفعل زيد» . وليس من الأسماء شيء، يضاف الى الفعل، غير أسماء الزمان، ولذلك جاز إضمار «فيه» . وقال قوم: «إنّما أضمر الهاء، أراد «لا تجزيه» ، وجعل هذه الهاء اسما لليوم مفعولا، كما تقول: «رأيت رجلا يحبّ زيد» تريد: «يحبّه زيد» . وهو في الكلام يكون مضافا، تقول: «اذكر يوم لا ينفعك شيء» : أي: «يوم لا منفعة» وذلك، أنّ أسماء الحين قد تضاف إلى الفعل، قال تعالى هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) [المرسلات] أي «يوم لا نطق» ، وقد قرأ بعضهم (هذا يوم لا ينطقون) «3» وكذلك هذا يَوْمُ الْفَصْلِ [الصافات: 21 والمرسلات 38] وكلّ ما أشبه هذا، فهو مثله. ولا يضاف إلى الفعل شيء، إلّا الحين، إلّا أنّهم قد قالوا «4» [من الوافر وهو الشاهد الثامن والستون] :

_ (1) . الصافات 37: 38 وفي البحر 7: 358، أنها إلى أبي السمال وأبان عن ثعلبة، عن عاصم، وأنّ كسر الباء الى الجمهور. [.....] (2) . هو خرنق بن هفان الشاعرة الجاهلية. ديوانها 29، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 104 و 246 و 249 و 288. (3) . في الشواذ 167 هي قراءة الأعرج والأعمش، وفي البحر 8: 407 زاد زيد بن علي وعيسى وأبا حياة، وعاصما في رواية. (4) . لم تفد المراجع شيئا عن القائل، وإن كان البغدادي في الخزانة 1: 135 قد أورد أنه في الكتاب منسوب إلى الأعشى، ولا نسبة في الكتاب في الموضوع الذي ورد فيه 1: 460.

باب من التأنيث والتذكير

باية تقدمون الخيل زورا ... كأنّ على سنابكها مداما «1» (وقالوا) «2» [من الوافر وهو الشاهد التاسع والستون] : ألا من مبلغ عنّي تميما ... باية ما تحبّون الطّعاما «3» فأضاف «آية» الى الفعل. وقالوا: «اذهب بذي تسلم» و «بذي تسلمان» فقوله: «ذي» مضاف إلى «تسلم» ، كأنه قال: «اذهب بذي سلامتك» ، وليس يضاف الى الفعل غير هذا. ولو قلت في الكلام: «واتّقوا يوم تجزي نفس فيه» ، فلم تنوّن اليوم، جاز كأنّك أضفت، وأنت لا تريد أن تجيء ب «فيه» ، ثمّ بدا لك بعد، فجئت به، كما تقول: «اليوم آتيك فيه» فنصبت «اليوم» لأنّك جئت ب «فيه» بعد ما أوجبت النّصب وقال قوم: «لا يجوز إضمار» «فيه» ألا ترى أنّك لا تقول: «هذا رجل قصدت» وأنت تريد «إليه» ولا «رأيت رجلا أرغب» وأنت تريد «فيه» «4» والفرق بينهما، أنّ أسماء الزمان يكون فيها، ما لا يكون في غيرها، وإن شئت حملتها على المفعول في السّعة، كأنك قلت: «واتّقوا يوما لا تجزيه نفس» ، ثمّ ألقيت الهاء، كما تقول: «رأيت رجلا أحبّ» وأنت تريد «أحبّه» . باب من التأنيث والتذكير أمّا قوله تعالى تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الآية 48] ، فهو مثل قولك: «لا تجزي عنك شاة» و «يجزي عنك درهم» و «جزى عنك درهم» و «وجزت عنك شاة» . فهذه لغة أهل الحجاز، لا

_ (1) . في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 460 ب «شعثا» بدل «زورا» ، وفي الكامل 3: 1168 كذلك، وفي المغني 2: 420 ب «يقدمون» و «شعثا» ، وفي شرح السيوطي 274 كذلك. وفي الهمع 2: 51 بالتاء «وشعثا» ، وفي الدرر 2: 63 بالتاء و «شعثا» أيضا. (2) . زيادة يقتضيها السياق، وهو في الكتاب 1: 460 يزيد بن عمرو بن الصعن، وفي تحصيل عين الذهب هـ 1: 406 إلى زيد بن عمرو بن الصعق، وفي الاشقاق 297 إلى الصعق عمرو بن خويلد. (3) . في الكامل 1: 147 ب «ألا أبلغ لديك بني تميم» و «يحبّون» بالياء، وفي الاشتقاق «كما سبق» كذلك، وفي المقاييس «أبي» مثل الكامل، وبالتاء وفي المغني 2: 420 بالتاء. (4) . في الجامع 1: 377 نسب إلى الكسائي قوله: «لا يجوز أن تقول» هذا رجل قصدت «ولا» رأيت رجلا أرغب» وأنت تريد «قصدت إليه» و «أرغب فيه» .

يهمزون. وبنو تميم يقولون في هذا المعنى: «أجزأت عنه وتجزئ عنه شاة» ، وقوله «شيئا» ، كأنّه قال: «لا تجزئ الشاة مجزى ولا تغني غناء» . وقوله تعالى عَنْ نَفْسٍ يقول: «منها» أي: لا تكون مكانها. وأمّا قوله تعالى وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ [الآية 48] ، فإنّما ذكر الاسم المؤنّث، لأنّ كلّ مؤنّث فرّقت بينه وبين فعله، حسن أن تذكر فعله، إلّا أنّ ذلك يقبح في الإنس، وما أشبههم ممّا يعقل. لأنّ الذي يعقل، أشدّ استحقاقا للفعل. وذلك، أنّ هذا إنّما يؤنّث ويذكّر، ليفصل بين معنيين. والموات ك «الأرض» و «الجدار» ، ليس بينهما معنى، كنحو ما بين الرجل والمرأة. فكل ما لا يعقل يشبّه بالموات، وما يعقل يشبّه بالمرأة والرجل، نحو قوله تعالى رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (3) [يوسف] لما أطاعوا صاروا كمن يعقل، قال تعالى وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] فذكر الفعل حين فرقّ بينه وبين الاسم «1» وقال أيضا لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [الحديد: 15] «2» وتقرأ (تؤخذ) «3» . وقد يقال أيضا ذاك في الانس، زعموا أنهم يقولون: «حضر القاضي امرأة» . فأمّا فعل الجميع، فقد يذكّر ويؤنّث: لأن تأنيث الجميع ليس بتأنيث الفصل، ألا ترى أنك تؤنث جماعة المذكّر، فتقول: «هي الرّجال» و «هي القوم» ، وتسمي رجلا ب «بعال» ، فتصرفه، لأنّ هذا، تأنيث مثل التذكير، وليس بفصل، ولو سميته ب «عناق» ، لم تصرفه لأنّ هذا تأنيث، لا يكون للذّكر، وهو فصل ما بين المذكر والمؤنث، تقول: «ذهب الرجل» و «ذهبت المرأة» ، فتفصل بينهما. وتقول: «ذهب النساء» و «ذهبت النساء» و «ذهب الرجال» و «ذهبت الرجال» .

_ (1) . في إعراب القرآن 1: 46 نسبت هذه الآراء إلى سيبويه، والرأي الأخير وحده إلى الأخفش. (2) . في معاني القرآن 3: 134 والطبري 27: 228، والجامع 17: 247، والبحر 8: 222، إلى جمهور عامّة القرّاء. وفي السبعة 626، والحجّة 215، والكشف 2: 309، والتيسير 208 استثنى منهم ابن عامر. (3) . في السبعة 626، والحجّة 215، والكشف 2: 309، والتيسير 208 إلى ابن عامر وزاد في الجامع 17: 247 يعقوب. وفي معاني القرآن 3: 134 إلى بعض أهل الحجاز، وفي الطبري 27: 228 إلى أبي جعفر القارئ، وفي الشواذ 152 زاد «جماعة» ، وهارون عن أبي عمرو وفي البحر 8: 222 زاد على ما مرّ، الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر.

وفي كتاب الله: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) [الشعراء] ووَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الأنعام: 6] . قال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد السبعون] : فما تركت قومي لقومك حيّة ... تقلّب في بحر ولا بلد قفر وقال: جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ [آل عمران: 86 و 105] ووَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ [يوسف: 30] . وقال الشاعر أشدّ من ذا وقد أخّر الفعل، قال [من المتقارب وهو الشاهد الثاني والثلاثون] : فإمّا تري لمّتي بدّلت ... فإنّ الحوادث أودى بها أراد «أودت بها» مثل فعل المرأة الواحدة، يجوز أن يذكّر، فذكر هذا. وهذا التذكير في الموات أقبح، وهو في الإنس أحسن، وذلك أنّ كلّ جماعة من غير الانس، فهي مؤنثة تقول: «هي الحمير» ، ولا تقول «هم» . إلّا أنهم قد قالوا: «أولئك الحمير» ، وذلك أن «أولئك» قد تكون للمؤنث والمذكر تقول: «رأيت أولئك النساء» . قال الشاعر «2» : [من الكامل وهو الشاهد الحادي والسبعون] : ذمّي المنازل بعد منزلة اللّوى ... والعيش بعد أولئك الأيّام «3» وأمّا قوله تعالى وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الآية 49] ووَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [الآية 50] وأمكنة كثيرة، فإنّما هي على ما قبلها، إنّما يقول: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [الآية 47] و «اذكروا إذ نجّيناكم» و «اذكروا إذ فرقنا بكم البحر» و «اذكروا إذ قلتم يا موسى لن نصبر» «4» وقال بعضهم «فرّقنا» «5» .

_ (1) . في معجم شواهد العربية أنّ شاهدا ينتهي بهذه القافية للحطيئة، وليس في ديوانه. والموضع الذي عثر عليه فيه رمز له ب «صف» ، ولا يوجد في مسرد الرموز مرجع له هذا الرمز. ولكن في ديوان الأخطل 220 بيت مقارب معنى، هو قوله من قصيدة يهجو بها ابن صفار المحاربي: فما تركت حيّاتنا لك حية ... تقلّب في أرض براح ولا بحر فلعلّه هو برواية أخرى. (2) . هو جرير بن عطية بن الخطفي. (3) . ديوانه 551 (الصاوي) وفيه ب «ذم» و «الأقوام» ، وفي الخزانة 2: 467 ب «ذم» أيضا، والمقاصد النحوية 1: 408 كذلك. (4) . إشارة إلى الآية 61. [.....] (5) . في الشواذ 5، والمحتسب 82، والجامع 1: 387، والبحر 1: 197 إلى الزهري.

باب أهل وآل

وقال تعالى وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الآية 51] أي: واعدناه انقضاء أربعين ليلة، أي: رأس الأربعين، كما قال أيضا وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وهذا مثل قولهم «اليوم أربعون يوما منذ خرج» و «اليوم يومان» أي: «اليوم تمام الأربعين» و «تمام يومين» «1» . باب أهل وآل وقوله تعالى مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ [الآية 49] ، فإنّما حدّث عمّا كانوا يلقون منهم. ويَسُومُونَكُمْ في موضع رفع، وإن شئت جعلته في موضع نصب على الحال، كأنه «2» يقول «وإذ نجّيناكم من آل فرعون سائمين لكم» والرفع على الابتداء. وأمّا «آل» ، فإنها تحسن إذا أضيفت الى اسم خاصّ، نحو: «أتيت آل زيد» ، و «أهل زيد» ، و «أهل مكة» و «آل مكة» ، و «أهل المدينة» ، و «آل المدينة» ،. ولو قلت: «أتيت آل الرجل» و «آل المرأة» لم يحسن، ولكن: «أتيت آل الله» وهم، زعموا، أهل مكة. وليس «آل» ، بالكثير في أسماء الأرضين وقد سمعنا من يقول ذلك «3» . وإنّما هي همزة، أبدلت مكان الهاء، مثل «هيهات» و «أيهات» «4» . وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ [الآية 50] أي فرقنا بين الماءين حين مررتم فيه. وأمّا قوله تعالى بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ [الآية 54] ، فانتصب الْعِجْلَ، لأنّه مفعول به، تقول: «عجبت من ضربك زيدا» . وقوله بارِئِكُمْ مهموز لأنه من «برأ الله

_ (1) . في إعراب القرآن 1: 47، والجامع 1: 395، والبحر 1: 199 نقلت هذه الآراء، مع هذه الأمثلة للأخفش ونسبت إليه. (2) . عبارة الأخفش في الرفع والنصب بنصها، في إعراب القرآن 1: 46، والجامع 1: 384. (3) . نقل عن الأخفش في إعراب القرآن 1: 46، والجامع 1: 382، والبحر 1: 188، آراؤه في هذا اللفظ بعبارات تغاير هذه ولعلّها منقولة من كتاب آخر له وفي الموضعين الأوّلين ينكر الكسائي استعمال «ال» في البلدان. (4) . أشير في الإبدال والمعاقبة 29 وما بعدها، إلى الإبدال في هاتين اللفظتين «أهل» و «هيهات» . وفي الإبدال 2: 571 إلى ثانيهما وفي اللهجات العربية 491 أنّ طيّئا كانت تبدل الهمزة هاء في «إن» الشرطية وهمزة النداء وأنّ اللغة الجنوبية، كانت تبدل الهمزة هاء وفي الجامع نسب الرأي إلى النحاس 1: 383.

الخلق» «يبرأ» «برآ» . وقد قرأ بعضهم، هذه الهمزة بالتخفيف، فجعلها بين الهمزة وبين الياء «1» . وقد زعم قوم، أنّها تجزم «2» ، ولا أرى ذلك إلّا غلطا منهم، سمعوا التخفيف، فظنّوا أنّه مجزوم، والتخفيف لا يفهم إلّا بمشافهة، ولا يعرف في الكتاب. ولا يجوز الإسكان، إلّا أن يكون أسكن، وجعلها نحو «علم» و «قد ضرب» و «قد سمع» ونحو ذلك «3» . سمعت من العرب، من يقول: (جاءت رسلنا) «4» جزم اللام، وذلك لكثرة الحركة، قال الشاعر «5» [من السريع وهو الشاهد الثاني والسبعون] : وأنت لو باكرت مشمولة ... صهباء مثل الفرس الأشقر «6» رحت وفي رجليك ما فيهما ... وقد بدا هنك من المئزر وقال امرؤ القيس «7» [من السريع وهو الشاهد الثالث والسبعون] : فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل «8» وقال آخر [من الرجز وهو الشاهد الرابع والسبعون] : إنّ بني ثمره فؤادي وقال آخر [من الرجز وهو الشاهد الخامس والسبعون] :

_ (1) . في الشواذ 5، أنّ القراءة بالياء إلى الأشهب وفي السبعة 154 إلى أبي عمرو وكذلك في الكشف 1: 241. (2) . في السبعة 154 و 155 أنّها إلى أبي عمرو وفي حجّة ابن خالويه 54، والكشف 1: 240 والجامع 1: 402 كذلك. (3) . في الكتاب 2: 257 و 258 هي لغة بكر بن وائل، وأناس كثير من بني تميم، وانظر اللهجات العربية 171 ولهجة تميم 166 و 167 و 168. (4) . هود 11: 69، و 77 والعنكبوت 29: 31 و 33. (5) . هو الأقيشر المغيرة بن عبد الله الأسدي «شرح الخوارزمي لسقط الزند 1683، والخزانة 2: 379، والأقيشر الأسدي وأخبار شعره 6، وقيل هو الفرزدق، أمالي ابن الشجري 2: 37 وليس البيتان في ديوانه. (6) . في الأقيشر 66: فقلت» بدل «وأنت» و «صهبا كلون» وفي مجالس ثعلب 88 و 110 «صفرا كلون» ، وفي شرح الخوارزمي ب «لون» بدل «مثل» ، وفي أمالي ابن الشجري ب «حمراء» . (7) . هو امرؤ القيس بن حجر الكندي، شاعر أولى المعلّقات، انظر ترجمته في الأغاني 8: 62، وطبقات فحول الشعراء 1: 51 والشعر والشعراء 1: 105. (8) . ديوان امرئ القيس 122، وفي الكامل 1: 209، والاشتقاق 337 ب «أسقى» بدل «أشرب.

باب الفعل

يا علقمه يا علقمه يا علقمه ... خير تميم كلّها وأكرمه وقال «1» [من الرجز وهو الشاهد السادس والسبعون] : إذا اعوججن قلت صاحب قوّم ... بالدّوّ أمثال السّفين العوّم «2» ويكون «رسلنا» على الإدغام «3» ، يدغم اللام في النون ويجعل فيها غنّة. والإسكان في (بارئكم) على البدل لغة الذين قالوا: «أخطيت» وهذا لا يعرف «4» . باب الفعل أمّا قوله تعالى حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الآية 55] فيقال: «جهارا» أي: «عيانا يكشف ما بيننا وبينه» كما تقول: «جهرت الرّكيّة» إذا كان ماؤها قد غطّاه الطين فنفي ذلك حتّى يظهر الماء، ويصفو «5» . وأمّا قوله تعالى وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [الآية 57] ، ف «الغمام» واحدته «غمامة» ، مثل «السّحاب» واحدته «سحابة» «6» . وأما «السّلوى» ، فهو طائر لم يسمع له بواحد، وهو شبيه أن يكون واحده «سلوى» ، مثل جماعته، كما قالوا: «دفلى» للواحد والجماعة، و «سلامى» للواحد والجماعة، وقد قالوا «سلاميات» ، وقالوا «حبارى» للواحد، وقالوا للجماعة: «حباريات» ، وقال بعضهم للجماعة «حبارى» . قال الشاعر «7» [من الطويل وهو الشاهد السابع والسبعون] : وأشلاء لحم من حبارى يصيدها ... إذا نحن شئنا صاحب متألّف «8» وقالوا: «شكاعى» للواحد

_ (1) . هو «أبو نخيلة» الخصائص 1/ هـ 75» . [.....] (2) . الكتاب وتحصيل عين الذهب 2: 297، ومعاني القرآن 2: 12 و 371. (3) . وهو من الإدغام الكبير، إذ حذف حركة اللام، فسكّنت أولا، ثمّ أدغمها في النون ثانيا. (4) . لم نجد من يأخذ بهذه اللغة، لولا ما يتكرّر دائما من أنّ أهل الحجاز يتخفّفون من الهمزة. (5) . في الصحاح «جهر» ، نقل لهذه الفقرة مع تقديم وتأخير. (6) . في الجامع 1: 405، نقل عنه هذه العبارة. (7) . هو الفرزدق همّام بن غالب، ديوانه 2: 555، وشرح المفصّل 5: 90. (8) . في شرح المفصّل، العجز: لنا قانص من بعض ما يتخطّف.

والجماعة «1» ، وقال بعضهم للواحد: «شكاعاة» «2» . وقوله تعالى وَقُولُوا حِطَّةٌ [الآية 58] أي: «قولوا» «لتكن منك حطة لذنوبنا» ، كما تقول للرجل: «سمعك إليّ» . كأنّهم قيل لهم: قولوا: «يا ربّ لتكن منك حطّة لذنوبنا» . وقد قرئت نصبا، على أنّه بدل، من اللفظ بالفعل. وكلّ ما كان بدلا من اللفظ بالفعل، فهو نصب الفعل، كأنّه قال: «احطط عنّا حطّة» «3» فصارت بدلا من «حطّ» ، وهو شبيه بقولهم: «سمع وطاعة» ، فمنهم من يقول: «سمعا وطاعة» ، إذا جعله بدل: «أسمع سمعا وأطيع طاعة» . وإذا رفع، فكأنّه قال: «أمري سمع وطاعة» . قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الثامن والسبعون] : أناخوا بأيدي عصبة وسيوفهم ... على أمّهات الهام ضربا شاميا وقال الاخر «4» [من الوافر وهو الشاهد التاسع والسبعون] : تركنا الخيل وهي عليه نوحا ... مقلّدة أعنّتها صفونا «5» وقال بعضهم: «وهي عليه نوح» ، جعلها في التشبيه هي النوح، لكثرة ما كان ذلك منها، كما تقول: «إنّما أنت شرّ» و «إنّما هو حمار» في الشّبه، أو تجعل الرفع، كأنّه قال: «وهي عليه صاحبة نوح» ، فألقى الصاحبة، وأقام النوح مقامها. ومثل ذلك قول الخنساء «6» [من البسيط وهو الشاهد الثمانون] :

_ (1) . هو رأي سيبويه «اللسان» «شكع» . (2) . في الصحاح «سلا» ، والجامع 1: 408، والبحر 1: 205، نقلت آراء الأخفش في «السلوى» و «دفلى» و «سلامى» و «شكاعى» . (3) . في إعراب القرآن 1: 50 والجامع 1: 410، نقلت آراء الأخفش هذه. (4) . هو عمرو بن كلثوم التغلبي. (5) . هو من معلّقته المستفيضة الشهرة. وقد جاء في مجاز القرآن 1: 404، ب «تظل جياده نوحا عليه» ورفع أعنتها» ، وفي شرح القصائد السبع 389، وشرح القصائد التسع 2: 631، وشرح القصائد العشر 227، وشرح المعلّقات السبع 146، ب «عاكفة عليه» ونصب «أعنّتها» . (6) . هي تماضر بنت عمرو بن الشريد وانظر ترجمتها في الأغاني 13: 135، وطبقات الشعراء 1: 210، والشعر والشعراء 1: 348.

ترتع ما رتعت حتّى إذا ذكرت فإنّما هي إقبال وإدبار «1» ومثله قراءة من قرأ: (قالوا معذرة الى ربّكم) «2» ، أي كأنّهم قالوا: «موعظتنا إيّاهم معذرة» ، وقد نصب «3» على: «نعتذر معذرة» وقال تعالى فَأَوْلى لَهُمْ [محمد: 20] طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ [محمد: 21] على قوله إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ [محمد: 18] فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ جعل الطاعة مبتدأ، فقال طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ خير من هذا، أو جعل طاع مبتدأ، فقال «طاعة وقول معروف خير من هذا» . وزعم يونس «4» أنّه قيل لهم «قولوا حطة» أي: تكلّموا بهذا الكلام. كأنه فرض عليهم أن يقولوا هذه الكلمة مرفوعة. وقال تعالى فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [الآية 59] وقال أيضا وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) [المدّثّر] وقرأ بعضهم (والرّجز) «5» . وذكروا أن «الرّجز» : صنم، كانوا يعبدونه فأما «الرجز» ، فهو: «الرجس. (والرّجس: النّجس) قال تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] و «النجس» : القذر. وقال تعالى

_ (1) . في الديوان 26 ب «اذكرت» ، وفي الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 169 أيضا. [.....] (2) . الأعراف 7: 164 وهي في السبعة 298 قراءة عاصم، وفي الكشف 1: 481، والتيسير 114، إلى غير حفص وفي معاني القرآن 1: 398 أنّها ما آثرته القرّاء، وفي البحر 4: 412 إلى الجمهور. (3) . والنّصب ما عليه رسم المصحف، وهو في السبعة 298 إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية وفي الكشف 1: 481، والتيسير 114، إلى حفص وفي البحر 4: 412 إلى زيد بن علي وعاصم في رواية، وعيسى ابن عمر وطلحة بن مصرف. (4) . هو يونس بن حبيب وقد مرّت ترجمته فيما سبق. (5) . قراءة ضمّ الرّاء هي في معاني القرآن 3: 200 إلى السّلمي ومجاهد وأهل المدينة وفي الطّبري 29: 174 إلى بعض المكّيين والمدنيين وفي السّبعة 659 الى حفص والمفضّل عن عاصم وفي الكشف 2: 347 والتيسير 216 إلى حفص وفي الجامع 19: 67 الى الحسن وعكرمة ومجاهد وابن محيصن وحفص عن عاصم، وقال هي لغة وفي البحر 8: 371 إلى الحسن ومجاهد والسلمي وأبي شيبة وابن محيصن وابن وثاب وقتادة والنخعي وابن أبي إسحاق والأعرج وحفص. أمّا قراءة كسر الرّاء ففي معاني القرآن 3: 200 نسبت الى عاصم والأعمش والحسن وفي الطّبري 29: 147 إلى بعض قرّاء المدينة وعامّة قرّاء الكوفة وفي السّبعة 659 إلى غير حفص والمفضّل عن عاصم، والى عاصم في رواية وفي الكشف 2: 347 والتيسير 216 وفي الجامع 19: 67 والبحر 8: 371 الى الجمهور.

باب زيادة"من"

فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [الآية 60] يكسر الشين بنو تميم «1» ، وأما أهل الحجاز فيسكّنون «2» . وقوله تعالى وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) . من «عثي» «يعثى» وقال بعضهم: «يعثو» من «عثوت» ، ف «أنا أعثو» ، مثل: «غزوت» ف «أنا أغزو» . باب زيادة «من» وأمّا قوله تعالى يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها [الآية 61] فدخلت فيه (من) كنحو ما تقول في الكلام: «أهل البصرة يأكلون من البرّ والشّعير» وتقول: «ذهبت فأصبت من الطّعام» ، تريد «شيئا» ولم تذكر الشيء. كذلك يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شيئا، ولم يذكر الشيء، وان شئت جعلته، على قولك: «ما رأيت من أحد» ، تريد: «ما رأيت أحدا» ، و «هل جاءك من رجل» تريد هل جاءك رجل. فان قلت: «إنّما يكون هذا في النفي والاستفهام» فقد جاء في غير ذلك قال تعالى وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ [الآية 271] فهذا ليس باستفهام ولا نفي. وتقول: «زيد من أفضلها» ، تريد: هو أفضلها، وتقول العرب: «قد من حديث، فخلّ عنّي حتّى أذهب» يريدون: قد كان حديث «3» . ونظيره قولهم: «هل لك في كذا وكذا ولا يقولون: «حاجة، و: لا عليك» يريدون: لا بأس عليك. وأمّا قوله تعالى اهْبِطُوا مِصْراً [الآية 61] وادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) [يوسف] فزعم بعض الناس، أنّه جلّ جلاله يعني فيهما جميعا «مصر» بعينها، ولكن ما كان من اسم مؤنّث على هذا النحو «هند» و «جمل» فمن العرب من يصرفه، ومنهم من لا يصرفه. وقال بعضهم:

_ (1) . وهي في الشواذ، 5 و 6 الى الأعمش وفي الجامع 1: 420 الى مجاهد وطلحة وعيسى وفي البحر 1: 229 الى مجاهد وطلحة وعيسى بن يحي بن وثاب وابن أبي ليلى ويزيد وأبي عمرو في رواية غير مشهورة، وإلى الأعمش، وقد أيّد في المحتسب 85، وفي الجامع والبحر، كما سبق لها أنها لغة تميم وقال في الجامع، وهذا من لغتهم نادر ولهجة تميم 173. (2) . في البحر 1: 229 نسبت هذه القراءة إلى أبي عمرو في رواية مشهورة عنه، والأعمش في رواية أيضا، وفي الجامع 1: 420 أنّها لغة أهل الحجاز. (3) . نقلت عنه هذه المعاني في اعراب القرآن 1: 52 و 63، والجامع 52 و 63، والبحر 1: 232، والمشكل 1: 96.

باب من تفسير الهمز

«أمّا التي في «يوسف» فيعني بها «مصر» ، بعينها، والتي في «البقرة» ، يعني بها مصرا من الأمصار. وأما قوله تعالى وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الآية 61] فمعنى باؤوا: «رجعوا به» أي صار عليهم، وتقول «باء بذنبه يبوء بوءا» «1» . وقال تعالى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة: 29] مثله. باب من تفسير الهمز أمّا قوله تعالى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ [الآية 61] ووَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ [آل عمران: 112] كل ذلك جماعة العرب تقوله. ومنهم، من يقول «النّبآء» ، أولئك الذين يهمزون «النبيء» ، فيجعلونه مثل «عريف» و «عرفاء» «2» . والذين لم يهمزوه، مثل بنات الياء، فصار مثل «وصيّ» و «أوصياء» ، ويقولون أيضا: «هم وصيّون» . وذلك أنّ العرب تحوّل الشيء من الهمزة حتّى يصير كبنات الياء «3» ، ويجتمعون على ترك همزة نحو «المنسأة» ولا يكاد أحد يهمزها، إلّا في القرآن، فإنّ أكثرهم قرأها بالهمز وبها نقرأ «4» ، وهي من «نسأت» . وجاء ما كان من «رأيت» ، على «يفعل» أو «تفعل» أو «نفعل» أو «أفعل» غير مهموز، وذلك أنّ الحرف الذي كان قبل الهمزة، ساكن، فحذفت الهمزة وحرّك الحرف الذي قبلها بحركتها كما تقول: «من أبوك» «5» .

_ (1) . في الصحاح (بوء) نقلت هذه الجمل والعبارات منسوبة الى الأخفش. (2) . أشار الى هذه اللغة في البيان 1: 87 و 88 ولم يحدّد. وهم أهل مكّة «اللسان نبأ» وبعض أهل المدينة في القراءة «اللسان نبا» واللهجات العربية 261. (3) . قراءة النبيئين بالهمز في الشواذ 57 بلا نسبة، وفي الجامع 1: 431 الى نافع. (4) . سبأ 34: 14 وهي في معاني القرآن 2: 356 إلى عاصم والأعمش، وفي الطبري 22: 74 الى عامّة قرّاء الكوفة، وفي السبعة 527 والكشف 2: 203 الى غير نافع وأبي عمرو، وزاد في الاستثناء في التيسير 180 والجامع 14: 279 ابن ذكوان، وفي البحر 7: 627 الى ابن ذكوان والوليد بن عتبة والوليد بن سلم وسائر السّبعة إلّا نافعا وأبا عمرو، وأمّا قراءة الألف بلا همزة فهي في معاني القرآن 2: 356 إلى أهل الحجاز والحسن وأبي عمرو وأنها لغة قريش، وفي الطبري 22: 73 إلى عامّة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة، وفي السبعة 527 والكشف 2: 203 والتيسير 180 والجامع 14: 279 والبحر 7: 267 الى نافع وأبي عمرو، وفي المحتسب 2: 187 الى أبي عمرو وابن أبي إسحاق في ثاني قراءتيه. (5) . في اللسان «حرف الهمزة» قالوا. لا بالك ولاب لغيرك ولاب لشائنك. ولم يبيّن لغة من هي؟

قال تعالى: أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) [النجم] وقال: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) [التكاثر: 6] وقال: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ [الأنفال: 48] وقال: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) [الأعراف] وأمّا قوله تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) [الماعون] وأَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) [العلق] وما كان من «أرأيت» في هذا المعنى، ففيه لغتان، منهم من يهمز «1» ، ومنهم من يقول «أرايت» «2» . وإنّما يفعل هذا، في «أرأيت» هذه التي وضعت للاستفهام، لكثرتها. فأما «أرأيت زيدا» ، إذا أردت «أبصرت زيدا» ، فلا يتكلّم بها إلّا مهموزة أو مخفّفة. ولا يكاد يقال «أريت» ، لأنّ تلك كثرت في الكلام، فحذفت كما حذفت في أمانّه ظريف» ، يريدون: «أما إنّه ظريف» فيحذفون، ويقولون أيضا: «لهنّك لظريف» يريدون: «لأنّك لظريف» . ولكن الهمزة حذفت كما في قولهم [من البسيط وهو الشاهد الحادي والثمانون] : لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب ... عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني «3» وقال الشاعر «4» [من الكامل وهو الشاهد الثاني والثمانون] : أرأيت إن أهلكت مالي كلّه ... وتركت مالك فيم أنت تلوم «5» فهمز، وقال الاخر «6» : [من المتقارب وهو الشاهد الثالث والثمانون] : أريت امرأ كنت لم أبله ... أتاني وقال اتّخذني خليلا فلم يهمز: وقال «7» [من الكامل وهو الشاهد الرابع والثمانون] :

_ (1) . هم بنو تميم. اللهجات العربية 256. (2) . هم أهل الحجاز. اللهجات العربية 256. [.....] (3) . البيت لذي الإصبع العدواني. ديوانه 89، ومجالس العلماء 71، والأمالي 1: 255. (4) . هو المتوكل بن عبد الله بن نهشل الليثي، من شعراء صدر الدولة الأموية. (5) . مجاز القرآن 2: 11. (6) . هو أبو الأسود ظالم بن عمرو الدّؤلي، والبيت في ديوانه 38، ومجاز القرآن 2: 11، واللسان «رأي» ، والصحاح «رأي» . (7) . هو العبّاس بن مرداس السلمي.

يا خاتم النّبآء إنّك مرسل ... بالحقّ كلّ هدى السّبيل هداكا «1» وأمّا قوله تعالى بِما عَصَوْا [الآية 61] فجعله اسما هنا كالعصيان يريد: بعصيانهم، فجعل «ما» و «عصوا» اسما. وقوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [الآية 63] فهذا على الكلام الأوّل، كأنّه «أذكروا إذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا» ثم: «فقلنا لكم» : «خذوا» «2» . كما تقول: «أوحيت إليه: قم» ، كأنّه يقول: «أوحيت إليه، فقلت له: «قم» وكان في قولك: «أوحيت إليه» دليل على أنّك قد قلت له. وأمّا قوله تعالى وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [الآية 65] كأنّه يقول: «ولقد عرفتم» كما تقول: «لقد علمت زيدا ولم أكن أعلمه» «3» . وقال تعالى وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال: 60] كأنّه يقول: «يعرفهم» . وقال تعالى لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101] أي: لا تعرفهم نحن نعرفهم. وإذا أردت العلم الاخر قلت: «قد علمت زيدا ظريفا» لأنّك تحدّث عن ظرفه. فلو قلت: «قد علمت زيدا» لم يكن كلاما. وأمّا قوله تعالى كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فلأنّك تقول: «خسأته» فخسئ» «يخسأ خسأ «4» شديدا» ف «هو خاسئ» و «هم خاسئون» . وأمّا قوله تعالى فَجَعَلْناها نَكالًا [الآية 66] ، فتكون على القردة، وتكون على العقوبة، التي نزلت بهم، فلذلك أنّثت. وأما قوله تعالى أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [الآية

_ (1) . ديوانه 95 والكتاب 2: 126. (2) . في إيضاح الوقف 1: 519، وإعراب القرآن 1: 54، أفيد هذا الرأي، ونسب بعبارة مقاربة. (3) . في إعراب القرآن 1: 54، والجامع 1: 439، أفيدت هذه الآراء منسوبة إلى الأخفش. (4) . هكذا وردت الأمثلة الفعلية تحمل بابين للفعل، يبدو منهما أنّ المتعدي يصاغ من باب «فتح» ، واللازم المطاوع من باب «فرح» .

67] ، فمن العرب والقرّاء من يثقّله «1» ، ومنهم من يخفّفه «2» وزعم عيسى بن عمر، أنّ كلّ اسم على ثلاثة أحرف، أوّله مضموم، فمن العرب من يثقله، ومنهم من يخفّفه، نحو: «اليسر» و «اليسر» ، و «العسر» و «العسر» «الرحم» و «الرحم» «3» . وقال بعضهم عُذْراً [المرسلات: 6] خفيفة، (أو نذرا) [المرسلات: 6] مثقلة، وهي كثيرة وبها نقرأ «4» . وهذه اللغة التي ذكرها عيسى بن عمر، تحرّك أيضا ثانيه بالضم. وأمّا قوله تعالى: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ [الآية 68] فارتفع، ولم يصر نصبا، كما ينتصب النفي، لأنّ هذه صفة في المعنى للبقرة. والنفي المنصوب لا يكون صفة من صفتها، إنّما هو اسم مبتدأ، وخبره مضمر، وهذا مثل قولك: «عبد الله لا قائم ولا قاعد» ، أدخلت «لا» ، للمعنى وتركت الإعراب على حاله لو لم يكن فيه «لا» . وأمّا قوله تعالى بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ [الآية 69] ف «الفاقع» : الشديد الصفرة. ويقال: «أبيض يقق» : أي: شديد البياض، و «لهاق» و «لهق» و «لهاق» ، و «أخضر ناصر» ، و «أحمر قانئ» و «ناصع» و «فأقم» . ويقال: «قد

_ (1) . اللهجات العربية 171 هي لغة الحجاز وهي في السبعة 157 و 158 و 159 قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر والكسائي في رواية الى نافع وعاصم. وفي حجّة ابن خالويه 58، أنّها إلى عاصم في رواية أبي بكر، وفي الكشف 1: 247 إلى القرّاء عدا حمزة، وفي التيسير 74 الى حفص، وفي الجامع 1: 447 والبحر 1: 250 كذلك، وزاد في الأخير غير حمزة أو إسماعيل أو خلف أو القزّاز والمفضّل من أخذ بالقراءة الاخرى. (2) . اللهجات العربية 171 هي لغة بكر بن وائل وكثير من تميم، وهي في السبعة 158 و 159 و 160 الى حمزة، وفي رواية الى عاصم وأبي عمرو ونافع وفي حجّة ابن خالويه 58 و 59 إلى حمزة وعاصم برواية حفص، وأضاف أنّها لغة تميم وأسد وقيس وفي الكشف 1: 247 أضاف إلى حمزة والقرّاء حفصا، وفي التيسير 74 إلى حمزة، وفي الجامع 1: 447 الى الكوفيين، وفي البحر 1: 250 إلى حمزة وإسماعيل وخلف والقزاز عن عبد الوارث والمفضّل. (3) . وقد نقل هذا الرأي ونسب في الجامع 1: 447. والمشكل 1: 448. (4) . في معاني القرآن 3: 222 الى عاصم، وفي الطّبري 29: 233 إلى عامّة قرّاء المدينة والشّام وبعض المكّيين وبعض الكوفيين، وفي السبعة 666 الى ابن كثير ونافع وابن عامر والى عاصم في رواية، وفي الكشف 2: 357 تثقيل الذّال في الثانية الى الحرمين وأبي بكر وابن عامر، وفي التيسير 218 كذلك، وفي الجامع 19: 156 نسب هذه القراءة إلى ابراهيم التيمي وقتادة وأبي عبّاس، وإسكان الأولى الى السّبعة كلّهم، وفي البحر 8: 405 إلى أبي جعفر في رواية وإلى شيبة وزيد بن علي والحرمين وابن عامر وأبي بكر.

قنأت لحيته» ف «هي تقنأ قنوأ» أي: احمرّت. قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد الخامس والثمانون] : . كما قنأت أنامل صاحب الكرم «1» و «قاطف الكرم» . وقال آخر «2» [من الكامل وهو الشاهد السادس والثمانون] : من خمر ذي نطف أغنّ كأنّما ... قنأت أنامله من الفرصاد «3» وأمّا في قوله تعالى إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا [الآية 70] فجعل «البقر» مذكّرا مثل «التّمر» و «البسر» كما تقول: «إنّ زيدا تكلّم يا فتى» وإن شئت قلت (يشّابه) «4» وهي قراءة مجاهد «5» ذكّر «البقر» يريد «يتشابه» ثم أدغم التاء في الشين. ومن أنّث «البقر» قال (تشّابه) «6» فأدغم، وإن شاء حذف التاء الاخرة، ورفع، كما تقول «إنّ هذه تكلّم يا فتى» لأنها في «تشابه» إحداهما تاء «تفعل» ، والأخرى التي في «تشابهت» فهو في التأنيث معناه «تفعل» ، وفي التذكير معناه «فعل» و «فعل» أبدا مفتوح، كما ذكرت لك، والتاء محذوفة إذا أردت التأنيث، لأنّك تريد «تشابهت» فهي «تشابه» وكذلك كل ما كان من نحو «البقر» ، ليس بين

_ (1) . هذا ما ورد من الشعر. [.....] (2) . هو الأسود بن يعفر كما في الصحاح «قنأ» و «فرصد» واللسان «قنأ» و «فرصد» وديوان الأسود بن يعفر 29. (3) . في الجمهرة الصدر (يسعى بها ذو تومتين كأنما) وفي الصحاح «قنأ» «مشمر» بدل «كأنما» وفي «فرصد» كما رواه الأخفش وفي اللسان «قنأ» كما رواية الصحاح الاولى وفي «فرصد» ب «منطق» بدل «كأنما» وفي المخصّص 4: 43 ب «منطق» وقال روي بالفاء والقاف. وفي التّاج «قبأ» مثل رواية الصحاح الاولى وفي «فرصد» ب «منطق» وما في ديوان الأسود بن يعفر: من خمر ذي نطف أغنّ منطّق ... وافى بها كدراهم الأسجاد يسعى بها ذو تومتين مشمّر ... قنأت أنامله من الفرصاد (4) . في الشواذ 7 إلى محمد ذي الشامة وكذلك وفي الكشّاف 1: 151 وفي البحر 1: 254 الى ابن مسعود. (5) . هو أبو الحجّاج مجاهد بن جبر المكّي، علم من المتابعين وأئمة التفسير، قرأ على ابن عبّاس وعبد الله بن السائب، وله اختيار في القراءة وتوفي سنة 103. طبقات ابن الخياط 280، وطبقات القرّاء 2: 44، والمعارف 444، وميزان الاعتدال 3: 439. (6) . في الشواذ 7 إلى ابن مسعود، وبتخفيف الشّين إلى الحسن. وفي الجامع 1: 451 إلى الحسن والأعرج، وفي البحر 1: 254 أضاف «في احدى الروايتين) .

الواحد والجماعة فيه، إلّا الهاء، فمن العرب من يذكّره «1» ومنهم من يؤنّثه «2» ، ومنهم من يقول: «هي البرّ والشّعير» «3» وقال تعالى: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) [ق] فأنّث على تلك اللغة، وقال «باسقات» فجمع، لأن المعنى جماعة. وقال الله جل ثناؤه أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ [النور: 43] ، فذكّر في لغة من يذكّر، قال وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) [الرعد] فجمع، على المعنى، لأنّ المعنى سحابات. وقال تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ [يونس: 43] وقال سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس: 42] على المعنى واللفظ. وقد قال بعضهم: إنّ الباقر «4» مثل «الجامل» يعني «البقر» و «الجمال» قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد السابع والثمانون] : مالي رأيتك بعد أهلك موحشا ... خلقا كحوض الباقر المتهدّم وقال «5» [من الطويل وهو الشاهد الثامن والثمانون] : فإن تك ذا شاء كثير فإنّهم ... ذوو جامل لا يهدأ اللّيل سامره «6» وأمّا قوله تعالى إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ [الآية 71] «مسلّمة» على «إنّها بقرة مسلّمة» . لا شِيَةَ فِيها [الآية 71] يقول: «لا وشي فيها» من «وشيت شية» كما تقول: «وديته دية» و «وعدته عدة» . وإذا استأنفت أَلْآنَ [الآية 71] ، قطعت الألفين جميعا لأنّ الألف الأولى مثل ألف «الرّجل» وتلك تقطع

_ (1) . هم تميم وأهل نجد «اللهجات العربية 501» . (2) . هم أهل الحجاز. (3) . انظر الهامش السابق، والمزهر 2: 277. (4) . في الكشّاف 1: 151 الى محمّد ذي الشامة. وذكرها في الإملاء 1: 43 بلا نسبة، وفي الجامع 1: 452 الى يحيى بن يعمر. (5) . هو الحطيئة. ديوانه 184، واللسان «جمل» والخزانة 3: 389. (6) . في الأصل: له جامل ما يهدأ الليل سامره والصدر والتصحيح من الديوان، وفي الصحاح «جمل» ب «لهم» بدل «له» واللسان «جمل» كذلك. وفي الخزانة «لنا» بدل «له» ولا بدل «ما» وأشار الى الروايات الاخرى.

إذا استؤنفت، والأخرى همزة ثابتة تقول «ألان» فتقطع ألف الوصل، ومنهم من يذهبها ويثبت الواو التي في قالُوا [الآية 71] لأنّه إنّما كان يذهبها لسكون اللام، واللّام قد تحركت لأنّه قد حوّل عليها حركة الهمزة «1» . وأما قوله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها [الآية 72] فإنّما هي «فتدارأتم» ، ولكنّ التاء تدغم أحيانا، كذا في الدّال لأنّ مخرجها من مخرجها. فلمّا أدغمت فيها حوّلت، فجعلت دالا مثلها، وسكّنت فجعلوا ألفا قبلها حتى يصلوا إلى الكلام بها، كما قالوا: «اضرب» فألحقوا الالف حين سكنت الضّاد. ألا ترى أنك إذا استأنفت قلت «ادّارأتم» ومثلها يَذْكُرُونَ «2» و «تذّكّرون» «3» وأَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ «4» ومثله في القرآن كثير. وإنّما هو «يتدبّرون» فأدغمت التاء في الدال، لأنّ التاء قريبة المخرج من الدال، مخرج الدال بطرف اللسان وأطراف الثنيتين، ومخرج التاء بطرف اللسان وأصول الثنيتين. فكلّ ما قرب مخرجه، فافعل به هذا، ولا تقل في «يتنزّلون» : «ينزّلون» لأنّ النون ليست من حروف الثنايا كالتاء. وقال تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [الآية 74] وليس قوله: أَوْ أَشَدُّ كقولك: «هو زيد أو عمرو» إنّما هذه أَوْ التي في معنى الواو، نحو قولك، «نحن نأكل البرّ أو الشّعير أو الأرزّ، كلّ هذا نأكل» ف أَشَدُّ ترفع على خبر المبتدأ. وإنما هو «وهي أشدّ قسوة» وقرأ بعضهم (فهي كالحجارة) فأسكن الهاء، وبعضهم يكسرها. وذلك أنّ لغة العرب في «هي» و «هو» ولام الأمر، إذا كان قبلهن واو، أو فاء، أسكنوا أوائلهن. ومنهم من يدعها. قال تعالى وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [القصص: 70] وقال تعالى:

_ (1) . نقله في الجامع 1: 455. (2) . في سبع آيات أوّلها الأنعام 6: 126، وآخرها النحل 16: 13. (3) . ليس في الكتاب الكريم فعل مضارع مسند الى المخاطبين من «ذكر» بتضعيف الذال والكاف، بل فيه بتاءين غير مدغمين في ثلاثة مواضع وبتاء واحدة، وتضعيف الكاف، في سبع عشرة آية، راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، باب ذكر. [.....] (4) . المؤمنون 23: 68 وفي الأصل «القرآن» بدل «القول» و «القرآن» في اثنتين أخريين هما في (النّساء 4: 82 ومحمّد 47: 24) والفعل معه «يتدبّرون» غير مجزوم.

باب إن وأن

وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «1» . وقال: ْيَعْبُدُوا [قريش: 3] يجوز فيها، في غير القرآن، الوقف والكسر. باب إنّ وأنّ قال سبحانه وتعالى وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الآية 74] فهذه اللّام، كما نعلم، لام التوكيد، وهي منصوبة، تقع على الاسم الذي تقع عليه «إنّ» ، إذا كان بينها وبين «إنّ» حشو من الكلام، نحو أن نقول: «إنّ في الدار لزيدا» . وتقع هذه اللام أيضا في خبر «إنّ» ، وتصرف «إنّ» إلى الابتداء، تقول: «أشهد إنّه لظريف» كأن اللاحق، في مثل هذا الترتيب، يعمل في السابق، قال الله عزّ وجلّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) [المنافقون] وقال: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) [العاديات] وهذا لو لم تكن فيه اللام كان «أنّ ربّهم» ، لأنّ «أنّ» الثقيلة إذا كانت وهي وما عملت فيه بمنزلة «ذاك» أو بمنزلة اسم فهي أبدا «أنّ» مفتوحة. وإن لم يحسن مكانها وما عملت فيه اسم، فهي «إنّ» على الابتداء. ألا ترى إلى قوله تعالى اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) [البقرة] يقول: «اذكروا هذا» وقال تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ [الصافات] لأنه يحسن في مكانه «لولا ذاك» وكل ما حسن فيه «ذاك» أن تجعله مكان «أنّ» وما عملت فيه فهو «أنّ» . وإذا قلت يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ لم يحسن أن تقول: يعلم لذلك» . فان قلت: «اطرح اللام أيضا وقل «يعلم ذاك» فاللام ليست مما عملت فيه «إنّ» . وأمّا في قوله تعالى: إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الفرقان: 20] فلم تنكسر إلّا هذه من أجل اللام [و] لو لم تكن فيها لكانت «أنّ» أيضا لأنّه لا يحسن أن تقول «ما أرسلنا قبلك إلّا ذاك» و «ذاك» هو القصة. قال الشاعر «2» : [من

_ (1) . ابراهيم 14: 4 وفي مواقع كثيرة اخرى. راجع المعجم المفهرس. (2) . هو كثيّر عزّة. انظر ديوانه 273، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 472.

المنسرح وهو الشاهد التاسع والثمانون] : ما أعطياني ولا سألتهما ... إلّا وإني لحاجزي كرمي فلو ألقيت من هذه اللام أيضا لكانت «أن» . وقال تعالى ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) [الأنفال] كأنه قال: «ذاك الأمر» وهذا قوله تعالى وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ تقع في مكانه «هذا» . وقال ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) [الأنفال] كأنه على جواب من قال: «ما الأمر» ؟ أو نحو ذلك فيقول للذين يسألون: «ذلكم.» كأنه قال: «ذلكم الأمر، وأنّ الله موهن كيد الكافرين» فحسن أن يقول: «ذلكم» و «هذا» . وتضمر الخبر أو تجعله خبرا مضمرا. قال تعالى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) [طه] لأنّه يجوز أن تقول: «إنّ لك ذاك» و «هذا» وهذه الثلاثة الأحرف، يجوز فيها كسر «إنّ» على الابتداء. فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ [آل عمران: 39] فيجوز أن تقول: «فنادته الملائكة بذاك» وإن شئت رفعته على الحكاية، كأنه يقول: «فنادته الملائكة فقالت: إنّ الله يبشّرك» ، لأنّ كلّ شيء بعد القول حكاية، تقول: «قلت: «عبد الله منطلق» قلت: «إنّ عبد الله زيدا منطلق» ، إلّا في لغة من أعمل القول من العرب كعمل الظنّ فذاك ينبغي له أن يفتح «أنّ» . وقال تعالى إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [الأنبياء: 92 والمؤمنون: 52] فيزعمون أن هذا، ولأنّ «هذه أمّتكم واحدة وأنا ربّكم فاتّقون» يقول: «فاتّقون لأنّ هذه أمّتكم» وهذا يحسن فيه كذاك، فإن قلت: «كي تلحق اللام ولم تكن في الكلام» . فإنّ طرح اللام وأشباهها من حروف الجرّ، من «أنّ» حسن، ألا تراه يقول: «أشهد أنّك صادق» ، وإنّما هو: «أشهد على ذلك» . وقال تعالى وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) [الجن] يقول: «فلا تدعوا مع الله أحدا لأنّ المساجد لله» ، وفي هذا الإعراب ضعف، لأنّه عمل فيه ما بعده، أضافه اليه بحرف الجر. ولو قلت «أنّك صالح بلغني» لم يجز، وإن جاز في ذلك. لأنّ حرف الجر لمّا تقدّم ضميره قوي. وقد قرئ

مكسورا «1» . وقال بعضهم: «إنّما هذا على أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 1] و «أوحي إليّ أنّ المساجد لله» و «أوحي إليّ أنه لمّا قام عبد الله» . وقد قرئ وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا «2» ففتح كلّ «أن» يجوز فيه على الوحي. وقرأ بعضهم (وإنّه تعالى جدّ ربّنا) «3» فكسروها من قول الجن «4» . فلما صار بعد القول صار حكاية، وكذاك ما بعده، مما هو من كلام الجن. وأمّا «إنّما» ، فإذا حسن مكانها «أنّ» فتحتها، وإذا لم تحسن كسرتها. قال تعالى، حكاية عن الرسول محمد (ص) ، قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [فصّلت: 6] فالآخرة يحسن مكانها «أنّ» فتقول: «يوحي إليّ أنّ إلهكم إله واحد» قال الشاعر «5» [من الطويل وهو الشاهد التسعون] : أراني- ولا كفران لله- إنّما ... أواخي من الأقوام كلّ بخيل «6» لأنّه لا يحسن هاهنا «أنّ» فلو قلت: «أراني أنّما أواخي من الأقوام» لم يحسن. وقال «7» [من الخفيف وهو الشاهد الحادي والتسعون] :

_ (1) . قراءة فتح الهمزة في الطّبري 29: 106 إلى أبي جعفر القارئ ونافع وقرّاء الكوفة وعاصم، وفي الكشف 2: 339 إلى كل القرّاء، وفي الجامع 19: 7 إلى علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمي وفي البحر 8: 352 إلى الجمهور. وقراءة كسر الهمزة في الطّبري «كالسابق» إلى أبي عمرو، وفي الجامع 19: 7 إلى غير من أخذ بالأولى، وفي البحر 8: 352 إلى ابن هرمز وصلحة. (2) . الجن 72: 3 في الطّبري 29: 105 إلى أبي جعفر القارئ وقرّاء الكوفة وفي التيسير 215 إلى ابن عامر وحفص والكسائي، وفي الجامع 19: 7 و 8 إلى علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمي وأبي جعفر وشيبة، وفي البحر 2: 347 إلى الحرميين والأبوين. (3) . في الطّبري 29: 106 إلى نافع وعاصم وأبي عمرو، وفي التيسير 215 إلى غير ابن عامر أو حفص أو حمزة أو الكسائي، وفي الجامع 19: 7 إلى غير من أخذ بقراءة الفتح وقال «واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم» . (4) . أشار في معاني القرآن 3: 191 إلى أنه «كان عاصم يكسر ما كان قول الجن، ويفتح ما كان من الوحي» . (5) . هو كثيّر عزّة. ديوانه 508 والكتاب، وتحصيل عين الذهب 1: 466. (6) . في همع الهوامع 1: 147 صدره بلفظ «آية» بدل «إنّما» وفي الدرر 1: 127 جعل صدره: ألا ربّما طالبت غير منيل. وفي الهمع 1: 247 البيت كله ب «أنّني» بدل «إنّما» و «أوافي» بدل «أواخي» وفي الدرر 1: 205 ب «أنني» و «أواتي» بالتاء من المواتاة. (7) . هو عمرو بن الإطنابة الخزرجي الشاعر الجاهلي. الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 465، والاشتقاق 453، وانظر المرتجل 230، وشرح ابن يعيش 8: 56.

أبلغ الحارث بن ظالم المو ... عد والناذر النّذور عليّا أنّما تقتل النّيام، ولا ... تقتل يقظان ذا سلاح كميّا فحسن أن تقول: «أنّك تقتل النّيام» «1» . وأمّا قوله عز وجل أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) [المؤمنون] فالآخرة بدل من الأولى. وأمّا «إن» الخفيفة فتكون في معنى «ما» كقول الله عز وجل إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ [الملك: 20] اي: ما الكافرون. وقال إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ [الزخرف: 81] أي: ما كان للرحمن ولد فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) [الزخرف] من هذه الأمّة للرّحمن، بنفي الولد عنه. أي: أنا أوّل العابدين بأنّه ليس للرحمن ولد. وقرأ بعضهم (فأنا أوّل العبدين) «2» يقول: «أنا أوّل من يغضب من ادّعائكم لله ولدا» ويقول: «عبد» «يعبد» عبدا» أي: غضب. وقال تعالى وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 52] فهي مكسورة أبدا إذا كانت في معنى «ما» وكذلك وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ [الأحقاف: 26] ، ف «إن» بمنزلة «ما» ، و «ما» التي قبلها بمنزلة «الذي» . ويكون للمجازاة نحو قوله تعالى وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [الآية 284] وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا [التغابن: 14] . وتزاد «إن» مع «ما» ، يقولون: «ما إن كان كذا وكذا» أي: «ما كان كذا وكذا» ، «ما إن هذا زيد» . ولكنها تغير «ما» فلا ينصب بها الخبر. وقال الشاعر «3» [من الوافر وهو الشاهد الثاني والتسعون] : وما إن طبّنا جبن ولكن ... منايانا وطعمة آخرينا «4»

_ (1) . في الكتاب 1: 465 و 466 هذه الآراء بهذه الشواهد من الشعر والآي. (2) . في الطّبري 16: 120 إلى أبي عبد الرحمن واليماني، وفي المحتسب 2: 257 كذلك وفي البحر 8: 28 إلى «بعضهم» . (3) . هو فروة بن المسيك المرادي، تحصيل عين الذهب 1: 475، والكامل 1: 295، واللسان «طيب» ، وقيل بل هو عمرو بن قعاس، وقيل الكميت شرح شواهد المغني 30 و 31. (4) . في الكتاب 1: 475 ب «دولة» بدل «طعمة» وفي إعراب القرآن للزّجّاج 1: 139 والصحاح «طيب» ، و «اللسان» «طيب» ، والتاج «طيب» ، والكامل 1: 295، والمغني 1: 25، وشرح وشواهد المغني 30، وهمع الهوامع 1: 123، والدرر 1: 94، وشرح التصريف 3: 128، كلها بلفظ «دولة» . وانظر الخزانة 2: 121. [.....]

وتكون خفيفة في معنى الثقيلة، وهي مكسورة، ولا تكون إلّا وفي خبرها اللام، يقولون: «إن زيد لمنطلق» ولا يقولونه بغير لام، مخافة أن تلتبس بالتي معناها «ما» . وقد زعموا أنّ بعضهم يقول: إن زيدا لمنطلق» يعملها على المعنى، وهي مثل إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) [الطارق] ، يقرأ بالنصب «1» ، والرفع، و «ما» زيادة للتّوكيد، واللام زيادة للتوكيد، وهي التي في قوله تعالى وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) [الحجر] ، ولكنها، إنّما وقعت على الفعل، حين خفّفت، كما تقع «لكن» على الفعل، إذا خفّفت. ألا ترى أنك تقول: «لكن قد قال ذاك زيد» . ولم تعرّ من اللام في قوله تعالى: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) ، وعلى هذه اللغة فيما نرى- والله اعلم- إِنْ هذانِ لَساحِرانِ «2» ، وقد شدّدها قوم فقالوا (إنّ هذان) «3» وهذا لا يكاد يعرف، إلّا أنّهم يزعمون أنّ بلحارث بن كعب يجعلون الياء في أشباه هذا ألفا، فيقولون: «رأيت أخواك» و «رأيت الرجلان» «4» ، وأوضعته علاه» و «ذهبت

_ (1) . قراءة النصب ترتبط بتخفيف «ما» على أنها زيادة للتوكيد، واللام زيادة للتوكيد أيضا، ويكون المعنى «إن كل نفس لعليها حافظ» وليست «لما» التي بمعنى إلّا و «ان» نافية. وقد قرأ بتخفيف «ما» في الطّبري 30: 142 نافع من أهل المدينة وأبو عمرو من أهل البصرة. وفي السبعة 678 إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي، وفي البحر 8: 454 إلى الجمهور. (2) . طه 20: 63 وفي الطّبري 16: 179 أنّ وهب بن منبه وقتادة تأوّلا، وفي السبعة 419 إلى عاصم في رواية، وفي حجّة ابن خالويه 217 إلى ابن كثير وحفص، عن عاصم، وفي الكشف 2: 29 إلى ابن كثير وحفص، وفي التيسير 151 كذلك، وفي الجامع 11: 216 إلى الزهري والخليل بن احمد والمفضل وابان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص، وابن كثير يشدّد نون «هذان» ، وفي البحر 6: 255 إلى ابن بحرية وأبي حياة والزهري وابن محيصن وحميد وابن سعدان وحفص وابن كثير. (3) . في الطّبري 16: 180 و 182 إلى عامة قرّاء الأمصار، وفي السبعة إلى نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وإلى عاصم في رواية وفي حجة ابن خالويه 217 إلى القرّاء كلّهم عدا ابن كثير وحفصا وعن عاصم، وفي الكشف 2: 99، وفي التيسير 151 كذلك، وفي الجامع 11: 216 إلى المدنيين والكوفيين. وفي البحر 6: 255 إلى أبي جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيّوب وخلف في اختياره وأبي عبيدة وأبي حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكي والأخوين والصاحبين من السبعة. (4) . هي لغة بني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد ومراد وعذرة وكناية وهمدان ومزادة وبني العنبر وبطون من ربيعة وبكر بن وائل، همع الهوامع 1: 40 والبحر 6: 255 واللهجات العربية 38.

إلاه» «1» ، فزعموا أنه على هذه اللغة بالتثقيل تقرأ. وزعم أبو زيد «2» أنّه سمع أعرابيا فصيحا من بلحارث يقول: «ضربت يداه» و «وضعته علاه» يريد: يديه وعليه. وقرأ بعضهم (إنّ هذين لساحران) «3» وذلك خلاف الكتاب. وقال الشاعر «4» [من الرجز وهو الشاهد الثالث والتسعون] : طاروا عليه «5» فشل «6» علاها ... واشدد بمثنى «7» حقب حقواها ناجية وناجيا أباها وأمّا «أن» الخفيفة فتكون زائدة مع «فلمّا» و «لمّا» قال تعالى فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ [يوسف: 96] وانما هي «فلمّا جاء البشير» وقال وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا [العنكبوت: 33] يقول «ولمّا جاءت» وتزاد أيضا مع «لو» يقولون: «أن لو جئتني كان خيرا لك» يقول «لو جئتني» . وتكون في معنى «أي» قال تعالى وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: 6] يقول «أي امشوا» . وتكون خفيفة في معنى الثقيلة في مثل قوله تعالى: أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [يونس: 10] و (أن لعنة الله عليه) «8» على قولك «أنه لعنة الله»

_ (1) . هي لغة بني الحارث بن كعب اللسان «علا» والخزانة 3: 199 ونوادر أبي زيد 58. (2) . هو أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري المتوفّى سنة 225 هـ أحد أعلام مدرسة البصرة، انظر ترجمته في أخبار النحويين البصريّين 41، ومراتب النحويين 42، وطبقات 165، ونزهة الألباء 85، وإنباه الرواة 2: 30، وبغية الوعاة 254. (3) . في معاني القرآن 2: 183 إلى أبي عمرو، وفي تأويل مشكل القرآن 51 زاد عيسى بن عمرو عاصما الجحدري، وفي الطّبري 16: 181 أغفل الجحدري، وزاد يونس في 16: 179 ان السدّي تأوّل بها، وفي السبعة 419 إلى أبي عمرو وحده، وكذلك في حجّة ابن خالويه 217، والكشف 2: 99، والتيسير 151، وفي الجامع 11: 216، إلى عائشة وعثمان من الصحابة، وإلى الحسن وسعيد بن جبير وابراهيم النخعي من التابعين، وأبي عمرو وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري من القرّاء، وفي البحر 6: 255 إلى عائشة والحسن والنخعي والجحدري والأعمش وابن جبير وأبي عبيد وأبي عمرو. (4) . هو بعض أهل اليمن، وأنشده أبو الغور، النوادر 58 و 64. (5) . في الصحاح «علا» والخزانة 3: 199 واللسان «علا» والخصائص 2: 269 ب «علاهن» . (6) . في الصحاح واللسان ب «فطر» . (7) . في الأصل: «بمثنا» وفي النوادر 58 بمتني بالتاء المثناة، وياء بعد النون، وفي 164 كما في رواية الأخفش «مثنى» ، وفي اللسان «بمثني» بناء مثلثة وياء بعد النون. (8) . النور 24: 7 والقراءة المشهورة: أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ.

باب من الاستثناء

و «أنه الحمد لله» . وهذه بمنزلة قوله تعالى أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا [طه: 89] و (وحسبوا ألّا تكون فتنة) «1» ولكن هذه إذا خفّفت وهي إلى جنب الفعل، لم يحسن إلّا إن معها «لا» ، حتّى تكون عوضا من ذهاب التثقيل والإضمار. ولا تعوض «لا» في قوله تعالى أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ لأنّها لا تكون، وهي خفيفة، عاملة في الاسم. وعوّضها «لا» إذا كانت مع الفعل لأنّهم أرادوا أن يبيّنوا أنّها لا تعمل في هذا المكان، وأنها ثقيلة في المعنى. وتكون «أن» الخفيفة تعمل في الفعل، وتكون هي الفعل اسما للمصدر، نحو قوله تعالى: عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) [القيامة] إنّما هي «على تسوية بنانه» . باب من الاستثناء وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ [الآية 78] منصوبة، لأنه مستثنى، ليس من أوّل الكلام، وهذا الذي يجيء في معنى «لكن» ، خارجا من أوّل الكلام، إنّما يريد «لكن أمانيّ» ، و «لكنّهم يتمنّون» . وإنّما فسّرناه ب «لكن» لنبيّن خروجه من الأوّل. ألا ترى أنك إذا ذكرت «لكن» وجدت الكلام منقطعا من أوّله، ومثل ذلك في القرآن كثير (منه قوله عزّ وجل) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ [الليل] وقوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ [النساء: 157] وقوله: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا [هود: 116] كأنّه يقول: «فهلّا كان منهم من ينهى» ثم كأنّه قال: «ولكن قليلا منهم من ينهى» ثمّ كأنّه قال «ولكن «2» قليل منهم قد نهوا» فلمّا جاء مستثنى خارجا من الأوّل انتصب. ومثله فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس: 98] كأنه يقول «فهلّا كانت» ثمّ قال: «ولكنّ قوم يونس» ف «إلا» تجيء في معنى «لكنّ» . وإذا عرفت أنها في معنى «لكنّ» ، فينبغي أن تعرف خروجها من أوّله. وقد يكون (إلّا قوم

_ (1) . المائدة 5: 71 القراءة المشهورة وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وبها نقرأ. (2) . وردت لكن في الأصل مخفّفة في كل الامثلة، فورد ما بعدها مرفوع. [.....]

يونس) رفعا «1» ، تجعل «إلّا» وما بعده، في موضع صفة بمنزلة «غير» ، كأنّه قال: «فهلّا كانت قرية آمنت غير قرية قوم يونس» ومثلها لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] فقوله تعالى إِلَّا اللَّهَ صفة، ولولا ذلك لانتصب، لأنه مستثنى مقدّم، يجوز إلقاؤه من الكلام. وكلّ مستثنى مقدّم، يجوز إلقاؤه من الكلام نصب، وهذا قد يجوز إلقاؤه، فلو قلت «لو كان فيهما آلهة لفسدتا» جاز، فقد يجوز فيه النّصب، ويكون مثل قوله «ما مرّ بي أحد إلّا مثلك» . قال الشاعر «2» فيما هو صفة [من الطويل وهو الشّاهد الرابع والتسعون] : أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلّا بغامها وقال «3» [من الوافر وهو الشاهد الخامس والتسعون] : وكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر «4» أبيك إلا الفرقدان ومثل المنصوب الذي في معنى «لكن» ، قوله الله عز وجل وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا [يس] وهو في الشعر كثير وفي الكلام. قال الفرزدق «5» [من الطويل وهو الشاهد السادس والتسعون] : وما سجنوني غير أنّي ابن غالب ... وأنّي من الأثرين غير الزّعانف «6» يقول: «ولكنّني» ، وهو مثل قولهم: «ما فيها أحد إلّا حمارا» لما كان ليس من أوّل الكلام جعل على معنى «لكنّ»

_ (1) . في الشواذ 58 إلى الجرمي والكسائي. (2) . هو ذو الرّمة، انظر ديوانه 2: 1004، والكتاب وتحصيل عبن الذهب 1: 370. (3) . هو عمرو بن معد يكرب الزبيدي. ديوانه 181، والكتاب 1: 371، والكامل 3: 1240، والدرر 1: 194، والبيان والتبيين 1: 228، وشرح سقط الزند للبطليوسي 3: 977، والخزانة 2: 52، وتحصيل عين الذهب 1: 371 وقيل هو سوار بن المضرب، تحصيل عين الذهب 1: 371 وقيل هو حضرمي بن عامر الاسدي، الخزانة والمؤتلف والمختلف 116، وشرح شواهد المغني والدرر 1: 194. (4) . في الأصل لعمرو بالواو. (5) . هو همّام بن غالب، انظر ترجمته في الأغاني 8: 186 و 19: 2، وطبقات الشعراء 2: 299، والشعر والشعراء 1: 471. (6) . البيت في ديوانه 536، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 67.

باب الجمع

ومثله [من الخفيف وهو الشاهد السابع والتسعون] : ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلا وضرب الرّقاب «1» وقوله «2» [من الطويل وهو الشاهد الثامن والتسعون] : حلفت يمينا غير ذي مثنوية ... ولا علم إلّا حسن ظنّ بغائب «3» باب الجمع وأمّا تثقيل الْأَمانِيُّ فلأنّ واحدها «أمنيّة» مثقّل. وكلّ ما كان واحده مثقّلا مثل: «بختيّة» و «بخاتيّ» فهو مثقّل. وقد قرأ بعضهم (إلّا أماني) فخفّف «4» ، وذلك جائز، لأنّ الجمع على غير واحده، وينقص منه، ويزاد فيه. فأما «الأثافي» فكلّهم يخفّفها، وواحدها «أثفيّة» مثقّلة، وإنّما خفّفوها، لأنّهم يستعملونها في الكلام والشعر كثيرا، وتثقيلها في القياس جائز «5» . ومثل تخفيف «الأماني» ، قولهم: «مفتاح» و «مفاتح» «6» وفي «معطاء» «معاط» «7» قال الأخفش «8» : «قد سمعت بلعنبر تقول: «صحاري» و «معاطيّ» فتثقل. وقوله تعالى وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) أي: «فما هم إلّا يظنّون» . فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ [الآية 79]

_ (1) . هو لابن الأيهم التغلبي، الكتاب، وتحصيل عين الذهب 1: 365، والبيت في شرح البطليوسي لسقط الزند 1: 175، وشرح المفصّل 2: 80. (2) . هو النابغة الذبياني. ديوانه 55، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 365. (3) . في الكتاب وتحصيل عين الذهب ب «صاحب» بدل غائب، وهي رواية أشار إليها الأخفش أيضا بعد البيت. وكذلك في شرح النحاس لأبيات سيبويه. (4) . في الطّبري 2: 264 قراءة بعض القراء، وفي المحتسب 94 إلى أبي جعفر وشيبة والحسن، بخلاف، والحكم بن الأعرج، وفي الجامع 2: 5 إلى أبي جعفر وشيبة والأعرج، وزاد في البحر 1: 276 عليه ابن جماز، عن نافع وهارون عن أبي عمرو. (5) . في اللسان: «أنف» قال الأخفش اعتزمت العرب أثافي، أي أنهم لا يتكلمون بها إلّا مخفّفة. (6) . في اللسان «فتح» والجمع مفاتيح أيضا، قال الأخفش هو مثل قولهم أماني وأماني يخفف ويشدد. (7) . في اللسان (عطا) : قوم معاطي ومعاط، قال الأخفش: هذا مثل قولهم مفاتيح ومفاتح وأماني وأمان، ونسب إلى سيبويه أنه «لا يمتنع معاطي كأثافي» . وقد نقل عنه هذا الرأي مبتسرا، في البحر 1: 276 والجامع 2: 5. (8) . هو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد الأخفش الأكبر، الذي نقل عنه سيبويه اللغات، انظر ترجمته في مراتب النحويين 32، وطبقات اللغويين 40، ونزهة الألباء 280، وإنباه الرواة 2: 57، أو بغية الوعاة 296. [.....]

يرفع «الويل» ، لأنّه اسم مبتدأ، جعل ما بعده خبره. وكذلك «الويح» ، و «الويل» ، و «الويس» ، إذا كانت بعدهنّ هذه اللام، ترفعهن. أمّا «التّعس» ، و «البعد» ، وما أشبههما فهو نصب أبدا، وذلك أنّ كلّ ما من هذا النحو تحسن إضافته بغير لام، فهو رفع باللام، ونصب بغير لام، نحو وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) [المطففين] و «ويل لزيد» ولو ألقيت اللام قلت: «ويل زيد» ، و «ويح زيد» ، و «ويس زيد» ، فقد حسنت إضافته بغير لام، فلذلك رفعته باللام مثل فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) «1» . وأما قوله أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ [هود: 95] وأَلا بُعْداً لِثَمُودَ [هود: 68] ووَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ [محمد: 8] فهذا لا تحسن إضافته بغير لام. ولو قلت: «تعسهم» أو «بعدهم» ، لم يحسن. وانتصاب هذا كلّه بالفعل، كأنّك قلت: «أتعسهم الله تعسا» «وأبعدهم الله بعدا» . وإذا قلت «ويل زيد» ، فكأنّك قلت «ألزمه الله الويل» «2» . وأمّا رفعك إيّاه باللام، فإنّما كان، لأنّك جعلت ذلك، واقعا واجبا لهم في الاستحقاق. ورفعه على الابتداء، وما بعده مبني عليه، وقد ينصبه قوم، على ضمير الفعل، وهو قياس حسن، فيقولون: «ويلا لزيد» و «ويحا لزيد» . قال الشاعر «3» [من الطويل وهو الشاهد التاسع والتسعون] : كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها ... فويلا لتيم من سرابيلها الخضر «4» قال الأخفش «5» «حدّثني عيسى بن

_ (1) . تكرّرت هذه الآية الكريمة في عشرة مواضع من «المرسلات» وأمّا في «المطفّفين» فقد وردت مرّة واحدة في الآية العاشرة من هذه السورة أمّا في «الطور» 52: 11 فقد وردت الآية الكريمة بلفظ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) أي بزيادة الفاء، على أوّل الآية، كما وردت في المرسلات والمطفّفين. (2) . نقل هذه العبارة، وأفاد المعنى في اعراب القرآن 1: 59، والجامع 2: 8، والإملاء 1: 46. (3) . هو جرير بن عطية بن الخطفي، الشاعر المشتهر، الذي انتخب النقاد العرب من شعره، خير ما قالته العرب في فنون الشعر المختلفة. انظر ترجمته وأخباره في الأغاني 7: 37 و 10: 2 و 20: 169، وطبقات الشعراء 374، والشعر والشعراء 464. (4) . في الديوان 1: 594 ب «فيا خزي تميم» ، وفي الفاخر 286 ب «فيا ويل تيم» ، وهو في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 167 وفي شرح المفصّل 1: 121، واللسان «ويل» . (5) . هو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد الأخفش الأكبر، انظر ترجمته فيما سبق.

باب اللام

عمر «1» أنّه سمع الأعراب ينشدونه هكذا بالنصب، ومنهم من يرفع ما ينصب في هذا الباب. قال أبو زبيد «2» [من الطويل وهو الشاهد المائة] : أغار وأقوى ذات يوم وخيبة ... لأوّل من يلقى وغيّ ميسّر «3» باب اللام وقوله تعالى لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [الآية 79] ، فهذه اللّام إذا كانت في معنى «كي» ، كان ما بعدها نصبا على ضمير «أن» ، وكذلك المنتصب ب «كي» ، هو أيضا على ضمير «أن» ، كأنّه يقول: «الاشتراء» ، ف «يشتروا» لا يكون اسما إلّا ب «أن» ، ف «أن» مضمرة وهي الناصبة، وهي في موضع جرّ باللام. وكذلك كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً [الحشر: 7] «وأن» مضمرة، وقد جرّتها «كي» ، وقالوا: «كيمه» ، ف «مه» اسم، لأنّه «ما» التي في الاستفهام، وأضاف «كي» إليها. وقد يكون «كي» بمنزلة «أن» ، هي الناصبة وذلك قوله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا [الحديد: 23] فأوقع عليها اللام. ولو لم تكن «كي» وما بعدها اسما لم تقع عليها اللام، وكذلك ما انتصب بعد «حتّى» ، إنّما انتصب بإضمار «أن» ، قال تعالى حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ [الرعد: 31] ، وحَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [الآية 120] ، إنّما هو «حتّى أن يأتي» و «حتّى أن تتبّع» ، وكذلك جميع ما في القرآن من «حتّى» . وكذلك وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ [الآية 214] أي: «حتّى أن يقول،» لأنّ «حتّى» في معنى «إلى» ، تقول «أقمنا حتّى الليل» أي: «إلى اللّيل» . فإن قيل: إظهار «أن» هاهنا قبيح، قلت: «قد تضمر أشياء يقبح إظهارها إذا كانوا يستغنون عنها» . ألا ترى أنّ قولك: «إن زيدا ضربته» ، منتصب بفعل مضمر لو أظهرته لم يحسن. وقد قرئت هذه الآية

_ (1) . هو عيسى بن عمر الثقفي، وقد مرت ترجمته قبلا. (2) . هو أبو زبيد حرملة بن المنذر الطائي المتوفّى من زمن عثمان، انظر ترجمته وأخباره في الأغاني 4: 181 و 11: 24، والشعر والشعراء 301، وطبقات الشعراء 593. (3) . البيت في الديوان 61 ب «اقام» بدل أغار وب «شرّ» بدل «غيّ» ، وفي المخصّص 12: 184 ب «أقام» بدل «أغار» ، وفي الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 157، كما في المخصّص.

(وزلزلوا حتّى يقول الرّسول) «1» يريد: «حتّى الرّسول قائل» ، جعل ما بعد «حتّى» مبتدأ. وقد يكون ذلك نحو قولك: «سرت حتّى أدخلها» ، إذا أردت: «سرت فإذا أنا داخل فيها» ، و «سرت» أمس حتّى أدخلها اليوم» ، أي: حتّى «أنا اليوم أدخلها فلا أمنع» . وإذا كان غاية للسير نصبته. وكذلك ما لم يجب، ممّا يقع عليه «حتّى» نحو لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) [الكهف] وأمّا وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [الحج: 47] فنصب ب «لن» كما نصب ب «أن» وقال بعضهم: إنّما هي «أن» جعلت معها «لا» كأنه يريد «لا أن يخلف الله وعده» فلمّا كثرت في الكلام حذفت، وهذا قول، وكذلك جميع «لن» في القرآن. وينبغي لمن قال ذلك القول أن يرفع «أزيد لن تضرب» لأنّها في معنى «أزيد لا ضرب له» . وكذلك ما نصب ب «إذن» تقول: «إذن آتيك» تنصب بها كما تنصب ب «أن» وب «لن» فإذا كان قبلها الفاء أو الواو رفعت، نحو قول الله عزّ وجل وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) [الأحزاب] وقوله فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) [النساء] وقد يكون هذا نصبا أيضا عنده على إعمال «إذن» . وزعموا أنّه في بعض القراءة منصوب «2» وإنّما رفع، لأنّ معتمد الفعل صار على الفاء والواو، ولم يحمل على «إذن» ، فكأنه قال: «فلا يؤتون الناس إذا نقيرا» و «ولا تمتّعون إذن» . وقوله تعالى لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ [الحديد: 29] و (وحسبوا ألّا تكون فتنة) «3»

_ (1) . هي في معاني القرآن: 1: 132 إلى مجاهد وبعض أهل المدينة، وفي 1: 133 أنّها للكسائي دهرا، ثمّ عاد عنها إلى النّصب. وفي الكشف 1: 289 و 290 و 291 إلى نافع والأعرج ومجاهد وابن محيصن وشيبة، وفي التيسير 80، والجامع 3: 34، والبحر 2: 140، إلى نافع. أمّا الرفع فهو في معاني القرآن 1: 133 إلى القرّاء عدا نافعا والكسائي في أوّل أمره، وفي السبعة 181 كذلك، وفي الكشف 1: 291 إلى الحسن وأبي جعفر وابن أبي إسحاق وشبل وغيرهم، وقال إنّ عليه جماعة القرّاء، وفي البحر 2: 140 إلى الجمهور، وفي التيسير 80، والجامع 3: 34 إلى غير نافع. (2) . في معاني القرآن 2: 337 ذكر النصب، ولم ينسب قراءة، وفي الطّبري 21: 138 كذلك، وفي الجامع 14: 151 ذكرت القراءة، ولم تنسب. (3) . المائدة 5: 71 القراءة المشهورة: أَلَّا تَكُونَ.

وأَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا [طه: 89] فارتفع الفعل بعد «أن لا» ، «1» ، لأنّ ( «أن» ) هذه مثقّلة في المعنى، ولكنها خفّفت، وجعل الاسم فيها مضمرا والدليل على ذلك، أنّ الاسم يحسن فيها والتثقيل. ألا ترى أنّك تقول: «أفلا يرون أنّه لا يرجع إليهم» ، وتقول: «أنّهم لا يقدرون على شيء» و «أنّه لا تكون فتنة» . وقال تعالى آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ [آل عمران: 41 ومريم: 10] نصب، لأن هذا ليس في معنى المثقّل، إنّما هو آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ كما تقول: (آيتك أن تكلّم) ، وأدخلت «لا» للمعنى الذي أريد من النفي. ولو رفعت هذا، جاز على معنى آيتك أنّك لا تكلّم «2» ، ولو نصب الاخر جاز على أن تجعلها «أن» الخفيفة التي تعمل في الأفعال «3» . ومثل ذلك قوله تعالى إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) [الانشقاق] وقوله تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) [القيامة] . وقال إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الآية 230] وتقول: «علمت أن لا تكرّمني» و «حسبت أن لا تكرمني» . فهذا مثل ما ذكرت لك. فإنّما صار «علمت» و «استيقنت» ما بعده رفع لأنّه واجب. فلمّا كان واجبا لم يحسن أن يكون بعده «أن» التي تعمل في الأفعال، لأنّ تلك إنّما تكون في غير الواجب، ألا ترى أنك تقول «أريد أن تأتيني» فلا يكون هذا إلّا لأمر لم يقع، وارتفع ما بعد الظن وما أشبهه لأنه مشاكل للعلم، لأنه يعلم بعض الشيء إذا كان يظنّه. وأما «خشيت أن لا تكرمني» فهذا لم يقع. ففي مثل هذا تعمل أن الخفيفة، ولو رفعته على أمر قد استقرّ عندك، وعرفته، كأنّك جرّبته، فكان لا يكرمك، فقلت: «خشيت أن لا تكرمني» أي: خشيت أنّك لا تكرمني جاز.

_ (1) . أي إِلَّا. (2) . في معاني القرآن في آية آل عمران 1: 213، والمشكل 1: 95 بلا نسبة، وفي البحر 2: 452 إلى ابن أبي عبلة، وفي الطّبري 1: 387 لم ينسب قراءة. وفي آية مريم في البحر 6: 176 إلى ابن أبي عبلة وزيد بن علي، وفي معاني القرآن 2: 162 لم ينسب قراءة. (3) . النصب في آية آل عمران، في معاني القرآن 1: 213، والطّبري 6: 387، والمشكل 95 بلا نسبة. والنصب في آية مريم في البحر 6: 176 إلى الجمهور، وفي معاني القرآن 2: 162 بلا نسبة، ولا إشارة ما إلى أنه قراءة. [.....]

وزعم «1» يونس «2» ، أنّ ناسا من العرب يفتحون اللام التي في مكان «كي» «3» ، وأنشدوا هذا البيت، فزعم أنّه سمعه مفتوحا [من الوافر وهو الشاهد الحادي بعد المائة] : يؤامرني ربيعة كلّ يوم ... لأهلكه وأقتني الدّجاجا «4» وزعم خلف «5» ، أنّها لغة لبني العنبر، وأنه سمع رجلا ينشد هذا البيت منهم مفتوحا [من الطويل وهو الشاهد الثاني بعد المائة] : فقلت لكلبيّي قضاعة إنّما ... تخبّر تخبرتماني أهل فلج لأمنعا «6» يريد «من أهل فلج» . وقد سمعت أنا ذلك من العرب، وذلك أنّ أصل اللام الفتح، وإنما كسرت في الإضافة ليفرّق بينها وبين لام الابتداء. وزعم أبو عبيدة «7» أنّه سمع لام «لعلّ» مفتوحة في لغة من يجرّ بها ما بعدها في قول الشاعر «8» [من الوافر وهو الشاهد الثالث بعد المائة] : لعلّ الله يمكنني عليها ... جهارا من زهير أو أسيد «9»

_ (1) . في خزانة الأدب 4: 376 نقل هذا النص للاخفش من المسائل البصرية لأبي علي الفارسي، حتى نهاية البيت «لعلّ الله» مع تقديم وتأخير فيه. (2) . يونس بن حبيب البصري، وقد مرت ترجمته فيما سبق. (3) . انما تكلم على لام كي، إشارة إلى قوله تعالى في الآية [79] لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا. (4) . في شرح الأبيات للفارقي 51 ب «تواعدني» و «لا هلكها» ، وفي الخزانة 4: 376 كذلك وبلا عزو فيهما، ونص الفارقي هو أنه نقل نص أبي علي في المسائل البصرية، وكذلك نص البغدادي في الخزانة، وكان نص أبي علي عند الفارقي «وأحفظ من كتاب أبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش.» وعند البغدادي: قال أبو الحسن الأخفش.» . (5) . هو أبو محرز خلف بن حيان النحوي المتوفّى في حدود ثمانين ومائة. انظر ترجمته في مراتب النحويين 46، وطبقات النحويين 161، ونزهة الألبّاء وإنباه الرواة 1: 348، وبغية الوعاة 242. (6) . لم تفد المراجع والمصادر شيئا في القائل والقول. (7) . هو ابو عبيدة معمر بن المثنى التيمي. انظر ترجمته في اخبار النحويين البصريين 52 ومراتب النحويين 44 وطبقات النحويين 175 ونزهة الألباء 68 وإنباه الرواة 1: 276 وبغية الوعاة 295. (8) . في الخزانة 4: 375، أنّه خالد بن جعفر بن كلاب العبسي. الأغاني 10: 12. (9) . البيت في شرح الأبيات للفارقي 51 أما في الخزانة 4: 375 في العنوان فموافق في اللفظ لما رواه الأخفش، ولكن ورد في ص 377 ب «يقدرني» وفي الأغاني 10: 12 ب «يقردني» .

يريد «لعلّ عبد الله» فهذه اللام مكسورة لأنها إضافة. وقد زعم انه قد سمعها مفتوحة فهي مثل لام «كي» . وقد سمعنا من العرب من يرفع بعد «كيما» وأنشد «1» [من الطويل وهو الشاهد الرابع بعد المائة] : إذا أنت لم تنفع فضرّ فإنّما ... يرجّى الفتى «2» كيما يضرّ وينفع فهذا جعل «ما» اسما وجعل «يضرّ» و «ينفع» من صلته جعله اسما للفعل وأوقع «كي» عليه وجعل «كي» بمنزلة اللام. وقوله تعالى أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ «3» وقوله أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) «4» فيشبه أن تكون الفاء زائدة كزيادة «ما» ويكون الذي بعد الفاء بدلا من «أن» التي قبلها. وأجوده أن تكسر «إن» وأن تجعل الفاء جواب المجازاة. وزعموا أنه يقولون «أخوك فوجد» ، «بل أخوك فجهد» ، يريدون «أخوك وجد» و «بل أخوك جهد» فيزيدون الفاء. وقد فسّر الحسن «5» حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها [الزمر: 73] على حذف الواو. وقال: «معناها: قال لهم خزنتها» ، فالواو في هذا زائدة. قال الشاعر «6» [من الكامل وهو الشاهد الخامس بعد المائة] : فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن ... إلّا كلمّة حالم بخيال «7»

_ (1) . هو عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وقيل النابغة الذبياني، وقيل الجعدي، وقيل عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، وقيل قيس بن الخطيم، وقيل عبد الملك بن عبد الله «ديوان عبد الله بن معاوية 59، وخزانة الأدب 3: 591، والمقاصد النحوية 3: 345 و 4: 379، وشرح شواهد ابن الناظم 216، وشرح شواهد المغني 173، والدرر اللوامع 2: 4، وهو في المراجع كلها مترجح بين نصب الفعلين ورفعهما وبين لفظ «يرجى» و «يراد» . (2) . في الأصل: يرجى الفتي. (3) . التوبة 9: 63. القراءة المشهورة: فَإِنْ. (4) . الأنعام 6: 54: القراءة المشهورة: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ وفَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (5) . هو الحسن البصري، أحد كبار التابعين. [.....] (6) . هو تميم بن أبيّ بن مقبل. ديوانه 259، واللسان «لمم» ، والخزانة 4: 420. (7) . وهو في الديوان ب «كحلمة» ، وفي اللسان بكسر لام «لمة» ، وانظر الصحاح «لمم» .

وقال «1» [من الكامل وهو الشاهد السادس بعد المائة] : فإذا، وذلك ليس إلّا حينه ... وإذا مضى شيء كأن لم يفعل «2» كأنه زاد الواو وجعل خبره مضمرا، ونحو هذا مما خبره مضمر كثير. وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [الآية 83] . وقوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ [الآية 84] فرفع هذا، لأنّ كلّ ما كان من الفعل على «يفعل هو» و «تفعل أنت» و «أفعل أنا» و «نفعل نحن» ، فهو أبدا مرفوع، لا تعمل فيه إلا الحروف التي ذكرت لك، من حروف النصب أو حروف الجزم والأمر والنهي والمجازاة. وليس شيء من ذلك هاهنا، وإنّما رفع لموقعه في موضع الأسماء. ومعنى هذا الكلام حكاية، كأنه قال: «استحلفناهم لا يعبدون» أي: قلنا لهم: «والله لا تعبدون» ، وذلك أنها تقرأ (يعبدون) «3» وتَعْبُدُونَ «4» . وقال تعالى: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) [الصافات] لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ [الصافات: 8] . فإن شئت جعلت (لا يسّمّعون) مبتدأ، وان شئت قلت: هو في معنى «أن لا يسّمّعوا» فلمّا حذفت «أن» ارتفع، كما تقول: «أتيتك تعطيني وتحسن إليّ وتنظر في حاجتي» ومثله «مره يعطيني» إن شئت جعلته على «فهو يعطيني» ، وإن شئت على «أن يعطيني» . فلما ألقيت «أن» ارتفع. قال الشاعر «5» [من الطويل وهو الشاهد السابع بعد المائة] :

_ (1) . هو أبو كبير الهذلي. ديوان الهذليين 2: 100، والصناعتين 443 والخزانة 4: 420. وهو كثير في إعراب القرآن للزجّاج 3: 889، وجاء في الأصل «وقوله» . (2) . في الخزانة ورد مرتين في إحداهما ب «ذكره» و «لم أفعل» ، وفي التمام 248 بفتح ياء «يفعل» ، وفي الصناعتين ومجالس ثعلب 126 ب «ذكره» . (3) . في المصاحف 57 إلى الأعمش وفي السبعة 162 إلى ابن كثير وحمزة والكسائي، وكذلك في التيسير 74 والجامع 2: 13 والبحر 1: 282، وفي الطّبري 2: 288 بلا نسبة، وفي معاني القرآن 1: 54 بلا نسبتها، قراءة. (4) . في السبعة 162 إلى أبي عمرو ونافع وعاصم وابن عامر، وفي التيسير 74 إلى غير ابن كثير أو حمزة والكسائي، وفي الجامع 2: 13 بالجزم إلى أبيّ وابن مسعود، وفي البحر 1: 282 مثل التيسير. (5) . هو طرفة بن العبد البكري.

ألا أيّهذا «1» الزّاجري أحضر الوغى «2» وأن أتبع اللّذّات هل أنت مخلدي «3» ف «أحضر» في معنى «أن أحضر» . وقوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الآية 83] فجعله أمرا، كأنّه يقول: وإحسانا بالوالدين» أي: «أحسنوا إحسانا» . وقال تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [الآية 83] فهو على احد وجهين: إمّا أن يكون يراد ب «الحسن» «الحسن» ، وكما تقول: «البخل» و «البخل» «4» ، وإمّا أن يكون جعل «الحسن» هو «الحسن» في التشبيه كما تقول: «إنّما أنت أمل وشرب» . قال الشاعر «5» [من الوافر وهو الشاهد الثامن بعد المائة] : وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحيّة بينهم ضرب وجيع «دلفت» : «قصدت» فجعل التحية ضربا. وهذه الكلمة في الكلام ليست بكثير وقد جاءت في القرآن. وقد قرأها بعضهم (حسنا) «6» يريد «قولوا لهم حسنا» وقرأ بعضهم (قولوا للنّاس حسنى) «7» يؤنثها ولم ينوّنها، وهذا لا يكاد يكون، لأنّ «الحسنى» لا يتكلّم بها إلّا بالألف واللّام، كما لا يتكلّم بتذكيرها إلّا بالألف واللّام فلو قلت: «جاءني أحسن وأطول» لم يحسن حتّى تقول: «جاءني الأحسن والأطول» فكذلك هذا، يقول: «جاءتني الحسنى

_ (1) . في الأصل: أيها ذا. (2) . في الأصل: الوغا. (3) . هو أحد أبيات معلقته، وهو في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 452 ب «أن أشهد» ، وفي معاني القرآن 3: 265 ب «الزاجري وأن أشهد، وفي الديوان 31 بلفظ رواية الأخفش. (4) . نقل هذا الرأي بعبارته عنه، في إعراب القرآن 1: 60، والمحتسب 2: 363، والجامع 2: 16. (5) . هو عمرو بن معديكرب الزبيدي. ديوانه 130، وتحصيل عين الذهب 1: 365، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 429، ونوادر أبي زيد 149، وفي الخزانة 4: 53 إليه، وبعجز ثان إلى عنترة، وبعجز ثالث إلى الخنساء، وبعجز رابع إلى الأعرابي. (6) . في الطّبري 2: 294 إلى عامة قراء الكوفة غير عاصم، وفي السبعة 162 إلى حمزة والكسائي، وفي الكشف 1: 250، والتيسير 74 والجامع 1: 16 وزاد في البحر 1: 284 ويعقوب، وفي حجة ابن خالويه 60 بلا نسبة. (7) . في الطّبري 2: 294 إلى بعض القرّاء، وفي الشواذ بالإمالة للأخفش عن بعضهم 7، وفي البحر 1: 285 إلى أبيّ وطلحة بن مصرف. وقد نقلت هذه القراءة والآراء، في إعراب القرآن 1: 60 والمحتسب 2: 363 والجامع 2: 16. [.....]

والطّولى» . إلّا أنهم قد جعلوا أشياء من هذا أسماء نحو «دنيا» و «أولى» . قال الراجز «1» [وهو الشاهد التاسع بعد المائة] : في سعي دنيا طالما قد مدّت «2» ويقولون: «هي خيرة النساء» [ «هنّ خيرات النّساء» ] «3» لا يكادون يفردونه، وإفراده جائز. وفي كتاب الله عز وجل فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) [الرحمن] وذلك أنّه لم يرد «أفعل» ، وإنما أراد تأنيث الخير، لأنّه لما وصف فقال: «فلان خير» ، أشبه الصفات، فأدخل الهاء للمؤنث «4» . وقرأ: (تظّاهرون عليهم بالإثم والعدوان) [الآية 85] فجعلها من «تتظاهرون» ، وأدغم التاء في الظاء وبها يقرأ من ذكر في الحاشية «5» . والقراءة المشهورة التي بها نقرأ هي: تَظاهَرُونَ «6» مخففة، بحذف التاء الاخرة، لأنّه زائدة، لغير معنى. وقرئ (وإن يأتوكم أسرى) [الآية 85] «7» وقرئت أَسْرى «8» . وذلك لان

_ (1) . هو العجاج. ديوانه 267، والخزانة 3: 508 و 509، والتمام 173، والمخصّص 15: 193. (2) . في الديوان ب «هن» بدل في، وكذلك في الخزانة في الموضعين، وفي التمام والمخصص، وفي الديوان بضم الميم في (مدت) . (3) . زيادة يقتضيها السياق. (4) . نقل في الصحاح واللسان «خير» عنه هذا الرأي بعبارة مغايرة. (5) . رسمت في المصحف بفتح للتّاء وتخفيف الظاء. أما تضعيف الظاء فقراءة في السبعة 163 إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر، وفي الكشف 1: 250 والتيسير 74 إلى غير الكوفيين، وفي البحر 1: 291 إلى غير عاصم وحمزة والكسائي من السبعة، وفي الجامع 2: 20 إلى أهل المدينة وأهل مكّة، وفي الطّبري 2: 308، وحجّة ابن خالويه 60 بلا نسبة. (6) . في السبعة 163 إلى أبي عمرو وحمزة والكسائي، وفي البحر 1: 291 إلى أبي حياة. أمّا فتح التاء وتخفيف الظاء ففي الكشف 1: 250 إلى الكوفيين، وكذلك في الجامع 2: 20، وعليها رسم المصحف كما أشرنا. وفي الأصل تظاهرون بضم التاء وتخفيف الظاء وكسر الهاء، ولا ينسجم رسمها مع ما بعدها من كلام. (7) . رسم المصحف على القراءة الثانية بألف بعد السين. أمّا هذه القراءة فهي في السبعة 163، والكشف 1: 251، والتيسير 274: 21، والبحر 1: 291، إلى حمزة وفي الطّبري 2: 311، وحجّة ابن خالويه 61 بلا نسبة. (8) . في السبعة 163 إلى أبي عمرو وابن عامر ونافع وعاصم والكسائي، وفي الكشف 1: 251 والتيسير 74 إلى غير حمزة، وفي القرطبي 2: 21 إلى الجماعة، وفي البحر 1: 291 إلى الجمهور، وفي الطّبري 2: 311 وحجة ابن خالويه 61 بلا نسبة.

«أسير» «فعيل» وهو يشبه «مريض» لأنّ به عيبا كما بالمريض، وهذا «فعيل» مثله. وقد قالوا في جماعة «المريض» : «مرضى» وقالوا «أسارى» ، فجعلوها مثل «سكارى» و «كسالى» ، لأنّ جمع «فعلان» الذي به علّة قد يشارك جمع «فعيل» وجمع «فعل» نحو: «حبط» و «حبطى» و «حباطى» «1» و «حبج» و «حبجى» و «حباجى» «2» . وقد قالوا أَسْرى كما قالوا سُكارى «3» . وقرأ بعضهم (تفدوهم) [الآية 85] «4» من «تفدي» وبعضهم تُفادُوهُمْ «5» من «فادى يفادي» وبها نقرأ، وكلّ ذلك صواب. وقال تعالى فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ [الآية 85] ، وقال ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [المؤمنون: 24 و 33] ووَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ [القمر: 50] رفع، لأن كل ما تحسن فيه الباء من خبر «ما» ، فهو رفع لأن «ما» لا تشبّه في ذلك الموضع بالفعل، وإنّما تشبّه بالفعل، في الموضع الذي تحسن فيه الباء، لأنها حينئذ تكون في معنى «ليس» ، لا يشركها معه شيء. وذلك قول الله عز وجل ما هذا بَشَراً [يوسف: 31] . وتميم ترفعه، لأنّه ليس من لغتهم أن يشبهوا «ما» بالفعل. وأما قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 83] ثم قال وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [الآية 83] ثم قال ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ [الآية 83] فلأنه جلّ جلاله خاطبهم من بعد ما حدّث عنهم، وذا في الكلام والشعر كثير.

_ (1) . في الأصل بكسر الفاء. (2) . في الأصل بكسر الفاء. (3) . في الأصل بضم الفاء في كلتيهما، ولا مفاد لذلك الا التكرار، وقد أشار إلى هذا مكي في المشكل 1: 103 على انه وجه أجازه أبو إسحاق ومنعه أبو حاتم، وفي الإملاء 1: 49 انها قراءة، وبلا نسبة وكذلك في الجامع 2: 21. وعدّ أبو إسحاق القراءتين بالألف بضم الهمزة وفتحها على أنّهما جمع الجمع «لأسرى» اللسان «أسر» . (4) . رسم المصحف على القراءة الثانية بعد الفاء. أما هذه، ففي المصاحف 57، ما يوحي أنها إلى الأعمش، وفي السبعة 163 إلى ابن كثير وأبي عمرو وحمزة، وفي الكشف 2: 251 إلى غير نافع وعاصم والكسائي، وكذلك في التيسير 74 والبحر 1: 291، وفي الجامع 2: 21 أبدل بعاصم حمزة، وفي الطّبري 2: 311 وحجّة ابن خالويه 61 بلا نسبة. (5) . في السبعة 163 والكشف 1: 251 والتيسير 74 والبحر 1: 291 إلى نافع وعاصم والكسائي، وفي الجامع 2: 21 أبدل بعاصم حمزة، وفي الطّبري 2: 311 وحجّة ابن خالويه 61 بلا نسبة.

قال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد العاشر بعد المائة] : أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة إن تقلّت «2» وإنّما يريدون «تقلّيت» . وقال عنترة [من الكامل وهو الشاهد الحادي عشر بعد المائة] : شطّت مزار العاشقين فأصبحت ... عسرا عليّ طلابك ابنة مخرم «3» إنّما أراد «فأصبحت ابنة مخرم عسرا عليّ طلابها» . وجاز أن يجعل الكلام، كأنه خاطبها، لأنّه حين قال: «شطّت مزار العاشقين» ، كأنه قال: «شططت مزار العاشقين» لأنه إيّاها يريد بهذا الكلام. ومثله ممّا يخرج من أوله قوله «4» [من الرجز وهو الشاهد الثاني عشر بعد المائة] : إنّ تميما خلقت ملموما فأراد القبيلة بقوله: «خلقت» ، ثمّ قال «ملموما» على الحي أو الرجل، ولذلك قال: مثل الصّفا لا تشتكي الكلوما ثم قال: قوما «5» ترى واحدهم صهميما فجاء بالجماعة، لأنّه أراد القبيلة أو الحيّ ثم قال: لا راحم «6» النّاس ولا مرحوما وقال الشاعر «7» [من الطويل وهو الشاهد الثالث عشر بعد المائة] : أقول له «8» والرّمح يأطر متنه ... تأمّل خفافا إنّني أنا ذلك و «تبيّن خفافا» ، يريد «أنا هو» . وفي

_ (1) . هو كثير عزّة. [.....] (2) . ديوانه 101. اللسان «قلا» وقيل هو جميل بن معمر «معاني القرآن 1: 441» . (3) . ديوانه 190 وهو من أبيات معلقته، وانظر مجاز القرآن 1: 252 و 273. (4) . هو المخيّس بن أرطاة الأعرجي، مجاز القرآن 2: 71، والجمهرة 2: 373 باب ما جاء على «فعيل» ، والصحاح «صهم» ، واللسان «صهم» ، وقيل بل هو رؤبة بن العجاج. ديوانه 185، واللسان «صهم» . (5) . في المخصص 3: 57 ب «قوم» . (6) . في الأصل «زاحم» بالزّاي، وفي المخصّص كالسابق ب «يرحم» بدل «راحم. (7) . هو خفاف بن ندبة السّلميّ. ديوانه 64، ومجاز القرآن 1: 29، والدرر 1: 51. (8) . في الدرر ب «وقلت له» وكذلك في الخزانة.

كتاب الله عز وجل حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] فأخبر بلفظ الغائب وقد كان في المخاطبة، لأنّ ذلك يدلّ على المعنى. وقال الأسود «1» [من البسيط وهو الشاهد الرابع عشر بعد المائة] : وجفنة كإزاء الحوض مترعة ... ترى جوانبها بالشّحم مفتونا فيكون على أنه حمله على المعنى، أي: ترى كلّ جانب منها، أو جعل صفة الجميع واحدا كنحو ما جاء في الكلام. وقوله «يأطر متنه» . يثني متنه. وكذلك الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) [الفاتحة] ثم قال تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] لأنّ الذي أخبر عنه هو الذي خاطب. قال رؤبة «2» [من الرجز وهو الشاهد الخامس عشر بعد المائة] : الحمد لله الأعزّ الأجلل ... أنت مليك الناس ربّا فاقبل «3» وقال زهير «4» [من الوافر وهو الشاهد السادس عشر بعد المائة] : فإنّي لو ألاقيك اجتهدنا ... وكان لكلّ منكرة كفاء «5» فأبرئ موضحات الرّأس منه ... وقد يشفي من الجرب الهناء «6» وقال الله تبارك وتعالى ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

_ (1) . ليس البيت في ديوان الأسود بن يعفر، ولا فيما ذكر في الأغاني من شعر للأساود كلهم. ولا أفادت المراجع والمصادر شيئا عن القائل والقول. (2) . هو رؤبة بن العجاج الرجاز بن الرجاز المعروف توفي سنة 145 أو 147 هـ، ترجمته في الأغاني 21: 84، والشعر والشعراء 2: 594 وطبقات الشعراء 2: 761. (3) . ليس في ديوان رؤبة، وإنما يوجد في الطرائف الأدبية 57، مطلع أرجوزة لأبي النجم العجلي، أوّلها: الحمد لله الوهوب المجزل ... أعطى فلم يبخل ولم يبخل والمصراع الأوّل معزوّ إلى أبي النجم منفردا، أو مع هذا المصراع، أو مع آخر هو: الواسع الفضل الوهوب المجزل، والكتاب وتحصيل عين الذهب 2: 302. (4) . هو زهير بن أبي سلمى أحد شعراء المعلّقات، الأغاني 2: 147 و 9: 146، والشعر والشعراء 137، وطبقات الشعراء 63، وخزانة الأدب 1: 375. (5) . في الديوان 81 ب «لو لقيتك واتجهنا» و «لكان» . (6) . في الديوان 81 فأبرئ، وفي طبعة التوفيق الادبية لشرح الأعلم ص 76 ب «لو لقيتك فاجتمعنا وكان لكلّ مندية فابرئ» والمندية الداهية التي تندي صاحبها عرقا لشدتها.

[الذاريات] فذكّر بعد التأنيث كأنه أراد: هذا الأمر الذي كنتم به تستعجلون. ومثله فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ [الأنعام: 78] فيكون هذا على: الذي أرى ربّي أي: هذا الشيء ربّي «1» ، وهذا يشبه قول بعض المفسّرين، في قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [الآية 187] قال: إنّما دخلت «إلى» لأن معنى «الرّفث» و «الإفضاء» واحد، فكأنه قال: الإفضاء إلى نسائكم» ، وإنّما يقال: «رفث بامرأته» ولا يقال: «إلى امرأته» وذا عندي كنحو ما يجوز من «الباء» في مكان «إلى» في قوله تعالى: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف: 100] وإنّما هو «أحسن اليّ» فحذف «إلى» ووضع «الباء» مكانها «2» وفي مكان «على» في قوله تعالى فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران: 153] إنّما هو «غمّا على غمّ» وقوله تعالى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ «3» أي: «على قنطار» كما تقول: «مررت به» و «مررت عليه» كما قال الشاعر «4» - وأخبرني من أثق به أنه سمعه من العرب [من الوافر وهو الشاهد الرابع والعشرون] : إذا رضيت عليّ بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها «5» يريد «عنّي» . وذا نحو وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ [الآية 14] لأنك تقول: «خلوت إليه وصنعنا كذا وكذا» و «خلوت به» . وإن شئت جعلتها في معنى قوله تعالى مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: 52 والصف: 14] أي: «مع الله» ، وكما قال وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ [الأنبياء: 77] أي: «على القوم» «6» .

_ (1) . في الجامع 7: 27 و 28 نقل هذا الرأي منسوبا مع تغيير في اللفظ وإشراك في النسبة إلى الكسائي، وفي إعراب القرآن 1: 322 كذلك، وفي البحر 4: 167 كذلك، مع عدم إشراك الكسائي. [.....] (2) . ولم تذكر كتب النحو في معاني حروف المباني، الّا فيام الباء مقام إلى في قوله تعالى وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف: 100] المغني حرف الباء المغني الثالث عشر. وفي الأصل «إلى مكان الباء» وقد صححت العبارة فنسقت على العبارة التي بعدها. انظر الخبر الداني 101. (3) . آل عمران 3: 75 في الأصل «بدينار» في الموضعين، وهو اللفظ الذي عليه الجملة الثانية في الآية الكريمة. (4) . هو القحيف العامري. مجاز القرآن 2: 84، والكامل 2: 538 3: 824، وأدب الكاتب 365. (5) . في الأصل لعمرو بالواو وفي المجاز «لعمر أبيك» . (6) . سبق للاخفش في الكلام على هذه الآية، أن أورد هذه الأمثلة نفسها، وهذه الشواهد تقريبا.

وقال ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ [الآية 85] وفي موضع آخر ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ [النساء: 109] كبعض ما ذكرنا، وهو كثير في كلام العرب، وردّد التنبيه توكيدا. وتقول: «ها أنا هذا» و «ها أنت هذا فتجعل «هذا» للذي يخاطب، وتقول: «هذا أنت» . وقد جاء أشدّ من ذا، قال الله عز وجل ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص: 76] والعصبة هي تنوء بالمفاتيح. قال «1» [وهو الشاهد السابع عشر بعد المائة من مجزوء الوافر] : تنوء بها فتثقلها ... عجيزتها. يريد: «تنوء بعجيزتها، أي: لا تقوم إلّا جهدا بعد جهد» قال الشاعر «2» [من البسيط وهو الشاهد الثامن عشر بعد المائة] : مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت ... نجران أو بلغت سوآتهم هجر «3» وهو يريد أن السنوات بلغت هجرا، و «هجر» رفع لأنّ القصيدة مرفوعة ومثل ذا قول الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد التاسع عشر بعد المائة] : وتلحق خيل لا هوادة بينها ... وتشقى الرّماح بالضّياطرة الحمر «5» والضياطرة، هم يشقون بالرماح. و «الضياطرة» هم العظام وواحدهم «ضيطار» مثل «بيطار» ومثل قول الشاعر «6» [من الطويل وهو الشاهد العشرون بعد المائة] : لقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي ... على وعل بذي الفقارة عاقل «7»

_ (1) . في الأصل رسم القول، بحيث يشير ضمنا إلى أنه شعر ولم تفد المراجع والمصادر شيئا فيه، إنما ورد في مجاز القرآن 2: 110، بحيث لا يميّزه من النثر مائز مّا، وسيعود الأخفش إلى الاستشهاد بهذا النص فيما بعد. (2) . هو الأخطل غياث بن غوث التغلبي. ديوانه 110، ومجاز القرآن 2: 39، والكامل 1: 322. (3) . في الديوان ب «على العيارات» بدل «مثل القنافذ» و «حدثت» بدل «بلغت» ، وفي الكامل «نجران» ، والمغني 2: 699 كذلك. (4) . هو خداش بن زهير. الكامل 2: 406، والصحاح «ضطر» واللسان «ضطر» . (5) . البيت فيما سبق من المظان، وفي مجاز القرآن 2: 110، والصاحبي 203، والمقاييس 2: 102، والمخصص 2: 77، وأضداد اللغوي 722 ب «تركيب» بدل تلحق، واللسان ب «نركب خيلا» وفي مجاز القرآن ب «تركب» . (6) . هو النابغة الذبياني. ديوانه 68، ومجاز القرآن 1: 65 و 139. (7) . في الأصل عافل بالفاء الموحدة، وفي الديوان ب «وقد» و «ذي المطارة عاقل» والبيت في مجاز القرآن 1: 65 و 139 ب «وقد» و «القفارة عاقل» ، ومعاني القرآن 1: 99 ب «ذي المطارة عاقل» ، وفي 3: 272 ب «في المكاره عاقل» ، وفي معجم البلدان» «مطارة» ب «وقد» و «من ذي مطارة عاقل» .

يريد: حتّى ما تزيد مخافة وعل على مخافتي. وقال تعالى فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ (89) وتفسيره: «فقليلا يؤمنون» و «ما» زائدة كما قال تجلى شأنه: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] يقول: «فبرحمة من الله» وقال إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) [الذاريات] أي: لحقّ مثل أنّكم تنطقون، وزيادة «ما» في القرآن والكلام، نحو ذا كثير. قال «1» [من المنسرح وهو الشاهد الحادي والعشرون بعد المائة] : لو بأبانين جاء يخطبها ... خضّب ما أنف خاطب بدم «2» أي: خضّب بدم أنف خاطب. وقال تعالى وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الآية 89] فان قيل فأين جواب وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ [الآية 89] قلت: «جوابه في القرآن كثير» ، واستغني عنه في هذا الموضع إذ عرف معناه «3» . كذلك جميع الكلام إذا طال تجيء فيه أشياء ليس لها أجوبة في ذلك الموضع ويكون المعنى مستغنى به، نحو قول الله عز وجل وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد: 31] فيذكرون ان تفسيره: «لو سيّرت الجبال بقرآن غير هذا لكان هذا القرآن ستسيّر به الجبال» فاستغني عن اللّفظ بالجواب، إذ عرف المعنى. وقال تعالى لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمران: 188] ، ولم يجئ ل «تحسبنّ» الأول بجواب، وترك للاستغناء بما في القرآن

_ (1) . هو المهلهل بن ربيعة التغلبي، الكامل 3: 816، والجمهرة 3: 211، والاشتقاق 77، واللسان «ابن» ، المغني 1: 312، وشرح شواهد المغني 247، ومعجم البلدان «أبانان» . (2) . في اللسان ب «رمل» ، وفي المغني وشرح شواهده ب «زمل» ، وفي سائر المراجع الأخرى ب «ضرج» بدل «خضب» ، وأعاد ذكره بين الأبيات في شرح شواهد المغني، ب «ضرج» أيضا» . [.....] (3) . نقل عنه هذا في إعراب القرآن 1: 63، والجامع 2: 27، والبحر 1: 303.

من الأجوبة. وقال تعالى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ [آل عمران: 180] معناه «لا يحسبنّه خيرا لهم» وحذف ذلك الكلام، وكان فيما بقي دليل على المعنى. ومثله وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) [يس] ثمّ قال تعالى وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ [يس: 46] من قبل أن يجيء بقوله «فعلوا كذا وكذا» لأنّ ذلك في القرآن كثير، استغني به. وكان في قوله جل شأنه وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ «1» دليل على أنّهم أعرضوا فاستغني بهذا وكذلك جميع ما جاز فيه نحو هذا. وقال تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) [الإسراء] ولعلّ معنى قوله تعالى وَلِيُتَبِّرُوا على معنى: «خلّيناهم وإيّاكم لم نمنعكم منهم بذنوبكم» . وقال لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ، ولم يذكر أنّه خلّاهم وإيّاهم على وجه الترك في حال الابتلاء بما أسلفوا ثمّ لم يمنعهم من أعدائهم أن يسلّطوا عليهم بظلمهم. وقال وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ [الأنعام: 93] فليس لهذا جواب. وقال تعالى وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ [البقرة: 165] فجواب هذا إنّما هو في المعنى، وهذا كثير «2» . وسنفسّر كل ما مررنا به إن شاء الله. وزعموا أنّ هذا البيت ليس له جواب [من الطويل وهو الشاهد الثاني والعشرون بعد المائة] : ودويّة قفر تمشّى نعامها ... كمشي النّصارى في خفاف الأرندج «3» يريد «وربّ دويّة» ثمّ لم يأت له بجواب. وقال «4» [من البسيط وهو

_ (1) . يس 36: 46، والأنعام 6: 4 أيضا. (2) . نقل عنه هذا الرأي في إعراب القرآن 1: 86 و 87، والجامع 2: 205، والبحر 1: 472. (3) . في الأصل: يمشي. البيت للشمّاخ بن ضرار الذبياني، وهو في ديوانه 83 ب «داوية» و «تمشّى نعاجها» و «اليرندج» ، وفي الكتاب 1: 454 ب «تمشّي» ، ورواه الأصمعي في شرح ديوان العجاج 353 ب «تمشّي نعاجها» و «اليرندج» وفي المقاييس 2: 262 ب «اليرندج» وبلا عزو. وفي الصحاح «دوى» كما في رواية الأخفش بلا عزو. وفي اللسان «ردج» معزوا ب «اليرندج» وفي «دوا» معزوا أيضا برواية الأخفش. (4) . هو عبد مناف بن ربيع الهذلي. ديوان الهذليين 2: 42، ومجاز القرآن 1: 37 و 331، و 2: 192 والصحاح، «قتد» و «شرد» و «جمل» و «سلك» ، والجمهرة 2: 9 ب «أسلكوهم» و 110 و 3: 45، والإنصاف 2: 245، والتمام بلا عزو 55، وتاج العروس «شرد» و «قتد» ، ومختار الصحاح «عز» ، والصّاحبي بلا عزو «39» ، والاشتقاق 246 بلا عزو وادب الكاتب 333، والمخصّص بلا عزو 16: 101، وتفرّد الأزهري في التهذيب 10: 63 إلى ابن أحمر، وبلفظ «سلكوهم» ، بلا ألف، والأنباري في شرح القصائد السبع 56 بلفظ «أسلموهم» ، وورد في سائر المصادر الأخرى ب «أسلكوهم» ، الّا ما نصصت عليه، وفيها جميعا ب «تطرد» أمّا في الأصل ف «طرد» .

الشاهد الثالث والعشرون بعد المائة] : حتّى إذا أسلكوه في قتائدة ... شلّا كما تطرد الجمّالة الشّردا فهذا ليس له جواب إلّا في المعنى. وزعم بعضهم أنّ هذا البيت [من الكامل وهو الشاهد الخامس بعد المائة] : فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن ... إلّا كلمّة حالم بخيال قالوا: الواو فيه ليست بزائدة ولكن الخبر مضمر. وقال تعالى بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [الآية 90] ف «ما» وحدها اسم، وأَنْ يَكْفُرُوا تفسير له نحو: «نعم رجلا زيد» «1» وأَنْ يُنَزِّلَ بدل من بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. وقال تعالى وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ [الآية 91] بنصب مُصَدِّقاً لأنه خبر معرفة. وتَقْتُلُونَ في معنى «قتلتم» . كما قال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد الرابع والعشرون بعد المائة] : ولقد أمرّ «3» على اللّئيم يسبّني ... فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني

_ (1) . في إعراب القرآن 1: 64 نقل عنه شاهدا غير هذا، وفي الجامع 2: 28 كذلك، واستنتج القرطبي ومكّي في المشكل 1: 104 من المثال أنّ «ما» في موضع نصب على التمييز عند الأول، والتفسير عند الثاني، وكذلك البحر 1: 304، 305، والإملاء 1: 51. (2) . هو رجل مولّد من بني سلول. الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 416، والمقاصد النحوية 4: 58، شواهد المغني 107، والخزانة 1: 173، وشرح شواهد ابن الناظم 303، وقيل هو شمر بن عمرو الحنفي، الأصمعيات 126. (3) . في الإنصاف 1: 65 بلفظ «مررت» والأصمعيات 126، وفي شرح شواهد ابن الناظم 303- «ثمّ أقول» ، وفي المقاصد 4: 58 ب «واعف ثمّ أقول ما» ، وفي الصّاحبي 219 ب «عنه» بدل «ثمّت» ، وفي الكامل 3: 806 ب «فأجوز ثمّ أقول» ، وفي شرح ابن الناظم 202 ب «فاعف ثمّ أقول ما» . ويمكن النظر في الخصائص 3: 330 و 332، والكشاف 1: 16، وشرح ابن عقيل 1: 157، وأوضح المسالك، والصحاح «ثمم» ، واللسان «ثمم» ، والمغني 1: 102، وشرح سقط الزند للبطليوسي 4: 1659 بالمخصّص 16: 116 والتمام 28 و 67.

يريد: «لقد مررت» بقوله «أمرّ» . وقوله تعالى وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ [الآية 96] فهو نحو «ما زيد بمزحزحه أن يعمّر» و «ما زيد بضارّه أن يقوم» ف «أن يعمّر في موضع رفع وقد حسنت الباء كما تقول: «ما عبد الله بملازمه زيد» . وقوله تعالى مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [الآية 97] ، فمن العرب من يقول: (لجبرئيل) فيهمزون ولا يهمزون، وكذلك (إسرائيل) «1» منهم من يهمز ومنهم من لا يهمز، ويقولون (ميكائيل) «2» فيهمزون ولا يهمزون ويقولون وَمِيكالَ كما قالوا وَجِبْرِيلَ. وقال بعضهم (جبرعل) ولا أعلم وجهه إلّا أني قد سمعت (إسرائل) وقال بعضهم (إسراييل) فأمال الراء» . وقال أبو

_ (1) . وردت في ثلاثة وأربعين موضعا من الكتاب العزيز أوّلها البقرة 2: 40، وآخرها الصف 61: 14، المعجم المفهرس 33» ، وفي الجامع 1: 331 عدم الهمز إلى الأعمش وعيسى، وزاد في البحر 1: 171 أبا جعفر، وفي البحر 1: 171 الهمز إلى الجمهور. (2) . من الآية القادمة. (3) . في «اللهجات» 243- 267، ولهجة تميم 85، والقراآت القرآنية هـ 101، أنّ الهمزة عامّة لهجة تميم، ونراه عامّة لهجة الحجاز «وفي اللهجات 247» أنّ جبريل لغة الحجاز وجبرئيل لغة تميم، وكذلك في الطّبري 2: 388 والجامع 2: 37 والبحر 1: 318، وفي الطّبري 2: 388 «ميكائيل» بهمزة وياء لغة تميم وقيس وبعض نجد، وعليها قرّاء أهل الكوفة وفي السبعة 166 و 167 إلى ابن كثير وابن عامر وعاصم وأبي بكر وحمزة والكسائي وفي الكشف 1: 255 والتيسير 75 إلى غير نافع وأبي حفص وعمرو وفي الجامع 2: 38 إلى حمزة وابن كثير، وفي البحر 1: 318 كما في السبعة مع إسقاط ابن كثير وعاصم، واضافة قنبل والبزّي. أما «ميكاييل» بياءين فهي في الطّبري 2: 389 لغة لبعض العرب، ولم يشر إلى أنّها قراءة، وفي المحتسب 97 والبحر 1: 318 إلى الأعمش، وفي الجامع 2: 38 إلى نافع وابن كثير وعن الأعمش باختلاف. أما «ميكال» فهي في الطّبري 2: 388، والجامع 2: 318، لغة أهل الحجاز وهي في الطّبري قراءة أهل المدينة والبصرة، وفي الكشف 1: 255 والتيسير 75 والبحر 1: 318 إلى أبي عمرو وحفص، وفي السبعة 166 إلى أبي عمرو وعاصم وزاد في الجامع انها عن عاصم وعن ابن كثير. أمّا إمالة الراء من «إسرييل» فهي قراءة حمزة والكسائي. الكشف 1: 178 وهي كما في «لهجة تميم 140» لهجة تميم. وفصّل ذلك في الكتاب 2: 259 و 260، واللهجات العربية 203، وما بعدها ان الإمالة لهجة عامة أهل نجد من تميم وأسد وقيس، وقد أوردها ابو حيان في البحر 1: 171 ولم ينسبها. أما «جبرعل» بالعين فهي من العنعنة وقد خصّت بها تميم وقيس وأسد وكلاب بن عامر بن صعصعة، كما في اللهجات العربية 283، وأضاف الفرّاء «ومن جاورهم» ، لهجة تميم 90، وفي الطّبري 2: 388 ساق لفظ «جبرعيل» و «ميكاعيل» مثالا لوزن اللفظ «جبرئيل» و «ميكائيل» ولم ينسبهما قراءة. أما «اسرائل» فكسر الهمزة كما في البحر 1: 171 قراءة ورش، ولم يشر إلى حذف الياء. وهي لهجة قيس وأسد وهوازن، كما في «اللهجات 549 و 554» .

الحسن «1» : في «جبريل» «ست لغات: جبراييل «2» وجبرئيل «3» وجبرئل «4» جبراعيل جبرعيل جبرعل وجبريل «5» وجبريل «6» فعليل فعليل وجبرائل «7» جبراعل. وقال تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) فأظهر الاسم وقد ذكره في أوّل الكلام، قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد الخامس والعشرون بعد المائة] : ليت الغراب غداة ينعب دائبا ... كان الغراب مقطّع الأوداج «8» وقال تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً [الآية 100] فهذه واو تجعل مع حرف الاستفهام، وهي مثل الفاء التي في قوله: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ [الآية 87] . فهذا في

_ (1) . هو المؤلّف أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش. (2) . في التكملة والتاج «جبر» . (3) . في الصحاح والتكملة واللسان والتاج «جبر» ، واللّسان أيضا «جبر» ، وهي قراءة بلا نسبة في حجّة ابن خالويه 62 والكشاف 1: 169، وفي السبعة 167 قراءة عاصم وحمزة والكسائي، وأسقط في الكشف 1: 254 عاصما والتيسير 75 كذلك، وفي الجامع 2: 37 قراءة أهل الكوفة، وهي لغة تميم وقيس. [.....] (4) . في الصحاح والتكملة «وفيها بتضعيف اللام» ، واللسان والتاج «جبر» ، وفي الكشاف 1: 169، وباختلاف الهمز في حجّة ابن خالويه، قراءة بلا نسبة. وفي السبعة 166، وقراءة عاصم في رواية، وفي الكشف 1: 254 إلى أبي بكر وفي التيسير 75 كذلك وفي الجامع 2: 37 كذلك عن عاصم. (5) . في التكملة والتاج «جبر» ، وفي الكشاف 1: 169، وحجّة ابن خالويه 62، قراءة بلا نسبة وفي السبعة 1: 166 إلى ابن كثير، والكشف 1: 254، والتيسير 75، وكذلك وزاد الجامع 2: 37 الحسن. (6) . في الصحاح واللسان والتاج «جبر» ، واللسان أيضا «جبر» ، وفي الكشّاف 1: 169 وحجّة ابن خالويه 62 قراءة بلا نسبة، والكشف 1: 254 و 255 والتيسير 75 إلى غير ابن كثير وأبي بكر وحمزة والكسائي، وفي الجامع 2: 37 لغة أهل الحجاز. (7) . في التكملة، وفي التاج «جبر» وفيه بلا تضعيف. وفي الكشاف 1: 169 قراءة بلا تضعيف. وفي الكشّاف 1: 169 قراءة بلا تضعيف وبلا نسبة، وفي الأصل «جبرعل» بلا ألف. (8) . لم تفد المراجع والمصادر شيئا في هذا الشاهد، سوى أنّه مستشهد به لهذا المعنى، في الأمالي الشّجريّة، بلا عزو 1: 243.

القرآن والكلام كثير، وهما زائدتان في هذا الوجه «1» . وهي مثل الفاء، التي في قولك: «أفا لله لتصنعنّ كذا وكذا» وقولك للرجل: «أفلا تقوم» . وإن شئت، جعلت الفاء والواو، هاهنا، حرف عطف. وقوله تعالى وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ [الآية 102] ف هارُوتَ ومارُوتَ معطوفان على الْمَلَكَيْنِ، وبدل منهما، ولكنهما أعجميان فلا ينصرفان وموضعهما جر. و «بابل» لم ينصرف لتأنيثه «2» ، وذلك أن اسم كل مؤنث، على حرفين أو ثلاثة، أوسطها ساكن، فهو ينصرف، وما كان سوى ذلك من المؤنّث فهو لا ينصرف ما دام اسما للمؤنّث. وقال تعالى حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما [الآية 102] فليس قوله فَيَتَعَلَّمُونَ جوابا لقوله فَلا تَكْفُرْ [الآية 102] ، إنما هو مبتدأ ثم عطف عليه فقال وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [الآية 102] . وقال يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [الآية 102] لأنّ كلّ واحد منهما زوج، فالمرأة زوج والرجل زوج. قال تعالى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء: 1] وقال مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود: 40 والمؤمنون: 27] . وقد يقال أيضا «هما زوج» للاثنين، كما يقول: «هما سواء» و: «هما سيّان» «3» . [والزوج أيضا: النمط يطرح على الهودج] «4» . قال الشاعر «5» [من الكامل وهو الشاهد السادس والعشرون بعد المائة] : من كلّ محفوف يظلّ عصيّه ... زوج عليه كلّة وقرامها

_ (1) . نقل رأيه في زيادة الواو في اعراب القرآن 1: 68، والمشكل 1: 105، والجامع 2: 39، والبحر 1: 323، والبيان 1: 13. (2) . نقله في الصحاح «بيل» ، وعبارته قال الأخفش: «لا ينصرف لتأنيثه وذلك أنّ اسم كلّ شيء مؤنث إذا كان أكثر من ثلاثة أحرف فإنه لا ينصرف في المعرفة» . (3) . في الصحاح «زوج» ويقال: «هما زوجان» و «هما زوج» كما يقال «هما سيان» و «هما سواء» . (4) . زيادة يقتضيها السياق، مستفادة من الجمهرة 2: 92، والصحاح «زوج» ، واللسان «زوج» . (5) . هو لبيد بن ربيعة العامري. والبيت من معلّقته في ديوانه 300، وشرح المعلّقات السبع 112، وشرح القصائد العشر 138.

وقد قالوا: «الزوجة» . قال الشاعر «1» [من البسيط وهو الشاهد السابع والعشرون بعد المائة] : زوجة أشمط مرهوب بوادره ... قد صار «2» في رأسه التخويص والنّزع «3» وقال تعالى وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [الآية 102] فهذه لام الابتداء تدخل بعد العلم وما أشبهه ويبتدأ بعدها، تقول: «لقد علمت لزيد خير منك» قال تعالى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) [ص] وقال لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا [يوسف: 8] . وقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ [الآية 103] ، فليس لقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا جواب في اللفظ، ولكنّه في المعنى يريد «لأثيبوا» فقوله لَمَثُوبَةٌ يدل على «لأثيبوا» فاستغني به عن الجواب «4» . وقوله لَمَثُوبَةٌ هذه اللام للابتداء كما فسرت لك. وقال تعالى وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ [الآية 102] ثم قال لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) يعني بالأوّلين الشياطين، لأنّهم قد علموا ولَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يعني الانس «5» . وكان في قوله سبحانه لَمَثُوبَةٌ دليل على «أثيبوا» فاستغني به عن الجواب. وقال تعالى ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [الآية 105] أي: «ولا من المشركين» لا يودّون أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ [الآية 105] . وقال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [الآية

_ (1) . هو الأخطل غياث بن غوث. الديوان 69، والتهذيب 7: 475 واللسان «خوص» . (2) . في الديوان «كان» ، وفي التهذيب واللسان كذلك، وفي الجمهرة 2: 228 شاع. (3) . في الجامع 1: 240، عن الأصمعي أنّه: لا تكاد العرب تقول زوجة، وفي المذكّر والمؤنّث للفرّاء 95 أن التذكير للرجل والمرأة قول أهل الحجاز، وأنّ أهل نجد يلحقون الهاء فيقولون «زوجة» ، وهو أكثر من زوج، «اللهجات العربية 503 كذلك» . (4) . نقل عنه هذا الرأي في المشكل 1: 108، وإعراب القرآن 1: 69، والجامع 2: 56، والبحر 1: 335. [.....] (5) . نقل عنه هذا الرأي في الجامع 3: 56.

106] وقرأ بعضهم (ننسأها) «1» أي نؤخّرها، وهو مثل إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37] لأنّه تأخير. «النسيئة» و «النسيء» أصله واحد من «أنسأت» ، إلّا أنّك تقول: «أنسأت الشيء أي: أخّرته ومصدره: النسيء. و: «أنسأتك الدّين» أي: جعلتك تؤخّره. كأنه قال: «أنسأتك» ، ف «نسأت» «2» و «النسيء» ، أنّهم كانوا يدخلون الشهر في الشهر. وقرأ بعضهم (أو ننسها) «3» كل ذلك صواب. وجزمه بالمجازاة. والنسيء في الشهر: التأخير. وقال تعالى أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ [الآية 108] ومن خفّف قال: (سيل) «4» ، فإن قيل: كيف جعلتها بين بين، وهي تكون بين الياء الساكنة وبين الهمزة والياء الساكنة لا تكون بعد ضمّة، والسين مضمومة؟ قلت أمّا في «فعل» فقد تكون الياء الساكنة بعد الضمة لأنهم قد قالوا «قيل» و «بيع» وقد تكون الياء في بعض «فعل» واوا خالصة لانضمام ما قبلها وهي معه في حرف واحد كما تقول: «لم توطؤ الدابّة» وكما تقول: «قد رؤس فلان» «5» .

_ (1) . في الطّبري 2: 477 قراءة جماعة من الصحابة والتابعين، وجماعة من قرّاء الكوفيين والبصريين، وخصّ عبيد بن عمير، وأنّه هو وابن أبي نجيح ومجاهد وعطية تأوّلوا بها. وفي السبعة 168 إلى ابن كثير وأبي عمرو، وفي الكشف 1: 258 و 259 زاد عمر وابن عبّاس وعطاء ومجاهدا وأبيّ بن كعب وعبيد بن عمير والنخعي وعطاء بن أبي رباح وابن محيصن، وفي الجامع 2: 67 كذلك، وفي البحر 1: 343 أسقط أبيّ بن كعب وابن محيصن، وأضاف ابن كثير وأبا عمرو من السبعة، وفي التيسير 76 إلى ابن كثير وأبي عمرو. (2) . في الصحاح «نسأ» قال الأخفش: أنسأته الدّين: إذا جعلته له مؤخرا ونسأت عنه دينه، إذا أخّرته نساء، قال: وذلك النّساء في العمر ممدود. ومنه قولهم «من سرّه النّساء ولا نساء، فليخفّف الرّداء وليباكر الغداء وليقلّ غشيان النّساء» . (3) . في البحر 1: 343 أنّها قراءة طائفة «ولم يعيّن أسماء هم» ، وأنّ أبا عبيد البكري وهم في نسبتها إلى سعد بن أبي وقاص، ووهم ابن عطية أيضا في ذلك. (4) . في السبعة 169: أنّ قراءة ابن عامر مهموزة من غير إشباع، وفي الشواذ 9 أن اختلاس الضمة من غير همزة إلى ابن عامر وفي الجامع 2: 70 أنّ كسر السين من غير همز للحسن وفي البحر 1: 346، أنّ الجمهور قرأ (سيل) «ولم يشكل» ، وقرأ الحسن وأبو السمال بكسر السين وياء، وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري بإشمام السين وياء، وقرأ بعض القرّاء بتسهيل الهمزة بين بين وضم السين. وفي الإملاء كان قراءة (سيل) «بلا شكل» على لغة من قال: أسلت بغير همزة، مثل خفت تخاف، والياء منقلبة عن واو، لقولهم سوال وساولته، ويقرأ (سيل) بجعل الهمزة بين بين، أي بين الهمزة وبين الياء. (5) . هي لغة قيس وعقيل ومن جاورهم، وعامّة بني أسد. اللهجات 452.

وقال تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ [الآية 111] ، فزعموا أن «الهود» : جماعة «الهائد» . و «الهائد» : التائب الراجع الى الحقّ. وقال تعالى في مكان آخر وَقالُوا كُونُوا هُوداً [الآية 135] أي: كونوا راجعين الى الحق، «هائد» و «هوّد» مثل «ناقه» و «نقّه» ، و «عائد» و «عوّد» ، و «حائل» و «حوّل» ، و «بازل» و «بزّل» «1» وجعل مَنْ كانَ واحدا لأنّ لفظ «من» واحد وجمع «2» في قوله هُوداً أَوْ نَصارى. وفي هذا الوجه تقول: «من كان كان صاحبك» . قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [الآية 114] إنّما هو «من أن يذكر فيها اسمه» ، ولكنّ حروف الجرّ تحذف مع «أن» كثيرا ويعمل ما قبلها فيها، حتى تكون في موضع نصب، أو تكون أَنْ يُذْكَرَ بدلا من «المساجد» يريدون: «من أظلم ممّن منع أن يذكر» . وقال تعالى وَسَعى فِي خَرابِها [الآية 114] فهذا على «منع» و «سعى» ثم قال أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ [الآية 114] فجعله جميعا لأنّ «من» تكون في معنى الجماعة. وقال تعالى فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الآية 115] لأنّ «أينما» من حروف الجزم من المجازاة والجواب في الفاء. وقال جلّ شأنه وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [الآية 117] بالرفع على العطف، كأنّه إنّما يريد أن يقول: «إنّما يقول كن فيكون» وقد يكون أيضا بالرفع على الابتداء. وقال إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) [النحل] فان جعلت (يكون) ها هنا معطوفة، نصبت، لأنّ أَنْ نَقُولَ نصب ب «أن» كأنه يريد: أَنْ نَقُولَ (فيكون) . فان قيل: «كيف والفاء ليست في هذا المعنى؟ فإنّ الفاء والواو قد تعطفان على ما قبلهما وما بعدهما، وإن لم يكن في معناه نحو «ما أنت وزيدا» ، وإنّما يريد «لم تضرب زيدا» ، وترفعه على «ما أنت وما زيد» ، وليس ذلك معناه. ومثل قولك: «إيّاك والأسد» . والرفع في قوله تعالى فَيَكُونُ على الابتداء نحو

_ (1) . كان يمكن أن يحمل على «فاعل» «فعل» ، لولا ورود «ناقه» التي لا تجمع على «فعل» «نقه» بل «فعل» «نقّه» . (2) . نقله عنه في اعراب القرآن 1: 71، والجامع 2: 75.

قوله: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج: 5] . قال الشاعر «1» فرفع على الابتداء [من الوافر وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد المائة] : يعالج عاقرا أعيت «2» عليه ... ليلقحها فينتجها حوارا وقال الشاعر «3» أيضا [من الطويل وهو الشاهد التاسع والعشرون بعد المائة] : وما هو إلّا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتّى ما أكاد أجيب والنصب في قوله «فأبهت» على العطف والرفع على الابتداء. وقال تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وقد قرئت «4» (ولا تسأل) وكلّ هذا رفع، لأنّه ليس بنهي، وإنّما هو حال، كأنّه قال «أرسلناك بشيرا ونذيرا وغير سائل أو غير مسؤول» ، وقد قرئتا جزما جميعا على النهي «5» . وقال تعالى يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [الآية 121] كما يقولون: «هذا حقّ عالم» وهو مثل «هذا عالم كلّ عالم» . وقال تعالى وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ [الآية 124] أي: اختبره. و «إبراهيم» هو المبتلى فلذلك انتصب. وقال تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الآية 124] لأنّ العهد هو

_ (1) . هو ابن أحمر. الديوان 73، والكتاب 1: 430، وتحصيل عين الذهب 1: 431. (2) . في الديوان «عاصت» بدل «أعيت» . (3) . هو عروة بن حزام العذري. شعر عروة بن حزام 28، والخزانة 3: 615 وشرح ابن يعيش 7: 38، وقيل كثير عزّة. الخزانة 3: 615، ولا وجود له في شعره، وقيل بعض الحجازيين. الكتاب 1: 430، كما أضاف الجرمي. وقيل بعض الحارثيين، تحصيل عين الذهب 1: 430. (4) . في الحجة 63، ذكرت من غير نسبة، وانتصر لها بقراءة عبد الله وأبي (ولن تسأل) . (5) . قراءة «تسأل» هي في معاني القرآن 1: 75 لابن عبّاس وأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وبعض أهل المدينة، وأنّ التفسير جاء بذلك. وفي الكشف 1: 262 إلى نافع وابن عبّاس، وفي الحجّة 63 بلا نسبة. وقراءة «تسأل» في معاني القرآن 1: 75 أنّ التفسير عليها، وفي الحجة 63 بلا نسبة، وفي التيسير 76 والجامع 2: 92 إلى نافع، وزاد في البحر 1: 368 يعقوب، وفي الطّبري 2: 558 إلى بعض أهل المدينة، وتأوّل بها النبي (ص) في رواية محمد بن كعب القرطبي وداود بن أبي عاصم. وفي إعراب القرآن 1: 72، والجامع 2: 92، نقلت آراء الأخفش هذه بنصوص فيها.

الذي لا ينالهم، وقرأ بعضهم: (لا ينال عهدي الظالمون) «1» والكتاب بالياء. وإنما قرءوا (الظالمون) لأنّهم جعلوهم الذين لا ينالون. وقال: إن قوله تعالى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [الآية 125] على اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [الآية 122] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وألحقت الهاء في «المثابة» لمّا كثر من يثوب إليه كما تقول: «نسّابة» و «سيّارة» لمن يكثر ذلك منه «2» . وقال في قوله تعالى وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [الآية 125] «3» يريد (واتّخذوا) كأنّه يقول «واذكروا نعمتي وإذ اتّخذوا مصلّى من مقام إبراهيم» ووَ اتَّخِذُوا بالكسر وبها نقرأ «4» لأنّها تدلّ على الغرض. وأمّا وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الآية 125] ف (السّجود) جماعة «السّاجد» كما تقول: «قوم قعود» و «جلوس» . قال تعالى وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الآية 126] ف مَنْ آمَنَ بدل على التبيان، كما تقول «أخذت المال نصفه» و «رأيت القوم ناسا منهم» . ومثل ذلك يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ [الآية 217] يريد: عن قتال فيه. وجعله بدلا. ومثله وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] ومثله قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف: 75] شبيه هذا أيضا إلا أنه قدر فيه حرف الجرّ. وقرأ (ومن كفر فأمتعه قليلا) [الآية

_ (1) . في معاني القرآن 1: 76 هي قراءة عبد الله بن مسعود، ومثله في الشواذ 9 والطّبري 3/ والجامع 2: 108. [.....] (2) . نقله عنه في الجامع 2: 110، والبحر 1: 379 و 380. (3) . كلام المؤلّف يشير إلى فتح الخاء، بدليل قوله فيما بعد وَاتَّخِذُوا بالكسر أجود. وما في الكتاب الكريم بالكسر. وهي في الطّبري 3: 32 قراءة بعض قرّاء أهل المدينة والشام، وفي السبعة 169 والتيسير 76 والجامع 2: 111 والبحر 1: 380 إلى نافع وابن عامر، أمّا في معاني القرآن 1: 77 وحجّة ابن خالويه 64/ فبلا نسبة. (4) . هي في الطّبري 3: 30 و 31 قراءة عامة المصرين الكوفة والبصرة، وقراءة عامة قرّاء أهل مكة وبعض قرّاء أهل المدينة، وقد نقل خبرها عن عمر، وفي 33 عن جابر بن عبد الله. وفي السبعة 169 والبحر 1: 380 إلى ابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي، وزاد في البحر الجمهور. وفي الجامع 2: 111 قصرها على الجمهور، وفي التيسير 76 إلى غير نافع وابن عامر، وفي معاني القرآن 1: 77، وحجّة ابن خالويه 64 بلا نسبة.

126] على الأمر ثُمَّ أَضْطَرُّهُ [الآية 126] فجزم (فأمتعه) على الأمر «1» ، وجعل الفاء جواب المجازاة. وقرأ بعضهم فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ، وبها نقرأ «2» ، رفع على الخبر وجواب المجازاة الفاء. وقال تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [الآية 127] أي كان إسماعيل هو الذي يدعو: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا. قال تعالى وَأَرِنا مَناسِكَنا [الآية 128] وقرأ بعضهم (وأرنا) بإسكان الراء «3» كما تقول «قد علم ذلك» «4» وبالكسر نقرأ «5» . وواحد «المناسك» : «منسك» مثل «مسجد» «6» ويقال أيضا: «منسك» «7» . وقال تعالى إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الآية 130] فزعم أهل التأويل أنه في

_ (1) . في معاني القرآن 1: 78 والطّبري 3: 54 إلى ابن عباس، وفي البحر 1: 384 زاد مجاهدا وغيرهما، وفي الجامع 2: 119 زاد قتادة، وفي التيسير 76 قصرها على ابن عامر، وفي حجّة ابن خالويه 64، والمشكل 50، بلا نسبة. (2) . في الطّبري 3: 53 إلى أبيّ بن كعب وابن إسحاق، و 54 إلى مجاهد، وفي السبعة 170 إلى القرّاء جميعا إلّا ابن عامر، وكذلك في التيسير 76، وفي الجامع 2: 119، كما في الطّبري وفي البحر 1: 384 إلى الجمهور من السبعة. (3) . في السبعة 170 إلى ابن كثير، وزاد في الكشف 1: 241 أبا عمرو، في رواية الرقيين عنه وفي التيسير 76 أبدل أبا شعيب بأبي عمرو، وفي البحر 1: 290 إلى ابن كثير، ومع الاختلاس والإشباع أيضا إلى أبي عمرو. وفي الجامع 2: 127 إلى عمر بن عبد العزيز وقتادة، وابن كثير وابن محيصن والسّدّيّ وروح، عن يعقوب ورويس والسوسي، واختارها أبو حاتم، وفي حجّة ابن خالويه 55 بلا نسبة. وفي الطّبري 3: 76 كذلك مع إشمامها كسرة. (4) . هي لغة نجدية تميميّة، اللهجات 173، وخص بها مؤلف لهجة تميم، من الأفعال ما كان من هذا الباب، «أي فرح» فاؤه حرف حلق، في 197. (5) . هي في الطّبري 2: 75 قراءة عامّة أهل الحجاز والكوفة، وفي السبعة 170 إلى نافع وحمزة والكسائي، وفي الكشف 1: 242 إلى جماعة من القرّاء، واختيار اليزيدي وإشباع الحركة إلى أبي أيوب، وفي التيسير 71 الاختلاس إلى أبي عمرو واليزيدي، والإشباع إلى غيرهما وغير ابن كثير وأبي شعيب، وفي الجامع 2: 128 إلى غير من قرأ بإسكان الراء. (6) . في الإملاء 1: 63 أفاد اللغتين، ولم تميّز كتب اللغة «الصحاح» واللسان «نسك» إحداهما بشيء عن الأخرى، إلّا ما قيل من أن المنسك [بكسر السين] الموضع الذي تعتاده والمنسك [بفتح السين] الموضع الذي تذبح فيه النسيكة أي ذبيحة الحجّ. (7) . في الإملاء 1: 63 أفاد اللغتين، ولم تميّز كتب اللغة «الصحاح» واللسان «نسك» إحداهما بشيء عن الأخرى، إلّا ما قيل من أن المنسك [بكسر السين] الموضع الذي تعتاده والمنسك [بفتح السين] الموضع الذي تذبح فيه النسيكة أي ذبيحة الحجّ.

معنى «سفّه نفسه» «1» وقال يونس «2» : «أراها لغة» «3» . ويجوز في هذا القول: «سفهت زيدا» ، وهو يشبه «غبن رأيه» و «خسر نفسه» ألا أنّ هذا كثير، ولهذا معنى ليس لذاك. تقول: «غبن في رأيه» و «خسر في أهله» و «خسر في بيعه» . وقد جاء لهذا نظير، قال: «ضرب عبد الله الظّهر والبطن» «4» ومعناه: على الظّهر والبطن» كما قالوا: «دخلت البيت» وإنّما هو «دخلت في البيت» وقوله: «توجّه مكّة والكوفة» وإنّما هو: إلى مكّة والكوفة. ومما يشبه هذا قول الشاعر [من الوافر وهو الشاهد السادس والخمسون] : نغالي اللّحم للأضياف نيئا ... ونبذله إذا نضج القدور يريد: نغالي باللحم. ومثل هذا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ [الآية 233] يقول: «لأولادكم» وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ [الآية 235] أي: على عقدة النّكاح «5» . وأحسن من ذلك أن تقول: إنّ «سفه نفسه» جرت مجرى «سفه» إذ كان الفعل غير متعدّ، وإنّما عدّاه الى «نفسه» و «رأيه» وأشباه ذا ممّا هو في المعنى نحو «سفه» إذا لم يتعدّ. وأمّا «غبن» و «خسر» فقد يتعدّى الى غيره تقول: «غبن خمسين» و «خسر خمسين» . وقال تعالى وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ [الآية 132] فهو- والله أعلم- «وقال يعقوب يا بنيّ» ، لأنّ قوله تعالى وَوَصَّى بِها يتضمّن أنه قال لهم شيئا، فأجري الأخير على معنى الأوّل وإن شئت قرأت وَيَعْقُوبُ لأنّه معطوف، كأنك قلت: «ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب» «6» ثمّ فسّر ما قال يعقوب، قال: «يا بنيّ» .

_ (1) . نقل رأيه في التهذيب 6: 131 «سفه» ، ونقله» عنه المؤلّف في الجامع 2: 132 وزاد المسير 1: 147، واللسان: «سفه» . (2) . هو يونس بن حبيب، وقد مرت ترجمته. (3) . انظر الجامع 2: 132، وزاد المسير 1: 147. (4) . في الجامع 2: 132 نسبت هذه الآراء وهذه الأمثلة إلى سيبويه، نقلا عن الأخفش نفسه. [.....] (5) . نقل هذا الرأي الرّضيّ الأستراباذي في شرحه على الكافية 269، واستشهد بهذه الشواهد وبغيرها ناسبا إيّاه إلى الأخفش الأصغر، كما نسبه إلى الأخفش في إعراب القرآن 1: 77 مستشهدا بالآية الثانية. والقرطبي 2: 132. (6) . أفاده في الكشاف 1: 191، والإملاء 1: 64، وأفاده أيضا والمعنى السابق في الجامع 1: 135.

وقال تعالى أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ [الآية 133] استفهام مستأنف. ثمّ قال إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ [الآية 133] فأبدل «إذ» الاخرة من الأولى «1» . وقال تعالى إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [الآية 133] على البدل «2» ، وهو في موضع جرّ، إلّا أنها أعجمية فلا تنصرف «3» . وأمّا قوله تعالى إِلهاً واحِداً [الآية 133] فهو على الحال «4» . وقال تعالى تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ [الآية 134] كأنّه يقول: «قد مضت» ثم استأنف فقال: لَها ما كَسَبَتْ «5» . وقال بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الآية 135] (بالنصب) . وقال صِبْغَةَ اللَّهِ [الآية 138] بالنصب. لأنّهم حين قيل لهم كما ورد في التنزيل: كُونُوا هُوداً [الآية 135] كأنه قيل لهم: «اتّخذوا هذه الملّة» فقالوا: «لا» بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي: نتّبع ملّة إبراهيم، ثمّ أبدلت «الصّبغة» من «الملّة» «6» فقرئ: صِبْغَةَ اللَّهِ بالنّصب. أو يكون المعنى: «كونوا أصحاب ملّة» ثم حذف لفظ «أصحاب» كما في قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [الآية 177] يريد: «برّ من آمن بالله» . والصّبغة: هي الدين «7» . وقرأ: (أتحاجّونّا) «8» [الآية 139] مثقّلة لأنهما حرفان مثلان فأدغم أحدهما في الاخر «9» ، واحتمل الساكن قبلهما إذا

_ (1) . افاده في الإملاء 1: 64. (2) . أفاد هذه المعاني في المشكل 1: 112، وأضاف التعريف إلى العجمة. كما أفادها في البيان 1: 124، وأفاد المعنى الأوّل في الإملاء 1: 65، وأفاد المعنيين في الجامع 2: 138، وفي الأصل ينصرف بالياء. (3) . أفاد هذه المعاني في المشكل 1: 112، وأضاف التعريف إلى العجمة. كما أفادها في البيان 1: 124، وأفاد المعنى الأوّل في الإملاء 1: 65، وأفاد المعنيين في الجامع 2: 138، وفي الأصل ينصرف بالياء. (4) . أفاده في المشكل 1: 112، والبيان 1: 124، والإملاء 1: 65، والجامع 2: 138. (5) . أفاده في المشكل، ونعت التركيب بالانقطاع، وأنّه لا محلّ له من الاعراب 1: 112، وفي البيان 1: 124، والإملاء 1: 65. (6) . في إعراب القرآن 1: 80 نقله عنه، ونسبه إليه، وفي الجامع 2: 144 كذلك. (7) . نقله في اعراب القرآن 1: 80. (8) . في الأصل أَتُحَاجُّونَنا كما هي في المصحف، ولكن الكلام الذي بعدها يدل على إدغام النّونين. (9) . في الشواذ 10، أنّها قراءة زيد بن ثابت وابن محيصن، وفي الجامع 2: 145 اقتصر على ابن محيصن، وفي البحر 1: 412 زاد عليها الحسن والأعمش.

كان من حروف اللّين الياء والواو والألف إذا كنّ سواكن. وقرأ بعضهم أَتُحَاجُّونَنا [الآية 139] «1» فلم يدغم ولكن أخفى فجعل حركة الأولى خفيفة وهي متحرّكة في الوزن، وهي في لغة الذين يقولون: «هذه مائة دّرهم» يشمّون شيئا من الرفع ولا يبيّنون، وذلك الإخفاء. وقد قرئ هذا الحرف على ذلك ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ [يوسف: 11] بين الإدغام والإظهار «2» . ومثل ذلك إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ [يوسف: 13] وأشباه هذا كثير، وإدغامه أحسن «3» حتّى يسكّن الأوّل. قرأ بعضهم من الآية 140 من المائدة: (أم يقولون إنّ إبراهيم) «4» وقد قرأ بعضهم «أم تقولون» [الآية 140] «5» على قُلْ أَتُحَاجُّونَنا و «أم تقولون» . ومن قرأ (أم يقولون) جعله استفهاما مستأنفا كما تقول: «إنّها لإبل» ثمّ تقول: «أم شاء» «6» . قال تعالى وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً [الآية 143] قال: يعني «القبلة» » ولذلك أنّث. وقال تعالى

_ (1) . في الجامع 2: 145 إلى الجماعة عدا ابن محيصن، وفي البحر 1: 412 إلى الجمهور. (2) . في معاني القرآن 2: 38 أورد القراءتين ولم ينسبهما، وفي تأويل ابن قتيبة 39 ذكر إشمام الضمّ مع الإدغام، وفي السبعة 345 ذكر إجماعهم على فتح الميم، وإدغام النون الأولى في الثانية، والإشارة إلى إعراب النون المدغمة بالضمّ. وفي التيسير 127 نسب إلى كلّهم الإدغام مع إشمامها الضم. أمّا في الجامع 9: 138 فإلى يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري، قراءة الإدغام بغير إشمام، وإلى طلحة بن المصرف لا تأمننا بنونين ظاهرتين على الأصل، وإلى سائر الناس الإدغام والإشمام، وفي البحر 5: 285 إلى زيد بن علي وأبي جعفر والزهري وعمرو بن عبيد، الإدغام بلا إشمام، وإلى الجمهور الإدغام والإشمام. (3) . في البحر 5: 286، قراءة تشديد النون إلى زيد بن علي وابن هرمز وابن محيصن وقراءة الفكّ إلى الجمهور. [.....] (4) . في المصحف بالتاء المثناة من فوق في «يقولون» والقراءة بالياء في السبعة 171، إلى ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وإلى أبي عمرو. وفي الكشف 1: 266 إلى غير من قرأ بالأخرى، وأخذ بها الحسن وأبو عبد الرحمن وأبو رجاء وقتادة وأبو جعفر يزيد وشيبة، وهي اختيار أبي حاتم، وفي التيسير 77 إلى غير من أخذ بالأخرى، وفي حجّة ابن خالويه 66 والكشّاف 1: 97 والاملا 1: 66 بلا نسبة. (5) . في السبعة 171 إلى ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وفي الكشف 1: 266، والتيسير 77، والجامع 2: 146 كذلك، وفي حجّة ابن خالويه 66، والكشاف 1: 197، والاملا 1: 66 بلا نسبة. (6) . في إعراب القرآن 1: 80، أنّ الأخفش يرى في هذا قيام «أم» مقام «بل» . (7) . في الجامع 2: 157 وقال الأخفش: أي: وإن كانت القبلة أو التحويلة أو التولية لكبيرة» . فلعلّ القرطبي أفاد هذه المعاني من كتب أو روايات أخرى للأخفش. وفي البحر 1: 425، جاء رأي الأخفش مقصورا على القبلة.

وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [الآية 145] قال لأنّ معنى قوله تعالى وَلَئِنْ أَتَيْتَ. ولو أتيت. ألا ترى أنّك تقول: «لئن جئتني ما ضربتك» على معنى «لو» كما في قوله تعالى وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا [الروم: 51] قال: يقول تعالى: «ولو أرسلنا ريحا» لأنّ معنى «لئن» «1» مثل معنى «لو» لأنّ «لو» لم تقع وكذلك «لئن» كذا يفسّره المفسّرون «2» . وهو في الإعراب على أنّ آخره معتمد لليمين، كأنّه قال «والله ما تبعوا» أي: ما هم بمتّبعين. وقال الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [الآية 147] على ضمير الاسم ولكن استغني عنه لمّا ذكره كأنّه قال. «هو الحقّ من ربّك» . قال تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها [الآية 148] على: «ولكل أمّة وجهة» . وقد قرأ قوم (ولكلّ وجهة) «3» فلم ينوّنوا «كلّ» . وهذا لا يكون لأنك لا تقول: «لكلّ رجل هو ضاربه» ولكن تقول: «لكلّ رجل ضارب» فلو كان «هو مولّ» كان كلاما. فأما «مولّيها» على وجه ما قرأ، فليس بجائز. وقال تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا [الآية 150] ، فهذا معنى «لكن» «4» وزعم يونس «5» أنّه سمع أعرابيا فصيحا يقول: «ما أشتكي شيئا إلّا خيرا» وذلك أنّه قيل له: «كيف تجدك» . وتكون «إلّا» بمنزلة الواو نحو قول الشاعر «6» [من الكامل وهو الشاهد الثلاثون بعد المائة] : وأرى لها دارا بأغدرة السيدان ... لم يدرس لها رسم

_ (1) . في الأصل «لأنّ» ، ونقلت آراء الأخفش هذه، في إعراب القرآن 1: 81 و 82، والجامع 2: 161 و 162 والبحر 1: 431. (2) . في معاني القرآن 1: 84، ذكر الفرّاء تساوق معنى «لئن» و «لو» في المعنى، وإن كان يؤكّد كون الأولى للاستقبال، والثانية للمضيّ. (3) . في الشواذ 10 إلى ابن عبّاس، وفي البحر 1: 437 إلى ابن عامر، وفي الكشّاف 1: 205 والإملاء 1: 69 والجامع 2: 165 والطّبري 3: 195، بلا نسبة. (4) . نقل رأي الأخفش في التهذيب 15: 424 و 425 «الا» . (5) . هو يونس بن حبيب، وقد سبقت ترجمته. (6) . هو المخبّل السّعدي، الصحاح «خلد» ، ومعجم البلدان «أغدرة» .

إلّا رمادا هامدا دفعت ... عنه الرياح خوالد سحم «1» أراد: أرى لها دارا ورمادا. وقال بعض أهل العلم إنّ الذين ظلموا هاهنا هم ناس من العرب كانوا يهودا أو نصارى، فكانوا يحتجّون على النبي (ص) ، فأمّا سائر العرب فلم يكن لهم حجّة، وكانت حجّة من يحتجّ منكسرة. إلّا أنّك تقول لمن تنكسر حجته «إنّ لك علي الحجة ولكنّها منكسرة، وإنّك تحتجّ بلا حجّة وحجّتك ضعيفة» . وقال تعالى وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [الآية 150] كأنه يقول: «لأنّ لا يكون للناس عليكم حجّة ولأتمّ عليكم» عطف على الكلام الأوّل «2» . وقوله تعالى كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الآية 151] فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الآية 152] أي كما فعلت هذا فاذكروني. وقال تعالى وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ [الآية 154] على: ولا تقولوا هم أموات. وقال تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً [آل عمران: 169] بالنصب «3» على «تحسب» ، ثمّ قال بَلْ أَحْياءٌ أي: بل هم أحياء. ولا يكون أن تجعله على الفعل: لأنّه لو قال: «بل احسبوهم أحياء» كان قد أمرهم بالشك. وقال تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الآية 158] ف «اطّوّف» «يطّوّف» وهي من «تطوّف» . فأدغم التاء في الطاء، فلما سكنت جعل قبلها ألفا حتّى يبتدأ بها. وإنّما قال تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْهِ لأنّ ذلك كان مكروها في الجاهليّة، فأخبر سبحانه أنه ليس بمكروه عنده. وقال تعالى أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [الآية 161] لأنه أضاف اللعنة ثمّ قال خالِدِينَ فِيها [الآية 162] بالنّصب على الحال.

_ (1) . في الصحاح واللسان «خلد» ثانيهما وحده، ووردا كلامها في الصاحبي 135، ومختار الصحاح «ءل ا» ومعجم البلدان «أغدرة» والبيتان في القصيدة العشرين، من شرح اختيارات المفضّل للتبريزي 535 من الجزء الأوّل. (2) . نقله منسوبا في الجامع 2: 170. (3) . في الكشاف 1: 439، أنه قرئ بالنصب، ولم تنسب القراءة.

وقرأ بعضهم (ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب إنّ القوّة لله جميعا) [الآية 165] ف «1» ف «إنّ» مكسورة على الابتداء إذ قال: (لو ترى) «2» . وقرأ بعضهم: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [الآية 165] «3» . كأنّ السّياق: «ولو يرون أنّ القوّة لله» أي: «لو يعلمون» ، لأنّهم لم يكونوا علموا، قدر ما يعاينون من العذاب. ويجوز أن تكسر همزة إنّ، ويقرأ ب وَلَوْ يَرَى أو (ولو ترى) تقول للرجل: «أما والله لو تعلم» ، و «لو يعلم» قال الشاعر «4» [من الخفيف وهو الشاهد الحادي والثلاثون بعد المائة] : إن يكن طبّك الدّلال فلو في ... سالف الدّهر والسنين الخوالي «5» فهذا ليس له جواب إلّا في المعنى. وقال «6» (من الخفيف وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائة) : فبحظّ ممّا تعيش ولا تذ ... هب بك التّرّهات في الأهوال «7» فأضمر «فعيشي» . وقرأ بعضهم (ولو ترى) وفتح «أن» «8» على (ترى) وليس ذلك، لأن النبيّ (ص) لم يعلم، ولكن أراد أن يعلم ذلك النّاس كما قال

_ (1) . في المصحف الكريم رسمت «يرى» بالياء المعجمة المثناة من تحت، وفتح همزة «أن» . [.....] (2) . هي قراءة نسبها الطّبري 3: 281 إلى عامّة أهل المدينة والشام، وكذلك في الجامع 2: 204، وفي السبعة 173، والكشف 1: 271، والتيسير 78، إلى نافع وابن عامر، وفي البحر 1: 471 إلى الحسن وقتادة وشيبة وأبي جعفر ويعقوب، وفي حجّة ابن خالويه 68، ومعاني القرآن 1: 97 و 98، بلا نسبة. (3) . نسبها الطّبري 3: 283 إلى عامّة قرّاء الكوفيّين البصريّين، وأهل مكّة وفي السبعة 173 إلى ابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي، وفي الكشف 1: 271 والتيسير 78 إلى غير نافع وابن عامر، وفي الجامع 2: 204 إلى أهل مكّة وأهل الكوفة وأبي عمرو، وهي اختيار أبي عبيد وفي البحر 1: 471 إلى الكوفيين وأبي عمرو وابن كثير، وفي معاني القرآن 1: 97، وحجّة ابن خالويه 68، بلا نسبة. (4) . هو عبيد بن الأبرص. ديوانه 107، والمقاصد النحوية 4: 461، وشرح شواهد المغني للسيوطي 317. (5) . في الديوان: «. العصر والليالي الخوالي» . وقد ورد في المغني 2: 649، وشرح شواهده للسيوطي 317. (6) . هو عبيد بن الأبرص أيضا. ديوانه 108. (7) . في الديوان 108 ب «وبحظ» و «نعيش فلا» . (8) . في الطّبري 3: 281 إلى عامّة أهل الشام والمدينة، وفي البحر 1: 471 إلى الكوفيين وأبي عمرو وابن كثير. وفي معاني القرآن 1: 98 بلا نسبة، وكذلك في المشكل 1: 55.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ «1» ليخبر النّاس عن جهلهم، وكما قال تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 107] «2» . وقال: إنّ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [الآية 173] إنّما هي «الميّته» خففت وكذلك قوله تعالى بَلْدَةً مَيْتاً [ق: 11] يريد به «ميّتا» ولكن يخففون الباء كما يقولون في «هيّن» و «ليّن» : «هين» و «لين» خفيفة. قال الشاعر «3» [من الخفيف وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد المائة] : ليس من مات فاستراح بميت ... إنّما الميت ميّت الأحياء فثقّل وخفّف في معنى واحد. فاما «الميتة» فهي الموت. وقال تعالى فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [الآية 175] ، فزعم بعضهم أنه تعجّب منهم كما قال جلّ شأنه قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) [عبس] تعجّبا من كفره. وقال بعضهم فَما أَصْبَرَهُمْ أي: ما أصبرهم، و: ما الذي أصبرهم «4» . وقال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [الآية 176] فالخبر مضمر كأنه يقول: «ذلك معلوم لهم، بأنّ الله نزّل الكتاب» لأنه قد أخبرنا في الكتاب أن ذلك قد قيل لهم، فالكتاب حق. وقال تعالى وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ [الآية 177] ، ثم قال وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [الآية 177] ووَ أَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ [الآية 177] فهو على أوّل الكلام «ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله وأقام الصلاة وآتى الزّكاة» ثم قال تعالى

_ (1) . ورد في خمسة مواضع من القرآن الكريم، أوّلها يونس 10: 38، وآخرها الأحقاف 46: 8، المعجم المفهرس 517 و 518. (2) . والمائدة 5: 40. وقد نقلت آراء الأخفش في إعراب القرآن 1: 86 و 87، والجامع 2: 205، والبحر 1: 472. (3) . هو عديّ بن الرعلاء. الأصمعيات 152، ومجاز القرآن 1: 149 و 2: 161، والحماسة الشّجرية 1: 195. والبيان 1: 198 والبارع «موت» ، والحيوان 6: 507، والخزانة 4: 187، والصناعتين 315، واللسان وتاج العروس «موت» والاشتقاق 51 وهو في التهذيب 4: 343 والقسطاس المستقيم 205، والجامع 2: 216، والبيان والتبيين 1: 119، وأضداد اللغوي 1: 318. (4) . في معاني القرآن 1: 103 ومجاز القرآن 1: 64 بلفظ «صبرهم» ، وقصره في البيان 1: 138 على الأخفش وحده.

وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ [الآية 177] ، ف وَالْمُوفُونَ رفع على «لكنّ الموفين» يريد «برّ الموفين» ، فلمّا لم يذكر «البرّ» ، أقام السّياق وَالْمُوفُونَ مقام البرّ، كما في وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] بنصبها على وَسْئَلِ والمراد «أهل القرية» ، ثمّ نصب الصَّابِرِينَ على فعل مضمر كما لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ [النساء: 162] ثم ورد وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ بالنصب على فعل مضمر، ثمّ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ، بالرّفع على الابتداء، أو بعطفه على «الرّاسخين» . قال الشاعر «1» [من الكامل وهو الشاهد السابع والستون بعد المائة] : لا يبعدن قومي الذين هم ... سمّ العداة وآفة الجزر النّازلين بكلّ معترك ... والطّيّبون معاقد الأزر ومنهم من يقول «النازلون» و «الطيبين» «2» . ومنهم من يرفعهما جميعا «3» ، وينصبهما جميعا «4» ، كما فسّرت لك. ويكون الصَّابِرِينَ معطوفا على ذَوِي الْقُرْبى [الآية 177] أي «وآتى الصّابرين» . وأمّا «البأساء» و «الضّراء» في قوله تعالى: فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الآية 177] فبناهما على «فعلاء» التي لها «أفعل» لأنهما اسمان كما قد جاء «أفعل» في الأسماء ليس معه «فعلاء» نحو «أحمد» «5» . وقد قالوا «أفعل» في الصّفة ولم يجيء له «فعلاء» ، قالوا: «أنت من ذاك أوجل» و «أوجر» ولم يقولوا: «وجلاء» ولا «وجراء» وهما من الخوف. ومنه «رجل أوجل» و «أوجر» . وقال تعالى فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ [الآية 187] أي: «فعليه

_ (1) . هي خرنق بنت هفان أخت طرفة بن العبد لأمّه، وقد سبق الكلام على الشاهد. وقد جاء بالياء في «النّازلين» والواو في «الطيّبون» في الكتاب 1: 246 و 249، ومجاز القرآن 1: 143، والخزانة 2: 301، والمقاصد النحوية 3: 602، والتنبيه للبكري 75، والهمع 2: 119، والدرر 2: 150، والجامع 2: 239، والبيان 1: 276. (2) . جاء على هذا في الديوان 29، والكتاب 1: 249، والخزانة 2: 302، رواية ليونس والأنصاف 2: 249 و 299. (3) . جاء على هذا في الكتاب 1: 104، والأمالي 2: 158. [.....] (4) . جاء على هذا في مجاز القرآن 1: 66، ومعاني القرآن 1: 105 و 453، والكامل 2: 751. (5) . نقلت هذه العبارة في الصحاح «بأس» ب «بني» بدل «فبناه» و «يجيء» بدل «جاء» وفي اللسان «بأس» كذلك.

اتباع بالمعروف أو أداء إليه بإحسان» على الذي يطلب. وقال تعالى إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الآية 180] ف الْوَصِيَّةُ على الاستئناف، كأنه- والله أعلم- إِنْ تَرَكَ خَيْراً فالوصيّة «1» لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا. وقال تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الآية 183] . ثمّ قال أَيَّاماً [الآية 184] أي: كتب الصّيام أيّاما. لأنّك شغلت الفعل بالصيام، حتّى صار هو يقوم مقام الفاعل، وصارت الأيّام، كأنّك قد ذكرت من فعل بها. وقال تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الآية 184] ، يقول «فعليه عدّة» رفع، وإن شئت نصبت «العدّة» على «فليصم عدّة» إلّا أنّه لم يقرأ «2» . وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [الآية 185] ، وهو معطوف على ما قبله، كأنّه قال «ويريد لتكملوا العدّة» «3» وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ [الآية 185] . وأمّا قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء: 26] فإنّما معناه يريد هذا ليبيّن لكم. قال الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد الرابع والثلاثون بعد المائة] : أريد لأنسى ذكرها فكأنّما تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل فمعناه: أريد هذا الشيء، لأنسى ذكرها، «أو يكون أضمر» «أن» بعد اللام، وأوصل الفعل إليها بحرف الجر. قال تعالى فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [الآية 213] فعدّى الفعل بحرف الجرّ، والمعنى: عرّفهم الاختلاف حتّى تركوه. وقال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ [الآية 184] وقد

_ (1) . نقله عنه في المشكل 1: 119، وإعراب القرآن 1: 91، والإملاء 1: 79، والمغني 1: 165 و 2: 636، والجامع 2: 258، والبحر 2: 20، والأشباه والنظائر 4: 34. (2) . جاء في الكشّاف 1: 225 «قرئ بالنصب بمعنى» «فليصم عدة» على سبيل الرخصة. (3) . نقله في إعراب القرآن 1: 95. (4) . هو كثير عزّة. الديوان 108، والكامل 3: 823، وذيل الأمالي 119.

قرئت: (فدية طعام مساكين) «1» وهذا ليس بالجيّد، إنما الطّعام تفسير للفدية، وليست الفدية بمضافة الى الطعام. وقوله تعالى يُطِيقُونَهُ يعني الصيام. وقرأ بعضهم (يطوّقونه) «2» ، أي يتكلّفون الصيام. ومن قرأ: (مساكين) «3» ، فهو يعني جماعة الشهر، لأنّ لكلّ يوم مسكينا. ومن قرأ مِسْكِينٍ، فإنّما أخبر ما يلزمه في ترك اليوم الواحد. وقال تعالى وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [الآية 184] ، لأنّ «أن» الخفيفة وما عملت فيه بمنزلة الاسم، كأنه قال: «والصيام خير لكم» . ثمّ قال شَهْرُ رَمَضانَ [الآية 185] على تفسير الأيام، كأنّه حين قال أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [الآية 184] فسّرها سبحانه فقال: «هي شهر رمضان» «4» وقد نصب بعضهم، فقرأ: (شهر رمضان) «5» وذلك جائز على الأمر، كأنه قال: «شهر رمضان فصوموا» ، أو بجعله «6» ظرفا على

_ (1) . قراءة الاضافة في الطّبري 3: 438، إلى معظم قرّاء أهل المدينة وفي السبعة 176، إلى نافع وابن عامر وفي الكشف 1: 282 أبدل بابن عامر ابن ذكوان، وكذلك التيسير 79، والبحر 2: 37 وفي الجامع 2: 287 إلى أهل المدينة والشام. أما قراءة إبدال الطعام من الفدية ورفعه، ففي الطّبري 3: 439 إلى معظم قرّاء أهل العراق، و 440 إلى أبي عمرو وفي السبعة 176 إلى ابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي، وفي الكشف 1: 282 و 283 إلى ابن عبّاس، وإلى غير نافع وابن ذكوان وابن عمر ومجاهد وفي التيسير 89 إلى غير نافع وابن ذكوان وإلى هشام، وفي البحر 2: 37 إلى الجمهور. (2) . في الطّبري 3: 418 و 429 و 430 و 431، إلى ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وعائشة وعطاء ومجاهد وفي المصاحف 89 إلى سعيد بن جبير وفي الشواذ 11 إلى مجاهد وفي المحتسب 118 نسبت إلى ابن عباس بخلاف، وعائشة وسعيد بن المسيّب وطاوس بخلاف، وسعيد بن جبير ومجاهد بخلاف، وعكرمة وأيوب السختياني وعطاء وفي الجامع 2: 286، والبحر 2: 25، إلى ابن عبّاس، وقرّاء إلى غير من أخذ بالأخرى. (3) . في الطّبري 3: 440 إلى الحسن، وفي السبعة 176 إلى نافع وابن عامر، وأضاف في الكشف 1: 282 ابن عمر ومجاهدا، وفي التيسير 79 إلى ابن ذكوان ونافع وهشام، واقتصر في البحر 2: 37 على هشام، وفي الجامع 2: 287 إلى أهل المدينة والنساء. (4) . نقله في زاد المسير 1: 185. (5) . في معاني القرآن 1: 112 أنها للحسن، وفي الشواذ 12 إلى عاصم في رواية، ومجاهد وفي الجامع 2: 297 إلى مجاهد وشهر بن حوشب وزاد في البحر 2: 38 هارون الأعور عن أبي عمرو، وأبا عمارة عن حفص عن عاصم وفي الطّبري 3: 445، والمشكل 61، بلا نسبة. (6) . في الأصل: يجعله. وقد نقله عنه في الجامع 2: 297.

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الآية 183] (شهر رمضان) أي: «في شهر رمضان» و «رمضان» في موضع جر، لأنّ الشّهر أضيف اليه، ولكنّه لا ينصرف. وقال تعالى الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى [الآية 185] ، فموضع هُدىً وبَيِّناتٍ نصب، لأنه قد شغل الفعل ب الْقُرْآنُ، وهو كقولك: «وجد عبد الله ظريفا» . وأمّا قوله تعالى وَالْفُرْقانِ [الآية 185] فجرّ على «وبيّنات من الفرقان» . وقوله تعالى يَرْشُدُونَ [الآية 186] لأنها من: «رشد» «يرشد» «1» ولغة للعرب «رشد» «يرشد» «2» وقد قرئت (يرشدون) «3» . وفي قوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ [الآية 188] جزم على العطف، ونصب إذا جعل جوابا بالواو. وقوله تعالى هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الآية 189] بجرّ وَالْحَجِّ لأنه لمّا عطف على «الناس» انجرّ باللام. وقال تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى [الآية 189] يريد به «برّ من اتّقى» . وقال تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [الآية 195] كأنه يقول: أيديكم «إلى التهلكة» . والباء زائدة «4» قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائة] : كثيرا بما يتركن في كلّ حفرة ... زفير القواضي نحبها وسعالها يقول: «كثيرا يتركن» وجعل الباء و «ما» زائدتين. وأما قوله تعالى فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [الآية 194] ، فإنّ الله لم يأمر بالعدوان، بل طلب إليهم أن: «ائتوا إليهم الذي يسمّى بالاعتداء» أي: افعلوا بهم كما فعلوا بكم، كما تقول: «إن تعاطيت

_ (1) . ومصدرها «رشد» «الصحاح» . وهي في البحر 2: 47 قراءة الجمهور، وكذلك في الإملاء 1: 82. (2) . ومصدرها «رشد» الصحاح. وهي في الكشّاف 1: 229 قراءة غير منسوبة، والإملاء 1: 83 كذلك. [.....] (3) . في البحر 2: 47 هي قراءة ولم تنسب، وكذلك في الإملاء 1: 83 وفي الكشّاف 1: 229 قراءة أخرى غير منسوبة، جاء الفعل فيها من باب «ضرب» هي «يرشدون» . (4) . نقله في إعراب القرآن 1: 98.

مني ظلما تعاطيته منك» والثاني ليس بظالم. قال عمرو بن شأس «1» [من الطويل وهو الشاهد السادس والثلاثون بعد المائة] : جزينا ذوي العدوان بالأمس مثله ... قصاصا سواء حذوك النّعل بالنّعل وأما قوله تعالى فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) فيريد: إنّ الله لهم. وكذلك قوله تعالى: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) لأنه قال فَإِنِ انْتَهَوْا وهو قد علم أنّهم لا ينتهون إلّا بعضهم، فكأنه قال: «إن انتهى بعضهم فلا عدوان إلا على الظالمين منهم» فأضمر، كما في فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ [الآية 196] أي: فعليه ما استيسر «2» كما تقول «زيدا أكرمت» وأنت تريد «أكرمته» وكما تقول «إلى من تقصد أقصد» تريد إليه. وأمّا قوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [الآية 196] فإنّك تقول: «أحصرني مرضي» «3» أي: جعلني أحصر نفسي. وتقول: «حصرت الرجل» أي: حبسته، فهو «محصور» «4» . وزعم يونس «5» عن أبي عمرو «6» أنّه يقول: «حصرته إذا منعته عن كلّ وجه» وإذا منعته من التقدّم خاصّة فقد «أحصرته» ، ويقول بعض العرب في المرض وما أشبهه من الإعياء والكلال: «أحصرته» . وقال تعالى فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ [الآية 196] أي: فعليه فدية. وقال تعالى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [الآية 196] فإنما قال عَشَرَةٌ كامِلَةٌ وقد ذكر سبعة وثلاثة، ليخبر أنّها مجزية، وليس ليخبر عن عدّتها،

_ (1) . هو عمر بن شأس الأسدي الشاعر الجاهلي، وردت ترجمته في الأغاني 10: 63 والشعر والشعراء 1: 425، وطبقات الشعراء 1: 196، والبيت ليس في ديوانه، ولم تفد المصادر والمراجع شيئا عنه. (2) . نقله في إعراب القرآن 1: 99، والبحر 2: 74. (3) . في الأصل أحصرني قولي و «أحصرني مرضي» . (4) . نقلها عنه في الصحاح «حصر» مع تقديم العبارة الثانية على الأولى، وكذلك في الجامع 2: 372 والبحر. (5) . هو يونس بن حبيب، وقد مرت ترجمته فيما سبق. (6) . هو أبو عمرو بن العلاء النحوي البصري المشهور ترجمته في أخبار النحويين البصريين 22، ومراتب النحويين 13، ونزهة الألباء 15، وطبقات اللّغويّين 35 وإنباه الرواة 4: 125، وبغية الوعاة 267.

ألا ترى أن قوله تعالى كامِلَةٌ إنّما هي «وافية» . وقد ذكروا أنّه في حرف ابن مسعود «1» «تسع وتسعون نعجة أنثى» «2» وذلك أن الكلام يؤكد بما يستغنى به عنه، كما قال تعالى فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: 30 وص: 73] . وقد يستغنى بأحدهما، ولكنّ تكرير الكلام، كأنه أوجب. ألا ترى أنك تقول: «رأيت أخويك كليهما» ولو قلت: «رأيت أخويك» ، استغنيت فتجيء ب «كليهما» توكيدا. وقال بعضهم في قول ابن مسعود «أنثى» ، إنّه إنّما أراد «مؤنّثة» ، يصفها بذلك، لأنّ ذلك قد يستحبّ من النساء. وقال تعالى ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الآية 196] ، وإذا وقفت قلت: «حاضري» لأنّ الياء إنّما ذهبت في الوصل لسكون اللام من «المسجد» ، وكذلك غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [المائدة: 1] وقوله تعالى عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) [النبأ] وفِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) [النازعات] وأشباه هذا مما ليس هو حرف إعراب. وحرف الإعراب الذي يقع عليه الرفع والنّصب والجرّ، ونحو «هو» و «هي» ، فإذا وقفت عليه، فأنت فيه بالخيار، إن شئت ألحقت الهاء، وإن شئت لم تلحق. وقد قالت العرب في نون الجميع ونون الاثنين في الوقف بالهاء فقالوا: «هما رجلانه» و «مسلمونه» و «قد قمته» إذا أرادوا: قد قمت» «3» وكذلك ما لم يكن حرف إعراب، إلّا أنّ بعضه أحسن من بعض، وهو في المفتوح أكثر. فأمّا «مررت بأحمر» و «يعمر» فلا يكون الوقف في هذا بالهاء، لأنّ هذا قد ينصرف عن هذا الوجه. وكذلك ما لم يكن حرف

_ (1) . هو عبد الله مسعود الصحابي، وقد مرت ترجمته فيما سبق. (2) . ص 38: 23 وقد أثبتت في المصحف الشريف، على هذا النحو تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً، والقراءة مذكورة في معاني القرآن 2: 403، والطّبري 23: 143، وإعراب ثلاثين سورة 44، والشواذ 130، والجامع 15: 174. (3) . هي في الخزانة 4: 492 لغة عليا تميم وسفلى قيس، مع «أنا» ضمير المتكلم، وأنكر ذلك الجندي في اللهجات 397، وعزاها إلى طيّئ، استنادا إلى شرح الشافية 2: 294، وأوردها ابن جنّي في المنصف 1: 9 على أنها سمة عامة في العربية، ولم يخصّ بها جماعة من العرب معيّنة. وقال أبو زيد في النوادر 171 إنّها لغة أهل العالية، فإذا حملنا لفظ «غير» على الخطأ في النسخ جاز لنا تصوره «نميريّا» وتصوّر اللغة تميريّة أيضا. وفي الكتاب 1: 278 بلا نسبة.

إعراب ثم كان يتغير عن حاله، فإنه لا تلحق فيه الهاء، إذا سكت عليه. وأمّا قوله تعالى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة: 29] فإذا وقفت قلت «تبوء» ، لأنّها «أن تفعل» ، فإذا وقفت على «تفعل» ، لم تحرّك. قال تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا [يونس: 87] ، إذا وقفت عليه قلت: «أن تبوّأ» لأنه «أن تفعّلا» ، وأنت تعني فعل الاثنين، فهكذا الوقف عليه. قال تعالى وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ [يونس: 93] فإذا وقفت قلت: «مبوّأ» لا تقول «مبوّءا» ، لأنه مضاف، فإذا وقفت عليه لم يكن ألفا. ولو أثبت فيه الألف، لقلت في وقف غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ: «محلّين» ، ولكنه مثل «رأيت غلامي زيد» فإذا وقفت قلت: «غلامي» . وقال تعالى فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ [الشعراء: 61] ، فإذا وقفت قلت: «تراءى» ، ولم تقل: «تراءيا» ، لأنّك قد رفعت الجمعين بذا الفعل، ولو قلت: «تراءيا» ، كنت قد جئت باسم مرفوع بذا الفعل، وهو الالف، ويكون قولك «الجمعان» ليس بكلام إلّا على وجه آخر. وقال تعالى فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ [الآية 198] ، فصرف «عرفات» لا لأنّها تلك الجماعة التي كانت تنصرف، وإنّما صرفت لأنّ الكسرة والضمة في التاء، صارت بمنزلة الياء والواو في «مسلمين» و «مسلمون» لأنه تذكيره، وصارت التنوين في نحو «عرفات» و «مسلمات» ، بمنزلة النون فلما سمّي به ترك على حاله، كما يترك «مسلمون» «1» ، إذا سمّي به على حاله حكاية. ومن العرب من لا يصرف ذا، إذا سمّي به، ويشبّه التاء بهاء التأنيث في نحو «حمدة» ، وذلك قبيح ضعيف «2» . قال الشاعر «3» [من الطويل وهو الشاهد السابع والثلاثون بعد المائة] : تنوّرتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال

_ (1) . نقلت عبارته مع تغيير طفيف في الصحاح «عرف» ، والرأي في الكتاب 2: 18. (2) . نقله عنه وعن الكوفيين في المشكل 1: 124، وزاد في اعراب القرآن 1: 101، والجامع 2: 414، والبحر 2: 83 و 84 رواية الشاهد الشعري. (3) . هو امرؤ القيس بن حجر الكندي. ديوانه 31، والكتاب 2: 18. [.....]

ومنهم من لا ينوّن «أذرعات» ولا «عانات» وهو مكان. وقال تعالى وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى [الآية 203] ، كأنّه حين ذكر هذه الرّخصة، قد أخبر عن أمر، فقال لِمَنِ اتَّقى: أي: ذلك لمن اتّقى «1» . وقال تعالى وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ [الآية 204] إذا كان هو يشهد «2» وقرأ بعضهم: (ويشهد الله) «3» أي أن الله سبحانه هو الذي يشهد. وقال تعالى وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [الآية 204] من «لددت» «تلدّ» و «هو ألدّ» و «هم قوم لدّ» و «امرأة لدّاء» و «نسوة لدّ» . قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ [الآية 207] يقول: «يبيعها» كما تقول «شريت هذا المتاع» أي: بعته و «شريته» : اشتريته أيضا، يجوز في المعنيين جميعا، كما تقول: «إنّ الجلّ لأفضل المتاع» ، وإنّ «الجلّ لأردؤه» «4» ، وعلى ذلك يجوز مع كثير مثله، وكذلك «الجلل» ، يكون العظيم، ويكون الصغير. وكذلك «السّدف» يكون الظلمة والضّوء. وقال الشاعر «5» [من الرمل وهو الشاهد الثامن والثلاثون بعد المائة] : وأرى أربد قد فارقني ... ومن الأرزاء رزء ذو جلل «6» أي: عظيم. وقال الاخر «7» [من الطويل وهو الشاهد التاسع والثلاثون بعد المائة] :

_ (1) . نقله في إعراب القرآن 1: 102 والجامع 3: 14. (2) . هي قراءة لجمهور القرّاء وعاميتهم، الطّبري 4: 233، والجامع 2: 15، والبحر 2: 114، وتأوّل بها ابن زيد والسدّي وأسباط ومجاهد والطّبري، كما سبق، وفي معاني القرآن 1: 123 بلا نسبة، والكشاف 1: 251، والإملاء 1: 89 كذلك. (3) . في الطّبري 4: 234، والجامع 3: 15 إلى ابن محيصن، وزاد في البحر أبا حياة، وفي الطّبري أنّ ابن عباس تأوّل بها، وفي معاني القرآن 1: 123 بلا نسبة، والكشاف 1: 251، والإملاء 1: 89 كذلك. (4) . الجلّ: من الاضداد فالجلّ من المتاع: القطف، الأكسية، والبسط، ونحوه والجلّ والجلّ قصب الزرع وسوقه، إذا حصد عنه السنبل، «اللسان» . (5) . هو لبيد بن ربيعة العامري. الديوان 197 والكامل 1: 63، وأضداد اللغوي 1: 147 والأضداد للسجستاني 84. (6) . والبيت في المقاييس 2: 290 بلا عزو، وهو في أضداد السجستاني ب «ومن الرزء» ردي غير جلل. (7) . هو طرفة بن العبد البكري. ديوانه 93، وفيه ب «قاس» بدل «صاد» .

ألا إنّما أبكي ليوم لقيته ... بجر ثم صاد كلّ ما بعده جلل أي: صغير. وأما قوله تعالى ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [الآية 207] فإن انتصاب (ابتغاء) على الفعل، وهو على يشري، كأنه قال «لابتغاء مرضاة الله» فلمّا نزع اللام، عمل الفعل. ومثله حَذَرَ الْمَوْتِ [الآية 243] وأشباه هذا كثير. قال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد الأربعون بعد المائة] : وأغفر عوراء الكريم ادّخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرّما لما حذف اللّام عمل فيه الفعل. وقال تعالى ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [الآية 208] و «السّلم» : الإسلام. وقوله تعالى وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [محمد: 35] ذلك: الصلح. وقال بعضهم في «الصلح» : «السّلم. وقال تعالى وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [النساء: 91] وهو الاستسلام. وقال تعالى وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) [الفرقان] أي: قالوا «براءة منكم» لأنّ «السّلام» في بعض الكلام هو: البراءة. تقول: «إنّما فلان سلام بسلام» أي: لا يخالط أحدا. قال الشاعر «2» [من الوافر وهو الشاهد الحادي والأربعون بعد المائة] : سلامك ربّنا في كلّ فجر ... بريئا ما تغنّثك «3» الذّموم يعني تأوّبك، يقول: «براءتك» . وقال تعالى إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [الذاريات: 25] وهذا فيما يزعم المفسّرون: قالوا خيرا. كأنه- والله أعلم- سمع منهم التوحيد، فقد قالوا خيرا، فلما عرف أنهم موحّدون قال: «سلام عليكم» ، فسلّم عليهم. فهذا الوجه رفع على الابتداء. وقال بعضهم: «ما كان من كلام الملائكة فهو نصب، وما كان من الإنسان فهو رفع في السلام» . وهذا ضعيف ليس بحجّة وقال تعالى:

_ (1) . هو حاتم الطائي مضرب المثل بالكرم ديوانه 82. الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 184، والنوادر 110. (2) . هو أميّة بن أبي الصّلت ديوانه 238، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 164. (3) . وجاء في الهامش: «قال أبو عبد الله» : سألت أبا العبّاس أحمد بن يحيى فقال: «تغنثك» : يلزق بك. هذا البيت عن ابن الاعرابي.

فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزخرف: 89] فهذا يجوز على معنى: «سلام عليكم» في التسليم. او يكون على البراءة إلّا أنه جعله خبر المبتدأ، كأنه قال «أمري سلام» . أي: أمري براءة منكم، وأضمر الاسم كما يضمر الخبر. وقال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد الرابع عشر] : فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النّقا ءاأنت أم أمّ سالم على: «أنت هي أم أمّ سالم» أي: أشكلت عليّ بشبه أمّ سالم بك. وكلّ هذا قد أضمر الخبر فيه. ومثل ذلك لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [الحديد: 10] فلمّا قال أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا كان فيه دليل على معنى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ «ومن أنفق من بعد الفتح» أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء. وقال تعالى وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الآية 208] لأنّ كل اسم على «فعلة» خفيف، إذا جمع حرّك ثانيه بالضمّ، نحو «ظلمات» و «غرفات» ، لأنّ مخرج الحرفين بلفظ واحد، إذا قرب أحدهما من صاحبه كان، أيسر عليهم. وقد فتحه بعضهم فقال: «الرّكبات» و «الغرفات» ، و «الظلمات» ، وأسكن بعضهم ما كان من الواو، كما يسكّن ما كان من الياء، نحو «كلّيّات» أسكن اللام، لئلا تحوّل الياء واوا، فأسكنها في «خطوات» «2» لأنّ الواو أخت الياء. وما كان على «فعلة» ، نحو «سلوة» و «شهوة» ، حرّك ثانيه في الجمع بالفتح، نحو «سلوات» و «شهوات» ، فإذا كان أوّله مكسورا، كسر ثانيه نحو «كسرة» و «كسرات» ، و «سدرة» ، و «سدرات» . وقد فتح بعضهم، ثاني هذا، كما فتح ثاني المضموم، واستثقل الضمّتين والكسرتين. وما كان من نحو هذا، ثانيه واو أو ياء، أو التقى فيه حرفان من جنس واحد، لم يحرّك، نحو: «دومة» و «دومات» ، «وعوذة»

_ (1) . هو ذو الرّمّة، وقد مر الاستشهاد بهذا الشاهد سابقا. (2) . في الصحاح «ركب» : أورد اللغات الثلاث في فتح العين وضمّها وسكونها، إلّا ما جاءت عينه ياء فلا تضمّ، وأشار إلى اللغات الثلاث في «غرف» و «ظلم» ، وذكر هذه اللغات أيضا في «خطا» ولم ينسب في أيّ من هذه المواضع.

و «عوذات» وهي: المعاذة، و «بيضة» و «بيضات» ، و «ميتة» و «ميتات» . لأنّ هذا لو حرّك، لتغيّر وصار ألفا فكان يغيّر بناء الاسم، فاستثقلوا ذلك. وقالوا: «عضة» و «عضات» فلم يحرّكوا لأنّ هذا موضع تتحرّك فيه لام الفعل، فلا يضعّف، ولولا أنّه حرك، لضعّف وأكثر ما في «الظلمات» و «الكسرات» وما أشبههما، أن يحرّك الثاني على الأوّل «1» . وقد دعاهم ذلك إلى أن قالوا «أذكر» فضمّوا الألف لضمة الكاف، وبينها حرف، فذلك أخلق. وقد قال بعضهم: «أنا أنبوك» ، «أنا أجوك» ، فضم الباء والجيم، لضمّه الهمزة ليجعلها على لفظ واحد، فهذا أشدّ من ذاك. وقال: «هذا هو منحدر من الجبل» يريد «منحدر» ، فضم الدال لضمه الراء، كما ضم الباء والجيم، في «أنبوك» و «أجوك» . وقرءوا كلمة «الملائكة» ، بالجرّ «2» والرفع «3» قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [الآية 210] لأنه قد قال ذلك في غير موضع. قال تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ [الفجر: 22] وقال إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام: 158] و «الملك» في هذا الموضع جماعة كما تقول: «أهلك النّاس الدّينار والدّرهم» و «هلك البعير والشّاء. وقوله تعالى إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ يعني أمره، لأنّ الله تبارك وتعالى، لا يزول كما تقول: «قد خشينا أن تأتينا بنو أميّة» ، وإنما تعني حكمهم. وقال تعالى وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الآية 213] أي: «وما اختلف فيه إلّا الذين أوتوه بغيا بينهم من بعد ما جاءتهم البيّنات» .

_ (1) . في شرح الرضيّ على الكافية 232 و 233 تفصيل لهذه اللغات من غير نسبة، إلّا في لغة هذيل في فتح ما عينه واو أو ياء، وجاء مثل ذلك في شرح الرضي على الشافية 104، مع إيجاز شديد أحال معه إلى شرح الكافية. وفي اللهجات العربية 428 و 429 نسبت هذه اللغة عينها إلى هذيل تارة، وتميم تارة أخرى حسب اختلاف المراجع والمصادر لديه. (2) . في معاني القرآن 1: 124 إلى بعض أهل المدينة، وفي الشواذ 13 إلى أبي جعفر المدني، وفي البحر 2: 125 إلى الحسن وأبي حياة وأبي جعفر، وفي الطّبري 4: 261 بلا نسبة. [.....] (3) . في الطّبري 4: 261 إلى أبيّ بن كعب، وفي البحر 2: 125 إلى الجمهور، وفي القرطبي 3: 25 أنّ قراءة ابن مسعود (الله والملائكة في ظلل) وهي التي انتصر بها الفرّاء في معاني القرآن 1: 124 لقراءة الرفع.

وقال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [الآية 216] وقرأ بعضهم (حملته أمّه كرها) «1» والوجه هو: كَرْهاً، بالضم، وبه نقرأ، وهما لغتان «2» مثل «الغسل» و «الغسل» و «الضّعف» و «الضّعف» إلّا أنّه قد قال بعضهم إنه إذا كان في موضع المصدر كان «كرها» كما تقول: «لا تقوم إلّا كرها» وتقول: «لا تقوم الأعلى كره» وهما سواء مثل «الرّهب» و «الرّهب» وقال بعضهم: «الرّهب» كما قالوا: «البخل» و «البخل» و «البخل» . وإنما قال تعالى: كُرْهٌ لَكُمْ أي: ذو كره وحذف «ذو» كما قال وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . وقال تعالى وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 217] . وقال جل شأنه وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الآية 217] ، على «وصدّ عن المسجد الحرام» . ثم قال: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ [الآية 217] على الابتداء. وقرأ: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ [الآية 217] فضعّف لأن أهل الحجاز، إذا كانت لام الفعل ساكنة ضعّفوا، وهي هاهنا ساكنة، أسكنها بالجزاء. وقرأ: (ومن يرتدّ منكم عن دينه فسوف) [المائدة: 54] فلم يضاعف «3» في لغة من لا يضاعف لأنّ من لا يضاعف «4» كثير. وقال: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «5» [الآية 219] إذا جعلت

_ (1) . الأحقاف 46: 15، وقراءة فتح الكاف في الكشف 2: 272، والتيسير 199 إلى غير الكوفيين وابن ذكوان، وفي الجامع 16: 193 إلى العامة وهي اختيار أبي عبيد، وفي البحر 8: 60 إلى شيبة وأبي جعفر والأعرج والحرميين وأبي عمرو، وإلى أبي رجاء ومجاهد وعيسى في رواية. (2) . الفتح لغة تميم، والضم لغة الحجاز، وقيل العكس اللهجات 191 و 192 و 193، ولهجة تميم 158 وما بعدها، وفي اللهجات العربية 81 ونسب هذا القول للكسائي في «الصحاح كره» . (3) . وقراءة التضعيف (اي الإدغام والتشديد) في السبعة 245 إلى ابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي، وفي الكشف 1: 412، والتيسير 99 إلى غير نافع وابن عامر، وفي الجامع 6: 219 إلى غير أهل المدينة والشام، وفي حجة ابن خالويه 106 بلا نسبة، أمّا قراءة الفكّ بدالين ففي السبعة 245، وفي الكشف 1: 412، وفي التيسير 99، إلى نافع وابن عامر، وفي الجامع 6: 219 إلى أهل المدينة والشام. (4) . «يضاعف» هنا، في هذا السياق، بمعنى «يفكّ التشديد» . (5) . في السبعة 182 إلى القرّاء جميعا إلّا أبا عمرو، وفي الكشف 1: 292 و 293 والتيسير 80 كذلك، وأهمل في البحر 3: 159 أبا عمرو، وزاد على أبي عمرو في الجامع 3: 61 قتادة والحسن وابن أبي إسحاق، أمّا في المشكل 68 فبلا نسبة، وكذلك في الكشّاف 1: 262، والبيان 1: 153، والإملاء 1: 93

ماذا بمنزلة (ما) . وان جعلت ماذا بمنزلة «الذي» ، قلت: (قل العفو) «1» والأولى منصوبة، وهذه مرفوعة، كأنه قال: «ما الذي ينفقون» فقال: «الذي ينفقون العفو» . وإذا نصبت فكأنه قال: «ما ينفقون» فقال: «ينفقون العفو» لأن «ما» إذا لم تجعل بمنزلة «الذي» ، ف «العفو» منصوب ب «ينفقون» . وان جعلت بمنزلة «الذي» ، فهو مرفوع بخبر الابتداء، كما قال ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) [النحل] ، جعل ماذا بمنزلة «الذي» ، وقال ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [النحل: 30] ، جعل ماذا بمنزلة «ما» . وقد يكون إذا جعلها بمنزلة «ما» ، وحدها، الرفع على المعنى. لأنّه لو قيل له: «ما صنعت» ؟ فقال: «خير» ، أي: الذي صنعت خير، لم يكن به بأس. ولو نصبت إذا جعلت «ذا» بمنزلة «الذي» ، كان أيضا جيّدا، لأنّه لو قيل لك: «ما الذي صنعت» فقلت: «خيرا» أي: صنعت خيرا. كان صوابا. قال الشاعر (من الوافر وهو الشاهد الثلاثون) : دعي ماذا علمت سأتّقيه ... ولكن بالمغيّب نبّئيني جعل «ما» و «ذا» بمنزلة «ما» وحدها، ولا يجوز أن يكون «ذا» بمنزلة «الذي» في هذا البيت لأنك لو قلت: «دعي ما الذي علمت» لم يكن كلاما. وقال أهل التأويل في قوله تعالى: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل: 24] ، لأنّ الكفّار جحدوا أن يكون ربّهم أنزل شيئا، فقالوا لهم: «ما تقولون أنتم أساطير الأوّلين» أي: «الذي تقولون أنتم أساطير الأوّلين» ، ليس على «أنزل ربّنا أساطير الأوّلين» . وهذا المعنى فيما نرى- والله أعلم- كما قال تعالى وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [الآية 220] أي: فهم إخوانكم. قال تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [الآية 222] والمحيض هو: الحيض. وإنّما أكثر الكلام في المصدر إذا بني

_ (1) . في السبعة 182 والكشف 1: 292 والتيسير 80، والبحر 2: 159 إلى أبي عمرو، وزاد في الجامع 3: 61 عليه الحسن وابن أبي إسحاق. وفي المشكل 68 والكشّاف 1: 262، والبيان 1: 153، والإملاء 1: 93 بلا نسبة.

هكذا، أن يراد به «المفعل» نحو قولك: «ما في برّك مكأل» أي: كيل. وقد قيلت الأخرى أي: قيل «مكيل» وهو مثل «محيض» من الفعل، إذا كان مصدرا للّتي في القرآن، وهي أقل. قال الشاعر «1» [من الكامل وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد المائة] : بنيت مرافقهنّ فوق مزلّة ... لا يستطيع بها القراد مقيلا يريد: «قيلولة» . ويقول: «جئت مجيئا حسنا» . فبنوه على «مفعل» وهو مصدره. وقال تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [الآية 222] لأنك تقول: «طهرت المرأة» ف «هي تطهر» . وقال بعضهم «طهرت» . وقالوا: «طلقت» «تطلق» و «طلقت» «تطلق» أيضا. ويقال للنّفساء إذا أصابها النّفاس: «نفست» فإذا أصابها الطلق (قيل) : «طلقت» . قال تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ [الآية 225] تقول: «لغوت في اليمين» ف «أنا ألغو» «لغوا» ومن قال: «هو يمحا» قال: «هو يلغا» «لغوا» و «محوا» . وقد سمعنا ذلك من العرب «2» . وتقول: «لغيت باسم فلان» ف «أنا ألغى به» أي: أذكره. وقال تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [الآية 226] ، تقول: «آلى من امرأته» ، يؤلي «إيلاء» و «ظاهر منها» «ظهارا» ، كما تقول «قاتل» «قتالا» . تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ جعل ذلك لهم أجلا فَإِنْ فاؤُ [الآية 226] يعني: «فإن رجعوا» لأنك تقول: «فئت إلى الحقّ» . وقال: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [الآية 228] ممدودة مهموزة وواحدها «القرء» خفيفة مهموزة مثل: «القرع» وتقول: «قد أقرأت المرأة» «إقراء» بالهمز، إذا صارت صاحبة حيض. وتقول: «ما قرأت حيضة قطّ» مثل: «ما قرأت قرآنا» . و: «قد قرأت حيضة أو حيضتين» بالهمز، و «ما قرأت جنينا قطّ» مثلها. أي: ما حملت. و «القرء» : انقطاع الحيض، وقال

_ (1) . هو الراعي النّميري. ديوانه 126، والكتاب وتحصيل عين الذهب 2: 247، واللسان «زلل» والمخصّص 16: 122، وهو في المخصّص 9: 55، وفيه وفي اللسان ب «مزلّة» . (2) . هي لغة أزد شنوءة. اللهجات 456.

بعضهم: «ما بين الحيضتين «1» قال الشاعر «2» [من الوافر وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد المائة] : ذراعي بكرة أدماء بكر ... هجان اللّون لم تقرأ جنينا «3» وأما قول الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد الرابع والأربعون بعد المائة] : فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمال فان «المقراة» : المسيل، وليس بمهموز. وقال تعالى فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [الآية 232] ، ينهى أزواجهنّ أن يمنعوهنّ من الأزواج. وقال تعالى حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [الآية 233] . تقول: «بيني وبينك رضاعة» و «رضاع» وتقول: «اللّؤم والرّضاعة» وهي في كل شيء مفتوحة. وبعض بني تميم يكسرها، إذا كانت في الارتضاع يقول: «الرّضاعة» «5» . وقرأ قوله تعالى لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ [الآية 233] برفع «تضارّ» على الخبر، يقول: «هكذا في الحكم أنّه تضارّ» في موضعه، صار على لفظه. ومثله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً [الآية 234] فخبر وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ، يَتَرَبَّصْنَ [الآية 234] «بعد موتهم» «6» ولم يذكر «بعد

_ (1) . نقلها في الصحاح «قرأ» واجتزأ بشيء يسير، فمنها في التهذيب «قرأ» ، والجامع 3: 113، والبحر 2: 175. (2) . هو عمرو بن كلثوم التغلبي. (3) . البيت في معلّقته، وهو في شرح القصائد السبع 79 ب «عيطل» بدل بكرة، وعجزه: تربّعت الأجارع والمتونا» ، في شرح القصائد التسع 2: 620 كذلك، وفي 2: 783 ورد ب «عيطل» ، وفي شرح المعلّقات السبع 143 ب «عيطل» ، وفي شرح القصائد العشر ب «عيطل» وتربّعت الأجارع والمتونا» . وفي مجاز القرآن 1: 2 ب «حرّة» بدل «بكرة» ، وفي شرح ديوان العجاج 23 برواية الأخفش. وفي المقاييس 5: 79، والتهذيب 2: 166، والصحاح «عطل» و «هجنى» ، وأضداد اللغوي 575، واللسان «قرأ» و «عطل» و «هجني» ، والتاج «قرأ» وكلها ب «عيطل» . وفي اللسان «بكر» ، والتاج «بكر» ، وعجزه ب «غذاها» الخفض لم تحمل جنينا» . (4) . هو امرؤ القيس بن حجر الكندي والبيت ثاني أبيات معلقته المشتهرة. ديوانه 8، وشرح القصائد العشر 5. (5) . ذكر الكسائي الكسر، وعزاه إلى بعض العرب بلا تعيين معاني القرآن 1: 149، وفي الكشّاف 1: 278، أنّه قرئ بكسر الراء. وأشار في الإملاء 1: 97 إلى القراءتين، وفي الجامع 3: 162، أنّ كسر الراء قراءة أبي حياة وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة، وقال هي لغة كالحضارة والحضارة. [.....] (6) . نقله في المشكل 1: 131، وإعراب القرآن للزجاج 1: 175، والبحر 2: 222.

موتهم» كما يحذف بعض الكلام يقول: «ينبغي لهنّ أن يتربّصن» ، فلمّا حذف «ينبغي» ، وقع «يتربّصن» موقعه. قال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد الخامس والأربعون بعد المائة] : على الحكم المأتيّ يوما إذا قضى ... قضيّته أن لا يجوز ويقصد فرفع «ويقصد على قوله: «وينبغي» «2» . ومن قرأ لا تُضَارَّ [الآية 233] جعلها على النهي، وهذا في لغة من لم يضعّف، فأمّا من ضعّف، فإنّه يقول (لا تضارر) إذا أراد النهي، لأنّ لام الفعل ساكنة، إذا قلت «لا تفاعل» وأنت تنهى. إلا أنّ «تضار» ها هنا غير مضعّفة، لأنّ ليس في الكتاب إلّا راء واحدة «3» . وقال تعالى وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ [الآية 235] ف «الخطبة» الذّكر، و «الخطبة» : التشهّد «4» . وقال تعالى: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا [الآية 235] لأنه لمّا قال فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ كأنه قال: «تذكرون» وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا [الآية 235] استثناء خارج على «ولكن» . قال تعالى فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [الآية

_ (1) . هو عبد الرحمن بن أمّ الحكم، كما في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 431، واللسان «قصد» في رواية مرجوحة. وقيل هو أبو اللّحام أو اللّجام التغلبي، كما في الخزانة 3: 613، والتاج «قصد» ، واللسان «قصد» في رواية راجحة وشرح المفصّل لابن يعيش 7: 38، والبيت ايضا في الصحاح «قصد» . (2) . نقله في الصحاح «قصد» ، مع الشاهد الشعري. (3) . قراءة الرفع براء واحدة في الطّبري 5: 47 إلى بعض أهل الحجاز وبعض أهل البصرة، وفي السبعة 183 إلى ابن كثير وأبي عمروا وأبان عن عاصم، وفي الكشف 1: 296 والتيسير 81 إلى ابن كثير وأبي عمرو، وفي الجامع 3: 167 أضاف أبان عن عاصم وجماعة، وفي البحر 2: 214 لم يذكر الجماعة بل أضاف يعقوب، وفي معاني القرآن 1: 149 و 205 وحجّة ابن خالويه 73، بلا نسبة. أمّا قراءة فتح الراء الواحدة، ففي الطّبري 5: 46 إلى عامة قراءة أهل الحجاز والكوفة والشام، وفي 5: 49 و 50 و 51 أنّ مجاهدا وقتادة والحسن والضحاك والسدّيّ وابن شهاب وسفيان وابن زيد وعطاء وعكرمة، قد تأوّلوا بها. وفي السبعة 183 إلى نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي، وأنها لأهل الشام وفي الكشف 1: 296 والتيسير 81، إلى غير ابن كثير وأبي عمرو. وفي الجامع 3: 167 إلى نافع وعاصم وحمزة والكسائي، وفي البحر 2: 215 إلى غير من قرأ بغيرها من السبعة. وفي الجامع 3: 167 أنّ عمر بن خطاب قرأ براءين مفتوحة أولاهما، وأنّ أبا جعفر بن القعقاع قرأ براء واحدة ساكنة، وأنّ ابن عبّاس والحسن وأبان في رواية عن عاصم، قرءوا براءين مكسورة أولاهما. (4) . في الأصل: الشهد.

237] أي: فعليكم نصف ما فرضتم إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ [الآية 237] وإن شئت نصبت (نصف ما فرضتم) على الأمر «1» . قال تعالى وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [الآية 237] «2» . وقرأ بعضهم (ولا تناسوا) «3» ، وكلّ صواب. وقرأ بعضهم (ولا تنسوا الفضل) «4» فكسر الواو لاجتماع الساكنين كما قرأ بعضهم: (اشتروا الضّلالة) «5» . قال تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [الآية 239] يقول: «صلّوا رجالا أو صلّوا ركبانا» . وقال تعالى ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ [الآية 232] وذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ [الآية 232] لأنّه خاطب رجالا، وقال في موضع آخر قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف: 32] لأنّه خاطب نساء، ولو ترك «ذلك» كما هي، ولم يلحق بها أسماء الذين خاطب كان كان جائزا. وقال: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [الأحزاب: 30] ولم يقل «ذلكنّ» وقال: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) [التوبة] . وقال: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ [المجادلة: 12] . وليس بأبعد من قوله حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] فخاطب، ثمّ حدّث عن غائب، لأنّ الغائب هو الشاهد، في ذا المكان. وقال هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً [المائدة: 60] . وقال تعالى:

_ (1) . في الجامع 3: 204 أنّ ضم الفاء قراءة الجمهور والامام علي بن أبي طالب، وفتح الفاء قراءة فرقة لم يعيّنها. (2) . في الجامع أنّ ضمّ الواو قراءة الجمهور 2: 208، وأشار إليها الخليل في الكتاب 2: 276. (3) . في الشواذ 5 إلى الامام علي بن أبي طالب مع كسر الواو، وفي المحتسب 127 إلى الإمام علي بن أبي طالب وأبي رجاء وجؤية بن عائذ، وفي الجامع 3: 208 إلى الإمام علي بن أبي طالب ومجاهد وأبي حياة وابن أبي عبلة، وكذلك في البحر 2: 238. (4) . في الجامع 3: 208، والبحر 2: 238 إلى يحيى بن يعمر، وأشار إليها الخليل في الكتاب 2: 276. (5) . البقرة 2: 19، وهي في الشواذ إلى يحيى بن يعمر، وزاد في المحتسب 54 ابن أبي إسحاق وأبا السمال، وفي الجامع 1: 210 أسقط أبا السمال، وفي الكشف 1: 275، والمشكل 1: 20، والبحر 1: 71 بلا نسبة.

وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا [الآية 241] أي: أحقّ ذلك حقّا «1» . وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ [الآية 245] بالنّصب، على إضمار «أن» بعد الفاء في فَيُضاعِفَهُ. وليس قوله تعالى يُقْرِضُ اللَّهَ لحاجة بالله ولكن هذا كقول العرب: «لك عندي قرض صدق» و «قرض سوء» لأمر تأتي، فيه مسرّته أو مساءته «2» . وقال الشاعر «3» [من البسيط وهو الشاهد السادس والأربعون بعد المائة] : لا تخلطنّ خبيثات بطيّبة ... اخلع ثيابك منها وانج عريانا «4» كلّ امرئ سوف يجزى قرضه حسنا ... أو سيّئا أو مدينا مثل ما دانا «5» ف «القرض» : ما سلف من صالح أو من سيّئ. قال تعالى: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 246] ف «أن» هاهنا «6» [في ألّا] زائدة، كما زيدت بعد «فلمّا» ، و «لما» ، و «لو» ، فهي تزاد في هذا المعنى كثيرا. ومعناه «ومالنا لا نقاتل» ، فأعمل «أن» وهي زائدة، كما قال: «ما أتاني من أحد» فأعمل «من» وهي زائدة، قال الفرزدق «7» [من البسيط وهو الشاهد السابع والأربعون بعد المائة] : لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها ... إليّ لامت ذوو أحسابها عمرا «8» المعنى: لو لم تكن غطفان لها ذنوب. و «لا» زائدة، وأعملها. وقال تعالى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [الآية 248] . و «السّكينة» هي:

_ (1) . نقلها في اعراب القرآن 1: 121. (2) . نقلها عنه في البحر 2: 248 و 253. (3) . هو أميّة بن أبي الصّلت. ديوانه 258، تحقيق الحديث والتهذيب 8: 340، واللسان «قرض» . (4) . وفيه «وهدينا كالذي دانا» . [.....] (5) . في التهذيب «ومدينا» ، وكذلك في الصحاح «قرض» ، وفي اللسان «قرض» أو «مدينا» . (6) . نقله في المشكل 1: 134، وإعراب القرآن 1: 122، والجامع 3: 244، واعراب القرآن للزجّاج 10: 110 و 3: 859، والبيان 1: 165. (7) . هو همّام بن غالب، مرّت ترجمته فيما سبق. (8) . ديوان الفرزدق 1: 230، وفيه «لام» بلا تاء. والبيت في الخصائص 2: 36.

الوقار. وأما الحديد فهو «السّكّين، مشدد الكاف. وقال بعضهم: «هي السّكّين» ، مثلها في التشدّيد، إلا أنّها مؤنثة فأنث «1» . والتأنيث ليس بالمعروف، وبنو قشير يقولون: «سخّين» للسكين «2» . وقال تعالى وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً [يوسف: 31] . وقال تعالى وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الآية 251] «3» . بنصب النَّاسِ على إيقاع الفعل بهم، ثمّ الإبدال منهم بَعْضُهُمْ للتفسير. وقال تعالى مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [الآية 253] أي كلّمه الله، فلفظ الجلالة في ذا الموضع، رفع. وقال وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [الآية 253] أي رفع الله بعضهم درجات. وقال لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الآية 255] تقول «وسن» «يوسن» «سنة» و «سنا» . وقال وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما [الآية 255] لأنه من «آده» «يؤوده» «أودا» وتفسيره: لا يثقله. وقال قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [الآية 256] وإن شئت (الرّشد من الغيّ) «4» مضمومة ومفتوحة. وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [الآية 257] ، «فالطّاغوت» جماعة في المعنى، وهو في اللفظ واحد، وقد جمع، فقالوا «الطّواغيت» . وأمّا قوله تعالى:

_ (1) . لم تحدّد كتب التأنيث والتذكير، ولا كتب اللهجات معاد التذكير والتأنيث هذا. (2) . في اللسان «سخن» : الساخين: المساحي، واحدهما سخّين بلغة عبد القيس وهي مسحاة منعطفة. ويقال للسكّين: السخينة. والسخاخين: سكاكين الجزّار. (3) . في الأصل «دفاع» ، وهي قراءة منسوبة في السبعة 187 إلى نافع وإلى عاصم في رواية واقتصر في الكشف 1: 304، والتيسير 82، والبيان 1: 167، والإملاء 1: 105، والجامع 3: 256، على نافع، أمّا قراءة «دفع» ففي السبعة 187 إلى ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي، أمّا في الكشف والتيسير والجامع «كما سبق» فقد نسبتها إلى غير نافع. وأمّا في حجة ابن خالويه 75، والبيان 1: 167، والإملاء 1: 105، فقد ذكرت القراءتان بلا نسبة. (4) . أشار في الإملاء 1: 107 إلى القراءتين ولم ينسب، وفي الجامع 3: 279 أنّها قراءة أبي عبد الرحمن والحسن والشّعبي.

يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الآية 257] فبمعنى: «يحكم بأنّهم كذاك» ، كما تقول: «قد أخرجك الله من ذا الأمر» ، ولم تكن فيه قطّ. وتقول: «أخرجني فلان من الكتبة» ، ولم تكن فيها قطّ. أي: لم يجعلني من أهلها ولا فيها. وقال أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [الآية 259] الكاف زائدة والمعنى- والله أعلم- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [الآية 258] «أو الذي مرّ على قرية» والكاف زائدة. وفي كتاب الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] يقول: «ليس كهو» لأنّ الله سبحانه ليس له مثيل. قال تعالى لَمْ يَتَسَنَّهْ [الآية 259] فتثبت الهاء للسكوت، وإذا وصلت حذفتها «1» مثل «اخشه» . وأثبتها بعضهم في الوصل، فقال لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ «2» فجعل الهاء من الأصل وذلك في المعنى: لم تمرر عليه السنون ف «السّنة» منهم من يجعلها من الواو، فيقول: «سنيّة» ومنهم من يجعلها من الهاء، فيقول: «سنيهة» يجعل الذي ذهب منها هاء، كأنّه أبدلها من الواو كما قالوا: «أسنتوا» : إذا أصابتهم السّنون. أبدل التاء. ويقولون: «بعته مساناة» و «مسانهة» . ويكون: لَمْ يَتَسَنَّهْ أن تكون هذه الهاء للسكون. ويحمل قول الذين وصلوا بالهاء، على الوقف الخفيّ، وبالهاء نقرأ في الوصل. وقال تعالى: قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) إذا عنى نفسه. قرأ بعضهم (قال اعلم) بجزم على

_ (1) . هي في الطّبري 5: 460 إلى عامّة قراء الكوفة، وفي السّبعة 189 أنّ إبقاءها في السكون للجميع، وأنّ حذفها في الوصل إلى حمزة والكسائي وفي التيسير 82 والجامع 3: 292 والبحر 2: 292 إلى الأخوين حمزة والكسائي وفي الكشف 1: 307 اقتصر على حمزة وفي معاني القرآن 1: 172، وحجّة ابن خالويه 76، والمشكل 78، بلا نسبة، وأورد السجستاني في المصاحف 49، إلى أنها كانت تكتب بتضعيف النون، وأنّ الحجّاج هو الذي أدخل عليها الهاء. (2) . في الطّبري 5: 461- 466 أنّها قراءة عامة قراء أهل المدينة والحجاز، وأيّدها بنقل عن عثمان وأبيّ وزيد بن ثابت، وأنّه تأوّل بها وهب بن منبّه وقتادة والسّدّي والضّحّاك وابن عباس وابن زيد وبكر بن مضر ومجاهد والربيع، ونسبها في السبعة 189 إلى ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو وابن عامر، وفي الكشف 1: 307 إلى غير حمزة، وفي التيسير 82 إلى غير حمزة والكسائي، وفي الجامع 3: 292 إلى الجمهور، وفي المشكل 76، ومعاني القرآن 1: 172 و 173، وحجّة ابن خالويه 76، فبلا نسبة.

الأمر، كما يقول: «اعلم أنّه قد كان كذا وكذا» كأنه يقول ذاك لغيره، وإنّما ينبّه نفسه والجزم أجود في المعنى، إلا أنه أقل في القراءة «1» والرّفع قراءة العامة، وبه نقرأ «2» . وأمّا قوله تعالى: على لسان النبي إبراهيم (ع) رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الآية 260] فلم يكن ذلك شكّا من إبراهيم (ع) ولم يرد به رؤية القلب، وإنما أراد به رؤية العين «3» . وقول الله عز وجل له أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [الآية 260] كأنّه يقول: «ألست قد صدقت» أي: أنت كذلك. قال الشاعر «4» [من الوافر وهو الشاهد الثالث والثلاثون] : ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح وقوله تعالى، على لسان إبراهيم (ع) : لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الآية 260] أي: قلبي ينازعني إلى النظر، فإذا نظرت اطمأنّ قلبي. قال تعالى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [الآية 260] أي: قطّعهنّ وتقول منها: «صار» «يصور» «5» . وقال

_ (1) . هو في معاني القرآن 1: 173 و 174 قراءة ابن عباس وأبي عبد الله، وفي الطّبري 5: 481 و 482 و 483 إلى عامة قراء أهل الكوفة، وأيّدها بقراءة عبد الله وابن عباس، ورجّحها وفي السبعة 189 والتيسير 82 والجامع 3: 296، إلى حمزة والكسائي وزاد في الكشف 1: 312 ابن عباس وأبا رجاء وأبا عبد الرحمن وفي البحر 2: 296 زاد على حمزة والكسائي، أبا رجاء وعبد الله والأعمش. (2) . في معاني القرآن 1: 174 إلى العامّة، وفي الطّبري 5: 482 و 483 إلى عامّة قراء أهل المدينة، وبعض قراء أهل العراق، وتأوّل بها وهب بن منبّه وقتادة والسديّ والضّحّاك وابن زيد وفي السبعة 189 إلى ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو وابن عامر، وفي الشّواذ 16 إلى ابن مسعود وفي الكشف 1: 312 و 313 إلى الحسن والأعرج وأبي جعفر وشيبة وابن أبي إسحاق وعيسى وابن محيصن، وعليها الحرميّان وعاصم وابن عامر وأبو عمرو، وفي التيسير 82 إلى غير حمزة والكسائي وفي الجامع 3: 296 إلى الأكثر من القرّاء، وتأوّل بها قتادة ومكّي وفي البحر 2: 296 إلى الجمهور. (3) . نقلها عنه في الجامع 3: 298. (4) . هو جرير بن عطية بن الخطفي. وقد مرت ترجمته قبل، والبيت في ديوانه 1: 89 من شواهد الشعر المعروفة. [.....] (5) . وهي في معاني القرآن 1: 174 إلى العامة، وفي الطّبري 5: 504 إلى عامة قراء أهل المدينة والحجاز والبصرة، وفي السبعة 190 والتيسير 82 إلى غير حمزة، وأضاف في الكشف 1: 313 إلى علي بن أبي طالب والحسن وأبي عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد، وفي البحر 2: 300 إلى غير من أخذ بالأخرى من السبعة، وفي الجامع 3: 301، وحجّة ابن خالويه 77 بلا نسبة.

بعضهم فَصُرْهُنَّ «1» فجعلها من «صار» «يصير» وقال إِلَيْكَ لأنّه يريد: «خذ أربعة إليك فصرهنّ» . وقوله تعالى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [الآية 265] «2» وبعضهم قرأ (بربوة) «3» ، (وبرباوة) «4» . و (برباوة) «5» ، كلّ من لغات العرب «6» وهو كلّه من الرابية وفعله «ربا» «يربو» «7» . قال تعالى كَمَثَلِ صَفْوانٍ [الآية 264] والواحدة «صفوانة» . ومنهم من يجعل «الصّفوان» واحدا «8» فيجعله: الحجر. ومن جعله جميعا جعله: الحجارة مثل: «التمرة» و «التمر» . وقد قالوا «الكذّان» : و «الكذّانة» وهو شبه الحجر من الطّين. قال تعالى فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ [الآية 265] وقال مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ [الأنعام: 141] و «الأكل» : هو: ما يؤكل. و «الأكل» هو الفعل الذي يكون منك. تقول: «أكلت أكلا» و «أكلت أكلة واحدة» وإذا عنيت الطعام قلت: «أكلة واحدة» . قال [من الطويل وهو الشاهد الثامن والأربعون بعد المائة] :

_ (1) . في معاني القرآن 1: 174 إلى اصحاب عبد الله استنادا إلى لغة هذيل وسليم، وفي الطّبري 5: 495 إلى جماعة من أهل الكوفة وهي لغة هذيل وسليم، وفي السبعة 190 والتيسير 82 إلى حمزة، وفي الكشف 1: 313 إلى حمزة وابن عباس وشيبة وعلقمة وابن جبير وأبي جعفر وقتادة وابن وثاب وطلحة والأعمش، واختلف عن ابن عباس وفي البحر 2: 300 إلى حمزة ويزيد وخلف ورويس وفي حجّة ابن خالويه 77، والجامع 3: 301، بلا نسبة. (2) . فكلمة «ربوة» في المصحف، بفتح الراء وضمّها في الطّبري 5: 536 إلى عامة قراء أهل المدينة والحجاز والعراق، وفي السبعة والكشف 1: 313 والتيسير 83 والبحر 2: 312 إلى غير ابن عامر وعاصم وفي الجامع 3: 316 إلى ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع وأبي عمرو وفي الحجّة 78، والإملاء 1: 113 بلا نسبة. (3) . في الطّبري 5: 536، والبحر 2: 312، إلى ابن عباس وزاد في الجامع 2: 316 أبا إسحاق السبيعي وفي الإملاء 1: 113، بلا نسبة. (4) . في الجامع 3: 316، والبحر 2: 312، إلى الأشهب العقيلي. (5) . في الجامع 3: 316، والبحر 2: 312، إلى أبي جعفر وابن عبد الرحمن. وأورد في الإملاء 1: 113، القراءة بالألف بلا تعيين حركة الراء، وبلا نسبة. (6) . في اللسان «ربا» أنّ فتح الراء في «ربوة» لغة تميم، وأنّ ضم الراء، وهو الاختيار، لأنّها أكثر اللغات. (7) . في الأصل: يربوا بألف بعد الواو. وقد أفاده في إعراب القرآن 1: 130. (8) . وقد نقل رأي الأخفش في المشكل 1: 140، وإعراب القرآن 1: 129، والجامع 3: 313.

ما أكلة أكلتها بغنيمة ... ولا جوعة أن جعتها بغرام ففتح الألف لأنه يعني الفعل. ويدلّك عليه «ولا جوعة» ، وإن شئت ضممت «الأكلة» ، وعنيت به الطعام. وقال تعالى لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ [الآية 266] وقال في موضع آخر ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النساء: 9] وكل سواء لأنّك تقول: «ظريف» و «ظراف» و «ظرفاء» ، هكذا جمع «فعيل» . وقال تعالى فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ [الآية 265] «1» . وتقول في «الوابل» وهو: المطر الشّديد: «وبلت السّماء» «2» و «أوبلت» مثل «مطرت» و «أمطرت» ، و «طلّت» و «أطلّت» من «الطلّ» ، و «غاثت» و «أغاثت» من «الغيث» . وقوله تعالى: أَخْذاً وَبِيلًا (111) [المزّمّل] من ذا، يعني: شديدا «3» . وقال تعالى الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [الآية 268] وقرأ بعضهم (الفقر) «4» مثل «الضّعف» و «الضّعف» وجعل «يعد» متعدّيا إلى مفعولين. قال تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [الآية 270] تحمل الكلام على الاخر، كما في قوله تعالى وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً [النساء: 112] وإن شئت جعلت تذكير هذا على «الكسب» في المعنى كما في قوله تعالى إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الآية 271] كأنّه يقول: «فالإيتاء خير والإخفاء» . وأمّا قوله تعالى وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [الآية 231] فهذا على ما. وأما قوله تعالى أَوْ نَذَرْتُمْ [الآية 270] فتقول: «نذر» ينذر على نفسه» «نذرا» و «نذرت مالي» ف «أنا

_ (1) . نقلها في الجامع 3: 313. (2) . زيادة يقتضيها السياق، لتسويغ كلامه الآتي على الوابل، والفعل منه، والفعل من الطلّ. (3) . نقلها في الجامع 3: 313. (4) . في الشواذ 17 إلى عيسى بن عمر وذكرها في البحر 2: 319، والجامع 3: 328 بلا نسبة، وكذلك في الكشّاف 1: 315.

أنذره» «نذرا» أخبرنا بذلك يونس «1» عن العرب «2» وفي كتاب الله عز وجل إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً [آل عمران: 35] . قال الشاعر «3» [من مجزوء الكامل وهو الشاهد التاسع والأربعون بعد المائة] : هم ينذرون دمي وأ ... نذر أن لقيت بأن أشدّا وقال عنترة «4» [من الكامل وهو الشاهد الخمسون بعد المائة] : الشّاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والنّاذرين إذا لم ألقهما دمي قال تعالى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [الآية 274] بجعل الخبر بالفاء لأنّ «الذي» في معنى «من» . و «من» يكون جوابها بالفاء في المجازاة لأنّ معناها «من ينفق ماله فله كذا» . وقال تعالى الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) [محمد] وقال وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) [محمد] وهذا في القرآن والكلام كثير ومثله «الذي يأتينا فله درهم» . قال تعالى فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ [الآية 279] تقول «قد أذنت منك بحرب» و «هو يأذن» . وقال تعالى لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) «5» . وقرأ بعضهم (لا تظلمون ولا تظلمون) «6» كلّه سواء في المعنى. وقال: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [الآية 280] فكأنّه يقول:

_ (1) . هو يونس بن حبيب النحوي. وقد مرّت ترجمته فيما سبق. [.....] (2) . في الصحاح «نذر» ، نقل العبارة مع بعض التغيير وفي اللسان «نذر» كذلك، واستشهد بالآية التالية أيضا. (3) . هو عمرو بن معدي كرب الزبيدي. وهو في ديوانه 69. (4) . هو عنترة بن شدّاد العبسي. ديوانه 222، ومعاني القرآن 1: 387 و 3: 240، والبيت يعدّ من معلّقته، وهو في شرح القصائد التسع 2: 535، وشرح القصائد السبع 364. (5) . هي في الجامع 3: 370، والبحر 2: 339، إلى جميع القرّاء وفي السبعة 192 استثنى عاصما وفي حجة ابن خالويه 80 بلا نسبة وفي الإملاء 1: 117، والكشّاف 1: 322، بلا نسبة. (6) . في الجامع 3: 370 إلى عاصم برواية المفضّل، وفي البحر 3: 339 إلى أبان والمفضّل عن عاصم، واقتصر في السبعة 192 على عاصم وفي حجة ابن خالويه 80 بلا نسبة، وفي الكشّاف 1: 322 إلى المفضّل عن عاصم، وفي الإملاء 1: 117 بلا نسبة.

«وان كان ممّن تقاضون ذو عسرة فعليكم ان تنظروا الى الميسرة» وقال بعضهم (فنظرة) «1» وإن شئت لم تجعل ل «كان» خبرا مضمرا وجعلت «كان» بمنزلة: «وقع» وقال بعضهم (ميسره) «2» وليست بجائزة لأنّه ليس في الكلام «مفعل» «3» . ولو قرءوها (موسره) لجاز، لأنّه من «أيسر» مثل: «أدخل» ، ف «هو مدخل» «4» . وقرأ بعضهم (فناظره «5» الى ميسرة) فجعلها «فاعل» من «ناظر» ، وجزمها للأمر. وقال تعالى وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [الآية 280] فكأنّه يقول: «الصّدقة خير لكم» . ف وَأَنْ تَصَدَّقُوا اسم مبتدأ خَيْرٌ لَكُمْ خبر المبتدأ. وقال تعالى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ [الآية 282] أي: إن لم يكن الشهيدان رجلين، ثم قال فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ فالذي يستشهد رجل وامرأتان. وقال تعالى وَلا تَسْئَمُوا [الآية 282] من «سئمت» «تسأم» «سامة» و «سأمة» و «ساما» و «سأما» «6» . وقال تعالى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ [الآية 282] بالجزم لأنّه نهي، وإذا وقفت قلت «يأب» فتقف بغير ياء. وقال تعالى وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [الآية 282] على النّهي، والرّفع

_ (1) . في الجامع 3: 373 إلى مجاهد وأبي رجاء والحسن، وزاد في المحتسب 143 أنّ الخلاف في النسبة إلى الحسن، وزاد في البحر 2: 340 الضّحّاك وقتادة، وقال إنها لغة تميمية، وفي التيسير 85 إلى غير نافع. (2) . في المحتسب 143 إلى عطاء بن يسار في رواية. وفي البحر 2: 340 إلى مجاهد وعطاء. وزاد في الجامع 3: 374 إثبات الياء في الدرج بعد الهاء، وفي المشكل 1: 81 والكشاف 1: 323 والإملاء 1: 117 بلا نسبة. (3) . نقله في الصحاح «يسر» . (4) . نقلها في إعراب القرآن مع إبدال بهاء الضمير هاء تأنيث في «موسرة» ، وإلحاقها «مدخل» 1: 135. (5) . في الشواذ 17 إلى عطاء بن رباح، وفي المحتسب 143 إحدى قراءتين إلى عطاء بن أبي رباح، وكذلك في البحر 2: 340 وفي الجامع 3: 374 إلى مجاهد وعطاء. أمّا «ناظره» بهاء التأنيث، ففي الجامع 3: 374 بلا نسبة. (6) . نقلها عنه في إعراب القرآن 1: 137 والجامع 3: 400 باختلاف في ترتيب المفردات، وزاد في الجامع قوله: كما قال الشاعر: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم. وفي الصحاح «سأم» نسب سرد هذه المصادر إلى أبي زيد. وفيها جميعا بفتح الهمزة في «سأم» .

على الخبر «1» . وهو مثل لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها [الآية 233] إلّا أنّه لم يقرأ (لا تضارّ) رفعا «2» . وقال تعالى فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ [الآية 283] تقول: «رهن» . و «رهان» مثل: «حبل» و «حبال» «3» . وقال أبو عمرو «4» «فرهن» «5» وهي قبيحة لأنّ «فعلا» لا يجمع على «فعل» إلّا قليلا شاذا «6» ، رغم أنّهم يقولون: «سقف» وسقف «7» وقرءوا هذه الآية (سقفا من فضّة) «8» وقالوا: «قلب» و «قلب» و «قلب» من «قلب النّخلة» و «لحد» و «لحد» ل «لحد القبر» ، وهذا شاذّ لا يكاد يعرف. وقد جمعوا «فعلا» على «فعل» ، فقالوا: «ثطّ» و «ثطّ» ، و «جون» ، و «جون» و «ورد» و «ورد» . وقد يكون «رهن» جماعة» ل «الرّهان» كأنّه جمع الجماعة «9» و «رهان» أمثل «10» من هذا الاضطرار. وقد قالوا: «سهم خشن» في «سهام خشن» خفيفة. وقال أبو

_ (1) . قراءة الرفع في المحتسب 149 والبحر 2: 354 إلى ابن محيصن، وفي حجّة ابن خالويه 73 بلا نسبة. (2) . سبق للأخفش أن أورد في كلامه على هذه الآية قراءة الرفع ووجهها، وتمّ تخريجها. (3) . هي قراءة منسوبة في الطّبري 6: 96 إلى عامة قرّاء الحجاز والعراق، وفي البحر 2: 355 إلى الجمهور، وفي الكشف 1: 322 والتيسير 85 إلى غير ابن كثير وأبي عمرو، وفي المشكل 1: 83 وحجّة ابن خالويه 80، بلا نسبة. [.....] (4) . هو أبو عمرو بن العلاء. وقد مرت ترجمته فيما سبق. (5) . في معاني القرآن 1: 188 إلى مجاهد، وفي السبعة 194 إلى ابن كثير وأبي عمرو، وأنّهما في رواية أخرى أسكنا الهاء وفي الشواذ 18 إلى أبي عمرو وشهر بن حوشب وجماعة وقصرها في حجّة ابن خالويه 80 على أبي عمرو وفي الكشف 1: 322 والتيسير 85 والبحر 2: 355 إلى أبي عمرو وابن كثير وفي الجامع 3: 408 زاد عاصما وابن أبي النّجود وأهل مكّة وفي المشكل 83 بلا نسبة، وكذلك في الكشّاف 12: 328 والبيان 1: 184 والإملاء 1: 121. (6) . نقلها في الصحاح «رهن» والمحكم «صقر» . (7) . نقلها في الصحاح «رهن» . (8) . الزخرف 43: 33، وقد نقله في الصحاح: «سقف» وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو، كما في الجامع 16: 84 والسبعة 585 والتيسير 196 والكشف 2: 258 وذكرت من غير عزو، في البيان 2: 353 وحجّة ابن خالويه 294. والقراءة التي عليها رسم المصحف الشريف هي: سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ. (9) . نقله في الصحاح «رهن» والمحكم «صقر» والجامع 3: 408. (10) . أفاد ما جاء عن «ورد» و «جون» في الصحاح، ولم ينسبه.

عمرو «1» : «قالت العرب: «رهن» ليفصلوا بينه وبين رهان الخيل قال الأخفش «2» : «كلّ جماعة على «فعل» فإنّه يقال فيها «فعل» . وقال تعالى فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ [الآية 283] «يؤدّ» من «أدّى» «يؤدّي» فلذلك كان الهمز و «اؤتمن» بالهمز لأنها من «الأمانة» ، وموضع الفاء منها همزة، إلّا أنك إذا استأنفت، ثبتت ألف الوصل فيها، فلم تهمز موضع الفاء، لئلّا تجتمع همزتان. وقال تعالى غُفْرانَكَ رَبَّنا [الآية 285] فغفران بدل من اللفظ بالفعل، كأنه قال: «اغفر لنا غفرانك ربّنا» ومثله «سبحانك» إنّما هو «تسبيحك» أي «نسبّحك تسبيحك» وهو البراءة والتنزيه. وفي قوله تعالى إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ [الآية 282] فقوله بِدَيْنٍ تأكيد، نحو قوله تعالى فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) [الحجر وص: 73] لأنّك تقول «تداينّا» ، فيدلّ على قولك «بدين» ، قال الشاعر «3» [من الرجز وهو الشاهد الحادي والخمسون بعد المائة] : داينت أروى والدّيون تقضى ... [فمطلت بعضا وأدّت بعضا] «4» تقول: «داينتها وداينتني فقد تداينّا» كما تقول: «قابلتها وقابلتني فقد تقابلنا» . وقال تعالى أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ [الآية 282] بإضمار «الشاهد» ثمّ قال إِلى أَجَلِهِ أي إلى الأجل الذي تجوز فيه شهادته، والله أعلم.

_ (1) . هو أبو عمرو بن العلاء، وقد سبقت ترجمته. (2) . هو المؤلّف أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش. (3) . هو رؤبة بن العجّاج الراجز المعروف، انظر ديوانه في مجموع أشعار العرب ص 79، والكشّاف 1: 324. (4) . والمصراع الثاني من مراجع الشاعر، ومن الكتاب 2: 300، والبيان 2: 481، والخصائص 2: 96 و 97.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"البقرة"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «البقرة» «1» لم قال تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ [الآية 2] على سبيل الاستغراق، وكم ضال قد ارتاب فيه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [الآية 23] . قلنا: المراد أنّه ليس محلّا للرّيب، أو معناه: لا ريب فيه عند الله ورسوله والمؤمنين، أو هو نفي معناه النّهي: أي لا ترتابوا في أنه من عند الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها [الحج: 7] . فإن قيل: لم قال تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) والمتّقون مهتدون فكأنّ فيه تحصيلا لحاصل؟ قلنا: إنّما صاروا متّقين بما استفادوا من الهدى، أو أراد أنه ثبات لهم على الهدى وزيادة فيه، أو خصّهم بالذكر لأنّهم هم الفائزون بمنافعه حيث قبلوه واتّبعوه، كقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) [النازعات] أو أراد الفريقين من يتّقي ومن لم يتّق، واقتصر على أحدهما، كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] . فإن قيل: المخادعة إنّما تتصوّر في حق من تخفى عليه الأمور ليتحقّق الخداع في حقّه يقال: خدعه إذا أراد به المكروه من حيث لا يعلم، والله تعالى لا يخفى عليه شيء فلم قال سبحانه يُخادِعُونَ اللَّهَ [الآية 9] ؟ قلنا معناه يخادعون رسول الله، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] وقوله تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، المؤلف: محمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] أو سمّى نفاقهم خداعا، لشبهه بفعل المخادع. فإن قيل: لم حصر الفساد في المنافقين، بقوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [الآية 12] ومعلوم أنّ غيرهم مفسد؟ قلنا: المراد بالفساد، الفساد بالنفاق وهم كانوا مختصّين به: فإن قيل: لم قال الله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الآية 15] والاستهزاء من باب العبث والسخرية وهو قبيح، والله تعالى منزه عن القبيح؟ قلنا: سمي جزاء الاستهزاء استهزاء، مشاكلة، كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] فالمعنى الله يجازيهم جزاء استهزائهم. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الآية 19] ومعلوم أنّ الصّيب لا يكون إلّا من السماء؟ قلنا: الحكمة فيه، أنّ السّياق ذكر السماء معرفة، وأضافه إليها ليدلّ على أنّه من جميع آفاقها لا من أفق واحد، إذ كل أفق يسمّى سماء قال الشاعر: ومن بعد أرض بيننا وسماء فإن قيل: لم قال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) مع أنّ المشركين لم يكونوا عالمين، أنّه لا ندّ له سبحانه ولا شريك له، بل كانوا يعتقدون أنّ له أندادا وشركاء؟. قلنا: معناه: وأنتم تعلمون، أنّ الأنداد لا يقدرون على شيء ممّا سبق ذكره في الآية. أو وأنتم تعلمون أنّه ليس في التوراة والإنجيل جواز اتخاذ الأنداد. فإن قيل: لم قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ [الآية 24] فعرّف النار هنا، ونكّرها في سورة التحريم؟ قلنا: لأنّ الخطاب في هذه مع المنافقين، وهم في أسفل النار المحيطة بهم، فعرّفت بلام الاستغراق أو العهد الذهني وفي تلك مع المؤمنين والذي يعذّب من عصاتهم بالنار يكون في جزء من أعلاها، فناسب تنكيرها لتقليلها. وقيل: لأنّ تلك الآية نزلت بمكّة قبل هذه الآية فلم تكن النار التي وقودها النّاس والحجارة معروفة فنكّرها ثم نزلت هذه الآية بالمدينة، فعرفت إشارة بها إلى ما عرفوه أولا.

فإن قيل: إنّ «تلبسوا» و «تكتموا» في قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [الآية 42] ، ليسا فعلين متغايرين فينهوا عن الجمع بينهما، بل أحدهما داخل في الاخر؟ قلنا: هما فعلان متغايران، لأنّ المراد بتلبيسهم الحق بالباطل، كتابتهم في التوراة ما ليس منها، وبكتمانهم الحقّ بقولهم لا نجد في التوراة صفة محمد (ص) . فإن قيل: قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) ما فائدة الثاني، والأوّل يدل عليه ويقتضيه؟ قلنا: قوله تعالى: مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي ملاقو ثواب ربّهم، ما وعدهم على الصبر والصلاة، وقوله تعالى: وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ أي موقنون بالبعث، فصار المعنى أنّهم موقنون بالبعث، وبحصول الثواب الموعود، فلا تكرار فيه. فإن قيل: لم قال تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [الآية 59] ، وهم لم يبدّلوا غير الذي قيل لهم، لأنّهم قيل لهم قولوا حطّة فقالوا حنطة؟ قلنا: معناه فبدّل الذين ظلموا قولا قيل لهم، وقالوا قولا غير الذي قيل لهم؟ فإن قيل: قوله سبحانه: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (63) . العثو: الفساد، فيصير المعنى ولا تفسدوا في الأرض مفسدين؟ قلنا: معناه ولا تعثوا في الأرض بالكفر، وأنتم مفسدون بسائر المعاصي. فإن قيل: لم قال تعالى: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [الآية 61] وطعامهم كان المنّ والسلوى وهما طعامان؟ قلنا: المراد أنّه دائم غير متبدّل، وإن كان نوعين. فإن قيل: لم قال جلّ جلاله: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الآية 61] وقتل النبيين لا يكون إلّا بغير الحق؟ قلنا: معناه بغير الحقّ في اعتقادهم، ولأنّ التصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمّهم وإن كانت تلك الصفة لازمة للفعل، كما في عكسه، كقوله تعالى. قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الأنبياء: 112] . فإن قيل: لم قال تعالى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) وانتقالهم من

صورة البشر إلى صورة القردة، ليس في وسعهم؟ قلنا هذا أمر إيجاد لا أمر إيجاب، فهو من قبيل قوله عزّ وجلّ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47 وسورة يس: 82] . فإن قيل: لم قال سبحانه: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [الآية 68] ولفظة بين تقتضي شيئين فصاعدا، فكيف جاز دخولها على ذلك، وهو مفرد؟ قلنا: ذلك يشار به إلى المفرد والمثنّى والمجموع، ومنه قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58] وقوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) [آل عمران] وقوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ [آل عمران: 14] إلى قوله تعالى: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فمعناه عوان بين الفارض والبكر، وسيأتي تمامه في قوله عزّ وجل: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الآية 285] إن شاء الله تعالى. فإن قيل: قوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ [الآية 74] كلاهما بمعنى واحد، فما فائدة الثاني؟ قلنا: التفجّر يدلّ على الخروج بوصف الكثرة، والثاني يدلّ على الخروج نفسه: وهما متغايران فلا تكرار. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [الآية 79] والكتابة لا تكون إلّا باليد؟ قلنا: الحكمة فيه تحقيق مباشرتهم ذلك التحريف بأنفسهم، وذلك زيادة في تقبيح فعلهم، فإنّه يقال: كتب فلان كذا وإن لم يباشره بنفسه، بل أمر غيره به من كاتب له، ونحو ذلك. فإن قيل: التولّي والإعراض واحد، فلم قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) . قلنا: معناه: ثمّ تولّيتم عن الوفاء بالميثاق والعهد، وأنتم معرضون عن الفكر والنظر في عاقبة ذلك. فإن قيل: قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [الآية 96] ما الحكمة في قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وهم من جملة الناس؟ قلنا: إنّما خصّوا بالذكر بعد العموم،

لأنّ حرصهم على الحياة أشدّ، لأنّهم كانوا لا يؤمنون بالبعث. فإن قيل: قوله عزّ وجل: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [الآية 102] يدلّ على أن علم السحر لم يكن حراما. قلنا: العمل به حرام، لأنّهما كانا يعلّمان الناس السحر ليجتنبوه، كما قال الله تعالى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [الآية 102] . نظيره لو سأل إنسان: ما الزنا؟ لوجب بيانه له ليعرفه فيجتنبه. فإن قيل: قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) لم أثبت لهم العلم أولا مؤكدا بلام القسم، ثم نفاه عنهم. قلنا: المثبت لهم، أنّهم علموا علما إجماليّا، أنّ من اختار السحر ماله في الاخرة من نصيب والمنفي عنهم، أنّهم لا يعلمون حقيقة ما يصيرون إليه، من تحسّر الاخرة، ولا يكون لهم نصيب منها فالمنفي غير المثبت، فلا تنافي. فإن قيل: لم قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) وإنّما يستقيم أن يقال: هذا خير من ذلك، إذا كان في كل واحد منهما خير، ولا خير في السحر؟ قلنا: خاطبهم على اعتقادهم أنّ في تعلم السحر خيرا، نظرا منهم إلى حصول مقصودهم الدنيويّ به. فإن قيل: لم قال سبحانه هنا: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [الآية 126] وقال في سورة إبراهيم صلوات الله عليه: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إبراهيم: 35] ؟ قلنا: في الدّعوة الأولى كان مكانا قفرا، فطلب منه أن يجعله بلدا آمنا وفي الدعوة الثانية كان بلدا غير آمن فعرّفه وطلب له الأمن، أو كان بلدا آمنا فطلب له ثبات الأمن ودوامه. فإن قيل: أيّ مدح وشرف لإبراهيم صلوات الله عليه في قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) مع ما له من شرف الرسالة. قلنا: قال الزجاج: المراد بقوله تعالى: لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) أي لمن الفائزين. فإن قيل: الموت ليس في وسع

الإنسان وقدرته حتّى يصحّ أن ينهى عنه، على صفة أو يؤمر به على صفة، فلم قال تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) . قلنا: معناه: اثبتوا على الإسلام، حتّى إذا جاءكم الموت متّم على دين الإسلام، فهو في المعنى أمر بالثبات على الإسلام والدوام عليه، أو نهي عن تركه. فإن قيل: قوله عزّ وجل: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا [الآية 137] . إن أريد به الله تعالى فلا مثل له، وإن أريد به دين الإسلام فلا مثل له أيضا، لأن دين الحق واحد؟. قلنا: كلمة مثل زائدة. معناه: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به، يعني بمن آمنتم به وهو الله تعالى، أو بما آمنتم به وهو دين الإسلام، و «مثل» قد تزاد في الكلام كما في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وقوله تعالى: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام: 122] ومثل بمعنى واحد وقيل الباء زائدة كما في قوله تعالى: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم: 25] أي مثل إيمانكم بالله أو بدين الإسلام. فإن قيل: لم قال تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [الآية 143] وهو لم يزل عالما بذلك؟ قلنا: قوله تعالى: لِنَعْلَمَ أي لنعلم كائنا موجودا ما قد علمناه، أنّه يكون ويوجد، أو أراد بالعلم التمييز للعباد، كقوله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال: 37] . إن قيل: لم قال تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الآية 144] وهذا يدل على أنّه (ص) ، لم يكن راضيا بالتوجّه إلى بيت المقدس، مع أنّ التوجّه إليه كان بأمر الله تعالى وحكمه؟ قلنا: المراد بهذا، رضا المحبّة بالطبع، لا رضا التسليم والانقياد الأمر الله تعالى. فإن قيل: لم قال تعالى: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [الآية 145] ولهم قبلتان: لليهود قبلة، وللنصارى قبلة؟. قلنا: لمّا كانت القبلتان باطلتين مخالفتين لقبلة الحقّ، فكانتا بحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة. فإن قيل: كيف يكون للظالمين من اليهود أو غير هم حجة على المؤمنين، حتّى قال تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ

عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [الآية 150] ؟. قلنا: معناه إلّا أن يقولوا ظلما وباطلا، كقول الرجل لصاحبه: مالك عندي حق، إلّا أن تظلم أو تقول الباطل وقيل معناه: والذين ظلموا منهم، ف «إلّا» هنا بمعنى واو العطف، كما في قوله تعالى: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النمل] وقيل: «إلّا» فيهما بمعنى لكن. وحجّتهم أنّهم كانوا يقولون، لمّا توجه النبي (ص) إلى بيت المقدس: ما درى محمّد أين قبلته حتّى هديناه، وكانوا يقولون أيضا: يخالفنا محمّد في ديننا ويتّبع قبلتنا، فلما حوّله الله تعالى إلى الكعبة انقطعت هذه الحجّة فعادوا يقولون: لم تركت قبلة بيت المقدس؟ إن كانت باطلة فقد صلّيت إليها زمانا، وإن كانت حقّا فقد انتقلت عنها فهذا هو المراد به بقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وقيل: المراد به قولهم: ما ترك محمّد قبلتنا إلّا ميلا لدين قومه وحبّا لوطنه، وقيل: المراد به قول المشركين: قد عاد محمّد إلى قبلتنا لعلمه أنّ ديننا حق، وسوف يعود إلى ديننا، وإنما سمّى الله باطلهم حجة لمشابهته الحجة في الصورة، كما قال الله تعالى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ [الشورى: 16] أي باطلة، وقال سبحانه: فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر: 83] . فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَلا تَكْفُرُونِ بعد قوله سبحانه: وَاشْكُرُوا لِي [الآية 152] والشكر نقيض الكفر، فمتى وجد الشكر انتفى الكفر؟ قلنا: قوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِي معناه استعينوا بنعمتي على طاعتي، وقوله سبحانه وَلا تَكْفُرُونِ معناه لا تستعينوا بنعمتي على معصيتي. وقيل: الأوّل أمر بالشكر. والثاني أمر بالثبات عليه. فإن قيل: لم قال تعالى: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) [آل عمران] وأهل دينه لا يلعنونه إذا مات على دينهم؟. قلنا: المراد بالناس المؤمنون فقط، أو هو على عمومه وأهل دينه يلعنونه في الاخرة، قال الله تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت: 25] وقال سبحانه: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الأعراف: 38] .

فإن قيل: ما الحكمة في لفظ «إله» في قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الآية 163] . قلنا: لو قيل: وإلهكم واحد، لكان ظاهره إخبارا عن كونه واحدا في الإلهية، يعني لا إله غيره، ولم يكن إخبارا عن توحّده في ذاته، بخلاف ما إذا كرّر ذكر الإله، والآية إنّما سيقت لإثبات أحديّته في ذاته، ونفي ما يقوله النّصارى أنه واحد، والأقانيم ثلاثة: أي الأصول كما أنّ زيدا واحد وأعضاؤه متعددة فلما قيل إله واحد دل على أحديّة الذات والصفة. ولقائل أن يقول: قوله تعالى واحِدٍ يحتمل الأحديّة في الذات، ويحتمل الأحدية في الصفات، سواء كرّر ذكر الإله أو لم يكرر، فلا يتم الجواب. فإن قيل: ما الحكمة في التشبيه في قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [الآية 171] وظاهره تشبيه الكفّار بالرّاعي؟. قلنا: فيه إضمار تقديره: ومثلك يا محمّد مع الكفار كمثل الرّاعي مع الأنعام، أو تقديره: ومثل الذين كفروا كمثل بهائم الرّاعي، أو ومثل واعظ الذين كفروا كمثل الناعق بالبهائم، أو ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام كمثل الرّاعي. فإن قيل: لم خصّ المنعوق بأنّه لا يسمع إلّا دعاء ونداء، مع أنّ كلّ عاقل كذلك أيضا لا يسمع إلّا دعاء ونداء؟ قلنا: المراد بقوله تعالى: لا يَسْمَعُ [الآية 171] أنّه لا يفهم كقولهم: أساء سمعا، فأساء إجابة، أي أساء فيهما. فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 174] وقال في موضع آخر فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) [الحجر] ؟ قلنا: المنفي كلام التلطّف والإكرام، والمثبت سؤال التوبيخ والإهانة فلا تنافي. فإن قيل: لم قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الآية 178] أي فرض، والقصاص ليس بفرض، بل الوليّ مخيّر فيه، بل مندوب إلى تركه؟ قلنا: المراد به فرض على القاتل التمكين، لا أنّه فرض على الوليّ الاستيفاء.

فإن قيل: لم قال تعالى: الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الآية 180] عطف الأقربين على الوالدين، وهما أقرب الأقربين، والعطف يقتضي المغايرة؟ قلنا: الوالدان ليسا من الأقربين، لأنّ القريب من يدلي إلى غيره بواسطة، كالأخ والعمّ ونحوهما، والوالدان ليسا كذلك، ولو كانا منهم لكان تخصيصهما بالذّكر لشرفهما، كقوله تعالى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الآية 98] . فإن قيل: لم قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الآية 183] وصوم هذه الأمة، ليس كصوم أمّة موسى وعيسى عليهما السلام؟. قلنا: التشبيه في أصل الصوم لا في كيفيّته أو في كيفيّة الإفطار، فإنّه، في أول الأمر كان الإفطار مباحا من غروب الشمس إلى وقت النوم فقط، كما كان في صوم من قبلنا، ثم نسخ بقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [الآية 187] ، أو في العدد أيضا على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فرض على النصارى صوم رمضان بعينه، فقدّموا عشرة أو أخّروا عشرة لئلّا يقع في الصيف، وجبروا التقديم والتأخير بزيادة عشرين، فصار صومهم خمسين يوما، بين الصيف والشتاء. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [الآية 185] بعد قوله تعالى: هُدىً لِلنَّاسِ. قلنا: ذكر سبحانه أوّلا أنه هدى، ثم ذكر أنّه بيّنات من الهدى: أي من جملة ما هدى الله به عبيده، وفرّق به بين الحق والباطل، من الكتاب السماوية الهادية الفارقة بين الحق والباطل، فلا تكرار. فإن قيل: ما الحكمة في إعادة ذكر المريض والمسافر؟ قلنا: الحكمة فيه أنّ الآية المتقدمة نسخ مما فيها تخيير الصحيح، وكان فيها تخيير المريض والمسافر أيضا. فأعيد ذكرهما لئلّا يتوهم أنّ تخييرهما نسخ، كما نسخ تخيير الصحيح. فإن قيل: قوله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الآية 186] يدلّ على أنّه يجيب دعاء الداعين،

ونحن نرى كثيرا من الداعين لا يستجاب لهم؟ قلنا: روي عن النبي (ص) ، أنّه قال: «ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم، إلّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إمّا أن يعجّل دعوته، وإمّا أن يدّخرها له في الاخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها» ولأنّ قبول الدعاء شرطه الطاعة الله تعالى، وأكل الحلال، وحضور القلب وقت الدعاء فمتى اجتمعت هذه الشروط حصلت الإجابة، ولأن الداعي قد يعتقد مصلحته في الإجابة، والله تعالى يعلم أنّ مصلحته في تأخير ما سأل، أو في منعه، فيجيبه إلى مقصوده الأصلي، وهو طلب المصلحة، فيكون قد أجيب وهو يعتقد أنّه منع عنه. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [الآية 196] ومعلوم أنّ ثلاثة وسبعة عشرة، ثم ما الحكمة في قوله تعالى: كامِلَةٌ والعشرة لا تكون إلّا كاملة، وكذا جميع أسماء الأعداد، لا تصدق على أقل من المذكور، ولا على أكثر منه؟ قلنا: الحكمة في قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ أن لا يتوهم أنّ الواو بمعنى أو، كما في قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النساء: 3] وألا تحل التسع جملة، فنفى بقوله سبحانه: تِلْكَ عَشَرَةٌ ظنّ وجوب أحد العددين فقط، إما الثلاثة في الحج، أو السبعة بعد الرجوع، وأن يعلم العددين من جهتين جملة وتفصيلا، فيتأكّد العلم به، ونظيره فذلكة الحساب، وتنصيف الكتاب. وأما قوله تعالى: كامِلَةٌ فتأكيد كما في قوله تعالى: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [الآية 233] أو معناه كاملة في الثواب مع وقوعها بدلا من الهدى، أو في وقوعها موقع المتتابع مع تفرّقها، أو في وقوعها موقع الصوم بمكّة مع وقوع بعضها في غير مكّة، فالحاصل أنّه كمال، وصفا لا ذاتا. فإن قيل: ما الحكمة في تكرار الأمر بالذكر في قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الآية 198] . قلنا: إنّما كرره تنبيها على أنّه سبحانه أراد ذكرا مكرّرا، لا ذكرا واحدا، بل مرّة بعد أخرى، ولأنه زاد في الثاني فائدة أخرى، وهي قوله

تعالى: كَما هَداكُمْ يعني اذكروه بأحديّته كما ذكركم بهدايته، أو إشارة الى أنّه جلّ وعلا أراد بالذكر الأوّل الجمع بين الصلاتين بمزدلفة، وبالثاني الدعاء بعد الفجر بها، فلا تكرار. فإن قيل: لم قال الله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [الآية 198] إلى أن قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [الآية 199] وأراد به الإفاضة من عرفات بلا خلاف، وبعد المجيء إلى مزدلفة والذّكر فيها مرتين، كما فسّرنا كيف يفيضون من عرفات. قلنا: فيه تقديم وتأخير تقديره: من ربّكم ثم أفيضوا من حيث أفاض النّاس، فإذا أفضتم من عرفات. فإن قيل: لم قال الله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [الآية 203] ومعلوم أنّ المتعجّل التارك بعض الرمي، إذا لم يكن عليه إثم، لا يكون على المتأخّر الآتي بالرمي كاملا؟ قلنا: كان أهل الجاهلية فريقين، منهم من جعل المتعجّل آثما، ومنهم من جعل المتأخّر آثما، فأخبر الله تعالى بنفي الإثم عنهما جميعا، أو معناه لا إثم على المتأخّر في تركه الأخذ بالرخصة، مع أنّ الله تعالى يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه، أو أنّ معناه أن انتفاء الإثم عنهما موقوف على التقوى، لا على مجرّد الرخصة أو العزيمة في الرمي ثمّ قيل المراد به تقوى المعاصي في الحجّ، وقيل تقوى المعاصي بعد الحجّ في بقيّة العمر، بالوفاء بما عاهد الله تعالى عليه، بعرفة وغيرها من مواقف الحجّ من التوبة والإنابة. والمشكل في هذه الآية قوله تعالى: فِي يَوْمَيْنِ والتعجيل المرخّص فيه، إنّما هو التعجيل في اليوم الثاني من أيام التشريق. فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) وهو يدلّ على أنّها كانت إلى غيره، كقولهم: رجع إلى فلان عبده ومنصبه؟ قلنا: هو خطاب لمن كان يعبد غير الله تعالى، وينسب أفعاله إلى سواه فأخبرهم أنّه إذا كشف لهم الغطاء يوم القيامة، ردّوا ما أضافوه لغيره بسبب كفرهم وظلمهم ولأنّ رجع يستعمل بمعنى صار ووصل، كقولهم: رجع عليّ من فلان مكروه، قال الشاعر [بحر الطويل] :

وما المرء إلّا كالشّهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع ولأنّها كانت إليه قبل خلق عبيده، فلمّا خلقهم ملكهم بعضها خلافة ونيابة، ثم رجعت إليه بعد هلاكهم، ومنه قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] وقوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان: 26] وإنّما قال سبحانه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) ولم يقل إليه، وإن كان قد سبق ذكره مرة، لقصد التعميم والتعظيم. فإن قيل: لم طابق الجواب السؤال في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الآية 215] فإنّهم سألوا عن بيان ما ينفقون، وأجيبوا عن بيان المصرف؟. قلنا: قد تضمّن قوله تعالى: قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ بيان ما ينفقونه وهو كلّ خير، ثمّ زيد على الجواب بيان المصرف، ونظيره قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ [طه] . فإن قيل: لم جاء «يسألونك» ثلاث مرات بغير واو: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ [الآية 215] ، يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [الآية 217] ، يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [الآية 219] . ثم جاء ثلاث مرات بالواو: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ [الآية 219] ، وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [الآية 220] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ؟ [الآية 222] . قلنا: لأنّ سؤالهم عن الحوادث الأول وقع متفرّقا، وعن الحوادث الأخر وقع في وقت واحد، فجيء بحرف الجمع دلالة على ذلك. فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) . وعزمهم الطلاق ممّا يعلم، لا ممّا يسمع؟ قلنا: الغالب أنّ العزم على الطلاق، وترك الفيء، لا يخلو من دمدمة، وإن خلا عنها، فلا بدّ له أن يحدّث نفسه ويناجيها بما عزم عليه، وذلك حديث لا يسمعه إلّا الله تعالى، كما يسمع وسوسة الشيطان. فإن قيل: لم قال تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ [الآية 228] ولا حقّ للنساء في الرجعة، وأفعل يقتضي الاشتراك؟ قلنا: المراد أنّ الزوج إذا أراد الرجعة وأبت، وجب إيثار قوله على قولها، لأنّ لها حقا في الرجعة.

فإن قيل: لم قال تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً [الآية 228] والزوج أحقّ بالرجعة، سواء أراد الإصلاح أو الإضرار بها، بتطويل العدّة؟ قلنا: المراد أنّ الرجعة أصوب وأعدل، إن أراد الزوج الإصلاح، وتركها أصوب وأعدل، إن أراد الإضرار. فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [الآية 243] وقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] . قلنا: المراد بالآية الأولى إماتة العقوبة مع بقاء الأجل، وبالآية الثانية الإماتة بانتهاء الأجل نظيره قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [الآية 56] لأنّها كانت إماتة عقوبة، أو كان إحياؤهم آية لنبيّهم على ما عرف في قصّتهم، فصار كإحياء العزيز حين مرّ على قرية وآيات الأنبياء نوادر مستثناة، فكان المراد بالآية الثانية الموتة التي ليست بسبب آية نبي من الأنبياء أو إحياء قوم موسى آية له أيضا، فكان هذا جوابا عاما، مع أنّ في أصل السؤال نظرا، لأنّ الضمير في قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ للمتّقين، والمقصود في قوله تعالى فِيها الجنّات، على ما يأتي بيانه في سورة الدخان، إن شاء الله على وجه يندفع به السؤال من أصله. فإن قيل: لم قال تعالى: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ [الآية 247] والله تعالى لا يؤتي ملكه أحدا؟ قلنا: المراد بهذا الملك السلطنة، والرياسة التي أنكروا إعطاءها لطالوت وليس المراد بأنّه يعطي ملكه لأحد، لأنّ سياق الآية يمنعه. فإن قيل: لم قال تعالى في الماء: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ [الآية 249] ولم يقل ومن لم يشربه، والماء مشروب لا مأكول؟ قلنا: طعم بمعنى أكل، وبمعنى ذاق، والذوق هو المراد هنا، وهو يعمّ. فإن قيل: لم خصّ موسى وعيسى (عليهما السلام) من بين الأنبياء بالذكر في قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ [الآية 253] ؟

قلنا: لما أوتيا من الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة، مع الكتابين العظيمين المشهورين. فإن قيل: لم قال تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الآية 254] وفي يوم القيامة شفاعة الأنبياء وغيرهم بدليل قوله سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الآية 255] وقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء: 28] وقوله تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] . قلنا: هذه الآيات لا تدل على وجود الشفاعة يوم القيامة، بل تدل على أنّها لا توجد ولا تنفع من غير إذنه تعالى، ولا توجد لغير مرضيّ عنده، وهذا لا يتعارض مع وجودها، بل المتعارض معه هو الإخبار عن وجودها، لا الإخبار عن إمكان وجودها، ولو سلّم، فالمراد به نفي شفاعة الأصنام والكواكب التي كانوا يؤمنون بها. ولهذا عرّض بذكر الكفّار، بقوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) وقيل: المراد، أنّه لا شفاعة في إثم ترك الواجبات، لأنّ الشّفاعة في الاخرة في زيادة الفضل لا غير، والخطاب مع المؤمنين في النفقة الواجبة وهي الزّكاة. فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ على وجه الحصر، وغيرهم ظالم أيضا؟ قلنا: لأنّ ظلمهم أشدّ، فكأنّه لا ظالم إلّا هم، نظيره قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] . فإن قيل لم قال الله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الآية 257] بلفظ المضارع، ولم يقل أخرجهم بلفظ الماضي، والإخراج قد وجد، لأنّ الإيمان قد وجد؟ قلنا: لفظ المضارع فيه دلالة على استمرار ذلك الإخراج، من الله تعالى في الزمان المستقبل، في حقّ من آمن، بزيادة كشف الشبه ومضاعفة الهداية، وفي حقّ من لم يؤمن، ممّن قضى الله أنّه سيؤمن بابتداء الهداية وزيادتها، أيضا، ولفظ الماضي لا يدلّ على هذا المعنى. فإن قيل: متى كان المؤمنون في ظلمات الكفر، والكافرون في نور الإيمان ليخرجوا من ذلك؟

قلنا: الإخراج يستعمل بمعنى المنع عن الدخول، يقال لمن امتنع عن الدخول في أمر خرج منه وأخرج نفسه منه، وإن لم يكن دخله فعصمة الله تعالى المؤمنين عن الدخول في ظلمات الضلال، إخراج لهم منها وتزيين قرناء الكفّار لهم الباطل الذي يصدّونهم به عن الحقّ، إخراج لهم من نور الهدى ولأنّ إيمان رؤساء أهل الكتاب بالنبي عليه الصّلاة والسلام قبل أن يظهر كان نورا لهم، وكفرهم به بعد ظهوره خروج منه إلى ظلمات الكفر، ولأنّه لمّا ظهرت معجزاته عليه الصّلاة والسلام، وكان موافقه ومتّبعه خارجا من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومخالفه خارجا من نور العلم إلى ظلمات الجهل. فإن قيل: لم انتقل إبراهيم (ع) إلى حجّة أخرى، وعدل عن نصرة الأولى، مع أنّه لم ينقطع بما عارضه به نمرود، من قتل أحد المجوسيين وإطلاق الاخر، فإن إبراهيم (ع) ما أراد هذا الإحياء والإماتة؟ قلنا: إمّا لأنّه رأى خصمه قاصر الفهم عن إدراك معنى الإحياء والاماتة التي أضافهما إبراهيم (ع) إلى الله تعالى، حيث عارض معارضة لطيفة، وعمي عن اختلاف المعنيين أو لأنّه علم أنّه فهم الحجة لكنه قصد التمويه والتلبيس على أتباعه وأشياعه فعدل إبراهيم (ع) إلى أمر ظاهر يفهمه كل أحد، ولا يقع فيه تمويه ولا تلبيس. فإن قيل: لم طبع الله على قلبه فلم يعارض بالعكس في طلوع الشمس؟ قلنا: لأنّه لو عارض به لم يأت الله بها من المغرب، لأنّ ذلك أمارة قيام الساعة، فلا يوجد إلّا قريبا من قيامها، ولأنّه وأتباعه كانوا عالمين أن طلوعها من المشرق سابق على وجوده، فلو ادّعاه لكذّبوه. فإن قيل: لم قال عزير عليه السلام- كما ورد في التنزيل- منكرا مستبعدا أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها [الآية 259] وهو نبيّ، والنبي لا تخفى عليه قدرة الله تعالى، على إحياء قرية خربة، وإعادة أهلها إليها؟ قلنا: لم يقله منكرا مستبعدا لعظيم قدرة الله تعالى، بل متعجبا من عظيم قدرته تعالى، أو طلبا لرؤية كيفية الإعادة، لأنّ كلمة «أنّى» بمعنى كيف أيضا. وقد نقل مجاهد أنّ المارّ على القرية القائل ذلك، كان رجلا كافرا

شاكّا في البعث، وإن كان الأول هو المشهور. فإن قيل: لم قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [الآية 260] وقد علم أنّه أثبت الناس إيمانا؟ قلنا: ليجيب بما أجاب به، فتحصل به الفائدة الجليلة، للسّامعين من طلبه لإحياء الموتى. فإن قيل: ما المقصود بقول إبراهيم (ع) كما ورد في التنزيل: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الآية 260] مع أنّ قلبه مطمئنّ بقدرة الله على الإحياء؟ قلنا: معناه ليطمئنّ قلبي، بعلم ذلك عيانا، كما اطمأن به برهانا أو ليطمئن بأنّك اتخذتني خليلا، أو بأني مستجاب الدعوة. فإن قيل: فما الحكمة في قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [الآية 260] أي فضمّهنّ، ولفظ الأخذ مغن عنه؟ قلنا: الحكمة فيه تأمّلها ومعرفة أشكالها وصفاتها، لئلّا يلتبس عليه بعد الإحياء، فيتوهّم أنّه غيرها. فإن قيل: لم مدح الله سبحانه المتّقين بترك المنّ، ونهى عن المنّ أيضا، مع أنّه وصف نفسه بالمنّان، في نحو قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 164] ؟ قلنا: منّ بمعنى أعطى، ومنه المنّان في صفات الله تعالى. وقوله سبحانه: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي أنعم عليهم، ونحو ذلك قوله تعالى: فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [سورة ص: 39] . أما وقوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ [محمد: 4] ، فهو من الإنعام بالإطلاق من غير عوض. المنّ هنا بمعنى الاعتداد بالنعمة، وذكرها واستعظامها، وهو المذموم. فإن قيل: قوله تعالى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات: 17] من القسم الثاني. قلنا: ذلك اعتداد بنعمة الإيمان، فلا يكون قبيحا، بخلاف نعمة المال، ولأنه يجوز أن يكون من صفات الله تعالى ما هو مدح في حقّه، ذم في حقّ العبد كالجبّار، والمتكبّر، والمنتقم، ونحو ذلك. فإن قيل: لم قال تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ [الآية 266] ثمّ قال فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [الآية 266] ؟ قلنا: لمّا كان النخيل والأعناب أكرم

الشجر، وأكثرها منافع، خصّهما سبحانه بالذّكر وجعل الجنّة منهما، وإن كان فيها غير هما تغليبا لهما وتفضيلا. فإن قيل: قوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [الآية 273] يدلّ بمفهومه على أنّهم كانوا يسألون الناس برفق، فلم قال سبحانه: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [الآية 273] . قلنا: المراد به نفي السؤال والإلحاف جميعا، كقوله تعالى: لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ [الآية 71] ، أو كقول الأعشى: لا يغمز الساق من أين ولا وصب معناه ليس بساقه أين، ولا وصب، فغمزها. فإن قيل: لم قال تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا [الآية 275] ، ألحق الوعيد بأكله مع أنّ لابسه، ومدّخره، وواهبه، أيضا، في الإثم سواء؟ قلنا: لمّا كان أكثر الانتفاع والهمّ بالمال، إنّما هو الأكل، لأنه مقصود لا غناء عنه ولا بدّ منه، عبّر عن أنواع الانتفاع بالأكل كما يقال: أكل فلان ماله كلّه، إذا أخرجه في مصالح الأكل وغيره؟ فإن قيل: لم خص الأكل بذكر الوعيد، دون المطعم، وكلاهما آثم؟ قلنا: لأنّ انتفاعه الدنيويّ بالرّبا، أكثر من انتفاع المطعم. فإن قيل: لم قال تعالى: قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [الآية 275] والكلام إذ ذاك في الربا، ومقصودهم تشبيهه بالبيع فقياسه إنّما الربا مثل البيع في حلّه؟ قلنا: جاءوا بالتمثيل على طريق المبالغة، وذلك أنّه بلغ من اعتقادهم استحلال الربا، أنّهم جعلوه أصلا في الحلّ والبيع، وفرعا كقولهم: القمر كوجه زيد، والبحر ككفّه، إذا أرادوا المبالغة. فإن قيل: كيف قلتم إنّ أهل الكبائر لا يخلدون في النار، وقد قال الله تعالى في حق آكل الربا: وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) ؟. قلنا: الخلود يستعمل بمعنى طول البقاء وإن لم يكن بصفة التأبيد، يقال: خلّد الأمير فلانا في الحبس، إذا طال حبسه، أو أنّ قوله تعالى: فَأُولئِكَ إشارة إلى من عاد إلى استحلال الربا،

بقوله جلّ وعلا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [الآية 275] بعد نزول آية التحريم، وذلك يكون كافرا، والكافر مخلّد في النار. فإن قيل: إنظار المعسر، فرض بالنصّ، والتصدّق عليه تطوّع، فلم قال تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [الآية 280] . قلنا: كلّ تطوّع كان محصّلا للمقصود من الفرض، بوصف الزيادة كان أفضل من الفرض كما أنّ الزهد في الحرام فرض، وفي الحلال تطوّع والزهد في الحلال أفضل، كما بيّنا كذلك هنا. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: بِدَيْنٍ وقوله تعالى: تَدايَنْتُمْ [الآية 282] مغن عنه. قلنا: فائدته رجوع الضمير إليه في قوله تعالى: فَاكْتُبُوهُ [الآية 282] إذ لو لم يذكره لقال: فاكتبوا الدّين، فالأول أحسن نظما، أو لأنّ التداين مشترك بين الإقراض والمبايعة وبين المجازاة، وإنّما يميّز بينهما بفتح الدال وكسرها ومنه قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) [الفاتحة] ، أي الجزاء، ومنه أيضا قوله سبحانه يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) [الذاريات] ، فذكر الدّين ليتعيّن أيّ المعنيين هو المراد. فإن قيل: لم شرط السفر في الارتهان بقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ [الآية 283] ، وجواز الرهن لا يختصّ بالسفر؟ قلنا: لم يذكره سبحانه، لتخصيص الحكم به، بل لمّا كان السفر مظنّة عوز الكاتب، والشاهد الموثوق بهما أمر على سبيل الإرشاد، لحفظ مال المسافرين بأخذ الرهان. فإن قيل: ما الحكمة في ذكر القلب، في قوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الآية 283] مع أنّ الجملة هي الموصوفة بالإثم لا القلب وحده؟ قلنا: كتمان الشهادة، هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلمّا كان ذلك إثما مقترنا بالقلب، ومكتسبا له أسند إليه، لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، كما يقال: هذا ما أبصرته عيني، وسمعته أذني، ووعاه قلبي. فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ

اللَّهُ [الآية 284] ، وما يحدّث به الإنسان نفسه لا يأثم به ما لم يفعله، إمّا لأنّه لا يمكن الاحتراز عنه في الوسع والطاقة، أو بالحديث المشهور فيه؟ قلنا: قيل أريد بالآية العموم، ثمّ نسخ بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الآية 286] وقيل: لا نسخ فيه لأنّه خبر، لا أمر أو نهي، بل العموم غير مراد، وإنّما المراد ما يمكن الاحتراز عنه، وهو العزم القاطع والاعتقاد الجازم، لا مجرّد حديث النفس والوسوسة. ولأنّ السّياق أخبر عن المحاسبة لا عن المعاقبة، فهو سبحانه يوم القيامة يخبر العباد بما أبدوا وما أخفوا، ليعلموا إحاطة علمه بجميع ذلك ثم يغفر لمن يشاء فضلا، ويعذّب من يشاء عدلا، كما أخبر جلّ وعلا في الآية. فإن قيل: أيّ شرف للرسول (ص) ، في مدحه بالإيمان، مع أنّه في رتبة الرسالة ودرجتها، وهي أعلى من درجة الإيمان، فما الحكمة في قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ [الآية 285] . قلنا: الحكمة فيه أن يبيّن للمؤمنين زيادة شرف الإيمان، حيث مدح به خواصّه ورسله ونظيره في سورة الصافات قوله تعالى في خاتمة ذكر كلّ نبيّ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) [الصافات] . فإن قيل: روي عن ابن عباس أنّه قرأ: (ملائكته وكتابه) [الآية 285] فسئل عن ذلك، فقال كتاب أكثر من كتب فما وجهه؟ قلنا: قيل فيه إنّه أراد أن الكتاب جنس، والكتاب جمع، والجنس أكثر من الجمع، لأنّ حقيقته في الكل على ما ذهب إليه بعضهم ويردّ على هذا أن يقال: الكلام في الجمع المضاف، والمفرد المضاف للاستغراق عرفا وشرعا، كقوله لعبده: أكرم أصدقائي، وأهن أعدائي، وقوله: زوجاتي طوالق وعبيدي أحرار، بخلاف قوله: صديقي وعدوي وعبدي وامرأتي، فظهر أنّ الجمع المضاف أكثر. فإن قيل: إنّ «بين» لا تضاف إلّا إلى اثنين فصاعدا، فلم قال تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الآية 285] ؟ قلنا: أحد هنا بمعنى الجمع، الذي هو آحاد كقوله تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ [الحاقّة: 47] فإنّه ثم بمعنى الجمع بدليل قوله تعالى: عَنْهُ حاجِزِينَ

[الحاقة: 47] فكأنّه قال: لا نفرق بين آحاد من رسله كقولك: المال بين آحاد الناس، ولأنّ أحدا يصلح للمفرد المذكر والمؤنث، وتثنيتهما وجمعهما نفيا وإثباتا، تقول: ما رأيت أحدا إلّا بني فلان، أو إلّا بنات فلان سواء، وتقول إن جاءك أحد بكتابي فأعطه وديعتي، يستوي فيه الكلّ فالمعنى لا نفرّق بين اثنين منهم أو بين جماعة منهم، ومنه قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ [الأحزاب: 32] . فإن قيل: من أين دلّ قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الآية 286] على أنّ الأوّل في الخير، والثاني في الشر؟ قلنا: قيل هو من كسب واكتسبت، فإنّ الأول للخير والثاني للشر، وهذا الرأي ليس دقيقا، وليس لديه دليل، لقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً [النساء: 112] وقوله سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) [المدّثّر] وقوله: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا [الشورى: 34] وقوله: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً [الشورى: 23] والاقتراف والاكتساب بمعنى واحد. وقيل: هو من «اللّام» و «على» ، وليس هذا الرأي بدليل أيضا، لقوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) [الرعد] وقوله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] وقوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [الآية 157] . اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ «اللّام» و «على» عند الإطلاق يقتضيان ذلك، أو لأنّهما يستعملان لذلك عند تقاربهما، كما في هذه الآية، لا نفرّق بين ذكر الحسنة والسيئة، أو الحسن والقبيح، ويدلّ عليه قوله تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الأنعام: 164] أطلقه، وأراد به الشرّ بدليل ما بعده. وقولهم: الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك. وقولهم: فلان يشهد لك وفلان يشهد عليك. ويقول الرجل لصاحبه: هذا الكلام حجّة عليك لا لك، قال الشاعر: على أنّني راض بأن أحمل الهوى وأخلص منه لا عليّ ولا ليا وأمّا قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصّلت: 46] وإن كان مقيّدا، إلّا أنّ فيه دلالة أيضا، من جهة «اللّام» و «على» ، لأنّ القيد شامل للظرفية.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"البقرة"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «البقرة» «1» . ولكنّهم لما لم يعلموا هذه الآلات في مذاهب الاستدلال بها، كانوا كمن فقد أعيانها، ورمى بالآفات فيها. قال تعالى: وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ [التوبة: 87] «2» كما قال سبحانه: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الآية 7] لأنّ الطبع من الطابع، والختم من الخاتم، وهما بمعنى واحد. وإنّما فعل سبحانه ذلك بهم عقوبة لهم على كفرهم. وقوله سبحانه: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [الآية 7] استعارة أخرى. لأنّهم كانوا على الحقيقة ينظرون إلى الأشخاص، ويقلّبون الأبصار، إلّا أنّهم لمّا لم ينتفعوا بالنظر، ولم يعتبروا بالعبر وصف سبحانه أبصارهم بالغشي، وأجراهم مجرى الخوابط الغواشي، أو يكون تعالى كنّى هاهنا بالأبصار عن البصائر، إذا كانوا غير منتفعين بها، ولا مهتدين بأدلّتها. لأنّ الإنسان يهدى ببصيرته إلى طرق نجاته، كما يهدى ببصره إلى مواقع خطواته. وقوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [الآية 10] والمرض في الأجسام حقيقة وفي القلوب استعارة، لأنّه فساد في القلوب كما أنّه فساد في الحقيقة، وإن اختلفت جهة الفساد في الموضعين. وقوله سبحانه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) وهاتان

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . وفي الآية 3 من سورة «المنافقون» فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ بالفاء لا بالواو. [.....]

استعارتان. فالأولى منهما إطلاق صفة الاستهزاء سبحانه، والمراد بها أنّه تعالى يجازيهم على استهزائهم بإرصاد العقوبة لهم، فسمّى الجزاء على الاستهزاء باسمه، إذ كان واقعا في مقابلته، والوصف بحقيقة الاستهزاء غير جائز عليه تعالى، لأنه عكس أوصاف الحليم، وضد طريق الحكيم، والاستعارة الأخرى قوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي يمدّ لهم كأنّه يخلّيهم والامتداد في عمههم، والجماع في غيّهم، إيجابا للحجّة، وانتظارا للمراجعة، تشبيها بمن أرخى الطّول للفرس أو الراحلة، ليتنفّس خناقها، ويتسع مجالها. وربما جعل قوله سبحانه: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [الآية 9] «1» على أنّه مستعار في بعض الأقوال، وهو أن يكون المعنى أنّهم يمنّون أنفسهم ألّا يعاقبوا، وقد علموا أنّهم مستحقون للعقاب، فقد أقاموا أنفسهم بذلك مقام المخادعين، ولذلك قال سبحانه: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) «2» . وقوله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) وهذه استعارة. والمعنى أنّهم استبدلوا الغيّ بالرشاد، والكفر بالإيمان، فخسرت صفقتهم، ولم تربح تجارتهم. وإنّما أطلق سبحانه على أعمالهم اسم التجارة لما جاء في أول الكلام، بلفظ الشّرى تأليفا لجواهر النظام، وملاحمة بين أعضاء الكلام. وقوله سبحانه: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [الآية 20] . وهذه استعارة، والمراد يكاد يذهب بأبصارهم من قوة إيماضه وشدة التماعه. والدليل على ذلك قوله تعالى في الآية 43 من سورة النّور: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ ومحصّل المعنى: تكاد أبصارهم تذهب عند رؤية البرق، فجعل تعالى الفعل للبرق دونها لمّا كان السبب في ذهابها.

_ (1) . كان من حق هذه الآية في الترتيب أن تأتي قبل الآية العاشرة التي سبق الحديث عنها في قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ إلخ ولا أدري أكان ذلك سهوا من المؤلف رضي الله عنه، أم سهوا من الناسخ حيث وضعها في غير موضعها، وأنزلها في غير ترتيبها. (2) . في الأصل (وما يخادعون) على أنها قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، ليتجانس اللفظان في الموضعين. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر «يخدعون» ، كما أثبتاه. وكما نقرأه في المصحف الذي بين أيدينا.

وقوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [الآية 22] وهذه استعارة. لأنّه سبحانه شبّه الأرض في الامتهاد بالفراش، والسماء في الارتفاع بالبناء. وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [الآية 29] أي قصد إلى خلقها كذلك. لأنّ الحقيقة في اسم الاستواء الذي هو تمام بعد نقصان، واستقامة بعد اعوجاج، من صفات الأجسام، وعلامات المحدثات. وقوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ [الآية 42] وهذه استعارة. والمراد بها: ولا تخلطوا الحقّ بالباطل، فتعمى مسالكه، وتشكل معارفه. وذلك مأخوذ من الأمر الملتبس، وهو المختلط المشتبه. ويقول القائل قد ألبس عليّ هذا الأمر: إذا انغلقت أبوابه عليه، وانسدّت مطالع فهمه. وقوله سبحانه: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [الآية 61] . وهذه استعارة والمراد بها صفة شمول الذّلّة لهم، وإحاطة المسكنة بهم، كالخباء المضروب على أهله، والرّواق «1» المرفوع لمستظلّه. وقوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها [الآية 66] أي للأمم التي تشاهدها، والأمم التي تكون بعدها، أو للقرى التي تكون أمامها، وللقرى التي تكون خلفها. ولقول العرب: كذا بين يديّ، كذا وجهان: أحدهما أن تكون بمعنى تقدّم الشيء للشيء. يقول القائل لغيره: أنا بين يديك. أي قريب منك. وقد مضى فلان بين يديك، أي تقدّم أمامك. وقوله تعالى في وصف الحجارة: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الآية 74] وهذه استعارة. والمراد ظهور الخضوع فيها لتدبير الله سبحانه بآثار الصنعة وأحلام الصنعة. وقوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [الآية 81] وهذه استعارة فيها كناية عجيبة عن عظم الخطيئة، لأنّ الشيء لا يحيط بالشيء من جميع جهاته إلّا بعد أن

_ (1) . وتقرأ أيضا: الرّواق، بكسر الرّاء.

يكون سابغا غير قالص «1» ، وزائدا غير ناقص. وقوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [الآية 88] فيه استعارة على التأويلين جميعا. إما أن تكون «غلف» جمع أغلف، مثل أحمر وحمر، يقال سيف أغلف، أو تكون جمع غلاف، مثل حمار وحمر، وتخفّف فيقال حمر، وكذلك يجمع غلاف، فيقال: غلف وغلف بالتثقيل والتخفيف. قال أبو عبيدة: كل شيء في غلاف فهو أغلف، يقال: سيف أغلف، وقوس غلفاء، ورجل أغلف: إذا لم يختتن. فمن قرأ غلف، على جمع أغلف، فالمعنى أنّ المشركين قالوا: قلوبنا في أغطية عمّا يقوله، يريدون النبيّ (ص) . ونظير ذلك قوله سبحانه، حاكيا عنهم: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصّلت: 5] . ومن يقرأ: (قلوبنا غلف) على جمع غلاف بالتثقيل والتخفيف، فمعنى ذلك: قالوا قلوبنا في أوعية فارغة لا شيء فيها. فلا تكثر علينا من قولك، فإنّا لا نعي منه شيئا. فكان قولهم هذا على طريق الاستعفاء من كلامه، والاحتجاز عن دعائه. وقوله سبحانه: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [الآية 93] وهذه استعارة. والمراد بها صفة قلوبهم بالمبالغة في حبّ العجل، فكأنّها تشرّبت حبّه فمازجها ممازجة المشروب، وخالطها مخالطة الشيء الملذوذ. وحذف حبّ العجل لدلالة الكلام عليه، لأنّ القلوب لا يصحّ وصفها بتشرّب العجل على الحقيقة. وقوله سبحانه: بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) استعارة أخرى: لأنّ الإيمان على الحقيقة لا يصحّ عليه النطق، فالأمر إنّما يكون بالقول. فالمراد إذا بذلك- والله أعلم- أنّ الإيمان إنّما يكون دلالة على صدّ الكفر والضّلال، وترغيبا في اتّباع الهدى والرشاد، وأنّه لا يكون ترغيبا في سفاهة، ولا دلالة على ضلالة. فأقام تعالى ذكر الأمر هاهنا مقام الترغيب والدلالة، على طريق المجاز والاستعارة، إذ كان المرغّب في الشيء والمدلول عليه، قد يفعله كما يفعله المأمور به والمندوب إليه.

_ (1) . قلص الثوب بعد غسله- انكمش، فهو قالص.

وقوله تعالى: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) هذه استعارة: لأنّ بيع نفوسهم على الحقيقة لا يتأتّى لهم. والمراد به- والله أعلم- أنّهم لمّا أوبقوا أنفسهم بتعلّم السحر، واستحقّوا العقاب على ما في ذلك من عظيم الوزر، كانوا كأنّهم قد رضوا بالسّحر ثمنا لنفوسهم، إذ عرّضوها بعمله للهلاك، وأوبقوها لدائم العقاب. وكانت كالأعلاق الخارجة عن أبدانهم بأنقص الأثمان، وأدون الأعواض. وقوله سبحانه: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [الآية 112] أي أقبل على عبادة الله سبحانه، وجعل توجّهه إليه بجملته لا بوجهه دون غيره. والوجه هاهنا استعارة. وقوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الآية 115] أي جهة التقرب إلى الطريق الدالّة عليه، ونواحي مقاصده ومعتمداته الهادية اليه. وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الآية 130] والتقدير: سفه نفسا، على أحد التأويلات. وهذه استعارة. لأنّه تعالى علّق السّفه بالنفس. وقولنا: نفس فلان سفيهة: مستعارة، وإنّما السّفه صفة لصاحب النفس لا للنّفس. وقوله تعالى: إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [الآية 133] أي ظهرت له علاماته، ووردت عليه مقدّماته، فهي استعارة. لأنّ الموت لا يصح عليه الحضور على الحقيقة. وقوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [الآية 138] أي دين الله، وجعله بمنزلة الصّبغ لأنّ أثره ظاهر، ووسمه لائح. وهذا من محض الاستعارة. وقوله سبحانه: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الآية 150] فهذه استعارة على قول من قال: إنّ الشطر هاهنا البعد. أي ولّ وجهك جهة بعده. إذ لا يصح أن تولّي وجهك جهة بعد المسجد على الحقيقة. وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الآية 168] أي لا تنجذبوا في قياده، لأنّ المنجذب في قياده «1» غيره

_ (1) . في الأصل «في قيادة» . وقد جعلناها «قياد» بدلا من «قيادة» تمشيا مع ما جرى عليه المؤلف في قوله: «لا تنجذبوا في قياده) .

تابع لخطواته. وهذه من شرائف الاستعارة. فهي أبلغ عبارة عن التحذير من طاعة الشيطان فيما يأمر به، وقبول قوله فيما يدعو إلى فعله. وقوله تعالى: يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [الآية 174] . وهذه استعارة. كأنّهم إذا أكلوا ما يوجب العقاب بالنار، كان ذلك المأكول مشبها بالأكل من النار. وقوله سبحانه فِي بُطُونِهِمْ: زيادة معنى، وإن كان كلّ آكل إنّما يأكل في بطنه، ذلك أنّه أفظع سماعا، وأشدّ إيجاعا. وليس قول الرجل للآخر: إنّك تأكل النار، مثل قوله: إنّك تدخل النار في بطنك. وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ [الآية 175] وقد مضى نظير ذلك، وأمثاله كثير في هذه السورة وغيرها. وقوله تعالى في ذكر النساء: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [الآية 187] واللباس هاهنا مستعار، والمراد به قرب بعضهم من بعض، واشتمال بعضهم على بعض، كما تشتمل الملابس على الأجسام «1» . وعلى هذا المعنى كنّوا عن المرأة بالإزار. وقوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ [الآية 187] وهذه استعارة، لأنّ خيانة الإنسان نفسه لا تصحّ على الحقيقة، وإنّما المراد أنّه سبحانه خفّف عنهم التكليف في ليالي الصيام، بأن أباحهم فيها مع أكل الطعام وشرب الشراب الإفضاء إلى النساء، ولو منعهم من ذلك لعلم أنّ كثيرا منهم يخلع عذار الصبر، ويضعف عن مغالبة النفس، فيواقع المعصية بغشيانه النساء، فيكون قد كسب نفسه العقاب، ونقصها الثوب فكأنّه قد خانها في نفي المنافع عنها، أو جرّ المضارّ إليها. وأصل الخيانة في كلامهم: النقص، فعلى هذا الوجه تحمل خيانة النفس. وقوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [الآية 187] . وهذه استعارة عجيبة.

_ (1) . استشهد ابن قتيبة في كتابه «تأويل مشكل القرآن» بقول النابغة الجعدي: إذا ما الضجيع ثنى جيدها ... تثنّت عليه فكانت لباسا على أن اللباس معناه، أنّ المرأة والرجل يتضامّان، فيكون كلّ واحد منها للآخر، بمنزلة اللّباس.

والمراد بها على أحد التأويلات: حتّى يتبيّن بياض الصبح من سواد الليل. والخيطان هاهنا مجاز. وإنّما شبّها بذلك لأنّ خيط الصبح يكون في أوّل طلوعه مستدقّا خافيا، ويكون سواد الليل منقضيا مولّيا، فهما جميعا ضعيفان، إلّا أنّ هذا يزداد انتشارا، وهذا يزداد استتارا. وقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ [الآية 188] . . وقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [الآية 245] . وهذه استعارة لأنّ الغنيّ بنفسه «1» لا يجوز عليه الاستقراض على حقيقته، ولكن المقرض في الشاهد لمّا كان اسما لمن أعطى غيره على أن يردّ عليه عوضه، أقام سبحانه توفية «2» العوض عليه مقام ردّ القرض. وقوله سبحانه: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً [الآية 250] فهذه استعارة. كأنّهم قالوا: أمطرنا صبرا، واسقنا صبرا وفي قوله تعالى: أَفْرِغْ، زيادة فائدة على القول: أنزل، لأنّ الإفراغ يفيد سعة الشيء وكثرته، وانصبابه. وقوله سبحانه: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [الآية 257] وهذه استعارة. والمراد بها إخراج المؤمنين من الكفر إلى الايمان ومن الغيّ إلى الرشاد، ومن عمياء «3» الجهل إلى بصائر العلم. وكلّ ما في القرآن من ذكر الإخراج من الظّلمات إلى النور فالمراد به ما ذكرنا. وذلك من أحسن التشبيهات. لأنّ الكفر كالظلمة التي يتسكّع فيها الخابط، ويضلّ القاصد. والإيمان كالنور الذي يؤمّه الحائر، ويهتدي به الجائر، لأنّ عاقبة الإيمان مضيئة بالإيمان والثواب، وعاقبة الكفر مظلمة

_ (1) . في الأصل «الغني لنفسه» وهو تحريف من الناسخ، فالله سبحانه غنيّ بنفسه، لا غنيّ لنفسه. (2) . في الأصل: «توفيه» بالهاء لا بالتاء المربوطة كما أصلحناه. (3) . جرى الناسخ على عدم إثبات همزة الممدود فكتب «عميا» بدون همزة، وقد همزنا ما أغفله في جميع المواطن بالكتاب، فلا حاجة إلى التنبيه عليه.

بالجحيم والعذاب. وفي لسانهم وصف الجهل بالعمى والعمه، ووصف العلم بالبصر والجليّة. يقال: قد غمّ عليه أمره، وأظلم عليه رأيه، إذا كان جاهلا بما يرتئيه ويفعله. ويقال في نقيض ذلك: هو على الواضحة من أمره، والجليّة من رأيه. إذا كان عالما بما يورد ويصدر، فيما يأتي ويذر. وقوله سبحانه: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الآية 283] . وذلك مثل قوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [الآية 225] لأنّ الإثم والكاسب صاحب القلب، دون القلب، على ما تقدّم من القول.

الفهرس

الفهرس تقديم أتصدير ج استهلال هـ مقدمة وإهداء ط مدخل ف سورة الفاتحة المبحث الأول أهداف سورة «الفاتحة» 3 في أعقاب السورة 10 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفاتحة» 13 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 13 الغرض منها وترتيبها 13 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفاتحة» 15 المبحث الرابع مكنونات سورة «الفاتحة» 19

سورة البقرة

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفاتحة» 21 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفاتحة» 23 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفاتحة» 37 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفاتحة» 39. سورة البقرة المبحث الأول أهداف سورة «البقرة» 43 قصة التسمية 43 الأهداف العامة لسورة «البقرة» 45 أصناف الخلق أمام دعوة الإسلام 47 اليهود في المدينة 48 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «البقرة» 51 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 51 الغرض منها وترتيبها 51 دعوة تنزيل القرآن 52 الاستدلال على تنزيل القرآن 52 الردّ على مقالة اليهود الأولى في القرآن 52 الردّ على مقالتهم الثانية 55 الردّ على مقالتهم الثالثة 56 الردّ على مقالتهم الرابعة 57

الردّ على مقالتهم الخامسة 57 الردّ على مقالتهم السادسة 58 الردّ على مقالتهم السابعة 59 الردّ على مقالتهم الثامنة 59 حكم القصاص 62 حكم الوصية 62 حكم الصيام 62 تحريم الكسب الحرام 63 حكم الأهلة 63 حكم القتال 63 حكم الحج والعمرة 63 أحكام متفرّقة 64 حكم الإيلاء والعدة والطلاق 65 حكم الصلاة في الأمن والخوف 65 حكم الوصية للأزواج 65 حكم نفقة المطلقات 66 الترغيب في الجهاد بالنفس والمال 66 الخاتمة 68 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «البقرة» 71 المبحث الرابع مكنونات سورة «البقرة» 79 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «البقرة» 95 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «البقرة» 115

هذا باب من المجاز 147 هذا باب الاستثناء 149 هذا باب الدعاء 150 هذا باب الفاء 150 باب الاضافة 159 باب المجازاة 164 باب تفسير أنا وأنت وهو 166 باب الواو 170 باب اسم الفاعل 171 باب من التأنيث والتذكير 175 باب أهل وآل 178 باب الفعل 180 باب زيادة «من» 183 باب من تفسير الهمز 184 باب إنّ وأنّ 191 باب من الاستثناء 197 باب الجمع 199 باب اللام 201 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «البقرة» 261 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «البقرة» 281.

الجزء الثاني

الجزء الثاني سورة آل عمران المبحث الأول أهداف سورة «آل عمران» «1» سورة آل عمران سورة مدنية كلها، وهي مائتا آية باتفاق. ومن سماتها البارزة وصف غزوة أحد وتسجيل أحداثها، وتقديم الدروس والعبر للمسلمين من خلالها في نحو خمسين آية، (من الآية 121 إلى الآية 168) . وفي أعقاب غزوة أحد، فضل الشهادة ومنزلة الشهداء عند ربهم، وحديث عن غزوة حمراء الأسد، ودعوة إلى الصبر والثبات. وفي ختام السورة نجد لوحة رائعة من دعاء المؤمنين واستجابة الله رب العالمين. (1) قصة التسمية جاء ذكر عمران في هذه السورة مرتين في آيتين متتاليتين، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) وقد ذهب فريق من المفسرين إلى أن عمران، الذي سميت السورة باسمه، هو عمران أبو موسى. والراجح أنه عمران والد مريم، وكان بين العمرانين، فيما يقول الرواة، أمد طويل. ونحن، إذا تتبعنا أسماء السور في القرآن الكريم، نجدها تشير إلى أهمّ ما اشتملت عليه السورة وأغربه، فسورة

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاتة، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

البقرة سمّيت بهذا الاسم لقصة عجيبة الشأن تتعلق ببقرة أمر بنو إسرائيل بذبحها، وكان ذلك سبيلا لمعرفة الجاني في حادثة قتل لم يعرف مرتكبها. وسورة المائدة سميت بهذا الاسم لقصة المائدة التي طلب الحواريّون إنزالها من السماء. وسورة النساء سميت بذلك لأنّ أهم ما عرضت له هو الأحكام التي أراد الله بها تنظيم أحوال النساء، وحفظ حقوقهنّ، وعدم الإضرار بهنّ، وهكذا. وسورة الأنعام عرضت لذكر الأنعام وأنواعها من الإبل والبقر والغنم. وسورة الأعراف عرضت لذكر الأعراف، وهو حاجز مرتفع بين الجنة والنار، عليه رجال استوت حسناتهم وسيئاتهم. وسورة الأنفال عرضت لذكر الأنفال، وهي الغنائم وطريقة توزيعها. وسورة التوبة عرضت لذكر توبة الله على المؤمنين وعلى الثلاثة الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، ثم تاب الله عليهم ليتوبوا. وسورة يونس عرضت لذكر نبي الله يونس، وإيمان قريته كلها به. وسورة هود تعرّضت لذكر نبي الله هود ورسالته إلى قومه في قوله تعالى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) [هود] . وتتابعت السورة تصف رسالات السماء إلى ثمود قوم صالح، وإلى مدين قوم شعيب، ورسالة إبراهيم ولوط وموسى إلى قومهم. وسورة يوسف دارت كلها تقريبا حول قصة يوسف عليه السلام من بدايتها إلى نهايتها. وهكذا نجد أنّ الأساس العام في تسمية السور هو أهم شيء ذكر فيها، أو أغرب شيء تحدّثت عنه. وإذا رجعنا إلى تسمية السورة الثالثة «1» من القرآن بسورة آل عمران، وراعينا أننا، إذا قرأنا السورة من أولها إلى آخرها، لا نجد فيها شيئا غريبا أو مهمّا يتعلق بموسى وهارون، بل نجد أنّ أبرز ما فيها وأغرب شؤونها هو ما عنيت بتفصيله من شأن عيسى وأمه، لدعانا ذلك إلى موافقة رأي من رأى من

_ (1) . السورة الأولى هي سورة الفاتحة والسورة الثانية هي سورة البقرة.

(2) مقاصد سورة آل عمران

المفسرين أنّ عمران الذي سميت السورة بآله هو عمران أبو مريم، لا أبو موسى وهارون. فالسورة تذكر طبقات من اصطفاهم الله من آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران، لتبيّن للقوم، من أول الأمر، أنّ اصطفاء الله من آل عمران عيسى وأمه، ليس إلا كاصطفائه لغيرهما ممّن اصطفى، وأنّ ما ظهر على يد عيسى من خوارق العادات التي يتخذونها دليلا على ألوهيته أو نبوته أو حلول الله فيه، لم يكن إلا أثرا من آثار التكريم الذي جرت به سنّة الله في من يصطفي من الأنبياء والمرسلين. ويقوّي هذا أنّ الله يقول، عقب هذه الآية، بيانا لاصطفاء آل عمران: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً. وأنّه يقول في جانب مريم: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) . وهكذا نجد أنّ اصطفاء آل عمران ذكر أولا مجملا ضمن من اصطفى الله، ثم بيّن باصطفاء مريم أو عيسى. ومن هذا يتبين أنّ عمران الذي سمّيت السورة بآله هو أبو مريم، لا أبو موسى وهارون. (2) مقاصد سورة آل عمران سورة آل عمران سورة مدنية، وليست من أوائل ما نزل بالمدينة، ولكنها نزلت بعد فترة طويلة من حياة المسلمين بها، وبعد أن تقلبت عليهم فيها أحوال من النصر والهزيمة في غزوات متعددة، واختلطوا اختلاطا واضحا بأهل الكتاب من يهود ونصارى، وجرى بينهم، من الحجاج والنقاش ما يتصل بالدعوة المحمدية وفروعها. وقد ذكرت فيها غزوات بدر وأحد وحمراء وبدر الأخيرة. وكانت هذه في شعبان من السنة الرابعة. وقد نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال التي تكفلت بالكلام على بدر. ونزلت بعدها سورة الأحزاب التي نزلت في آخر السنة الخامسة. العناية بأمرين عظيمين: ونحن، إذ نقرأ السورة، نجد أنّها عنيت بأمرين عظيمين:

الأمر الأول: قضية الألوهية وتقرير الحق فيها

أحدهما: تقرير الحق في قضية العالم الكبرى وهي مسألة الألوهية، وإنزال الكتب وما يتعلق بها من أمر الوحي والرسالة، وبيان وحدة الدين عند الله. والثاني: تقرير العلّة التي من أجلها ينصرف الناس في كل زمان ومكان عن التوجه إلى معرفة الحق والعمل على إدراكه والتمسك به «1» . الأمر الأول: قضية الألوهية وتقرير الحق فيها ولقد بدأت السورة بتقرير الأمر الأول فذكرت وحدانية الله، وأنه وحده هو الحي الذي لا يدركه الفناء، القيّوم الذي له الهيمنة والتدبير والقيام على شؤون الخلق بالإيجاد والتربية الجسمية والعقلية والإعزاز والإذلال. وقرّرت، في سبيل ذلك، علمه المحيط وقدرته النافذة القاهرة: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ. إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) . قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) . تقرر السورة هذا في كثير من أمثال هذه الآيات ثم تؤكد اصطفاء الله لبعض خلقه: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [النساء/ 165] . يعرفون مهمتهم التي كلفهم الله إياها، وهي دعوة الخلق إلى الحق، وأنّهم أعقل وأحكم من أن يقولوا للناس اتخذونا آلهة من دون الله: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) .

_ (1) . انظر رقم 4 فيما يأتي.

(3) وحدة الدين عند الله

وقد أخذ الله العهد على الرسل أن يصدق بعضهم بعضا في الحق ودعوة الناس إليه، وأن يصدق السابق منهم اللاحق. قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) . هذا هو العهد الذي حفظه عيسى (ع) وتوفّي عليه، وسيجيب به ربه يوم القيامة، وسيتبرأ المسيح عليه السلام ممن عبده أو اتخذه إلها. وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة] . (3) وحدة الدين عند الله أبرزت سورة آل عمران وحدة الدين عند الله وكررت هذه الحقيقة على لسان رسله جميعا: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [الآية 3] . قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) . وتقرر أن هذا هو الدين الذي جاء من عند الله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) . ثم تتجه السورة إلى الذين غلبت عليهم شقوتهم فحاربوا الله في دينه، وأعرضوا عن رسله، وأخذوا يناوئون الحق على وضوحه، فتذكر كثيرا من أساليب ضلالهم، وألوان شبههم، التي كانوا يعززون بها مراكزهم، ويحاولون بها فتنة المؤمنين عن دينهم، حسدا وبغيا لا طلبا للحق، ولا التماسا للهدى.

المسرفون في شأن عيسى (ع)

المسرفون في شأن عيسى (ع) وقد خصت السورة جماعة المسرفين في شأن عيسى (ع) الزاعمين له الألوهية والبنوّة أو الحلول، فذكرت السورة أن عيسى خلق بقدرة الله ليكون معجزة للبشرية ودليلا على تفرد الله بالألوهية. فقد خلق الله آدم بلا أب ولا أم ثم خلق حواء من أب وبلا أم، ثم خلق عيسى من أم وبلا أب. إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) . فظهور الخوارق والمعجزات أمر من سنّة الله في خلقه. فقد خلق الله يحيى لزكريا على كبر من أبيه، ويأس من أمه. وبشرت الملائكة زكريا بيحيى. وتعجب زكريا من هذه البشارة مع حالته، فرده الله إلى مشيئته: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) . وهكذا كان شأن عيسى وجد بلا أب بمشيئة الله، وبشرت الملائكة به أمه بأمر الله، وعجبت مريم لهذه البشارة: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [مريم/ 20] . فرد الله ذلك إلى مشيئته: قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) . ثم تعرض السورة بعد هذا أن الخوارق، التي ظهرت على يد عيسى، لم تكن إلا من سنة الله في تأييد رسله بالمعجزات الدالة على أنهم عباد الله، علّمهم الله الكتاب والحكمة وأن الله أرسله إلى بني إسرائيل بآيات من ربه. وعلى لسان عيسى يقول القرآن الكريم: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) . (4) بيان أسباب انصراف الناس عن الحق المقصد الثاني من مقاصد سورة آل

عمران: بيان أسباب انصراف الناس عن الحق، وشرح أسباب العلة التي تستحوذ على عقول الناس، وتستولي على قلوبهم، فتصرفهم عن الاستماع للحق والالتفات إليه. وقد بينت السورة أن هذه العلة هي غرور الناس بما لهم من أموال وأولاد وجاه وسلطان، فقد كانوا يتصورون أن في إيمانهم بصاحب الدعوة الجديدة زلزلة لما لهم من جاه وسلطان، وأنهم في غنّى عن هذه الدعوة بما لهم من الأموال والأولاد. ويظنون أن ذلك كان لهم عن استحقاق ذاتي وأنه دائم لا يزول، ولا يؤثر فيه إيمان ولا كفر، وكثيرا ما حدّثنا القرآن عن مثل هذا الوهم الفاسد الذي خدع كثيرا من الناس فأضلهم وأعمى أبصارهم، قال تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) [الكهف] . وقال سبحانه: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) [القصص] . وعلى هذا الأساس الذي أرشدنا الله إليه في كثير من آيات كتابه، أخذت سورة آل عمران تضرب على هذه العلة التي يتوارثها الجبارون، وترشد إلى أن حب المال والغرور بمتاع الحياة هما علة العلل، وهما الحائل بين الناس وبين الحياة الطيبة والإيمان الصادق. وفي ذلك تقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) . وجدير بالمسرفين في كل زمان ومكان أن يلتفتوا إلى أن الأموال التي ينفقونها في لذاتهم وشهواتهم وبسط سلطانهم على الناس بغير حق، لا بد أن تفسد عليهم في نهاية الأمر أخلاقهم

(5) عظمة القرآن في تربية المؤمنين

وعقولهم وتهدم ما بنوا من حضارات وما شيدوا من قصور. وبينما تعرض السورة أثر الافتتان وسوء عاقبة الغرور بالأموال والأولاد، نراها تقرر الحق في شأن حب الناس للأموال ومظاهر هذه الحياة. وتقول إنه شيء فطروا عليه، ولكنه ليس هو المقصد الأسمى من هذه الحياة، وإنما هو متاع وزينة، وهو في الوقت نفسه وسيلة للحصول على المتاع الخالد في الحياة الخالدة، إذا أحسن استعماله، قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) . ثم تصف هؤلاء الذين اتقوا والذين لهم ذلك الجزاء بأنهم هم الذين أدركوا الحق وأنفقوا ما آتاهم الله من مال ابتغاء مرضاة الله، وصبروا على ما انتابهم من بلايا ومحن ورجعوا إلى الله بالتوبة والاستغفار، قال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) . (5) عظمة القرآن في تربية المؤمنين تمثل سورة آل عمران قطاعا حيا من حياة الجماعة المسلمة في المدينة من بعد غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، إلى ما بعد غزوة أحد في السنة الثالثة، وما أحاط بهذه الحياة من ملابسات شتّى خلال هذه الفترة الزمنية، وفعل القرآن، إلى جانب الأحداث، في هذه الحياة وتفاعلها معه في مختلف الجوانب. والنصوص هي، من القوة والحيوية، بحيث تستحضر صورة هذه الفترة وصورة الحياة التي عاشتها الجماعة المسلمة، وصورة الاشتباكات والملابسات التي أحاطت بهذه الحياة. ويتنزل القرآن ليواجه الكيد والدس

ويبطل الفرية والشبهة ويثبّت القلوب والأقدام، ويوجه الأرواح والأفكار ويعقب على الحادث ويبرز فيه العبرة، ويبني التصور ويزيل عنه الأوهام، ويحذر الجماعة المسلمة من العدو الغادر، والكيد الماكر، ويقود خطاها بين الأشواك والمصايد والأحابيل، قيادة الخبير بالفطرة العليم بما تكنّ الصدور. وإذا أعدنا قراءة سورة آل عمران وقصة بدر وأحد فيها، أدركنا أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة في أي مكان وأي زمان، وهو دستور هذه الأمة في أي جيل ومن أي قبيل، وهو حادي الطريق وهادي السبيل على توالي القرون ... ذلك أنه خطاب الله الأخير لهذا الإنسان في جميع العصور. في هذه الفترة التي نزلت فيها السورة كانت الجماعة المسلمة في المدينة قد استقرت بعض الاستقرار في موطنها الجديد في مدينة الرسول (ص) ، وكانت غزوة بدر الكبرى قد وقعت وكتب الله فيها النصر للمسلمين على قريش، وكان هذا النصر بظروفه التي تمّ فيها، والملابسات التي أحاطت به، تبدو فيه رائحة المعجزة الخارقة، ومن ثم اضطرّ رجل كعبد الله بن أبيّ بن سلول، من عظماء الخزرج، أن ينزل عن كبريائه وكراهته لهذا الدين ولنبيّه الكريم، وأن يكبت حقده وحسده للرسول الكريم، وأن ينضم منافقا للجماعة المسلمة وهو يقول: «هذا أمر قد توجه» ، أي ظهرت له وجهة هو ماض فيها لا يردّه عنها رادّ. بذلك وجدت بذرة النفاق في المدينة أو نمت وأفرخت. وقد وجد هؤلاء المنافقون حلفاء طبيعيين لهم في اليهود الذين كانوا يجدون في أنفسهم من الحقد على الإسلام والمسلمين مثل ما يجد المنافقون بل أشد. ولذلك نزل القرآن الكريم يوضح حقيقة الألوهية، ويبيّن الحق في الرسالة، ثم يوضح العلة التي أعمت الناس عن رؤية الحق، وهي علة الغرور بالمال والولد. وقد استنفدت سورة آل عمران أكثر من نصفها في توضيح هذين المقصدين. ثم توجهت السورة إلى جماعة المؤمنين الذين جمعهم الحق، وتكوّنوا على أساس الرحمة بالخلق لتحذرهم

(6) القرآن كتاب الوجود والخلود

من دسائس المنافقين، وحيل المبطلين وخداع اليهود والمشركين، وتذكّرهم أن يظلوا إخوة معتصمين بحبل الله متحدين برباط الأخوّة والمودة، متضامنين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى تدوم لهم وحدتهم وتستقر دولتهم، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا. (6) القرآن كتاب الوجود والخلود هذا القرآن هو كتاب الدعوة الإسلامية، هو روحها وباعثها، هو قوامها وكيانها، هو حارسها وراعيها، هو بيانها وترجمانها، هو دستورها ومنهجها، هو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة، كما يستمد منه الدعاة، وسائل العمل ومناهج الحركة وزاد الطريق.. ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسّنا، ونستحضر في تصورنا، أن هذا القرآن، خوطبت به أمة حية، ذات وجود حقيقي، ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة، ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض، وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية، وفي رقعة من الأرض كذلك، معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابة. وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن، ما دمنا نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهوّمة، لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه الإنسان والتي تواجه الأمة الإسلامية، في حين أن هذه الآيات قد نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية، ذات وجود واقعي حي، ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيا حيا نشأ عنه وجود ذو خصائص في حياة (الإنسان) بصفة عامة، وفي حياة الأمة الإسلامية بوجه خاص.

ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين، في حياة أمة معينة، في فترة من فترات التاريخ محددة، وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حوّلت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها، ولكنه، مع هذا، يعارض ويواجه، ويملك أن يواجه الحياة الحاضرة، وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية، وفي صراعها الراهن مع الأعداء من حولها، وفي معركتها كذلك في داخل الناس وفي عالم الضمير بالحيوية نفسها، والواقعية نفسها، التي كانت له هنالك يومذاك. وإذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا: هذا نجم قديم رجعي يحسن أن نستبدل به نجما جديدا تقدّميا. أو أن هذا الإنسان مخلوق قديم رجعي يحسن أن يستبدل به كائن آخر تقدمي لعمارة هذه الأرض. إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك، فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن، خطاب الله الأخير للإنسان. لقد عاش القرآن في ضمير الجماعة المسلمة، وأخذ بيدها خطوة خطوة، وسار معها وهي تتعثر وتنهض، وتحيد وتستقيم وتضعف وتقاوم، وتتألم وتحتمل وترقى في الدرج الصاعد في بطء ومشقة، في صبر ومجاهدة. تتجلى فيها خصائص الإنسان كلها، وضعف الإنسان كله، وطاقات الإنسان كلها. لقد واكب القرآن نصر المسلمين في بدر، وهزيمتهم في أحد، فكان القرآن في التربية السلوكية قد أعلمهم أن النصر من عند الله، وأن النصر سلاحه الإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والثقة بالله والاعتماد عليه، والعمل الدائب المخلص. وفي أعقاب الهزيمة في أحد كان القرآن يبلسم الجراح، ويمسح الآلام، ويوضح أن الأيام دول، وأن الحرب سجال: يوم لك ويوم عليك. وكانت للقرآن دعوات متكررة في سورة آل عمران تحث على الصبر والمصابرة والرباط والمرابطة، وتبين شرف الشهادة وأجر المجاهدين وثواب الصابرين، فيقول سبحانه:

(7) دروس من غزوة أحد

وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) . (7) دروس من غزوة أحد لقد عنيت سورة آل عمران بمقصدين عظيمين استغرقا نصفها الأول، هما الصدق في الإيمان، وعدم الاغترار بزخارف الحياة. وفي النصف الثاني من هذه السورة نجد دروسا عملية عن أسرار النصر في بدر والهزيمة في أحد. تلفت السورة نظر المسلمين إلى موقعة بدر، وكيف انتصروا فيها بالإيمان والصبر والتقوى، مع قلتهم وضعفهم في المال والعدة، ومع كثرة أعدائهم ووفرة مالهم وقوة عددهم، فيقول سبحانه: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) . وتلفت السورة نظر المسلمين إلى موقعة أحد وفيها اعتمد المسلمون على قوتهم وكثرتهم، وخطف أبصارهم شيء من زخارف الدنيا. وفيها انهزموا بسبب مخالفة الرماة أوامر القيادة الحكيمة، وفيها أرجف الأعداء بموت الرسول، فتزلزلت أعصاب كثير من المؤمنين، وفيها أفصح المنافقون عن نياتهم، وفي ذلك كله تقول سورة آل عمران: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [الآية 152] . (والمعنى إذ تقتلونهم وتبطلون حسّهم بإذن الله) . حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) .

ويقول سبحانه: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) . ثم تنبه السورة إلى أن الشأن في أرباب الحق أن ينالهم من نصراء الباطل كثير من الأذى بالقول والعمل، وأن واجب المؤمنين أن يتلقوا كل ذلك الصبر والاحتمال. قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) . بعد هذا كله تختم السورة بأمرين عظيمين: أحدهما: رسم الطريق الذي يصل به الإنسان إلى معرفة الحق والإيمان به، فيقول سبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) . والثاني: هذه النصيحة الغالية التي ما تمسكت بها أمة إلّا تركزت وسمت وعزّت، وما تخلت عنها أمة إلّا أصيبت بالضعف والانحلال والتدهور والانحطاط والذل والهوان، وتتمثل هذه النصيحة في الآية الأخيرة من سورة آل عمران: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) .

(8) سنن الله ماضية وقوانينه عامة

(8) سنن الله ماضية وقوانينه عامة انتصر المسلمون في غزوة بدر في العام الثاني من الهجرة نصرا كاملا باهرا بأيسر الجهد والبذل. فقد خرج ذلك العدد القليل من المسلمين غير مزودين بعدة ولا عتاد، إلا اليسير، فلاقوا ذلك الجحفل الضخم من قريش في عدتهم وعتادهم. ثم لم تلبث المعركة أن انجلت عن ذلك النصر المؤزّر الباهر. وكان هذا النصر في الواقعة الأولى التي يلتقي فيها جند الله بجند الشرك قدرا من الله ندرك اليوم طرفا من حكمته، ولعله كان لتثبيت الدعوة الناشئة وتمكينها بل لإثبات وجودها الفعلي على محك المعركة لتأخذ بعد ذلك طريقها. ولعلّه قد وقع، في نفوس المسلمين، من هذا النصر، أنه الشأن الطبيعي الذي لا شأن غيره، وأنه لا بد ملازمهم على أي حال في كل مراحل الطريق، أليسوا بالمسلمين؟ أليس أعداؤهم بالكافرين؟ وإذن فهو النصر لا محالة حيثما التقى المسلمون بالكافرين. غير أن سنّة الله في النصر والهزيمة ليست بهذه الدرجة من البساطة والسذاجة. فلهذه السنة مقتضياتها في تكوين النفوس وتكوين الصفوف، وإعداد العدة واتباع المنهج والتزام الطاعة والنظام، واليقظة لخوالج النفس ولحركات الميدان. وهذا ما أراد الله أن يعلمهم إياه بالهزيمة في (غزوة أحد) على النحو الذي تعرضه سورة آل عمران عرضا حيا مؤثرا عميقا، وتعرض أسبابه من تصرفات بعض المسلمين، وتوجه في ظله العظات البناءة للنفس وللصف المسلم على السواء. وحين نراجع غزوة أحد نجد أن تعليم المسلمين هذا الدرس قد كلفهم أهوالا وجراحات وشهداء من أعز الشهداء، على رأسهم حمزة رضي الله عنه وأرضاه، وكلفهم ما هو أشق من ذلك كله على نفوسهم، كلفهم أن يروا رسولهم الحبيب تشج جبهته، وتكسر سنه، ويسقط في الحفرة، ويغوص حلق المغفر في وجنته (ص) الأمر الذي لا يقوم بوزنه شيء في نفوس المسلمين. ويسبق استعراض (غزوة أحد) وأحداثها في السورة قطاع كبير تستغرقه كله توجيهات متشعبة لتصفية

(9) منهج القرآن في بناء العقيدة والدفاع عنها

التصور الإسلامي من كل شائبة، ولتقرير حقيقة التوحيد جليّة ناصعة، والرد على الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب، سواء منها ما هو ناشئ من انحراف في معتقداتهم، وما يتعمدون إلقاءه في الصف المسلم من شبهات ماكرة لخلخلة الصف من وراء خلخلة العقيدة. وتذكر عدة روايات أن الآيات [1- 83] نزلت في الحوار مع وفد نصارى نجران من اليمن، الذي قدم المدينة في السنة التاسعة للهجرة. ونحن نستبعد أن تكون السنة التاسعة زمن نزول هذه الآيات، فواضح، من طبيعتها وجوّها، أنها نزلت في الفترة الأولى من الهجرة حيث كانت الجماعة المسلمة بعد ناشئة، وكان لدسائس اليهود وغيرهم أثر شديد في كيانها وسلوكها. وسواء أصحّت رواية أن الآيات نزلت في وفد نصارى نجران، أم لم تصح، فإنه واضح، من الموضوع الذي تعالجه، أنها تواجه شبهات النصارى وخاصة ما يتعلق منها بعيسى (ع) ، وتدور حول عقيدة التوحيد الخالص كما جاء بها الإسلام، وتصحّح لهم ما أصاب عقائدهم من انحراف وخلط وتشويه، وتدعوهم إلى الحق الواحد الذي تضمنته كتبهم الصحيحة التي جاء القرآن يصدّقها. ومن مراجعة نصوص السورة يتبين المسلم أن هذا القرآن هو كتاب الحياة صحّح أوضاعها للمسلمين وصحح العقيدة، وناقش عقائد الآخرين، وحذّر المسلمين من كيد الأعداء ودسائسهم، وهذا القرآن مأدبة الله معروض للمسلمين، مفتوح للقارئين، دليل للحيارى ورحمة للضّالّين، وهداية للمسترشدين. إنه النور المبين، والركن الركين، والصراط المستقيم. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، لم تسمعه الجن حتى قالت: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) [الجن] . (9) منهج القرآن في بناء العقيدة والدفاع عنها القارئ لسورة آل عمران يتضح له أن أعداء الأمة الإسلامية كانوا يحاربونها في عدة ميادين، منها ميدان المعركة،

ومنها ميدان الفكرة والإيمان وأنهم حاولوا تشكيك المسلمين في عقيدتهم وتوهين إيمانهم لأنهم كانوا يدركون- كما يدركون اليوم تماما- أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من هذا المدخل، ولا تهن إلا إذا وهنت عقيدتها، ولا تهزم إلا إذا هزمت روحها، ولا يبلغ أعداؤها منها شيئا وهي ممسكة بعروة الإيمان، مرتكنة إلى ركنه، سائرة على نهجه، حاملة لرايته، ممثلة لحزبه، منتسبة إليه، معتزة بهذا النسب وحده. ومن هنا يبدو أن أعدى أعداء هذه الأمة هو الذي يلهيها عن عقيدتها الإيمانية، ويحيد بها عن منهج الله وطريقه، ويخدعها عن حقيقة أعدائها وحقيقة أهدافهم البعيدة. إن المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي، قبل كل شيء، معركة هذه العقيدة. وحتى حين يريد أعداؤها أن يغلبوها على الأرض والمحصولات والاقتصاد والخامات والطاقة، فإنهم يحاولون أولا أن يغلبوها على العقيدة، لأنهم يعلمون، بالتجارب الطويلة، أنهم لا يبلغون مما يريدون شيئا. والأمة المسلمة مستمسكة بعقيدتها، ملتزمة بمنهجها، مدركة لكيد أعدائها. ومن ثمّ يبذل هؤلاء الأعداء وعملاؤهم جهد الجبارين في خداع هذه الأمة عن حقيقة المعركة، ليفوزوا منها بعد ذلك بكل ما يريدون من استعمار واستغلال، وهم آمنون من عزمة العقيدة في الصدور. وكلما ارتقت وسائل الكيد لهذه العقيدة والتشكيك فيها والتوهين من عراها، استخدم أعداؤها هذه الوسائل المترقية الجديدة، ولكن للغاية القديمة نفسها: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [الآية 69] . فهذه هي الغاية الثابتة الدفينة. لهذا كان القرآن يدفع هذا السلاح المسموم أوّلا. كان يأخذ الجماعة المسلمة بتثبيتها على الحق الذي هي عليه، وينفي الشبهات والشكوك التي يلقيها أهل الكتاب، ويجلو الحقيقة الكبيرة التي يتضمنها هذا الدين، ويقنع الجماعة المسلمة بحقيقتها وقيمتها في هذه الأرض، ودورها ودور العقيدة التي تحملها في تاريخ البشرية. وكان يأخذها بالتحذير من كيد الكائدين، ويكشف لها نيّاتهم المستترة ووسائلهم القذرة، وأهدافهم الخطرة، وأحقادهم على الإسلام والمسلمين.

(10) أعداء يكيدون للإسلام

وكان يأخذها بتقرير حقيقة القوى وموازينها في هذا الوجود، فيبيّن لها هزال أعدائها وهوانهم على الله، وضلالهم وكفرهم بما أنزل الله إليهم من قبل وقتلهم الأنبياء. كما يبين لها أن الله معها، وهو مالك الملك المعزّ المذلّ وحده بلا شريك. وأنه سيأخذ الكفار، ويقصد بهم هنا اليهود، بالعذاب والنّكال كما أخذ المشركين في بدر من عهد قريب. وكانت هذه التوجيهات تتمثل في نحو هذه النصوص من سورة آل عمران: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) . وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) . قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) . (10) أعداء يكيدون للإسلام القارئ لسورة آل عمران، والمتتبع لأهدافها، يتبين من خلالها عدة أمور: أولها: ضخامة الجهد الذي كان يبذله أهل الكتاب في المدينة وغيرها، وعمق الكيد وتنوع أساليبه، واستخدام جميع الوسائل لزعزعة العقيدة وخلخلة الصف المسلم من ورائها. ثانيها: ضخامة الآثار التي كان هذا الجهد يحدثها في النفوس وفي حياة الجماعة المسلمة، مما اقتضى هذا البيان الطويل المفصل المنوع المقاطع والأساليب. ثالثها: ما نلمحه اليوم من وراء القرون الطويلة، من أن هؤلاء الأعداء هم الذين يلاحقون هذه الدعوة وأصحابها في الأرض كلها، وهم الذين تواجههم هذه العقيدة وأهلها. ومن ثم اقتضت إرادة الله الحكيم الخبير أن يقيم هذا المشعل الهادي

(11) ثلاثة خطوط عريضة

الضخم البعيد المطارح، لتراه الأجيال المسلمة قويّا واضحا عميق التركيز على كشف الأعداء التقليديين لهذه الأمة ولهذا الدين. (11) ثلاثة خطوط عريضة ولا يتحقق التعريف بسورة آل عمران حتى نلم بثلاثة خطوط عريضة فيها تتناثر نقطها في السورة كلها، وتتجمع وتتركز في مجموعها، حتى ترسم هذه الخطوط العريضة بوضوح وتوكيد. أول هذه الخطوط: بيان معنى الدين ومعنى الإسلام، فليس الدين هو كل اعتقاد في الله. وإنما هو صورة واحدة من صور الاعتقاد فيه سبحانه، صورة التوحيد المطلق الناصع القاطع، توحيد الألوهية التي يتوجه إليها البشر كما تتوجه إليها سائر الخلائق في الكون بالعبودية. وتوحيد القوامة على البشر وعلى الكون كله. فلا يقوم شيء إلا بالله تعالى، ولا يقوم على الخلائق إلا الله تعالى. ومن ثم يكون الدين والتلقي من هذا المصدر وحده في كل شأن من شؤون الحياة، والتحاكم إلى كتاب الله المنزل من هذا المصدر، واتّباع الرسل الذين نزل عليهم الكتاب، وهو في صميمه كتاب واحد، وهو في صميمه دين واحد ... ، هو الإسلام. بهذا المعنى الواقعي في ضمائر الناس وواقعهم العملي على السواء، والذي يلتقي عليه كل المؤمنين أتباع الرسل، كل في زمانه، متى كان معنى إسلامه هو الاعتقاد بوحدة الألوهية والقوامة، والطاعة والاتّباع في منهج الحياة كله بلا استثناء. ويتكئ سياق السورة على هذا الخط، ويوضحه في أكثر من ثلاثين موضعا من السورة بشكل ملحوظ. نضرب له بعض الأمثلة بالآيات الآتية: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) . إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [الآية 19] . قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [الآية 31] . قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) . أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) .

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [الآية 85] . ونصوص أخرى كثيرة تؤكد وحدانية الله، وأن الإسلام هو الدين الحق عند الله، وأن دعوة الرسل واحدة، وهدايتهم واحدة، هي الدعوة إلى توحيد الله وتدعيم الأخلاق، والحث على الفضائل، والتحذير من الرذائل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الآية 110] . أما الخط الثاني الذي يركز عليه سياق السورة فهو تصوير حال المسلمين مع ربهم، واستسلامهم له، وتلقيهم لكل ما يأتيهم منه بالقبول والطاعة والاتباع الدقيق، ونضرب له بعض الأمثلة من آيات سورة آل عمران: يقول الله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) . ويقول سبحانه في بيان صدق المؤمنين وثقتهم بربهم وتوكّلهم عليه، حين سمعوا عن كثرة أعدائهم بعد غزوة حمراء الأسد، فلم يزدهم ذلك إلا ثقة ويقينا وإيمانا واعتمادا على الله بعد الأخذ بالعدّة والأسباب: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) . والخط الثالث العريض في سياق السورة هو التحذير من ولاية غير المؤمنين، والتهوين من شأن الكافرين مع هذا التحذير، وتقرير أنه لا إيمان ولا صلة بالله مع تولي الكفار الذين لا يحتكمون لكتاب الله، ولا يتبعون

منهجه في الحياة. وهذه نماذج من هذا الخط العريض. لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) . لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) - مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) . هذه الخطوط الثلاثة متناسقة فيما بينها متكاملة في تقرير التصور الإسلامي، وتوضيح حقيقة التوحيد ومقتضاه في حياة البشر وفي شعورهم بالله، وأثر ذلك في موقفهم من أعداء الله الذي لا موقف لهم سواه. والنصوص في موضعها من السياق أكثر حيوية وأعمق إيحاء. لقد نزلت في معمعان المعركة، معركة العقيدة، ومعركة الميدان. المعركة داخل النفوس والمعركة في واقع الحياة. ومن ثم تضمنت ذلك الرصيد الحي العجيب من الحركة والتأثير والإيحاء، فلو أن قرآنا سيّرت به الجبال أو كلّم به الموتى لكان هذا القرآن، فإنه كتاب الحياة وكتاب الوجود وكتاب الخلود.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"آل عمران"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «آل عمران» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال، وكان نزولها في السنة الثالثة من الهجرة بعد غزوة أحد، فتكون من السور التي نزلت بين غزوة بدر وصلح الحديبية. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لذكر قصة آل عمران فيها. وهي قصة امرأته وابنتها مريم، وتدخل فيها قصة عيسى أيضا، ويبلغ عدد آياتها مائتي آية. الغرض منها وترتيبها نزل صدر هذه السورة في وفد نصارى نجران، وكانوا قد وفدوا على النبي (ص) ، فدخلوا عليه المسجد وعليهم ثياب الحبرات وأردية الحرير، مختتمين بالذهب، ومعهم بسط فيها تماثيل، ومسوح، جاءوا بها هدية له، فقبل المسوح ولم يقبل البسط، ثم جادلوه في الدين، وانضموا بهذا إلى أحبار اليهود في الشغب على الإسلام، فجاء صدر هذه السورة في تصوير ذلك الجدال الذي دار بينهم، وقد جاء أغلبه في جدال النصارى مع النبي (ص) ، وجاء قليل منه في جدال اليهود معه، وقد أشبهت سورة آل عمران سورة البقرة في ذلك الجدال، كما أشبهتها أيضا في طولها، ولهذا جعلت بعدها. وقد مهّد السياق في أول السورة لذلك الجدال ببيان ما يجب لله من الأوصاف، ثم انتقل من هذا إلى الرد على مقالاتهم في ذلك الجدال. ثم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز. المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، غير مؤرّخ.

ما يجب لله سبحانه من الأوصاف الآيات [1 - 6]

انتقل من الرد على مقالاتهم إلى تثبيت المؤمنين وتحذيرهم من التأثر بها. ثم انتقل من هذا إلى تثبيت المؤمنين بعد هزيمتهم في غزوة أحد. وقد استغلوها أيضا في التأثير عليهم، ثم ختمت السورة بالتنويه بالمؤمنين كما ختمت سورة البقرة. وقد قصد من ابتداء هذه السورة ببيان ما يجب لله تعالى من الأوصاف أن يكون هذا أساسا للجدال مع وفد نجران في شأن عيسى (ع) . ما يجب لله سبحانه من الأوصاف الآيات [1- 6] قال الله تعالى: الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) فذكر أنه يجب له أن يكون واحدا حيا قيّوما، ومهّد بهذا لما سيذكره من نفي الألوهية عن عيسى في الجدال مع وفد نجران، ثم ذكر أنه نزّل القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتب، وأنزل التوراة والإنجيل من قبله هدى للناس، وأنزل الفرقان وهو البرهان الذي لا بد منه مع النقل، ومهد بهذا أيضا لذلك الجدال، ليرجع فيه إلى ما اتفقت عليه هذه الكتب من التوحيد، وإلى تأييد العقل لها في ذلك، ثم ذكر مما يجب له أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه يصورنا في الأرحام كيف يشاء لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) . الرد على مقالة النصارى الأولى الآيات [7- 18] ثم قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [الآية 7] . فرد على مقالتهم الأولى وهي قولهم: يا محمد، ألست تزعم أن عيسى كلمة الله وروح منه؟ فقال: بلى. فقالوا: حسبنا. فرد عليهم بأن القرآن منه محكم، ومنه متشابه، وأن المتشابه يجب تأويله بما يوافق المحكم، فالذين في قلوبهم زيغ يتّبعون المتشابه ويؤولونه بما يوافق أهواءهم. والراسخون في العلم يؤولونه ذلك التأويل السابق، أو يفوضون الأمر فيه لله تعالى، ثم حذّر الأولين من عذابه الذي لا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم منه شيئا، كما لم تغن أموال آل فرعون شيئا عنهم، وأنذرهم بأنهم سيغلبون وإن اغتروا بأموالهم وقوتهم، وساق لهم ما جرى

الرد على مقالتهم الثانية الآيات [19 - 64]

في غزوة بدر عبرة يعتبرون بها، فقد غلب المسلمون فيها، على قلتهم، قريشا على كثرة عددها، ثم ذكر أنهم قد زيّن لهم حبّ أموالهم، وإنما هي متاع الحياة الدنيا، ولا قيمة لها بجانب ما أعد الله للمؤمنين من نعيم الآخرة. ثم ختم ذلك بتقرير أن تفرّده بالألوهية معروف قد شهد به في كتبه، وهذا في قوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) . الرد على مقالتهم الثانية الآيات [19- 64] ثم قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [الآية 19] . فذكر الرد على مقالتهم الثانية، وكان النبي (ص) قد قال لهم: أسلموا فقالوا: قد أسلمنا. فقال لهم: كذبتم، يمنعكم من الإسلام ادّعاؤكم أن لله ولدا، وعبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير. وقد احتجوا أمامه على ألوهية عيسى بأنه كان يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، إلى غير ذلك مما ذكروه، وعلى أنه ابن الله بأنه لم يكن له أب يعلم، فرد عليهم ذلك أوّلا بإثبات أن الدين عنده هو الإسلام له وحده، لا ما هم عليه من جعله ثالث ثلاثة، وقد نزل كتابهم بذلك فحرفوه وبدلوا آياته، فإن حاجّوا في ذلك بمثل ما ذكروه فإنما هي شبه واهية لا قيمة لها، وعلى النبي (ص) والمسلمين أن يمضوا في إسلامهم ولا يلتفتوا إلى تلك الشبه الواهية. فإذا أسلم أهل الكتاب ومشركو العرب كإسلامهم، فقد اهتدوا وإن تولّوا، فلا عذر لهم بعد تبليغهم. ثم ذكر ما ينفي الإيمان به عن أهل الكتاب، من كفرهم بآياته، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وأوعدهم بما أعدّ لهم من عذابه، ثم ذكر من كفرهم أنهم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، فيتولّون عنه وهم معرضون، وأنهم يزعمون أن النار لا تمسّهم إلا أياما معدودات بقدر أيام الخلق، ثم أوعدهم بأنه سيجمعهم ويعاقبهم على ما كسبوا من ذلك الكفر، ثم أمر النبي (ص) أن يذكر لهم أنه مالك الملك وحده، يعز من يشاء من خلقه، ويذل من يشاء منهم، فلا يمتاز أهل الكتاب بشيء على غيرهم، ثم أكد هذا بأنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميّت ويخرج الميت من الحي،

الرد على مقالتهم الثالثة الآيات [65 - 78]

ويرزق من يشاء بغير حساب، ثم نهى المؤمنين أن يغتروا بهم ويوالوهم. وذكر أن من يفعل ذلك فليس منه في شيء، وأنه يعلم ما يخفونه من ذلك وما يظهرونه. فإذا كانوا يحبونه، فليتبعوا رسوله ويوالوه وحده، وليطيعوه هو ورسوله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) . ثم رد عليهم ثانيا بذكر قصة عيسى (ع) على حقيقتها من أولها إلى آخرها، فذكر اصطفاءه لآبائه الأولين، من آدم إلى نوح إلى آل إبراهيم إلى آل عمران على العالمين. ثم ذكر ما كان من أمر أمه مريم وكفالة زكريا لها، وقصّ خبرها مع زكريا وخبر زكريا إذ وهب له يحيى، ثم ذكر مريم وإخبار الملائكة لها بأن الله اصطفاها على نساء العالمين، وبأنه يبشّرها بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم، يخلقه منها بأمره، ويعلّمه الكتاب والحكمة، ويرسله إلى بني إسرائيل، فيخلق لهم من الطين طيرا بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ثم ذكر ما كان من أمر بني إسرائيل معه إلى أن أرادوا قتله وصلبه فرفعه الله. ولما وصل بذلك إلى نهاية قصته، ذكر أن ما قصّه فيها، من الآيات والذكر الحكيم، لا يقبل غيره في أمر عيسى، وأن مثل عيسى، إذ خلقه من غير أب، كمثل آدم إذ خلقه من تراب، وهذا هو الحق في أمر عيسى، وليس أمره فيه بأعجب من أمر آدم، فإذا حاجّوا النبي (ص) بعد هذا في أمره فليدعهم هم وأبناءهم ونساءهم لمباهلتهم هو وأبناؤه ونساؤه فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين. ثم ذكر أن ما جاء به في أمر عيسى هو القصص الحق، وأنه ما من إله إلا الله، فإن تولّوا بعد ذلك فهم مفسدون لا طلّاب حق، ثم ختم ذلك بدعوتهم إلى التوحيد الذي اتفقت عليه الرسالات قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) . الرد على مقالتهم الثالثة الآيات [65- 78] ثم قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ، فذكر الرد على

مقالتهم الثالثة، وهي قول النصارى إن إبراهيم كان على ديننا. وكذلك قال اليهود مثل قولهم، فرد عليهم بأن التوراة والإنجيل لم ينزلا إلا بعده، فلا يعقل أن يكون يهوديّا أو نصرانيّا. وإذا كان لهم وجه أن يحاجّوه في مخالفة شريعة القرآن لما يعلمونه من شريعتهم، فإنه لا وجه لهم أن يحاجوه بمخالفتها لشريعة إبراهيم وهم لا يعلمونها، ثم قرر لهم أن إبراهيم كان حنيفا مسلما ولم يك من المشركين كما أشرك النصارى بتأليه المسيح، وأن أولى الناس به الذين اتّبعوه ممن لم يحرّف دينه من أهل الكتاب، ومن النبي وأتباعه من المؤمنين، ثم ذكر أن أهل الكتاب يودون أن يضلّوا المسلمين بهذه المقالات، وما يضلّون المسلمين بهذه المقالات، وما يضلّون إلا أنفسهم وهم لا يشعرون ثم وبّخهم على كفرهم بآياته وهم يعلمون صدقها بما عندهم من البشارات بها، وعلى أنهم لا يريدون بهذه المقالات إلا أن يلبسوا الحق بالباطل وهم يعلمون. ثم ذكر نوعا آخر من تلبيساتهم أقبح من هذه المقالات، وهو إظهار بعضهم الإيمان بالقرآن أول النهار، والكفر به آخره ليؤثّر بهذا في أتباعه، وذكر أنهم يتواصون عند إظهار هذا الإيمان الكاذب ألّا يخلصوا فيه، ولا يؤمنوا إلا بنبي يقرر شرائعهم. ثم رد عليهم بأمر النبي (ص) أن يذكر لهم أن الهدى هدى الله لا هداهم، فلا يليق بهم أن يفعلوا هذا، لأن يؤتى أحد مثل ما أوتوا أو يحاجوهم به عند ربهم، ويأمره أن يذكر لهم أن الفضل بيده يؤتيه من يشاء وليس وقفا عليهم. ثم ذكر أن هذه الأثرة فيهم في أمور الدين قد تعدّت بكثير منهم إلى أمور الدنيا. فمنهم من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلا ما دمت عليه قائما، لأنهم يعتقدون أن الله سبحانه لم يجعل عليهم سبيلا في الأميين من العرب، وهم يكذبون بذلك عليه، لأنه يحب الوفاء بالعهد لكل الناس، والذين لا يوفون بعهدهم لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة. ثم ذكر أن منهم من يستبيح في سبيل ذلك ما هو أقبح مما سبق، فيكتبون بأيديهم ما يدل على أن النبي (ص) ليس هو النبيّ المبشّر به، ويقولون هو من عند الله وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) .

الرد على مقالتهم الرابعة الآيات [79 - 92]

الرد على مقالتهم الرابعة الآيات [79- 92] ثم قال تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [الآية 79] . فذكر الرد على مقالتهم الرابعة، وهي زعمهم أن عيسى (ع) كان يدّعي الألوهية، ويأمر قومه بعبادته، فرد عليهم بأنه ما كان لبشر أن يؤتيه الكتاب والحكمة والنبوة ثم يأمر الناس بمثل ذلك، فيصير بهم إلى الكفر بعد الإسلام الذي كانوا عليه من قبله، ثم ذكر أن هذا الإسلام كان ميثاقه على النبيين وأتباعهم أن يصدّقوا الرسول المنتظر الذي يجيء به، فمن تولّى عنه بعد ذلك يكون فاسقا. ثم أنكر عليهم أن يبغوا غير هذا الإسلام، لأنه دين الفطرة الذي يؤمن به كل من في السماوات والأرض من العقلاء وغيرهم طوعا وكرها، إذ يخضعون جميعا لله وحده. ثم أمر النبي (ص) أن يذكر لهم أنه هو الدين الذي أنزل على إبراهيم والأنبياء بعده من ذريته، وأنه يؤمن بهم جميعا ولا يفرّق بينهم، وأن من يتّبع غير الإسلام الذي دعوا إليه فلن يقبل منه، ثم ذكر أن مثل هؤلاء القوم الذين كفروا بعد إيمانهم، وشهادتهم أن الرسول المنتظر حق، لا ترجى هدايتهم، وأن جزاءهم على ذلك اللعنة الخالدة والعذاب الشديد، وأن من تاب منهم بعد ذلك وأصلح فإن الله يغفر له ما سبق منه، وأن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا بعد ظهور الإسلام كفرا لن تقبل توبتهم، ولن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا إذا تقرّب به إلى الله مع كفره، ولو افتدى به يوم القيامة لم ينفعه، فلن ينالوا البرّ حتى ينفقوا في دنياهم مما يحبون وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) . الرد على مقالتهم الخامسة الآيات [93- 99] ثم قال تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) . فذكر الرد على مقالتهم الخامسة، وهي قولهم للنبي (ص) : إنك تدّعي أنك على ملّة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل مع أنها حرام في تلك الملة؟ وقد رد عليهم بأن ذلك كان حلالا في ملّة

تثبيت المؤمنين بعد رد مقالاتهم الآيات [100 - 120]

إبراهيم إلى أن حرّمه إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، على نفسه، فبقيت تلك الحرمة في أولاده، وذكر أن التوراة تشهد بذلك عليهم، ثم أمرهم بعد هذا أن يتبعوا ما جاء به النبي (ص) من ملة إبراهيم، وذكر أن البيت الحرام الذي يتوجه المسلمون إليه من بناء إبراهيم وابنه إسماعيل، وفيه آيات بينات، مقام إبراهيم وأمن الناس عنده وفرض الحج إليه على الناس جميعا. ثم وبخهم على كفرهم بآياته بعد هذا كله، إلى أن قال: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) . تثبيت المؤمنين بعد رد مقالاتهم الآيات [100- 120] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) ، فأخذ يثبّت المؤمنين ويحذرهم من التأثر بمقالاتهم، وذكر أنهم إن يطيعوهم يردوهم إلى الكفر بعد إيمانهم، ولا يليق بهم أن يعودوا إلى الكفر بعد هدايتهم. ثم أمرهم أن يتقوه حقّ تقواه فلا يسمعوا لأعدائه، وأن يعتصموا بحبله جميعا ولا يعودوا إلى ما كانوا عليه من التفرق، وأن يذكروا نعمته عليهم إذ كانوا أعداء فألّف بينهم، وأن يجعلوا منهم أمة متحدة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولا تكون كأهل الكتاب الذين ضلّوا فجعلوا يدعون إلى الكفر، فاستحقوا عذاب الله في يوم تبيضّ فيه وجوه المؤمنين، وتسودّ وجوه الكافرين، ثم نوّه بشأن ما يتلوه من هذه الآيات الداعية إلى خير الناس، وذكر أن له ما في السماوات وما في الأرض وإليه ترجع الأمور كلها، ليحاسب الناس على خيرها وشرها. ثم ذكر أن المؤمنين كانوا بهذه الهداية خير أمة أخرجت للناس، وأن أهل الكتاب لو آمنوا مثلهم لكان خيرا لهم، لأن أكثرهم فاسقون يفسدون في الأرض، ثم ذكر أنهم ضعاف لا يضرونهم إلا بمثل تلك المقالات، وأن اليهود منهم قد ضربت عليهم الذلة إلا أن يدخلوا في عهدهم، ثم ذكر أنهم ليسوا في هذا سواء، لأن منهم قوما انقطعوا لعبادته، ولم يدخلوا في ما دخل فيه جمهورهم من كفرهم، وذكر

تثبيت المؤمنين بعد أحد الآيات [121 - 189]

أنه لن يضيع عنده ما يفعلونه من خير، ثم ذكر أن الكافرين منهم لن تغني عنهم أموالهم شيئا من عذابه، وأن مثل ما ينفقون في ملاذهم كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فلم تبق منه شيئا. ثم نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة منهم بعد أن حذّرهم من إطاعتهم، لأنهم يضمرون لهم العداوة، ولا يليق بهم أن يحبوهم وهم لا يحبونهم، وإن تمسسهم حسنة تسؤهم، وإن تصبهم سيئة يفرحوا بها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) . تثبيت المؤمنين بعد أحد الآيات [121- 189] ثم قال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) ، فذكر هزيمة المؤمنين في غزوة أحد، وهي المصيبة التي ذكر أن أهل الكتاب فرحوا بإصابتهم بها، وقد حاولوا أن يؤثروا بها في إيمانهم، كما حاولوا أن يؤثروا في هذا الإيمان بمقالاتهم، فأمرهم أن يذكروا إذ غدا النبي (ص) يبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال، وإذ همّت طائفتان منهم أن تفشلا في أول القتال بتأثير المنافقين من اليهود والمشركين، وكان المنافقون قد انهزموا عمدا ليؤثروا فيهم، ثم ذكر لهم أنّه نصرهم ببدر، وهم في ذلة وقلة، والمشركون في عزة وكثرة، ليخطّئهم في تأثرهم بانهزام المنافقين، ثم ذكر أنه نصرهم في بدر ليكون بشرى لهم ولتطمئن قلوبهم به، وليقطع طرفا من المشركين أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم. فالأمر في ذلك له وحده يتصرف فيهم كما يشاء، وهو الذي له ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. ثم ذكر بعد هذا تحريم الربا على المؤمنين، لأنه هو الذي كان يصل بينهم وبين اليهود، فأراد أن يقطع هذه الصلة بينهم بعد أن ظهرت في هذه الغزوة عداوتهم، لينقذهم من دسائسهم وتحكّمهم فيهم بأموالهم، ولينهض بهم في هذه المحنة التي حلّت بهم، وكان اليهود يقرضونهم بالربا الفاحش الذي أفقرهم وأضعفهم، وقد بدأ بهذا التدبير اهتماما بعد ذكر هذه الغزوة، ثم أمرهم أن يسارعوا إلى مغفرة تمحو ما حصل

من مخالفاتهم فيها، وتوصلهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، وهم الذين ينفقون في السّرّاء والضّرّاء، إلى غير ذلك مما ذكره من أوصافهم. ثم ذكر لهم أنه قد حصلت سنن من قبلهم فيما بين المؤمنين والمكذبين انتهت بهلاك المكذبين، وذكر أن في هذا بيانا وهدى وموعظة لهم، ونهاهم أن يهنوا ويحزنوا لما أصابهم وهم الأعلون، وإذا كانوا قد مسّهم قرح في غزوة أحد، فقد مس المشركين قرح مثله في غزوة بدر، والأيام دول بين الناس، ومثل هذا يميز الله به بين المؤمنين الصادقين وغيرهم، ويتخذ به شهداء يكونون قدوة في الشهادة لمن بعدهم، وقد كانوا يتمنون الشهادة فقد رأوها في إخوانهم وهم ينظرون. ثم ذكر لهم أن محمدا (ص) ما هو إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل، ووبخهم على فرارهم إلى المدينة حينما أشيع أنه قد قتل، وذكر أن كل نفس لها أجل لا يقدمه القتال ولا يؤخره الفرار، وأن من يرد ثواب الدنيا فيفرّ من القتال يؤته منها ويحرمه ثواب الآخرة، ومن يرد ثواب الآخرة يؤته منها ولا يحرمه ثواب الدنيا، ثم ذكر أن كثيرا من الأنبياء قاتل معهم ربّيّون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، فنصرهم الله على أعدائهم، وآتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. ثم أخذ يحذر المؤمنين من إطاعة الكافرين في التأثير عليهم بهزيمتهم، لأنهم قالوا لهم: لقد وعدكم النصر ولو كان صادقا ما هزمتم. فذكر لهم أنه مولاهم وهو خير الناصرين، وأنه سيلقي في قلوب الكافرين الرّعب مع انتصارهم في أحد فلا ينتصرون بعده، وأنه صدقهم وعده في أحد فنصرهم في أول الأمر، ولم يهزموا إلا بعد أن خالف الرّماة أمره، فلم يثبت إلا قليل منهم في أماكنهم التي أمروا بالثبات فيها ولو نصروا، وتركها أكثرهم إلى جمع الغنائم فأخذوا من ورائهم، ثم ذكر أنهم انهزموا بعد هذا لا يلوون على أحد ولا يسمعون دعاء النبي (ص) لهم بالرجوع إليه، فأثابهم الله غمّ أحد بدل غم المشركين في بدر، لكيلا يحزنوا على ما فاتهم ولا ما أصابهم. ثم ذكر أنه بعد هذا ثبّت قلوب الذين ثبتوا مع النبي (ص) فصمدوا للمشركين، وأن الذين انهزموا أهمتهم أنفسهم وظنوا بالله غير الحق فيما وعدهم به، وردّدوا ما قاله المنافقون في هزيمتهم، وما كان ذلك

منهم إلّا زلة من الشيطان وقد عفا عنهم. ثم رجع إلى تحذيرهم من أولئك الكافرين، وكانوا يقولون لهم: لو تركتم الغزو وأقمتم عندنا كما أشرنا عليكم ما متّم وما قتلتم، فأمر المؤمنين ألا يسمعوا لهم ولا يشاركوهم في مقالهم، ليكون ذلك حسرة في قلوبهم. وذكر أن كل إنسان يحيا ويموت على حسب ما قدّر له، وأن من يقتل أو يموت في سبيله، فله عنده خير من أموالهم التي يحرصون على الحياة من أجلها، وأنه لا بد من حشر كل من يموت أو يقتل ليلقى جزاءه على ما قدّم. ثم ذكر أن لين النبي (ص) لهم بعد ما حصل منهم كان بما فطره الله عليه من الرحمة، وأمره أن يعفو عنهم ويستغفر لهم، وأن يستمر في مشاورته لهم وإن أخطئوا في هذه المرة. فإذا عزم بعد المشاورة فليتوكل عليه لأن النصر بيده، وإذا أراد نصرهم فلا غالب له، وإذا أراد أن يخذلهم فلا ناصر لهم. ثم ذكر أنه ما كان لنبي أن يغلّ في الغنائم ويحتجزها لنفسه، حتى يبادر رماتهم إليها ويكشفوا ظهرهم لعدوهم، وما يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة، ثم توفّى كل نفس ما كسبت ولا يكون من غلى كمن لم يغلّ، لأنه لا يصح أن يكون من اتبع رضوانه بترك الغول كمن غلّ فباء بسخط منه ثم ذكر أنه قد منّ عليهم بأن بعث فيهم رسولا منهم يطهر هم من الرذائل ويعلمهم ما ينفعهم. ومن هذا شأنه لا يمكن أن يغلّهم في غنائم. وذكر أنّه يلومهم على استكثارهم لمن قتلوا منهم بعد أن قتلوا أضعافهم من المشركين في بدر، وقد قالوا في استكثارهم (أنّى هذا) فأجابهم بأنه من عند أنفسهم لما حصل منهم من المخالفات، وأنه حصل بإذنه ليميز المؤمنين من المنافقين الذين أبوا أن يقاتلوا، وقالوا فيمن قتل من المسلمين لو أطاعونا ما قتلوا، وقد أمر النبي (ص) أن يجيبهم بأن يدفعوا عن أنفسهم الموت إن كانوا صادقين في زعمهم أنهم لو أطاعوهم نجوا من القتل، ثم نهى النبي (ص) والمسلمين أن يحسبوا هؤلاء الشهداء أمواتا، وذكر أنهم أحياء عنده، وأنهم فرحون بما آتاهم من فضله، وأنهم مستبشرون

بنجاة إخوانهم الذين ثبتوا في القتال، واستجابوا للنبي (ص) من بعد ما أصابهم القرح، وكان قد طلب منهم الذهاب وراء المشركين، حين بلغه أنهم أرادوا أن يرجعوا إليهم ثانيا ليقضوا عليهم، فلما علموا أن المسلمين يطلبونهم رجعوا عن عزمهم، وقد وعدهم على ذلك عظيم الأجر، وذكر أن بعض الناس ثبطوهم عن طلب المشركين وخوفوهم منهم فلم يسمعوا لهم، وأنهم مضوا في طلبهم ثم انقلبوا بنعمة منه وفضل، إلى غير ذلك مما ذكره في أمرهم. ثم نهى النبي (ص) أن يحزن لمسارعة المنافقين واليهود في مناصرة الكفر، لأنهم لن يضرّوا الله شيئا، وإنما يجنون على أنفسهم الحرمان من الثواب في الآخرة، ولهم فيها عذاب عظيم، ثم نهاهم أن يحسبوا أن إملاءه لهم خير لأنفسهم، لأنه إنما يملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين. ثم ذكر أنه ما كان ليترك المؤمنين على ما كانوا عليه حتى يميز الخبيث من الطيب بهذه المحنة، وأنه ما كان ليطلعهم على غيب القلوب، ولكنه يجتبي من رسله من يشاء للاطّلاع على ذلك الغيب، فيجب عليهم أن يؤمنوا بما يخبرونهم به من أسرارهم. ثم نهى الذين يبخلون من المنافقين بالجهاد بأموالهم أن يحسبوه خيرا لهم، لأنهم سيطوّقون ما بخلوا به في آخرتهم. وذكر أن ميراث السماوات والأرض من أموالهم وغيرها له دون غيره، فلا يصح لهم أن يبخلوا بها عليه. ثم ذكر أنه سمع ما تهكم به اليهود منهم حين طلبوا إلى بذل أموالهم إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [الآية 181] ، وأنه سيكتب ما قالوا من ذلك وما حصل منهم قديما من قتل الأنبياء بغير حق، ثم يذيقهم عليه في الآخرة عذاب الحريق، ثم ذكر أنهم تعللوا في ذلك بأنه عهد إليهم ألّا يؤمنوا ويجاهدوا إلا مع رسول يأتيهم بقربان تأكله نار تنزل من السماء، وكذبهم في ما تعللوا به بأنهم قد جاءتهم رسلهم بذلك فكذبوهم وقتلوهم. ثم ذكر أنهم إذا كذّبوه فليس هو بأول من كذّب من الرسل، فقد كذّب رسل من قبله جاءوا بالمعجزات والكتب والكتاب المنير، ثم هدّدهم بأن كل نفس ذائقة الموت، وإنما يوفّون أجورهم يوم القيامة، فالفائز من فاز في ذلك اليوم، ولا قيمة للحياة الدنيا التي يحرصون عليها.

الخاتمة الآيات [190 - 200]

ثم ذكر للمؤمنين أنهم سيختبرون في أموالهم وأنفسهم بالجهاد بعد أحد، وأنهم سيسمعون من أهل الكتاب والمنافقين أذى كثيرا كما سمعوا في هذه الغزوة، وأنهم، إذا صبروا على ذلك وداروهم، فإن ذلك من عزم الأمور، وصواب التدبير. ثم ذكر لأهل الكتاب أنه قد أخذ عليهم الميثاق أن يبينوا ما عندهم من البشارات بالنبي المنتظر، ثم نهى النبيّ (ص) أن يحسب الذين يفرحون منهم بما أوتوا من التلبيس والكيد للمسلمين ويحبون مع هذا أن يحمدوهم بمفازة من عذاب الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب أليم وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) . الخاتمة الآيات [190- 200] ثم قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) . فختم السورة بالتنويه بالمؤمنين بعد أن انتهى من المعاندين من أهل الكتاب والمنافقين، فذكر أن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب من المؤمنين. وهم الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، إلى غير هذا مما ذكره من أفعالهم وأقوالهم. ثم ذكر ما وعدهم به أن يكفّر عنهم سيئاتهم، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عنده، وذكر ما أوعد به أولئك الكافرين على غرورهم بدنياهم وترك التفكر في آياته، وأنهم يتمتعون بذلك قليلا ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. ثم عاد إلى وعد المؤمنين فذكر أن لهم من تلك الجنات نعيما خالدا لا يزول، وذكر أن من أهل الكتاب الذين لم يقعوا في ذلك الغرور من هو مثل أولئك المؤمنين في إيمانهم وخشوعهم، وأن لهم أيضا أجرهم في آخرتهم، ثم ختم ذلك بأمر المؤمنين بالصبر على ما بيّنه من الأذى في هذه السورة فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"آل عمران"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «آل عمران» «1» قد تقدم ما يؤخذ منه مناسبة وضعها. قال الإمام: لما كانت هذه السورة قرينة سورة البقرة، وكالمكملة لها، افتتحت بتقرير ما افتتحت به تلك، وصرّح في منطوق مطلعها بما طوي في مفهوم تلك «2» . وأقول: قد ظهر لي بحمد الله وجوه من المناسبات. أحدها: مراعاة القاعدة التي قررتها، من شرح كل سورة لإجمال ما في السورة التي قبلها، وذلك هنا في عدة مواضع. منها: ما أشار إليه الإمام، فإن أول البقرة افتتح بوصف الكتاب بأنه لا ريب فيه. وقال في آل عمران: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [الآية 3] . وذلك بسط وإطناب، لنفي الريب عنه. ومنها: أنه ذكر في البقرة إنزال الكتاب مجملا، وقسمه هنا إلى آيات محكمات، ومتشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله «3» . ومنها: أنه قال في الآية 4 من سورة البقرة: وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، وقال هنا:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. [.....] (2) . مفهوم مطلع البقرة: الدعوة إلى الإيمان بالله في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة/ 3] . وهو مصرح به في مطلع هذه السورة بقوله جلّ وعلا: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) . (3) . وذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [الآية 7] .

وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ مفصلا. وصرح بذكر الإنجيل هنا، لأن السورة خطاب للنصارى، ولم يقع التصريح به في سورة البقرة بطولها، وإنما صرح فيها بذكر التوراة خاصة، لأنها خطاب لليهود. ومنها: أن ذكر القتال وقع في سورة البقرة مجملا بقوله المكرر في الآيتين 190 و 244: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقوله في الآية 216: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ. وفصلت هنا قصة أحد بكاملها «1» . ومنها: أنه أوجز في الآية 154 من سورة البقرة ذكر المقتولين في سبيل الله بقوله: أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ وزاد هنا: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ- فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ (169) . وذلك إطناب عظيم. ومنها: أنه قال في البقرة: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ [الآية 247] . وقال هنا: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) ، فزاد إطنابا وتفصيلا. ومنها: أنه حذر من الربا في البقرة، ولم يزد على لفظ الربا إيجازا «2» . وزاد هنا قوله: أَضْعافاً مُضاعَفَةً [الآية 130] ، وذلك بيان وبسط. ومنها: أنه قال في البقرة: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ [الآية 196] ، وذلك إنما يدل على الوجوب إجمالا. وفصله هنا بقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [الآية 97] ، وزاد: بيان شرط الوجوب بقوله: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [الآية 97] . ثم زاد: تكفير من جحد وجوبه بقوله: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) . ومنها: أنه قال في البقرة في أهل الكتاب: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ [الآية 83] ، فأجمل القليل. وفصله هنا بقوله:

_ (1) . وذلك في قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ، إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [الآية 152] إلى وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) . (2) . وذلك في قوله تعالى من «البقرة» : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [الآية 275] ، وقوله منها: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [الآية 276] .

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) . ومنها: أنه قال في البقرة: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) . فدل بها على تفضيل هذه الأمة على اليهود تعريضا لا تصريحا، وكذلك قوله في سورة البقرة: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الآية 143] . في تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم بلفظ فيه يسير إبهام، وأتى في هذه بصريح البيان فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [الآية 110] . فقوله: كُنْتُمْ، أصرح في قدم ذلك من جعلناكم. ثم زاد وجه الخيرية بقوله: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الآية 110] «1» . ومنها: أنه قال في البقرة: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ [الآية 188] . وبسط الوعيد هنا بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [الآية 77] . وصدّره بقوله: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [الآية 75] . فهذه عدة مواضع وقعت في البقرة مجملة، وفي آل عمران مفصّلة. الوجه الثاني: أن بين هذه السورة وسورة البقرة اتحادا، وتلاحما مؤكّدا، لما تقدم من أن البقرة بمنزلة إزالة الشبهة، ولهذا تكرر هنا ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب: من إنزال الكتاب، وتصديقه للكتب التي قبله، والهدى إلى الصراط

_ (1) . ومن الربط الوثيق بين الفاتحة والبقرة وآل عمران: أن الصراط المستقيم ذكر مجملا في الفاتحة، ثم عينه في الآية الثاني من البقرة بقوله: ذلِكَ الْكِتابُ. ثم عين طريق السير عليه في آل عمران بقوله: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) . ثم فصل وسيلة الاعتصام بالله، بالاعتصام بحبل الله، فلما كان الصراط المستقيم دقيقا جدا، ويحتاج السائر عليه الى غاية اليقظة، حث الله على الاعتصام بكتاب الله، وسماه حبلا ليناسب الصراط الدقيق، حيث يحمى السائر عليه من الزلل. وحذر من الفرقة، ودعا الى التذكير الدائم عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعتبر بمثابة التعليم الدائم، وتصحيح الأخطاء الناشئة عن الهوى. وانظر لزيادة البيان (نظم الدرر للبقاعي الجزء الأول ورقة: 1177، ب) .

المستقيم «1» . وتكررت في البقرة آية: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ [الآية 136] بكمالها، ولذلك أيضا ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك، أو لازم في تلك، أو ملازم له. فذكر هناك خلق الناس، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام «2» . وذكر هناك مبدأ خلق آدم، وذكر هنا مبدأ خلق أولاده «3» . وألطف من ذلك: أنه افتتح البقرة بقصة آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم، وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب، وهو عيسى (ع) «4» ، ولذلك ضرب له المثل بآدم، واختصت البقرة بآدم، لأنها أول السور، وآدم أول في الوجود وسابق، ولأنها الأصل، وهذه كالفرع والتتمة لها، فمختصة بالإعراب [والبيان] . ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا، وأنكروا وجود ولد بلا أب، ففوتحوا بقصة آدم، لتثبت في أذهانهم، فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشبهها من جنسها. ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم في قوله: كَمَثَلِ آدَمَ [الآية 59] . والمقيس عليه لا بد من أن يكون معلوما، لتتم الحجة بالقياس، فكانت قصة آدم والسورة التي هي فيها جديرة بالتقدم. ومن وجوه تلازم السورتين: أنه قال في البقرة في صفة النار: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الآية 24] ، ولم يقل في الجنة: أعدت للمتقين مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا «5» ، وقد ورد ذلك في سورة آل عمران بقوله جل وعلا: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) . فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة.

_ (1) . وذلك قوله سبحانه وتعالى في أول آل عمران: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ. (2) . وذلك قوله عزّ وجل: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الآية 6] . (3) . خلق آدم في البقرة في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الآية 30] وخلق أولاده في آل عمران في قوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [الآية 6] . (4) . وذلك قوله عز وجل: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) . (5) . وذلك قوله تعالى في البقرة: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) .

وبذلك يعرف أن تقديم آل عمران على النساء أنسب من تقديم النساء عليها. وأمر آخر استقرأته، وهو: أنه إذا وردت سورتان بينهما تلازم واتحاد، فإن السورة الثانية تكون خاتمتها مناسبة لفاتحة الأولى للدلالة على الاتحاد. وفي السورة المستقلة عما بعدها يكون آخر السورة نفسها مناسبا لأولها. وآخر آل عمران مناسب لأول البقرة، فإنها افتتحت بذكر المتقين، وأنهم المفلحون، وختمت آل عمران بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الآية 200] . وافتتحت البقرة بقوله: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [الآية 4] وختمت آل عمران بقوله: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [الآية 199] . ف لله الحمد على ما ألهم. وقد ورد أنه لما نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة/ 245] . قال اليهود: يا محمد، افتقر ربّك، فسأل القرض عباده، فنزل قوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [الآية 181] «1» . فذلك أيضا من تلازم السورتين. ووقع في البقرة حكاية عن إبراهيم: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ [الآية 129] . ونزل في هذه: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ [الآية 164] . وذلك أيضا من تلازم السورتين.

_ (1) . أخرجه ابن جرير في التفسير: 7/ 442، وعزاه الى ابن أبي سلم وابن مردويه.

المبحث الرابع مكنونات سورة"آل عمران"

المبحث الرابع مكنونات سورة «آل عمران» «1» 58- قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [الآية 12] . هم يهود بني قينقاع «2» . 59- فِئَةٌ تُقاتِلُ [الآية 13] . هم أهل بدر، ثلاث مائة وثلاثة عشر «3» . 60- وَأُخْرى كافِرَةٌ [الآية 13] . كانوا ألفا. أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود. وأخرج عن الربيع قال: كانوا تسع مائة وخمسين. 61- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ [الآية 23] . سمّي منهم: النّعمان «4» بن عمرو، والحارث بن زيد، أخرجه ابن جرير «5» وابن أبي حاتم عن ابن عباس. 62- وَآلَ عِمْرانَ [الآية 33] . أراد: موسى وهارون. وقيل: عيسى وأمّه. حكاه الكرماني، ورجّحه ابن عسكر والسّهيلي. 63- امْرَأَتُ عِمْرانَ [الآية 35] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . كما رواه ابن إسحاق: انظر «سيرة ابن هشام» 1/ 252. (3) . تخريجه في الفقرة التالية، وانظر البخاري (عدة أصحاب بدر) ، وانظر الفقرة رقم 47 وقد سقط هذا المبهم من النسخ المطبوعة. [.....] (4) . كذا في «الدر المنثور» 2/ 14، وفي «الطبري» : «نعيم» والاختلاف في أسماء يهود كثير مشكل!. (5) . 3/ 145، وابن إسحاق وابن المنذر. «الدر المنثور» 2/ 14.

أخرج ابن المنذر، عن عكرمة أن اسمها حنّة «1» . وقال ابن إسحاق: اسمها حنّة بنت قابوذ «2» وقيل: فاقوذ بن قبيل «3» . أخرجه ابن جرير. 64- فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ [الآية 39] . قال السّدّي: جبريل. أخرجه ابن جرير. 65- وَامْرَأَتِي عاقِرٌ [الآية 40] . اسمها: إشياع بنت فاقوذ. وأخرج ابن أبي حاتم، عن شعيب الجبائي «4» قال: كان اسمها أشيع. 66- إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [الآية 44] . أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ، عن سعيد بن إسحاق الدمشقي في قوله: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ قال: على نهر بحلب يقال له قويق «5» . 67- مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [الآية 39] . قال ابن عباس: عيسى بن مريم. أخرجه ابن أبي حاتم «6» . 68- كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [الآية 49] . هو الخفاش. أخرجه ابن جرير [عن ابن جريج] . 69- الْحَوارِيُّونَ [الآية 52] . سمي منهم: قطرش، ويعقويس، ولحيس، واندراييس، وقيلس، وابن ثلما، ومتنا، ويوقاس، ويعقوب ابن حلقيا، ويداوسيس، وقياسا، ويودس، وكدمابوطا، وسرجس، وهو الذي ألقي عليه شبهه. أخرج ذلك ابن جرير عن ابن إسحاق «7» .

_ (1) . وهو موافق لما في روايات «الدر المنثور» 2/ 18 و 19، «الطبري» 3/ 158، و «حنة» : اسم عبري، معناه: «حنان، حنون، نعمة» ، كما في «قاموس الكتاب المقدس» ص: 324. (2) . كذا في النسخ الخطية وفي «الطبري» ط شاكر وغيرها: «فاقوذ» . (3) . كذا في النسخ الخطية، وفي «تفسير الطبري» ط شاكر 6/ 328: «فاقوذ بن قبيل» وفي ط الحلبي 3/ 235 والخشاب: «قتيل» بدل «قبيل» . (4) . بلا تشديد للباء، راجع «الأنساب» 3/ 176 للسمعاني، وهي نسبة إلى جبل في بلاد اليمن (5) . راجع «معجم البلدان» و «تهذيب ابن عساكر» 6/ 121. (6) . و «الطبري» 3/ 172. (7) . انظر أسماء الحواريين في «سيرة ابن هشام» 2/ 608، وفيها اختلاف عما هو مثبت في الخطيتين، وانظر أسماء الاثني عشر في «قاموس الكتاب المقدس» ص: 403.

70- وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا [الآية 72] . وقال السّدّي: هم اثنا عشر حبرا من اليهود. أخرجه ابن جرير. وسمي منهم: عبد الله بن الضّيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف «1» . أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. 71- إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ [الآية 77] . قال عكرمة: نزلت في أبي رافع، وكنانة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب. 72- كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ [الآية 86] . سمّي منهم: الحارث بن سويد الأنصاري. أخرجه عبد الرزاق عن مجاهد، وابن جرير عن السّدّي. وأخرج عن عكرمة: أنها نزلت في اثني عشر رجلا، منهم: أبو عامر الراهب، والحارث بن سويد بن الصامت، ووحوح بن الأسلت. زاد ابن عسكر: وطعمة بن أبيرق. 73- إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الآية 100] . قال زيد بن أسلم «2» : عنى به شاس بن قيس اليهودي. أخرجه ابن جرير. قال السّهيلي: هم عمرو بن شاس، وأوس بن قبطي، وجبار بن صخر. 74- مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ [الآية 113] . قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومن أسلم معهم من يهود. أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: هم عبد الله بن سلام، وأخوه ثعلبة بن سلام، وسعية «3» ، ومبشر، وأسيد، وأسد ابنا كعب. 75- إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ [الآية 122] .

_ (1) . في «الإتقان» 2/ 149: «عمرو» . (2) . زيد بن أسلم: أبو عبد الله (أو أبو أسامة) المدني، ثقة عالم، فقيه مفسر، كان مع عمر بن عبد العزيز أيام خلافته، روي عنه الكثير من الآثار، توفي سنة 136. (3) . «الطبري» : «شعية» .

هما: بنو حارثة، وبنو سلمة. أخرجه البخاري ومسلم، عن جابر بن عبد الله «1» . 76- إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 149] . قال السّدّي: يعني أبا سفيان بن حرب. أخرجه ابن أبي حاتم «2» . 77- وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [الآية 154] . هم المنافقون. أخرجه البخاري «3» والترمذي، وغيرهما عن أبي طلحة. 78- يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ [الآية 154] . قال ذلك عبد الله بن أبيّ. أخرجه ابن جرير «4» ، عن ابن جريج. 79- يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا [الآية 154] . قال ذلك معتّب بن قشير. أخرجه ابن أبي حاتم، وغيره عن الزّبير. و «5» : عبد الله بن أبيّ. أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن «6» . 80- إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ [الآية 155] . أخرج ابن مندة في «الصّحابة» «7» من طريق الكلبي، عن أبي صالح «8» . عن ابن عباس في قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ قال نزلت في عثمان «9» . ورافع بن المعلّى، وخارجة بن زيد.

_ (1) . البخاري: (4051) في المغازي و (4558) في التفسير، ومسلم (2505) في فضائل الصحابة. (2) . وابن جرير في «تفسير» 4/ 80. [.....] (3) . الحديث في البخاري في التفسير، باب أَمَنَةً نُعاساً برقم: (4562) وفي المغازي: (4068) ، والترمذي (3011) في التفسير لكن تعيين المنافقين جاء في الترمذي فقط. (4) . في «تفسيره» 4/ 94. (5) . أي وممن قال ذلك أيضا. (6) . انظر «الطبري» 4/ 94. (7) . كتاب «الصحابة» هو «معرفة الصحابة» لم يطبع بعد ونسخه الخطية عزيزة. (8) . هذا الإسناد من أوهى الأسانيد وأضعفها، حتى إن الحافظ بن حجر قال عنه: هذه سلسلة الكذب، لا سلسلة الذهب. (9) . هو ابن عفان، كما في رواية ابن إسحاق عن «الطبري» 4/ 96.

زاد عكرمة: والوليد بن عقبة، وأبي حذيفة بن عتبة، وسعد بن عثمان وعقبة بن عثمان، أخوين من زريق. أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير «1» ، وابن المنذر. 81- وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ [الآية 156] . قال ذلك عبد الله بن أبيّ. أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد. 82- وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [الآية 167] . القائل ذلك: عبد الله والد جابر بن عبد الله الأنصاري. والمقول لهم: عبد الله بن أبيّ، وأصحابه. أخرجه ابن جرير عن السّدّي. 83- الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا [الآية 168] . قال الرّبيع وغيره «2» : نزلت في عبد الله بن أبيّ وأصحابه. أخرجه ابن أبي حاتم، وابن جرير. 84- وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً [الآية 169] . قال أبو الضّحى «3» : نزلت في قتلى أحد وهم سبعون: أربعة من المهاجرين، وسائرهم من الأنصار. أخرجه «4» سعيد بن منصور. 85- الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [الآية 172] . سمّي منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزّبير، وسعد، وطلحة، وابن عوف، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو عبيدة بن الجراح، في سبعين رجلا.

_ (1) . 4/ 96. لكن عكرمة لم يزد إلا أبا حذيفة بن عتبة. وأما سعد بن عثمان، وعقبة بن عثمان، فقد زاده ابن إسحاق، فهو سبق نظر من المؤلف رحمه الله تعالى. ولم أر في «الطبري» ذكرا للوليد بن عقبة. (2) . ابن إسحاق، والسّدّي، وابن جريج. (3) . أبو الضّحى: مسلم بن صبيح الهمداني الكوفي، ثقة فاضل، مات سنة (100) هـ. (4) . والأربعة الذين هم من المهاجرين، حمزة بن عبد المطلب: ومصعب بن عمير، وعثمان بن شماس، وعبد الله بن جحش. «الدر المنثور» 2/ 94- 95. وانظر «تفسير الطبري» 4/ 113.

أخرجه ابن جرير «1» من طريق العوفي عن ابن عباس. وسمّى عكرمة: جابر بن عبد الله. أخرجه ابن جرير. 86- الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [الآية 173] . قائل ذلك أعرابيّ من خزاعة. أخرجه ابن مردويه عن أبي رافع. وقال ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: ركب من عبد القيس. أخرجه ابن جرير. وقال السّهيلي: نعيم بن مسعود الأشجعي. 87- لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [الآية 181] . قائل ذلك: فنحاص اليهودي من بني مرثد. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وابن جرير عن السّدّي. وأخرج «2» عن قتادة: أنه حييّ بن أخطب. قال ابن عسكر: وقيل: هو كعب بن الأشرف. 88- لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا [الآية 188] . قال ابن عباس: يعني فنحاص، وأشيع، وأشباههما من الأخبار. أخرجه ابن جرير. 89- مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ [الآية 193] . قال محمد بن كعب «3» : هو القرآن.

_ (1) . 4/ 117- 118. بسند ضعيف. وروى الحميدي في «مسنده» برقم (263) والطبري (8239) عن عائشة فذكرت: أبا بكر، والزبير بن العوام. وروى نحو حديث الحميدي البخاري في «صحيحه» عن عائشة رضي الله عنها برقم (4077) في المغازي، وابن ماجة، وأحمد، والحاكم 2/ 298، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الدلائل» كما في «الدر المنثور» 2/ 102. وقال الحافظ في «فتح الباري» 7/ 37: وعند ابن أبي حاتم من مرسل الحسن ذكر الخمسة الأولى [أي: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمار بن ياسر] وعند عبد الرزاق من مرسل عروة ذكر ابن مسعود» . ملاحظة: في «فتح الباري» زيادة عمار بن ياسر وهي ليست في «تفسير الطبري» . (2) . «ابن جرير» 4/ 130. (3) . محمد بن كعب القرظيّ: ثقة عالم، قال ابن عون: ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظي. وقال ابن سعد: كان ثقة، ورعا، كثير الحديث، روى له الأئمة الستة. [.....]

وقال ابن جريج: هو محمد (ص) . أخرجهما ابن أبي حاتم وغيره «1» . 90- وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [الآية 199] . نزلت في النّجاشي. كما أخرجه النّسائي من حديث أنس، وابن جرير «2» من حديث جابر. وقال ابن جريج: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه. أخرجه ابن جرير.

_ (1) . «الطبري» 4/ 141. (2) . 4/ 146 رقم (8376) ط شاكر. وقال الشيخ أحمد شاكر: وهذا الحديث ضعيف. انتهى. وانظر تفسير «ابن كثير» 1/ 443.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"آل عمران"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «آل عمران» «1» 1- اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) . أقول: القيّوم من أسماء الله- عز وجل- وكذلك القيّام، وهو الذي لا ندّ له. والقيّوم: فيعول، فهو قيووم، فأعلّت الواو، وأبدلت ياء، وأدغمت فيها. وكأنّ القيّوم مبالغة القائم. وأكثر ما جاء على فيعول يفيد الوصف ف «يوم صيخود» : شديد الحرّ، و «أتان قيدود» : طويلة. وقد يأتي علما، نحو طيفور، وهو طويئر، واسم أبي يزيد البسطامي، وسيحون اسم نهر في ما وراء النهر. وميسون اسم الزبّاء الملكة، وبنت بحدل أم يزيد بن معاوية. ومن الأعلام الحديثة: صيهود وشيبوب. 2- وقال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ. أقول: لقد انتهت الآية الثالثة كما في المصحف الشريف بكلمة الإنجيل، وكان يمكنها أن تنتهي بقوله تعالى: مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ، لأنها متعلقة بها، متصلة بالمعنى محتاجة إلى ذلك. غير أن هذه التكملة الضرورية كانت من الآية 4، في حين كان يمكن الآية الرابعة أن تبدأ بقوله تعالى: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ، ولكن بسبب من الحرص على أن تكون الآيات متناسبة في طولها كان ما هو ثابت في المصحف. 3- وقال تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [الآية 7] . جاء في «لسان العرب» ، مادة «شبه» : وفي التنزيل العزيز: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. قيل: معناه يشبه بعضها بعضا. قال أبو منصور: وقد اختلف المفسرون في تفسير قوله: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فروي عن ابن عباس أنه قال: المتشابهات: الم، الر، وما اشتبه على اليهود من هذه ونحوها. قال أبو منصور: وهذا لو كان صحيحا عن ابن عباس كان مسلّما له، ولكن أهل المعرفة بالأخبار وهّنوا إسناده، وكان الفرّاء يذهب إلى ما روي عن ابن عباس. وروي عن الضحّاك أنه قال: المحكمات ما لم ينسخ، والمتشابهات ما قد نسخ. وقال غيره: المتشابهات: هي الآيات التي نزلت في ذكر القيامة والبعث، ضرب قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ] . وضرب قوله جلّ وعلا: يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) [الواقعة] . فهذا الذي تشابه عليهم، فأعلمهم الله الوجه الذي ينبغي أن يستدلوا به على أن هذا المتشابه عليهم كالظاهر لو تدبّروه، فقال تعالى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس] . أي: إذا كنتم أقررتم بالإنشاء والابتداء فما تنكرون من البعث والنشور، وهذا قول كثير من أهل

العلم، وهو بيّن واضح، ومما يدلّ على هذا القول قوله عزّ وجل: فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [الآية 7] . أي: أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله أنّ تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلّا الله عزّ وجلّ، والدليل على ذلك قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف/ 53] يريد قيام الساعة وما وعدوا من البعث والنشور. وأما قوله سبحانه: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [البقرة/ 25] فإنّ أهل اللغة قالوا: معنى «متشابها» يشبه بعضه بعضا في الجودة والحسن. وقال المفسرون: «متشابها» يشبه بعضه بعضا في الصورة، ويختلف في الطعم، ودليل المفسرين قوله تعالى من الآية نفسها: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ. وفي الحديث في صفة القرآن: «آمنوا بمتشابهه واعملوا بمحكمه» ، المتشابه: ما لم يتلقّ معناه من لفظه، وهو على ضربين: أحدهما إذا ردّ إلى المحكم عرف معناه. والآخر ما لا سبيل إلى معرفة حقيقته، فالمتتبّع له مبتغ للفتنة لأنه لا يكاد ينتهي إلى شيء تسكن نفسه إليه. أقول: لقد صرفت لغة القرآن مادة «تشابه» إلى مصطلح علمي من مصطلح التنزيل، ابتعادا عن الأصل في قولنا: تشابه الشيئان مثل اشتبها، أي: أشبه كل واحد منهما صاحبه. 4- وقال تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [الآية 9] . قال الزمخشري «في الكشاف 1/ 339» : جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ، أي: تجمعهم لحساب يوم، أو لجزاء يوم كقوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن/ 9] . وقرئ: (جامع الناس) ، على الأصل. أقول: والقراءة الشهيرة والمثبتة في التنزيل العزيز هي بإضافة «جامع» إلى الناس. وهذا يعني أنه، سبحانه، سيجمعهم في يوم لا ريب فيه، وهو قيام الساعة. والدلالة على الاستقبال، وهذا يخالف ما ذهب إليه النحويون كما سنبيّن:

قال النحويون: لا يخلو اسم الفاعل من أن يكون مقرونا ب «أل» أو مجرّدا، فإن كان مجرّدا عمل عمل فعله، من الرفع والنصب إن كان مستقبلا أو حالا، نحو: هذا ضارب زيدا الآن، أو غدا، وإنما عمل لجريانه على الفعل الذي هو بمعناه، وهو المضارع. ومعنى جريانه عليه أنه موافق له في الحركات والسكنات، لموافقة «ضارب» ليضرب، فهو مشبه للفعل الذي هو بمعناه لفظا ومعنى. وإن كان بمعنى الماضي لم يعمل لعدم جريانه على الفعل الذي هو بمعناه، فهو مشبه له معنى لا لفظا، فلا تقول: «هذا ضارب زيدا أمس» بل يجب إضافته، فتقول: «ضارب زيد أمس» ، وأجاز الكسائي إعماله، وجعل منه قوله تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف/ 18] ، فذراعيه منصوب بباسط وهو ماض، وخرّجه غيره على أنه حكاية حال ماضية. وقالوا: وإذا وقع اسم الفاعل صلة للألف واللام، عمل ماضيا ومستقبلا وحالا، لوقوعه موقع الفعل، إذ حقّ الصلة أن تكون جملة فتقول هذا الضارب زيدا الآن أو غدا أو أمس، هذا هو المشهور من قول النحويين. وزعم جماعة ومنهم الرمّاني: أنه إذا وقع صلة للألف واللام، لا يعمل إلّا ماضيا ولا يعمل مستقبلا ولا حالا ... أقول: وعلى هذا يكون اسم الفاعل في قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ دالّا على المضي لأنه أضيف إلى (الناس) ، ولكن الحقيقة أنه دالّ على الاستقبال، ومع ذلك كانت الإضافة. وهذا يدل على أن استقراء النحاة غير واف، فلم يستوفوا ما ورد في لغة التنزيل. ومثل هذا ما ورد في هذه السورة نفسها، وهو قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية/ 185] . فالدلالة على المستقبل حاصلة، ومع ذلك أضيف اسم الفاعل. وقرأ اليزيدي: (ذائقة الموت) على

الأصل. وقرأ الأعمش: (ذائقة الموت) بطرح التنوين مع النصب كقول أبي الأسود: فذكّرته ثم عاتبته ... عتابا رقيقا وقولا جميلا فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا وقد أضيف اسم الفاعل (ذائقة) إلى (الموت) في آيتين أخريين هما: [الأنبياء/ 35، والعنكبوت/ 57] . 5- وقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [الآية 18] . قال الزمخشري في «الكشاف 1/ 343» : قائِماً بِالْقِسْطِ، مقيما للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال، ويثيب ويعاقب، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض، والعمل على السويّة فيما بينهم. وانتصابه على أنه حال مؤكّدة منه كقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [البقرة/ 91] . فإن قلت لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه؟ ولو قلت جاءني زيد وعمرو راكبا لم يجز؟ قلت إنما جاز لعدم الإلباس كما جاز في قوله: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء/ 72] أن انتصاب نافِلَةً حال عن يعقوب ... أقول: هذه المشكلات اللغوية التاريخية من النماذج التي تقدمها لغة القرآن، والتي تدل على أن لبناء العربية أسلوبا قد أحكم إحكاما لأداء المعاني، فهو طورا واضح بيّن، وطورا فيه إشكال، وجماع هذا أمر يقتضيه البيان القرآني. 6- وقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [الآية 19] . قال الزمخشري في «الكشاف 1/ 345» : « ... إن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده في شيء من الدين. وفيه أن من ذهب إلى تشبيه أو ما يؤدي إليه، كإجازة الرؤية أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور، لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام، وهذا بيّن جليّ كما ترى ... وقد رد الشيخ محمد عليان على قولة الزمخشري من أن الإسلام هو

العدل والتوحيد فقال في حاشيته: «قوله: «فقد آذن أن الإسلام هو العدل تعسف لا يقتضيه النظم الكريم، لكن دعا إليه التعصب ... وبالجملة فالعدل والتوحيد لم ينحصرا في مذهب المعتزلة» . 7- وقال تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الآية 20] . القول في «اتّبعن» أن الأصل هو «اتبعني» بالياء التي هي ياء المتكلم. فلم اجتزئ بالنون المكسورة عن مدة الياء التي يقتضيها المعنى، كما يقتضيها سنن العربية؟ ولم خرج خط المصحف على الأصل؟ لن يكون القول بأن خط المصحف توقيف لا يقاس عليه، جوابا عن هذين السؤالين على صدق هذا القول وأصالته. وأرى أن لغة القرآن قد أصابت كل الإصابة في هذا الرسم، ذلك أن المسألة ليست مسألة رسم خاصة بلغة التنزيل، بل إنها مسألة تتصل بإجادة النظم والحفاظ على نسق موقّع موزون، يخدم الكلمة في بنائها الخاص، كما يخدمها في مجاورتها لما بعدها. ألا ترى أن الاجتزاء بهذا المدّ القصير الذي توفره الكسرة بعد النون عن المد الطويل الذي يتحقق بالياء، يخدم الآية من قوله: فَإِنْ حَاجُّوكَ، فيجنّبها شيئا من الطول، وبذلك يحسن الوقف، والوقف هنا شيء جائز لأرباب التلاوة الفنية، والوقف أحسن من الوصل على جوازه. كل ذلك من تمام حسن الأداء لهذه اللغة الشريفة المختارة. ولو أنك استقريت النماذج الكريمة في آي القرآن التي صير فيها إلى المدّ، وإلى قصره ابتغاء حسن الأداء لوجدت من ذلك الشيء الكثير الذي يثبت أن العربية في القرآن، على إصابتها الفائقة في المعاني، والتحليق في مدارج الفكر، قد عنيت باللفظ وبنائه عناية توفر الحسن والجمال والفن والإبداع. ألا ترى أن الهاء من «فيه» محركة بالكسرة، وأنها في «عنه» محركة بالضمة، ولكنك تجد هذه الهاء في «به» محركة بالكسرة تتبعها في الرسم المصحفي ياء صغيرة؟ إن هذه الياء الصغيرة بعد الهاء من ( «به» ي) ، إشارة إلى القارئ: أنه ملزم

أن يطيل قليلا جدا من الكسرة بعد الهاء، بحيث يتولد من ذلك شيء من مدّ طويل. كل هذا يرمي إلى أن تجوّد التلاوة فيتأتّى من ذلك عربيّة فائقة الأداء ناصعة البيان. ثم إنّ هذا يظهر أن للعربية نظاما في أصوات المد واللين، قصيرها وطويلها، وأن هذا النظام أداة حكيمة في مجيء هذه اللغة رشيقة البناء في مفرداتها وجملها، فقد يقصر الصوت حتى يؤول إلى حركة هي الفتحة والكسرة والضمة، وقد يطول فيكون أصوات المد التي تدعى ألفا وواوا وياء «1» . على أن طول ما يدعى ب «الحركات» ليس ثابتا، فقد يختلف نفر عن آخر في هذا الطول، وقد تختلف الفتحة في طولها عن نظيرتها الفتحة الأخرى في الكلمة الواحدة، ومثل ذلك يقال في الكسرة والضمة، ألا ترى أن الضمة في «حسام» غير الضمة في «كسر» المبنيّ للمجهول. وإذا كان الناس متفاوتين في إخراج هذه الأصوات القصيرة بحسب طولها، فهم متفاوتون أيضا في إعطاء شيء من هذه الفتحة إلى شيء من تلك الكسرة. وهم متفاوتون أيضا في الأصوات الطويلة، فقد يختلف اثنان في مدّ كلمة «شاعر» مثلا، فبعضهم يمد الفتح فيكون الألف، وآخر يقصر الفتح قليلا، فيحمل الضيم على كسرة «العين» فتطول قليلا «2» . ومن أجل حسن الأداء يصار إلى القصر كما أشرنا في أصوات اللين، ألا ترى أن «يا» ، أداة النداء يتحقق فيها المدّ كاملا، إذا وليها صوت متحرك فتقول: «يا عبد الله» ، ولكنها تقصر كثيرا حتى تتحول إلى صوت قصير هو الفتحة إذا وليها صوت ساكن نحو: «يا ابن مالك» . ولقد كان مقدار المدّ مظهرا من مظاهر اللهجات الخاصة في العربية الواسعة الرقعة. وما أظن أن كلمة «سلسل» ، وكلمة «سلسال» ، وهما بمعنى، إلّا شيء من هذا.

_ (1) . لعل من أهم المشكلات اللغوية الصوتية، عدم التفريق في التسمية بين طبيعتين مختلفتين في الأصوات، فالواو والألف والياء، وهي من أصوات المد أو اللين غير الأصوات الصامتة الأخرى في «أمر» و «وجد» ، و «ينع» فالألف في الأولى هي همزة، والواو في الثانية صوت صامت، ومثل ذلك الياء في الثالثة. (2) . قد يتبين هذا واضحا في نطق المغاربة لهذه الألفاظ الفصيحة.

ثم ألا ترى أن طائفة من العرب في عصرنا يقولون «عمود» ، وآخرين يقولون: «عامود» في نطقهم الدارج. 8- وقال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) . تشتمل هذه الآية على فقر متسقة النظام، متساوقة يكاد يتصل بعضها ببعض، وهذا النظام يتيح لمن يتلو أن يعمد إلى ضرب من التقسيم يسعفه بوقفات إن شاء، لا تنال من الوحدة الموضوعية التي تجعل من هذه الأقسام ما يأخذ بعضها برقاب بعض. ومثل هذا يتحقق في الآية اللاحقة 27: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) . قلت: إن هذه الفقر تتيح لمن يتلو أن يقف وقفات، إن أحسّ أنّ الوقف يحسن في تجويد التلاوة، والوقف جائز، على أنه أحسن من الوصل، وقد يكون العكس، وهو جواز الوقف في حين يكون الوصل أولى. هذا كله من الرّخص فسحة للقارئ في تجويد التلاوة المحكمة. 9- وقال تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [الآية 37] . أقول: لا بد من وقفة على الفعل «دخل» ، واستعماله في لغة التنزيل. لقد دلّ استقراؤنا للآيات التي اشتملت على هذا الفعل أنه لا بد أن يتطلب ما يتعلق به من الأسماء التي تفيد «المكانية» . وفي هذه الحالة، يصل الفعل إلى مدخوله من غير أداة واسطة كحروف الخفض، ولنجتزئ من الآيات الكثيرة التي تفيد هذه الخصوصية بالآيات التي سنوردها: قال تعالى: 1- وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها [القصص/ 15] . 2- أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [البقرة/ 214] . 3- لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب/ 53] . 4- ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) [الحجر] .

ومثل هذه الآيات آيات أخرى استعمل فيها الفعل هذا الاستعمال. وقد يطوى ذكر المكان الذي يصير إليه الداخل، فيكون الدخول على الآدميين، وهنا لا بد من حرف الجر «على» كما في الآيات التي نوردها: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ [يوسف/ 69] . إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ [ص/ 22] . وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) [الرّعد] . وقد يظهر المكان المدخول فيه مع ذكر الآدميين كقوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [الآية 37] . وقد استعمل فعل الدخول في بضع آيات، قاصرا لازما غير متصل بمتعلق به كقوله تعالى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها. [الأعراف/ 38] . وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا [الأحزاب/ 53] . لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ [يوسف/ 67] . ومن غير شك أن المتعلق وهو الاسم المكاني، أو المدخول عليهم من الآدميين قد طوي ذكره في هذه الآية لعدم الحاجة إليه، وعلى هذا فالاستعمال واحد. هذا كله يتصل باستعمال فعل الدخول في المحسوسات من الأسماء الدالة على الأمكنة والظروف المكانية، واستعماله في الدخول على العاقل من الآدميين، فإذا كان الدخول في الأمور العقلية، أو ما يدعى بأسماء المعاني فالاستعمال يختلف، وذلك أن الفعل يتطلب في هذه الحال حرف الجر «في» أو «الباء» كقوله تعالى: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) [النصر] . وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة/ 61] . وقد يحمل على استعمال الفعل في الأمور المعنوية قوله تعالى: فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) [الفجر] . والمراد بالدخول في العباد الاتصال بهم والعيش بينهم فجاز استعمال «في» ، في حين عطف عليه قوله:

وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) وذلك لأن المدخول فيه من الأسماء الدالة على المكان. ومن المفيد أن نشير إلى أن استعمال هذا الفعل يجاوز حقيقته مجازا لعلاقة من العلاقات، فيصير الدخول بالزوج أي: المرأة بمعنى البناء بها، والتزوج منها كقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ [النساء/ 23] . 10- قال تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) . أقول: لا أريد أن أعرض لمكر بني إسرائيل، وكيف قابلهم الله على مكرهم جزاء وعقوبة، ولكني أود أن أقف على المكر ومعناه، وكيف ساغ أن ينسب إلى الله، جلّ شأنه. قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) [النمل] . قال أهل العلم بالتأويل: المكر من الله تعالى جزاء سمّي باسم مكر المجازى، كما قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى/ 40] . فالثانية ليست بسيّئة في الحقيقة، ولكنها سمّيت سيئة لازدواج الكلام، وكذلك قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [البقرة/ 194] . فالأول ظلم، والثاني ليس بظلم، ولكنه سمّي باسم الذّنب ليعلم أنّه عقاب عليه وجزاء به، ويجري مجرى هذا القول قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النساء/ 142] . وفي حديث الدعاء: «اللهم امكر لي ولا تمكر بي» . قال ابن الأثير: مكر الله إيقاع بلائه بأعدائه دون أوليائه. أقول: هذه حقيقة المكر، وهذه حقيقة نسبته إلى الله، جلّ وعزّ، ولم يلتفت أهل العربية في عصرنا إلى حسن استعمال هذه الكلمة في لغة التنزيل، بل ظلّت الكلمة على ما نعرف من دلالة الخديعة والاحتيال. 11- وقال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [الآية 112] . الفعل «ثقف» بهذه الدلالة عرفته لغة التنزيل في ست آيات، في أربع منها جاء مبنيا للمعلوم، وفي اثنتين ورد

مبنيا للمجهول، والآية التي ذكرناها إحدى هاتين، والفعل فيها بمعنى الوجود. وقد كنا أشرنا إلى هذا بإيجاز كما في الآية 191 من سورة البقرة: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي: حيث وجدتموهم وقوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا بمعنى أينما وجدوا. أقول: لم يبق هذا الفعل بهذه الدلالة في العربية المعاصرة، على أننا لا نجده بهذه الدلالة في العربية القديمة، ولم يرد من ذلك إلا بيت واحد ذكره أهل المعجمات غير منسوب إلى قائل. إن هذا يعني أن لغة القرآن قد أكدت هذا الفعل بهذا المعنى الواضح. أما دلالة الفعل الأخرى فهي قولنا: ثقف الشيء ثقفا وثقافا وثقوفة، أي: حذقه. ورجل بيّن الثّقافة وهو ثقف وثقف إذا كان ضابطا لما يحويه قائما به. وثقف الخلّ ثقافة فهو ثقف وثقيف، أي: حذق وحمض جدا. والثّقافة والثّقافة: العمل بالسيف. والثّقاف: ما تسوّى به الرماح، وتثقيفها تسويتها. أقول: هذا أكثر ما أثر في العربية من هذه الكلمة فما حالها اليوم. لعل من حياة المواد اللغوية، والمسيرة التي تنتابها، ما يذكّرنا بمختلف نماذج الكائن الحي في دنيانا هذه، فمن نشأة وحياة واستمرار إلى نكوص وانزواء ففناء، أو إلى استحالة أخرى تقطع الصلة بين الأول والآخر. ولعل من هذا أيضا ما كتب لمادة «الثقافة» في عصرنا هذا. إن «الثقافة» ، في موادنا اللغوية المعاصرة، كلمة ذات مدلول كبير واسع، يتصل بالحضارة والفكر والعلم والخلق وسائر ضروب السلوك البشري. ولعل من الصعب أن يصار إلى تعريفها تعريفا يستوفى فيه ما يجب أن يشتمل عليه. وما كان لهذه الكلمة أن تنال ما نالته لولا الأثر الأجنبي، الذي عرض لما يحزبنا نحن العرب في شؤون الفكر والعلم، وسائر مواد الحضارة المعاصرة. إن هذا الأثر الأجنبي هو ما نعانيه من الرغبة في ترجمة المعاني الأجنبية، وأخصّ منها الغربية في عصرنا الحديث. لقد واجه أهل الفكر في عصرنا مادة: وعرفوا شيئا من

دلالاتها في اللغات الغربية، وقد أفضى إلى هذه الدلالات، من غير شك، علاقات عدة هي المشابهة والقرينة، كما أفضى إليها التطور اللغوي التاريخي، الذي يندرج في حقول مختلفة. إذا كانت هذه الكلمة تعني «الفلاحة» ، أو «الزراعة» ، فلا شك أنها، بسبب من المشابهة بعد مسيرة تطورية، إنما تعني التربية والسلوك والمرانة. ومن أجل هذا، اقتضى جماع هذه المواد والأفكار أن يثقل رصيد هذه الكلمة ويزداد ثقلا يوما بعد يوم. فماذا صنع المترجمون العرب؟ لقد أخذوا هذه الكلمة الواسعة فنظروا إليها بما يخدم السلوك والتربية، فدخلت في عداد المعجم التربوي التعليمي، ثم كتب لها أن تتسع فتغزو دوائر أخرى. ثم كيف اختاروا مادة «ثقف» للدلالة الجديدة الوافدة؟ لقد وجدوا أن في هذه المادة العربية كلمة «ثقاف» ، وهو من أسماء الآلات والأدوات، والثّقاف ما تقوّم به الرماح وتسوّى، فاشتقوا منه مصدرا هو «الثقافة» ، لما في الأصل، وهو اسم الآلة، من معنى التقويم والتسوية والتعديل، وكل ذلك يدخل في معاني التربية القائمة على تقويم السلوك البشري. وعلى هذا نستطيع أن نقول: إن العربية البدوية، بثروتها القديمة ذات الأصول البدوية، قد أمدّت العربية الحضارية بمصدر لغوي كبير، أفضى إلى مواد الحضارة المشهورة، كالعقل والحكمة، والحكم والحكومة، والنقد والبناء، والجمال وغير ذلك مما عرف في المعاني الحضارية. ولو أنك أعملت الفكر لاهتديت بيسر إلى تلك الأصول البدوية التي أوشك أن يمحي أثرها. 12- وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [الآية 118] . أريد أن أقف على الفعل «ألا، يألو» . قالوا: ألا يألو ألوا وألوّا وأليّا، وألّى يؤلّي تألية. ومثلهما ائتلى بمعنى قصّر وأبطأ، قال:

وإنّ كنائني لنساء صدق ... فما ألّى بنيّ ولا أساؤوا والعرب تقول: أتاني فلان في حاجة فما ألوت ردّه، أي: ما استطعت. وأتاني في حاجة فألوت فيها، أي: اجتهدت. وقال الأصمعي: يقال: ما ألوت جهدا، أي: لم أدع جهدا. وقوله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا الآية، أي: لا يقصّرون في فسادكم. وقولهم: لا آلوك نصحا ولا آلوك جهدا، والمعنى: لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه. أقول: هذا هو المعنى الذي ما نزال نستعمله في عربيتنا المعاصرة فنقول: فلان لا يألو جهدا في عمله، أي: لا يقصر، ولا ينقص من جهده. ولكني أميل إلى أن أقرر أن المعاصرين التزموا، في عربيتهم المعاصرة، في الألفاظ والجمل والأبنية والصفات، نماذج لا يحيدون عنها قيد أنملة، وكأنّ العربية خلت من وجوه القول في هذه المسألة إلا ما ألفوا استعماله وسنشير إلى هذا الالتزام كلما عرض شيء من ذلك. ألا ترى أنهم لزموا في الاستعمال الفعل المضارع المنفي ب «لا» ، ولم يدركوا أن الماضي «ألا» قد استعمله أهل الفصاحة طوال العصور. ولعل نفرا من العارفين بشيء من العلم اللغوي يقولون: «لم يأل جهدا» إذا ما أرادوا المضيّ. وكنا قد مررنا بإيجاز على هذه المادة الغنية المعطاء. 13- وقال تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما [الآية 122] . أقول: لنا في هذه الآية قولان: الأول في كلمة «همّت» ، والثاني في قوله: «تفشلا» . فأما الأول، فقد قالوا: همّ بالشيء يهمّ همّا: نواه وأراده وعزم عليه. وأهمّه الأمر: أقلقه وحزنه. وقوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف/ 24] . غير أني أريد أن أشير إلى الفعل «همّ» في الآية 122 من سورة آل عمران. في قوله: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ومثله في [الآية 113

من سورة النساء] : وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ. إن الفعل «همّ» ، في كلتا الآيتين، قد أتبع بالمصدر المؤوّل من «أن والفعل» ، وهذا الاستعمال يذكّرنا بطائفة من الأفعال، أفرد لها النحاة بابا أسموه أفعال المقاربة والرجاء والشروع، وهي كاد وكرب وأوشك، وعسى وحرى واخلولق، وجعل وأخذ وشرع وقام وأنشأ ونحوها. قلت: إن الفعل «همّ» في الآيتين يذكرنا بهذه الأفعال في استعمالها من حيث أنها يليها «أن والفعل» «1» . ألا ترى أن في قوله تعالى إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ شيئا من معنى «أوشك» واستعمالها واحد. وكان على النحاة الأوائل أن يقفوا على هذا الاستعمال، ويشيروا إلى هذه العلاقة كما أفصحت عنها لغة التنزيل العزيز. وأما القول الثاني، فهو في معنى «الفشل» ، لقد قالوا: الفشل: الرجل الضعيف الجبان، وفشل الرجل فشلا، أي: كسل وضعف وتراخى وجبن ... وعلى هذا يخرّج الفعل في الآية المذكورة. ومثله في قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ [الآية 152] . وقوله تعالى: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ [الأنفال/ 43] . وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الأنفال/ 46] . أقول: فكيف آل الفعل في العربية المعاصرة؟ لقد صار الفعل «فشل» ، بمعنى خاب وأخفق في مسعاه، يقال: فشل الولد في المدرسة، وفشل المشروع الفلاني، وفشلت التجربة. أيكون هذا التحول في المعنى والدلالة ضربا من الاتساع صارت

_ (1) . إن قول النحاة إن لهذه الأفعال عملا كعمل الفعل «كان» ، أي: أنها تقتضي الاسم والخبر، وخبرها هو أن والفعل، قول ضعيف متهافت، ولا يمكن أن يكون أن والفعل مسندا كحال الخبر في «كان» من قولنا: كان زيد شاعرا.

الكلمة به تعني الإخفاق والخيبة من الضعف والجبن والتراخي؟ «1» . 14- وقال تعالى: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا [الآية 125] . قال الزمخشري: مِنْ فَوْرِهِمْ هذا من قولك: قفل من غزوته، وخرج من فوره إلى غزوة أخرى، وجاء فلان ورجع من فوره. ومنه قول أبي حنيفة، رحمه الله: الأمر على الفور لا على التراخي، وهو مصدر من: فارت القدر، إذا غلت، فاستعير للسرعة، ثم سمّيت به الحالة التي لا ريث فيها، ولا تفريج على شيء من صاحبها. فقيل: خرج من فوره، كما تقول: خرج من ساعته، لم يلبث. أقول: إن الاستعمال الجديد في العربية المعاصرة «على الفور» في قولهم مثلا: جاء فلان وخرج على الفور، أو فورا، ليس جديدا ذلك أن العربية في العصر العباسي عرفت هذا ودليلنا قول أبي حنيفة المذكور قبل قليل.

_ (1) . ولشيوع هذا التجاوز في الاستعمال المعاصر للفعل «فشل» ، ذهبوا إلى المزيد منه فقالوا: «أفشل» كقولهم: أفشل خطط العدو، بمعنى «أبطل» ، وكل ذلك تجاوز جديد.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"آل عمران"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «آل عمران» «1» أما قوله: الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) فإنّ الْقَيُّومُ على زنة: «الفيعول» ولكن الياء الساكنة إذا كانت قبل واو متحركة قلبت الواو ياء. وأصله «القيووم» و «الدّيّان» : «الفيعال» و «الدّيّار» : «الفيعال» وهي من «دار» «يدور» وأصله «الديوار» ولكن الواو قلبت ياء. وأما مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [الآية 3] فنصب على الحال. وقال: هُدىً لِلنَّاسِ [الآية 4] ف هُدىً في موضع نصب على الحال ولكن هدى مقصور فهو متروك على حال واحد. وقال هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ [الآية 7] ولم يقل: «أمهات» كما تقول للرجل: «ما لي نصير» فيقول: «نحن نصيرك» وهو يشبه «دعني من تمرتان» . قال «2» [من الرجز وهو الشاهد الثاني والخمسون بعد المائة] : تعرّضت لي بمكان حلّ ... تعرّض المهرة في الطول تعرّضا لم تأل عن قتلا لي «3» فجعله على الحكاية لأنه كان منصوبا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» ، للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هو منظور بن مرثد الأسدي، مجالس ثعلب، النشرة الثانية ص 534، واللسان «طول» و «قتل» وهي اللهجات، 283، أنه رجل من بني فقعس. (3) . في «مجالس ثعلب» «بمجاز» بدل «بمكان» و «قتل لي» بدل «قتلا لي» وفي اللسان «عرض» ب «تعرضت لم تأل عن قتل لي» وتقديمه على المصراع الثاني وبلا نسبة. وفي «انن» كما أورد الأخفش ولكن بلا نسبة أيضا. وفي «طول» و «قتل» معزوا ب «قتل لي» وجاء في «طول» بتقديم المصراع الثالث على الثاني.

قبل ذلك كما ترى، كما تقول: «نودي» «الصلاة الصلاة» «أي: تحكي قوله: «الصلاة الصلاة» وقال بعضهم «1» : إنّما هي «أن قتلا لي» ولكنه جعله عينا لأنّ من لغته في «أن» «عن» «2» . والنصب على الأمر كأنك قلت: «ضربا لزيد» . وقال: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [الآية 7] لأن «كلّ» قد يضمر فيها كما قال: إِنَّا كُلٌّ فِيها [غافر/ 48] يريد: كلّنا فيها. ولا تكون «كلّ» مضمرا فيها وهي صفة انما تكون مضمرا فيها إذا جعلتها اسما فلو كان «إنّا كلّا فيها» على الصفة لم يجز لأن الإضمار فيها ضعيف لا يتمكن في كل مكان. وقال: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ [الآية 11] يقول: «كدأبهم في الشرّ» من «دأب» «يدأب» «دأبا» . وقال: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [الآية 12] أي: أنّكم ستغلبون. كما تقول: «قل لزيد» : «سوف تذهب» أي: أنّك سوف تذهب. وقال بعضهم: (سيغلبون) «3» أي: قل لهم الذي أقول. والذي أقول لهم «سيغلبون» . وقال: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا [الأنفال/ 38] فهذا لا يكون إلا بالياء في القرآن لأنه قال: يُغْفَرْ لَهُمْ «4» . ولو كان بالتاء قال: (يغفر لكم) «5» وهو في الكلام جائز

_ (1) . هو الخليل بن أحمد. العين 1/ 31. (2) . هي العنعنة وهي قلب الهمزة عينا، وهي لغة تميم وقيل قيس أيضا وقيل بل تميم وأسد قيل بل بني كلاب وقيل هذيل اللهجات 284. (3) . القراءة بالياء كما في الطبري 6/ 226 الى جماعة من أهل الكوفة وفي السبعة 202، والكشف 1/ 335 والتيسير 86 والبحر 2/ 392 الى حمزة والكسائي وفي الجامع 4/ 24 الى نافع. وفي معاني القرآن 1/ 54 و 63 و 1/ 191 و 1982 وحجة ابن خالويه 82 بلا نسبة. اما القراءة بالتاء ففي الطبري 6/ 227، الى عامة قراء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين. وفي السبعة 201 الى ابن كثير وابي عمرو وعاصم وابن عامر ونافع وفي الكشف 1/ 435 و 435 الى غير حمزة والكسائي، وان اجماع الحرميين وعاصم عليها، وفي التيسير 86 والبحر 2/ 392 الى غير حمزة والكسائي وفي الجامع 4/ 24 الى عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس. وفي معاني القرآن 1/ 54 و 63 و 191 و 192 وفي حجة ابن خالويه 82 بلا نسبة. (4) . في معاني القرآن 1/ 192 نسبها الفرّاء الى من هو منهم، فقال في قراءتنا، ولعله قصد قراءة الكوفة والكسائي وحمزة في مقدمتهم. [.....] (5) . في معاني القرآن 1/ 192 الى ابن مسعود.

بالتاء. وتجعلها «لكم» كما فسرت لك. وقال: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ [الآية 13] على الابتداء رفع، كأنه قال: «إحداهما فئة تقاتل في سبيل الله» «1» وقرئت جرّا على أول الكلام على البدل «2» وذلك جائز. قال الشاعر «3» [من الطويل وهو الشاهد الثالث والخمسون بعد المائة] : وكنت كذي رجلين: رجل صحيحة ... ورجل بها ريب من الحدثان «4» فرفع. ومنهم من يجرّ على البدل ومنهم من يرفع على: إحداهما كذا وإحداهما كذا. وقال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الرابع والخمسون بعد المائة] . [و] إنّ لها جارين لن يغدرا بها ... ربيب النبيّ وابن خير الخلائف «5» رفع، والنصب على البدل. وقال تعالى: هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ [ص] وان شئت جعلت «جنات» على البدل أيضا. وان شئت رفعت على خبر «إنّ» ، أو على «هنّ جنّات» فيبتدأ به. وهذا لا يكون على «إحداهما كذا» لأن ذلك المعنى ليس فيه هذا ولم يقرأه أحد بالرفع «6» . وقال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام/ 100] فنصب على البدل «7» وقد يكون فيه الرفع على «هم الجنّ» «8» .

_ (1) . في الجامع 4/ 25 والبحر 2/ 393 الى الجمهور، وفي الطبري 6/ 231 أن إجماع الحجة من القراء على هذا، وفي معاني القرآن 1/ 192 بلا عزو. (2) . في الشواذ 19 الى الزهري ومجاهد، وفي الجامع 4/ 25 الى الحسن ومجاهد، وفي البحر 2/ 393 الى مجاهد والحسن والزهري وحميد، وفي معاني القرآن 1/ 192 وفي الطبري 6/ 232 بلا نسبة. (3) . هو النجاشي الحارثي قيس بن عمرو بن مالك، النوادر 10 الحماسة الشجرية 1/ 127 والوحشيات 113 والخزانة 1/ 400. (4) . في النوادر: ورجل رمت فيها يد الحدثان، وفي الحماسة ب وكنتم و «سليمة» وفي الوحشيات به «وكنتم» أيضا. (5) . استشهد به في معاني القرآن كما سبق من غير عزو. وجاء في ديوان معن بن أوس ص 35 ب «إنّ» . (6) . قراءة الجر في البحر 7/ 404 الى الجمهور، وفي الكشاف 4/ 100 بلا نسبة، وقراءة الرفع في الشواذ الى عبد العزيز بن رفيع وابي حيوة، وفي البحر 7/ 405 زاد زيد بن علي. (7) . في البحر 4/ 193 الى الجمهور، وفي معاني القرآن 1/ 348 والطبري 12/ 7 بلا نسبة. (8) . الرفع في الشواذ 39 الى أبي حيوة، وزاد في البحر 4/ 191 يزيد بن قطيب.

وقال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ [الأنعام/ 112] على البدل ورفع على «هم شياطين» كأنه إذا رفع قيل له، أو علم أنه يقال له «ما هم» ؟ أو «من هم» فقال: «هم كذا وكذا» . وإذا نصب فكأنه قيل له أو علم أنه يقال له «جعل ماذا» أو «جعلوا ماذا» أو يكون فعلا واقعا بالشياطين عَدُوًّا حالا، ومثله كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ [العلق] كأنه قيل أو علم ذلك فقال «بناصية» «1» وقد يكون فيه الرفع على قوله: «ما هي» فيقول (ناصية) «2» والنصب على الحال. قال الشاعر [من البسيط وهو الشاهد الخامس والخمسون بعد المائة] : إنّا وجدنا بني جلّان كلّهم ... كساعد الضّبّ لا طول ولا عظم «3» على البدل أي ك «لا طول ولا عظم» ومثل الابتداء قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ [الحج/ 72] . وقوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [الآية 15] كأنه قيل لهم: «ماذا لهم» ؟ و «ما ذاك» ؟ فقيل: «هو كذا وكذا» . وأمّا بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ [المائدة/ 60] فإنما هو على «أنبّئكم بشرّ من ذلك حسبا» و «بخير من ذلك حسبا» . وقوله: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ [المائدة/ 60] موضع جرّ على البدل من قوله بِشَرٍّ ورفع على «هو من لعنه الله» . قال تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [الآية 14] مهموز منها موضع الفاء لأنه من «آب» «يؤوب» وهي معتلة العين مثل «قلت» «تقول» «والمفعل» «مقال» . تقول: «آب» «يؤوب» «إيابا» قال الله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) [الغاشية] وهو الرجوع. قال الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد السادس والخمسون بعد المائة] :

_ (1) . الجر هو في البحر 8/ 495 الى الجمهور. (2) . في الشواذ 176 الى الكسائي في رواية. (3) . في الحيوان 6/ 112 بغير نسبة، وفي الخزانة 2/ 364 كذلك وبلفظ «قصر» بدل «عظم» . (4) . هو مضرس الاسدي، البيان والتبيين 3/ 40، وقيل معقّر بن حمار البارقي او سليم بن ثمامة الحنفي، او عبد ربه السلمي، اللسان «عصا» ، وفي الاشتقاق 481 انه لمعقر، وكذلك في «المؤتلف والمختلف» 128.

فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر وأمّا «الأوّاب» فهو الراجع إلى الحق وهو من: «آب» «يؤوب» أيضا. وأمّا قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ/ 10] ، فهو كما يذكرون التسبيح أو هو- والله أعلم- مثل الأوّل يقول: «ارجعي إلى الحقّ» و «الأوّاب» الراجع إلى الحقّ. وقال تعالى: الصَّابِرِينَ [الآية 17] الى قوله وبِالْأَسْحارِ [الآية 17] موضع جر على لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [الآية 15] فجرّ بهذه اللام الزائدة. وقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [الآية 18] إنما هو «شهدوا أنّه لا إله إلّا هو قائما بالقسط» نصب قائِماً على الحال. وقال: إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الآية 19] يقول وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الآية 19] بَغْياً بَيْنَهُمْ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ [الآية 19] «1» . وقال: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ [الآية 28] بكسر يَتَّخِذِ لأنه لقيته لام ساكنة وهي نهي فكسرته. وقال الله تعالى: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [الآية 30] لأنّ «البين» هاهنا ظرف وليس باسم. ولو كان اسما لارتفع «الأمد» . فإذا جئت بشيء هو ظرف للآخر وأوقعت عليه حروف النصب فانصب نحو قولك: «إنّ عندنا زيدا» لان «عندنا» ليس باسم ولو قلت: «إنّ الذي عندنا» قلت: «زيد» لأن «الذي عندنا» اسم. وقال تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [الآية 34] فنصبه على الحال «2» : ويكون على البدل «3» على قوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ [الآية 33] وقال تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً [الآية 35] فقوله مُحَرَّراً على الحال. وقال تعالى:

_ (1) . نقله عنه في إعراب القرآن، 1/ 149 و 150، واعراب القرآن للزجاج 2/ 719، والجامع 4/ 44. [.....] (2) . نقله في اعراب القرآن 1/ 154 والجامع 4/ 64. وفيهما ان الكوفيين يرون النصب على القطع. و «القطع» يشير الى معنى الحال عند الكوفيين، وقد جاء النصب على القطع في هذا الموضع في معاني القرآن 1/ 207. (3) . نسبه في الجامع 4/ 64 الى الزّجاج، والأخفش أسبق منه.

فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا [الآية 37] «1» وقال بعضهم (وكفلها «2» زكرياء «3» ) و (كفلها) «4» ايضا زَكَرِيَّا «5» وبه نقرأ وهما لغتان «6» وقال بعضهم (وكفلها زكرياء) بكسر الفاء. ومن قال: «كفل» قال «يكفل» ومن قال «كفل» قال «7» «يكفل» . وأما «كفل» فلم أسمعها وقد ذكرت «8» . وقال الله تعالى: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [الآية 38] لأن النون [في «لدن» ] ساكنة مثل نون «من» وهي تترك على حال جزمها في الاضافة لأنها ليست من الأسماء التي تقع عليها الحركة، ولذلك قال: مِنْ لَدُنَّا [النساء/ 67] «9» ، وقال تعالى مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل/ 6] فتركت ساكنة.

_ (1) . تضعيف فاء «كفّلها» في الطبري 6/ 345 الى عامة قراء الكوفيين، وفي السبعة 204 و 205 الى عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي، وفي الكشف 1/ 341، والتيسير 87، والجامع 4/ 70، والبحر 2/ 442 الى الكوفيين، وفي معاني القرآن 1/ 208 وحجة ابن خالويه بلا نسبة والإملاء 1/ 122 كذلك. (2) . في الطبري 6/ 345 الى عامة قراء أهل الحجاز والمدينة والبصرة، وفي السبعة 204 الى ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي عمرو، وفي الكشف 1/ 341، والتيسير 87، والجامع 4/ 70 الى غير الكوفيين، وفي البحر 2/ 442 الى السبعة غير الكوفيين، وفي حجة ابن خالويه 83، ومعاني القرآن 1/ 208، والإملاء 1/ 132 بلا نسبة. (3) . رفع «زكريّاء» ولا يظهر إلا مع المد والهمز هو في السبعة الى ابن كثير ونافع وابي عمرو وابن عامر، وفي التيسير 87 الى غير ابي بكر وحفص وحمزة والكسائي. وفي الأصل (زكريا) . (4) . في الجامع 4/ 70 الى عبد الله بن كثير وأبي عبد الله المزني، وفي البحر 2/ 442 اقتصر على المزني. (5) . قصر «زكريا» ، في الطبري 6/ 347 الى عامة قراء الكوفة، وفي الكشف 1/ 341 الى حفص وحمزة والكسائي، وكذلك في البحر 2/ 442 والتيسير 87 وسماه في الأخير ترك إعراب «زكريا» ، وفي معاني القرآن 1/ 208، وحجة ابن خالويه 83، والمشكل 93 بلا نسبة. أما همز «زكريا» ، ونصبه، ففي التيسير 87 الى أبي بكر، وفي حجة ابن خالويه 83 ومعاني القرآن 1/ 208 بلا نسبة. (6) . في «اللهجات» 438، أن مدّ زكريا وقصرها لغتان حجازيتان، ويرى المؤلف أن المدّ لغة أهل الحضر والقصر لغة أهل المدر 440. وفي إعراب القرآن 1/ 157 عن الفرّاء أن المد والقصر لغة أهل الحجاز، وأن حذف الالف لغة أهل نجد. وفي معاني القرآن 1/ 208، أن في «زكريا» ثلاث لغات. (7) . مجاز القرآن 15/ 91 ذكرت اللغتان. (8) . نقل عنه في إعراب القرآن 1/ 157 والجامع 4/ 70. (9) . ورد في ستة مواضع في المصحف الشريف أولها [النساء 4/ 67] وآخرها [القصص/ 57] .

وقال تعالى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [الآية 37] فهذا مثل كلام العرب «يأكل بغير حساب» أي: لا يتعصّب عليه ولا يضيّق عليه. وسَرِيعُ الْحِسابِ «1» وأَسْرَعُ الْحاسِبِينَ [الأنعام/ 62] يقول: «ليس في حسابه فكر ولا روية ولا تذكّر» . وقال تعالى: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) مثل «كثير الدّعاء» لأنه يجوز فيه الألف واللام تقول: «أنت السّميع الدّعاء» ومعناه «إنّك مسموع الدّعاء» أي: «إنّك تسمع ما يدعى به» . وقال تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ [الآية 39] «2» . ويقول من كسر همزة «إنّ» : لأنّه كأنه قال فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ فقالت: (إنّ الله يبشّرك) وما بعد القول حكاية. وقال بعضهم أَنَّ اللَّهَ «3» يقول: «فنادته الملائكة بذلك» . وقال تعالى: بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً [الآية 39] وقوله وَسَيِّداً وَحَصُوراً معطوف على «مصدّقا» على الحال. وقال تعالى: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ [الآية 40] كما تقول «وقد بلغني الجهد» أي: أنا في الجهد والكبر. وقال: ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً [الآية 41] يريد: «أن لا تكلّم الناس إلّا رمزا» وجعله استثناء خارجا من أول الكلام «4» . والرمز: الإيماء. وقال: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ [الآية 42] ف «إذ» ها هنا ليس له خبر في اللفظ. وقوله: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ [الآية 45] ويَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [الآية 30] وأشباه هذا في «إذ» و «الحين» وفي «يوم» كثير. وإنما حسن ذلك للمعنى،

_ (1) . ورد في سبعة مواضع في الكتاب الكريم أولها [البقرة/ 202] وآخرها [غافر/ 17] . (2) . في المصحف بفتح همزة «أنّ» وكسرها قراءة هي في الطبري 6/ 366 الى بعض أهل الكوفة، وفي السبعة 205، والكشف 1/ 343، والتيسير 87، والبحر 2/ 446 الى حمزة وابن عامر، وفي الجامع 4/ 75، إلى الكسائي وابن عامر، وفي معاني القرآن 1/ 210 بلا نسبة. (3) . هي القراءة الموافقة لرسم المصحف، وهي في الطبري 3/ 366 الى عامة القراء، وفي السبعة 205 والكشف 1/ 343، والتيسير 87، والبحر 2/ 446 الى غير حمزة وابن عامر، وفي معاني القرآن 1/ 210 بلا نسبة. [.....] (4) . نقله في الجامع 4/ 81.

لأن القرآن انما أنزل على الأمر والذي كأنه قال لهم: «اذكروا كذا وكذا» وهذا في القرآن وارد في غير موضع و «اتّقوا يوم كذا» أو «حين كذا» . وقال الله تعالى: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [الآية 44] لأنّ كل ما كان من طلب العلم فقد يقع بعده الاستفهام. تقول: «أزيد في الدّار» ؟ و: «لتعلمنّ أزيد في الدّار» . وقال: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ [الكهف/ 12] أي: لننظر. وقال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود/ 7 والملك/ 2] وأمّا قوله: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) [مريم] فلم يرتفع على مثل ما ارتفع عليه الأول لأن قوله لَنَنْزِعَنَّ ليس بطلب علم. ولكن لما فتحت «من» و «الذي» في غير موضع «أي» ، صارت غير متمكّنة، إذ فارقت أخواتها تركت على لفظ واحد وهو الضم «1» وليس بإعراب. وجعل أَشَدُّ من صلتها وقد نصبها قوم وهو قياس «2» . وقالوا: «إذا تكلّم بها فإنّه لا يكون فيها إلّا الإعمال» . وقد قرئ (تماما على الذي أحسن) [الأنعام/ 154] برفع «أحسن» وجعله من صلة «الذي» «3» وفتحه على الفعل أحسن «4» . وزعموا ان بعض العرب قال: «ما أنا بالّذي قائل لك شيئا» فهذا الوجه لا يكون للاثنين إلا «ما نحن باللّذين قائلان لك شيئا» . وقال تعالى: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً [الآية 45] نصبه على الحال وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الآية 45] عطفه على وَجِيهاً وكذلك وَكَهْلًا [الآية 46] معطوف على وَجِيهاً لأن ذلك منصوب. وأما قوله تعالى: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ [الآية 45] فانه جعل «الكلمة» هي «عيسى» لأنه في المعنى

_ (1) . في الجامع 11/ 133، انها قراءة القراء كلهم إلا هارون القارئ الأعور. (2) . في الجامع 11/ 133، الى هارون القارئ الأعور، والبحر 6/ 209 الى معاذ بن مسلم الهراء والى زائدة عن الأعمش، وفي الشواذ 86 الى معاذ أيضا وطلحة بن مصرف، وفي الكتاب 1/ 397 بلا نسبة وقصرها في المشكل على هارون القارئ 2/ 458. (3) . في الطبري 12/ 236 والمحتسب 234 الى يحيى بن يعمر، وزاد في الجامع 7/ 142 و 4/ 255 ابن أبي إسحاق. وفي معاني القرآن 1/ 365 والكشف 101 بلا نسبة، وكذلك في الكتاب 1/ 270. (4) . في الطبري 12/ 236 الى قراء الأمصار، وفي الجامع 7/ 142 ومعاني القرآن 1/ 365 بلا نسبة، وزاد في الأخير أن «أحسن» منصوب على نية الخفض صلة ل «الذي» وليس فعلا.

كذلك كما قال: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى [الزمر/ 56] ثم قال: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها [الزمر/ 59] وكما قالوا: «ذو الثديّة» لأن يده كانت مثل الثدي. كانت قصيرة قريبة من ثديه «1» فجعلها كأن اسمها «ثديّة» ولولا ذلك لم تدخل الهاء في التصغير. وأما قوله: كَذلِكِ اللَّهُ [الآية 47] فكسر الكاف لأنها مخاطبة امرأة. وإذا كانت الكاف للرجل فتحت. قال للمؤنث وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ [يوسف/ 29] . وقوله: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ «2» [الآية 48] موضع نصب على وَجِيهاً. ورَسُولًا [الآية 49] معطوف على وَجِيهاً. وقال تعالى: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ [الآية 50] على قوله وَجِئْتُكُمْ [الآية 50] مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ [الآية 50] لأنّه قال: قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الآية 49] . وقال: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [الآية 51] ف إِنَّ على الابتداء «3» . وقال بعضهم: (أن) «4» فنصب على «وجئتكم بأنّ الله ربّي وربّكم» هذا معناه. وقال تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ [الآية 52] لأنّ هذا من: «أحسّ» «يحسّ» «إحساسا» وليس من قوله تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [الآية 152] إذ ذلك من «حسّ» «يحسّ» «حسّا» وهو في غير معناه لأن معنى «حسست» قتلت، و «أحسست» هو: ظننت «5» . وقال تعالى: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [الآية 59] رفع على الابتداء ومعناه: «كن» «فكان» كأنّه قال: «فإذا هو كائن» . وقال: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) يقول: «هو الحقّ من ربّك» .

_ (1) . هو حرقوص بن زهير السعدي الخارجي، قتل في النهروان، وأخباره في مروج الذهب 2/ 417 وشرح نهج البلاغة 2/ 275- 277، والملل والنحل 1/ 106، والكنى والألقاب 2/ 415. (2) . في الأصل: ونعلمه بالنون، وهي قراءة الإملاء 1/ 135. (3) . وهي في الطبري 6/ 441 الى عامة قراء الأمصار. (4) . في الطبري 6/ 441، والشواذ 20، والبحر 2/ 469 بلا تعيين لمن نسبت اليه. (5) . نقله في الصحاح «حسس» ، ونسب اليه أيضا رأي الفرّاء في أن أحسّ معناها وجد.

وقال سبحانه وتعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [الآية 64] فجر سَواءٍ «1» لأنها من صفة الكلمة وهو «العدل» «2» . أراد «مستوية» ولو أراد «استواء» لكان النصب «3» . وإن شاء ان يجعله على الاستواء ويجرّ جاز، ويجعله من صفة الكلمة مثل «الخلق» ، لأن «الخلق» قد يكون صفة ويكون اسما، قال الله تعالى: الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ [الحج/ 25] لأن «السّواء» للآخر وهو اسم ليس بصفة فيجري على الأول، وذلك إذا أراد به الاستواء. فان أراد «مستويا» جاز أن يجري على الأول، فالرفع في ذا المعنى جيد لأنها صفة لا تغير عن حالها ولا تثنّى ولا تجمع على لفظها ولا تؤنّث، فأشبهت الأسماء. وقال تعالى: أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ [الجاثية/ 21] ف «السواء» للمحيا والممات، فهذا المبتدأ. وإن شئت أجريته على الأول وجعلته صفة مقدمة من سبب الأول فجرى عليه، فهذا إذا جعلته في معنى مستو فالرفع وجه الكلام كما فسرته لك من قوله أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ [الآية 64] فهو بدل كأنه قال «تعالوا إلى أن لا نعبد إلّا الله» . وقال عز وجل: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 77] فهذا مثل قولك للرجل «ما تنظر إليّ» إذا كان لا ينيلك شيئا. وقال تعالى: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [الآية 72] جعله ظرفا. وقال تعالى: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ [الآية 73] يقول: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ [الآية 73] أي: ولا تؤمنوا أن يحاجّوكم «4» . وقال تعالى: إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [الآية 75] لأنّها من «دمت»

_ (1) . في البحر 2/ 483 الى الجمهور، وفي الطبري 6/ 486، والمشكل 97 بلا نسبة. (2) . «عدل» بدل «سواء» قراءة عبد الله، معاني القرآن 220. (3) . في الشواذ 21 والمشكل 97 والبحر 2/ 483 الى الحسن، وفي الطبري 6/ 486 بلا نسبة. (4) . نقله في إعراب القرآن 1/ 169، والجامع 4/ 114. وكلامه على تتمة الآية أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ [الآية 73] . [.....]

«تدوم» . ولغة للعرب «1» «دمت» وهي قراءة «2» مثل «متّ» «تموت» جعله على «فعل» «يفعل» فهذا قليل. وقال تعالى: بِدِينارٍ [الآية 75] أي: على دينار كما تقول: «مررت به» و «عليه» . وقال تعالى: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ [الآية 78] بفتح الياء «3» . وقال (يلوّون) «4» بضم الياء وأحسبها يَلْوُونَ، لأنّه قال لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ [النساء/ 46] «5» فلو كان من (يلوّون) لكانت «تلوية بألسنتهم» . وقال تعالى: ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ [الآية 79] نصب على ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ [الآية 79] ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ لأنّ «ثمّ» من حروف العطف. ووَ لا يَأْمُرَكُمْ [الآية 80] أيضا معطوف بالنّصب على أَنْ وإن شئت رفعت تقول (ولا يأمركم) لا تعطفه على الأوّل تريد: هو لا يأمركم «6» . قال الله تعالى: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ [الآية 81]

_ (1) . هي لغة تميم. الشواذ 21 واللهجات 468 والبحر 2/ 500، وقد نقله عنه في إعراب القرآن 1/ 170 والجامع 4/ 117. (2) . في الشواذ 21 الى يحيى بن وثاب، وفي الجامع 4/ 117 الى طلحة بن مصرف وأبي عبد الرحمن السلمي وغيرهما، وفي البحر 2/ 500 الى أبي عبد الرحمن ويحيى بن وثاب والأعمش وابن أبي ليلى والغياض بن غزوان وطلحة وغيرهم، وفي المشكل 99 بلا نسبة. (3) . في البحر 2/ 503 الى الجمهور وفي المشكل 99 بلا نسبة. (4) . في الجامع 4/ 121 الى أبي جعفر وشيبة، وفي البحر 2/ 503 الى أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح وأبي حاتم عن نافع، وأن الزمخشري نسبها الى أهل المدينة. (5) . لعله قصد (يلون) بواو واحدة وهي قراءة حميد كما في المشكل 1/ 164، وفي الإملاء 1/ 141 بلا نسبة. وعللها بأنها في أصلها «يلوون» كقراءة الجمهور، ثم همز الواو لانضمامها، ثم ألقى حركتها على اللام. (6) . نقل وجه الرفع في إعراب القرآن 1/ 172 وقال هي قراءة أبي عمرو والكسائي وأهل الحرميين وفي الطبري 6/ 547 الى عامة قراء الحجاز والمدينة، وفي السبعة 213 الى ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي، وفي البحر 2/ 507 الى الحرميين والنحويين والأعشى والبرجمي، وفي الكشف 1/ 350 والتيسير 89 والجامع 4/ 123 الى غير عاصم وحمزة وابن عامر، وفي معاني القرآن 1/ 224 وحجة ابن خالويه 87 والمشكل 99 بلا نسبة. أما النصب ففي الطبري 6/ 547 الى بعض الكوفيين والبصريين وفي السبعة 213 والكشف 1/ 350 والتيسير 89 والجامع 4/ 123 والبحر 2/ 507 الى عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي، وفي معاني القرآن 1/ 224 الى أكثر القراء، وفي حجة ابن خالويه 87 والمشكل 99 بلا نسبة.

فاللام التي مع «ما» في أول الكلام هي لام الابتداء نحو «لزيد أفضل منك» ، لأن (ما آتيتكم) اسم والذي بعده صلة. واللام التي في لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [الآية 81] لام القسم كأنه قال «والله لتؤمننّ به» فوكد في أول الكلام وفي آخره، كما تقول: «أما والله أن لو جئتني لكان كذا وكذا» ، وقد يستغنى عنها. ووكّد في لَتُؤْمِنُنَّ باللام في آخر الكلام وقد يستغنى عنها. جعل خبر (ما آتيتكم من كتاب وحكمة) لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ مثل «ما لعبد الله؟ والله لتأتينّه» . وإن شئت جعلت خبر (ما) مِنْ كُتُبٍ تريد (لما آتيتكم كتاب وحكمة) وتكون «من» زائدة «1» . وقال تعالى: مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً [الآية 91] مهموزة من «ملأت» وانتصب (ذهبا) كما تقول: «لي مثلك رجلا» أي: لي مثلك من الرجال، وذلك لأنك شغلت الاضافة بالاسم الذي دون «الذهب» وهو «الأرض» ثم جاء «الذهب» وهو غيرها فانتصب كما ينتصب المفعول إذا جاء من بعد الفاعل. وهكذا تفسير الحال، لأنك إذا قلت: «جاء عبد الله راكبا» فقد شغلت الفعل «2» ب «عبد الله» وليس «راكب» من صفته لأن هذا نكرة وهذا معرفة. وإنما جئت به لتجعله اسما للحال التي جاء فيها. فهكذا تفسيره، وتفسير «هذا أحسن منك وجها» ، لأن «الوجه» غير الكاف التي وقعت عليها «من» و «أحسن» في اللفظ إنّما هو الذي تفضله ف «الوجه» غير ذينك في اللفظ. فلما جاء بعدهما وهو غيرهما، انتصب انتصاب «3» المفعول به بعد الفاعل. وقال تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 93] لأنه يقال: «هذا حلال» و: «هذا حلّ» ، و «هذا حرام» و «هذا حرم» ويقال

_ (1) . نقله في المحتسب 1/ 164، واعراب القرآن 1/ 172، والمشكل 1/ 165، والتهذيب 15/ 411 لام التوكيد. والجامع 4/ 125، والبحر 2/ 511 و 512. (2) . أي اكتفى الفعل بعبد الله فهو فاعله، أما «راكب» فلا يكون مرفوعا، لأنه ليس مسندا اليه ولا صفة للمسند اليه» . (3) . كل هذا مبني على ما قاله الخليل في غير موضع من الكتاب. فالاسم قد ينتصب في الجملة لأنه ليس من الاسم الأول ولا هو هو، اي ليس جزا من الاسم الأول كأن يكون مضافا اليه ولا صفة له. والصفة التي تتبع الموصوف هي التي تكون من المنعوت أو الموصوف وكأنها هو.

وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ [الأنبياء/ 95] «1» ويقال «وحرم على قرية» «2» وتقول: «حرم عليكم ذاك» ولو قال «وحرم على قرية» «3» كان جائزا [ولو قال] «وحرم على قرية» «4» كان جائزا أيضا. قال الله تعالى: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [الآية 95] نصب على الحال. وقال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [الآية 96] فهذا خبر «إنّ» . ثم قال: مُبارَكاً [الآية 96] لأنه قد استغنى عن الخبر «5» ، وصار مُبارَكاً نصبا على الحال. وَهُدىً لِلْعالَمِينَ [الآية 96] في موضع نصب عطف عليه. والحال في القرآن كثير، ولا يكون إلا في موضع استغناء. وقال تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ [الآية 97] فرفع مَقامُ إِبْراهِيمَ لأنه يقول: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ منها مَقامُ إِبْراهِيمَ على الإضمار «6» . وقال الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً [الآية 103] على التفسير بقطع الكلام عند قوله اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ثم فسر آية التأليف بين قلوبهم وأخبر بالذي كانوا فيه قبل التأليف، كما تقول «أسمك الحائط أن يميل» .

_ (1) . وهي قراءة نسبت في معاني القرآن 2/ 211 الى أهل المدينة والحسن، وفي الطبري 17/ 86 الى عامة قراء أهل المدينة والبصرة وعكرمة وأبي جعفر محمد بن علي، وفي المصاحف 82 الى عبد الله بن الزبير، وفي السبعة 431 الى ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم. وفي الكشف 2/ 114 والتيسير 155 الى غير أبي بكر وحمزة والكسائي، وفي الجامع 11/ 340 الى زيد بن ثابت واهل المدينة، وهي اختيار ابي حاتم وابي عبيد وفي البحر 6/ 338 وفي حجة ابن خالويه 226 بلا نسبة. (2) . في معاني القرآن 2/ 211 الى ابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، وفي الطبري 17/ 86 الى عامة قراء أهل الكوفة وابن عباس، وزاد في الجامع 11/ 340 علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، وفي السبعة 431 الى حمزة والكسائي والى عاصم في رواية وفي الكشف 2/ 114 والتيسير 155 أبدل بعاصم أبا بكر، وفي البحر 6/ 338 زاد على ما في الكشف والتيسير طلحة والأعمش وأبا حنيفة وأبا عمرو في روايته. (3) . في الجامع 11/ 340 الى ابن عباس ايضا وابي العالية فتح الحاء وضم الراء، والى ابن عباس أيضا ضم الحاء وكسر وتضعيف الراء. (4) . في الشواذ 93 الى عكرمة، وفي المحتسب 2/ 65 الى ابن عباس بخلاف، وفي الجامع 11/ 340 الى قتادة ومطر الورّاق، وزاد في البحر 6/ 338 محبوبا عن أبي عمرو. (5) . إن السياق يقتضي أن يكون بالخبر. [.....] (6) . نقله في إعراب القرآن 1/ 175 والجامع 4/ 139.

وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ [الآية 103] ف «الشّفا» مقصور مثل «القفا» وتثنيته بالواو تقول: «شفوان» لأنه لا يكون فيه الإمالة «1» ، فلما لم تجيء فيه الإمالة عرفت أنّه من الواو «2» . وقال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [الآية 104] و «أمّة» في اللفظ واحد، في المعنى «3» جمع، فلذلك قال يَدْعُونَ. وقال عز وجل: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) فثنى الاسم وأظهره، وهذا مثل «أمّا زيد فقد ذهب زيد» . قال الشاعر «4» [من الخفيف وهو الشاهد السابع والخمسون بعد المائة] : لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا فأظهر في موضع الإضمار. وقال: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [الآية 111] استثناء يخرج من أول الكلام. وهو كما روى يونس «5» عن بعض العرب، أنه قال: «ما أشتكي شيئا إلّا خيرا» . ومثله لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) [النبأ] . وقال: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ [الآية 112] فهذا مثل لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً استثناء خارج من أول الكلام في معنى «لكنّ» وليس بأشدّ من قوله لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً [مريم/ 62] . وقال: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الآية 113] لأنه قد ذكرهم ثم فسره فقال: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ [الآية 113] ولم يقل «وأمّة على خلاف هذه الأمّة» لأنه قد ذكر هذا كله قبل. وقال تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فهذا قد دل على أمة خلاف هذه.

_ (1) . لو كان فيه إمالة لرسم بالياء: شفى. (2) . نقله في الصحاح «شفا» والجامع 4/ 165. (3) . نقله في الصحاح امم. (4) . هو عدي بن زيد العبادي: ديوانه 95 والخزانة 1/ 183، وقيل سوادة بن عدي بن زيد الكتاب 1/ 30 وتحصيل عين الذهب 1/ 30 وإعراب القرآن للزجّاج 3/ 913 وشواهد سيبويه 92، وقيل أمية بن أبي الصلت وتحصيل عين الذهب 1/ 30 وشواهد سيبويه 92، ولا وجود له في ديوانه. (5) . هو يونس بن حبيب الضبي النحوي البصري، وقد مرت ترجمته قبل.

وأما قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [الآية 106] على «فيقال لهم أكفرتم» . مثل قوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ [الزمر/ 3] وهذا في القرآن كثير. وقال تعالى: آناءَ اللَّيْلِ [الآية 113] وواحد «الآناء» مقصور «إنى» فاعلم وقال بعضهم: «إني» كما ترى و «إنو» وهو ساعات الليل. قال الشاعر «1» [من البسيط وهو الشاهد الثامن والخمسون بعد المائة:] السّالك الثّغر مخشيّا موارده ... في كلّ إني قضاه اللّيل ينتعل «2» قال: وسمعته «يختعل» «3» . وقال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [الآية 110] يريد «أهل أمّة» لأنّ الأمّة الطريقة. والأمّة أيضا لغة «4» . قال النابغة «5» [من الطويل وهو الشاهد التاسع والخمسون بعد المائة] : حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع «6» وقال تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا

_ (1) . في الصحاح «أنا» هو الهذلي، وفي مجاز القرآن 1/ 102 هو أبو أثيلة، وفي هامشه أبو أثيلة وهو المتنخل الهذلي مالك بن عمرو، وفي اللسان «اني» هو الهذلي المتنخل. (2) . في اللسان رواية عن الزجاج مطابقة لما رواه الأخفش إلا في إبدال الباء ب «في» وبعد قال: قال الأزهري: كذا رواه ابن الأنباري. وأنشد الجوهري: حلو ومر كعطف القدح مرّته. وما في الصحاح «أنا» مطابق لما رواه الأخفش. وفي مجاز القرآن 1/ 102: «حلو ومرّ كعطف الليل مرّته» . وفي ديوان الهذليين 2/ 35: حلوّ ومرّ كعطف القدح مرته ... بكل إنّي حذاه الليل ينتعل وجاء في 2/ 34 بيت في القصيدة نفسها هو: السالك الثغرة اليقظان كالئها ... مشي الهلوك عليها الخيعل الفضل وقد نقل هذه الآراء كلها في الصحاح «أنا» واللسان «إنّي» ونسبها الى الزّجّاج. (3) . وردت في الأصل بهذا الرسم ولا معنى لها. (4) . في اللهجات 183 وما بعدها، يبدو أن كسر همزة «امة» لغة الحجاز، وضمها لغة تميم، قياسا على همزة «أسوة» . (5) . هو النابغة الذبياني زياد بن معاوية، وقد مرت ترجمته من قبل. (6) . البيت في ديوانه 51 واللسان امم والصحاح «امم» ، وفي الصحاح واللسان نقل هذا وزاد بعد قوله «أهل أمة» قوله: أي خير أهل دين، وكذلك في الجامع 4/ 170، وفي الجامع 4/ 175، وإعراب القرآن 1/ 180 باختلاف قليل.

[الآية 118] لأنها من «ألوت» و «ما آلو» «ألوا» . وقال تعالى: وَدُّوا ما عَنِتُّمْ [الآية 118] يقول لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً [الآية 118] وَدُّوا أي: أحبّوا ما عَنِتُّمْ جعله من صفة «البطانة» ، جعل ما عَنِتُّمْ في موضع «العنت» . وقرأ من ذكر في الحاشية: (لا يضركم كيدهم) [الآية 120] «1» لأنه من «ضار» «يضير» و «ضرته» خفيفة «فأنا أضيره» ، وفي الرسم القرآني: لا يَضُرُّكُمْ «2» جعله من «ضرّ» «يضرّ» وحرّك للسكون الذي قبله، لأن الحرف الثقيل بمنزلة حرفين، الأول منهما ساكن. وقرأ بعضهم: (لا يضركم) «3» جعلها من «ضار» «يضور» وهي لغة. وقال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ [الآية 121] لأنها من «بوّأت» و «إذ» ها هنا إنّما خبرها في المعنى كما فسرت لك. وقال: بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [الآية 125] «4» لأنهم سوّموا الخيل. وقال بعضهم (مسوّمين) معلمين لأنّهم هم سوّموا، وبها قرأ من قرأ «5» .

_ (1) . في المصحف: يضركم بضم الضاد والراء المضعّفة. أما كسر الضاد وسكون الراء فهي في الطبري 7/ 57 الى جماعة من أهل الحجاز وبعض البصريين، وفي السبعة 215 الى ابن كثير ونافع وأبي عمرو والى حمزة في رواية، وفي الكشف 1/ 355 الى أهل الحرمين وأبي عمرو والى غير الكوفيين وابن عامر، وفي التيسير 90 الى غير الكوفيين وابن عامر وفي الجامع 4/ 184 الى الحرميين وأبي عمرو وزاد في البحر 3/ 43 حمزة، وفي معاني القرآن 1/ 232 الى بعض القراء وفي حجة ابن خالويه 88 بلا نسبة. (2) . في الطبري 7/ 157 الى جماعة من أهل المدينة وعامة قراء أهل الكوفة، وفي السبعة 215 الى ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، وفي الشواذ 22 الى المفضّل عن عاصم مع فتح الراء، وفي الكشف 1/ 355 الى الكوفيين وابن عامر، وكذلك في التيسير 90 والبحر 3/ 43، وأسقط في الجامع 4/ 84 ابن عامر وفي معاني القرآن 1/ 150 وحجة ابن خالويه 88 والمشكل 106 بلا نسبة. [.....] (3) . في المشكل 106، والجامع 4/ 184 الى الكسائي وفي الطبري 7/ 57 بلا نسبة قياسا على لغة «ضار يضور» . وكذلك في معاني القرآن 1/ 232. وقال بها استنادا الى لغة لبعض أهل العالية سمعها الكسائي. (4) . في الطبري 7/ 184 الى بعض قراء أهل الكوفة والبصرة، وفي السبعة 216 والكشف 1/ 355 والتيسير 90 والجامع 4/ 196 والبحر 3/ 51 الى أبي عمرو وابن كثير وعاصم وفي حجة ابن خالويه 89 بلا نسبة. (5) . في الطبري 7/ 184 الى عامة قراء أهل المدينة والكوفة، وفي السبعة 216 الى ابن عامر ونافع وحمزة والكسائي، وكذلك في الجامع 4/ 196، وفي البحر 3/ 151 الى الصاحبين والأخوين، وفي الكشف 1/ 355 والتيسير 90 الى غير ابن كثير وابي عمرو وعاصم. وزاد في أولها أن الجماعة عليها.

أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ [الآية 128] على لِيَقْطَعَ طَرَفاً [الآية 127] عطفه على اللام. وقال تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ [الآية 140] «1» قرأ بعضهم (قرح) «2» مثل «الضعف» و «الضعف» «3» وتقول منه «قرح» «يقرح» «قرحا» و «هو قرح» . وبعض العرب يقول: «قريح» «4» مثل «مذل» و «مذيل» . وقال تعالى: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [الآية 143] توكيدا كما تقول: «قد رأيته والله بعيني» و «رأيته عيانا» «5» . وقال تعالى: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ [الآية 144] ولم يقل (انقلبتم) فيقطع الألف لأنه جواب المجازاة الذي وقعت عليه إن وحرف الاستفهام قد وقع على إن فلا يحتاج خبره إلى الاستفهام لأن خبرها مثل خبر الابتداء. ألا ترى أنك تقول: «أزيد حسن» ولا تقول: «أزيد أحسن» وقال الله تعالى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ [الأنبياء/ 34] ولم يقل (أفهم الخالدون) لأنه جواب المجازاة. وقال الله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا [الآية 145] فقوله سبحانه كِتاباً مُؤَجَّلًا توكيد، ونصبه على «كتب الله ذلك كتابا مؤجّلا» . وكذلك كل شيء في القرآن من قوله حَقًّا «6» انما هو «أحقّ ذلك حقّا» . وكذلك وَعَدَ اللَّهُ

_ (1) . في معاني القرآن 1/ 234 الى أكثر القراء، وفي الطبري 7/ 237 الى عامة قراء أهل الحجاز والمدينة والبصرة، وفي السبعة 216 الى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر والى عاصم في رواية، وفي الكشف 1/ 356 الى غير حمزة وأبي بكر والكسائي، وفي التيسير 90 استبدل أبا عمرو بأبي بكر، وفي الجامع 4/ 417 الى محمد بن السميفع مع فتح الراء، وفي البحر 3/ 63 زاد أبا السمال واقتصر عليه في الكشاف 1/ 418، وفي حجة ابن خالويه 89، والمشكل 108، والإملاء 1/ 150 بلا نسبة. (2) . في معاني القرآن 1/ 234 الى أصحاب عبد الله، وفي الطبري 7/ 236 الى عامة قراء الكوفة، وفي السبعة 216 الى حمزة وعاصم والكسائي، وفي الكشف 1/ 356 استبدل أبا بكر بعاصم وكذلك في التيسير 90، وفي البحر 3/ 62 الى الأخوين وأبي بكر والأعمش وفي حجة ابن خالويه 89 والمشكل 108 والإملاء 1/ 150 بلا نسبة. (3) . الضم في «قرح» لغة تميم والفتح لغة الحجاز والضم في «ضعف» لغة الحجاز والفتح لغة تميم اللهجات 191 و 193. (4) . لعلهم التميميون قياسا على ما جاء في اللهجات 415 وما بعدها. (5) . نقله في زاد المسير 1/ 468 والجامع 4/ 221 والبحر 3/ 67. (6) . ورد هذا التعبير في سبعة عشر موضعا من الكتاب الكريم، أولها في البقرة/ 180 وآخرها لقمان 31/ 9.

[النساء/ 122] «1» ورَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ [الكهف/ 82] «2» وصُنْعَ اللَّهِ [النمل/ 88] وكِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء/ 24] إنما هو من «صنع الله ذلك صنعا» فهذا تفسير كل شيء في القرآن من نحو هذا، وهو كثير. وقال تعالى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الآية 147] : وقال: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا [الأعراف/ 82] «3» وقال: ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الجاثية/ 25] ف أَنْ قالُوا هو الاسم الذي يرفع ب وَما كانَ لأن أن الخفيفة وما عملت فيه بمنزلة الاسم، تقول: «أعجبني أن قالوا» وإن شئت رفعت أول هذا كله وجعلت الآخر في موضع نصب على خبر كان «4» . قال الشاعر [من الطويل هو الشاهد الستون بعد المائة] : لقد علم الأقوام ما كان داءها ... بثهلان إلّا الخزي ممّن يقودها «5» وان شئت «ما كان داؤها الا الخزي» . وقال تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ [الآية 153] لأنك تقول: «أصعد» أي: مضى وسار و «أصعد الوادي» أي: انحدر فيه. وأما «صعد» فانه: ارتقى «6» . وقال: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [الآية 153] أي: على غمّ. كما قال:

_ (1) . ورد هذا التعبير في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم، أولها النساء/ 122 وانظر «المعجم المفهرس» 754. (2) . وانظر المعجم المفهرس 305، لغير هذا الموضع. (3) . اما في النمل 27/ 56 والعنكبوت 29/ 24 و 29 فبالفاء: فَما كانَ. (4) . جاء ضم الاسم على انه اسم كان، وأن المصدر المؤول خبرها في آية النمل الى الأعمش، و «الكشاف 3/ 374» ، وفي العنكبوت 24 الى سالم الأفطس وعمرو بن دينار «الجامع 3/ 338» وفي الكشاف 3/ 450 بلا نسبة. وجاء في الجاثية بلا نسبة في الكشاف 4/ 291، أما نصب الاسم خبرا لكان على أن يكون المصدر المؤول اسمها، فجاء في آل عمران بلا نسبة في الجامع 4/ 231 وفي العنكبوت 24 الى العامة في الجامع 13/ 338 وبلا نسبة لنسبه في الكشاف 3/ 450، وفي الجاثية كذلك في الكشاف 4/ 291. (5) . الشاهد في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 24 وشواهد الكتاب 79 ب «وقد» وهو في شرح المفصّل لابن يعيش 7/ 96 كما رواه الأخفش. ولم يشر اليه النحاس في شرح أبيات الكتاب. مما يدل على خرم في مخطوطته. [.....] (6) . نقله في التهذيب «صعد» 2/ 7 وفي الصحاح «صعد» وزاد فقال: «وأصعد» في الوادي وصعّد تصعيدا أي انحدر فيه، وأهمل «صعد» .

فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه/ 71] ومعناه على جذوع النخل وكما قال: «ضربني في السيف» يريد «بالسيف» وتقول: «نزلت في أبيك» أي: على أبيك. وقال تعالى: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [الآية 154] «1» بنصب «كله» ، ولك رفعها إذا جعلت «كلّا» اسما كقولك: «إنّ الأمر بعضه لزيد» . وإن جعلته توكيدا نصبت. وإن شئت نصبت على البدل، لأنك لو قلت «إنّ الأمر بعضه لزيد» لجاز على البدل، والصفة لا تكون في «بعض» . قال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد الحادي والستون بعد المائة] : إنّ السّيوف غدوّها ورواحها ... تركا فزارة مثل قرن الأعضب «3» فابتدأ «الغدوّ» و «الرواح» وجعل الفعل لهما. وقد نصب بعضهم «غدوّها» و «رواحها» وقال: «تركت هوازن» فجعل «الترك» ل «السيوف» وجعل «الغدوّ» و «الرواح» تابعا لها كالصفة حتى صار بمنزلة «كلّها» . وتقول إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [الآية 154] على التوكيد «4» أجود وبه نقرأ. وقال تعالى: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ [الآية 154] وقد قال بعضهم (القتال) «5» و «القتل» أصوب فيما نرى، وقرأ بعضهم: (إلى قتالهم) و «القتل» أصوبهما إن شاء، لأنه قال: إِلى مَضاجِعِهِمْ. وقال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ [الآية 154] : أي: كي يبتلي الله. وقال تعالى: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الآية 166] فجعل الخبر بالفاء لأنّ ما بمنزلة «الذي»

_ (1) . نقله في إعراب القرآن 1/ 89، والمشكل 1/ 177، والجامع 4/ 242. (2) . هو الأخطل التغلبي غياث بن غوث، ديوانه 28، والكامل 2/ 726، والخزانة 2/ 372. (3) . في الديوان «تركت هوازن» بدل «تركا فزارة» ، وكذلك في الكامل والخزانة وفي شرح الأشموني 3/ 135. (4) . في الطبري 7/ 323 الى عامة قراء الحجاز والعراق، وفي السبعة 217 والتيسير 91 الى القراء كلهم إلا أبا عمرو، وزاد في الجامع 4/ 242 يعقوب. وفي معاني القرآن 1/ 243 والحجة 90 بلا نسبة. اما الرفع، ففي الطبري 7/ 323 إلى بعض قراء أهل البصرة وفي السبعة 217 والتيسير 91 إلى أبي عمرو، وفي الجامع 4/ 242 زاد يعقوب، وفي معاني القرآن 1/ 243 والحجة 90 بلا نسبة. (5) . في البحر 3/ 90 الى الحسن والزهري، وفي الكشاف 1/ 429 بلا نسبة.

وهو في معنى «من» ، و «من» تكون في المجازاة ويكون جوابها بالفاء. وقال تعالى أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا [الآية 156] وواحد «الغزّى» «غاز» مثل «شاهد» و «شهّد» . وقال تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ [الآية 157] . فان قيل كيف يكون لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ [الآية 157] جواب ذلك الأول؟ فكأنه حين قال وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ ذكر لهم مغفرة ورحمة، إذ كان ذلك في السبيل، فقال لَمَغْفِرَةٌ يقول: «لتلك المغفرة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الآية 157] «1» » . وقال: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) وان شئت قلت (قتلتم) . وقال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [الآية 159] يقول: «فبرحمة» وما زائدة. وقال تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [الآية 161] «2» وقرأ بعضهم: (يغلّ) «3» وكلّ صواب، والله أعلم، لأنّ المعنى «أن يخون» أو «يخان» . وقال: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [الآية 165] فهذه الألف ألف الاستفهام دخلت على واو العطف، فكأنه قال: «صنعتم كذا وكذا ولمّا أصابتكم» ثم أدخل على الواو ألف الاستفهام. وقال: فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [الآية 166] فجعل الخبر بالفاء لأنّ ما أَصابَكُمْ [الآية 166] : الذي أصابكم.

_ (1) . في المصحف: يجمعون بالياء، وهي في السبعة 218 الى عاصم في رواية، وفي الكشف 1/ 362 والتيسير 91 الى حفص، وفي البحر 3/ 96 الى حفص عن عاصم. اما تجمعون بالتاء، فهي في البحر 3/ 96 الى الجمهور، وفي السبعة 218 استثنى عاصما برواية حفص وفي الكشف 1/ 362 والتيسير 91 الى غير حفص. (2) . في معاني القرآن 1/ 246 الى ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي وفي الطبري 7/ 348 الى جماعة من قراء الحجاز والعراق، وفي السبعة والتيسير 91 والكشف 1/ 363 الى ابن كثير وأبي عمرو وعاصم، وزاد في الأخير ان النبي (ص) وابن عباس قرءا بها، وفي البحر 3/ 101 لم يذكر قراءة النبي (ص) ، اما في الحجة 91 والجامع 4/ 255، فبلا نسبة. (3) . في معاني القرآن 1/ 246 الى بعض أهل المدينة وأصحاب عبد الله، وفي الطبري 7/ 353 الى معظم قراء أهل المدينة والكوفة، وفي السبعة 218 والكشف 1/ 363 والتيسير 91 الى غير ابن كثير وأبي عمرو وعاصم، وفي البحر 3/ 101 الى ابن مسعود وباقي السبعة من لم يأخذ بالأخرى، وفي حجة ابن خالويه 91 والجامع 4/ 255 بلا نسبة.

وقال وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ لأنّ معناه: «فهو بإذن الله» «وهو ليعلم» . وقال: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ [الآية 168] أي: قل لهم: فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ وأضمر «لهم» . وقال تعالى: فَزادَهُمْ إِيماناً [الآية 173] يقول: «فزادهم قولهم إيمانا» . وقال: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ [الآية 175] يقول: «يرهب النّاس أولياءه» أي: بأوليائه. وقال: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [الآية 187] «1» يقول: «استحلفهم ليبيّننّه ولا تكتمونه» وقال «لتبيّننّه ولا تكتمونه» أي: قل لهم: «والله لتبيّننّه ولا تكتمونه» . وقال: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [الآية 195] أي: فاستجاب: بأنّي لا أضيع عمل عامل منكم. أدخل فيه من زائدة كما تقول «قد كان من حديث» ومن ها هنا لغو لأنّ حرف النفي قد دخل في قوله لا أُضِيعُ. وقال: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ [الآية 180] فأراد «ولا تحسبنّ البخل هو خيرا لهم» فألقى الاسم الذي أوقع عليه الحسبان وهو «البخل» ، لأنّه قد ذكر الحسبان وذكر ما آتاهم الله من فضله فأضمرهما إذا ذكرهما. وقد جاء من الحذف ما هو أشدّ من هذا، قال الله تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ [الحديد/ 10] ولم يقل «ومن أنفق من بعد» لأنه لما قال أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ [الحديد/ 10] كان فيه دليل على أنه قد عناهم. وقال تعالى:

_ (1) . في المصحف الشريف: لتبيننه ... تكتمونه. بالتاء، وهي في الطبري 7/ 462 الى معظم قراء أهل المدينة والكوفة، وفي السبعة 221 الى نافع وابن عامر وحمزة والى عاصم في رواية، وفي التيسير 93 الى غير أبي عمرو وابن كثير، وفي الجامع 4/ 305 الى أبي عمرو وعاصم في رواية ابي بكر وأهل مكة، وفي البحر 3/ 136 الى السبعة ما عدا أبا بكر وأبا عمرو وابن كثير. أما القراءة بالياء في كل فهي في الطبري 7/ 462 الى «آخرون» وفي السبعة 221 الى ابن كثير وأبي عمرو والى عاصم في رواية، وأغفل في التيسير 93 عاصما، وأغفل في البحر 3/ 136 عاصما وزاد أبا بكر، وفي الجامع 4/ 305 الى غير أبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وأهل مكة والى ابن عباس.

سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [الآية 181] وقد مضى لذلك دهر، فإنّما يعني: «سنكتب ما قالوا على من رضي به من بعدهم أيام يرضاه» . وأما قوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ [الآية 188] فإنّ: الآخرة بدل من الأولى والفاء زائدة. ولا تعجبني قراءة من قرأ الأولى بالياء «1» إذ ليس لذلك مذهب في العربية، لأنه إذا قال: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا فإنّه لم يوقعه على شيء.

_ (1) . في الطبري 7/ 428 الى غير من قرأ بقراءة التاء، وفي السبعة 219 الى ابن كثير وابن عمرو ونافع والكسائي مع كسر السين، وفي 220 الى ابن عامر وعاصم مع فتح السين، وفي البحر 3/ 128 الى السبعة إلّا حمزة وفي حجة ابن خالويه 92 بلا نسبة. أما القراءة بالتاء، ففي الطبري 7/ 431 الى جماعة من أهل الحجاز والعراق، وفي السبعة 220 والجامع 4/ 290 والبحر 3/ 127 الى حمزة، وفي حجة ابن خالويه 92 بلا نسبة.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"آل عمران"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «آل عمران» «1» إن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [الآية 3] ثم قوله بعد ذلك: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) ؟ قلنا: إنّ القرآن أنزل منجّما، والتوراة والإنجيل نزّلا جملة واحدة. كذا أجاب الزمخشري وغيره، يرد عليه قوله تعالى بعد ذلك: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [الآية 4] فإن الزمخشري قال: أراد به جنس الكتب السماوية لا الثلاثة المذكورة خصوصا، أو أراد به الزّبور، أو أراد به القرآن، وكرر ذكره تعظيما. ويردّ عليه أيضا قوله تعالى بعد ذلك: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [الآية 7] وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة/ 4] وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان/ 32] والذي وقع لي فيه- والله أعلم- أن التضعيف في «نزّل» والهمزة في «أنزل» كلاهما للتعدية، لأن نزل فعل لازم في نفسه، وإذا كانا للتعدية لا يكونان لمعنى آخر وهو التكثير أو نحوه، لأنه لا نظير له، وإنما جمع بينهما والمعنى واحد، وهو التعدية جريا على عادة العرب في افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه على وجوه شتى، ويؤيّد هذا قوله تعالى: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الأنعام/ 37] وقال في موضع آخر لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يونس/ 20] . فإن قيل: لقد قال تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «اسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [الآية 7] و «من» للتبعيض وقال في موضع آخر: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود/ 1] ، وهذا يقتضي كون آياته جميعها محكمة؟ قلنا المراد بقوله مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [الآية 7] أي ناسخات وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [الآية 7] أي منسوخات، وقيل المحكمات العقليات، والمتشابهات الشرعيات، وقيل المحكمات ما ظهر معناها، والمتشابهات ما كان في معناها غموض ودقة، والمراد بقوله كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ أن جميع القرآن صحيح ثابت، مصون من الخلل والزّلل فلا تنافي فيه. فإن قيل: لم قال سبحانه وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ جعل بعضه متشابها وقال في موضع آخر: كِتاباً مُتَشابِهاً [الزّمر/ 23] وصفه كله بكونه متشابها. قلنا: المراد بقوله جلّ وعلا وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ما سبق ذكره، والمراد بقوله كِتاباً مُتَشابِهاً أنه يشبه بعضه بعضا في الصحة وعدم التناقض وتأييد بعضه بعضا فلا تنافي فيه. فإن قيل: ما الحكمة من إنزال المتشابهات بالمعنى الأخير، والمقصود من إنزال القرآن إنما هو البيان والهدى، والغموض والدقة في المعاني ينافيان هذا المقصود أو يبعدانه؟ قلنا: لما كان كلام العرب ينقسم إلى ما يفهم معناه سريعا ولا يحتمل غير ظاهره، وإلى ما هو مجاز وكناية وإشارة وتلويح، والمعاني فيه متعارضة متزاحمة، وهذا القسم هو المستحسن عندهم والمستبدع في كلامهم، نزل القرآن بالنوعين تحقيقا لمعنى الإعجاز، كأنه قال: عارضوه بأي النوعين شئتم، فإنه جامع لهما. وأنزله الله عز وجل محكما ومتشابها ليختبر من يؤمن به كله، ويرد علم ما تشابه منه إلى الله فيثيبه. ومن يرتاب فيه ويشك، وهو المنافق، فيعاقبه، كما ابتلى عباده بنهر طالوت وغيره، أو أراد أن يشتغل العلماء بردّ المتشابه إلى المحكم بالنظر والاستدلال والبحث والاجتهاد فيثابون على هذه العبادة. ولو كان كله ظاهرا جليا لاستوى فيه العلماء والجهال، ولماتت الخواطر بعدم البحث والاستنباط، فإن نار الفكر إنما تنقدح بزناد المشكلات، ولهذا قال بعض الحكماء: عيب الغنى أنه يورث البلادة، ويميت الخاطر وفضيلة الفقر أنه يبعث على إعمال الفكر، واستنباط الحيل في الكسب.

فإن قيل: قوله تعالى يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ [الآية 13] أي ترى الفئة الكافرة الفئة المسلمة مثلي عدد نفسها، أو بالعكس على اختلاف القولين. وكيفما كان، فهو مناف لقوله تعالى في سورة الأنفال: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال/ 44] لأنه يدل على أن الفئتين تساوتا في استقلال كل واحدة منهما للأخرى، فكل منهما ترى الأخرى قليلة؟ قلنا: التقليل والتكثير في حالين مختلفين، قلل الله المشركين في نظر المؤمنين أوّلا، والمؤمنين في نظر المشركين حتى اجترأت كل فئة على قتال صاحبتها فلما التقتا كثّر الله المؤمنين في نظر المشركين حتى جبنوا وفشلوا فغلبوا، وكثّر الله المشركين في نظر المؤمنين أو أراهم إياهم على ما هم عليه، وكانوا في الحقيقة أكثر من المؤمنين ليعلموا صدق ما وعدهم الله تعالى بقوله فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال/ 66] ، الآية، فإن المؤمنين غلبوهم في هذه الغزاة وهي غزاة بدر. مع أنهم كانوا أضعاف عدد المؤمنين وقيل: أرى الله المسلمين المشركين مثل عدد المسلمين وكانوا ثلاثة أمثالهم لكنه قلّلهم في أعين المسلمين، وأراهم إياهم بقدر ما أعلمهم أنهم يغلبونهم لتقوى قلوبهم بما سبق من الوعد أن المائة من المؤمنين يغلبون المائتين منهم. فإن قيل: ما الحكمة من تكرار قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ في قوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الآية 18] ؟ قلنا: الأول قول الله عزّ وجلّ، والثاني حكاية قول الملائكة وأولي العلم. وقال جعفر الصادق رحمه الله تعالى: الأول وصف، والثاني تعليم أي قولوا واشهدوا كما شهدت. فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى وَهُمْ مُعْرِضُونَ في قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) والتولي والإعراض واحد كما سبق في البقرة، فلم جمع بينهما؟ قلنا: معناه: يتولون عن الداعي ويعرضون عما دعاهم إليه وهو كتاب الله، أو يتولون بأبدانهم ويعرضون عن الحق بقلوبهم، أو قلنا الذين تولوا

علماؤهم، والذين أعرضوا أتباعهم. فإن قيل: لم قال تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ [الآية 26] خص الخير بالذكر، وبيده تعالى الخير والشر والنفع والضر أيضا؟ قلنا: لأن الكلام إنما ورد ردا على المشركين فيما أنكروه مما وعد الله تعالى به نبيّه (ص) على لسان جبريل عليه السلام من فتح بلاد الروم وفارس، ووعد النبي (ص) الصحابة بذلك، فلما كان الكلام في الخير خصه بالذكر باعتبار الحال، أو أراد الخير والشر فاكتفى بأحدهما لدلالته على الآخر كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل/ 81] وإنما خص الخير بالذكر لأنه المرغوب فيه المطلوب للعباد من الله تعالى. فإن قيل: لم قال تعالى يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحج/ 61] وإيلاج الشيء في الشيء يقتضي اجتماع حقيقتهما بعد الإيلاج، كإيلاج الخيط في الإبرة والإصبع في الخاتم ونحوهما، وحقيقة الليل والنهار أنهما لا يجتمعان؟ قلنا: الإيلاج قد يكون كما ذكرتم، وقد يكون مع تبدل صفة أحدهما بغلبة صفة الآخر عليه مع بقاء ذاته فيه، كإيلاج يسير من الخبز في لبن كثير أو بالعكس، فإن الحقيقتين مجتمعتان ذاتا، وصفة إحداهما غالبة على الأخرى. كذلك الليل والنهار إذا كان الليل أربع عشرة ساعة بالنسبة إلى زمن الاعتدال، ففيه من النهار ساعتان قطعا وكذا على العكس. أو معناه يولج زمن الليل في زمن النهار وبالعكس. أو يولج الليل في النهار وبالعكس باعتبار أن ليل قوم هو نهار آخرين وبالعكس، أو معناه أنه خلق ليلا صرفا خالصا، وخلق ما هو ممتزج منهما وهو ما قبيل طلوع الشمس وقبيل غروبها. والجواب الثالث والرابع يعمان السنة بأسرها. فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى [الآية 36] وهو معلوم من غير ذكر؟ قلنا: الحكمة اعتذارها عما قالته ظنا، فإنها ظنت أن ما في بطنها ذكر، ولهذا نذرت أن تجعله خادما لبيت المقدس، وكان من شريعتهم صحة هذا النذر في الذكور خاصة. فلما وضعت أنثى استحيت لمّا خاب ظنها ولم يتقبّل نذرها، فقالت ذلك معتذرة، تعني ليست الأنثى بصالحة لما يصلح

له الذكر في خدمة المسجد، لا أنها أرادت أن الأنثى ليست كالذكر صورة أو قوة أو نحو ذلك. فلما قالت ذلك، منكرة خجلة، منّ الله عليها بتخصيص مريم بقبولها في النذر دون غيرها من الإناث فقال تعالى فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ [الآية 37] . فإن قيل: المستعمل في مثله إدخال حرف النفي على القاصر، وحرف التشبيه على الكامل كقولهم: ليست الفضة كالذهب، وليس العبد كالحر، فوزانه: وليست الأنثى كالذكر. قلنا: لما كان جعل الأصل فرعا، والفرع أصلا في التشبيه في حالة الإثبات، يقتضي المبالغة في المشابهة كقولهم: القمر كوجه زيد، والبحر ككفه، كان جعل الأصل فرعا والفرع أصلا، في حالة النفي، يقتضي نفي المبالغة في المشابهة لا نفي المشابهة، وذلك هو المقصود هنا، لأن المشابهة واقعة بين الذكر والأنثى في أعم الأوصاف وأغلبها. ولهذا يقاد أحدهما بالآخر. وإنما أرادت أم مريم نفي المشابهة بينهما في صحة النذرية خادما للبيت المقدس لا غير، فلذلك عكس الثاني أن ذلك قوله تعالى، والمعنى: ليس الذكر الذي طلبت أن يكون خادما للكنيسة كالأنثى التي وهبت لما علم الله من جعلها وابنها آية للعالمين. وهو تفسير للتعظيم والتفخيم المجمل في قوله تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [الآية 36] وهي لا تعرف مقدار شرفه، واللام في الذكر والأنثى للعهد. هذا كله قول الزمخشري وتمامه في الكشاف. وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله تعالى: قال بعضهم: هذا قول الله تعالى لمحمد (ع) : أي وليس الذكر كالأنثى يا محمد. وقال بعضهم: هو من كلام أم مريم. فإن قيل: كيف نادت الملائكة زكريا وهو قائم يصلي في المحراب وأجابها وهو في الصلاة، كما قال الله تعالى فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي [الآية 39] ؟ قلنا: المراد بقوله يصلي: أن يدعو كقوله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [الإسراء/ 110] ، أي بدعائك. فإن قيل: ما فائدة تخصيص يحيى (ع) بقوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [الآية 39]

وكل واحد من المؤمنين مصدق بجميع كلمات الله تعالى؟ قلنا: معناه مصدقا بعيسى الذي كان خلقه بكلمة من الله تعالى، وهو قوله «كن» من غير واسطة أب في الوجود، وكان تصديق يحيى بعيسى أسبق من تصديق كل أحد في الوجود أو في الرتبة. فإن قيل: زكريا سأل الولد بقوله هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [الآية 38] والله تعالى بشّره بيحيى (ع) على لسان الملائكة، فكيف أنكر بعد هذا كله قدرة الله تعالى على إعطائه الولد حتى قال رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ [الآية 40] . قلنا: إنما قاله على سبيل الاستفهام والتعجب من عظيم قدرة الله تعالى، لا على طريق الإنكار والاستبعاد، أو اشتبه عليه كيف ينجب الولد وهو شيخ وامرأته عاقر، أو تزول عنهما هاتان الصفتان لكشف الحال تقديره: أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر. ولقائل أن يقول: آخر الآية لا يناسب هذا الجواب. فإن قيل: ما فائدة تكرار ذكر الاصطفاء في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ [الآية 42] . قلنا: الاصطفاء الأول: العبادة التي هي خدمة البيت المقدس وتخصيصها بقبولها في النذر مع كونها أنثى، والاصطفاء الثاني: لولادة عيسى (ع) ، أو أعيد ذكر الاصطفاء ليفيد بقوله عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) فيندفع بأنها مصطفاة على الرجال. فإن قيل: لم نفى حضور النبي عليه الصلاة والسلام في زمن مريم بقوله تعالى وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [الآية 44] ، وذلك معلوم عندهم لا شك فيه، وترك نفي استماعه ذلك الخبر من حفّاظه، وهو الذي كانوا يتوهمونه؟ قلنا: كان معلوما أيضا عندهم علما يقينيّا أنه ليس من أهل القراءة والرواية، وكانوا منكرين للوحي فلم يبق إلا المشاهدة والحضور وهما في غاية الاستحالة، فنفيا من طريق التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم أنه لا قراءة له ولا رواية، ونظيره قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ (44) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ [القصص] . فإن قيل: لم قال اسمه المسيح عيسى بن مريم والخطاب مع مريم،

وهي تعلم أن الولد الذي بشرت به يكون ابنها؟ قلنا: لأن الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات فأعلمت، بنسبه إليها، أنه يولد من غير أب، فلا ينسب إلا إلى أمه. فإن قيل: أي معجزة لعيسى (ع) في تكليم الناس كهلا، وأي خصوصية له في هذا حتى قال وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [الآية 46] ؟ قلنا: معناه ويكلم الناس في هاتين الحالتين بكلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل وينبأ فيها الأنبياء، فكأنه قال: ويكلم الناس في المهد كما يكلمهم كهلا. وقال الزّجّاج: هذا خرج مخرج البشارة لمريم أنه عليه الصلاة والسلام سيبقى إلى زمن الكهولة، فهو بشارة لها بطول عمره، وقيل المقصود منه أن الزمان يؤثر فيه كما يؤثر في غيره، وينقله من حال إلى حال ولو كان إلها لم يجز عليه التغيّر. فإن قيل: لم قال تعالى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [الآية 55] والله تعالى رفعه ولم يتوفّه؟ قلنا: لما هدده اليهود بالقتل بشّره الله بأنه إنما يقبض روحه بالوفاة لا بالقتل، والواو لا تفيد الترتيب، فلا يلزم من الآية موته قبل رفعه. الثاني أن فيه تقديما وتأخيرا: أي أني رافعك ومتوفيك. والثالث أن معناه: قابضك من الأرض تاما وافيا في أعضائك وجسدك لم ينالوا منك شيئا، من قولهم: توفيت حقي على فلان إذا استوفيته تاما وافيا. الرابع أن معناه: أني متوفيك في نفسك بالنوم من قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر/ 42] ورافعك إليّ وأنت نائم حتى لا تخاف، بل تستيقظ وأنت في السماء. فإن قيل: لم قال تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [الآية 59] ، وآدم خلق من التراب وعيسى خلق من الهواء، وآدم خلق من غير أب وأم، وعيسى خلق من أم. قلنا: المراد به التشبيه في وجوده بغير واسطة أب، والتشبيه لا يقتضي المماثلة من جميع الوجوه بل من بعضها. فإن قيل: لم خص أهل الكتاب بأن منهم أمينا وخائنا بقوله سبحانه وَمِنْ

أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [الآية 75] ، والمسلمون وغيرهم من أهل الملل كذلك منهم الأمين والخائن. قلنا: إنما خصهم باعتبار واقعة الحال، فإن سبب نزول الآية أن عبد الله بن سلام أودع ألفا ومائتي أوقية من الذهب فأدى الأمانة فيها، وفنحاص بن عازوراء أودع دينارا فخانه، ولأن خيانة أهل الكتاب للمسلمين تكون عن استحلال بدليل آخر الآية، بخلاف خيانة المسلم للمسلم فلذلك خصهم بالذكر. فإن قيل: لم قال تعالى وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [الآية 83] وأكثر الجن والإنس كفرة؟ قلنا: المراد بهذا الاستسلام والانقياد لما قضاه الله عليهم وقدره من الحياة والموت والمرض والصحة والشقاء والسعادة ونحو ذلك. فإن قيل: لم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [الآية 90] ومعلوم أن المرتد، وإن ازداد ارتداده كفرا، فانه مقبول التوبة؟ قلنا: نزلت الآية في قوم ارتدّوا ثم أظهروا التوبة بالقول لستر أحوالهم والكفر في ضمائرهم، قاله ابن عباس. وقيل نزلت في قوم تابوا عن ذنوبهم غير الشرك وقيل معناه: لن تقبل توبتهم وقت حضور الموت. فإن قيل: لم قال تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [الآية 96] وكم من بيت بني قبل الكعبة من زمن آدم إلى زمن إبراهيم عليه السلام؟ قلنا: معناه أن أول بيت وضع قبلة للناس ومكان عبادة لهم، أو وضع مباركا للناس، أو لأن ابن عباس قال: أول من بناه آدم (ع) ، لما هبط من السماء أوحى الله تعالى إليه أن ابن لي بيتا في الأرض، وافعل حوله نحو ما رأيت الملائكة تفعل حول عرشي، فبناه وجعل يطوف حوله. فإن قيل: لم قال الله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [الآية 110] ولم يقل أنتم خير أمة؟ قلنا: معناه كنتم في سابق علم الله، أو كنتم يوم أخذ الميثاق على الذرية، فأراد الإعلام بكون ذلك صفة أصلية فيهم لا عارضة متجددة، أو معناه خلقتم ووجدتم، فهي «كان» التامة،

و «خير أمة» نصب على الحال وتمام الكلام في «كان» يذكر في قوله تعالى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً [النساء/ 22] . فإن قيل: لم قال تعالى وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [الآية 110] ولا يصحّ أن يقال: هذا خير من هذا إلا إذا كان في كل واحد منهما خير، مع أن غير الإيمان لا خير فيه حتى يقال: إن الإيمان خير منه؟ قلنا: معناه أنّ إيمانهم بمحمد (ص) مع إيمانهم بموسى وعيسى (ع) ، خير من إيمانهم بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فقط. فإن قيل: لم قال تعالى: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ [الآية 117] ، والمقصود: تشبيه نفقة الكفار وأموالهم في تحصيل المفاخر وطلب الصيت والسمعة، أو ما ينفقونه في الطاعات مع وجود الكفر، أو ما ينفقونه في عداوة رسول الله (ص) ، تشبيه ذلك كله بالزرع الذي أصابته ريح شديدة البرد فأهلكته فضاع ولم ينتفع به، والتشبيه في الحقيقة بالزرع، وفي لفظ الآية بالريح؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح فيها صرّ، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح، ونظيره قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة/ 261] ، وقوله تعالى وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [البقرة/ 171] الآية. وقال ثعلب: فيه تقديم وتأخير تقديره: كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم أصابته ريح فيها صرّ فأهلكته. فإن قيل: لم قال تعالى إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها [الآية 120] فوصف الحسنة بالمس، والسيئة بالإصابة؟ قلنا: المس مستعار بمعنى الإصابة توسعة في العبارة: وإلا كان المعنى واحدا، ألا ترى إلى قوله تعالى في الفريقين: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء/ 79] وقوله إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) - وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) [المعارج] . فإن قيل: لم قال تعالى وَسارِعُوا [الآية 133] والنبي عليه أفضل التحية يقول: «العجلة من الشيطان والتأني من الرحمن» ؟ قلنا: قد استثنى النبيّ (ص) خمسة

مواضع فقال: «إلا في التوبة من الذنب، وقضاء الدّين الحالّ، وتزويج البكر البالغ، ودفن الميت، وإكرام الضيف إذا نزل» . والمسارعة، المأمور بها في الآية، هي المسارعة إلى التوبة وما في معناها من أسباب المغفرة. فإن قيل: لم قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [الآية 135] فعطف عليه بكلمة «أو» ، وفعل الفاحشة داخل في ظلم النفس، بل هو أبلغ أنواع ظلم النفس؟ قلنا: أريد بالفاحشة نوع من أنواع ظلم النفس وهو الزنى، أو كل كبيرة، فخصّ بهذا الاسم تنبيها على زيادة قبحه، وأريد بظلم النفس ما وراء ذلك من الذنوب. فإن قيل: لم قال تعالى هنا: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [الآية 135] وقال في موضع آخر وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) [الشورى] وقال: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا [الجاثية/ 14] . قلنا: معناه ومن يستر الذنوب من جميع الوجوه إلا الله، ومثل هذا الغفران لا يكون إلا من الله. فإن قيل: لم قال تعالى أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ [الآية 144] ولم يقتصر على قوله أَفَإِنْ ماتَ والقتل متضمّن في الموت؟ قلنا: القتل، وإن كان موتا، لكن إذا أطلق الميت في العرف، لم يفهم منه المقتول، فلذلك عطف أحدهما على الآخر. فإن قيل: لم قال تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 161] . وقال في موضع آخر وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام/ 94] . قلنا: معناه: يأتي به مكتوبا في ديوانه، أو يأتي به حاملا إثمه، ومعنى «فرادى» منفردين عن الأموال والأهل، أو عن الشر كله في الغي، أو عن الآلهة المعبودة من دون الله. وتمام الآية يشهد للكل. فإن قيل: قد جاء في الصحيحين عن النبي (ص) أن الغالّ يأتي يوم القيامة حاملا عين ما غلّه على عنقه، صامتا كان أو ناطقا. هذا معنى الحديث، فاندفع الجواب. قلنا: على هذا يكون المراد بالآية الأخرى فرادى عن مال وأهل يعتزّون

بهما ويستنصرون، ويشهد بصحته تمام الآية. فإن قيل: لم قال تعالى هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [الآية 163] وليس العبيد في الدرجات نفسها؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: هم ذوو درجات أو أهل درجات، فحذف المضاف لعدم الإلباس. وقيل المراد بالدرجات الطبقات، فلا يكون فيه إضمار معناه أنهم طبقات عند الله، متفاوتون كتفاوت الدرجات. فإن قيل: كيف يجعل لكلّ من الفريقين درجات، وأحد الفريقين لهم دركات لا درجات؟ قلنا: الدرجات تستعمل في الفريقين بدليل قوله تعالى في سورة الأنعام، بعد ذكر الفريقين وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام/ 132] وتحقيقه: أن بعض أهل النار أخف عذابا فمكانه فيها أعلى، وبعضهم أشد عذابا فمكانه بها أسفل. ولو سلم اختصاص الدرجات بأهل الدرجات كان قوله هُمْ دَرَجاتٌ راجعا إليهم خاصة تقديره: أفمن اتبع رضوان الله وهم درجات عند الله كمن باء بسخط من الله وهم دركات، إلا أنه حذف البعض لدلالة المذكور عليه. فإن قيل عن قوله تعالى الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [الآية 181] ، كانوا في زمن النبي (ص) قالوا ذلك لما سمعوا قوله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة/ 245] ، فكيف قال: سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ [الآية 181] أي ونكتب قتلهم الأنبياء، وهم لم يقتلوا نبيا قط؟ قلنا: لما رضوا بقتل أسلافهم الأنبياء، كأنهم باشروا ذلك فأضيف إليهم، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كثيرا. فإن قيل: لم قال تعالى وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الآية 182] وظلام صيغة مبالغة من الظلم، ولا يلزم من نفي الظلام نفي الظالم، وعلى العكس يلزم، فهل قال ليس بظالم ليكون أبلغ في نفي الظلم عن ذاته المقدسة؟ قلنا: صيغة المبالغة جيء بها لكثرة العبيد لا لكثرة الظلم، كما قال الله تعالى وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) [الكهف] وقال: عالِمِ الْغَيْبِ

[المؤمنون/ 92] وعَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) [المائدة] لما أفرد المعمول لم يأت بصيغة المبالغة، ونظيره قولهم: زيد ظالم لعبده، وعمرو ظلام لعبيده، فهما في الظلم سيّان. وكذلك قال الله تعالى مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح/ 27] فشدد لكثرة الفاعلين لا لتكرار الفعل، أو أن الصيغة هنا للنسب أي لا ينسب إليه ظلم فالمعنى: ليس بذي ظلم. الثاني أن العذاب من العظيم القدر، الكثير العدل، لولا سبق الجناية، يكون أفحش وأقبح من الظلم ممن ليس عظيم القدر كثير العدل، فيطلق عليه اسم الظلام باعتبار زيادة قبح الفعل منه لا باعتبار تكرره، فحاصله أن صيغة المبالغة تارة تكون باعتبار زيادة ذات الفعل، وتارة باعتبار صفته، ففعل الظلم، لو صدر عن الله تعالى وتقدس، لكان أعظم من ألف ظلم يصدر عن عبيده، باعتبار زيادة وصف القبح ونظيره قوله تعالى وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) [الأحزاب] على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. فإن قيل: في قوله تعالى فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الآية 184] : من حق الجزاء أن يتعقب. الشرط، وهذا سابق له؟ قلنا: جواب الشرط محذوف، وقوله تعالى: فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الآية 184] جوابا لأنه سابق عليه، ومعناه: وإن يكذبوك فتأسّ بتكذيب الرسل قبلك، وضعا للسبب، وهو تكذيبهم، موضع المسبب، وهو التأسي بهم. فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى وَلا تَكْتُمُونَهُ في قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [الآية 187] والأول مغن عن الثاني؟ قلنا: معناه ليبيّننّه في الحال، ويدومون على ذلك البيان ولا يكتمونه في المستقبل. الثاني أن الضمير الأول للكتاب، والثاني لنعت النبي (ص) وذكره، فإنه قد سبق ذكر النبي (ص) قبيل هذا. فإن قيل: متى بينوا الكتاب لزم من بيانه صفة النبي (ص) وذكره لأنه من جملة الكتاب الذي هو التوراة والإنجيل، فقوله بعد ذلك ولا يكتمونه تكرارا.

قلنا: على هذا يكون تأكيدا. فإن قيل: لم قال تعالى رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [الآية 192] وقال في موضع آخر يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم/ 8] ويلزم من هذا أن لا يدخل المؤمنين النار كما قالت المعتزلة والخارجية؟ قلنا: أخزيته بمعنى أذللته وأهنته من الخزي وهو الذل والهوان، وقوله تعالى يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ من الخزاية وهي النكال والفضيحة، فكل من يدخل النار يذل وليس كل من يدخلها ينكل به ويفضح، أو المراد بالآية الأولى إدخال الإقامة والخلود، لا إدخال تحلّة القسم المدلول عليها بقوله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم/ 71] أو إدخال التطهير الذي يكون لبعض المؤمنين بقدر ذنوبهم، وقيل إن قوله تعالى يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ كلام مبتدأ غير معطوف على ما قبله. فإن قيل: لم قال تعالى سَمِعْنا مُنادِياً [الآية 193] والمسموع نداء المنادي لا نفس المنادي؟ قلنا: لما قال «مناديا ينادي» ، صار تقديره: نداء مناد، كما يقال سمعت زيدا يقول كذا: أي سمعت قول زيد. ف «مناديا» مفعول سمع، وينادي حال دالة على محذوف مضاف للمفعول. فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا [الآية نفسها] وتكفير السيئات داخل في غفران الذنوب؟ قلنا: المعنى مختلف، لأن الغفران مجرد فضل، والتكفير محو السيئات بالحسنات. فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) مع انه لا ينفع التوفّي مع الأبرار، بل النافع ان يكون المرء من الأبرار، سواء أتوفي معهم، أم قبلهم، أم بعدهم؟ قلنا: معناه وتوفّنا مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم، كما يقال أعطاني الأمير مع أصحاب الخلع والجوائز: أي جعلني من جملتهم، وإن تقدم إعطاؤه عنهم أو تأخر. فإن قيل: كيف قال وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [الآية 194] أي على لسان رسلك دعوه بإنجاز الوعد مع علمهم، وقولهم أيضا إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) ؟

قلنا: الوعد من الله تعالى على ألسنة الرسل للمؤمنين وعد عام يحتمل أن يراد به الخصوص كما في أكثر عموميات القرآن، فسألوا الله تعالى أن يجعلهم من الداخلين في حكم الوعد. الثاني أنهم سألوا تعجيل النصر الذي وعدوا، فإنه تعالى وعدهم النصر على أعدائهم غير موقت بوقت خاص. فإن قيل: كيف يجوز أن يغتر الرسول بنعم الذين كفروا حتى نهى عن الاغترار بقوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) أي تصرفهم فيها بالنّعم؟ قلنا: معناه لا يغرنكم أيها المؤمنون، فإن رئيس القوم ومقدمهم يخاطب بشيء، والمراد به أتباعه وجماعته. الثاني أنه عليه الصلاة والسلام كان غير مغتر بحالهم، فقيل له ذلك تأكيدا وتثبيتا على الدوام عليه، كما قيل له: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) [القصص] ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) [القصص] ، فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) [القلم] . فإن قيل: كيف ينهى عن التقلب وهو مما ليس ينهى عنه؟ قلنا: معناه لا تغتر بتقلبهم، فيكون تقلبهم قد غرك، وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبّب، لأن تقلبهم لو غرّه لاغترّ به فمنع السبب وهو غرور تقلبهم إياه، ليمتنع المسبّب وهو اغتراره بتقلبهم. فإن قيل: لم قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) ولم يقل لا يغرنك نعمهم وأموالهم، والذي يحتمل أن يغر الرسول والمؤمنين النعم والأموال، لا التقلب في البلاد؟ قلنا: المراد بتقلبهم تصرفهم في التجارات والنعم والتلذذ بالأموال، والفقير إنما يتألم وينكسر قلبه إذا رأى الغني يتقلب في النعمة ويتمتع بها، فلذلك ذكر التقلب، وقيل معناه: لا يغرنك تقلبهم في المعاصي غير مأخوذين بذنوبهم. فإن قيل: لم قال تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) مع أن قوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ موضع البشارة بالثواب، وسرعة الحساب إنما تذكر في موضع التهديد والعقاب؟ قلنا: معناه لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا خوفا من حسابه فإنه سريع الحساب، فهو راجع إلى ما قبل.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"آل عمران"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «آل عمران» «1» قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ [الآية 7] . هذه استعارة. والمراد بها أن هذه الآيات جماع الكتاب وأصله. فهي بمنزلة الأم، كأن سائر الكتاب يتبعها ويتعلق بها، كما يتبع الولد آثار أمه، ويفزع إليها في مهمّه. وقوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [الآية 7] . وهذه استعارة. والمراد بها المتمكنون في العلم، تشبيها برسوخ الشيء الثقيل في الأرض الخوّانة. وهو أبلغ من قوله: والثابتون في العلم. وقوله تعالى: وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) وهذه استعارة. والمعنى: بئس ما يمتهد ويفرش. ونظيره قوله وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) [الكهف] ، وقوله سبحانه: وَبِئْسَ الْقَرارُ [إبراهيم/ 29] . وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الآية 22] وهذه استعارة، والمراد فسدت أعمالهم فبطلت. وذلك مأخوذ من الحبط، وهو داء ترم له أجواف الإبل، فيكون سبب هلاكها، وانقطاع آكالها. وقوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الآية 27] وهذه استعارة، وهي عبارة عجيبة عن إدخال هذا على هذا، وهذا على هذا. والمعنى أن ما ينقصه من النهار يزيده في الليل، وما ينقصه من الليل يزيده في النهار. ولفظ الإيلاج هاهنا أبلغ،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرخ.

لأنه يفيد إدخال كلّ واحد منهما في الآخر، بلطيف الممازجة، وشديد الملابسة. وقوله تعالى: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [الآية 39] وهذه استعارة. لأن المراد بهذا القول عيسى (ع) . والعلماء مختلفون في هذه اللفظة، وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتاب «حقائق التأويل» . فمن بعض ما قيل في ذلك أن بشارة الله تعالى سبقت بالمسيح (ع) في الكتب المتقدمة، فأجرى تعالى اسم «الكلمة» عليه لتقدّم البشارة به. والبشارة إنما تكون بالكلام. وقوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) . وهذه استعارة. لأن حقيقة المكر لا تجوز عليه تعالى. والمراد بذلك إنزال العقوبة بهم جزاء على مكرهم. وإنما سمّي الجزاء على المكر مكرا للمقابلة بين الألفاظ على عادة العرب في ذلك. قد استعارها لسانهم، واستعادها بيانهم. وقوله تعالى: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [الآية 72] وهذه استعارة. والمراد أول النهار. ولم يقل رأس النهار. لأن الوجه والرأس وإن اشتركا في كونهما أول الشيء، فإن في الوجه زيادة فائدة، وهي أنه به تصح المواجهة، ومنه تعرف حقيقة الجملة. وقوله سبحانه: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [الآية 73] وهذه استعارة. والمراد بها إما سعة عطائه، وعظيم إحسانه، أو اتساع طرق علمه، وانفساح أقطار سلطانه وعزه. وقوله سبحانه: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 77] وهذه استعارة. وحقيقتها: ولا يرحمهم الله يوم القيامة. كما يقول القائل لغيره إذا استرحمه: انظر إليّ نظرة. لأن حقيقة النظر تقليب العين الصحيحة في جهة المرئي التماسا لرؤيته. وهذا لا يصح إلا على الأجسام، ومن يدرك بالحواس، ويوصف بالحدود والأقطار. وقد تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا. وقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [الآية 103] وهذه استعارة. ومعناها: تمسكوا بأمر الله لكم، وعهده إليكم. والحبال: العهود، في

كلام العرب. وإنما سميت بذلك لأن المتعلق بها ينجو مما يخافه، كالمتشبث بالحبل إذا وقع في غمرة، أو ارتكس في هوة. فالعهود يستأمن بها من المخاوف، والحبال يستنقذ بها من المتالف. فلذلك وقع التشابه بينهما. وقوله تعالى: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [الآية 103] . وهذه استعارة. لأنه تعالى شبّه المشفي، بسوء عمله، على دخول النار، بالمشفي، لزلة قدمه، على الوقوع في النار. وقوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ [الآية 112] وقد مضى الكلام على مثل ذلك في «البقرة» فلا معنى لإعادته. وقوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 127] أي ينقص عددا من أعدادهم، فيوهن عضدا من أعضادهم. وهذا من محض الاستعارة. وقوله تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وهذه استعارة، لأن الموت لا يلقى ولا يرى. وإنما أراد سبحانه رؤية أسبابه، من صدق مصاع «1» ، وتتابع قراع. أو رؤية آلاته، كالرماح المشرعة، والسيوف المخترطة. وقوله سبحانه: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [الآية 144] وهذه استعارة. والمراد بها الرجوع عن دينه، والتقاعس عن اتّباع طريقه. فشبّه سبحانه الرجوع في الارتياب، بالرجوع على الأعقاب. وقوله سبحانه: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى [الآية 156] وهذه استعارة. لأن الضرب هاهنا عبارة عن الإنجاد في السير، والإيغال في الأرض، تشبيها للخابط في البر بالسابح في البحر، لأنه يضرب بأطرافه في غمرة الماء شقّا لها، واستعانة على قطعها. وقوله سبحانه: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) . وهذه استعارة. لأن الإنسان غير

_ (1) . المصاع: مصدر ماصع: أي قاتل وجالد. [.....]

الدرجة. وإنما المراد بذلك: هم ذوو درجات متفاوتة عند الله، فالمؤمن درجته مرتفعة، والكافر درجته متّضعة. وقوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (185) وهذه استعارة. لأن الغرور لا متاع له على الحقيقة، وإنما المراد بذلك أن ما يستمتع به الإنسان من حطام الدنيا ظلّ زائل، وخضاب ناصل. وقوله تعالى في صدر هذه الآية: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [الآية 185] مستعار أيضا، لأن حقيقة الذوق ما أدرك بحاسة، وإنما حسن وصف النفس بذلك لما يحسّ به من كرب الموت وعذابه، فكأنها تحسّه بذوقه. وقوله: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) . فهذه استعارة. لأن الأمور لا عزم لها، وإنما العزم للموطّن نفسه على فعلها، وهو الإنسان، فالمراد: فإن ذلك من قوة الأمور. لأن العازم على فعل الأمر قويّ عليه. وقوله تعالى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [الآية 187] . وهذه استعارة. والمراد بها: أنهم غفلوا عن ذكره، وتشاغلوا عن فهمه، يعني الكتاب المنزل عليهم، فكان كالشيء الملقى خلف ظهر الإنسان، لا يراه فيذكره، ولا يتلفت إليه فينظره. وقوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [الآية 188] ومنجاة من العقاب. والمفازة: الأرض البعيدة التي إذا قطعها الإنسان فاز بقطعها، وأمن من خوفها. وقوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ وهذه استعارة. والمراد بالتقلب ها هنا كثرة الاضطراب في البلاد، والتقلقل في الأسفار، والانتقال من حال إلى حال.

سورة النساء 4

سورة النساء 4

المبحث الأول أهداف سورة"النساء"

المبحث الأول أهداف سورة «النساء» «1» سورة النساء سورة مدنية، وتسمى سورة النساء الكبرى، لتمييزها من سورة النساء الصغرى، وهي سورة الطلاق. وقد عنيت سورة النساء ببيان أحكام النساء واليتامى والأموال والمواريث والقتال وتحدثت عن أهل الكتاب وعن المنافقين وعن فضل الهجرة ووزر المتأخرين عنها وحثّت على التضامن والتكافل والتراحم وبيّنت حكم المحرّمات من النساء. كما حثت على التوبة ودعت إليها وسيلة للتطهّر ودليلا على تكامل الشخصية واستعادة الثقة بالنفس والشعور بالأمن والاطمئنان. وعدد آيات سورة النساء 176 آية، وعدد كلماتها 3745 كلمة. الوصية بالنساء واليتامى بيّنت سورة النساء أن الزواج شركة تعاونية أساسها المودة والرحمة والوفاء والألفة. وساوت السورة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، ثم بينت أن للرجال درجة على النساء، وهي درجة الإشراف والرعاية بحكم القدرة الطبيعية التي يمتاز بها الرجل على المرأة، وبحكم الكدّ والعمل في تحصيل المال الذي ينفقه على الزوجة والأسرة. وليست هذه الدرجة درجة الاستعباد أو التسخير، وإنما هي زيادة في المسؤولية الاجتماعية. وقد حث القرآن الزوجة على طاعة زوجها، في ما تجب الطاعة فيه، والاحتفاظ بالأسرار المنزلية والزوجية

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

اليتامى

التي ينبغي ألّا يطّلع عليها غير الزوجين، كما أمر الرجل أن يقوم بحق الأسرة وأن ينفق عليها وأن يفي بالتزاماته نحوها. وجعل نفقة الرجل على أولاده، ورعايته لهم، نوعا من الكفاح والجهاد السلمي يثاب المؤمن على فعله، ويعاقب على تركه. اليتامى أمرت السورة بعد ذلك برعاية اليتامى والمحافظة على أموالهم، وإكرام اليتيم لصغره وعجزه عن القيام بمصالحه. وحذّرت السورة من إتلاف أموال اليتامى أو تبديدها، وحثّت على القيام بحقوقهم واختبارهم في المعاملات قبيل سن البلوغ، حتى يكون اليتيم مدربا على أنواع المعاملات والبيع والشراء عند ما يتسلّم أمواله. وقد توعّدت السورة آكل مال اليتيم بالنار والسعير، والعذاب الشديد. وقد مهدت لهذه الأحكام في آياتها الأولى، فطلبت تقوى الله وصلة الرّحم، وأشعرت أنهم جميعا خلقوا من نفس واحدة، أي أن اليتيم، وإن كان من غير أسرتكم، فهو رحمكم وأخوكم فقوموا له بحق الأخوّة وحق الرحم، واعلموا أن الله الذي خلقكم من نفس واحدة، وربط بينكم بهذه الرحم الإنسانية العامة، رقيب عليكم يحصي أعمالكم، ويحيط بما في نفوسكم ويعلم ما تضمرون من خير أو شر فيحاسبكم عليه. وبعد هذا التمهيد، الذي من شأنه أن يملأ القلوب رحمة، يأمرهم الله بحفظ أموال اليتامى حتى يتسلموها كاملة غير منقوصة، ويحذرهم من الاحتيال على أكلها من طريق المبادلة، أو من طريق المخالطة قال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [الآية 2] . أي لا تخلطوا مال اليتيم بمالكم ليكون ذلك وسيلة تستولون بها على مال اليتيم، تحت ستار الإصلاح بالبيع أو الشراء، بذريعة أنه منفعة لليتيم أو بالخلط والشركة، بذريعة أنه أفضل لليتيم. وقد تحرّج أتقياء المسلمين من مخالطة اليتيم فأباح الله مخالطة اليتامى ما دام القصد حسنا والنية صادقة في نفع اليتيم، والله سبحانه مطلع على السرائر ومحاسب عليها. وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [الآية 6] .

المال والميراث

المال والميراث عنيت سورة النساء وغيرها بشأن المال، من طريق المحافظة عليه وتثميره، ونهت عن الإسراف والتبذير، وأمرت بالتوسط في النفقة والاعتدال فيها، لأن المال عصب الحياة، ولأن كل ما تتوقف عليه الحياة في أصلها وكمالها وسعادتها وعزّها، من علم وصحة وقوة واتساع عمران، لا سبيل للحصول عليه إلا بالمال. وقد نظر القرآن إلى الأموال هذه النظرة الواقعية فحذّر من تركها في أيدي السفهاء الذين لا يحافظون عليها ولا يحسنون التصرف بها. كما أمر بتحصيلها من طرق فيها الخير للناس، وفيها النشاط والحركة، وفيها عمارة الكون. لقد أمر بتحصيلها من طريق التجارة ومن طريق الصناعة والزراعة، وسمّى طلبها ابتغاء من فضل الله، كما وصفها نفسها بأنها زينة الحياة الدنيا ومتاعها. وبلغ من عناية القرآن بالأموال أنه طلب السعي في تحصيلها بمجرد الفراغ من أداء العبادة المفروضة. قال تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة/ 10] . وتحدثت سورة النساء عن المواريث ونصيب كل وارث، فأمرت أن نبدأ أولا بتنفيذ وصية الميت وتسديد ديونه، ثم وضعت المبادئ الأساسية للميراث ونستخلص منها ما يأتي: أولا- إن مبنى التوريث في الإسلام أمران: نسبي وهو القرابة، وسببي وهو الزوجية. ثانيا- إنه، متى اجتمع في المستحقين ذكور وأناث، أخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى. ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أن بعض خصوم الإسلام قد اتخذوا التفاوت، بين نصيبي الذكر والأنثى، مطعنا على الإسلام، وقالوا إن هذا من فروع هضم الإسلام لحق المرأة، والمرأة إنسان كالرجل، وفاتهم أن الذّكر تتعدد مطالبه وتكثر تبعاته في الحياة: فهو ينفق على نفسه، وعلى زوجه، وعلى أبنائه. ومن أصول الشريعة أنه يدفع المهر لمن يريد أن يتزوّج بها. أما الأنثى، فإنها لا تدفع مهرا ويلزم زوجها بنفقتها في مأكلها ومشربها ومسكنها وخدمها، وذلك فوق تبعاته العائلية التي لا يلحق الأنثى مثلها. وبينما نرى بعض التشريعات الوضعية تقضي بحرمان

تعدد الزوجات

الأنثى كلّيا، أو حصر الميراث في أكبر الأبناء وحده، كما كانت الحال في بعض البلاد الأوروبية إلى وقت قريب، فإننا نجد تشريعا آخر يقضي بمساواتها بالذكر. ونقارن ذلك بالإسلام فنجد أن منهجه في التوريث منهج وسط، لا إفراط فيه ولا تفريط، فهو لم يحرم الأنثى الميراث، بل أعطاها نصيبا مناسبا لظروفها في الحياة، وأعطى أخاها نصيبا مناسبا لتبعاته في الحياة. وهذا هو شأن الإسلام في أحكامه وشرائعه، فهو يعتمد على الحكمة والعدل لأنه تشريع الحكيم العليم. تعدد الزوجات تحدثت سورة النساء عن تعدد الزوجات، فأباحته بشرط العدل بينهن. فإذا خاف الإنسان من عدم العدل، فعليه الاقتصار على زوجة واحدة، فإن ذلك أدعى إلى صفاء الحياة ويسرها وتحقيق الهدف من الزواج، وهو المودة والرحمة. ويرى الإمام محمد عبده أنّ تعدّد الزوجات أمر مضيّق فيه كل التضييق، فكأن الله سبحانه قد نهى عن التعدد. قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (3) . أي إن خفتم ألا تعدلوا في نكاح اليتيمات اللواتي تحت وصايتكم، كأن يكون الدافع لكم على الزواج بهن الطمع في مالهنّ، لا الحبّ ولا الرغبة في معاشرتهن، أو كأن تكون فوارق السن بينكم وبينهن كبيرة، أو كأن تهضموهن حقوقهن في مهر أمثالهن، إن خفتم ألا تعدلوا في اليتيمات فاطلبوا الزواج بسواهن من النساء. وبمناسبة الحديث عن الزواج، امتد السياق إلى بيان حدود المباح من الزوجات فإذا هو مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، ولكن بشرط العدل بينهن، العدل في المعاملة وفي الحقوق الظاهرة. أما العدل في الشعور الباطن، فلا قبل به لإنسان، ولا تكليف به لإنسان، ما اتّقى إظهاره في المعاملة، وتأثيره على الحقوق المتعادلة. فإن وجد في نفسه ضعفا عن ذلك العدل، وخاف ألا يقدر على تحقيقه، فالحلال واحدة فقط وما سواها محظور:

شبهة تفتضح، وحجة تتضح

فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً والنص الشرطي يحتم هذا المعنى هنا ويعلله بأن ذلك التحديد بواحدة في هذه الحالة أقرب إلى اجتناب الظلم والجور. ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (3) . أي لا تجوروا وتظلموا. والظلم حرام فالوسيلة إليه حرام، واجتناب الظلم واجب وما لا يكون الواجب إلا به فهو واجب. فإذا كان العدل يتحقق بترك التعدد، فالاقتصار على الزوجة الواحدة واجب. وفي ختام الآية وصية جديدة بالاقتصار على الزوجة الواحدة لأنه أدعى إلى العدل والاستقرار، والبعد عن الظلم وكثرة العيال. شبهة تفتضح، وحجة تتّضح تكلم الأوروبيون بكثير من الكلام المعسول، فمثلا (كانتى) يقول: «إن شرف الإنسان أسمى من أن يمتهن أو أن يجعل أداة متعة» . والحقيقة أن الأوروبيين هم الذين جعلوا الأخدان أداة متعة، فقط ومنعوهن حقوق الزوجية في النفقة أو الميراث أو إلصاق الولد، في حين أن الإسلام يحرم اتخاذ الأخدان والخليلات، يقول تعالى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ [الآية 25] . ويقول الرسول (ص) : «إنّ الله لا يحبّ الذّوّاقين ولا الذّوّاقات فإذا تزوّجتم فلا تطلّقوا» . ونشأ عن كثرة الأخدان وانتشارهن في أوروبا انتشار الأمراض السارية الفظيعة، وقلة النسل لأن النسل إما أن يخنق، أو تجهض الحامل، أو يمنع الحمل. وهل غفل الأوروبيون عن المصير السيّئ الذي ينتظرهم إذا استمر الحال، فالكبير يموت والنشء يقتل؟ ... تنبهوا لذلك، فصدرت قوانين تقول مثلا: أبناء الزواج الحر، إذا اعترف بهم أبوهم، ألحقناهم به فينال الأولاد كل حقوق الأبناء. فهم تفادوا اسم الزوجة فقط، والأبناء منها يتمتعون بكل الحقوق. وقد ذكر لنا أستاذنا المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز، أنه شاهد أثر الحروب في ألمانيا، ورأى النساء يطالبن هناك بتعدد الزوجات لتجد

التضامن الاجتماعي

المرأة التي مات زوجها في الحرب من يكفلها وينفق عليها وعلى ما ينجب منها. وذكر لنا أن جمعية تألفت في ألمانيا تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية في الزواج والطلاق. ومع ذلك فالإسلام لم يحرض على تعدد الزوجات بل قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (3) . وإذا استلهمنا روح النص ومراميه وجدنا أن التعدد رخصة، وهي رخصة ضرورية لحياة الجماعة في حالات كثيرة، وهي صمام أمان في هذه الحالات، ووقاية ليس في وسع البشرية الاستغناء عنها. ولم تجد البشرية حتى اليوم حلا أفضل منها، سواء في حالة إخلال التوازن بين عدد الذكور وعدد الإناث، عقب الحروب والأوبئة التي تجعل عدد الإناث في الأمة أحيانا ثلاثة أمثال عدد الذكور، أم في حالات مرض الزوجة أو عقمها، ورغبة الزوج في الإبقاء عليها أو حاجتها هي إليه، أو في الحالات التي يكون الرجل فيها ذا طاقة حيوية فائضة لا تستجيب لها الزوجة، أو لا تجد كفايتها في زوجة واحدة. وكلها حالات فطرية وواقعية لا سبيل إلى تجاهلها. وكل حل فيها، غير تعدد الزوجات، يفضي إلى عواقب أوخم خلقيا واجتماعيا. ضرورة تواجه ضرورة. ومع هذا، فهي مقيدة، في الإسلام، باستطاعة العدل والبعد عن الظلم والجور، وهو أقصى ما يمكن من الاحتياط. التضامن الاجتماعي حثت سورة النساء على صدق العقيدة والإخلاص لله في العبادة، كما حثت على الإحسان إلى الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام اليتامى والمساكين والإحسان إلى الجار ورحمة الفقير والمحتاج ومساعدة الخدم والضعفاء، وحذّرت من البخل والكبر والرياء، ونهت عن الكفر والجحود ومعصية الله والرسول. وذلك في جملة آيات تبدأ بقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً (36) . وهذه الآية وما بعدها دعوة عملية

المحرمات من النساء

إلى «الضمان الاجتماعي» ، وتحذير من البخل والشح، وبيان أن المال مال الله، وأن الغنيّ مستخلف عن الله في إدارته وتثميره وإنفاقه في نواحي الخير والبر. وقد فرض الله حقوقا للفقراء من مال الأغنياء فأوجب الزكاة والصدقة وحث على الإنفاق في سبيل الله. وجعل طرق البر متعددة، منها صدقة الفطر في عيد الفطر، والأضحية في عيد الأضحى، والهدى في موسم الحج. وجعل الله موردا لا ينقطع لصلة الفقراء، ألا وهو الكفّارات التي أوجبها، ككفارة الظّهار، وكفارة اليمين، وكفارة صوم رمضان. وفي كثير من الأحيان تكون هذه الكفارات إطعام المساكين أو كسوتهم. كما أوجب الله الوفاء بالنذر ولم يجعل الزكاة تطوّعا بل جعلها فريضة لازمة يثاب فاعلها ويعاقب جاحدها. ونلحظ أن الزكاة تتفاوت في نسبتها فتبدأ من 5، 2 وهي زكاة المال، وتصل إلى 20 وهي زكاة الركاز والمعادن والبترول. وكلما كان عمل العبد أظهر، كانت نسبة الزكاة أقل كما في زكاة المال، وزكاة التجارة. وكلما كان عمل القدرة الإلهية أظهر، كانت نسبة الزكاة أكثر كما في زكاة الزراعة وزكاة الركاز. المحرّمات من النساء انفردت سورة النساء بكثير من أحكام المجتمع، ولا سيما أحكام الأسرة والزوجية، كما انفردت ببيان مفصّل للمحرّمات من النساء، وبدأت ذلك بقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا (22) . ولا شك أن توارد رجل وابنه على امرأة واحدة، أمر ممقوت تنفر منه الفطر السليمة، وتمجّه الأذواق. ثم جاءت بقية السورة ببقية المحرمات، فحرّمت زواج الإنسان بأمه وبابنته وبأخته من الرّضاعة ومن النسب، وحرمت زواج الرجل من بنات الأخ وبنات الأخت والأم من الرّضاعة، وحرمت أم الزوجة التي دخل بها زوجها، كما حرمت زواج الإنسان من زوجة ابنه وحرمت الجمع بين الأختين. الحكمة من هذا التّحريم إن الزواج وسيلة مشروعة لإمتاع النفس وإنجاب الذرية وتكوين الأسرة.

مصادر التشريع في الإسلام

فإذا أبيح وتزوج الإنسان من أقرب الناس إليه كالأم والبنت، اصطدمت حقوق هؤلاء الأقارب بحقوق الزوجية، فالأم مثلا لها حق الطاعة والاحترام فلو اتخذها الإنسان زوجة، لكان له عليها حق القوامة وحق الطاعة والخضوع. فضلا عما هو غنيّ عن البيان من نفور الإنسان من هذا اللون من المتاع، فبهيميّة، أيّ بهيمية، أن يتمتع الرجل بأمه. ومثل هذا يقال في درجات القرابة الأخرى. فالخالة لها ما للأم، والعمة لها ما للأب، والأخت وابنتها وابنة الأخ، وابنة الإنسان التي هي قطعة منه، كل هؤلاء تستقبح الأذواق نكاحهن وافتراشهن، ولا يمكن أن يتصور المرء في هذا الوضع، إذا أبيح، إلا المفارقات والصعاب، وضعف النسل وسوء المنقلب. ومثل هذا يقال أيضا في نكاح من حرمن من جهة الرضاع، فإن المرضع أمّ في الكرامة ولها حق الأم في وجوب الرعاية، وليس من شأن الإنسان أن يلتمس منها ما يلتمسه الرجل بالزوجية. وقد حرمت السورة الجمع بين الأختين، والجمع بين الأم وابنتها حتى لا تقطع الأرحام، فإن المرأة تغار من ضرتها، وتفعل الكثير في سبيل إبعادها عن زوجها. ولو أبيح الجمع بين الأقارب لطعنت المرأة في أختها وفي أمها، ولأدركها نوع من الغيرة الشديدة فانقطعت بذلك صلاتها من النسب، وتعرضت بذلك الأمر إلى خطر شديد. قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) . مصادر التشريع في الإسلام أمرت سورة النساء بالعدل في الحكم وأداء الأمانات إلى أهلها. وبينت أن الأمانة والعدالة من أسباب الرقي والتقدم والسعادة في الدنيا والآخرة.

الاجتهاد من مصادر التشريع وبابه مفتوح أبدا

وبهذه المناسبة ذكرت السورة مصادر التشريع التي يجب أن يرجع إليها المسلمون في تصرفاتهم وأحكامهم وهي: أولا- القرآن الكريم، والعمل به هو طاعة الله. ثانيا- سنة الرسول قولية كانت أم فعلية والعمل بها هو طاعة الرسول. ثالثا- رأي أهل الحل والعقد في الأمة من العلماء وأرباب النظر في المصالح العامة كالجيش، والزراعة، والصناعة، والتعليم، كلّ في دائرة معرفته واختصاصه، والعمل بالرأي هو إطاعة أولي الأمر. وهذه المصادر في الرجوع إليها مرتّبة على هذا النحو، فلا نرجع إلى السّنّة إلا بعد عدم العثور على الحكم في القرآن، فنرجع إلى السنة حينئذ، إما لمعرفة الحكم الذي لم يرد في القرآن، وإما لبيان المراد مما ورد في القرآن. ولا نلتجئ إلى رأي أولي الأمر إلا بعد عدم العثور على الحكم في السنة، وعندئذ نرجع إليهم ليجتهدوا رأيهم. وهذا الاجتهاد هو عنصر «الشورى» الذي عليه أمر المسلمين. ومتى تحقق الاتفاق وجب العمل به ولا يصح الخروج عنه ما دامت وجوه النظر التي أدت إليه قائمة، وهو أساس فكرة الإجماع في الشريعة الإسلامية. وقد انتفع به المسلمون كثيرا، واتسع به نطاق الفقه الإسلامي، وبخاصة في ما ليس منصوصا عليه في كتاب الله وسنة الرسول وهو يشمل إصدار حكم على حادثة مثل حادثة سابقة للاشتراك بينهما في المعنى الموجب لذلك الحكم، وهذا هو المعروف، في لغة الفقهاء والأصوليين، باسم «القياس» وقد بحثوه بحثا مستفيضا، بيّنوا فيه أركانه، وشرائطه، وعلته، وما ينقضه، وما لا ينقضه وما يجري فيه، وما لا يجري فيه، وقد تكفلت به كتب الأصول فليرجع إليها من يشاء. الاجتهاد من مصادر التشريع وبابه مفتوح أبدا ويشمل أيضا النظر في تعرف حكم الحادثة من طريق القواعد العامة وروح التشريع التي عرفت من جزئيات الكتاب، وتصرفات الرسول، وأخذت في نظر الشريعة مكانة النصوص القطعية التي يرجع إليها في تعرف الحكم للحوادث الجديدة. وهذا النوع

القتال وأسباب النصر

هو المعروف بالاجتهاد من طريق الرأي وتقدير المصالح. وقد رفع الإسلام بهذا الوضع جماعة المسلمين عن أن يخضعوا في أحكامهم وتصرفاتهم لغير الله، ومنحهم حق التفكير والنظر والترجيح واختيار الأصلح، في دائرة ما رسمه من الأصول التشريعية، فلم يترك العقل وراء الأهواء والرغبات، ولم يقيده، في كل شيء، بمنصوص قد لا يتفق مع ما يجد من شؤون الحياة، كما لم يلزم أهل أي عصر باجتهاد أهل عصر سابق دفعتهم اعتبارات خاصة إلى اختيار ما اختاروا. وهنا نذكر بالأسف هذه الفكرة الخاطئة الظالمة التي ترى وقف الاجتهاد وإغلاق بابه، ونؤكد أن نعمة الله على المسلمين بفتح باب الاجتهاد لا يمكن أن تكون عرضة للزوال بكلمة قوم هالهم، أو هال من ينتمون إليهم من أرباب الحكم والسلطان، أن يكون في الأمة من يرفع لواء الحرية في الرأي والتفكير، فالشريعة الإسلامية شريعة عامة خالدة، صالحة لكل زمان ومكان. وما على أهل العلم إلا أن يجتهدوا في تحصيل الرسائل التي يكونون بها أهلا للاجتهاد في معرفة حكم الله الذي أوكل معرفته، رأفة منه ورحمة، إلى عباده المؤمنين: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [الآية 83] . واقرأ في هذا الموضوع كله قوله تعالى من السورة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) . القتال وأسباب النصر عنيت سورة النساء بتنظيم شؤون المسلمين الداخلية، وحفظ كيانهم الخارجي. وقد حثت السورة على القتال ودعت إليه حيث يقول تعالى: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) .

وبينت السورة أهداف القتال في الإسلام. وهذه الأهداف تنحصر في رد العدوان وإشاعة الأمن والاستقرار، وحماية الدعوة، والقضاء على الفتن التي يثيرها أرباب المطامع والأهواء. ومن ذلك نعلم أن الإسلام، حينما شرع القتال، نأى به عن جوانح الطمع والاستئثار، وإذلال الضعفاء، واتخذه طريقا إلى السلام العام بتركيز الحياة على موازين العدل والمساواة. وليصل المسلمون بالقتال إلى الغاية السامية التي أمر بها الله، لفت القرآن أنظار المؤمنين إلى أن للنصر أسبابا ووسائل هي: 1- تقوية الروح المعنوية للأمة: فقد نزل القرآن روحا وحياة ومنهجا ورسالة، وتحول العرب بالقرآن إلى أمة عزيزة، متمسكة بالحق، ثابتة عليه، متحملة صنوف الأذى وألوان الاضطهاد. فلما أذن الله لها بالجهاد كانت لها راية النصر في أكثر معاركها، لأن لها، من يقينها وإيمانها، ما يكفل لها النصر والغلبة. 2- إعداد القوة المادية وتنظيمها، قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال/ 60] . ويشمل ذلك فنون الحرب وأساليبها، ومعرفة أحدث أدواتها، وكيفية استعمالها. 3- الشكر على النعماء ثقة بأن النصر من عند الله، فينبغي ألّا تأخذ المحارب نشوة النصر، فيخرج عن اتزانه، بل عليه أن يزداد تواضعا وخشوعا لعظمة الله، ويزيد في طاعة الله ونصره، لقوله سبحانه: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد/ 7] . 4- الصبر على البأساء ثقة والتزاما بأن مع اليوم غدا، وبأن الأيام دول: يوم لك ويوم عليك، وأن الشجاعة صبر ساعة وليس الصبر هنا صبر الذليل المستكين، بل صبر المطمئن إلى قضاء الله وقدره، والمؤمن بحكمته، والمستعد ليوم آخر ينتصف فيه من عدوه. قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) [آل عمران] . 5- ومن أسباب النصر ثقة المؤمن بأن الأجل محدود، وأن الرزق محدود. فالشجاعة لا تنقص العمر، والجبن لا يزيده. ومن أسباب النصر

طاعة الله والتزام أوامره واجتناب نواهيه، قال تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران/ 126] . 6- ومن أسباب النصر أخذ الحذر والحيطة والابتعاد عن اتخاذ بطانة مقرّبة من المنافقين والملحدين والخونة، قال تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) . 7- تذكّر فضل الجهاد وثواب البذل والتضحية، وعقوبة التثاقل والفرار من الجهاد، وتذكر ما أعده الله للمجاهدين والمكافحين في سبيل الحق من عز الدنيا وشرف الآخرة، قال تعالى: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"النساء"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النساء» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة النساء بعد سورة الممتحنة، ونزلت سورة الممتحنة عقب صلح الحديبية. وكان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، فيكون نزول سورة النساء في ما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لأن كثيرا من الأحكام التي ذكرت فيها تتعلق بالنساء. وتبلغ آياتها ستا وسبعين ومائة آية. الغرض منها وترتيبها نزلت هذه السورة في كثير من الأحكام التي شرعت بعد سورة البقرة، فذكر فيها ما شرع من هذه الأحكام، كما ذكر في سورة البقرة ما شرع من الأحكام في عهدها. وقد اشتملت سورة النساء مع هذا على بيان حال أهل الكتاب والمنافقين في الزمن الذي نزلت فيه، وكانوا قد غلوا في أمرهم مع المسلمين، وزادوا في إيذائهم عما كانوا عليه في الزمن الذي نزلت فيه سورتا البقرة وآل عمران، فقوبلوا، في هذه السورة، بما يليق بذلك من الشدة في الخطاب، وأمر المسلمون فيها باستعمال الشدة معهم، وكانوا يؤمرون في سورتي البقرة وآل عمران باللين معهم والصبر على أذاهم. وقد ابتدأت هذه السورة بآية جاءت مطلعا بارعا لما جاء بعدها من

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز. المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

براعة المطلع

الأحكام، ثم جاء بعدها آيات كثيرة من الأحكام والشرائع، ثم استطرد منها إلى شرح أحوال اليهود من أهل الكتاب، ثم عاد السياق بعد ذلك إلى ما كان عليه من بيان الشرائع والأحكام، ثم استطرد منه إلى الكلام ثانيا في أحوال المنافقين وأهل الكتاب، ثم ختمت السورة بالعودة إلى سياقها الأول، ليكون آخرها مشاكلا، بهذا، لأولها. وقد جاءت سورة النساء بعد سورتي البقرة وآل عمران: لأنها تشبههما في الطول، وفي ما تناولته من بيان بعض الأحكام العملية، وشرح بعض أحوال أهل الكتاب والمنافقين. براعة المطلع قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [الآية الأولى] ، فأمر الناس بالتقوى لما سيأتي في السورة من الأحكام. والتقوى هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي. ثم ذكر أنه خلقنا من نفس واحدة وجعل منها زوجها، لأن كثيرا من هذه الأحكام قد شرع لتنظيم العلاقة بين الزوجين ثم كرر الأمر بتقوى الله الذي يتساءلون به والأرحام إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) . أحكام اليتامى والسفهاء الآيات [2- 6] ثم قال تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [الآية 2] ، فأمرهم بأن يؤتوا اليتامى أموالهم بالإنفاق عليهم منها وتسليمها لهم بعد بلوغهم. ونهاهم أن يضموا أموالهم في الإنفاق، لتتميز أموالهم وحدها، ولا يدخل شيء منها في أموالهم. ثم أمرهم أن يتركوا نكاح اليتيمة إذا خافوا أن يطمعهم ذلك في أموالها وأموال إخوتها فلا يقسطوا فيها. ووسّع عليهم في نكاح غيرها إلى أربع، حتى لا يكون لهم عذر في نكاح اليتيمة في تلك الحالة، ثم أمرهم أن يؤتوا النساء مهورهن حتى لا يظنوا أنها بخلاف مهر اليتيمة يحلّ لهم الطمع فيها، وأحل لهم أن يأخذوا منها ما تطيب نفوسهن به، لأنهن يحلّ لهن التصرف فيها بخلاف اليتيمة لرشدهن، ثم نهاهم أن يؤتوا السفهاء من اليتامى وغيرهم أموالهم، وأمرهم أن يبتلوا اليتامى عند بلوغهم، فإذا ظهر أنهم غير سفهاء دفعت إليهم أموالهم. ثم

أحكام الميراث الآيات [7 - 14]

أمر من كان منهم غنيا أن يعفّ عن أموال اليتامى، ومن كان فقيرا أن يأكل بالمعروف: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) . أحكام الميراث الآيات [7- 14] ثم قال تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) فذكر أن للرجال والنساء نصيبا في الميراث، وكانوا في الجاهلية يورثون الرجال دون النساء، وأمرهم إذا حضر قسمة الميراث أولو القربى ممن لا يرث واليتامى والمساكين أن يرزقوهم منه ما يليق بحالهم على طريق الهبة أو الهدية، وذكر أن الصغار يرثون كما يرث الكبار، وكانوا في الجاهلية لا يورثونهم لضعفهم. ثم حذرهم من أكل نصيبهم في الميراث كما كانوا يفعلون في الجاهلية، وجعل ذلك جاريا مجرى أكل النار لأنه يستلزمه، ثم ذكر نصيب كل وارث ووعد من يطيعه بإعطاء كل وارث نصيبه جنات يخلد فيها، وأوعد من يتعدى ذلك ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) . حكم الزنا واللواط الآيات [15- 18] ثم قال تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) ، فذكر أنه لا يقبل في الزنا أقلّ من أربعة شهود، وأن من يثبت عليهن الزنا يحبسن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو ينزل فيهن حكم آخر. ثم ذكر أنه يجب في اللّذين يأتيان فاحشة اللّواط إلى أن يتوبا، وأن التوبة إنما تقبل منهما ومن غيرهما إذا تابوا من قريب، ولا تقبل منهم إذا أخروها إلى ما قبيل الموت، ولا من الذين يموتون وهم كفار أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) . أحكام متفرقة في النساء الآيات [19- 28] ثم قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [الآية 19] . فحرّم عليهم إرث النساء

تحريم التعدي على المال والنفس الآيات [29 - 33]

كرها، وكان الرجل إذا مات في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله، وحرم عليهم عضلهن لأخذ شيء من مهورهن، ثم ذكر أن المهور تدفع نظير الاستمتاع بهن لا لتملك بها رقابهن حتى يورثن أو يعضلن، ثم ذكر محرّمات النكاح من امرأة الأب، والأم، والبنت، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، وأم الرضاع، وأخت الرضاع، وأم الزوجة، وبنت الزوجة المدخول بها، وأخت الزوجة ما دامت في العصمة، وذات البعل إلا السبية إذا ملكت ولها بعل، ثم أحل ما وراء ذلك من النساء، إلى غير هذا من الأحكام، ثم ذكر أنه يريد بذلك أن يبين لهم سنن من قبلهم في الحلال والحرام من النساء، وأن يتوب عليهم مما كانوا فيه أيام جاهليتهم، وأن يخفف عنهم ما كان فيها من العادات الضارة يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) . تحريم التعدي على المال والنفس الآيات [29- 33] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الآية 29] . فحرم أكل أموال الناس بالباطل من غصب أو سرقة أو نحوهما، وأحلّ أكلها بالتجارة عن تراض منهم، ثم حرّم عليهم أن يقتلوا أنفسهم، وأوعد من يفعل ذلك وعيدا شديدا، ووعد من يترك ذلك ونحوه من الكبائر أن يكفر عنه سيئاته ويدخله مدخلا كريما، ثم نهاهم أن يتمنى بعضهم ما عند الآخر من المال، لأنه كسب له فهو أحق به من غيره، وأمرهم أن يسألوه إعطاءهم مثل ما أعطي غيرهم، فإن هذا من الغبطة الممدوحة، وذلك من الحسد المذموم، ثم ذكر أن لكل مال مما ترك الوالدان والأقربون والمعتقون موالي يلون أمره بإرثهم له، فهم يملكونه بذلك الحق الثابت لهم، ولا يحلّ لغيرهم ما يحل لهم منه فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً [الآية 33] . قوامة الرجال على النساء الآيتان [34- 35] ثم قال تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [الآية 34] . فجعل الرجال

حقوق الله وبعض العباد الآيات [36 - 42]

قوامين على النساء بما فضلهم عليهن في القدرة على مشاقّ الحياة، وبما أنفقوا عليهن من أموالهم. فالصالحات منهن مطيعات لبعولتهن، حافظات لغيبهن. واللاتي يخافون نشوزهن لهم حق تأديبهن، وإن وقع شقاق بين الرجل وامرأته، اختير لهما حكمان من أهلهما. إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) . حقوق الله وبعض العباد الآيات [36- 42] ثم قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الآية 36] . فأمرهم بعبادة الله وحده، وأن يحسنوا إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجنب والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانهم، وأن يقوموا بذلك من غير اختيال وتفاخر عليهم، لأن هذا شأن أولئك الكفار الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ولا ينفقون شيئا إلا رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ثم ذكر أنه سيجازيهم على ذلك ولا يظلم أحدا مثقال ذرّة، وإن تك حسنة يضاعفها، وهدّدهم بأنه سيجيء من كل أمة بشهيد ويجيء بالنبي (ص) شهيدا عليهم يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) . تحريم الصلاة على السكارى والجنب الآية [43] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [الآية 43] . فحرم عليهم الصلاة في حال السكر وهم جنب حتى يغتسلوا، ثم شرع لهم التيمّم بالتراب عند فقد الماء فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) . التحذير من أهل الكتاب الآيات [44- 57] ثم قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وكان اليهود قد بالغوا في عداوة المسلمين حتى حالفوا المشركين عليهم، وزيّنوا لهم ما هم فيه من الشّرك على الإسلام. فلما ذكر تلك الأحكام

عودة إلى الأحكام الآيات [58 - 70]

العظيمة، شرع في تحذير المسلمين من اليهود أن يضلّوهم عنها، ويعودوا بهم إلى ما كانوا عليه من ضلال الشرك، فذكر أن أولئك اليهود قد ضلوا ويريدون أن يعودوا بهم إلى ما كانوا عليه من الضلال، وذكر من ضلالهم تحريفهم للكلم عن مواضعه، وأن النبي (ص) كان، إذا أمرهم بشيء، يقولون سمعنا وعصينا، إلى غير ذلك مما ذكره من ضلالهم. ثم أمرهم أن يؤمنوا بالقرآن من قبل أن يطمس وجوههم فيردّها على أدبارها. وهذا كناية عن تغيير حالهم من عز إلى ذل. ثم ذكر عظم ذنب الشرك الذي آثروا نصر أهله على المسلمين، وذكر تزكيتهم لأنفسهم بأنهم شعب الله المختار، وأنهم، مع هذا فضلوا عبدة الأصنام على المؤمنين، ثم ذكر أنهم لم يحملهم على ذلك إلا حسد النبي (ص) على ما آتاه الله من فضله، وأنهم إذا حسدوه على ذلك، فقد آتى قبله آل إبراهيم النبوة والكتاب والحكمة والملك، فمنهم من آمن بما آتاهم من ذلك، ومنهم من صدّ عنه حقدا وحسدا، ثم أوعدهم على ذلك بما أوعدهم به، ووعد الذين آمنوا جنات تجري من تحتها الأنهار لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) . عودة إلى الأحكام الآيات [58- 70] ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) فأمرهم بأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بين الناس بالعدل، وأن يطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منهم، وأن يردّوا ما يتنازعون فيه إلى كتاب الله وسنّة رسوله، ثم ذكر أن المنافقين يعدلون عن ذلك إلى التحاكم إلى الأوثان كما كانوا يفعلون في الجاهلية، وأنهم إذا دعوا إلى التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صدّوا صدودا، وأنهم، إذا أصابتهم مصيبة بما فعلوا من ذلك، جاءوا إلى النبي (ص) يحلفون أنهم ما أرادوا، بتحاكمهم إلى غيره، إلا إحسانا وتوفيقا، وأنه يعلم أنهم يبطنون خلاف ما يظهرون، وأنهم، لو كانوا مخلصين في ذلك، لوجدوه توّابا رحيما، وأنهم لا يؤمنون حقا حتى يحكّموا النبي (ص) في كل

أحكام القتال الآيات [71 - 104]

ما شجر بينهم عن رضيّ منهم، ثم ذكر أنه، لو كلّفهم ما يشقّ عليهم من قتل أنفسهم، أو الخروج من ديارهم، لم يفعله إلا قليل منهم وضاقوا به، وأنهم لو فعلوا ما يوعظون به مما يطيقونه لكان خيرا لهم. ثم ذكر أن من يطيعه ورسوله يكون مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصّدّيقين ومن إليهم ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) . أحكام القتال الآيات [71- 104] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) فأمرهم بأخذ الحذر وهو السلاح، وأن ينفروا إلى القتال جماعات متفرقة أو مجتمعين. ثم ذكر لهم أن منهم من يثبّطهم عن القتال، وهم المنافقون. فإن أصابتهم فيه مصيبة فرحوا بعدم خروجهم معهم، وإن أصابهم فيه فوز تمنّوا أن لو كانوا معهم. ثم أمرهم بالقتال ووعدهم عليه عظيم الأجر، قتلوا أو غلبوا، وحثّهم على هذا بأنهم يقاتلون في سبيله وفي سبيل المستضعفين منهم بمكة، وأن أعداءهم يقاتلون في سبيل الطاغوت، ومن يقاتل في سبيل الطاغوت يكون من أولياء الشيطان، ومن يتولاه الشيطان يكون ضعيفا. ثم ذكر ما كان من المنافقين من طلب القتال قبل شرعه لهم. فلما كتب عليهم هابوه وتمنوا لو أخّر عنهم إلى أجل قريب حذرا من الموت، وأمر النبيّ (ص) أن يرد عليهم بأن متاع الدنيا قليل ولو طال، وبأن لكل منهم أجلا لا بد أن يدركهم ولو كانوا في بروج مشيدة. ثم ذكر أنهم، بعد استثقال القتال، إذا خرجوا إليه فأصابتهم حسنة، يقولون إنها من عند الله، وإن أصابتهم سيئة ألقوا فيها اللوم على النبي (ص) ، وأمره أن يردّ عليهم بأن الحسنة والسيئة جميعا من عند الله، وإذا كان هناك سبب من العبد في إصابة السيئة فهو من نفسه لا من غيره، فلا يصحّ أن يلوم في ذلك إلا نفسه، وليس للنبي (ص) في الأمر شيء، لأنه ليس إلا رسولا من الله. فمن يطعه فقد أطاع الله، ومن يتولّ عنه فلا شيء عليه في تولّيه، ثم ذكر أنهم إذا أمروا بالقتال أظهروا الطاعة في حضرة النبي (ص) . فإذا خرجوا من عنده أضمروا خلافها، والله يعلم ما يضمرون من ذلك ويكتبه

لهم. ولو أنهم تدبروا في ما يظهره القرآن من خفاياهم لعلموا أنه من عند الله، لأن ما يظهره منها لا يختلف عما في ضمائرهم، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى، ثم ذكر أنهم، إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف، أذاعوه وزادوا فيه ليربكوا المسلمين بإرجافاتهم، ويخفوا أمره عليهم. ثم أمر النبي (ص) أن يقاتل في سبيله ويدع أولئك المنافقين، وأن يحرّض المؤمنين على القتال، لأنه بهذا يشفع شفاعة حسنة، ومن يشفع شفاعة حسنة، يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة، كالمنافقين المثبطين، يكن له كفل منها، ثم أمرهم إذا قابلهم أعداؤهم بالسلام أن يقابلوهم بأحسن منه، لأنه لا يأمرهم إلا بقتال من يقاتلهم. ثم لا مهم على اختلافهم في قوم، من أولئك المنافقين بمكة، كانوا يعينون المشركين على المسلمين، فقال بعضهم إنهم مسلمون يحرّم قتلهم، وقال بعضهم إنهم كفار يجوز قتلهم فذكر لهم أنه ما كان لهم أن يختلفوا فيهم وقد أركسهم بما كسبوا، وردّهم إلى أحكام الكفار من الذل والصّغار والسّبي والقتل، ونهاهم أن يتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا من مكة إليهم، فإن تولّوا عن الهجرة، فحكمهم حكم المشركين من أهل مكة، ثم استثنى منهم فريقين: أولهما قوم دخلوا في عهد من كان داخلا في عهد المسلمين، وثانيهما قوم ضاقت صدورهم عن القتال، فلا يريدون قتال المسلمين ولا قتال قومهم. ثم ذكّر قوما آخرين من غطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا ليأمنوا المسلمين، وإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ليأمنوهم، فأمرهم بقتالهم إن لم يعتزلوهم ويسالموهم ويتركوا مظاهرة قومهم عليهم. ثم ذكر أنه لا يصح لمؤمن أن يقتل مؤمنا في الحرب إلا خطأ، بأن يرى عليه شعار الكفار فيظنّه مشركا، وقد أوجب فيه الدّية إلى أهله إلا أن يصّدّقوا، ثم ذكر حكم المؤمن المقتول خطأ إذا كان في دار الحرب، وحكم المؤمن المقتول خطأ إذا كان بين أهل العهد، ثم ختم ذلك بما ذكره من الوعيد الشديد على قتله عمدا، تأكيدا لما ذكره من أنه لا يصحّ قتله إلا خطأ. ثم أمرهم أن يتبينوا حال الكفار قبل

تحريم المحاباة في الحكم الآيات [105 - 126]

قتالهم، ولا يقتلوا من يلقي إليهم السلام منهم طمعا في أموالهم، وذكر لهم أنهم كانوا كفارا مثلهم فمنّ عليهم بالإسلام، وقد يمنّ عليهم بالإسلام مثلهم. ثم ذكر أنه لا يستوي القاعدون عن الجهاد والمجاهدون بأموالهم وأنفسهم، واستثنى من القاعدين أولي الضّرر لأنه لا جهاد عليهم، ثم ذكر من فضل المجاهدين على القاعدين ما ذكر، وأتبعه بوعيد من قعد عن الجهاد في دار الكفر، وأوجب عليهم الهجرة منها إلى دار الإسلام، واستثنى منهم المستضعفين الذين لا يمكنهم الهجرة، ثم رغّبهم في الهجرة بأنهم يجدون بها في الأرض مراغما كثيرا وسعة، وهذا إلى ما يكون لهم عند الله من عظيم الأجر. ثم بيّن لهم كيف يؤدون الصلاة في زمان الخوف والاشتغال بمحاربة العدو، فأباح لهم قصر الصلاة إذا ضربوا في الأرض للجهاد، فإذا صلّوا خلف النبي (ص) في حال الحرب، فليقسموا أنفسهم في الصلاة خلفه، ولا يصلّوا خلفه دفعة واحدة، فإذا زال الخوف أتوا بالصلاة على وجهها المعروف، ثم ختم الكلام على القتال وأحكامه بقطع العذر عليهم فيه فقال وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) . تحريم المحاباة في الحكم الآيات [105- 126] ثم قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وكان طعمة بن أبيرق سرق درعا، فلما طلبت منه رمى بها واحدا من اليهود، فجاء قومه يطلبون من النبي (ص) أن يعينهم عليهم، فذكر له أنه أنزل عليه الكتاب ليحكم بين الناس بما يريه إياه، ونهاه أن يخاصم للخائنين وأمره أن يستغفره من ذلك، تعريضا بمن فعل ذلك من قوم طعمة، ثم وبّخهم على ما كان منهم، وذكر أنهم إذا جادلوا عن الخائنين في الدنيا، فمن يجادل عنهم يوم القيامة، وأن من يعمل سوءا ويستغفر الله ولا يرم به بريئا يغفره الله له، ومن يعمل سوءا ثم يرم به بريئا، فقد أضاف إليه إثما أشنع

أحكام أخرى في النساء الآيات [127 - 134]

منه، ثم ذكر أنه لولا فضله على النبي (ص) لأضلوه بذلك، وأنهم لا يضلون إلا أنفسهم، وأنه أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلّمه ما لم يكن يعلم فتضاعف بهذا فضله عليه، ثم ذكر أن ما يتناجون به من ذلك وغيره لا خير فيه، وإنما الخير في التناجي بالأمر بالصّدقة أو المعروف أو الإصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، فله عظيم الأجر، ومن يمض في شقاقه إلى أن يرتدّ عن دينه كأولئك المنافقين فله شديد العقاب، ولا يغفر الله له أبدا، لأنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء. ثم ذكر من قبائح شركهم أنهم لا يدعون من دونه إلا إناثا كاللّات والعزّى، وإلا شيطانا مريدا يضل الناس ويزين لهم القبائح ويمنّيهم أنه لا بعث ولا حساب، ثم ذكر أنه لا صحة لأمانيهم ولا لأمانيّ أهل الكتاب أنه لن يدخل الجنة غيرهم، فمن يعمل سوءا يجز به في يوم الجزاء، ومن يعمل صالحا يدخله الجنة ولا يظلمه شيئا، وليس هناك أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله واتّبع ملة إبراهيم في توحيده وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) [الآية 126] . أحكام أخرى في النساء الآيات [127- 134] ثم قال تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [الآية 127] . وكانوا قد سألوا التخفيف في ما نزل في أول السورة في يتامى النساء اللاتي كانوا ينكحوهن طمعا في أموالهن، وفي اليتامى الذين كانوا يحرمونهن من الميراث، وفي العدل مع الزوجات في عشرتهن وعند مفارقتهن، فذكر لهم أن ما تلاه عليهم أول السورة في اليتامى هو الذي يفتيهم الآن به، لأنه لا سبيل إلى تغييره، وأن الصلح بين المرأة وبعلها عند خوفها من نشوزه أو إعراضه خير من التسريح والفراق، ولو اقتضى ذلك أن تتنازل المرأة عن بعض حقوقها في القسم والنفقة ونحوهما، وتتغلب بذلك على ما جبلت عليه الأنفس من الشّحّ، ثم ذكر أن ما أمر به في أول السورة من العدل بين الزوجات لا يمكن الإتيان به على وجهه الكامل، فليأتوا منه ما في استطاعتهم من العدل في القسم ونحوه. فإذا لم يمكنهم ذلك

تحريم المحاباة في الشهادة الآية [135]

العدل المستطاع، ولم ترض الزوجات أن ينزلن عن حقهن فيه، فليتفرّقا يغن الله كلّا من سعته، ثم ذكر أن ما أمرهم به في ذلك من التقوى التي وصّى بها أهل الكتاب من قبلهم، ويوصيهم بها من بعدهم، وأنهم إذا كفروا ولم يتّقوه فإنه غنيّ عنهم، وأنه إن يشأ يذهبهم ويأت بغيرهم، وأن من يريد ثواب الدنيا بالطمع في أولئك الضعاف فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الآية 134] . تحريم المحاباة في الشهادة الآية [135] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [الآية 135] . فأمرهم أن يكونوا قوامين بالعدل في كل أمورهم، وأن تكون شهادتهم لله ولو كان فيها ضرر على أنفسهم أو الوالدين والأقربين، وإذا كان المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا يكتموا الشهادة لرضا الغني أو الترحم على الفقير، ونهاهم عن متابعة الهوى ليستطيعوا القيام بما أمروا به من ذلك وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) . عود إلى المنافقين وأهل الكتاب الآيات [136- 175] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الآية 136] . فعاد إلى الكلام على المنافقين وأهل الكتاب، وقد بدأ بالمنافقين وأهل الكتاب، وقد بدأ بالمنافقين فأمرهم أن يؤمنوا إيمانا صادقا بما أمرهم أن يؤمنوا به، وذكر أنه لا يغفر لمن يتذبذب في إيمانه مثلهم، ثم أمر النبي (ص) أن يبشرهم بما لهم من عذاب أليم تهكّما بهم، وذكر أنهم يتخذون الكافرين من اليهود أولياء من دون المؤمنين، فيجلسون إليهم ويسمعون إلى طعنهم في القرآن، مع أنهم قد نهوا عن سماع ذلك منهم، ثم ذكر تذبذبهم بين المسلمين والكفار، فإن كان للمؤمنين فتح طلبوا أن يشاركوهم في الغنائم، وإن كان للكفار ظفر امتنوا عليهم بمنعهم من المسلمين، وأنهم يخادعون الله بذلك وهو خادعهم، وأنهم يقومون إلى الصلاة متكاسلين يراءون الناس فيها. ثم ذمّهم على تلك الذبذبة، وحذر المؤمنين أن يتذبذبوا مثلهم، فيوالوا الكفار كما والوهم. وذكر أنه أعدّ للمنافقين أشنع عقاب، مبالغة في التحذير منهم، واستثنى من ذلك من

تاب من نفاقه وأخلص دينه له، لأنه لا حاجة له في عذاب أحد، وإنما يعذب الناس ليحملهم على التوبة من ذنوبهم، ثم ذكر أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول كما يفعل أولئك المنافقون، وأباح لمن ظلم أن يجهر بما وقع عليه من الظلم، ولمن يأتي بخير أن يظهره أو يخفيه، وفضّل لمن ظلم أن يعفو عمن ظلمه. ثم انتقل إلى اليهود فحكم بكفرهم لأنهم يريدون أن يؤمنوا ببعض كتبه ورسله دون بعض، ثم أوعدهم على ذلك عذابا مهينا، ووعد الذين يؤمنون بسائر الرسل بأنه سوف يؤتيهم أجورهم يوم القيامة، ثم ذكر من تعنّتهم على النبي (ص) أنهم سألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء يعاينونه حين ينزل، وأن تعنّتهم على موسى أكبر من ذلك، فطلبوا منه أن يريهم الله جهرة، وعبدوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات، إلى غير هذا من تعنتهم وعنادهم. ثم ذكر أنهم تعنتوا على مريم ونسبوها إلى الزنى، وأنهم تعنتوا على المسيح وزعموا أنهم قتلوه، وذكر أنهم لم يقتلوه يقينا بل رفعه إليه، وأنه لا يموت بعد رفعه حتى يؤمن به من كذبه منهم، ثم ذكر أنه جازاهم على تعنتهم بتشديده عليهم في الدنيا، فحرّم عليهم بعض ما أحلّ لهم من الطيبات، وأعدّ في الآخرة للكافرين منهم عذابا أليما. ثم استدرك على ذلك بأن الراسخين في العلم منهم لا يتعنتون على النبي (ص) ، بل يعلمون أنه النبي المبشّر به، ويؤمنون به وبما أنزل إليه وما أنزل من قبله، ثم ذكر أنه أوحى إلى النبي (ص) كما أوحي إلى الأنبياء من قبله، وأنهم إذا لم يشهدوا بذلك فإنه يشهد به هو والملائكة، ثم أوعدهم على كفرهم وتعنّتهم بما أوعدهم به، وختم الكلام معهم بدعوتهم الى الإيمان بما جاءهم من الحق، لأنه خير لهم من كفرهم وتعنتهم. ثم انتقل إلى النصارى فنهاهم عن الغلوّ في دينهم بتعظيم المسيح إلى مرتبة الألوهية، وذكر أنه إنما هو رسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. ثم أمرهم أن يؤمنوا به وحده ويتركوا عقيدة التثليث، ونفى أن يكون له ولد كما يزعمون، وذكر أن المسيح والملائكة المقربين لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا له، وأوعد من يستنكف

حكم الكلالة الآية [176]

عن عبادته بما ذكره في وعيده، ووعد الذين يؤمنون به بما وعدهم به، ثم دعاهم إلى الإيمان بعد أن جاءهم برهان به وأنزل إليهم نورا مبينا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) . حكم الكلالة الآية [176] ثم قال تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [الآية 176] . فذكر أنهم استفتوه في الكلالة من الورثة، وهم الحواشي الذين يدلون بالوالدين إلى الميت، وقد ذكر في أحكام الميراث السابقة نصيب الكلالة إذا كانوا إخوة لأم، وذكر هنا نصيب الكلالة إذا كانوا من العصب، وقد أفتاهم في ذلك بأن الأخت لها النصف، وبأن أخاها يرث مالها كلّه إن لم يكن لها ولد فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"النساء"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النساء» «1» تقدّم وجوه مناسبتها وأقول: هذه السورة أيضا شارحة لبقية مجملات سورة البقرة. فمنها: أنه أجمل في البقرة قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة 21] . وزاد هنا: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [الآية 1] . وانظر كيف كانت آية التقوى في سورة البقرة غاية، فجعلها في أول هذه السورة التالية لها مبدأ «2» . ومنها: أنه أجمل في سورة البقرة: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [الآية 35] . وبيّن هنا أن زوجته خلقت منه في قوله تعالى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [الآية 1] . ومنها: أنه أجمل في البقرة آية اليتامى، وآية الوصية، والميراث، والوارث، في قوله: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ [البقرة 233] . وفصّل ذلك في هذه السورة أبلغ تفصيل «3» . وفصّل هنا من الأنكحة ما أجمله هناك، فإنه قال في البقرة: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ [الآية 221] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . آية التقوى في البقرة هي: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) . وهي غاية، لأن الهداية بالكتاب وبآياته لا تكون إلا للمتقين، فالتقوى غاية الهداية. أما في سورة النساء فقد بدأ الله الأمر بها في قوله: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [الآية 1] . وبيّن وسائل تحقيقها في الآية نفسها. (3) . وذلك في الآيات (7، 11، 12، 33، 176) من سورة النساء.

فذكر نكاح الأمة إجمالا، وفصل هنا شروطه «1» . ومنها: أنه ذكر الصّداق في البقرة مجملا بقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً [الآية 229] . وشرحه هنا مفصّلا «2» . ومنها: أنه ذكر هناك الخلع، وذكر هنا أسبابه ودواعيه، من النشوز وما يترتب عليه، وبعث الحكمين «3» . ومنها: أنه فصّل هنا من أحكام المجاهدين، وتفضيلهم درجات، والهجرة، ما وقع هناك مجملا، أو مرموزا إليه «4» . وفيها من الاعتلاق بسورة الفاتحة: تفسير: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. بقوله تعالى: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [الآية 69] . وأما وجه اعتلاقها بآل عمران فمن وجوه: منها: أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى، وافتتحت هذه السورة به «5» . وهذا من أكبر وجوه المناسبات في ترتيب السّور، وهو نوع من البديع يسمّى: تشابه الأطراف. ومنها: أن سورة آل عمران ذكرت فيها قصة أحد مستوفاة، وذكر في هذه السورة ذيلها، وهو قوله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [الآية 88] . فإنها نزلت لما اختلف الصحابة في من رجع من

_ (1) . وذلك في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [الآية 25] . (2) . وذلك في قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً [الآية 20] إلى وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) . (3) . قال عن الخلع في البقرة: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [الآية 229] . وهنا قال: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [الآية 34] إلى وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها [الآية 35] . وهذا في أسباب الخلع. (4) . قال هنا: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 95] إلى وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (99) . وقال هناك: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ [البقرة/ 154] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة/ 216] . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ [البقرة/ 218] . (5) . ختمت آل عمران بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وافتتحت النساء بقوله سبحانه: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ.

المنافقين من غزوة أحد، كما في الحديث «1» . ومنها: أن في آل عمران ذكرت الغزوة التي بعد أحد بقوله: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [الآية 172] «2» . وأشير إليها هنا بقوله: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ [الآية 104] «3» . وبهذين الوجهين عرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها عليها في مصحف ابن مسعود، لأن المذكور هنا ذيل ما في آل عمران، ولاحقه وتابعه، فكانت بالتأخير أنسب. ومنها: أنه ذكر في آل عمران قصة خلق عيسى بلا أب، وأقيمت له الحجة بآدم، وفي ذلك تبرئة لأمه، خلافا لما زعم اليهود، وتقرير لعبوديته، خلافا لما ادعته النصارى، وذكر في هذه السورة الرد على الفريقين معا: فرد على اليهود بقوله: وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً [الآية 156] ، وعلى النصارى بقوله: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [الآية 171] ، إلى قوله: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ [الآية 172] . ومنها: أنه لما ذكر في آل عمران: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران/ 55] ، رد هنا على من زعم قتله بقوله: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. ومنها: أنه لما قال في الآية 7 من آل

_ (1) . أخرجه البخاري في التفسير: 6/ 59 عن زيد بن ثابت. ومسلم في المنافقين: 8/ 128، وأحمد في المسند: 5/ 184، وفيه: أن الصحابة اختلفوا فيمن رجع عن غزوة أحد، فقال فريق: بقتلهم. وقال فريق: لا. فنزلت. (2) . هو يوم حمراء الأسد، كان عقب أحد، وكان الكفار قد ندموا أن لم يدخلوا المدينة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب المسلمين للخروج على ما بهم من جراح، ليريهم أن بهم قوة وجلدا. انظر البخاري: 5/ 130، والمستدرك: 2/ 298 وسيرة ابن هشام: 2/ 101. (3) . ومن أسرار الترتيب أنه تعالى زاد في سورة «محمد» تفصيل سبب النهي عن الوهن في قوله: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) .

عمران في المتشابه «1» : وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، قال هنا: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الآية 162] . ومنها: أنه لما قال في آل عمران: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا [آل عمران/ 14] ، فصّل هذه الأشياء في السورة التي بعدها على نسق ما وقعت في الآية، ليعلم ما أحل الله من ذلك فيقتصر عليه، وما حرّم فلا يتعدّى إليه، لميل النفس إليه. فقد جاء في هذه السورة أحكام النساء، ومباحاتها «2» ، للابتداء بها في الآية السابقة في آل عمران، ولم يحتج إلى تفصيل البنين، لأن تحريم البنين لازم، لا يترك منه شيء كما يترك من النساء، فليس فيهم مباح فيحتاج إلى بيانه، ومع ذلك أشير إليهم في قوله: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (9) . ثم فصّل، في سورة المائدة، أحكام السراق، وقطاع الطريق «3» ، لتعلقهم بالذهب والفضة الواقعين في الآية بعد النساء والبنين. ووقع في سورة النساء إشارة إلى ذلك في قسمة المواريث. ثم فصّل، في سورة الأنعام، أمر الحيوان والحرث، وهو بقية المذكور في آية آل عمران. فانظر إلى هذه اللطيفة التي من الله بإلهامها! ثم ظهر لي أن سورة النساء فصل فيها ذكر البنين أيضا، لأنه لما أخبر بحب الناس لهم، وكان من ذلك إيثارهم على البنات في الميراث، وتخصيصهم به دونهن، تولى قسمة

_ (1) . المتشابه في القرآن يأتي على معنيين: أولهما المتماثل في اللفظ، وهو غير مراد هنا، والثاني ما جاء مؤيدا للواجبات بأصله، رادّا بوصفه، فتشابه على السامع من حيث خالف حجة العقل من وجه دون وجه (الأمد الأقصى 120 أ) . [.....] (2) . وذلك من قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ [الآية 22] إلى قوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً (27) . (3) . وذلك بقوله تعالى في المائدة: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [الآية 33] .

المواريث بنفسه، فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [الآية 11] . وقال: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ [الآية 7] . فرد على ما كانوا يصنعون من تخصيص البنين بالميراث، لحبهم لهم، فكان ذلك تفصيلا لما يحل ويحرم من إيثار البنين، اللازم عن الحب، وفي ذلك تفصيل لما يحل للذكر أخذه من الذهب والفضة، وما يحرم. ومن الوجوه المناسبة لتقدّم آل عمران على النساء: اشتراكها مع البقرة في الافتتاح بإنزال الكتاب، وفي الافتتاح ب الم وسائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة كلها مقترنة، كيونس وتواليها، ومريم وطه، والطواسين، والم (1) العنكبوت وتواليها، والحواميم، وفي ذلك الدليل الأول على اعتبار المناسبة في الترتيب بأوائل السور. ولم يفرق بين السورتين من ذلك بما ليس مبدوءا به سوى بين الأعراف ويونس اجتهادا لا توقيفا، والفصل بالزّمر بين حم (1) [غافر] وص وسيأتي. ومن الوجوه في ذلك أيضا: اشتراكهما في التسمية بالزهراوين في حديث: «اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران» . فكان افتتاح القرآن بهما نظير اختتامه بسورتي الفلق والناس، المشتركتين في التسمية بالمعوّذتين.

المبحث الرابع مكنونات سورة"النساء"

المبحث الرابع مكنونات سورة «النساء» «1» 1- وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [الآية 1] . روى ابن جرير «2» عن ابن إسحاق: أنّ بني آدم من صلبه أربعون في عشرين بطنا فممّا حفظ من ذكورهم: قابيل، وهابيل، وإباذ، وشبوبة، وهند، ومرابيس، وفحور، وسند، وبارق، وشيش. ومن إناثهم: إقليمة، واشوف، وجزروة، وعزورا. قال ابن عسكر: وقد روي أنّ من صلب بني آدم عبد المغيث، وتوأمته أمة المغيث وذكر أيضا منهم: عبد الحارث. وفي «مختصر العين» «3» في قول

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . في «تاريخه» 1/ 145، وفي الأسماء التالية المذكورة فيه اختلاف عما جاء في أصول هذا الكتاب وجاءت في «تاريخ الطبري» كما يلي: «عن ابن إسحاق، قال: فكان من بلغنا اسمه خمسة عشر رجلا وأربع نسوة منهم قين وتوأمته، وهابيل وليوذا. وفي نسخة من «تاريخ الطبري» كيوذا، وأشوث بنت آدم وتوأمتها، وشيث وتوأمته، حزروة وتوأمتها، على ثلاثين ومائة سنة من عمره، ثم أباد، وفي نسخة: إياد بن آدم وتوأمته، ثم بالغ وفي نسخة: بالع بن آدم وتوأمته، ثم أتاني. وفي نسخ: أثاث، أثاثي وتوأمته، ثم توبة وفي نسخة: ثوبة بن آدم وتوأمته، ثم بنان. وفي نسخ: بيان، لبنان بن آدم وتوأمته، ثم شبوبة. وفي نسخ: ثوبه، شوبه، سبوبه بن آدم وتوأمته، ثم حيان بن آدم وتوأمته، ثم ضرابيس وفي نسخة: صرابيس بن آدم وتوأمته، ثم هدز. وفي نسخ: هزر، هوز، هرز، هدن بن آدم وتوأمته، ثم يحور. وفي نسخ: نجود، يحود، بحود بن آدم وتوأمته، ثم سندل بن آدم وتوأمته، ثم بارق بن آدم وتوأمته، كل رجل منهم تولد معه امرأة في بطنه الذي يحمل به فيه» . (3) . هذا الكتاب هو مختصر لكتاب الخليل بن أحمد المسمى «العين» ، وهو من تأليف أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي بالتصغير، نسبة لقبيلة، أندلسي توفي سنة 379 هـ. ووهم الزركلي في «الأعلام» فعزاه إلى محمد مرتضى الزبيدي، بفتح الزاي، نسبة إلى البلد زبيد، فكيف يستشهد به السيوطي المتوفى سنة 911 هـ هنا وقد ولد محمد مرتضى الزبيدي سنة 1145 هـ؟!.

العرب: (هيّ بن بيّ) لمن لا يعرف: أن هيّا كان من ولد آدم فانقرض نسله. قال ابن عسكر: وجميع أنساب بني آدم ترجع إلى شيث، وسائر أولاده انقضت أنسابهم من الطّوفان «1» . وذكر بقي «2» بن مخلد: أن ودّا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا كانوا أولاد آدم من صلبه. حكاه ابن عسكر. وقد أخرج ابن أبي حاتم مثله عن عروة. 2- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ [الآية 27] . قال مجاهد: هم الزّناة. وقال السّدّي: اليهود والنّصارى. أخرجهما ابن جرير «3» . 3- الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [الآية 37] . نزلت في كردم «4» بن زيد، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري «5» بن عمرو، وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، حين أمروا رجالا من الأنصار بترك النفقة على من عند رسول الله (ص) ، خوف الفقر عليهم. أخرجه ابن جرير «6» عن ابن عباس. 4- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ [الآية 44] . سمّي منهم: رفاعة بن زيد بن التابوت. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس «7» .

_ (1) . انظر نحو ذلك في «تاريخ الطبري» 1/ 153. (2) . وبقي بن مخلد الأندلسي القرطبي: حافظ مصنف، له «تفسير» قال فيه ابن بشكوال: «لم يؤلّف مثله في الإسلام» . وله «مسند» قال ابن حزم فيه: روى عن ألف وثلاث مائة صحابي ونيف، ورتبه على أبواب الفقه فهو مسند ومصنف ليس لأحد مثله. (3) . 5/ 19. (4) . في النسخ المطبوعة: «كدوم» ، والمثبت من الخطيتين و «سيرة ابن هشام» 1/ 515. (5) . في النسخ المطبوعة: «محرى» وما أثبته هو الصواب. (6) . 5/ 55. (7) . و «الطبري» 5/ 74.

وأخرج عن عكرمة: أنها نزلت في رفاعة، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن أبي رافع، وبحري بن عمرو، وحيي بن أخطب. 5- يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا [الآية 47] . قال السّدّي: نزلت في رفاعة بن زيد، ومالك بن الضّيف «1» . وقال عكرمة: في كعب بن الأشرف، وعبد الله بن صوريا. أخرجهما ابن أبي حاتم. 6- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ [الآية 49] . قال قتادة، والضّحّاك، والسّدّي: هم اليهود. أخرجه ابن جرير «2» . 7- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [الآية 51] . نزلت في كعب بن الأشرف. كما أخرجه أحمد من حديث ابن عبّاس «3» . 8- أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [الآية 54] . أخرج ابن جرير «4» عن عكرمة قال: «الناس» في هذا الموضع: النبيّ (ص) خاصّة. 9- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا [الآية 60] . نزلت في الجلاس بن الصّامت، ومعتّب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشر. أخرجه ابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس «5» . 10- أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [الآية 60] . هو أبو برزة الأسلمي الكاهن. أخرجه الطّبرانيّ «6» من طريق عكرمة، عن ابن عباس.

_ (1) . انظر «الطبري» 5/ 78. (2) . 5/ 80- 81. [.....] (3) . لم أجده في مطبوعة «المسند» لأحمد وانظر «الطبري» 5/ 84 و «أسباب النزول» للواحدي: 114- 115، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 6 مضافا إلى كعب: «وحيي بن أخطب» . وقال: «رواه الطبراني، وفيه يونس بن سليمان الحجال، لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح» . (4) . 5/ 87. (5) . بسند ضعيف. وجاء في ق «قريش» بدلا من «قشير» ، كما سقطت «العوفي» منها. (6) . وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 6 وقال: ورجاله رجال الصحيح.

أو: كعب بن الأشرف. أخرجه ابن أبي حاتم «1» عن طريق العوفي عن ابن عباس. 11- فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [الآية 65] . أخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن المسيّب قال: نزلت في الزّبير بن العوّام، وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما في ماء فقضى النبي (ص) للزبير «2» . 12- ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ [الآية 66] . قال النبيّ (ص) ، وأشار إلى عبد الله بن رواحة،: «لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل» . أخرجه ابن أبي حاتم. 13- وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [الآية 72] . قال مقاتل: هو عبد الله بن أبيّ. أخرجه ابن أبي حاتم وغيره. 14- مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [الآية 75] . قالت عائشة: هي مكّة. أخرجه ابن أبي حاتم «3» . 15- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [الآية 77] . سمّي منهم: عبد الرحمن بن عوف. أخرجه النّسائي، والحاكم من حديث ابن عباس «4» . 16- بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ [الآية 81] . قال الضّحّاك: هم أهل النّفاق. أخرجه ابن جرير «5» . 17- إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ [الآية 90] .

_ (1) . بسند ضعيف. (2) . وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 6 وقال: «رواه الطبراني» وفيه يعقوب بن حميد، وثقه ابن حبان، وضعّفه غيره» انتهى وانظر تخريجا وافيا له في «تفسير ابن كثير» 1/ 520. (3) . وأخرجه «الطبري» 5/ 107، عن مجاهد والسّدّي وابن عباس. (4) . «النسائي» 6/ 3، و «ابن جرير» 170- 171، والحاكم في «المستدرك» 2/ 307 وقال: «هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وأقره الذهبي» . وذكر ابن جرير الطبري قولا آخر، أن هذه الآية وآيات بعدها نزلت في اليهود. (5) . 5/ 113.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال: نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك المدلجي، وفي خزيمة «1» بن عامر بن عبد مناف. 18- سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ [الآية 91] . قال مجاهد: هم أناس من أهل مكة «2» . وقال قتادة: حيّ كانوا بتهامة. وقال السّدّي: جماعة، منهم نعيم بن مسعود الأشجعي. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. 19- وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [الآية 94] . المقول له ذلك، وهو المسلّم: عامر بن الأضبط الأشجعي. أخرجه أحمد «3» ، من حديث عبد الله بن أبي حدرد. وفيه: أن القائلين له «لست مؤمنا» نفر من المسلمين، فيهم أبو قتادة، ومحلّم بن جثّامة. وعند ابن حرير «4» من حديث ابن عمر: أن القائل هو محلّم، وهو الذي قتله. وعند البزّار «5» من حديث ابن عبّاس: أن القائل هو المقداد بن الأسود. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن الزبير، عن جابر والثّعلبي «6» من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن

_ (1) . كذا في «الطبري» 5/ 124، والأثر فيه عن عكرمة لا عن ابن عباس كما هو هنا. (2) . انظر «تفسير الطبري» 5/ 127. ووقع في «ق» : «بني جذيمة» وفي «خ» : «بني خذيمة» . (3) . في «المسند» 6/ 11، وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 8 وقال: «رواه أحمد والطبراني، ورجاله ثقات» . (4) . 5/ 140. (5) . «كشف الأستار عن زوائد البزار» برقم: (2202) ، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 8: «إسناده جيد» . [.....] (6) . الثعلبي: أحمد بن محمد، مفسر من أهل نيسابور، له اشتغال بالتاريخ، له «عرائس المجالس» في قصص الأنبياء، فيه رزايا وبلايا، وله «الكشف والبيان في تفسير القرآن» (توجد أجزاء خطية منه في دار الكتب المصرية والأزهرية) . قال ابن تيمية فيه: «لقد أجمع أهل العلم بالحديث أنه يروي طائفة من الأحاديث الموضوعة.. وقد أجمع أهل العلم بالحديث على أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد من جنس الثعلبي والنقاش والواحدي، وأمثال هؤلاء المفسرين، لكثرة ما يروونه من الحديث ويكون ضعيفا بل موضوعا» توفي المترجم عام 427 للهجرة.

عباس «1» : أن اسم المقتول: مرداس. زاد ابن عباس: واسم القاتل: أسامة بن زيد. 20- إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [الآية 97] . سمّى عكرمة منهم: عليّ بن أميّة بن خلف، والحارث بن زمعة، وأبا «2» قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا العاص بن منبّه «3» بن الحجاج، وأبا قيس بن الفاكه. أخرجه ابن أبي حاتم، وعبد «4» . 21- إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ [الآية 98] . قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين. أخرجه البخاري «5» . وسمّي منهم في حديث آخر «6» : عيّاش بن أبي ربيعة، [والوليد] «7» وسلمة بن هشام. 22- وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الآية 100] . نزلت في ضمرة «8» بن جندب. أخرجه أبو يعلى بسند رجال ثقات عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير: أنّه أبو ضمرة بن العيص. وأخرج عبد عنه قال: هو رجل من خزاعة يقال له: ضمرة بن العيص.

_ (1) . سبق في رقم (80) بيان أن هذا الإسناد من أوهى الأسانيد. وقد سقط من النسخ المطبوعة حتى: «زاد ابن عباس» . (2) . زيادة من «سيرة ابن هشام» 1/ 641 و «جمهرة النسب» 1/ 126. (3) . وقع في «السيرة» : «العاص» وهو مخالف لما في «تفسير الطبري» وغيره. (4) . و «الطبري» 5/ 148. وعبد هو ابن حميد، صاحب «التفسير المسند» . وانظر في ذكر هؤلاء الفتية «سيرة ابن هشام» 1/ 641. (5) . برقم (4587) في كتاب التفسير، والطبري في «تفسيره» 5/ 149. (6) . أخرجه «الطبري» 5/ 150. (7) . زيادة من «الطبري» و «الدر المنثور» وهو ابن الوليد بن المغيرة، كما في «سيرة ابن هشام» 1/ 321، وكان من خيار المسلمين، كما في «جمهرة النسب» 1/ 126. (8) . اختلف في اسمه وانظر في (جندع بن ضمرة) من «الإصابة» .

وأخرج عن قتادة قال: يقال له سبرة. وعن عكرمة قال: هو رجل من بني ليث. وأخرج ابن جرير «1» عن سعيد بن جبير قال: هو رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص، أو العيص بن ضمرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الزبير: أنها نزلت في خالد بن حزام، هاجر إلى الحبشة فمات في الطريق. وهو غريب جدّا! وقيل: هو أكثم بن صيفي. أخرجه أبو حاتم في «كتاب المعمّرين «2» » من طريقين عن ابن عباس، والأموي «3» في «مغازيه» عن عبد الملك بن عمير. 23- وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [الآية 105] . هم بنو أبيرق: بشر، وبشير «4» ، ومبشّر. أخرجه الترمذي «5» ، من حديث قتادة بن النعمان. 24- ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً [الآية 112] . عنى به: لبيد بن سهل، كما في حديث الترمذي «6» . وقيل: عنى به زيد بن السمين رجلا من اليهود. أخرجه ابن جرير «7» عن قتادة، وعكرمة، وابن سيرين. 25- لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ [الآية 113] . هم أسير «8» بن عروة، وأصحابه. كما في حديث الترمذي «9» .

_ (1) . 5/ 151. (2) . أبو حاتم: هو سهل بن محمد السجستاني، من كبار العلماء باللغة والشعر في البصرة، توفي سنة 248 هـ. (3) . هو الوليد بن مسلم، عالم الشام في عصره، ومن حفاظ الحديث، له سبعون تصنيفا في الحديث والتاريخ يعزّ وجودها الآن و «مغازيه» هي في حكم المفقود من تراثنا، توفي سنة 195 هـ. (4) . في «سيرة ابن هشام» 1/ 524 بفتح الباء. وقال الدارقطني: انما هو «بشير» بضم الباء. (5) . برقم (3039) ، والحاكم، و «الطبري» 5/ 169- 170، وبنو أبيرق هم بطن من الأنصار من الأزد من القحطانية، كما في «معجم قبائل العرب» 1/ 4، [.....] (6) . انظر «الترمذي» رقم: (3039) . (7) . 5/ 173. (8) . ق و «الإتقان» 2/ 149: «أسيد» . وكذا في نسخة من «سنن الترمذي» كما في التعليق عليه 8/ 206. (9) . انظر الترمذي: (3039) .

26- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [الآية 137] . قال أبو العالية: هم اليهود، والنّصارى. وقال ابن زيد: هم المنافقون. أخرج ذلك ابن جرير «1» . 28- إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [الآية 142] . قال ابن جريج: نزلت في عبد الله بن أبيّ، وأبي عامر بن النّعمان. أخرجه ابن جرير «2» . 29- لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ [الآية 143] . قال مجاهد: لا إلى أصحاب محمد [ص] «3» ولا إلى [هؤلاء] اليهود. وقال ابن جريج: لا إلى أهل الإيمان، ولا إلى أهل الشرك «4» أخرجهما ابن جرير «5» . 30- يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [الآية 153] . سمّى منهم ابن عسكر: كعب ابن الأشرف، وفنحاص. 31- وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [الآية 157] . أخرج ابن جرير «6» عن ابن إسحاق: أن الذي ألقى عليه شبهه رجل من الحواريين، اسمه سرجس. 32- لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ [الآية 162] . قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن سلام، وأصحابه. أخرجه ابن أبي حاتم «7» .

_ (1) . 5/ 210. (2) . 5/ 214- 215. (3) . زيادة من «الطبري» . (4) . 5/ 216. (5) . ووقع في «الإتقان» 2/ 149 تفسير مبهم قوله تعالى وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ [الآية 127] ولم يأت به المؤلف هنا. قال في «الإتقان» «سمي من المستفتين: خولة بنت حكيم» . (6) . 6/ 11. (7) . قال السيوطي في «الدر المنثور» 2/ 246: أخرج ابن إسحاق، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس في قوله: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ [الآية 162] قال: نزلت في عبد الله بن سلام، وأسيد بن سعية، وثعلبة بن سعية، حين فارقوا يهود وأسلموا.

33-ْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [الآية 172] . أخرج ابن جرير «1» عن الأجلح «2» قال: قلت للضّحّاك: ما المقرّبون؟ قال: أقربهم إلى السماء الثانية. 34- يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [الآية 176] . المستفتي: هو جابر بن عبد الله. كما أخرجه الأئمة الستة من حديثه «3» .

_ (1) . 6/ 26. (2) . أجلح بن عبد الله: صدوق: شيعي، مات سنة 145 هـ. ووقع في النسخ المطبوعة «الأصلح» !. (3) . البخاري (6743) ونحوه (4577) ، ومسلم (1616) ، وأبو داود: (2886) ، والترمذي (2098) وابن ماجة (2728) وأحمد، والحميدي في «مسنده» (1229) وابن خزيمة في «صحيحه» (106) ، والطبري 6/ 28، وانظر: «اسباب النزول» للواحدي: 139، وانظر حول شرح الحديث: «معالم السنن» للخطابي 3/ 309، و «شرح صحيح مسلم» للنووي 4/ 138، و «فتح الباري» 12/ 25، و «شرح ثلاثيات مسند أحمد» للسّفّاريني 1/ 203. [.....]

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"النساء"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النساء» «1» 1- قال تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) . أقول: إن استعمال «الأكل» بمعنى الإفادة، والانتفاع، والاستحواذ على الشيء ولا سيما ما يدعى «مالا» ورد غير مرة، ومن ذلك: قال تعالى: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) [الفجر] . وقوله تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ [الآية 161] . ومن المفيد أن نشير إلى أن مادة «الأكل» ما زالت تستعمل هذا الاستعمال، على سبيل الاتساع في العربية المعاصرة، فصيحة، ودارجة. 2- قال تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [الآية 12] . قال الزمخشري «2» : ... فإن قلت: ما الكلالة؟ قلت: يطلق على ثلاثة: على من لم يخلّف ولدا ولا والدا، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلّفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد. ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة كما تقول: ما صمت عن عيّ، وما كفّ عن جبن. والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوّة من الإعياء، قال الأعشى: فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من وجى حتى تلاقي محمّدا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . «الكشاف» ، 1/ 485.

فاستعيرت للقرابة من جهة الوالد والولد ... أقول: واستعمال «الكلالة» في باب الإرث، وانصرافها إلى مخصوص بعلاقة وقرابة خاصة كما نصّوا على ذلك، بيان في أن لغة القرآن العزيز تمكنت من هذه العربية وحوّلت طائفة منها إلى المصطلح الفني بعد أن كانت لغة لا تشتمل على هذا النوع من المعجم الاصطلاحي الفني. 3- وقال تعالى: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) . لقد ورد الفعل «أعتدنا» بهذه الصيغة المسندة إلى ضمير المتكلمين ثلاث عشرة مرة في آيات القرآن، كما ورد «أعتدت» مع تاء التأنيث في قوله تعالى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف/ 31] . ونريد أن نقف وقفة خاصة على هذا الفعل. قالوا: أعتد الشيء: أعدّه، وقوله تعالى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً، أي: هيّأت وأعدّت. وقوله: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [الآية 37] ، أي: هيّأنا. والعتاد: العدّة، وما تعدّه لأمر مّا وتهيّئه له. يقال: أخذ للأمر عدّته وعتاده، أي: أهبته وآلته. والعتاد: ما أعدّه الرجل من السلاح والدّوابّ وآلة الحرب. أقول: لم يبق من هذه المادة الواسعة إلا العتاد في اللغة المعاصرة: ويراد بها السلاح على اختلاف أنواعه، وما يتصل بالسلاح من أجزاء ولواحق. كأن هذه الكلمة قد ضاقت رقعتها حتى قيّدت بهذه الخصوصية. ولم يبق شيء من استعمال الفعل «أعتد» في العربية المعاصرة. 4- وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [الآية 25] . وردت كلمة الطّول في آيتين أخريين هما: اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ [التوبة/ 86] . غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ [غافر/ 3] .

قال الزجاج «1» في تفسير الطّول في [الآية 25 من آل عمران] : معناه من لم يقدر منكم على مهر الحرّة، قال: والطّول: القدرة على المهر. وقوله تعالى: ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [غافر/ 3] ، أي: ذي القدرة. وقيل: الطّول: الغنى. وقيل: الطّول: الفضل، يقال: لفلان عليّ طول، أي: فضل. أقول: أفادت العربية من كلمة «الطّول» ضد «العرض» فوائد كثيرة، أفعالا، ومصادر، وصيغا أخرى. وإن نظرة وافية إلى هذه المادة، في المعجم، لتهدي إلى القدر الكبير من الفوائد، التي حفلت بها لغة العرب من هذه المادة، اعتمادا على تغيير الأصوات القصيرة (الحركات) . ألا ترى أنهم قالوا: طويل ثم طوال للمبالغة. وأنهم قالوا: طول للحبل الطويل جدا كما في قول طرفة: لعمرك إنّ الموت، ما أخطأ الفتى، ... لكالطّول المرخى وثنياه باليد ومن المفيد أن نجد «التطاول» ، بمعنييه الحسي والعقلي، فندرك كم أفادت العربية من الأصول المادية الأولى، ففرّعت المعاني، وشقّقت الصيغ. 5- وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ [الآية 38] . أريد أن أقف على «الرّئاء» ، وهو مصدر كالمراءاة، مثل السّباق والمسابقة، ويراد به الذين ينفقون أموالهم تظاهرا وزهوا. وفي الرّئاء خداع وكذب، وهذا كقوله تعالى أيضا: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ [الأنفال/ 47] . أقول: وهذا المصدر الصريح هو الذي تحول إلى «الرياء» ، واكتسب خصوصية معنوية نعرفها في الاستعمال. وليس «الرياء» اسما كما ورد في «اللسان» ، بل هو المصدر نفسه كالمراءاة، وهو مقلوب «الرّئاء» وقد صير إلى هذا القلب التماسا للخفة، وهو كالقلب في آبار وآرام، والأصل

_ (1) . «اللسان» (طول) .

أبآر وأرءام. إن هذه الخفة لا تتحقق في اجتماع الهمزة مع المدّ (آ) . وبسبب من القلب، حدث تطور في الدلالة، ألا ترى أن استعمال «رئاء» يختلف قليلا في الدلالة عن استعمال «رياء» ؟ 6- وقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [الآية 43] . أقول: الأصل في «التيمّم» القصد. ومنه قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [البقرة/ 267] . أي: ولا تقصدوا المال الرديء تخصّونه بالإنفاق. أما «التيمّم» في سورة النساء، وفي الآية 43، فهو شيء آخر، وهو أمر من الله، جل وعلا، خصّ به المرضى، والذين كانوا عابري سبيل، أو من جاء من الغائط، أو لامس النساء، وطلب إليهم أن يتيمّموا بالتراب إن لم يجدوا ماء يتطهّرون به. ولا بد أن نرجع إلى تاريخ الكلمة في مسيرتها وتطورها. عرفنا أن التّيمّم هو القصد، وهذا يعني أنه صيغة أخرى لكلمة «الأمّ» ، (بفتح الهمزة) ، ومن هنا كان أصحاب المعجمات القديمة على حق في إدراج كلمة «التيمّم» في مادة «أمم» لأن المعنى واحد وهو القصد. وجاء في كتب اللغة «1» : وتيمّمته: قصدته. وفي حديث ابن عمر: من كانت فترته إلى سنّة فلأمّ ما هو، أي: قصد الطريق المستقيم، يقال: أمّه يؤمّه أمّا وتأمّمه وتيمّمه. قال: ويحتمل أن يكون الأمّ (بفتح الهمزة) ، بمعنى المأموم، أي: هو على طريق ينبغي أن يقصد. ومنه الحديث: كانوا يتأمّمون شرار ثمارهم في الصدقة، أي: يتعمّدون ويقصدون، ويروى: يتيمّمون، وهو بمعناه. ومنه حديث كعب بن مالك: وانطلقت أتأمّم رسول الله (ص) . وقال ابن السكيت في قوله تعالى:

_ (1) . انظر «اللسان» (مادة أمم) .

فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، أي: اقصدوا لصعيد طيّب، ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمّم علما لمسح الوجه واليدين بالتراب. وقال ابن سيده: التّيمّم التّوضّؤ بالتراب على البدل، وأصله من الأول، (يريد التأمّم) ، لأنه يقصد التراب فيتمسّح به. أقول: هذا طريق مسيرة الكلمة في تحولها من «القصد» العام الى المصطلح الفنّي بحيث صار التيمم، لدى الخاصة والعامة، التمسّح بالتراب. ولا بد من فائدة أخرى هي: أن «الأمّ» ، (بفتح الهمزة) ، و «اليمّ» ، وكلاهما يعني القصد، أصلهما البعيد هو الظرف «أمام» ، وبشيء من لطف الصنعة، كما قالوا، صير إلى القصد فكأن من «يؤمّ» ، يذهب إلى «أمام» في الأصل ثم اتسع فيه. وأرى أن «الإمام» ، وهو من يؤتمّ به، يلمح إلى هذا الأصل البعيد وهو الظرف «أمام» ، وكذلك الإمامة من غير شك. وأسماء الجهات أمدّت العربية بطائفة كبيرة من المواد النافعة، ألا ترى أن «خلف» ، قد جاء منها الفعل «خلف» بفوائده الكثيرة، وصيغه المختلفة، ومن غير شك أن «الخليفة» ، و «الخلافة» من هذا. ولا تحسبن كلمات «الخلف» ، و «الخلاف» ، و «الاختلاف» بعيدة عن الظرف «خلف» . وإذا قلنا هذا، فإنما نقول مثله في «وراء» ، وليست التورية والمواراة إلا من هذا الظرف المكاني. وهذا باب واسع لو استوفيته لتهيأ منه مجموع ظريف لطيف. 7- وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [الآية 66] . أريد أن أشير إلى أن الآية الكريمة جعلت الخروج من الديار من الأمور الكبيرة التي تأتي بعد قتل النفس، فإذا كان قتل النفس عسيرا صعبا، لا يقدم عليه الإنسان إلا في أحوال نادرة، فإن الخروج من الديار من أشق الأمور على الإنسان. 8- وقال تعالى: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ [الآية 73] . ليس من شيء في هذه الآية الكريمة

يدفعني إلى وقفة خاصة، إلا استعمال «لئن» . قال النحاة: إن اللام موطئة للقسم، وهذا يعني أن الجواب في هذه الجملة الإنشائية ينبغي أن يكون جوابا للقسم، وإذا كان جوابا للقسم فقد يكون مؤكدا بالنون إن كان مثبتا مستقبلا مقترنا بلام القسم كما هي الحال في الآية نفسها لَيَقُولَنَّ. أقول: وعلى هذا جرى الأسلوب القرآني وذلك في قوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي [فصّلت/ 50] . لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مريم/ 46] . وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) . وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم/ 7] . وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم/ 7] . وآيات أخرى جرت على هذا الأسلوب، وهو كون الجواب للقسم لا للشرط. وعلى هذا جرى أسلوب الفصحاء في الجاهلية والإسلام، حتى إذا جاء العصر العباسي، وجدنا تحوّلا عن هذا الأسلوب وهو كون الجواب للشرط بدليل اقترانه بالفاء. ومن الشعراء العباسيين الذين جروا على هذا الأسلوب أبو نواس، والسّريّ الرفّاء، ومسلم بن الوليد، والشريف الرّضي وغيرهم. ولكننا نجد أبا تمام والمتنبي قد اتبعا الأسلوب الفصيح الذي استقريناه في الآيات الكريمة، على أننا نجد البحتري قد اتبع الأسلوبين، وها نحن نعرض نماذج من أقوال أبي تمام والشريف الرضي والبحتري. قال أبو تمام من قصيدة يمدح بها حبيش بن المعافى «1» : لئن ظمئت أجفان عين إلى البكا، ... لقد شربت عيني دما فتروّت وقال من قصيدة يمدح بها الفضل بن صالح الهاشمي «2» : لئن قليبك جاشت بالسماحة لي ... لقد وصلت بشكري حبل مائحها

_ (1) . «ديوان أبي تمام» (ط بيروت 1887) ص: 58. (2) . المصدر السابق ص 69.

وقال من قصيدة يمدح بها أبا سعيد محمد بن يوسف الطائي «1» : لئن عمّت بني حوّاء نفعا ... لقد خصّت بني عبد الحميد ونجتزئ بذكر هذه الأبيات الثلاثة عن الكثير غيرها مما اتبع فيه الشاعر هذا الأسلوب، وهو جعل الجواب للقسم المتقدم المتمثل باللام الموطئة ولقد جرى المتنبي على هذا الأسلوب فقد قال من قصيدة في رثاء جدّته «2» : لئن لذّ يوم الشامتين بموتها، ... لقد ولدت منّي لآنفهم رغما وقال من مقطوعة في إنسان ينشده شعرا في وصف بركة «3» : لئن كان أحسن في وصفها ... لقد ترك الحسن في الوصف لك وقال من قصيدة يمدح بها سيف الدولة ويعاتبه «4» : لئن تركنا ضميرا عن ميامننا، ... ليحدثنّ لمن ودّعتهم ندم على أن هذا هو الأسلوب الذي جرى عليه الجاهليون بدلالة ما ورد في الآيات المحكمات، وهو الأسلوب الذي جرى عليه الإسلاميون كعمر بن أبي ربيعة، وجميل، وكثيّر، وغيرهم، وها هو الفرزدق يخاطب جريرا فيقول: لئن فركتك علجة آل زيد، ... وأعوزك المرقّق والصّناب لقد ما كان عيش أبي ممرّا ... يعيش بما تعيش به الكلاب وعلى ذلك سار جرير أيضا، فقال يرثي جبير بن عياض الكليبي «5» : لعمري لئن خلّى جبير مكانه، ... لقد كان شعشاع العشية شيظما وقال يهجو التيم «6» : لئن سكنت تيم زمانا بغرّة، ... لقد حديت تيم حداء عصبصبا

_ (1) . المصدر السابق ص 97. (2) . «ديوان المتنبي» (شرح الواحدي، ط. اوربا) ص: 263. (3) . المصدر السابق ص: 362. (4) . المصدر السابق ص: 485. (5) . الديوان ص: 516. (6) . الديوان ص: 13.

ومما ينسب إلى المجنون قوله «1» : لئن كان يهدى برد أنيابها العلى ... لأفقر منّي، إنّني لفقير وإذا عدنا إلى عصر بني العباس وجدنا ابن الرومي يتّبع الأسلوب الفصيح، فيقول مادحا أحمد بن ثوابة «2» : لعمري لئن حاسبتني في مثوبتي ... بخفضي، لقد أجريت عادة حاسب وقال من قصيدة في الحسن بن عبيد بن سليمان «3» : أقسمت حقا: لئن طابت ثمارهم، ... لقد سرى عرفهم في أكرم التّرب وقال أيضا من قصيدة يرثي بها يحيى بن عمر «4» : لئن لم تكن بالهاشميين عاهة ... لما شكّكم، تالله، إلا المعلهج على أننا نجد البحتري قد جرى على الأسلوب الفصيح كما جرى على خلافه، فقد قال من قصيدة يمدح بها الفتح بن خاقان «5» : فلئن جحدت عظيم ما أوليتني ... إنّي إذا واهي الوفاء ضعيفه وقال أيضا من قصيدة يمدح بها الخليفة المتوكل «6» : لئن أضحت محلّتنا عراقا ... مشرّقة وحلّتها شآما فلم أحدث لها إلّا ودادا ... ولم أزدد بها إلّا غراما وقد جرى الشريف الرضي على الأسلوب الذي استحدث خطأ، فجرى عليه الكثير من المعربين. قال الشريف من قصيدة يمدح بها أباه ويهنئه بعيد الأضحى «7» : لئن أبغضت منّي شيب رأسي، ... فإنّي مبغض منك الشبابا

_ (1) . «شروح سقط الزند» 3/ 1042. (2) . «ديوان ابن الرومي» (ط. دار إحياء التراث، بيروت) ص: 276. [.....] (3) . «ديوان ابن الرومي» (تحقيق حسين نصار) 1/ 192. (4) . المصدر السابق 2/ 498. (5) . «ديوان البحتري» (دار القاموس الحديث، بيروت) ص: 42. (6) . المصدر السابق ص 18. (7) . «ديوان الشريف» (مطبعة نخبة الأخبار) ص: 42.

وقال أيضا من مقطوعة في النسيب «1» : لئن كنت أخليت المكان الذي أرى ... فهيهات أن يخلو مكانك من قلبي وبعد، فكيف هو الأسلوب في العربية المعاصرة؟ لا نعرف في العربية المعاصرة إلا الأسلوب الذي جرى على خلاف ما اشتهرت فصاحته، ودلت عليه لغة التنزيل العزيز، وذلك أن المعربين جروا على أن الأسلوب هو أسلوب الشرط، وأن الجواب فيه جواب للشرط فيقال: ولئن فاتنا شيء من ذلك، فلم يفتنا ما هو ضروري. وأنت تجد مثل هذا الأسلوب جاريا شائعا في كتابة الأديب وغير الأديب. 9- وقال تعالى: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً [الآية 100] . قالوا: والمراغم: السّعة والمضطرب، وقيل: المذهب والمهرب في الأرض. وقال الزّجّاج في قوله تعالى: يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً معنى مراغما مهاجرا، المعنى يجد في الأرض مهاجرا لأنّ المهاجر لقومه والمراغم بمنزلة واحدة، وإن اختلف اللفظان، وأنشد: إلى بلد غير نائي المحلّ ... بعيد المراغم والمضطرب وقال: وهو مأخوذ من الرّغام وهو التراب. ويقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلّة تلحقه بذلك، قال النابغة الجعدي: كطود يلاذ بأركانه عزيز المراغم والمذهب أقول: وأكبر الظن أن «المراغم» من كلم القرآن، ذلك أن البيت الذي أنشده أبو إسحاق لا نعرف من أمره ونسبته شيئا، والنابغة الجعدي شاعر إسلامي. على أن هذا لا يمنع أن تكون الكلمة معروفة في العربية قبل الإسلام، ولكني أقول بأن الاستعمال القرآني خصص هذه اللفظة باسم المكان فجاءت على زنة اسم المفعول، وذلك جار في غير الثلاثي من الأفعال.

_ (1) . المصدر السابق ص: 79.

ثم إن الأصل في هذه الكلمة، كما قال الزجاج، هو «الرّغام» أي التراب. وهنا نقول إن قولنا: أرغمت فلانا، أي: أجبرته وقهرته لمحا إلى أن «المرغم» في الأصل من مسّ جبهته التراب، وقد امّحت هذه الحقيقة التاريخية اللغوية فبقي الإجبار والقهر، وعلى هذا لا يكون «المراغم» اسم مكان بمعنى المهرب والمضطرب فحسب، بل يضاف إلى ذلك أنه المهرب الذي يضطرّ الإنسان إلى أن يلجأ إليه ويكره على سلوكه. 10- وقال تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [الآية 102] . أقول: أشار الفعل «فلتقم» إلى أن الفاعل مؤنث وهو طائفة، وهذا يعني أن العربية تراعي اللفظ كثيرا. فلما كان لفظ الفاعل مؤنثا أشار الفعل إلى التأنيث بالتاء في أوله. حتى إذا أسند إلى الفاعل فعل بعده ظهرت المراعاة للأصل والمعنى، وذلك لأن الطائفة مجموع من الناس قد تكون مساوية ل «قوم» ، أو «جمع» ، أو شيء من هذا. ومثل هذا قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ (113) . في مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى، وهذا كثير في القرآن وكثير في العربية الفصيحة ولا سيما القديمة. ومراعاة اللفظ في العربية كثيرة، وقد تكون سمة من سمات الفصاحة، ومن ذلك مثلا أن كلمة «بعض» ، تدلّ على الواحد في شواهد كثيرة كما تدل على الجمع في شواهد أخرى. غير أن دلالتها على الواحد تأتي مراعاة للفظها الذي هو مفرد، قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ [الشعراء] . وقوله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ [التحريم/ 3] . وقوله تعالى: وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [يوسف/ 10] . وفي كلام الفصحاء وأشعار العرب الشيء الكثير من هذه الدلالة على الواحد لمراعاة اللفظ. على أن مراعاة المعنى وهو الجمع كثيرة أيضا. 11- وقال تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ

خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) . أقول: ورد «الكسب» في لغة التنزيل ودلالته عامة، ينصرف إلى الخير كما ينصرف إلى الشر. قال الله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) [الطور] . وقال تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً [لقمان/ 34] . وقال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ [البقرة/ 134] . وقال تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة/ 281] . وقد اجتزأنا بهذه الآيات عن كثير مما يدخل في هذا الخصوص. غير أننا نجد آيات كثيرة تشير إشارة واضحة إلى أن المراد ب «الكسب» هو الشرّ، ومن ذلك: قال تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ [البقرة/ 81] . وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم/ 41] . وقال تعالى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا [آل عمران/ 155] . وقال تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا [الآية 88] . وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها [يونس/ 27] . كما يتحقق هذا المراد من الكلمة بانصرافها إلى الشرّ في آيات كثيرة أخرى. وقد نجد «الكسب» في آيات عدّة يعني الخير المحض كقوله تعالى: .... لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الأنعام/ 158] . وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ [البقرة/ 267] . ومثل «الكسب» «الاكتساب» في آيات الله فليس الفعل المزيد خاصا بفائدة معنوية تميزه، وعلى ذلك فهو ينصرف إلى الخير كما ينصرف إلى الشرّ. قال تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [النور/ 11] .

وقال تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ «1» [البقرة/ 286] . ولكنك تجد «الاكتساب» دالا على الكسب الحلال في قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [الآية 32] . أقول: في هذا العرض لهذه الآيات بيان في عموم اللفظ، وخصوصه لأداء المعنى، وقد يكون ذلك أجزى وأوفى من التخصيص والتقييد، وقد كنا أشرنا إليه. 12- وقال تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) . والمعنى: لن يأنف المسيح، ولن يذهب بنفسه عزّة، من نكفت الدمع إذا نحّيته عن خدّك «2» . وقال الأزهري: سمعت المنذريّ يقول: سمعت أبا العبّاس، وقد سئل عن الاستنكاف في قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ فقال: هو أن يقول: لا، وهو من النّكف والوكف. يقال: ما عليه في ذلك الأمر نكف ولا وكف، فالنكف أن يقال له سوء. واستنكف ونكف إذا دفعه وقال: لا «3» . وعند المفسرين: الاستنكاف والاستكبار واحد. أقول: والفعل «استنكف» من الأفعال المستعملة في العربية المعاصرة، ولكن المعنى شيء آخر فيقال: استنكف فلان عن المشاركة في الأمر، أي: عدل وتنحّى، واستنكف عن «التصويت» في مجلس النواب، أي: عدل وانصرف. ولكننا نجد هذا الفعل في العامية الدارجة في الحواضر العراقية مستعملا كما أشارت إليه الآية الكريمة، فابن

_ (1) . قد يقال: إن الفعل المجرد في هذه الآية انصرف إلى الخير، في حين أن المزيد انصرف إلى الشر، وهذا صحيح، ولكني أقول: إن هذا الانصراف لم يكن من البناء في كل منهما، بل هو من استعمال حرف الخفض اللام في الأول، و «على» في الثاني كقوله: ما له وما عليه، واستقراء الآيات ينفي هذا الاختصاص المزعوم. (2) . «الكشاف» 1/ 594. (3) . «التهذيب» (نكف) .

المدينة يقول: فلان يستنكف أن يشتغل سائقا لسيّارة، والمعنى يأنف ويذهب بنفسه عزّة. وهذا من الغرائب اللغوية التاريخية وذلك أننا نجد جمهرة من الألفاظ الفصيحة القديمة قد عفا أثرها في الفصيحة المعاصرة، وبقيت في العامية على أنها استعمال دارج.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"النساء"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النساء» «1» قال تعالى: تَسائَلُونَ بِهِ [الآية 1] خفيفة لأنها من تساؤلهم فإنهم «يتساءلون» فحذفت التاء الأخيرة، وذلك كثير في كلام العرب نحو (تكلّمون) وان شئت ثقّلت فأدغمت «2» . قال الله تعالى وَالْأَرْحامَ [الآية 1] منصوبة أي: اتقوا الأرحام «3» . وقرأ بعضهم وَالْأَرْحامَ جرّا «4» . والأوّل أحسن لأنك لا تجري الظاهر المجرور على المضمر المجرور. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) تقول من «الرقيب» : «رقب» «يرقب» «رقبا» و «رقوبا» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هي في الطبري 7/ 517 قراءة أهل المدينة والبصرة، وفي السبعة 226 إلى ابن كثير ونافع وابن عامر، وإلى أبي عمرو في رواية وأجاز ابن عباس القراءتين، وفي الكشف 1/ 375، والتيسير 93 الى غير الكوفيين، وفي الجامع 5/ 2 الى أهل المدينة وفي معاني القرآن 1/ 253 بلا نسبة. أما قراءة عدم التثقيل ففي الطبري 7/ 517 هي قراءة بعض قراء أهل الكوفة وفي السبعة 226 إلى عاصم وحمزة والكسائي وإلى أبي عمرو وفي رواية أن ابن عباس أجاز القراءتين وفي الكشف 1/ 375 والتيسير 93 والجامع 5/ 2 والبحر 3/ 156 الى الكوفيين. (3) . في السبعة 226 هي قراءة القراء كلّهم إلا حمزة وفي الكشف 1/ 375 والتيسير 93 كذلك وفي البحر 3/ 157 الى الجمهور وفي الجامع 5/ 4 الى النبي الكريم وفي معاني القرآن 1/ 252 والطبري 7/ 520 و 523 وحجة ابن خالويه بلا نسبة. (4) . في معاني القرآن 1/ 252 الى أبي عمران ابراهيم بن يزيد النخعي الكوفي وفي السبعة 226 والكشف 1/ 375 والتيسير 92 إلى حمزة وفي الجامع 5/ 2 والبحر 3/ 157 إلى ابراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة وفي الطبري 7/ 519 وحجة ابن خالويه 92 بلا نسبة.

وقال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ (2) أي: «مع أموالكم» إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [الآية 2] يقول: «أكلها كان حوبا كبيرا» . قال: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [الآية 3] لأنه من «أقسط» «يقسط» . و «الإقساط» : العدل. واما «قسط» فإنّه «جار» قال تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) ف «أقسط» : عدل و «قسط» : جار. قال وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) [الحجرات] . وقال: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [الآية 3] يقول: «فانكحوا واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. أي: انكحوا ما ملكت أيمانكم. وأما ترك الصرف في مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [الآية 3] فإنه معدول عن «اثنين» و «ثلاث» و «أربع» ، كما أن «عمر» معدول عن «عامر» فلم يصرف. وقال تعالى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فاطر/ 1] بالنصب. وقال أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى [سبأ/ 46] فهو معدول كذلك، ولو سمّيت به صرفت، لأنه إذا كان اسما فليس في معنى «اثنين» و «ثلاثة» و «أربعة» . كما قال «نزال» حينما كان في معنى «انزلوا» وإذا سميت به رفعته. قال الشاعر «1» [من الوافر وهو الشاهد الثاني والستون بعد المائة] : أحمّ الله ذلك من لقاء ... أحاد أساد في شهر حلال «2» وقال «3» [من الطويل وهو الشاهد الثالث والستون بعد المائة] : ولكنّما أهلي بواد أنيسه ... ذئاب «4» تبغّى الناس مثنى وموحدا «5» وقال تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ

_ (1) . هو عمرو ذو الكلب الكاهلي وكان جار الهذيل ديوان الهذليين 3/ 117 واللسان «حمم» وفي مجاز القرآن 1/ 115 إلى صخر الغي الهذلي. [.....] (2) . في ديوان الهذليين ومجاز القرآن وشرح المفصّل لابن يعيش 1/ 62 وهامش المخصّص 17/ 124 صدره: منت لك ان تلاقيني المنايا وفي اللسان «حمم» وديوان الهذليين ب «الشهر الحلال» . (3) . هو ساعدة بن جوية الهذلي ديوان الهذليين 1/ 237 والكتاب وتحصيل عين الذهب 2/ 15 والاقتضاب 467، (4) . في الديوان واللسان «سباع» . (5) . في الكتاب والتحصيل وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 62 و 8/ 57 وأدب الكاتب 458 والاقتضاب وشرح ابن الناظم 262 وشرح شواهد ابن الناظم والمقاصد النحوية والجامع والمرتجل 81 ب «موحد» مرفوعة.

[الآية 3] يقول: «لينكح كلّ واحد منكم كلّ واحدة من هذه العدّة» كما قال تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور/ 4] يقول: «فاجلدوا كلّ واحد منهم» . وقال: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [الآية 4] وواحد «الصّدقات» «1» صدقة وبنو تميم تقول: «صدقة» «2» ساكنة الدال «3» مضمومة الصاد. وقال تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً [الآية 4] فقد يجري الواحد مجرى الجماعة لأنه إنّما أراد «الهوى» و «الهوى» يكون جماعة. قال الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد الرابع والستون بعد المائة] : بها جيف الحسرى أمّا عظامها ... فبيض وأمّا جلدها فصليب «5» وأما «هنيء مريء» «6» فتقول: «هنؤ هذا الطعام ومرؤ» و «هنيء ومريء» ، كما تقول: «فقه» و «فقه» يكسرون القاف ويضمونها. وتقول: «هنأني» و «هنئته» و «استمرأته» «7» . وقال تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [الآية 6] وقال: آنَسْتُمْ ممدودة. تقول: «آنست منه رشدا وخيرا» وآنَسْتُ ناراً [طه/ 10 والنمل/ 7] مثلها ممدودة وتقول: «أنست بالرّجل» «أنسا» . ويقال «أنسا» . وقال تعالى: إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا [الآية 6] يقول لا تأكلوها مبادرة أن يشبّوا. وقال تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ [الآية 7] إلى قوله في الآية نفسها نَصِيباً مَفْرُوضاً فانتصابه كانتصاب كِتاباً مُؤَجَّلًا [آل عمران/ 145] .

_ (1) . في البحر 3/ 166 أن الجمهور على القراءة بفتح الصاد وضم الدال. وفي الكشاف 1/ 469 بلا نسبة. (2) . في الشواذ 24 أنّ أبا السمال وقتادة قرءا بضم الصاد وسكون الدال واقتصر في الجامع 5/ 24 على قتادة وزاد في البحر 3/ 166 قوله «وغيره» وفي الكشاف 1/ 469 بلا نسبة. (3) . نقله في اعراب القرآن 1/ 205. (4) . هو علقمة بن عبدة. ديوانه 40 والكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 107 والاختيارين 652. (5) . في شرح أبيات الفارقي 4/ 274 ب «القتلى» بدل «الحسرى» وفي الاختيارين «به» بدل «بها» . (6) . الكلام على تتمة الآية في قوله تعالى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً. (7) . في الصحاح «مرأ» : نقل هذا مع اختلاف يسير.

وقال تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ [الآية 8] ثم قال: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ لأن معناه المال والميراث فذكّر على ذلك المعنى. وقال تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً [الآية 9] لأنه يريد «وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية يخافون عليهم» أي: فلا يفعلنّ ذلك حتى لا يفعله بهم غيرهم «فليخشوا» أي «فليخشوا هذا» أي: فليتّقوا. ثم عاد أيضا فقال: «فليتّقوا الله» . وقال تعالى: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) فالياء تفتح «1» وتضم «2» ها هنا وكل صواب. وقوله فِي بُطُونِهِمْ [الآية 10] توكيد. وقال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [الآية 11] . فالمثل مرفوع على الابتداء وإنما هو تفسير الوصية كما قال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) [المائدة] فسر الوعد يقول: «هكذا وعدهم» أي: قال «لهم مغفرة» . قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الخامس والستون بعد المائة] : عشيّة ما ودّ ابن عرّاء أمّه ... لها من سوانا إذ دعا أبوان في قوله تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً [الآية 11] ترك الكلام الأول وقيل: «إذا كان المتروكات نساء» نصب وكذلك قوله: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً [الآية 11] . وقال تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [الآية 11] فهذه الهاء التي في «أبويه» ضمير الميت لأنه لما قال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [الآية 11] كان المعنى: يوصي الله الميت قبل

_ (1) . في الطبري 8/ 29 هي قراءة عامة قراء المدينة والعراق وفي السبعة 227 الى ابن كثير ونافع وابي عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية وفي الكشف 1/ 378 والتيسير 94 الى غير أبي بكر وابن عامر وزاد عليهما في الجامع 5/ 54 عاصما وأبا حيوة وفي البحر 3/ 179 الى الجمهور وفي حجة ابن خالويه 95 بلا نسبة وذكر انها لغة وفي الكشاف 1/ 479 والإملاء 1/ 169 كذلك. (2) . في الطبري 8/ 29 الى بعض المكيين وبعض الكوفيين وفي السبعة 227 الى ابن عاصم وفي رواية الى عاصم وفي الكشف 1/ 378 والتيسير والبحر 3/ 179 الى أبي بكر وابن عامر وأبدل في الجامع 5/ 53 عاصما بأبي بكر في رواية ابن عباس كذا وفي الكشاف 1/ 479 والإملاء 1/ 169 وفي حجة ابن خالويه 95 بلا نسبة وذكر في الأخير انها لغة.

موته بأنّ عليه لأبويه كذا ولولده كذا. أي: فلا يأخذنّ إلّا ماله. وقال: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ [الآية 11] ، فيذكرون أن الإخوة اثنان ومثله «إنّا فعلنا» وأنتما اثنان، وقد يشبه ما كان من شيئين وليس مثله، ولكن الاثنين قد جعلا جماعة [في] قول الله عز وجل: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم/ 4] . وقال تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة/ 38] ، وذلك ان في كلام العرب: أن كل شيئين من شيئين فهما جماعة وقد يكون اثنين في الشعر قال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد السادس والستون بعد المائة] : بما في فؤادينا من الشوق والهوى ... فيجبر منهاض الفؤاد المشعّف «2» وقال الفرزدق «3» [من الطويل وهو الشاهد السابع والستون بعد المائة] : هما نفثا في فيّ من فمويهما ... على النّابح العاوي أشدّ لجام «4» وقد يجعل هذا في الشعر واحدا. قال «5» [من الرجز وهو الشاهد الثامن والستون بعد المائة] : لا ننكر القتل وقد سبينا ... في حلقكم عظم وقد شجينا «6» وقال الآخر «7» [من الوافر وهو الشاهد التاسع والستون بعد المائة] :

_ (1) . الشاعر هو الفرزدق همام بن غالب. الديوان 2/ 554 والكتاب وتحصيل عين الذهب 2/ 202. [.....] (2) . عن الكتاب وفي الأصل المسقف وفي التحصيل المعذب. (3) . هو همام بن غالب. وقد مرت ترجمته والبيت في ديوانه 2/ 771 والكتاب وتحصيل عين الذهب 2/ 83 و 202 والخزانة 2/ 269 و 3/ 346. (4) . في الديوان تفلا بدل نفثا ولجامي بالياء وفي الكتاب والخزانة ب «رجام» بدل لجام والبيت في الإنصاف 1/ 191 وفي الصحاح فمو ب «رجام» ايضا مع نقله لهذه المعاني. (5) . هو المسيب بن زيد مناة الغنوي كما في تحصيل عين الذهب 1/ 107 وهو الغنوي كذا في مجاز القرآن 2/ 195 وهو طفيل الغنوي في شرح الأبيات للفارقي 275، وليس في ديوان طفيل. (6) . المصراع الأول في مجاز القرآن 2/ 195 ب «ان تقتلوا اليوم فقد شرينا» . وجاء المصراع الثاني في 1/ 79 و 2/ 44 وورد المصراع الثاني في البيان 1/ 52 و 2/ 447. (7) . لم تفد المراجع شيئا في الشاعر. والشاهد في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 108 ومعاني القرآن 1/ 307 و 2/ 102 والأمالي الشجرية 1/ 311 و 2/ 38 و 343 وهو في معاني القرآن والأمالي بلفظ «نصف» بدل «بعض» .

كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ... فإنّ زمانكم زمن خميص ونظير هذا قوله: «تسع مائة» وانما هو «تسع مئات» أو «مئين» فجعله واحدا، وذلك ان ما بين العشرة إلى الثلاثة يكون جماعة نحو: «ثلاثة رجال» و «عشرة رجال» ثم جعلوه في «المئين» واحدا. وقال تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها [الآية 11] «1» فقد ذكر الرجل حين قال في الآية نفسها: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ وقرأ بعضهم يُوصِي «2» وكلّ حسن. ونظير يُوصِي بالياء قوله تعالى: تُوصُونَ [الآية 12] ويُوصِينَ [الآية 12] حين ذكرهن، واحتج الذي قرأ يُوصِي بالياء بنصبه وصيّة في قوله تعالى: غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ [الآية 12] ونصب فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [الآية 11] كما نصب كِتاباً مُؤَجَّلًا [آل عمران/ 145] . وقرئ: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [الآية 12] «3» ولو قرئت (يورث) «4» كان جيدا. وتنصب كَلالَةً وقد ذكر عن الحسن «5» ، فإن شئت نصبت كلالة على خبر كانَ وجعلت يُورَثُ من صفة الرجل، وإن شئت جعلت كانَ تستغني عن الخبر نحو «وقع» ، وجعلت نصب كَلالَةً على الحال أي: «يورث كلالة» كما تقول: «يضرب قائما» «6» ،

_ (1) . في المصحف يوصي بكسر الصاد والقراءة بالألف المقصورة بالتاء للمجهول في الطبري 8/ 47 الى بعض أهل مكة والشام والكوفة وفي السبعة 228 الى ابن عامر وابن كثير وعاصم وفي الكشف 1/ 380 الى ابن كثير وابن عامر وابي بكر وكذلك في التيسير 94 وفي الجامع 5/ 73 الى ابن كثير وابي عمرو وابن عامر وعاصم في اختلاف عنه. وفي البحر 3/ 186 الى الابنين وابي بكر وفي حجة ابن خالويه 96 بلا نسبة. (2) . في الطبري 8/ 47 و 48 قراءة أهل المدينة والعراق وفي السبعة 228 الى نافع وابي عمرو وحمزة والكسائي وعاصم وفي الكشف 1/ 380 الى غير من ذكرهم في القراءة الأولى وكذلك فعل في التيسير 94 والبحر 3/ 186 وفي الجامع 5/ 73 انها اختيار ابي حاتم وابي عبيدة وفي حجة ابن خالويه 96 بلا نسبة. (3) . في الطبري 8/ 53 قراءة عامة قراء أهل الإسلام. وفي البحر 3/ 189 الى الجمهور وفي الجامع 5/ 77 بلا نسبة وفي المشكل 1/ 192 والكشاف 1/ 485 والبيان 1/ 245 والإملاء 1/ 170 بلا نسبة. (4) . في الطبري 8/ 53 الى بعضهم وفي البحر 3/ 189 الى الحسن وزاد في الجامع 5/ 77 أيوب وفي الشواذ 25 قصرها على الأعمش. (5) . هو الحسن البصري. وقد مرت ترجمته قبل وانظر الهامش السابق. (6) . نقل هذه الآراء في اعراب القرآن 1/ 210 مع تقديم وتأخير فيها.

قال الشاعر «1» في «كان» التي لا خبر لها [من الطويل وهو الشاهد السبعون بعد المائة] : فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب «2» في قوله تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا [الآية 12] يريد من المذكورين. ويجوز ان نقول للرجل إذا قلت: «زيد أو عمر منطلق» : «هذان رجلا سوء» أي: اللذان ذكرت. قال تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [الآية 22] لأن معناه: فإنكم تؤخذون به. فلذلك قال: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ، أي: فليس عليكم جناح «3» . ومثل هذا في كلام العرب كثير، تقول: «لا نصنع ما صنعت» «ولا نأكل ما أكلت» . وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ [الآية 25] على «ومن لم يجد طولا أن ينكح» يقول: «إلى أن ينكح» : لأن حرف الجر يضمر مع «أن» . وقال تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [الآية 25] برفع بَعْضُكُمْ على الابتداء. وقال جل شأنه: بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ [الآية 25] : لأن «الأهل» جماعة ولكنه قد يجمع فيقال: «أهلون» ، كما تقول: «قوم» و «أقوام» فتجمع الجماعة وقال كما في قوله تعالى: شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا [الفتح/ 11] ، بالجمع وقال: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم/ 6] فهذه الياء ياء جماعة فلذلك سكّنت، من هنا نصبها وجرّها بإسكان الياء، وذهبت النون للاضافة. وقال تعالى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [الآية 25] أي: «والصبر خير لكم» . وقال تعالى يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ [الآية 26] أي: «وليهديكم» ومعناه: يريد كذا وكذا ليبين لكم. وإن

_ (1) . هو مقاس مسهر بن النعمان العائذي الكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 21 وشرح ابن يعيش 7/ 98. (2) . البيت في المصادر السابقة وهو في شرح الأبيات للفارقي 235 بلا نسبة. [.....] (3) . نقله في البحر 3/ 208.

شئت أوصلت الفعل باللام الى «أن» المضمرة بعد اللام نحو: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) [يوسف] وكما قال وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى/ 15] ، فكسر اللام أي: أمرت من أجل ذلك. وقال تعالى: وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً (31) لأنها من «أدخل» «يدخل» : والموضع من هذا مضموم الميم لأنه مشبه ببنات الأربعة «دحرج» ونحوها. ألا ترى أنّك تقول: «هذا مدحرجنا» ، فالميم، إذا جاوز الفعل الثلاثة، مضمومة. قال أميّة بن أبي الصلت «1» [من البسيط وهو الشاهد الحادي والسبعون بعد المائة] : الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبّحنا ربّي ومسّانا «2» لأنه من «أمسى» و «أصبح» . قال تعالى رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء/ 80] . وتكون الميم مفتوحة إن شئت إذا جعلته من «دخل» و «خرج» . وقال سبحانه إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) [الدخان] ، إذا جعلته من «قام» «يقوم» ، فإن جعلته من «أقام» «يقيم» قلت: «مقام أمين» . وحذفت الياء كما تحذف من رؤوس الآي نحو: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) [ص] يريد «عذابي» . وأما قوله تعالى فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) [الواقعة] ، فإنما قرئ بكسر الظاء في (فظلتم) ، على اعتبار أن أصله «ظللتم» . فلما ذهب أحد الحرفين استثقالا حولت حركته إلى الظاء. قال أوس بن مغراء «3» [من البسيط وهو الشاهد الرابع والسبعون بعد المائة] : مسنا السّماء فنلناها وطالهم ... حتّى رأوا أحدا يهوي وثهلانا «4» لأنها من «مسست» والقراءة المثبتة في المصحف الشريف هي: فَظَلْتُمْ بترك الظاء على فتحتها وحذف إحدى اللامين. وهذا الحذف ليس بمطّرد،

_ (1) . الشاعر الجاهلي المعروف. انظر ترجمته وأخباره في الأغاني 3/ 186 و 16/ 71. وطبقات الشعراء 1/ 262 والشعر والشعراء 1/ 459. (2) . الشاهد في الديوان 516 والكتاب وتحصيل عين الذهب 2/ 250 ومعاني القرآن 1/ 264 والخزانة 1/ 120 وشرح المفصل لابن يعيش 6/ 50 و 53 «صدره» . (3) . هو أوس بن مغراء. طبقات الشعراء 2/ 572 والشعر والشعراء 2/ 687. (4) . البيت في الصحاح «مس» والتهذيب «مس» 2/ 325 واللسان «مسس» وفيه «وطاء لهم» .

وإنما حذف من هذه الحروف التي ذكرت لك خاصة ولا يحذف إلّا في موضع، لا تحرك فيه لام الفعل، فأمّا الموضع الذي تحرك فيه لام الفعل فلا حذف فيه. وقال تعالى: شِقاقَ بَيْنِهِما [الآية 35] فأضاف إلى البين لأنه قد يكون اسما كما في قوله تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام/ 94] «1» بالضم. ولو قرئ (شقاقا بينهما) في الكلام فجعل البين ظرفا كان جائزا حسنا. ولو قرأت (شقاق بينهما) تريد «ما» وتحذفها جاز، كما تقرأ، في النسخة الموحّدة: تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ تريد «ما» التي تكون في معنى شيء. وقال تعالى تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران/ 64] . وتقول «بينهما بون بعيد» تجعلها بالواو وذلك بالياء. ويقال: «بينهما بين بعيد» بالياء. وقال تعالى: وَالْجارِ الْجُنُبِ [الآية 36] «2» وقرأ بعضهم (الجنب) «3» وقال الراجز [وهو الشاهد الخامس والسبعون بعد المائة] : الناس جنب والأمير جنب «4» يريد ب «جنب» : الناحية «5» . وهذا هو المتنحي عن القرابة فلذلك قال «جنب» و «الجنب» أيضا: المجانب للقرابة ويقال: «الجانب» أيضا «6» . وأما وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [الآية 36] فمعناه: «هو الذي بجنبك» ، كما تقول «فلان بجنبي» و «إلى جنبي» . قال تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) أي: لا تكتمه الجوارح أو

_ (1) . وهي في معاني القرآن 1/ 345 قراءة حمزة ومجاهد وفي السبعة 263 أهمل مجاهدا وزاد أبا عمرو وابن عامر وابن كثير وعاصما في رواية وفي الكشف 1/ 440 الى غير نافع والكسائي وزاد في التيسير 105 استثناء حفص وزاد في الجامع 7/ 43 استثناء ابن مسعود وفي البحر 4/ 182 إلى الجمهور وفي الطبري 1/ 549 الى قراء مكة والعراقيين وفي حجة ابن خالويه 120 بلا نسبة. (2) . وهي في السبعة 233 الى القراء كلهم إلا عاصما وفي الجامع 5/ 183 ان ابن عباس تأول بها. (3) . في السبعة 233 والشواذ 26 الى عاصم وفي البحر 3/ 245 اليه في رواية المفضل عنه وفي الجامع 5/ 183 الى المفضل والأعمش. (4) . المصراع في الصحاح واللسان «جنب» مرويا عن الأخفش وفي التهذيب «جنب» 11/ 122 مرويا عن الليث. (5) . نقله في الصحاح واللسان «كما سبق» . والجامع 5/ 192. (6) . نقله في اعراب القرآن 1/ 220 و 221.

يقول: «لا يخفى عليه وإن كتموه» . وقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الآية 47] إلى قوله من الآية نفسها: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أي: من قبل يوم القيامة. قال تعالى: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الآية 39] فان شئت جعلت ماذا بمنزلتها وحدها وان شئت جعلت ذا بمنزلة «الذي» . وقوله تعالى: وَلا جُنُباً [الآية 43] في اللفظ واحد وهو للجمع كذلك، وكذلك هو للرجال والنساء، كما قال جل شأنه: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) [التحريم] فجعل «الظهير» واحدا. والعرب تقول: «هم لي صديق» . وقال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) [ق] وهما قعيدان. وقال نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) [الشعراء] وقال: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء/ 77] لأن «فعول» و «فعيل» مما يجعل واحدا للاثنين والجمع. وقال تعالى: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [الآية 42] قرأ بعضهم (تسوّى) «1» وكل حسن. وقال تعالى: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ [الآية 43] على قوله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [الآية 43] فقوله تعالى: وَأَنْتُمْ سُكارى في موضع نصب على الحال، ووَ لا جُنُباً على العطف كأنه قال: «ولا تقربوها جنبا إلّا عابري سبيل» كما تقول: «لا تأتي إلّا راكبا» . وقال تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [الآية 46] كأنّه يقول «منهم قوم» فأضمر «القوم» . قال النابغة الذبياني «2» [من الوافر وهو الشاهد السادس والسبعون بعد المائة] : كأنّك من جمال بني أقيش ... يقعقع بين رجليه بشنّ «3»

_ (1) . في الطبري 8/ 372 هي قراءة عامة قراء أهل الكوفة وفي السبعة 234 الى حمزة والكسائي وكذلك في الكشف 1/ 390 والتيسير 96 والجامع 5/ 198 والبحر 3/ 253. اما قراءة ضم التاء فهي في السبعة 234 والبحر 3/ 253 الى ابن كثير وابي عمرو وعاصم وفي الكشف 1/ 390 والتيسير 96 الى غير نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وفي الجامع 5/ 198 الى غير من قرأ بغيرها وفي الطبري 8/ 372 الى «آخرون» يقصد غير من أخذ بالسابقة وفي معاني القرآن 1/ 369 وحجة ابن خالويه 99 بلا نسبة. (2) . هو الشاعر الجاهلي زياد بن معاوية وقد مرت ترجمته قبل. (3) . ديوان النابغة 198 والكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 375. [.....]

أي: كأنّك جمل منها. وكما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [الآية 159] أي: وإن منهم واحد إلّا ليؤمننّ به. والعرب تقول: «رأيت الذي أمس» أي: رأيت الذي جاءك أمس» أو «تكلّم أمس» . وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا [الآية 46] وقوله تعالى: راعِنا أي: «راعنا سمعك» . في معنى: أرعنا. وقوله تعالى: غَيْرَ مُسْمَعٍ، أي: لا سمعت. وأما (غير مسمع) أي: لا يسمع منك فأنت غير مسمع. وقال تعالى: وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [الآية 46] . وإنّما قال: وَانْظُرْنا لأنّها من «نظرته» أي: «انتظرته» . وقال سبحانه انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد/ 13] أي: انتظروا. وأما قوله تعالى وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ [النبأ/ 40] فإنما هي: إلى ما قدّمت يداه. قال الشاعر [من الخفيف وهو الشاهد السابع والسبعون بعد المائة] : ظاهرات الجمال والحسن ينظر ... ن كما تنظر الأراك الظّباء وان شئت كان نْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ على الاستفهام مثل قولك «ينظر خيرا قدّمت يداه أم شرّا» . قال تعالى: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [الآية 56] فإن قال قائل: «أليس إنّما تعذّب الجلود التي عصت، فكيف يقول غَيْرَها» ؟ قلت: «إنّ العرب قد تقول: «أصوغ خاتما غير ذا» فيكسره ثم يصوغه صياغة أخرى. فهو الأول إلّا أن الصياغة تغيرت. وقال تعالى وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) فهذا مثل «دهين» و «صريع» لأنك تقول: «سعرت» ف «هي مسعورة» وقال جلّ شأنه وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) [التكوير] «1» . وقال تعالى: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) أي: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ [الآية 65] وحتى وَيُسَلِّمُوا هذا كله معطوف على ما بعد حتى. وقرئ: ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [الآية 66] برفع قَلِيلٌ لأن الفعل جعل لهم، وجعلوا بدلا من الأسماء المضمرة في الفعل.

_ (1) . وقد نقل هذا كله في الصحاح «سعر» .

قال تعالى: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) فنصب رَفِيقاً ليس على «نعم الرّجل» لأن «نعم» لا تقع الا على اسم فيه الالف واللام أو نكرة، ولكن هذا على مثل قولك: «كرم زيد رجلا» تنصبه على الحال «1» . و «الرفيق» واحد في معنى جماعة مثل «هم لي صديق» . وقال تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [الآية 72] فاللام الأولى مفتوحة لأنها للتوكيد نحو: «إنّ في الدّار لزيدا» واللام الثانية للقسم كأنه قال: «وإنّ منكم من والله ليبطئنّ» . وقال تعالى: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ [الآية 74] وقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ [البقرة/ 207] أي: يبيعها. فقد تقع «شريت» للبيع والشراء. وقال تعالى: مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [الآية 75] فجررت «الظالم» لأنه صفة مقدمة ما قبلها مجرور وهي لشيء من سبب الأول، وإذا كانت كذلك جرّت على الأول حتى تصير كأنها له. قال تعالى: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا [الآية 79] فجعل الخبر بالفاء لأن «ما» بمنزلة «من» وأدخلت «من» «2» على السيئة لأن «ما» نفي و «من» تحسن في النفي مثل قولك: «ما جاءني من أحد» . قال تعالى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ [الآية 81] أي: ويقولون: «أمرنا طاعة» «3» . وان شئت نصبت الطاعة على «نطيع طاعة» «4» . وقال تعالى بَيَّتَ فذكّر فعل الطائفة لأنهم في المعنى رجال وقد أضافها إلى مذكرين. وقال: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ [الأعراف/ 87] . وقال تعالى: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) على وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ [الآية 83] إِلَّا قَلِيلًا.

_ (1) . نقله في المشكل 1/ 202 واعراب القرآن 1/ 232 والجامع 5/ 272. (2) . نقله في اعراب القرآن 1/ 235 والجامع 5/ 285. (3) . الرأي في معاني القرآن 1/ 278، ونقله للاخفش في اعراب القرآن 1/ 236. (4) . في معاني القرآن 1/ 278 والجامع كما مر ولم يشر إلى كونه قراءة.

وقال تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [الآية 88] بالنصب على الحال كما تقول: «مالك قائما» «1» أي: «مالك في حال القيام» . وقال تعالى في قراءة من قرأ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [الآية 90] أو حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ف (حصرة) اسم نصبته على الحال «2» وحَصِرَتْ «فعلت» وبها نقرأ «3» . وقال تعالى: فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [الآية 92] . وقال تعالى: فَصِيامُ شَهْرَيْنِ [الآية 92] أي: فعليه ذلك. وقال تعالى: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [الآية 92] اي: فعليكم ذلك إلّا أن يصّدّقوا. وقال تعالى: إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [الآية 94] «4» وقرأ بعضهم (فتثبّتوا) «5» ، وكلّ صواب لأنك تقول: «تبيّن حال القوم» و «تثبّت» . و «لا تقدم حتّى تتبيّن» و «حتّى تتثبّت» . وقال تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [الآية 95] مرفوعة لأنك جعلته من صفة

_ (1) . نقله في اعراب القرآن 1/ 239 والجامع 5/ 307 وورد الرأي بتعليل كوفي وبالمثال المذكور في معاني القرآن 1/ 281. (2) . في معاني القرآن 1/ 282 هي قراءة الحسن وفي الطبري 9/ 22 والجامع 5/ 309 كذلك وزاد في الشواذ 27 و 28 يعقوب وزاد في البحر 3/ 317 قتادة وكذا قال المهدوي عن عاصم في رواية حفص. (3) . وهي في الطبري 9/ 22 قراءة القراء في جميع الأمصار وعليها الإجماع وفي البحر 3/ 317 الى الجمهور وفي حجة ابن خالويه 100 بلا نسبة ولا إشارة الى الأخرى وفي معاني القرآن كالسابق أشار إليها ولم يقل بها قراءة. ونقله في البيان 1/ 263، ونقله في المغني 2/ 430 والصحاح «حصر» . (4) . هي في الطبري 9/ 81 قراءة عامة قراء المكيين والمدنيين وبعض الكوفيين والبصريين وفي السبعة 236 الى ابن كثير ونافع وابي عمرو وابن عامر وعاصم وفي الكشف 1/ 395 الى ابي عبد الرحمن والحسن وابي جعفر وشيبة والأعرج وقتادة بن جبير وهي اختيار ابي حاتم وابي عبيد وفي الجامع 5/ 327 اقتصر على ذكر الاختيار ونسبها الى «الجماعة» وفي البحر 3/ 328 الى غير حمزة والكسائي وهو ما قاله في الكشف 1/ 394 ايضا وفي معاني القرآن 1/ 283 وحجة ابن خالويه بلا نسبة. (5) . في معاني القرآن 1/ 283 قراءة عبد الله بن مسعود وأصحابه وفي الطبري 9/ 81 الى معظم القراء الكوفيين وفي السبعة 236 والتيسير 97 والبحر 3/ 328 الى حمزة والكسائي واغفل منهما في الجامع 5/ 327 الكسائي وزاد عليهما في الكشف 1/ 394 انها قراءة ابن مسعود وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى وفي حجة ابن خالويه 101 بلا نسبة.

القاعدين «1» . وإن جررته فعلى «المؤمنين» وإن شئت نصبته إذا أخرجته من أول الكلام فجعلته استثناء وبها نقرأ «2» . وبلغنا انها أنزلت من بعد قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ ولم تنزل معها، وانما هي استثناء غنى بها قوما لم يقدروا على الخروج ثم قال وَالْمُجاهِدُونَ [الآية 95] يعطفه على القاعدين لأن المعنى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ وَالْمُجاهِدُونَ. وقال سبحانه وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ [الآية 96] يقول فعل ذلك درجات منه. وقال: أَجْراً عَظِيماً لأنه قال: «فضّلهم» فقد أخبر انه آجرهم فقال على ذلك المعنى كقولك: «أما والله لأضربنّك إيجاعا شديدا» لأنّ معناه: لأوجعنّك. قال تعالى: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ لأنه استثناهم منهم كما تقول: «أولئك أصحابك إلّا زيدا» و: «كلّهم أصحابك إلّا زيدا» . وهو خارج من أوّل الكلام. وقال تعالى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ [الآية 104] أي: توجعون. تقول: «ألم» «يألم» «ألما» . وقال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ [الآية 114] يقول: «إلّا في نجوى من أمر بصدقة» . وقال تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ [الآية 109] فردّ التنبيه مرتين كما قال ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ [محمد/ 38] «3» أراد التوكيد. وقال تعالى

_ (1) . نقله في اعراب القرآن 1/ 243 والجامع 5/ 343. (2) . الرفع قراءة في الطبري 9/ 85 الى عامة قراء أهل الكوفة والبصرة وفي السبعة 237 الى ابن كثير في رواية والى ابي عمرو وعاصم وحمزة وكذلك في البحر 3/ 330 وفي الجامع 5/ 343 الى أهل الكوفة وابي عمرو وفي التيسير 97 الى غير نافع وابن عامر والكسائي وفي الكشف 1/ 396 الى غير من أخذ بالآخريين وفي حجة الفارسي 1/ 116 وحجة ابن خالويه 101 بلا نسبة. أما قراءة الجر ففي الجامع 5/ 343 الى أبي حياة وفي البحر 3/ 330 زاد الأعمش. أما قراءة النصب ففي الطبري 9/ 85 الى عامة قراء أهل المدينة ومكة والشام وفي السبعة 237 الى نافع والكسائي وابن عامر وفي رواية الى ابن كثير وفي البحر 3/ 330 أهمل ابن كثير وزاد أنها رويت عن عاصم. وفي الكشف 1/ 396 أضاف أنها قراءة النبي الكريم وزيد بن ثابت وأبي جعفر وشيبة وأبي الزناد وشبل وابن الهادي وهي اختيار أبي عبيد والطبري وأبي طاهر. وفي التيسير 97 كما في السبعة مع إغفال ابن كثير وفي الجامع 5/ 344 الى اهل الحرمين وفي حجة ابن خالويه 101 وحجة الفارسي 116 بلا نسبة. (3) . نقله في اعراب القرآن 1/ 251 والجامع 5/ 408.

وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [الآية 131] أي بأن اتّقوا الله. وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الآية 134] فموضع «كان» جزم والجواب الفاء وارتفعت «يريد» لأنه ليس فيها حرف عطف. كما قال مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ [هود/ 15] . في قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [الشورى/ 20] جزم الجواب، لأن الأول في موضع جزم، ولكنه فعل واجب فلا ينجزم، و «يريد» في موضع نصب بخبر «كان» . وفي قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً [الآية 128] جعل الاسم يلي «إن» لأنّها أشدّ حروف الجزاء تمكنا. وإنّما حسن هذا فيها إذا لم يكن لفظ ما وقعت عليه جزما نحو قوله «1» [من البسيط وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد المائة] : عاود هراة وإن معمورها خربا وقال تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [الآية 135] لأنّ «أو» ها هنا في معنى الواو «2» ، أو يكون جمعهما في قوله بِهِما لأنهما قد ذكرا «3» نحو قوله عز وجل: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا [الآية 12] . أو يكون أضمر (من) كأنه «إن يكن من تخاصم غنيّا أو فقيرا» يريد «غنيين أو فقيرين» يجعل «من» في ذلك المعنى ويخرج غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً على لفظ «من» . وقال تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا [الآية 135] لأنها من «لوى» «يلوي» «4» . وقرأ بعضهم

_ (1) . في الأصل: قولك. والقائل هروي معجم شواهد العربية 2/ 575 ويراجع المقتضب 4/ 256 واشعار الهذليين في قول عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي: لكنه شاقه ان قيل ذا رجب ... يا ليت عدة حول كله رجب [.....] (2) . نقله في المشكل 1/ 210 واعراب القرآن 1/ 252 والجامع 5/ 413 والبحر 3/ 370 والبيان 1/ 269. (3) . نقله في الإملاء 1/ 197. (4) . في الطبري 9/ 310 هي قراءة عامة قراء الأمصار سوى الكوفة وفي السبعة 239 الى ابن كثير ونافع وابي عمرو وعاصم والكسائي وفي الكشف 1/ 399 والتيسير 97 الى غير حمزة وابن عامر وفي معاني القرآن 1/ 291 وحجة ابن خالويه 102 والجامع 5/ 413 بلا نسبة.

(وإن تلوا) «1» فان كانت لغة فهو لاجتماع الواوين، ولا أراها إلّا لحنا على معنى «الولاية» وليس ل «الولاية» معنى ها هنا الا في قوله «وإن تلوا عليهم» فطرح «عليهم» فهو جائز. وقال تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [الآية 148] لأنه حين قال: لا يُحِبُّ اللَّهُ [الآية 148] قد أخبر أنه لا يحل. ثم قال إِلَّا مَنْ ظُلِمَ «2» إنه يحل له أن يجهر بالسوء لمن ظلمه. وقرأ بعضهم (ظلم) «3» على قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ [الآية 147] [فيكون] (إلّا من ظلم) على معنى «إلّا بعذاب من ظلم» . وقال تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [الآية 155] ف «ما» زائدة كأنه قال «فبنقضهم» . وقال تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ [الآية 156] وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ [الآية 157] كله على الأول. وقال تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ [الآية 164] فانتصب لفظ «رسلا» لأن الفعل قد سقط بشيء من سببه وما قبله منصوب بالفعل. وقال تعالى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ [الآية 170] فنصب خَيْراً لأنه حين قال لهم فَآمِنُوا أمرهم بما هو خير لهم فكأنه قال: «اعملوا خيرا لكم» وكذلك انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [الآية 171] فهذا إنما يكون في الأمر والنهي خاصة ولا يكون في الخبر، لأنّ الأمر والنهي لا يضمر فيهما وكأنّك أخرجته من شيء الى شيء. قال الشاعر «4» : ففواعديه سرحتي مالك

_ (1) . في تأويل مشكل القرآن 62 الى يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة. وفي الكشف 1/ 399 والتيسير 97 الى حمزة وابن عامر وكذلك في السبعة 239 واستبدل في الجامع 5/ 414 بحمزة الكوفيين وفي البحر 3/ 371 الى جماعة وابن عامر وحمزة وفي الطبري 9/ 310 الى جماعة من قراء أهل الكوفة وفي معاني القرآن 1/ 291 وحجة ابن خالويه 102. (2) . هي في الطبري 9/ 343 الى عامة قراء الأمصار وفي الجامع 6/ 1 والبحر 3/ 382 الى الجمهور. (3) . في الطبري 9/ 343 الى بعضهم وقال ابن زيد رواها عن أبيه وفي الشواذ 29 و 30 الى الضحاك بن مزاحم وفي الجامع 6/ 1 الى زيد بن اسلم وابن أبي إسحاق وفي البحر 3/ 382 الى ابن عباس وابي عمرو وابن جبير وعطاء بن السائب والضحاك وزيد بن اسلم وابن ابي إسحاق ومسلم بن يسار والحسن وابن المسيب وقتادة وأبي 652. (4) . هو عمر بن أبي ربيعة المخزومي. ديوانه 349 والكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 143.

أو الرّبا بينهما أسهلا «1» كما تقول: «واعديه خيرا لك» وقد سمعت نصب هذا في الخبر. تقول العرب: «آتي البيت خيرا لي» و «أتركه خيرا لي» وهو على ما فسرت في الأمر والنهي. قال تعالى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ [الآية 176] مثل: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ [الآية 128] تفسيرهما سواء. وقال سبحانه وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) الكلام خلق من الله على غير الكلام منك، وبغير ما يكون منك. خلقه الله ثم أوصله الى موسى. وقال تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [الآية 25] أي: الله أعلم بإيمان بعضكم من بعض.

_ (1) . في الديوان ب «سورتي» و «أوذ» الذي «بدل» «سرحتي» و «او الربا» .

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"النساء"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النساء» «1» إن قيل عن قوله تعالى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [الآية الأولى] : إذا كانت حواء مخلوقة من آدم، ونحن مخلوقون منه أيضا، تكون نسبة حواء إلى آدم نسبة الولد: لأنها متفرعة منه، فتكون أختا لنا، لا أما. قلنا: ثمة قولان: الأول أن بعض المفسرين قالوا: «من» لبيان الجنس لا للتبعيض، معناه: وخلق من جنسها زوجها كما في قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة/ 128] . الثاني، وهو الذي عليه الجمهور، أنها للتبعيض، ولكنّ خلق حواء من آدم لم يكن بطريق التوليد كخلق الأولاد من الآباء، فلا يلزم منه ثبوت البنتيّة والأختية فيها. فإن قيل: لم قال تعالى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [الآية 2] واليتيم لا يعطى ماله حتى يبلغ اتفاقا؟ قلنا: المراد به إذا بلغوا وإنما سمّوا يتامى لقرب عهدهم بالبلوغ باعتبار ما كان، كما تسمى الناقة عشراء بعد الوضع، وقد يسمى البالغ يتيما باعتبار ما كان، كما يسمى الحي ميّتا والعنب خمرا باعتبار ما يكون، قال الله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزّمر] وقال إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف/ 36] ومنه قولهم للنبي (ص) بعد ما نبأه الله: يتيم أبي طالب. فإن قيل: أكل مال اليتيم حرام وحده ومع أموال الأوصياء، فلم ورد النهي مخصوصا عن أكله معها لقوله تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء/ 2] أي معها؟ قلنا: لأن أكل مال اليتيم مع الاستغناء عنه أقبح، فلذلك خصّ بالنهي ولأنهم كانوا يأكلونه مع الاستغناء عنه، فجاء النهي على ما وقع منهم. فإن قيل: لمّا قال تعالى مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [الآية 7] دخل فيه القليل والكثير، فما الحكمة في قوله سبحانه مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ [الآية 7] ؟ قلنا: إنما قال ذلك على جهة التأكيد والإعلام أن كل تركة ينبغي قسمتها، لئلا يتهاون بالقليل من التركات ويحتقر، فلا يقسم وينفرد به بعض الورثة. فإن قيل: لم قال تعالى وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ [الآية 11] مع أنه لو كان الولد بنتا فللأب الثلث؟ قلنا: الآية وردت لبيان الفرض دون التعصيب، وليس للأب مع البنت بالفرض إلا السدس. فإن قيل: كيف قطع على العاصي الخلود في النار بقوله سبحانه وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها [الآية 14] ؟ قلنا: أراد به من يعص الله بردّ أحكامه وجحودها وذلك كفر، والكافر يستحق الخلود في النار. فإن قيل لم قال تعالى: حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ [الآية 15] والتوفي والموت بمعنى واحد، فصار كأنه قال: حتى يميتهن الموت؟ قلنا: معناه حتى يتوفاهنّ ملائكة الموت. الثاني معناه: حتى يأخذهنّ ملائكة الموت وتتوفّى أرواحهنّ. فإن قيل لم قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [الآية 17] ، ولم يقل إنما التوبة على العبد، مع أن التوبة واجبة على العبد؟ قلنا: معناه إنما قبول التوبة على الله بحذف المضاف. الثاني: أن معنى التوبة من الله رجوعه على العبد بالمغفرة والرحمة، لأن التوبة في اللغة الرجوع. فإن قيل لم قال تعالى: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [الآية 17] . ولو عمله بغير جهالة ثم تاب قبلت توبته؟

قلنا: معناه بجهالة بقدر قبح المعصية وسوء عاقبتها، لا بكونها معصية وذنبا، وكل عاص جاهل بذلك حال مباشرة المعصية معناه أنه مسلوب كمال العلم به بسبب غلبة الهوى وتزيين الشيطان. فإن قيل لم قال تعالى: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [الآية 17] مع أنهم لو تابوا بعد الذنب من بعيد لقبلت توبتهم؟ قلنا: ليس المراد بالقريب مقابل البعيد إذ حكمهما واحد، بل معناه قبل معاينة سلطان الموت، كذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما بقرينة قوله حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [الآية 18] . فإن قيل لم قال تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً [الآية 20] ، مع أن حرمة الأخذ ثابتة وإن لم يكن قد أعطاها المهر بل كان في ذمته أو في يده؟ قلنا: المراد بالإيتاء الضمان والالتزام كما في قوله تعالى: إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ [البقرة/ 233] أي ما غنمتم والتزمتم. فإن قيل: لم قال تعالى: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً [الآية 20] وأخذ مهر المرأة ظلم وليس ببهتان لأن البهتان الكذب؟ قلنا: ابن عباس وابن قتيبة قالا: المراد بالبهتان الظلم. وقال الزجاج المراد به الباطل، والمشهور في كتب اللغة أن البهتان أن يقول الإنسان على غيره ما لم يفعله. قالوا: فالمراد به أن الرجل ربما رمى امرأته بتهمة ليتوصل بذلك إلى أن يأخذ منها مهرها ويفارقها. وقيل المراد به إنكاره أنّ لها مهرا في ذمته. فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [الآية 22] فنهى عن الفعل المستقبل، وإلا ما قد سلف ماض، فكيف يصح استثناء الماضي من المستقبل؟ قلنا: قيل إن «إلّا» هنا بمعنى بعد كما في قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان/ 56] وقيل هو استثناء من محذوف تقديره: فإنكم تعذبون به إلا ما قد سلف. وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره: إنه كان فاحشة إلا ما قد سلف. فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّهُ

كانَ فاحِشَةً [الآية 22] بلفظ الماضي، مع أن نكاح منكوحة الأب فاحشة في الحال وفي الاستقبال إلى يوم القيامة. قلنا: كان تارة تستعمل للماضي المنقطع كقوله: كان زيد غنيا، وكان الخزف طينا، وتارة تستعمل للماضي المستمر المتصل للحال كقول أبي جندب الهذلي: وكنت إذا جاري دعا لمضوفة ... أشمّر حتّى ينصف الساق مئزري أي وإني الآن، لأنه إنما يتمدح بصفة ثابتة له في الحال، لا بصفة زائلة ذاهبة، والمضوفة بالفاء: الأمر الذي يشفق منه، والقاف تصحيف، ومنه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (33) - وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) . وما أشبه ذلك وما نحن فيه من هذا القبيل، وسيأتي الكلام في «كان» بعد هذا إن شاء الله في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) . فإن قيل: لم قال تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [الآية 23] قيد التحريم بكون الربيبة في حجر زوج أمها، والحرمة ثابتة مطلقا، وإن لم تكن في حجره؟ قلنا: أخرج ذلك مخرج العادة والغالب لا مخرج الشرط والقيد. ولهذا اكتفى في موضع الإحلال بنفي الدخول في قوله تعالى فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ [الآية 23] ، فتأمل. فإن قيل: لمّا قال تعالى: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [الآية 23] ثم قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [الآية 24] ، علم، من مجموع ذلك، أن الربيبة لا تحرم إذا لم يدخل بأمها، فما الحكمة في قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ [الآية 23] ؟ قلنا: فائدته أن لا يتوهم أن قيد الدخول خرج مخرج العادة والغالب، لا مخرج الشرط كما في الحجر. فإن قيل: لم قال تعالى في نكاح الإماء فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الآية 25] والمهر ملك المولى، وإنما يجب تسليمه إلى المولى لا إلى الأمة؟

قلنا: لما كانت الأمة وما في يدها ملك المولى كان أداؤه إليها كأدائه إلى المولى. الثاني أن معناه: وآتوا مواليهن أجورهن بطريق حذف المضاف. فإن قيل: لم قال تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [الآية 25] وجواز نكاح الأمة ثابت من غير خوف العنت عند بعض العلماء؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: ذلك أصوب وأصلح لمن خشي العنت منكم فيكون شرطا لما هو الأرشد والأصلح كما في قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور/ 33] . فإن قيل: لم قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [الآية 26] والإرادة إنما تقرن بأن يقال: يريد أن يفعل، وقال الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [الآية 28] ؟ قلنا: قد ورد في الكتاب العزيز اللام بمعنى «أن» ورودا كثيرا قال الله تعالى وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى/ 15] وقال الله تعالى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) [الأنعام] وقال تعالى في موضع آخر يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا [الصف/ 8] فكذلك هذا. فإن قيل: كيف خصّت التجارة بالذكر في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [الآية/ 29] مع أن الهبة والصدقة والوصية والضيافة وغيرها تقتضي الحل أيضا كالتجارة؟ قلنا: إنما خصّت بالذكر لأن معظم تصرف الخلق في الأموال إنما يكون بالتجارة، أو لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها. فإن قيل: قوله تعالى: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [الآية 42] قالوا معناه أنهم يتمنون أن يجعلوا يوم القيامة ترابا كما جاء في آخر سورة النبأ. وظاهر اللفظ أنهم يتمنون أن تجعل الأرض مثلهم ناسا كما تقول سويت زيدا بعمرو، ومعناه جعلت زيدا، وهو المسوّى مثل عمرو، وهو المسوى به. قلنا: قولهم سويت هذا بهذا له معنيان. أحدهما إجراء حكم الثاني على الأول كقولك سويت زيدا بعمرو، وكما تقول ساويت. والثاني أن يكون المسوّى مفعولا والمسوى به آلة كقولك: سويت القلم بالسكين والثوب بالمقراض، بمعنى أصلحته به. قلنا: فقوله لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [الآية 42]

يحتمل وجهين: أن يكون بمعنى ساويت ويكون من المقلوب: أي لو يسوّون بالأرض بجعلهم ترابا كقوله تعالى لَتَنُوأُ [القصص/ 76] قوله وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [المائدة/ 6] في قول من لم يجعل الباء زائدة كقولهم: أدخلت الخاتم في إصبعي ونحوه، وأن يكون بمعنى الآلة. معناه: ودّوا لو تمهّد بهم الأرض وتوطد، بأن يجعلوا ترابا ويبثّوا في وهادها وحضيضها لتساوى بقاعها وآكامها، وقوله تعالى: لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) [طه] لا انخفاضا ولا ارتفاعا، وإن كان يدل على أن الأرض يوم القيامة متساوية بالسطوح، فجعلها متساوية بالسطوح إن كان قبل البعث، فإذا بعث الموتى من قبورهم، خلت منهم قبورهم وحفرهم، فحصل في الأرض تفاوت. وإن كان بعد البعث، فيجوز أن يكون هذا التمني سابقا على جعلها متساوية السطوح. فإن قيل: قولنا: «هذا خير من ذلك» يقتضي أن يكون في كل واحد منهما خير، حتى يصحّ تفضيل أحدهما على الآخر، لأن كلمة «خير» في الأصل أفعل تفضيل، فكيف قال لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ [الآية 46] بعد ما سبق من قولهم في أول الآية؟ قلنا: المراد بالخير هاهنا الخير الذي هو ضد الشر، لا الذي هو أفعل التفضيل كما تقول: في فلان خير. فإن قيل لم قال تعالى: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) والمفعول مخلوق، وأمر الله وقوله غير مخلوق؟ قلنا: ليس المراد بهذا الأمر ما هو ضد النهي، بل المراد به ما يحدث من الحوادث، فإن الحادثة تسمى أيضا أمرا، ومنه قوله تعالى: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) [الطلاق] وقوله أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً [يونس/ 24] . فإن قيل لم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [الآية 48] ، مع أن شرك الساهي والمكره والتائب مغفور؟ قلنا: المراد به شرك غير هؤلاء المخصوص من عموم الآية بأدلة من خارج أو نقول قيد المشيئة متعلق بالفعلين المنفي والمثبت، كأنه قال: إن الله لا يغفر الشرك لمن يشاء ويغفر ما دونه لمن يشاء. فإن قيل: هذه الآية تدل على أن غير الشرك من الذنوب لا يقطع بانتفاء مغفرته بل ترجى مغفرته، وقوله

تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً يدل على القطع بانتفاء المغفرة في الكفر والظلم وهما غير الشرك، فكيف الجمع بينهما؟ قلنا: المراد بالظلم هنا الشرك، قال مقاتل: والشرك يسمى ظلما، قال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) [لقمان] فكأنه قال: إن الذين أشركوا. الثاني أن قوله تعالى، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [الآية 116] ، ليس قطعا بالمغفرة لغير المشرك وهو تعليق للمغفرة له بالمشيئة ثم بين، بالآية الأخرى، أن الكافر ليس داخلا فيمن يشاء المغفرة له، فيتعين دخوله فيمن لا يغفر له، لأنه لا واسطة بينهما. الثالث أنه عام خص بالآية الثانية كما خص قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزّمر/ 53] بالآية الأولى، ويؤيد هذا إجماع الأمة على أن الكافر والمشرك سواء في عدم المغفرة والتخليد في النار، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [البيّنة/ 6] . فإن قيل لم قال تعالى، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ [الآية 49] ذمّهم على ذلك، وقال أيضا: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) [النجم] ، وقد زكى النبي (ص) نفسه فقال: «والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض» . ويوسف عليه السلام قال: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) [يوسف] ؟ قلنا: إنما قال ذلك حين قال المنافقون: اعدل في القسمة، تكذيبا لهم حيث وصفوه بخلاف ما كان عليه من العدل والأمانة. وأما يوسف عليه السلام، فإنه إنما قال ذلك ليتوصل به إلى ما هو وظيفة الأنبياء، وهو إقامة العدل وبسط الحق وإمضاء أحكام الله تعالى، ولأنه علم أنه لا أحد في ذلك الوقت أقوم منه بذلك العمل، فكان متعينا عليه، فلذلك طلبه وأثنى على نفسه، ومع ذلك كله فإنه روى عن النبي (ص) أنه قال «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنه أخّر ذلك سنة» . فإن قيل لم قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ

بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [الآية 15] إلى أن قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ [الآية 52] فحصر لعنته فيهم لأن هذا الكلام للحصر، وليست لعنة الله منحصرة فيهم بل هي شاملة لجميع الكفار. قلنا: قوله سبحانه أُولئِكَ إشارة إلى القائلين: لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) ، وهذا القول شامل لجميع الكفار، فكانت اللعنة شاملة للجميع. فإن قيل لم قال تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [الآية 56] ، أخبر أنه يعذب جلودهم التي لم تعص مكان الجلود العاصية، وتعذيب البريء ظلم؟ قلنا: الجلود المجددة، وإن عذبت فالألم بتعذيبها إنما يحصل للقلوب، وهي غير مجددة بل هي العاصية باعتقاد الشرك ونحوه. الثاني أن المراد بتبديلها إعادة النضيج غير نضيج، والجلود هي الجلود بعينها، وإنما قال غيرها باعتبار صفة النضيج وعدمه، كما قال الله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [ابراهيم/ 48] وأراد تبديل الصفات لا تبديل الذات، وكما قال الشاعر: وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... وما الدار بالدار التي كنت أعهد فإن قيل لم قال تعالى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) وليس في الجنة شمس ليكون فيها حر يحتاج بسببه إلى ظل ظليل أو غير ظليل؟ قلنا: هو مجاز عن المستقر المستلذ المستطاب جريا على المتعارف بين الناس، لأن بلاد الحجاز شديدة الحر، فأطيب ما عندهم موضع الظل، فخاطبهم بما يعقلون ويفهمون، كما قال عز وجل وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) [مريم] وليس في الجنة طلوع شمس ولا غروبها فيكون فيها بكرة وعشيّ، لكن لما كان في عرفهم تمام نعمة الغذاء وكمال وظيفته: أن يكون حاضرا مهيأ في طرفي النهار عبّر عن حضوره وتهيئته بذلك. فإن قيل لم قال تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [الآية 69] وهذا مدح لمن يطيع الله والرسول، وعادة العرب في صفات المدح الترقي من الأدنى إلى الأعلى، وهذا عكسه لأنه نزول من الأعلى إلى الأدنى؟ قلنا: هذا ليس من الباب الذي

ذكرتموه، بل هو كلام المقصود منه الإخبار عن أن المطيعين لله ورسوله يكونون يوم القيامة مع الأشراف والخواص، ثم كأن سائلا سأل من الأشراف والخواص، ففصّل له زيادة في الفائدة بعد تمام المعنى المقصود بالذكر بقوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الآية 69] . وأتى في تفصيلهم بذكر الأشرف فالأشرف والأخص فالأخص، إذ هو الغالب في تعديد الأشراف والخواص كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [الآية 59] وقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران/ 18] والدليل على أن المراد من الآية الإخبار جملة لا تفصيلا، أنه لما علم عباده أن يسألوه هذا المعنى أرشدهم إلى طلبه مجملا بقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة] . فإن قيل لم قال تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) وقال في كيد النساء إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) [يوسف] ومعلوم أن كيد الشيطان أعظم من كيد النساء؟. قلنا: المراد أن كيد الشيطان ضعيف في جنب نصرة الله وحفظه لأوليائه المخلصين من عباده، كما قال الله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر/ 42] وقال حكاية عن إبليس إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) [ص] والمراد بالآية الأخرى أن كيد النساء عظيم إذا قيس بكيد الرجال. الثاني القائل: إن كيدكن عظيم هو عزيز مصر، وليس الله تعالى، فلا تناقض ولا معارضة. فإن قيل: لم عاب على المشركين والمنافقين قولهم: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [الآية 78] وردّ عليهم ذلك بقوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [نفسها] ثم قال بعد ذلك ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [الآية 79] وأخبره بعين قولهم المردود عليهم؟ قلنا: قيل إن الثاني حكاية قولهم أيضا، وفيه إضمار تقديره: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) فيقولون ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ [الآية 79] . وقيل معناه: ما أصابك أيها الإنسان من حسنة، أي رخاء ونعمة، فمن

فضل الله، وما أصابك من سيئة، أي قحط وشدة، فبشؤم فعلك ومعصيتك، لا بشؤم محمد عليه الصلاة والسلام، كما زعم المشركون، ويؤيده قوله تعالى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) [الشورى] . فإن قيل: لم قيل إن الشر والمعصية بإرادة الله، والله تعالى يقول وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [الآية 79] . قلنا: ليس المراد بالحسنة والسيئة الطاعة والمعصية، بل القحط والرخاء والنصر والهزيمة على ما اختلف فيه العلماء، ألا ترى أنه جلّ شأنه قال: ما أَصابَكَ ولم يقل ما عملت من سيئة. فإن قيل: قوله تعالى أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) السؤال فيه من وجهين: أحدهما أنه يدل، من حيث المفهوم، على أن في القرآن اختلافا قليلا، وإلا لما كان للتقييد بوصف الكثرة فائدة، مع أنه لا اختلاف فيه أصلا. الثاني أنه إنما يدل عدم الاختلاف الكثير في القرآن على أنه من عند الله، أن لو كان كل كتاب من عند غير الله فيه اختلاف كثير، وليس الواقع كذلك، لأن المراد من الاختلاف إما الكذب والتباين في نظمه، وإما التناقض في معانيه، أو التفاوت بين بعضه وبعضه من الجزالة والبلاغة والحكمة وكثرة الفائدة. قلنا: الجواب عن السؤال الأول أن التقييد بوصف الكثرة للمبالغة في إثبات الملازمة، فكأنه قال: لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فضلا عن القليل. لكنه من عند الله فليس فيه اختلاف كثير ولا قليل فكيف يكون من عند غير الله؟ فهذا هو المقصود من التقييد بوصف الكثرة لا أن القرآن مشتمل على اختلاف قليل. وعن السؤال الثاني أن كل كتاب في فن من العلوم، إذا كان من عند غير الله وجد فيه اختلاف ما بأحد التفاسير المذكورة لا محالة يعرف ذلك بالاستقراء. والقرآن جامع لفنون من علوم شتى، فلو كان من عند غير الله لوجد فيه بالنسبة إلى كل فن اختلاف ما، فيصير مجموع الاختلاف اختلافا كثيرا. فإن قيل لم قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) استثنى القليل على تقدير

انتفاء الفضل والرحمة، مع أنه لولا فضله بالهداية والعصمة ورحمته، لاتبع الكل الشيطان من غير استثناء؟ قلنا: الاستثناء راجع إلى ما تقدم، تقديره أذاعوا به إلا قليلا. وقيل لعلمه الذي يستنبطونه منهم إلا قليلا. وقيل معناه: ولولا فضل الله عليكم بإرسال الرسل لاتبعتم الشيطان في الكفر والضلال إلا قليلا منكم كانوا يهتدون بعقولهم إلى معرفة الله تعالى وتوحيده، كقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، ونحوهما قبل بعث النبي عليه الصلاة والسلام. فإن قيل: على الجواب الأخير إذا كان المراد أن من لوازم نفي الفضل والرحمة بالطريق الخاص، وهو بإرسال الرسل، اتباع الشيطان، ونفي الفضل والرحمة بالطريق الخاص معلوم حق في الرسول لأنه لم يرسل إليه رسول ومع هذا لم يتبع الشيطان؟ قلنا: لا نسلم أنه لم يرسل إليه رسول، بل أرسل إليه الملك وأنه رسول. الثاني التقييد في الفضل والرحمة بتعيين الطريق يكون في حق الأمة. أما في حق الرسل ومن آمن بغير رسول، فيكون اللفظ باقيا على ظاهره. فإن قيل: هذه الآية تقتضي أن فضله ورحمته يمنعان أكثر الناس من اتّباع الشيطان، مع أنّ الواقع خلافه، فإن أكثر الناس كفرة، يؤيده قوله (ص) «الإسلام في الكفر كالشعرة البيضاء في الثور الأسود» . قلنا: الخطاب في هذه الآية للمؤمنين لا للناس كلهم. فإن قيل: إذا كان الخطاب خاصا للمؤمنين فما معنى الاستثناء، فإنه، إن كان المراد به اتباعه فيما يدعو إليه ويوسوس من المعاصي، فأكثر المؤمنين متبعون له في ذلك ولو في العمر مرة واحدة في بعض الكبائر. وإن كان المراد به اتباعه في دعائه إلى الكفر، فإنّ أحدا من المؤمنين لم يتبعه في الكفر. قلنا: معناه: ولولا فضل الله عليكم، أيها المؤمنون، ورحمته بالهداية بالرسول، لا تبعتم الشيطان في الكفر وعبادة الأصنام وغير ذلك، إلا قليلا منكم كقس بن ساعدة وورقة بن نوفل ونحوهما، فإنهم، لولا الفضل والرحمة بالرسول، لما اتبعوا الشيطان

لفضل ورحمة، خصهم الله تعالى بها غير إرسال الرسول وهو زيادة الهداية ونور البصيرة. فإن قيل: لم قال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) ، مع أنه لا تفاوت بين صدق وصدق في كونه صدقا كما في القول والعلم لا يقال هذا القول أقول، ولا هذا العلم أعلم، ولا هذا الصدق أصدق، لأن الصدق عبارة عن الإخبار المطابق للواقع، ومتى ثبت أنه مطابق للواقع لا يحتمل الزيادة أو النقصان؟ قلنا: أصدق هنا صفة للقائل لا صفة للقول، والقائلان يتفاوتان في الصدق في نفس الأمر وإن تساويا في قصة واحدة أخبرا بها وكان كل واحد منهما صادقا فيها. وحاصله أن هذا استفهام معناه النفي كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 135] معناه لا أحد يغفرها إلا الله، فمعناه هنا: لا أحد أصدق في حديثه من الله، فيكون ترجيحا للمحدث على المحدث في الصدق، لا ترجيحا لأحد الصدقين على الآخر، ولا شك أنه لا أحد أصدق في حديث من الله لأن غيره يجوز عليه غير الصدق عقلا، ويقع منه أيضا ولو نادرا، والله تعالى منزه عن الأمرين جميعا. فإن قيل: قوله تعالى: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها [الآية 91] يقال: ركسه وأركسه: أي رده، فيصير معناه كلما ردوا إلى الفتنة ردوا فيها وهو تكرار. قلنا: جوابه أن الفاعل مختلف فانتفى التكرار وصار المعنى: كلما دعاهم قومهم إلى الشرك ردهم الله إليه وقلبهم بشؤم نفاقهم، فالرد الأول بمعنى الدعاء، والركس بمعنى الرد والنكس. فإن قيل لم قال تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [الآية 92] مع أنه ليس له أن يقتله خطأ. قلنا: «إلا» بمعنى و «لا» كما في قوله تعالى إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النمل] وقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة/ 150] . الثاني معناه أنه ليس له أن يقتله مع تيقن إيمانه، بل له أن يقتله إذا غلب على ظنه أنه ليس بمؤمن وهو في صف المشركين وإن كان في الأمر نفسه مؤمنا.

فإن قيل: كيف يقال إن أهل الكبائر من المؤمنين لا يخلدون في النار والله تعالى يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) . قلنا: معناه متعمدا قتله بسبب إيمانه، والذي يفعل ذلك يكون كافرا. الثاني أن المراد بالخلود طول المكث، لأن الخلود إذا لم يكن بالأبدية يطلق على طول المكث، كما يقال: خلد السلطان فلانا في الحبس إذا أطال حبسه. فإن قيل لم قال تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً [الآية 95] ثم قال: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ. قلنا: المراد الأول التفضيل على القاعدين من الغزاة بعذر، فإن لهم فضلا لكونهم مع الغزاة بالهمة والعزيمة والقصد الصالح، ولهذا قال: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الآية 95] يعني الجنة: أي من المجاهدين والقاعدين بعذر، والمراد بالثاني التفضيل على القاعدين عن الغزاة بغير عذر، وأولئك لا فضل لهم بل هم مقصرون ومسيئون، فظهر فضل الغزاة عليهم بدرجات لانتفاء الفضل لهم؟ فإن قيل: كيف صح القول كما ورد في النصّ القرآني: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ [الآية 97] جوابا لقول الملائكة في الآية نفسها: فِيمَ كُنْتُمْ، مع أنه ليس مطابقا للسؤال، والجواب المطابق أن يقولوا كنا في كذا أو لم نكن في شيء؟ قلنا: معنى فيم كنتم التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حتى قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا فصار قوله فِيمَ كُنْتُمْ مجازا عن السؤال: لم تركتم الهجرة؟ فقالوا كنا مستضعفين، اعتذارا عما وبخوا به تعللا، فردت عليهم الملائكة ذلك بقولهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [الآية 97] يعني أنكم إن كنتم عاجزين عن الهجرة إلى المدينة لبعدها عليكم فقد كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد القريبة منكم التي تقدرون فيها على إظهار دين الإسلام. فإن قيل لم قال تعالى: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الآية 100] أي وجب،

والعبد لا يستحق على مولاه أجرا لأنه ليس بأجير له إنما هو عبد قنّ؟ قلنا: معناه وجب من جهة أنه وعد عباده أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا، والخلف في وعده عز وجل محال، فالوجوب من هذه الجهة، مع أن ذلك الوعد ابتداء فضل منه. فإن قيل: كيف شرط في إباحة القصر للمسافر خوف العدو بقوله سبحانه: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ [الآية 101] ، والقصر جائز مع أمن المسافر؟ قلنا: خرج ذلك مخرج الغالب لا مخرج الشرط، وغالب أسفار رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه لم تخل من خوف العدو فصار نظير قوله تعالى فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور/ 33] ، الثاني أن الكلام قد تم عند قوله تعالى أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [الآية 101] وقوله إِنْ خِفْتُمْ كلام مستأنف، وجوابه محذوف تقديره: فاحتاطوا أو تأهبوا. الثالث أن المراد به القصر من شروطها وأركانها حالة اشتداد الخوف بترك الركوع والسجود والنزول عن الدابة واستقبال القبلة ونحو ذلك، لا من عدد الركعات، وذلك القصر مشروط بالخوف. فإن قيل لم قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) و «كان» لفظ دال على الماضي، والصلاة في الحال وإلى يوم القيامة أيضا على المؤمنين فرض موقت؟ قلنا «كان» في القرآن العزيز على خمسة أوجه: كان بمعنى الأزل والأبد كما في قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) . وكان بمعنى المضيّ المنقطع كما في قوله تعالى: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ [النمل/ 48] وهو الأصل في معاني «كان» كما تقول: كان زيد صالحا أو فقيرا أو مريضا ونحو ذلك. وكان بمعنى الحال كما في قوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) . وكان بمعنى الاستقبال كما في قوله تعالى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) [ص] أي صار. فإن قيل لم قال تعالى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ [الآية 104] والكافرون أيضا يرجون الثواب في محاربة المؤمنين، لأنهم يعتقدون أن دينهم حق، وأنهم ينصرون دين الله ويذبون عنه ويقاتلون أعداءه، كما يعتقد المؤمنون، فالرجاء مشترك؟

قلنا: قيل إن الرجاء هنا بمعنى الخوف كما في قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) [نوح] وقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية/ 14] وقول الشاعر: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وعلى قول من قال إنه بمعنى الأمل تقول: قد بشر الله المؤمنين في القرآن ووعدهم بإظهار دينهم على الدين كله، ومثل هذه البشارة والوعد لم يوجد في سائر الكتب فافترقا. وقيل الرجاء ما يكون مستندا إلى سبب صحيح ومقدمات حقة، والطمع ما يكون مستندا إلى خلاف ذلك فالرجاء للمؤمنين، وأما الكافرون فلهم طمع لا رجاء. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [الآية 110] بعد قوله في الآية نفسها: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً وظلم النفس من عمل السوء، فلم لم يقتصر على الأول مع أن الثاني داخل فيه؟ قلنا: «أو» بمعنى الواو، فمعناه ويظلم نفسه بذلك السوء حيث دساها بالمعصية. وقيل المراد بعمل السوء التّلبّس بما دون الشرك، وبظلم النفس الشرك. وقيل المراد بعمل السوء الذنب المتعدي ضرره إلى الغير، ويظلم النفس الذنب المقتصر ضرره على فاعله. فإن قيل: قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ [الآية 113] ظاهره نفي وجود الهم منهم بإضلاله، والمنقول في التفاسير أنهم هموا بإضلاله، وزادوا على الهم الذي هو القصد القول المضل أيضا، يعرف ذلك من تفسير أول القصة وهو قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ. قلنا: قوله تعالى: لَهَمَّتْ [الآية 113] ليس جواب «لولا» بل هو كلام مقدم على لولا، وجوابها في التقدير مقول على طريق القسم، وجواب لولا محذوف تقديره لقد همت طائفة منهم أن يضلوك ولولا فضل الله عليك ورحمته لأضلوك. فإن قيل: النجوى فعل «ومن» اسم، فكيف صح استثناء الاسم من الفعل في قوله تعالى لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ

نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ [الآية 114] ؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: إلا نجوى من أمر بصدقة، فيكون استثناء الفعل من الفعل، ونظيره قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ [البقرة/ 177] تقديره: برّ من آمن بالله. فإن قيل لم قال تعالى: إِلَّا مَنْ أَمَرَ ثم قال وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ [الآية 114] ؟ قلنا: ذكر الآمر بالخير ليدل به على خيرية الفاعل بالطريق الأولى، ثم ذكر الفاعل ووعده الأجر العظيم إظهارا لفضل الفاعل المؤتمر على الآمر الثاني. انه أراد: ومن يأمر بذلك، فعبر عن الأمر بالفعل كما يعبر به عن سائر أنواع الفعل، وإذا كان الآمر موعودا بالأجر العظيم كان الفاعل موعودا به بطريق الأولى. فإن قيل لم قال تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً [الآية 117] أي ما يعبدون من دون الله إلا اللات والعزى ومناة ونحوها وهي مؤنثة، ثم قال: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً (117) أي ما يعبدون إلا الشيطان؟ قلنا: معناه أن عبادتهم للأصنام هي في الحقيقة عبادة للشيطان، إما لأنهم أطاعوا الشيطان في ما سول لهم وزين من عبادة الأصنام بالإغواء والإضلال، أو لأن الشيطان موكل بالأصنام يدعو الكفار إلى عبادتها شفاها ويتزيا للسّدنة فيكلمهم ليضلهم. فإن قيل: كيف يقال إن العبد يحكم بكونه من أهل الجنة بمجرد الإيمان، والله تعالى شرط لذلك العمل الصالح بظاهر قوله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الآيتان 57 و 122] وقوله وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الآية 124] وإلا لما كان للتقييد فائدة؟ قلنا: قيل إن المراد بالعمل الصالح الإخلاص في الإيمان، وقيل الثبات عليه إلى الموت، وكلاهما شرط في كون الإيمان سببا لدخول الجنة. فإن قيل لم قال تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [الآية 123] والتائب المقبول التوبة غير مجزيّ بعمله، وكذلك من عمل سيئة ثم أتبعها حسنة، لأنها مذهبة لها وماحية بنص القرآن؟ قلنا: المراد: من يعمل سوءا ويمت

مصرّا عليه، فإن تاب عنه لم يجز به. الثاني أن المؤمن يجازى في الدنيا بما يصيبه فيها من المرض وأنواع المصائب، والمحسن كما جاء في الحديث، والكافر يجازى في الآخرة. فإن قيل: لم خص المؤمنين الصالحين بأنهم لا يظلمون بقوله سبحانه وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ [الآية 124] مع أن غيرهم لا يظلم أيضا؟ قلنا: قوله تعالى وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) راجع إلى الفريقين: عمال السوء وعمال الصالحات، لسبق ذكر الفريقين. الثاني: أن يكون من باب الإيجاز والاختصار فاكتفى بذكره عقب الجملة الأخيرة عند ذكر أحد الفريقين لدلالته على إضماره عقب ذكر الفريق الآخر، ولا يظلم المؤمنون بنقصان أعمالهم، ولا الكافرون بزيادة عقاب ذنوبهم. الثالث: أن المراد بالظلم نفي نقصان ثواب الطاعات، وهذا مخصوص بالمؤمنين، لأن الكافرين ليس لهم على أعمالهم ثواب ينقص من العقاب على ذنوبهم. فإن قيل: طلب الإيمان من المؤمنين تحصيل حاصل، فكيف قال جلّ شأنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الآية 136] . قلنا: معناه: يا أيها الذين آمنوا بعيسى آمنوا بالله ورسوله محمد. وقيل معناه: يا أيها الذين آمنوا يوم الميثاق آمنوا الآن. وقيل معناه: يا أيها الذين آمنوا علانية آمنوا سرّا. فإن قيل: قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [الآية 141] وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ [الآية 141] لماذا سمى ظفر المؤمنين فتحا وظفر الكافرين نصيبا؟ قلنا: تعظيما لشأن المؤمنين وتحقيرا لحظ الكافرين، لأن ظفر المسلمين أمر عظيم يتضمن نصرة دين الله وعزة أهله، وتفتح له أبواب السماء حتى ينزل على أولياء الله، وظفر الكافرين ليس إلا حظا دنيئا وعرضا من متاع الدنيا يصيبونه، ولا يتضمن شيئا مما ذكرنا. فإن قيل لم قال تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) وقد نصر الكافرين على المؤمنين يوم أحد وفي غيره أيضا إلى يومنا هذا؟

قلنا: المراد به السبيل بالحجة والبرهان، والمؤمنون غالبون بالحجة دائما. فإن قيل: كيف كان المنافق أشد عذابا من الكافر حتى قال الله تعالى في حقهم: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [الآية 145] مع أن المنافق أحسن حالا من الكافر، بدليل أنه معصوم الدم وغيره محكوم عليه بالكفر، ولهذا قال الله تعالى في حقهم: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ [الآية 143] ، فلم يجعلهم مؤمنين ولا كافرين؟ قلنا: المنافق، وإن كان في الظاهر أحسن حالا من الكافر، إلا أنه عند الله في الآخرة أسوأ حالا منه لأنه شاركه في الكفر وزاد عليه الاستهزاء بالإسلام وأهله ومخادعة الله والمؤمنين. فإن قيل: الجهر بالسوء غير محبوب عند الله تعالى أصلا، بل المحبوب عنده العفو والصفح والتجاوز فكيف قال: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [الآية 148] : أي إلّا جهر من ظلم. قلنا: معناه ولا جهر من ظلم ف «إلا» بمعنى ولا، وقد سبق نظيره وشاهده في قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [الآية 92] . فإن قيل: كيف جاز دخول «بين» على أحد في قوله تعالى وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [الآية 152] و «بين» تقتضي اثنين فصاعدا، يقال فرقت بين زيد وعمرو، وبين القوم، ولا يقال فرقت بين زيد؟ قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في قوله تعالى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة/ 68] في سورة البقرة أيضا. فإن قيل: ما الحكمة من إعادة الكفر في الآية الثانية بقوله تعالى وَبِكُفْرِهِمْ [الآية 155] بعد قوله سبحانه في الآية نفسها: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ. قلنا: لأنه قد تكرر الكفر منهم فإنهم كفروا بموسى وعيسى عليهما السلام، ثم بمحمد عليه الصلاة والسلام، فعطف بعض كفرهم على بعض. فإن قيل: اليهود كانوا كافرين بعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام يسمونه الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة، فكيف أقروا أنه رسول الله بقولهم، كما ورد في القرآن الكريم

إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [الآية 157] ؟ قلنا: قالوه على طريق الاستهزاء، ومثال ذلك ما أورده القرآن الكريم حكاية على لسان فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) [الشعراء] . فإن قيل: لم وصفهم بالشك بقوله تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ [الآية 157] ثم وصفهم بالظن في الآية نفسها: بقوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ. والشك تساوي الطرفين، والظن رجحان أحدهما فكيف يكونون شاكين ظانّين، وكيف استثنى الظن من العلم وليس الظن فردا من أفراد العلم بل هو قسيمه؟ قلنا: استعمل الظن بمعنى الشك مجازا لما بينهما من المشابهة في انتفاء الجزم، وأما استثناء الظن من العلم فهو استثناء من غير الجنس كما في قوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً [مريم/ 62] وقيل لأن المراد بالشك هنا ما يشمل الظن، واستثناء الظن من العلم في الآية منقطع، ف «إلّا» فيها بمعنى لكن كما في قوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (26) [الواقعة] ، وما أشبهه. فإن قيل: كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه لهم من الأدلة العقلية الموصلة إلى معرفته حتى قال سبحانه: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [الآية 165] ؟ قلنا: الرسل والكتب منبهة من الغفلة، باعثة على النظر في أدلة العقل، مفصلة لمجمل الدنيا وأحوال التكليف التي لا يستقل العقل بمعرفتها، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة، لئلا يقولوا: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه/ 134] ، فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له. فإن قيل لم قال تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [الآية 166] ولم يقل أنزله بقدرته أو بعلمه وقدرته، مع أن الله تعالى لا يفعل إلا عن علم وقدرة؟ قلنا قال تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي عالما به، أو: وفيه علمه: أي معلومه أو معلمه من الشرائع والأحكام. وقيل معناه: أنزله عليك بعلم منه أنّك أولى بإنزاله عليك من سائر خلقه. فإن قيل: كلام الله صفة قديمة قائمة

بذاته، وعيسى عليه الصلاة والسلام مخلوق وحادث فكيف صحّ إطلاق الكلمة عليه في قوله تعالى: رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ [الآية 171] ؟ قلنا: معناه أن وجوده في بطن أمه كان بكلمة الله تعالى، وهو قوله «كن» من غير واسطة أب، بخلاف غيره من البشر سوى آدم. وقيل المراد بالكلمة الحجة. فإن قيل على الوجه الأول: لو كان صحة إطلاق الكلمة على عيسى صلوات الله على نبينا وعليه لهذا المعنى لصح إطلاقها على آدم (ع) : لأن هذا المعنى فيه أتم وأكمل لأنه وجد بهذه الكلمة من غير واسطة أب ولا أم أيضا. قلنا: لا نسلّم أنه لا يصح إطلاقها عليه لهذا المعنى، بل يصح. فإن قيل: لو صح إطلاقها عليه، لجاء به القرآن كما جاء في حق عيسى عليه الصلاة والسلام؟ قلنا: خص ذلك بعيسى لأن المجيء في حق عيسى (ع) إنما كان للرد على من افترى عليه وعلى أمه ونسبه إلى أب، ولم يرد هذا المعنى في حق آدم عليه الصلاة والسلام لاتفاق الناس كلهم على أنه غير مضاف إلى أب ولا إلى أم.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"النساء"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النساء» «1» قوله تعالى: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [الآية 10] . استعارة. وقد مضى الكلام على نظيرها في البقرة. والمعنى أنهم لما أكلوا المال المؤدي إلى عذاب النار شبّهوا، من هذا الوجه، بالآكلين من النار. وقوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ [الآية 15] . استعارة لأن المتوفي ملك الموت فنقل الفعل إلى الموت على طريق المجاز والاتساع، لأن حقيقة التوفي هي قبض الأرواح من الأجسام. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [الآية 33] . استعارة. والمراد بها والله أعلم: «أن من عقدتم بينكم وبينه عقدا، فأدوا إليه ما يستحقه بذلك العقد عليكم» ، وإنما نسب المعاقدة إلى الأيمان على عادة العرب في ذلك. يقول قائلهم: أعطاني فلان صفقة يمينه على كذا، وأخذت يد فلان مصافحة على كذا، وعلى هذا النحو أيضا إضافة الملك إلى الأيمان في قوله تعالى: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [الآية 36] لأن الإنسان في الأغلب إنما يقبض المال المستحق بيمينه ويأخذ السلع المملوكة بيده. وقوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [الآية 46] . وهذه استعارة. والمراد بها، والله

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

أعلم، أنهم يعكسون الكلام على حقائقه، ويزيلونه عن جهة صوابه، حملا له على أهوائهم وعطفا على آرائهم. وقوله تعالى: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ [الآية 46] . استعارة أخرى. والمراد بها يميلون بكلامهم إلى جهة الاستهزاء بالمؤمنين، والوقيعة في الدين. وقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها [الآية 47] . وهذه استعارة. وهي عبارة عن مسخ الوجوه أي يزيل تخاطيطها ومعارفها، تشبيها بالصحيفة المطموسة التي عمّيت سطورها وأشكلت حروفها. وقوله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى [الآية 77] . استعارة. والمراد بها تخسيس قدر ما يصحب الإنسان في الدنيا، وأن المتعة به قليلة والشوائب له كثيرة. وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [الآية 71] . استعارة ومجاز لأن الحذر لا يؤخذ على الحقيقة، وإنما يصح الأخذ على ما يتأتى إمساكه بالأيدي من الأجسام، كالأسلحة المتعاطاة والآلات المستعملة، وما يجري مجرى ذلك، والمراد، والله أعلم: «تمسّكوا بالحذر وأديموا استشعاره، كما تتمسكون بالشيء الذي تشتمل عليه أكفكم، وتتعلق به أناملكم» . وقوله تعالى: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ [الآية 90] . استعارة. والمراد بها صفة صدورهم بالضيق عن القتال وذلك مأخوذ من الحصار وهو تضييق المذهب والمنع من التصرف. وقوله تعالى: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [الآية 90] . وهذه استعارة وحقيقتها: «إن طلبوا منكم المسالمة وسألوكم الموادعة» ، وفي قوله تعالى: وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ عبارة عن طلبهم السلم عن ذل واستكانة وخضوع وضراعة. وقوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [الآية 128] . وهذه استعارة وليس المراد أنّ محضرا أحضر الأنفس شحّها، ولكنّ الشّحّ، لما كان غير مفارق لها، ولا متباعدا عنها، كان كأنه قد أحضرها، وحمل على ملازمتها، ومثل ذلك.

سورة المائدة (5)

سورة المائدة (5)

المبحث الأول أهداف سورة"المائدة"

المبحث الأول أهداف سورة «المائدة» «1» 1- تاريخ النزول نزلت سورة المائدة بعد سورة الفتح، وكان نزول سورة الفتح بعد صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، فيكون نزول سورة المائدة فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك. ونلحظ أن سورة المائدة من أواخر ما نزل من السور بالمدينة، فقد روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن المائدة من آخر ما أنزل الله، فما وجدتم فيها من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه. والمتأمّل يرى أن السورة قد امتد نزول آياتها خلال السنوات الأربع الأخيرة من حياة الرسول (ص) بالمدينة. فقد ابتدأ نزولها في السنة السابعة للهجرة، وفيها آية نزلت في حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة قبل وفاة النبي (ص) بثمانين يوما وهي قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) . وفي كتب التفسير أن سورة المائدة نهارية كلها أي نزلت آياتها جميعها نهارا. مدنية كلها إلا قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الآية 3] فإنها نزلت بعرفة. وعدد آيات سورة المائدة: 120 آية، وعدد كلماتها: 2804 كلمات.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

2 - قصة التسمية

2- قصة التسمية سميت سورة المائدة بهذا الاسم، لأنها السورة الوحيدة التي تحدثت عن مائدة طلب الحواريون من عيسى عليه السلام أن يسألها ربه. وذلك في قوله تعالى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) . والحواريون هم خلصاء عيسى عليه السلام الذين صغت قلوبهم من الكفر والنفاق وبادروا إلى الإيمان بعيسى وتلقوا عنه التعاليم ثم انتشروا في القرى لبثّها بين الناس. المائدة تكلّم العلماء على المائدة التي سألها الحواريون عيسى: هل نزلت أم لا؟ وجمهور المفسرين منعقد على أنها نزلت بالفعل. وقد تعددت الروايات بعد ذلك عن أوصافها وما احتوت عليه من ألوان الطعام والشراب. وحسبك أن ترجع إلى أي تفسير من كتب التفاسير المتداولة لتقرأ في أوصافها وأوصاف ما وضع عليها الشيء الكثير، مما يجعلك ترجح أن كثيرا مما ورد في أوصاف هذه المائدة إنما هو من افتراء المفترين أو أساطير الإسرائيليين. وألفاظ القرآن الصريحة تفيد أن عيسى (ع) طلب من ربه أن ينزل مائدة من السماء تكون كافية لقومه جميعا، وتكون عيدا وسعادة لأول قومه وآخرهم. والمائدة طعام ورزق، وكل طعام ورزق إنما هو من عند الله. وقد وعد الله أن ينزّلها عليهم. ولم يذكر القرآن: هل كانت بمفهومها الضيق كما طلبها الحواريون، أو بمفهومها المطلق، كما قد يريده الله، ويفهمه عيسى والحواريون، فيكون حينئذ وعدا بنعمة من الله عليهم، طعاما ورزقا، يشمل أولهم وآخرهم، وترجمة للمفهوم الضيق، الذي أرادوه للمائدة، بمفهوم أوسع، قد يشمل الطعام، وسواه من الرزق، ليكون ذلك ابتلاء وفتنة، لأتباع المسيح (ع) بوجه عام. والله أعلم بما كان مما سكت عنه القرآن، وليس لنا من مصدر آخر نستفتيه، واثقين، في مثل هذه الشؤون، أنه ليس سوى رأي نبديه،

3 - ظواهر تنفرد بها سورة المائدة

بجوار آراء السلف، عليهم رضوان الله. 3- ظواهر تنفرد بها سورة المائدة تنفرد سورة المائدة بجملة من الظواهر لا نكاد نجد شيئا منها في غيرها من السور، حتى في أطول سور القرآن وهي البقرة، ذلك أنها لم تتحدث عن الشرك، ولا عن المشركين، على النحو الذي ألف في القرآن: من محاجتهم، وتسفيه أحلامهم، وتحقير شركائهم وأنها لم تعرض، في قليل ولا في كثير، لما عهد في أكثر السور المدنية، التي نزلت قبلها، من الحث على القتال، والتحريض عليه، ورسم خطط النصر والظفر بأعداء الله المشركين، كما نراه في سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والأنفال، والتوبة، لأن المسلمين في ذلك الوقت، لم يكونوا بحاجة إلى شيء من هذا الحديث، لقد اندحر الشرك وصار المشركون في قهر وذلة ويأس. ولكن إذا كان المشركون قد انقضى عهدهم، والمسلمون قد علا شأنهم، فإنّ المسلمين في حاجة إلى إكمال التشريع المنظم لشئونهم، على وجه يضمن لهم دوام السعادة، ويحفظ لهم السيادة، ولهم بعد ذلك صلات خاصة بطوائف من أهل الكتاب، يعيشون في ذمتهم وعهدهم، ويخالطونهم في حياتهم ومعاملاتهم، ومن هنا نتبين أن المسلمين، في ذلك الوقت، كانوا في حاجة إلى ما يعنيهم في الجانبين: جانب أنفسهم، وجانب علاقتهم بأهل الكتاب، وبذلك دار كل ما تضمنته سورة المائدة، على أمرين بارزين: تشريع المسلمين في خاصة أنفسهم وفي معاملة من يخالطون، وإرشادات لطرق المحاجة والمناقشة، وبيان الحق في المزاعم التي كان يثيرها أهل الكتاب، مما يتصل بالعقائد والأحكام، وفي سياق هذه المحاجة، تعرض السورة لكثير من مواقف الماضين، من أسلاف أهل الكتاب، مع أنبيائهم تسلية للنبي (ص) من جهة، وتنديدا بهم عن طريق أسلافهم، من جهة أخرى. 4- تشريع القرآن نزل القرآن على رسول الله (ص) لينشئ به أمة وليقيم به دولة ولينظم به

5 - الوفاء بالعقود

مجتمعا، وليربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا وليربط ذلك كله برباط قوي يجمع متفرقه، ويؤلف أجزاءه ويشدها كلها إلى منزل هذا القرآن، وإلى خالق الناس الذي أنزل لهم هذا القرآن. ومن ثم نجد في كثير من سور القرآن تشريعا إلى جانب موعظة، وقصة إلى جانب فريضة، ونجد التشريع الذي ينظم العلاقات الاجتماعية والدولية، الى جانب التشريع الذي يحل ويحرم ألوانا من الطعام أو ألوانا من السلوك والأعمال. وهذه السورة، سورة المائدة، مثل لتلك السور التي تلتقي فيها التربية الوجدانية بالتربية الاجتماعية بتشريع الحلال والحرام في الطعام والزواج، بتشريع المعاملات الدولية في ما بين المسلمين وغير المسلمين، بتعليم بعض الشرائع التعبّدية ببيان الحدود والعقوبات في بعض الجرائم الاجتماعية بالمثل والموعظة والقصّة، بتصحيح العقيدة وتنقيتها من الأسطورة والخرافة في تناسق واتساق. 5- الوفاء بالعقود تبدأ سورة المائدة بنداء إلهي للمؤمنين أن يوفوا بالعقود فتقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الآية 1] . والعقود جمع عقد، وهو ما يلتزمه المرء لنفسه، أو لغيره، وأساسه قد يكون شيئا فطريا تدعو إليه الطبيعة، وقد يكون شيئا تكليفيا تدعو إليه العقيدة، وقد يكون شيئا عرفيا يدعو اليه الالتزام والتعاهد، والعقد العرفي، أي المتعارف عليه لدى عامة الناس، يكون بين الفرد والفرد، كما في البيع والزواج، والشركة، والوكالة، والكفالة، إلى آخر ما تعارفه الناس ويتعارفون عليه من وجوه الاتفاقات، والكلمة في الآية عامّة تأمر بالوفاء بالعقود، فتشمل العقود كلها على اختلاف أنواعها وأشكالها، وتدخل في العقود والمعاملات، والمعاهدات، بظاهر اللفظ، كما تدخل في إقامة الحدود، وتحريم المحرّمات، بوصفها داخلة في عقد الإسلام، بين الله ورسوله، والذين آمنوا بالله ورسوله. وعلى وجه العموم، فإننا نجد سياق السورة كله يدور حول العقود والمواثيق، في شتى صورها، حتى حوار الله والمسيح يوم القيامة، الوارد في نهاية السورة، نجده سؤالا عمّا عهد

6 - الظروف التي نزلت فيها السورة

به اليه، وعما إذا كان قد خالف عنه، كما زعم الزاعمون بعده. 6- الظروف التي نزلت فيها السورة نزلت سورة المائدة، بعد أن قلّمت أظفار المشركين، وانزوى الشرك في مخابئه المظلمة، وصار المسلمون في قوة ومنعة، كانوا بها أصحاب السلطان والصولة، في مكة وفي بيت الله الحرام، يحجون آمنين مطمئنين، وقد نكّست أعلام الشرك، وانطوت صفحة الإلحاد والضلال، وقد أتمّ الله نعمته على المسلمين بفتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجا. وسورة المائدة، وإن ابتدأ نزولها في السنة السابعة، الا أنّ هذا النزول قد استمر إلى السنة العاشرة، بدليل أن فيها آية من آخر ما نزل من القرآن وهي قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الآية 3] . روي أن رجلا من اليهود، جاء إلى عمر رضي الله عنه فقال: إن في كتابكم آية تقرأونها، لو علينا أنزلت، معشر اليهود، لاتخذنا اليوم الذي أنزلت فيه عيدا، قال عمر: وأي آية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [الآية 3] . فقال عمر: إني والله لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه، والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله (ص) عشية عرفة في يوم الجمعة، والحمد لله الذي جعله لنا عيدا. وقد روي أن النبي (ص) قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال: «يا أيّها النّاس إنّ سورة المائدة آخر ما نزل فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها» . 7- أفكار السورة وأحكامها انفردت سورة المائدة بعدّة مسائل، في أصول الدين وفروعه، وبتفصيل عدة أحكام، أجملت في غيرها إجمالا، ومن هذه الأحكام ما يأتي: 1- بيان إكمال الله تعالى للمؤمنين دينهم، الذي ارتضى لهم، بالقرآن وإتمام نعمته عليهم بالإسلام. 2- النهي عن سؤال النبي (ص) عن أشياء من شأنها أن تسوء المؤمنين إذا أبديت لهم، لما فيها من زيادة التكاليف.

3- بيان أن هذا الدين الكامل مبني على العلم اليقيني في الاعتقاد، والهداية في الأخلاق والأعمال، وأن التقليد باطل لا يقبله الله تعالى. 4- بيان أن أصول الدين الإلهي، على ألسنة الرسل كلهم، هي الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح، فمن أقامها كما أمرت الرسل من أي ملة، من ملل الرسل كاليهود والنصارى والصابئين، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم في الآخرة، ولا هم يحزنون. 5- وحدة الدين واختلاف شرائع الأنبياء ومناهجهم فيه. 6- هيمنة القرآن على الكتب الإلهية. 7- بيان عموم بعثة النبي (ص) وأمره بالتبليغ العام، وكونه لا يكلّف من حيث كونه رسولا إلا التبليغ، وأن من حجج رسالته أنه بيّن لأهل الكتاب كثيرا مما كانوا يخفون من كتبهم، وهو قسمان: قسم ضاع منهم قبل بعثة النبي (ص) ، وقسم كانوا يكتمونه اتّباعا لأهوائهم، مع وجوده في الكتاب كحكم رجم الزاني، ولولا أن محمدا الأمين (ص) مرسل من عند الله، لما علم شيئا من هذا ولا ذاك. 8- عصمة الرسول (ص) من أذى الناس، وهذا من دلائل نبوته (ص) ، فكم حاولوا قتله، فأعياهم وأعجزهم. 9- بيان أن الله أوجب على المؤمنين إصلاح أنفسهم، أفرادا وجماعات، وأنه لا يضرهم من ضل من الناس، إذا هم استقاموا على صراط الهداية. 10- تأكيد وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بما بينه الله تعالى من لعن الذين كفروا من بني إسرائيل، على لسان داود وعيسى بن مريم، وتعليله ذلك، بأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. 11- نفي الحرج من دين الإسلام. 12- تحريم الغلوّ في الدين، والتشدد فيه، ولو بتحريم الطيبات، وترك التمتّع بها. 13- قاعدة إباحة المحرّم للمضطر، ومنه أخذ الفقهاء قولهم: الضرورات تبيح المحظورات. 14- قاعدة التفاوت بين الخبيث والطيب، وكونهما لا يستويان في الحكم، كما أنهما لا يستويان في أنفسهما، وفيما يترتب عليهما.

15- تحريم الاعتداء على قوم، بسبب بغضهم وعداوتهم، لأنه يجب على المؤمنين أن يلتزموا الحق والعدل. 16- وجوب الشهادة بالقسط، والحكم بالعدل، والمساواة فيهما بين غير المسلمين كالمسلمين، ولو للأعداء على الأصدقاء، وتأكيد وجوب العدل في سائر الأحكام والأعمال. 17- الحياة شركة ذات أطراف، لا يجوز أن يجور فيها طرف على طرف. 18- التعاون على البرّ والتقوى، بما له من وسائل وسبل، حسب الزمان والمكان، ومنه تأليف الجمعيات الخيرية والعلمية، وتحريم التعاون على الإثم والعدوان. 19- بيان أن الله تعالى، جعل الكعبة البيت الحرام قياما للناس، أي يقوم عندها أمر دينهم ودنياهم، فعندها يؤدّى الحج والعمرة، وعندها يكون الإحرام، والأمان، والسلام، ولها يتوجه المسلمون في الصلاة. فهي رمز للوحدة والأخوّة والإيمان. 20- النهي عن موالاة المؤمنين للكافرين. 21- تفصيل أحكام الوضوء والغسل والتيمّم، مع بيان أن الله تعالى يريد أن يطهّر الناس، ويزكيهم بما شرع لهم، من أحكام الطهارة وغيرها. 22- تفصيل أحكام الطعام، وبيان حرامه وحلاله. وما حرم منه لكونه خبيثا في ذاته كالميتة وما في معناها، والخنزير، وما حرم لسبب ديني، كالذي يذبح لأصنام. 23- تحريم الخمر، وهو كل مسكر، وتحريم الميسر، وهو القمار. 24- بيان محظورات الإحرام في الحج. 25- تفصيل أحكام الصيد للمحرمين وغيرهم، في أوائل السورة وأواخرها. 26- حدود المحاربين الذين يفسدون في الأرض، ويخرجون على أئمة العدل، وحد السرقة وما يتعلق بالحد، كسقوطه بالتوبة الصادقة. 27- أحكام الأيمان وكفارتها. 28- تأكيد أمر الوصيّة قبل الموت، وأحكام الشهادة على الوصية. 29- الأمر بالتقوى في عدة آيات من السورة.

8 - النداءات الإلهية للمؤمنين

30- بيان تفويض أمر الجزاء في الآخرة إلى الله تعالى وحده. 8- النداءات الإلهية للمؤمنين اشتملت سورة المائدة على ستة عشر نداء وجهت للمؤمنين خاصة، وكل نداء منها يعدّ قانونا ينظم ناحية من نواحي الحياة عند المسلمين تختص بأنفسهم، وتختص بعلاقتهم بأهل الكتاب. فالنداء الأول: يطلب الوفاء بالعقود: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الآية 1] . والنداء الثاني: يطلب المحافظة على شعائر الله وعدم إحلالها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [الآية 2] . والنداء الثالث: يطلب الطهارة حين القيام إلى الصلاة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [الآية 6] . والنداء الرابع: يطلب القوامية لله والشهادة بالعدل ويحذر من الظلم. والنداء الخامس: يطلب تذكر نعمة الله على المؤمنين بكفّ أيدي الأعداء عنهم. والنداء السادس: يدعو الى تقوى الله وابتغاء الوسيلة إليه والجهاد في سبيله. والنداء السابع: يحذّر من اتخاذ الأعداء أولياء من دون المؤمنين. والنداء الثامن: يلفت نظر المؤمنين إلى أن المسارعة في موالاة الأعداء ردة عن الدين. والنداء التاسع: يدعو إلى شدة الحذر من موالاة الأعداء. والنداء العاشر: يذكر تحريم الطيبات التي أحلها الله. والنداء الحادي عشر: يحرّم الخمر والميسر. والنداءان الثاني عشر والثالث عشر: يتعلّقان بتحريم قتل الصيد في حالة الإحرام. والنداء الرابع عشر: يتعلق بالنهي عن سؤال ما ترك الله بيان حكمه توسعة على عباده: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [الآية 101] . والنداء الخامس عشر: يتعلّق بتحديد المسؤولية التي يحملها المؤمنون في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والنداء السادس عشر: يتعلّق بكيفية الشهادة على الوصيّة في حالة السفر.

الأمر بالتقوى:

وجملة هذه النداءات تربية عملية للمؤمنين، وبيان للطريق السوي التي يجب اتباعها في الشعائر والعبادات والمعاملات والمعاهدات. والنداء للمؤمنين بصفة الايمان تذكير لهم بأن عليهم أن يعملوا بمقتضى هذا الإيمان، وقوامه التصديق الباطني بوجود الله والتزام أوامره واجتناب نواهيه. الأمر بالتقوى: حثّ القرآن على تقوى الله وطاعته وذيّل كثيرا من أحكامه ببيان شأن التقوى، وأهميّتها، وفي النداء السادس من سورة المائدة حثّ على تقوى الله والتماس الأسباب المساعدة على هذه التقوى فيقول سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) . وتقوى الله هي تقدير العظمة الإلهية وامتلاء النفس بها امتلاء يدفع المؤمن إلى المسارعة وشدة الحرص على تحقيق أوامر الله وتشريعاته. والتقوى تدفع المؤمن إلى إنعام النظر وقوّة التفكير في ملكوت السماوات والأرض لمعرفة أسرار الله في كونه، وسنّته في خلقه، ثم الاتجاه إلى هذه الأسرار والعمل على إظهار رحمة الله فيها بعباده والوقوف على السنن التي ربط بها بين الأسباب والمسبّبات بين السعادة وأسبابها والشقاء وأسبابه، بين العلم وأسبابه والغنى وأسبابه والعزة وأسبابها ... وهكذا. وبذلك ترى أن التقوى هي ذلك المعنى القلبي الذي تفنى به الإرادات الإنسانية في ملكوت العظمة الإلهية، وهي الباعث على امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وهي المحقّقة للإحسان في طاعة الله ورسوله، فهي المبدأ، وهي المنتهى، وهي الأولى، وهي الآخرة. 9- أهل الكتاب أرسل الله محمدا (ص) على حين فترة من الرسل، بعد أن درست معالم الحق والفضيلة، وبعد أن ضيّع أهل الكتاب بعض تعاليمه، وأخفوا بعضه ونقضوا ميثاقهم مع ربهم. وقد واجهتهم سورة المائدة بأخطائهم، فوصفتهم بالتعصب المقيت، والغلوّ في الدين، واتباعهم أهواء من ضل قبلهم من الوثنيين وغيرهم، وادعائهم أنهم أبناء الله

وأحباؤه. وقد بيّن الله لهم حقيقة الأمر، وهي أنّهم بشر ممن خلق الله، لا مزية لهم على سائر البشر، في أنفسهم وذواتهم، إنما يمتاز بعضهم على بعض بالعلوم الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والأعمال الصالحة، لا بالنسب والانتماء، إلى الأنبياء والصالحين، وصدق القائل: كن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول ها أنذا ليس الفتى من يقول كان أبي وقد وجّه الله الخطاب لأهل الكتاب عامة، بأن الرسول (ص) ، قد جاء ليكشف لهم عن كثير مما كانوا يخفونه، من كتاب الله الذي استحفظوا عليه، فنقضوا عهدهم مع الله فيه، ويعفو عن كثير مما أثقلهم به الله من تكاليف، وحرمه عليهم من طيبات، عقابا لهم على مخالفتهم وانحرافاتهم. فالفرصة إذن سانحة ليتداركوا ما فات ولينجوا مما كتب عليهم في الدنيا والآخرة عقابا لهم على الخلاف والأخلاف: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) . وتوالى نداء القرآن لأهل الكتاب ليقطع حجّتهم ومعذرتهم أن يقولوا: إن فترة كبيرة مرت عليهم، لم يأتهم فيها بشير يقربهم إلى الله، أو نذير يخوفهم الانحراف، فها هو ذا بشير ونذير: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) . وقد وصفت سورة المائدة التوراة والإنجيل أحسن وصف، وذكرت من أخبار التوراة قصّة ابني آدم بالحق، ومن أحكامها عقوبات القتل وإتلاف الأعضاء والجروح ومن أخبار الإنجيل والمسيح، ما هو حجّة على الفريقين وبينت أن الكتابين أنزلا نورا وهدى للناس وأنهم لو كانوا أقاموهما لكانوا في أحسن حال، ولسارعوا إلى الإيمان

10 - اليهود

بما أنزله الله على خاتم رسله مصدقا لأصلهما، ولكنهم اتخذوا الإسلام هزوا ولعبا، في جملته، وفي عبادته، ووالوا عليه المناصبين له من أعدائه، فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم. 10- اليهود ناقشت سورة المائدة اليهود خاصة، فذكّرتهم بنعم الله عليهم وبميثاق الله مع نقباء بني إسرائيل، النائبين عنهم، فما الذي كان من بني إسرائيل؟ لقد نقضوا ميثاقهم مع الله. قتلوا أنبياءهم بغير حق، وبيّتوا الصلب والقتل لعيسى بن مريم، وحرفوا كلمات التوراة عن معانيها وعن مواضع الاستشهاد بها، واشتروا بهذا التحريف ثمنا قليلا من عرض هذه الحياة الدنيا، ونسوا بعض شرائع التوراة وأهملوها، وخانوا محمدا رسول الله وأحد الرسل الذين أخذ عليهم الميثاق أن ينصروهم، فباءوا بالطرد من رحمة الله وقست قلوبهم، ببعدهم عن هذه الرحمة. وإنّ من صفات اليهود الغالبة عليهم الخيانة والمكر، وقول الإثم والمبالغة في سماع الكذب وأكل السّحت، والسعي بالفساد في الأرض، في إيقاد نار الفتن والحروب، وقد قتلوا رسل الله إليهم، وتمرّدوا على موسى إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة وقتال الجبارين، فعاقبهم الله بالتيه في الأرض، وأنهم كانوا أشد الناس عداوة للمؤمنين فعاقبهم الله على ذلك كله باللعن على ألسنة الرسل، وبالغضب والمسخ، وهذه الصفات التي غلبت عليهم في زمن البعثة، وقبل زمن البعثة تثبتها تواريخهم وتواريخ غيرهم. ومن المعلوم أنها لم تكن عامة فيهم ولا شاملة لجميع أفرادهم ولذلك قال سبحانه: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ [الآية 66] . 11- النصارى ممّا جاء في النصارى خاصة، أنهم نسوا، كاليهود، حظا مما ذكروا به، وأنّهم قالوا إن الله هو المسيح بن مريم، وقالوا إن الله ثالث ثلاثة، وقد ردّ الله عليهم هذه العقيدة بالأدلّة العقلية وببراءة المسيح منها ومن منتحليها يوم القيامة، وبين لهم حقيقة المسيح وأنه عبد الله ورسوله وروح منه. ولقد أخذ

القرآن من عند الله

الله الميثاق عليهم، أن يلتزموا بتعاليم رسولهم، ولكنهم نسوا جانبا من تعاليمه، وأهملوا جانب التوحيد، وهو أساس العقيدة، وعند هذا الانحراف كان الخلاف بين طوائف النصارى، التي لا تكاد تعد. إذ أنّ هناك فرقا كثيرة صغيرة، داخل كل فرقة من الفرق المعلومة الكبيرة: الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت والموارنة اليوم، ومن قبل كان اليعقوبيون والملكانيون والنساطرة. وقد اشتدت العداوة بين هذه الفرق. وشهدت المسيحية آثارها منذ القرن الأول للميلاد، وكانت على أشدها بين الملكانية واليعاقبة والنساطرة، وهي اليوم على أشدّها بين الفرق القائمة. فلا يكاد الإنسان يتصور العداء الذي بين الكاثوليك والبروتستانت، أو بينهم وبين الأرثوذكس، أو بين الموارنة والبروتستانت، أو سواهم قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) . وقد بينت سورة المائدة أن اليهود أشد الناس عداوة للمؤمنين، وأن النصارى أقرب الناس مودة إليهم: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) . القرآن من عند الله إنّ جملة الآيات الواردة في أهل الكتاب تشهد لنفسها، أنّها من عند الله تعالى لا من عند محمد بن عبد الله، العربي الأمي، الذي لم يقرأ شيئا من الكتب، على أن تلك الآيات، ليست موافقة لها ولهم، موافقة الناقل للمنقول عنه، وإنما هي، فوق ذلك، تحكم لهم، وعليهم، وفيهم، وفي كتبهم، حكم المهيمن السميع العليم. 12- عدالة أحكام السورة الخاصة بأهل الكتاب لو كان هذا القرآن من وضع البشر، لشرع معاملة أهل الكتاب الموصوفين بما ذكر، ولا سيما الذين ناصبوا الإسلام العداء عند ظهوره، بأشدّ الأحكام وأقساها. ولكنه تنزيل من حكيم حميد، أمر في هذه السورة بمعاملتهم بالعدل،

والحكم بينهم بالقسط، وحكم بحلّ مؤاكلتهم، وتزوّج نسائهم وقبول شهادتهم، والعفو والصفح عنهم. وهذه الأحكام التي شرّعت هذه المعاملة الفضلى لهم، نزلت بعد إظهار اليهود للمسلمين منتهى العداوة والغدر. ولكن السورة، تضّمنت تأليف قلوبهم، واكتساب مودّتهم. وقد ختم الله سورة المائدة، بذكر الجزاء في الآخرة، وسؤال الرسل عن جواب أممهم لهم. ثم براءة المسيح ممن جعله إلها، وتفويضه الأمر كله لله الحق، فهو سبحانه المتفرد بالعلم، والقدرة، والألوهية. لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"المائدة"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المائدة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة المائدة بعد سورة الفتح، وكان نزول سورة الفتح بعد صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، فيكون نزول سورة المائدة فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لأنه ذكر فيها حديث المائدة التي أنزلت من السماء على حواريّي عيسى عليه السلام، وتبلغ آياتها عشرين ومائة آية. الغرض منها وترتيبها نزلت سورة المائدة بعد صلح الحديبية، وكان النبي (ص) قد قصد مكة للعمرة هو وأصحابه، فصدتهم قريش عن عمرتهم، وجرت بين الفريقين حوادث انتهت بصلح رضيه النبي (ص) ، وكان كثير من أصحابه يرى أن فيه غبنا لهم، لأنه جاء على الشروط التي أرادتها قريش، وهي وضع الحرب بين المسلمين وقريش أربع سنين، وأن من جاء المسلمين من قريش يردونه، ومن جاء قريشا من المسلمين لا يلزمون برده، أن يرجع المسلمون من غير عمرة هذا العام ويقضوها في العام المقبل، وأن من أراد أن يدخل في عهد المسلمين من غير قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه. فنزلت هذه السورة وفي أولها الأمر بالوفاء بالعقود، ليفوا بما للمشركين في

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز. المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

أحكام العقود والمناسك الآيات [1 - 5]

ذلك العقد وإن كان فيه غبن لهم، ويقوموا بعمرة القضاء ولا يتثاقلوا عنها تهاونا بما استفادوه منه، وقد أطلقت العقود في ذلك إطلاقا لتشمل هذا العقد وغيره من العقود، سواء أكانت بين بعض العباد وبعض، أم كانت بين الله والعباد، ثم ذكر فيها ما أوقعه الله بالأولين من أهل الكتاب وغيرهم لنقضهم عهودهم، ليحذر المسلمين أن يصيبهم إذا نقضوا عهودهم مثل ما أصابهم، وقد جرّ ذلك إلى الكلام على نقض المنافقين واليهود لعهودهم مع النبي (ص) ، وما كان من موالاة المنافقين لليهود وإيثارهم عهودهم معهم على عهودهم مع المسلمين. وقد جاء، بعد الأمر بالوفاء بالعقود في أول السورة، بيان حكم الذبائح والصيد في الحرم وتحريم التعرض لمن يؤمّه للنسك، وما إلى هذا من أحكام المناسك، وقد جاء معها قليل من الأحكام العملية الأخرى، فلما انتهى من الكلام على أهل الكتاب والمنافقين عاد إلى الكلام على تلك الأحكام العملية، وفصّل فيها بعض ما أجمله في أحكام المناسك، ليبين للمسلمين ما يحتاجون إليه من ذلك في عمرة القضاء، وليعلموا الفرق في ذلك بين الجاهلية والإسلام، ثم ختمت السورة بذكر أحوال يوم القيامة ليبين ما أعد فيها للذين يفون بعهودهم، ويتناسب في هذا بدؤها وختامها. وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة النساء لأنها تشبهها في الطول، وفيما جاء فيها من الكلام على أهل الكتاب والمنافقين، كما تشبهها فيما جاء فيها من الأحكام العملية. أحكام العقود والمناسك الآيات [1- 5] قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) . فأمرهم بالوفاء بالعقود، وأحل لهم بهيمة الأنعام وهم حرم إلا ما يتلى عليهم، وحرّم عليهم الصيد وهم حرم، ثم نهاهم أن يحلوا شعائره أو الشهر الحرام أو الهدى أو القلائد أو الحجاج والمعتمرين، وأحل لهم ما حرّمه من الصيد إذا أحلوا، ونهاهم أن يحملهم صدّ المشركين لهم عن العمرة

أحكام الوضوء والتيمم [الآية 6]

على الاعتداء عليهم، ثم فصل ما استثناه من بهيمة الأنعام، فحرم الميتة وغيرها إلى الاستقسام بالأزلام وهو الميسر، وكانوا، إذا اجتمعوا في الحرم، يهلون بذبائحهم للنّصب، ثم يلطخونها بالدماء ويضعون اللحوم عليها، ثم ينحرون جزورا ويسهمون عليها بالأزلام، ثم ذكر لهم أن الكفار قد يئسوا من التأثير عليهم في دينهم، ونهاهم أن يخشوهم إذا خالفوهم في مناسكهم، وذكر لهم أنه أكمل لهم دينهم، ورضي لهم الإسلام دينا، فيجب عليهم أن يرضوا ما يرضاه لهم، ولا يخشوا فيه لومة لائم. ثم ذكر أنهم سألوا النبي (ص) قولا جامعا في ما أحل لهم من ذلك، فذكر أنه أحل لهم الطيبات وصيد ما علموا من جوارح الطير والسباع، وأن ذبائح أهل الكتاب حلّ لهم، كما أن ذبائحهم حلّ لهم، وأنه أحل لهم المحصنات من المؤمنات ومن أهل الكتاب، إذا أعطوهن مهورهن، محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان، وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) . أحكام الوضوء والتيمم [الآية 6] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الآية 6] . فذكر حكم الصلاة بعد حكم الحج والعمرة، لأنهما ركنان من أركان الإسلام الخمسة، فأمرهم بالوضوء أو التيمم عند القيام للصلاة، ثم ذكر حكمة الوضوء والتيمم فقال: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) . التحذير من نقض العقود [الآيات 7- 11] ثم قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) . فعاد إلى المقصود الأول من السورة، وأمرهم أن يذكروا نعمته عليهم بظهورهم على المشركين، وأن يفوا بميثاقه عليهم، وأن يكونوا قوّامين، له شهداء بالعدل، ونهاهم أن تحملهم عداوتهم للمشركين على نقض ميثاقهم، ثم وعدهم على

الاعتبار بناقضي العقود من الأولين [الآيات 12 - 40]

ذلك بالمغفرة والأجر، وأوعد الكفار بأنهم من أصحاب الجحيم، ثم أمرهم أن يذكروا نعمته عليهم إذ كانوا في مكة مغلوبين للمشركين، فكف أيديهم عنهم وجعلهم يرضون بصلحهم لشعورهم بقوتهم، ثم أمرهم أن يتقوه في ذلك ويتوكلوا عليه وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) . الاعتبار بناقضي العقود من الأولين [الآيات 12- 40] ثم قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 12] ، فذكر أنه أخذ الميثاق عليهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان برسله الذين يبعثهم إليهم. فلما نقضوا ذلك الميثاق، أوقع عليهم لعنته في الأرض، فأذلهم وجعل قلوبهم قاسية لا تبالي بشيء، فحرفوا كتبهم ونسوا بعض ما أنزل إليهم، ولا يزال أثر تلك الخيانة فيهم بما فعلوه في عقودهم مع النبي (ص) . ثم ذكر أنه أخذ على النصارى مثل ذلك العهد فلم يفوا به أيضا، فأوقع بينهم العداوة والبغضاء باختلافهم في دينهم، بعد نسيانهم بعض ما أنزل إليهم. ثم ذكر أنه أرسل النبي (ص) إلى الفريقين ليبين لهم ما أخفوه من كتبهم، وأنزل عليهم كتابا يخرجهم من الظلمات إلى النور في أمر دينهم، ثم أظهر ما وقع فيه كل منهما بنقض عهودهم، من قول النصارى: إن الله هو المسيح بن مريم، مع أنه إن أراد أن يهلكه وأمه ومن في الأرض جميعا لم يملك أحد منه شيئا، ومن قول اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه، مع أنه يعذبهم بذنوبهم، ولا فرق عنده بينهم وبين غيرهم، ثم ذكر أنه أرسل إليهم النبي (ص) بعد انقطاع الرسل عنهم، ليبين لهم ما أحدثوه بعدهم، ويقطع بذلك العذر عنهم. ثم ذكر ما كان من موسى (ع) حينما أمر قومه أن يذكروا نعمته عليهم، وأن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها لهم، ليقوموا بما عاهدوا الله عليه من محاربة أهلها، فأبوا أن يحاربوهم خوفا منهم، ثم ذكر عقابه لهم على ذلك بتحريمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض. ثم ذكر ما كان من أمر هابيل وقابيل

نقض المنافقين واليهود لعقودهم [الآيات 41 - 86]

ابني آدم عليه السلام، وقد اختلفا في أمر من الأمور، فقدّم كل منهما قربانا إلى الله ليحكم بينهما فيه، فتقبّل الله قربان هابيل دون قابيل، فلم يرض قابيل بذلك وهدد أخاه بالقتل، ولم يخف الله في ما عهد به إليهم من تحريم ذلك عليهم، وكف هابيل عن قتله خوفا من الله تعالى. ثم ذكر أن قابيل قتل بعد ذلك أخاه فأصبح من الخاسرين، وأدركه من الندم ما ساءت به حياته بعد أخيه. ثم عقّب على هذا بأنه كتب من أجله على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها بإقامة القصاص فكأنما أحيا الناس جميعا، فنقضوا أيضا ما كتبه عليهم من ذلك، وأسرفوا في الأرض بالقتل وقطع الطريق والسرقة وغيرها، ثم ذكر أن جزاء الذين يبغون في الأرض بهذا الفساد أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض، واستثنى منهم الذين يتوبون قبل القدرة عليهم، وأمر المؤمنين بالتقوى وابتغاء الوسيلة إليه وجهاد أولئك المفسدين، وأنذرهم بأن لهم من عذاب القيامة ما لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به منه ما تقبّل منهم، ثم ذكر أن جزاء السرقة من ذلك الفساد قطع الأيدي، وأن من تاب يقبل توبته ولا يعاقبه، لأنه المتفرد بالملك في السماوات والأرض يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) . نقض المنافقين واليهود لعقودهم [الآيات 41- 86] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الآية 41] . فنهى النبي (ص) أن يحزن لمسارعة المنافقين واليهود في نقض عهودهم معه، وذكر من أمر اليهود في ذلك أنهم كانوا يجلسون إليه لكي يسمعوا منه، ويكذبوا عليه، ويتجسسوا لمن لا يحضر مجالسه من رؤسائهم، وأن رؤساءهم كانوا يحذرونهم، إذا تحاكموا إليه، أن يقبلوا منه ما يخالف ما حرفوه من أحكام التوراة في جاهليتهم، وكانوا قد حرفوا أحكامها في القصاص، وعدلوا عنها بالرشوة إلى أحكام جائرة ظالمة، فجعلوا دية

القتيل من بني قريظة نصف دية القتيل من بني النّضير، ثم خيره في الحكم بينهم والإعراض عنهم، وأمره عند اختيار الحكم بينهم أن يحكم بالعدل الذي أنزله وهو القصاص، ثم عجّبه من أنهم يحكّمونه وعندهم التوراة فيها حكمه في القتل، ثم يتولّون عنه بعد التحكيم إذا علموا أنه سيحكم بينهم بذلك لا بما حرفوه في جاهليتهم، ثم ذكر أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور من الأحكام التي لم يحرفوها، وأن أسلافهم كانوا يحكمون بها لا بتلك الأحكام التي تواضعوا عليها ونهاهم أن يخشوا الناس في الرجوع إلى حكم التوراة في القصاص، وأمرهم أن يخشوه وحده ولا يشتروا بآياته تلك الرّشوة الزائلة، ثم ذكر ما جاء فيها من القصاص في النفس والعين والأنف والأذن والسنّ والجروح، وأن عيسى، عليه السلام، جاء بعد ذلك مصدقا لأحكام التوراة، وأنه أنزل عليه الإنجيل مصدقا لها أيضا، وأنه أنزل القرآن بعد ذلك مصدقا لأحكام التوراة والإنجيل ومهيمنا عليهما. وقد توافقت الكتب الثلاثة على القصاص، فيجب الحكم بينهم به، ولا يصح اتباع أهوائهم في الحكم، ثم ذكر أنه جعل لكل من اليهود والنصارى والمسلمين شرعة ومنهاجا، وله في اختلاف تلك الشرائع حكمة الابتلاء فيها، وقد جعل شرعتنا خير الشرائع التي أنزلها، ثم حذر النبي (ص) من اليهود أن يفتنوه عما جاء فيها من القصاص، وعجّب من أنهم يبغون حكم الجاهلية الذي يفرق بين الدماء وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) . ثم نهى المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء لنقضهم عهودهم، ولإيثارهم أعداءهم منهم عليهم، ثم ذكر أن المنافقين يتمسكون بحلفهم ويقولون نخشى أن تصيبنا دائرة من هزيمة أو نحوها فنحتاج إليهم، وكانوا أهل ثروة ومال يقرضونه بالربا وغيره، ثم ذكر أنه سيفتح على المؤمنين فيندم المنافقون على نفاقهم، ويقول المؤمنون متعجبين من أمرهم أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) . ثم ذكر أن من يرتد من أولئك المنافقين عن دينه، فسوف يأتي بقوم خير منهم يجاهدون في سبيله، وأنه يجب أن يكون وليهم الله ورسوله والمؤمنون لينصرهم على أعدائهم. ثم عاد إلى نهي المؤمنين عن موالاة أهل الكتاب والمنافقين ليذكر سببا آخر

في ذلك، وهو أنهم يتخذون دينهم هزوا ولعبا، ويستهزئون بصلاتهم عند قيامهم بها، ثم أمر النبي (ص) أن يخبر أهل الكتاب بأنهم لا ينقمون منهم إلا أنهم يؤمنون بسائر الكتب المنزلة، وأن أكثرهم فاسقون، وأن يخبرهم بأن هناك من هو شرّ مثوبة عند الله ممن يظنونهم كذلك ويستهزئون بهم، وهو من لعنه الله وجعل منهم من هو على غرائز القردة والخنازير في الشره والطمع، ثم ذكر أن منهم من إذا جاءوا المؤمنين قالوا آمنا، وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به، وأن كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكل السّحت، وقد كان على ربّانيّيهم وأحبارهم أن ينهوهم عن ذلك، ولكنهم تركوه طمعا في ما يأخذونه منهم، ثم ذكر أنهم كانوا، إذا طلب منهم الإنفاق في سبيله، قالوا إن الإله الذي يستقرض شيئا من عباده فقير يده مغلولة، يتهكمون بذلك ويتعللون به في كف أيديهم عن الإنفاق، ويقولون على الله هذا القول الشنيع، وهو الغني المبسوط اليدين بالعطاء، ومن يكون هذا شأنه لا ينتظر منه إلا أن يزيده ما ينزل من القرآن طغيانا وكفرا، ثم ذكر أنه ألقى بينهم العداوة إلى يوم القيامة بسبب تكالبهم على الدنيا، فكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها بتفرقهم وتخاصمهم، ثم ذكر أنهم، لو آمنوا وأقاموا حكم التوراة والإنجيل في القصاص وغيره، بدل أحكام الجاهلية، لكفّر عنهم سيئاتهم، ورزقهم سعادة الآخرة والدنيا، وأن منهم من اقتصد في أمره وحافظ على عهده، ولم ينقضه كما نقضه كثير منهم. ثم أمر النبي (ص) أن يمضي في تبليغ رسالته إليهم، ووعده بعصمته وحفظه منهم، ثم فصل ما يبلغه بأن يقول لهم إنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا عهد التوراة والإنجيل والقرآن في القصاص وغيره من الأحكام، وأخبره بأن تبليغه إليهم ذلك سيزيدهم طغيانا وكفرا، ونهاه أن يحزن على قوم كافرين مثلهم، وذكر ما أعده لمن آمن منهم ومن غيرهم ليقلعوا عن كفرهم، ثم ذكر، من خروجهم على عهد التوراة والإنجيل، أنه أخذ على بني إسرائيل ميثاقهم أن يؤمنوا برسله، فكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذّبوا بعضهم وقتلوا بعضهم، وأن النصارى كفروا بعد إيمانهم، فقال بعضهم إن الله هو المسيح بن مريم،

عود إلى ما سبق من الأحكام [الآيات 87 - 108]

مع أنه قد أمرهم أن يعبدوا الله ربه وربهم، وقال بعضهم إن الله ثالث ثلاثة، مع أنه ما من إله إلا إله واحد، ثم رد عليهم جميعا بأن المسيح لم يكن إلا رسولا، وبأن أمه لم تكن إلا صدّيقة، وكانا يأكلان الطعام كما يأكل سائر البشر، ثم وبخهم على أن يعبدوا من دونه ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، ونهاهم أن يغلوا في أمر المسيح، وأن يتّبعوا في ذلك من ضل قبلهم فقال بالتثليث ونحوه مما يقولون به. ثم ذكر أنه لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، وأن كثيرا منهم كانوا لا يتناهون عن المنكر فيما بينهم، وأن كثيرا منهم يتولون المشركين على المؤمنين، ولو كانوا يؤمنون بالله ونبيهم موسى عليه السلام ما اتخذوهم أولياء، ثم ذكر أن اليهود والمشركين الذين يوالي بعضهم بعضا أشد الناس عداوة للمؤمنين، وأن النصارى أقرب منهم مودة لهم، لأن منهم قسيسين ورهبانا قد أقبلوا على العبادة ولم يحرصوا على الدنيا حرص اليهود والمشركين، ومنهم من إذا سمعوا ما أنزل على النبي (ص) تفيض أعينهم من الدمع، ويؤمنون بأنه النبي الذي بشّروا به في التوراة والإنجيل، فكان جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) . عود إلى ما سبق من الأحكام [الآيات 87- 108] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) فنهاهم أن يحرموا شيئا من الطيبات التي أحلها لهم فيما سبق، وأمرهم أن يأكلوا مما رزقهم حلالا طيبا، ثم ذكر لهم أنه لا يؤاخذهم باللغو في أيمانهم، ولكن يؤاخذهم بما قصدوه منها، وبين لهم كفارته، ثم حرم عليهم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وذكر أن الشيطان يريد أن يوقع بينهم العداوة في الخمر والميسر، ثم ذكر أنه لا حرج عليهم فيما طعموا إذا ما اتقوه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم ذكر أنه سيبلوهم في حال الإحرام بشيء من الصيد تناله أيديهم ورماحهم، وأعاد ذكر تحريمه ليبين حكم من يقتله

الخاتمة [الآيات 109 - 120]

متعمدا، وأن الذي يحرم صيد البر لا صيد البحر، ثم ذكر أنه جعل البيت الحرام أمنا للناس فلا يحل القتال فيه، وكذلك جعل الشهر الحرام أمنا لهم، وكذلك جعل الهدي والقلائد لتسير إلى البيت آمنة، ثم ذكر أنه شرع لهم ذلك بواسع علمه وحكمته، وهددهم على مخالفة ذلك بشديد عقابه، وذكر أنه ليس على الرسول (ص) إلا تبليغه لهم. ثم ذكر أنه لا يستوي الخبيث الذي حرمه عليهم، والطيب الذي أحله لهم، ولو كان في كثرة الخبيث ما يدعو إلى الإعجاب به، ثم نهاهم أن يسألوا عن أشياء من ذلك يريدون التشديد فيها، لأنه قد سألها قوم من قبلهم ثم كفروا بها ولم يقووا عليها. ثم أبطل ما كانوا يهدونه للأصنام، فذكر أنه ما جعل لهم من بحيرة ولا سائبة ولا غيرهما من هدايا الأصنام، وأنهم يفترون عليه في نسبة تشريعها إليه، وأنهم يقلدون فيها آباءهم ولو كانوا لا يعلمون شيئا ولا يهتدون، ثم أمر المؤمنين أن يعرضوا عنهم لأنهم لا يضرّونهم بشيء من ضلالهم، وذكر أن مرجعهم إليه فينبئهم بأعمالهم ثم ذكر أن أحدهم إذا كان مسافرا وحضره الموت، أشهد على وصيته اثنين من المسلمين، فإذا لم يجدهما أشهد عليها اثنين من غيرهم، ثم أكد في الشهادة على الوصية بما أكد به ليأتوا بها على وجهها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) . الخاتمة [الآيات 109- 120] ثم قال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) . فذكر أنه يجمع رسله يوم القيامة ليسألهم عما فعله أتباعهم فيما عهدوا به إليهم، فيجيبوا بأنهم لا يعلمون ما أحدثوه فيها بعد وفاتهم، لأنهم غابوا عنهم ولا يعلم الغيب غيره، ثم خصّ النصارى بذكر ما أحدثوه في عهدهم لأنهم كانوا أشد انحرافا من غيرهم، فذكر أنه، في يوم القيامة، يذكر لعيسى عليه السلام ما أنعم به عليه وعلى والدته، وأنه علّمه الكتاب والحكمة إلخ، ومما ذكره في هذا حديث المائدة التي سميت هذه السورة باسمها، ثم ذكر أنه يسأله بعد

هذا أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الآية 116] وأنه يجيبه بتنزيهه عن أن يكون له شريك، وبأنه ليس له أن يقول مثل هذا الذي نسبه أتباعه إليه، وبأنه إنما أمرهم بعبادة الله ربه وربهم، وكان عليهم شهيدا بذلك في حياته، فلما توفاه كان هو الشهيد عليهم، ثم فوض الأمر إليه في تعذيبهم والمغفرة لهم إظهارا لكمال العبودية، وإن كان الشرك لا يغفر لأصحابه. ثم ذكر أنه يقول لرسله بعد ذلك هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الآية 119] وهم الذين صدقوا في عهودهم ولم يغيروا فيها بعد وفاة رسلهم، وذكر أن لهم على ذلك جنات يتمتعون فيها برضاه عنهم ورضاهم عنه، وأن ذلك هو الفوز العظيم لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"المائدة"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المائدة» «1» وقد تقدم وجه في مناسبتها. أقول: هذه السورة أيضا شارحة لبقية مجملات سورة البقرة، فإن آية الأطعمة والذبائح فيها أبسط منها في البقرة «2» . وكذا ما أخرجه الكفار تبعا لآبائهم في البقرة موجز «3» وفي هذه السورة مطنب أبلغ إطناب في قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ [الآية 103] . وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى «4» . وهنا ذكر أول من سن القتل، والسبب الذي لأجله وقع، وقال تعالى مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . قال تعالى هنا: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [الآية 3] الى وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [الآية 5] . أمّا في البقرة فلم يكن هذا التفصيل، إذ قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة/ 172] . ثم قال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة/ 173] . [.....] (3) . في البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [البقرة/ 168] . (4) . من دلائل الترتيب أنه قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى في [البقرة/ 178] . ثم زاده بيانا في السورة نفسها فقال: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة/ 179] . ثم قال تعالى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [الآية 194] . ثم ذكر قتل الخطأ والنسيان في النساء فقال تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء/ 92] . وزاد تفصيل القصاص فيما ساقه المؤلف في الآية 32 من المائدة. ثم فصل أحكام القصاص في قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الآية 45] . وهذا تدرج بديع يدل على إحكام الترتيب والتلاحم.

[الآية 32] . وذلك أبسط من قوله تعالى في [البقرة/ 179] : وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ. وفي البقرة: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [البقرة/ 58] . وذكر في قصتها هنا: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الآية 54] . وفي البقرة قصة الأيمان موجزة، وزاد هنا بسطا بذكر الكفارة «1» . وفي البقرة، قال في الخمر والميسر: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [البقرة/ 219] . وزاد هنا في هذه السورة ذمها، وصرح بتحريمها «2» . وفي سورة المائدة من الاعتلاق بسورة الفاتحة: بيان المغضوب عليهم والضالين في قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [الآية 60] . وقوله تعالى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) . وأما اعتلاقها بسورة النساء، فقد ظهر لي فيه وجه بديع جدا. وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحة وضمنية. فالصريحة: عقود الأنكحة، وعقد الصداق، وعقد الحلف، في قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ [النساء/ 33] . وعقد الأيمان في هذه الآية وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ [النساء/ 90] . وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ [النساء/ 92] . والضمنية: عقد الوصية، والوديعة، والوكالة، والعارية، والإجارة، وغير ذلك من الداخل في عموم قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء/ 58] . فناسب أن يعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود.

_ (1) . قال هنا: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ [الآية 89] . وقال في البقرة: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) . (2) . في هذه السورة قال تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.

فكأنه قيل (في المائدة) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الآية 1] التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت. فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط. ووجه آخر في تقديم سورة النساء، وتأخير سورة المائدة، وهو: أن تلك أولها: يا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء/ 1] وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بخطاب المكي، وتقديم العام «1» وشبه المكي أنسب. ثم إن هاتين السورتين (النساء والمائدة) ، في التقديم والاتحاد، نظير البقرة وآل عمران، فتلكما في تقرير الأصول، من الوحدانية، والكتاب، والنبوة، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية. وقد ختمت المائدة بصفة القدرة، كما افتتحت النساء بذلك «2» . وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء «3» فكأنهما سورة واحدة، اشتملت على الأحكام من المبتدأ إلى المنتهى. ولما وقع في سورة النساء: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ [النساء/ 105] . فكانت نازلة في قصة سارق سرق درعا «4» ، فصل في سورة المائدة أحكام السراق والخائنين. ولما ذكر في سورة النساء أنه أنزل إليك الكتاب للحكم بين الناس، ذكر في سورة المائدة آيات في الحكم بما أنزل الله حتى بين الكفار، وكرر قوله

_ (1) . يريد بالعام: الخطاب ب يا أيّها النّاس، فهو أعم من: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الآية 1] . أو يا أَهْلَ الْكِتابِ [النساء/ 171] . (2) . ختام المائدة قوله تعالى لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) . وأول النساء: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النساء/ 1] . وهو دليل القدرة. (3) . بدء الخلق في أول النساء قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النساء/ 1] . والمنتهى في ختام المائدة قوله تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الآية 119] . (4) . قصة الدرع أخرجها ابن كثير في التفسير: 2/ 358، 359، وعزاها الى ابن مردويه، من طريق عطية العوفي. ورواها الترمذي في حديث طويل فيه سرقة طعام وسلاح: 8/ 395- 399 بتحفة الاحوذي. وأخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 385- 388، وانظر ارشاد الرحمن في المتشابه والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وتجويد القرآن للاجهوري ورقة: 136 أ، ب لزيادة التفاصيل.

تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الآيات 44- 45 و 47] . فانظر إلى هذه السور الأربع المدنيات، وحسن ترتيبها، وتلاحمها، وتناسقها، وتلازمها. وقد افتتحت بالبقرة التي هي أول ما نزل بالمدينة، وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها، كما في حديث الترمذي «1» .

_ (1) . أخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: 8/ 436، 437: (آخر سورة نزلت المائدة والفتح) . وقال المياركفوري: روى الشيخان عن البراء: آخر آية نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ [النساء/ 176] . وآخر سورة نزلت سورة التوبة. وردّ البيهقي هذا التعارض بأن كل واحد أجاب بما عنده. وقال الباقلاني: ليس في هذه الأقوال شيء مرفوع الى النبي (ص) وكل واحد قال بضرب اجتهاد (تحفة الاحوذي: 8/ 436، 437) . وانظر (نكت الانتصار لنقل القرآن للباقلاني ص 135) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"المائدة"

المبحث الرابع مكنونات سورة «المائدة» «1» 1- وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ [الآية 2] . قال عكرمة: هو ذو القعدة. أخرجه ابن جرير «2» . واختار أنّ المراد: هو رجب. 2- وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [الآية 2] . قال عكرمة، والسّدّي: نزلت في الحطم بن هند البكري. أخرجه ابن جرير «3» . وقال ابن زيد: في أناس من المشركين، من أهل المشرق، مرّوا بالحديبية، يريدون العمرة. أخرجه ابن أبي حاتم «4» . 3- شَنَآنُ قَوْمٍ [الآية 8] . هم قريش. 4- الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 3] . نزلت بعد عصر يوم عرفة عام حجّة الوداع كما في «الصحيح» «5» . 5- يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ [الآية 4] . سمّى عكرمة من السائلين: عاصم بن عدي، وسعد بن خيثمة، وعويم بن

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . 6/ 37. (3) . 6/ 38- 39. (4) . و «الطبري» نحوه، دون قوله: «من أهل المشرق» . 6/ 39. (5) . «صحيح البخاري» كتاب التفسير برقم (4606) . [.....]

ساعدة. أخرجه ابن جرير «1» . وقال سعيد بن جبير: عدي بن حاتم، وزيد بن المهلهل. 6- وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا [الآية 8] . أخرج ابن جرير «2» ، من طريق ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: نزلت في يهود خيبر حين أرادوا قتل النبي (ص) . 7- إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا [الآية 11] . قال ابن عباس: نزلت في قوم من اليهود صنعوا لرسول الله (ص) طعاما ليقتلوه. وقال عكرمة: في كعب بن الأشرف، ويهود بني النضير. أخرجه ابن جرير «3» . وأخرج عن أبي مالك: في كعب بن الأشرف وأصحابه، حين أرادوا أن يغدروا برسول الله (ص) . وأخرج عن يزيد بن أبي زياد: أنّ منهم حيي بن أخطب. وأخرج عن قتادة: أنها نزلت في قوم من العرب أرادوا الفتك به، وهو في غزوة، فأرسلوا له أعرابيا ليقتله ببطن نخل، وهم بنو ثعلبة، وبنو محارب «4» . 8- وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً [الآية 12] . قال ابن إسحاق: هم شموع بن زكور من سبط روبيل، وشوقط ابن حوري من سبط شمعون، وكالب بن يوقنا من سبط يهودا، ويعوول بن يوسف من سبط أساخر، ويوشع بن نون من سبط افرائيم بن يوسف، ويلطي بن زوفو «5» من سبط بنيامين، وكرابيل بن سودي «6» من سبط زبالون،

_ (1) . 6/ 57. ووقع في النسخ المطبوعة: «عويمر» بدلا من «عويم» والصواب ما أثبته. (2) . 6/ 91. (3) . 6/ 93. وفي «الإتقان» زيادة: و «وحيي بن أخطب» . (4) . «الطبري» 6/ 91. (5) . «الإتقان» : «بلطي بن روفو» . (6) . «الإتقان» : «سوري» بالراء.

وكدّى بن سوسا «1» من سبط منشا بن يوسف، وعمائيل بن كسل من سبط دان، وستور بن مخائيل من سبط شيز «2» ، ويحنّى بن وقوسي من سبط تفتال «3» . وإأل بن موخا من سبط كادلوا. أخرجه ابن جرير «4» . 9- وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ [الآية 18] . قالها من اليهود: نعمان بن أحي، وبحريّ بن عمرو، وشاس بن عدي «5» . 10- عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [الآية 19] . قال قتادة: كان بين عيسى ومحمد خمسمائة وستون سنة. وفي رواية عنه قال: ذكر أنّها ستمائة سنة. وقال معمر عن أصحابه: خمسمائة وأربعون سنة. وقال الضّحّاك: أربعمائة سنة، وبضع وثلاثون سنة. أخرجها محمد بن جرير. 11- ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً [الآية 20] . قال مجاهد: المنّ، والسّلوى، والحجر، والغمام. أخرجه ابن جرير «6» . 12- الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [الآية 21] . قال ابن عباس: الطور وما حوله. وقال قتادة: الشام. وقال عكرمة عن ابن عبّاس: أريحا. وقيل: دمشق، وفلسطين، وبعض الأردن. أخرج ذلك ابن جرير «7» . 13- قَوْماً جَبَّارِينَ [الآية 22] .

_ (1) . «الإتقان» : «سوساس» . (2) . «الإتقان» : «أشير» . (3) . «الإتقان» : «نفتال» . (4) . «الإتقان» : «كاذلو» بالمعجمة 6/ 96. وفي ضبط الأسماء اختلاف بين نسخ هذا الكتاب والطبري، فصّلهما الأستاذ محمود محمد شاكر في تعليقه على «الطبري» 10/ 114- 115 ط دار المعارف. (5) . أخرجه الطبري 6/ 105 عن ابن عباس. (6) . 6/ 109. (7) . 6/ 110.

هم العمالقة «1» . 14- قالَ رَجُلانِ [الآية 23] . قال مجاهد: هما يوشع بن نون، وكالب بن يوقنّا أو ابن يوفنّة «2» . وقال السّدّي: يوشع، وكالب بن يوفنّه: ختن «3» موسى. أخرجه ابن جرير «4» . قال ابن عسكر: يوشع: ابن أخت موسى، وكالب: صهره. واختلف في اسمه، فقيل: كالوب. وقيل: كلاب. وأبوه: قيل: يوفنا، بالنون بعد الفاء. وقيل بالياء بعدها. 15- نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [الآية 27] . قال مجاهد: هابيل، وهو المتقبّل منه والمقتول وقابيل، وهو القاتل. أخرجه ابن جرير «5» . 16- قُرْباناً [الآية 27] . هو كبش «6» . فائدة: أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ، عن عمرو بن خير الشّعباني «7» قال: كنت مع كعب الأحبار على جبل دير مرّان «8» ، فأراني لمعة حمراء سائلة في الجبل، فقال: هاهنا قتل ابن آدم أخاه، وهذا أثر دمه جعله الله آية للعالمين «9» .

_ (1) . انظر «الدر المنثور» 2/ 270. [.....] (2) . رواه ابن منيع. قال البوصيري الحافظ. رواته ثقات: «المطالب العالية» (3590) وضبط في «سفر العدد» و «يفنّه» بفتح الياء وضم الفاء وتشديد النون. (3) . الختن: كل من كان من قبل المرأة، كالأب والأخ. (4) . 6/ 113. (5) . انظر «الطبري» 6/ 120- 121. (6) . المصدر السابق الموضع نفسه. (7) . عمرو بن خير الشّعباني، قال الذهبي في «ميزان الاعتدال» 3/ 259 وتبعه الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» : «لا يعرف» . (8) . دير مرّان: محلة كانت عامرة آهلة بالسكان في دمشق غرب قاسيون، ومحلها اليوم في السفح الواقع أسفل قبة سيار وأعلى بستان الدواسة يطل منها الإنسان على الربوة، وعرفت تلك الجهة بهذا الاسم لوجود دير يدعى بدير مران. انظر «القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية» 1/ 44 لابن طولون الصالحي. (9) . في أعلى قاسيون في دمشق، مسجد صغير يسمى ب «مسجد الأربعين» تقع جانبه لمعة حمراء في الجبل، يزعمون أنها دم هابيل، ولا تزال حتى الآن.

17- إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ [الآية 33] . نزلت في العرنيين، وكانوا ثمانية «1» . 18- لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الآية 41] . قيل: هم اليهود «2» . وقيل: المنافقون «3» . وقيل: نزلت في عبد الله بن صوريا «4» . حكاها ابن جرير «5» . 19- سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ [الآية 41] . هم أهل فدك. كما أخرجه «الحميدي» «6» ، وابن أبي حاتم من طريق الشّعبي عن جابر بن عبد الله. 20- فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الآية 52] . قال عطيّة: نزلت في عبد الله بن أبيّ. أخرجه ابن جرير «7» . 21- فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الآية 54] . قال (ص) لما نزلت: «هم قوم هذا» ، وأشار إلى أبي «8» موسى الأشعري. أخرجه الحاكم. وأخرجه ابن أبي حاتم، من طريق محمد بن المنكدر «9» ، عن جابر قال: سئل رسول الله (ص) عن هذه الآية

_ (1) . انظر: «صحيح البخاري» رقم (6799) في الديات، باب القسامة. (2) . أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس موقوفا. (3) . أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس. «الدر المنثور» 2/ 281. (4) . أخرجه البيهقي في «السنن» وابن المنذر، وابن إسحاق، عن أبي هريرة. (5) . في «تفسيره» مسندة 6/ 149- 151. (6) . في «مسنده» برقم (1295) من طريق زكريا، وهو ابن أبي زائدة، عن الشعبي، عن جابر. وسنده ضعيف لأن زكريا معروف بتدليسه عن الشعبي، وروايته عنه ما لم يسمع منه. انظر «تهذيب التهذيب» 3/ 330. [.....] (7) . 6/ 180، وابن المنذر، وابن أبي حاتم «الدر المنثور» 2/ 291. وعطية، راوي الأثر هو ابن سعد، كما في «تفسير الطبري» . (8) . في «المستدرك» 2/ 313 على شرط مسلم وأقره الذهبي، والطبراني كما في «مجمع الزوائد» 7/ 16 ورجاله رجال الصحيح، وأبو بكر بن أبي شيبة عن عياض الأشعري كما في «المطالب العالية» برقم (3598) قال الحافظ البوصيري: رواته ثقات. (9) . والحاكم في «الكنى» ، وأبو الشيخ، والطبراني في «الأوسط» ، وابن مردويه، بسند حسن. كما في «الدر المنثور» 2/ 292.

فقال: «هؤلاء قوم من أهل اليمن، ثم من كنده، ثم من السّكون، ثم من تجيب «1» » . وأخرج من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله. وأخرج «2» عن الحسن قال: هم، والله، أبو بكر وأصحابه. وأخرج عن الضّحّاك مثله. وأخرج عن مجاهد قال: قوم من سبأ. وأخرج عن أبي بكر بن عياش «3» قال: هم أهل القادسية. 22- وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [الآية 64] . أخرج الطبراني عن ابن عباس: أن قائل ذلك النّبّاش بن قيس. وأخرج أبو الشيخ عنه: أنه فنحاص «4» . 23- وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [الآية 82] . أخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة. وأخرج عن عطاء قال: ما ذكر الله به النصارى من خير، فإنما يراد به: النجاشي، وأصحابه. وأخرج عن سعيد بن جبير قال: نزلت في ثلاثين من خيار أصحاب النجاشي. وأخرج من طرق أخرى عنه: انهم سبعون رجلا. وأخرج عن السدي: أنهم اثنا عشر رجلا. وقد سماهم جماعة منهم إسماعيل الضرير «5» في «تفسيره» : ابرهد، وأيمن، وإدريس، وابراهيم، والأشرف، وتميم، وتمام، ودريد، وبحيرا، ونافع.

_ (1) . تجيب: بفتح التاء، وضمها، بطن من كندة. (2) . ابن جرير 6/ 182. (3) . وفي «الدر المنثور» : رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس. واسمه: «النباش» ، كذا وقع اسمه في «تفسير ابن كثير» 2/ 75: «شاس» . (4) . من يهود بني قينقاع. كما في «الدر المنثور» . والرواية في الطبري عن عكرمة. (5) . إسماعيل الضرير، إسماعيل بن أحمد الحيري النيسابوري، الضرير، المفسر، المقرئ، أحد أئمة المسلمين، والعلماء العاملين، ومن فقهاء الشافعية، من أهل نيسابور، له تصانيف في علم القرآن والقراءات والحديث. ولد سنة 361، وتوفي نحو 430. ( «طبقات المفسرين» للسيوطي 35، و «الأعلام» 1/ 309) .

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"المائدة"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المائدة» «1» 1- قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [الآية 2] . الشعائر جمع شعيرة، وهي اسم ما أشعر، أي: جعل شعارا وعلما للنّسك، من مواقف الحجّ، ومرامي الجمار، والمطاف، والمسعى، والأفعال التي هي علامات الحجّ يعرف بها من الإحرام، والطواف، والسّعي، والحلق، والنّحر. ولا بد لنا أن نبسط هذه المادة اللغوية، لنعرف شيئا مما يتصل بها، ولنبدأ بالشّعار فنقول: الشّعار: العلامة في الحرب وغيرها. وشعار العساكر أن يسموا لها علامة ينصبونها، ليعرف الرجل بها رفقته. وفي الحديث: «إن شعار أصحاب رسول الله (ص) كان في الغزو: يا منصور أمت أمت!» وهو تفاؤل بالنّصر بعد الأمر بالإماتة. واستشعر القوم: إذا تداعوا بالشّعار في الحرب، قال النابغة: مستشعرين قد الفوا في ديارهم دعاء سوع ودعميّ وأيّوب وشعار القوم: علامتهم في السّفر. وأشعر القوم في سفرهم: جعلوا لأنفسهم شعارا. قال الأزهري: ولا أدري مشاعر الحجّ إلّا من هذا، لأنها علامات له. أقول: إذا كان من معاني الشّعار العلامة، فكأن «الشّعيرة» وهي البدنة

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة العربية، بيروت، غير مؤرّخ.

المهداة تصبح علامة، فكانت من الشعائر للحاجّ، أي: علامة له، ولأنها تذبح، فقد صار «الإشعار» هو الإدماء، أي: الذّبح. وفي حديث مقتل عمر، رضي الله عنه: أن رجلا رمى الجمرة فأصاب صلعته بحجر، فسال الدم، فقال رجل: أشعر أمير المؤمنين. وإذا كانت الشعائر عامة مناسك الحج، فهي أيضا الشّعارة والمشعر، وقوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ [البقرة/ 198] . أي: مزدلفة. والمشاعر: المعالم التي ندب الله إليها، وأمر بالقيام عليها. أقول: من غير شك أن هذه المواد الاصطلاحية، التي أصبحت شيئا من المعجم التاريخي الإسلامي، تشير إلى الأصل البعيد، وهو مادة «الشعور» بمعنى «الحسّ» ، أو «الإحساس» . وعلى هذا يكون «الشّعار» ، وهو العلامة، واسطة يشعر بها الرجل في الحرب وغير الحرب. ثم كان من هذا الشعيرة- وهي البدنة- «المعلّمة» بعلامة، التي تنحر هديا، ثم كانت هذه الشعيرة العلامة لعامة ما يتصل بالحج، فأطلقت على المناسك كلّها. ثم ماذا من هذه المواد القديمة؟ أقول: استقرّت الشعيرة والشعائر في استعمالها الاصطلاحي في الحجّ. وقد يتوسع الآن فتطلق «الشعائر» على جميع الواجبات الدينية، فيقال مثلا: الشعائر الدينية، وهي الفرائض والسنن وغيرها. أما الشعار والشعارات في عصرنا، فهي ما يتخذ، من قول أو عمل، واسطة، أو مظهرا للإعراب عن حقيقة ما، كأن يقال: شعار الطلاب: السعي والعمل الوطني، وشعار الجندي: الطاعة، وشعار العامل: الإخلاص. وليس هذا الاستعمال الجديد إلا شيئا من الاستعمال القديم. وأما المشاعر، فهي في لغتنا المعاصرة تعني الشعور والإحساس، يقال: أظهر فلان لضيفه مشاعر الودّ مثلا. وليس لهذه المشاعر مفرد، كما أنه لا مفرد للمحاسن، أو المساوئ، أو المباهج أو غيرها مما شابهها. 2- وقال تعالى: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ

أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ [الآية 5] . أقول يحسن بنا أن نقرأ [النساء/ 25] : وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ. والأخدان جمع خدن، الذكر والأنثى فيه سواء، والخدن والخدين: الصديق. وخدن الجارية محدّثها، وكانوا في الجاهلية لا يمتنعون من خدن يحدّث الجارية فجاء الإسلام بهدمه. والمخادنة: المصاحبة. 3- وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [الآية 11] . تشير الآية إلى أن النبي (ص) جاء قوما، وهم بنو قريظة، ومعه الشيخان وعلي، يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمريّ خطأ يحسبهما مشركين. فأراد اليهود قتل النبي، والقصة معروفة في كتب السيرة والتفسير ونزلت الآية. ويقال: بسط لسانه إذا شتمه، وبسط إليه يده إذا بطش به. ومعنى بسط اليد مدّها إلى المبطوش به، ألا ترى إلى قولهم: فلان بسيط الباع ومديد الباع بمعنى. فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، أي: منعها أن تمدّ إليكم. ومثل هذه الآية قوله تعالى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الممتحنة/ 2] . أي: يبطشوا بكم. والذي نعرفه من استقرائنا للآيات الكريمة وغيرها من النصوص أن «البسط» ، و «البسطة» تفيد السرور والانبساط والاتساع، جاء في الحديث في الكلام على الزهراء عليها السلام: يبسطني ما يبسطها، أي: يسرّني ما يسرّها. والبسط ضد القبض حقيقة ومجازا. وجاء في الآية 26 من سورة الرعد: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ. وتكرر مثل هذا في تسع آيات أخرى. والمعنى ينشر الرزق ويوسّعه. أمّا «بسط اليد» بالمعنى الذي ورد في الآية التي يجري الكلام عليها فهو

استعمال خاص، ورد في سورة الممتحنة، كما ورد في سورة المائدة أيضا وهو قوله تعالى: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ [الآية 28] . ملاحظة: وبعد، ألا يحق لنا أن نقول: إن الذي جرى عليه عامة أهل المدن في العراق في قولهم: «بسط فلان ولده بسطة فأوجعه» ، أي: ضربه، له أصل فصيح في قول الأقدمين: وبسط فلان يده إليه، أي: بطش به كما صدق ذلك في الآيات الشريفة؟ 4- وقال تعالى: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الآية 13] . أي: هذه عادتهم وهجّيرهم، وكان عليهما أسلافهم، كانوا يخونون الرّسل و «على خائنة» ، أي: على خيانة، وقرئ: «على خيانة» . أقول: والخائنة اسم فاعل، ولذلك قال المفسرون: المعنى فعلة ذات خيانة، أو على نفس، أو فرقة خائنة. ولعل الخائنة هنا هي الخيانة كالعافية، وهي اسم فاعل تعني المصدر، ومثلها العاقبة وغيرها. 5- وقال تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [الآية 14] . المراد ب «أغرينا» ألصقنا وألزمنا، من «غري بالشيء إذا لزمه ولصق به، وأغراه غيره، ومنه الغراء الذي يلصق به «1» . أقول: والأصل في كل ذلك الغراء وهو الذي تلصق به الأشياء، ويتّخذ من أطراف الجلود والسّمك. وغروت الجلد، الصقته بالغراء. وإذا كان الفعل غري بالشيء، أي: لصق ولزم فمنه «الإغراء» ، وهو الحثّ على عمل الخير ونحو ذلك. وهكذا جرت العربية على «الإغراء» بهذا المعنى الحسن. وما زال هذا المعنى هو المعروف المشهور، أما ما جاء في الآية من استعمال «الإغراء» بمعنى إلقاء العداوة بينهم، فهو غير معروف في العربية المعاصرة. 6- وقال الله تعالى:

_ (1) . اللسان: (غري) .

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) . أي: أهؤلاء الذين أقسموا لكم بإغلاظ الأيمان أنّهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار. والقسم جهد الأيمان هو القسم بأغلظ الأيمان. وهذا يعني أن المصدر «جهد» بهذا الاستعمال يفيد الغاية كما نقول سعى جدّ السّعي. 7- وقال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) . الفعل «يتولّى» ، في هذه الآية بمعنى يجعل الله وليّا له، وكذلك الرسول والذين آمنوا، وهذا من الاستعمال الجميل الذي لا نعرفه لهذا الفعل فقد اشتهر الفعل «تولّى» بمعنى ذهب وانصرف. وتولّى الأمر، أي باشره ولزمه وأخذه. وتولّى الله جعله وليا له، أي: ناصرا. وهذا الاستعمال القرآني الأخير مما لا نعرفه في العربية المعاصرة. 8- وقال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا [الآية 59] . وقرأ الحسن: (هل تنقمون) بفتح القاف، والفصيح كسرها، والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلّا الايمان بالكتب المنزلة كلها «1» . أقول: ومن هذا الاستعمال قول علي بن أبي طالب (ع) : ما تنقم الحرب العوان منّي ... بازل عامين فتيّ سنيّ ويقال: نقمت الأمر ونقمته، أي: كرهته، وقال تعالى: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ [البروج/ 8] . أي: أنكروا منهم. ومثله قوله تعالى: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة/ 74] . وليس لنا من الفعل «نقم» إلا المزيد «انتقم» ، ومعناه مشهور. فأما المجرد فلا نعرف منه في العربية المعاصرة إلا المصدر «النقمة» .

_ (1) . «الكشاف» 1/ 650.

وما أرانا إلا أن نعود الى هذا الفعل وغيره، فنعيده إلى الاستعمال الحديث. 9- وقال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [الآية 68] . والمعنى: لستم على دين يعتدّ به حتى يسمّى شيئا لفساده وبطلانه. أقول: وقوله تعالى: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ [الآية 68] لبيان أنه لا قيمة له، نظير قولنا: إن هذا ليس بشيء مثلا، إقرارا منّا بأنه فاقد القيمة. 10- وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) . موضع الإشكال في هذه الآية مجيء «الصابئون» بالواو وسنعرض لما قيل في ذلك من كلام طويل. وعندي أن قراءة أبيّ غير المشهورة «والصابئين» وجيهة مقبولة تنفي عنا هذا الإشكال، والتعقيد الذي سنعرض له. ماذا قيل في هذه المشكلة النحوية؟ «الصابئون» رفع على الابتداء، وخبره محذوف، والنيّة به التأخير عما في حيّز إنّ من اسمها وخبرها، كأنّه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك، وانشد سيبويه: وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق أي: فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك فإن قلت: هلّا زعمت أنّ ارتفاعه للعطف على محل إنّ واسمها؟ قلت: لا يصح ذلك قبل الفراغ من الخبر، لا تقول: إن زيدا وعمرو منطلقان. فإن قلت: لم لا يصحّ، والنيّة به التأخير، فكأنّك قلت: ان زيدا منطلق وعمرو؟ قلت: لأني إذا رفعته رفعته عطفا على محل إنّ واسمها، والعامل في محلهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العامل في الخبر لأن الابتداء ينتظم الجزأين في عمله كما تنتظمهما «إنّ» في عملها، فلو رفعت «الصابئون» المنويّ به التأخير بالابتداء وقد رفعت الخبر بأنّ، لأعملت فيهما رافعين مختلفين. فإن قلت: فقوله: «والصابئون» معطوف لا بدّ له من معطوف عليه فما هو؟ قلت: هو مع

خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ولا محل لها كما لا محلّ للتي عطفت عليها، فإن قلت: ما التقديم والتأخير إلّا لفائدة، فما فائدة هذا التقديم؟ قلت: فائدته التنبيه على أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا، وأشدّهم غيّا، وما سمّوا صابئين إلّا لأنّهم صبئوا عن الأديان كلها. أي: خرجوا «1» .... وفي حاشية الشيخ أحمد بن المنير الإسكندري المسماة (الانتصاف) جاء:...... ولكن ثمّ سؤال متوجّه، وهو أن يقال: لو عطف «الصابئين» ونصبه كما قرأ ابن كثير لأفاد أيضا دخولهم في جملة المتوب عليهم، ولفهم من تقديم ذكرهم على النصارى ما يفهم من الرفع من أن هؤلاء الصابئين، وهم أوغل الناس في الكفر يتاب عليهم، فما الظنّ بالنصارى، ولكان الكلام جملة واحدة بليغا مختصرا، والعطف إفرادي، فلم عدل عن النصب إلى الرفع وجعل الكلام جملتين. «2» ..... أقول: ما كان أغنانا عن هذه التوجيهات والأقوال النحوية التي لا تخلو من التعسّف والتكلّف، لو أخذنا بقراءة أبيّ وابن كثير على نصب «الصابئين» ، وهل من حاجة إلى هذه التأويلات لنجري هذه القراءة المشهورة التي ثبتت في المصحف، ولم يكتب للقراءة الأخرى هذه الشهرة؟ أقول هذا لأني أجد مثل هذه القراءة المرفوضة، أي: على النصب في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة/ 62] . وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الحج/ 17] . أترى الزمخشري وغيره من المفسرين والنحاة، كانوا قد اتبعوا الأسلوب الذي سلكوه في توجيه «الصابئون» ، أي الآية التي هي موضع درسنا. ولو أن قراءة شاذة قد وردت في هاتين الآيتين من سورتي البقرة والحج، فجاءت كلمة «الصابئين» ،

_ (1) . «الكشاف» 1/ 660- 661. (2) . المصدر السابق.

مرفوعة على شذوذ القراءة، لكان لهم أن يتبعوا الأسلوب الذي أتينا على ذكره بما فيه من الحذلقة والتزيّد. كلمة أخيرة: الذي أراه في توجيه «الصابئون» أن القراءة صحيحة، ولكن أقول: إن نحو العربية في باب الجمع المذكور بالواو والنون والياء والنون، في عصر القرآن، لم يكن قد استقر فتخلص من اللغات الخاصة، وهذا يعني أن الواو والنون كانتا سمة وعلامة للجمع كيفما كان موضع الكلمة من الإعراب، فالواو والنون علامة الجمع، كما أن الياء والنون علامة أخرى، وأما اختصاص كل منهما بحالة إعراب خاصة فقد استفادته العربية شيئا فشيئا حتى استقر على هذا النحو الذي نعرفه في النحو العام المشهور. ثم ألم يقولوا: إن «اللذون» لغة في «الذين» ، وأن الواو لازمة في هذا الموصول كما في الشاهد المعروف: نحن اللذون صبّحوا الصّباحا ثم ألم يقرأ الحسن: (تنزّل الشياطون) «1» ؟ 11- وقال تعالى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ [الآية 71] . في هذه الآية مسألة تتصل ب «كثير» لا بد من الوقوف عليها. قالوا: «كثير» بدل من الضمير، أو على قولهم: أكلوني البراغيث. أقول: ما أظن أن القول بأن الآية جرت على لغة «أكلوني البراغيث» قول سديد مقبول، وذلك لأن هذه اللغة قد خصت بها قبيلة واحدة هي بنو الحارث بن كعب، ولكني أقول: إن الفاعل هو «كثير» وهو أقوى في الفاعلية من «الواو» الذي سمّي «ضميرا» وليس الواو إلا إشارة إلى أن الفاعل «جمع» أو دالّ على الجمع وهو «كثير» في الآية.

_ (1) . أقول: ألم يأتنا في كتب البلدان: فلسطون ونصيبون وصريفون في فلسطين ونصيبين وصريفين، أريد أن أقول كما تكون الواو والنون لازمة كذلك الياء والنون لازمة في جمع المذكر العاقل وغيره كالاسم الموصول مثلا. [.....]

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"المائدة"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المائدة» «1» قال تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الآية 1] ، غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [الآية 1] . ففي قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ نصبت (غير) على الحال «2» . وقال تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [الآية 2] واحدها «شعيرة» . وقال وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [الآية 2] ف «الشنئان» متحرك مثل «الدرجان» و «الميلان» ، وهو من «شنئته» ف «أنا أشنؤه» «شنئانا» . لا يَجْرِمَنَّكُمْ أي: لا يحقّنّ لكم «3» . لأنّ قوله تعالى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ [النحل/ 62] إنّما هو حقّ أنّ لهم النار. قال الشاعر «4» [من الكامل وهو الشاهد الثمانون بعد المائة] : ولقد طعنت أبّا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا «5» . اي: حقّ لها. وقوله تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن للأخفش» ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في الكشاف 1/ 601 ونقل في زاد المسير 2/ 269 واعراب القرآن 1/ 265 والجامع 6/ 36 والبحر 3/ 414. (3) . نقله في التهذيب 11/ 65 «جرم» والجامع 6/ 44 و 45 واللسان جرم. (4) . هو أبو أسماء بن الضريبة مجاز القرآن 1/ 358 والخزانة 4/ 314 واللسان «جرم» ، وقيل هو عطية بن عفيف مجاز القرآن 1/ 358 والخزانة 4/ 314، وقيل هو الفرزدق الخزانة كالسابق، وقيل الفزاري الكتاب، وتحصيل عين الذهب 1/ 469. (5) . في معاني القرآن 2/ 9 ب «تغضبا» وفي الخزانة كما سبق «أبا عبيدة» وقد جاء في 4/ 310 كما جاء في رواية الأخفش.

أَنْ صَدُّوكُمْ [الآية 2] «1» يقول: «لأن صدّوكم» وقد قرئت (إن صدّوكم) «2» على معنى «إن هم صدّوكم» أي: «إن هم فعلوا» أي: إن همّوا ولم يكونوا فعلوا. وقد تقول ذلك أيضا وقد فعلوا كأنك تحكي ما لم يكن كقول الله تعالى قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف/ 77] وكانت السرقة عندهم قد وقعت. وقال تعالى: أَنْ تَعْتَدُوا [الآية 2] أي: لا يحقّنّ لكم شنئان قوم أن تعتدوا. أي: لا يحملنّكم ذلك على العدوان. ثم قال وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [الآية 2] . وقال تعالى: وَالْمَوْقُوذَةُ [الآية 3] من «وقذت» ف «هي موقوذة» . وَالنَّطِيحَةُ [الآية 3] فيها الهاء [اي التاء المربوطة] لأنها جعلت كالاسم مثل «أكيلة الأسد» . وانما تقول «هي أكيل» و «هي نطيح» لأنّ كل ما فيه «مفعولة» ف «الفعيل» فيه بغير الهاء نحو «القتيل» و «الصريع» إذا عنيت المرأة و «هي جريح» لأنك تقول «مجروحة» . وقال تعالى: وَما أَكَلَ السَّبُعُ [الآية 3] «3» ولغة يخففون «السبع» «4» . وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [الآية 3] وجميعه: «الأنصاب» . وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ [الآية 3] يقول: «وحرّم ذلك» وواحدها «زلم» و «زلم» «5» . وقال تعالى: مَخْمَصَةٍ [الآية 3]

_ (1) . هي في الطبري 9/ 487 إلى بعض أهل المدينة وعامة قراء الكوفيين وفي السبعة 242 الى نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وفي الكشف 1/ 405 والتيسير 98 والبحر 3/ 422 الى غير أبي عمرو وابن كثير من السبعة. وفي حجّة ابن خالويه 104 بلا نسبة وفي معاني القرآن 1/ 300 لم تنسب قراءة. (2) . في الطبري 9/ 488 الى بعض قراء الحجاز والبصرة وانتصر لها بقراءة ابن مسعود «ان يصدوكم» ، وفي السبعة 242 والكشف 1/ 405 والتيسير 98 الى ابن كثير وابي عمرو وزاد في البحر 3/ 422 ابن مسعود، وزاد في الجامع 6/ 46 انها اختيار ابي عبيد وأنّ الأعمش قرأ «ان يصدوكم» وفي حجة ابن خالويه 104 بلا نسبة. (3) . وعليها في الجامع 6/ 50 قراءة ابن مسعود وابن عباس. (4) . وفي الجامع 6/ 50 قراءة الحسن وابي حيوة وفي البحر 3/ 423 زاد الفياض وطلحة بن سليمان، ورويت عن ابي بكر عن عاصم، ورويت عن الحسن. ويبدو مما في 173 «اللهجات» أنّ الإسكان لغة تميم، وقياسا على ما جاء في «لهجة تميم» 166 أيضا. (5) . نقله في التهذيب 13/ 219 «زلم» منسوبا إلى الأخفش وحده.

تقول: «خمصه الجوع» نحو «المغضبة» لأنّه أراد المصدر. وقال يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 3] مهموزة الياء الثانية وهي من «فعل» «يفعل» وكسر الياء الأولى لغة نحو «لعب» «1» ومنهم من يكسر اللام والعين «2» ويسكنون العين ويفتحون اللّام أيضا «3» ويكسرونها «4» وكذلك «يئس» . وذلك أنّ «فعل» ، إذا كان ثانيه احد الحروف الستة «5» ، كسروا اوله وتركوه على الكسر، كما يقولون ذلك في «فعيل» نحو «شعير» و «صهيل» «6» . ومنهم من يسكن الثانية ويكسر الأولى نحو «رحمه الله» فلذلك تقول: «يئس» تكسر الياء وتسكن الهمزة «7» . وقد قرئت هذه الآية (نعم ما يعظكم به) [النساء/ 58] «8» على تلك اللغة التي يقولون فيها «لعب» «9» . وأناس يقولون «نعم الرّجل زيد» «10» فقد يجوز كسر هذه النون التي في «نعم» ، لأن التي بعدها من الحروف الستة، كما كسر «لعب» . وقولهم: «ان العين ساكنة من «نعمّا» إذا أدغمت خطأ لأنه لا يجتمع ساكنان. ولكن إذا شئت أخفيته فجعلته بين الإدغام والإظهار، فيكون في زنة متحرك، كما قرئت (إنّي ليحزنني) [يوسف/ 13] يشمون النون الأولى الرفع «11» .

_ (1) . هي لهجة تميم «لهجة تميم 167» واللهجات العربية 167. (2) . الهامش السابق (3) . الهامش السابق أيضا (4) . الهامش السابق أيضا [.....] (5) . هي حروف الحلق الستة الهمزة والعين والهاء والحاء والخاء والغين. (6) . ما جاء في المصادر الطبري 2/ 238 والكتاب 2/ 255 والمخصص 14/ 214 يقول ان هذه لغة تميم. (7) . في الكتاب كالسابق بلا عزو وفي «لهجة تميم 167» و «اللهجات 167» نسبت الى تميم. (8) . وهي في رسم المصحف الشريف «نعمّا» . (9) . هي في السبعة 190 قراءة ابن كثير وقراءة عاصم ونافع في رواية. وفي الجامع 3/ 334 الى ابي عمرو ونافع في رواية ورش وعاصم في رواية حفص وابن كثير. (10) . أورد هذه اللغة في الجامع 3/ 334 وهي لغة قريش «اللهجات 167 و 168 و 169» . (11) قراءة تضعيف النون ولا يكون الإشمام الا بها، هي في البحر 5/ 286 إلى زيد بن علي وابن هرمز وابن محيصن وقراءة الفك الى الجمهور.

وقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الآية 3] لأن الإسلام كان فيه بعض الفرائض، فلما فرغ الله جل جلاله ممّا أراد منه قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [الآية 3] لا على غير هذه الصفة. وقال تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) كأنه قال: «فإنّ الله له غفور رحيم» . كما تقول «عبد الله ضربت» تريد: ضربته. قال الشاعر [من الوافر وهو الشاهد الحادي والثمانون بعد المائة] : ثلاث كلّهنّ قتلت عمدا ... فأخزى الله رابعة تعود» وقال الآخر «2» [من الرجز وهو الشاهد الثاني والثمانون بعد المائة] : قد أصبحت «3» أم الخيار تدّعي عليّ ذنبا كلّه لم أصنع «4» وقال تعالى: ماذا أُحِلَّ [الآية 4] فان شئت جعلت «ذا» بمنزلة «الذي» وان شئت جعلتها زائدة كما قال الشاعر «5» [من البسيط وهو الشاهد الثالث والثمانون بعد المائة] : يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم ... لا يستفقن الى الديرين تحنانا «6» ف «ذا» لا تكون هاهنا إلّا زائدة. إذ لو قلت: «ما الذي بال نسوتكم» لم يكن كلاما. وقال تعالى: الْجَوارِحِ [الآية 4] وهي الكواسب كما تقول: «فلان جارحة أهله» و «مالهم جارحة» أي: مالهم مماليك «ولا حافرة» . وقال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [الآية 4] ، فأدخل «من» كما أدخلها في: «كان من حديث» و «قد

_ (1) . الشاهد في تحصيل عين الذهب 1/ 44، وأمالي ابن الشجري 1/ 326، والخزانة 1/ 177 بلا عزو. (2) . هو أبو النّجم العجلي: الكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 44، وفي تحصيل عين الذهب وحده 1/ 218، ومجاز القرآن 2/ 84. (3) . في معاني القرآن 1/ 140 و 242 و 2/ 95 ب «علقت» . (4) . والشاهد بعد في الكتاب 1/ 69 س 5 و 73 س 10 قطعة منه. (5) . هو جرير بن عطية بن الخطفي. الديوان 1/ 167. (6) . البيت بعد في مغني اللبيب 1/ 301.

كان من مطر» . وقوله وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ [البقرة/ 271] «1» ووَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النور/ 43] «2» . وهو فيما فسر «ينزّل من السّماء جبالا فيها برد» . وقال بعضهم في قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ أي: في السّماء جبال من برد. أي: يجعل الجبال من برد في السّماء ويجعل الإنزال منها. وقال تعالى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ [الآية 5] فيعني به الرجال. وقال تعالى: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [الآية 5] (و) أحلّ لكم الْمُحْصَناتُ من النساء مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ أي: أحلّ لكم في هذه الحال. وقال تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [الآية 6] فردّه الى «الغسل» في قراءة بعضهم «3» لأنه قال: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الآية 6] وقرأ بعضهم: (وأرجلكم) «4» على المسح أي: وامسحوا بأرجلكم. وهذا لا يعرفه الناس. وقال ابن عباس «5» : «المسح على الرّجلين يجزئ» ويجوز

_ (1) . قد نقل عنه في الإملاء 1/ 51 والبحر 1/ 306 وشرح المفصل لابن يعيش 8/ 13 والأشباه والنظائر 4/ 44 واعراب القرآن للزجاج 2/ 673 وزاد المسير 2/ 294. [.....] (2) . وقد نقل عنه في الإملاء 2/ 158 واعراب القرآن 726 والجامع 12/ 289 وشرح المفصل لابن يعيش 8/ 14 والتمام لابن جني 149 والبحر 464. (3) . هي في معاني القرآن 1/ 302 قراءة عبد الله بن مسعود، وفي الطبري 10/ 52- 57 الى جماعة من قراء الحجاز والعراق، والى علي بن أبي طالب وابن عباس وعروة وعبد الله واصحاب عبد الله ومجاهد والأعمش والضحّاك، وفي الجامع 6/ 91 الى نافع وابن عامر والكسائي، وزاد في البحر 3/ 438 والتيسير 98 حفصا، وكما زاد في السبعة 242 و 243، بدل حفص عاصما في رواية، وفي الكشف 1/ 406 و 407 كما في التيسير، وزاد نسبتها الى علي بن ابي طالب وابن مسعود وابن عباس وعروة بن الزبير وعكرمة ومجاهد والسدي. (4) . انتصر لها في معاني القرآن 1/ 302 بحديث وفي الطبري 10- 57- 64 الى جماعة من قراء الحجاز والعراق، وأنس، وقتادة، وعلقمة، والأعمش، ومجاهد، والشعبي، وابي جعفر، والضحاك، وفي السبعة 243 الى ابن كثير، وحمزة، وابي عمرو، والى عاصم، في رواية. وفي التيسير 98 الى غير من أخذ بالسابقة، وزاد في الكشف 1/ 406 نسبتها الى الحسن والحسين، وأنس بن مالك، وعلقمة، والشعبي، والحسن، والضحّاك، ومجاهد، وفي الجامع 6/ 91 الى ابن كثير، وحمزة، وأبي عمرو، وزاد في البحر 3/ 437 أبا بكر، وأنسا، وعكرمة، والشعبي، والباقر، وقتادة، وعلقمة، والضحّاك، وفي حجّة ابن خالويه 104 بلا نسبة. (5) . عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي الكريم ترجمته في طبقات ابن الخياط 4، ووفيات الأعيان 3/ 62، ونكت الهميان 180.

الجر على الإتباع وهو في المعنى «الغسل» «1» نحو «هذا جحر ضبّ خرب» . والنصب أسلم وأجود من هذا الاضطرار. ومثله قول العرب: «أكلت خبزا ولبنا» واللبن لا يؤكل. ويقولون: «ما سمعت برائحة أطيب من هذه ولا رأيت رائحة أطيب من هذه» و «ما رأيت كلاما أصوب من هذا» . قال الشاعر «2» [من مجزوء الكامل وهو الشاهد الرابع والثمانون بعد المائة] : يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا «3» . ومثله لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [الآية 2] وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [الآية 2] . وقال تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [الآية 6] أي: ما يريد الله ليجعل عليكم حرجا. وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) كأنه فسر الوعد ليبين ما وعدهم أي: هكذا وعدهم فقال لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. وقال تعالى: وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي [الآية 12] لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [الآية 12] فاللام الأولى على معنى القسم والثانية على قسم آخر. وقال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ [الآية 14] . كما تقول: «من عبد الله أخذت درهمه» «4» . وقال تعالى: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ [الآية 22] فعملت «إنّ» في «القوم» وجعلت الصفة «جبارين» لأنّ «فيها» ليس باسم. وقال تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الآية 26] فهي من «أسي» «يأسى» «أسى شديدا» وهو الحزن. و «يئس» من «اليأس» وهو انقطاع الرجاء من «يئسوا» وقوله تعالى: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف/ 87] : أي

_ (1) . نقل عنه في المشكل 1/ 301، و 302 والجامع 6/ 94، وإعراب القرآن 1/ 64 «المقدمة» و 1/ 270. (2) . هو عبد الله بن الزبعرى. الكامل 1/ 289. (3) . والبيت في معاني القرآن 1/ 121 و 473 وفي 3/ 123 ب «ورأيت زوجك في الوغى» وفي الإنصاف 2/ 322 ب «يا ليت بعلك في الوغى» . (4) . هو جرير بن عطية بن الخطفي. الديوان 1/ 167.

انقطاع الرجاء وهو من: يئست وهو مثل «أيس» في تصريفه. وإن شئت مثل «خشيت» في تصريفه. وأما «أسوت» «تأسوا» «أسوا» فهو الدواء للجراحة. و «است» «أؤوس» «أوسا» في معنى: أعطيت. و «است» قياسها «قلت» و «أسوت» قياسها «غزوت» . وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [الآية 27] فالهمزة ل «نبأ» لأنها من «أنبأته» . وألف «ابني» تذهب لأنها ألف وصل في التصغير. وإذا وقفت قلت «نبأ» مقصور ولا تقول «نبا» لأنها مضاف فلا تثبت فيها الألف. وقال تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ [الآية 30] مثل [فطوّقت] ومعناه: «رخّصت» «1» وتقول «طوّقته أمري» أي: عصبته به. وقال تعالى: أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ [الآية 31] فنصب «فأواري» لأنّك عطفته بالفاء على «أن» وليس بمهموز لأنه من «واريت» وإنما كانت «عجزت» لأنها من «عجز» «يعجز» وقال بعضهم «عجز» «يعجز» «2» ، و «عجز» «يعجز» «3» . وقال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 32] . وان شئت أذهبت الهمزة من أَجْلِ وحركت النون في لغة من خفف الهمزة «4» . و «الأجل» : الجناية من «أجل» «يأجل» ، تقول: «قد أجلت علينا شرا» ويقول بعض العرب «من جرّا» من: «الجريرة» ويجعله على «فعلى» . وقال تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ

_ (1) . نقله في زاد المسير 2/ 337 والبحر 464 والصحاح «طوع» اما في «طوق» فقال: «طوقت له نفسه» لغة في طوعت: أي: رخصت وسهلت حكاها الأخفش. (2) . يبدو مما جاء في 445 من «اللهجات» ، أنّه لا اختصاص لقبيلة، بصيغة من هاتين الصيغتين. (3) . هي لغة لبعض قيس في رأي الفرّاء، وعدها الكسائي لحنا، والميمني لغة رديئة اللهجات 448، وقد قرأ بها الحسن، كما ذكر ذلك الجامع 6/ 145. (4) . انظر تخفيف الهمزة فيما سبق، وقراءة تخفيف الهمزة في «أجل» وفتح النون هي في حجة ابن خالويه 105، قراءة نافع برواية ورش، واقتصر في الشواذ 32 على ورش، وفي البحر 3/ 468 كذلك. وفي الكشّاف 1/ 627 بلا نسبة. وفي الجامع 6/ 145، والكشّاف 1/ 627، والبحر 3/ 468 نسبت القراءة، بكسر النون وتخفيف الهمزة، الى ابي جعفر يزيد بن القعقاع.

[الآية 32] كأنه يقول «أو بغير فساد في الأرض» . وقال تعالى: لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ [الآية 36] كأنّه يقول: «لو أنّ هذا معهم للفداء ما تقبّل منهم» . وقال تعالى: لا يَحْزُنْكَ [الآية 41] خفيفة مفتوحة الياء «1» وأهل المدينة يقولون (يحزنك) «2» يجعلونها من «أحزن» والعرب تقول: «أحزنته» و «حزنته» . وقال تعالى: الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ [الآية 41] أي: «من هؤلاء ومن هؤلاء» ثم قال مستأنفا: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ [الآية 41] أي: هم سمّاعون. وان شئت جعلته على وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا [الآية 41] سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ثم تقطعه من الكلام الأول. ثم قال تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [الآية 42] على ذلك الرفع للأول وأما قوله تعالى: لَمْ يَأْتُوكَ [الآية 41] فههنا انقطع الكلام والمعنى «ومن الّذين هادوا سمّاعون للكذب «3» يسمعون كلام النبيّ (ص) ليكذبوا عليه سماعون لقوم آخرين لم يأتوك بعد» اي: «يسمعون لهم فيخبرونهم وهم لم يأتوك» . وقال تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الآية 45] إذا عطف على ما بعد «أنّ» نصب «4» والرفع على الابتداء «5» كما تقول: «إنّ زيدا منطلق وعمرو

_ (1) . هي في الجامع 6/ 81 قراءة غير نافع. وهي لغة قريش عنده. (2) . هي في الجامع 6/ 181 قراءة نافع وهي عنده لغة تميم وفي الكشاف 1/ 632 والإملاء 1/ 215 بلا نسبة. [.....] (3) . نقله في زاد المسير 2/ 357. (4) . نسبت في معاني القرآن 1/ 210 الى حمزة، وزاد في السبعة 244 عاصما وزاد نافعا، في رواية، وفي الكشف 1/ 409، والبحر 3/ 494، نسبت الى ثلاثتهم، بلا تمييز، وفي التيسير 99 الى غير ابن كثير، وابن عامر، وأبي عمرو، وفي حجّة ابن خالويه 105 بلا نسبة. (5) . في معاني القرآن 1/ 210 الى الكسائي، ورفعها الى الرسول الكريم، وفي السبعة 244 الى ابن كثير، وأبي عمرو وابن عامر والكسائي، والى نافع في رواية، وأهمل في التيسير 99 نافعا، والكسائي، وفي الكشف 1/ 409 الى غير نافع، وحمزة، وعاصم، وخصّ الكسائي وحده بالذكر، من قرّائها وفي حجّة ابن خالويه 105 بلا نسبة. والرأي في معاني القرآن كما سبق.

ذاهب» ، وإن شئت قلت: «وعمرا ذاهب» نصب ورفع. وقال تعالى: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ [الآية 46] لأن بعضهم يقول: «هي الإنجيل» وبعضهم يقول «هو الإنجيل» . وقد يكون على ان الإنجيل كتاب فهو مذكر في المعنى فذكروه على ذلك. كما قال تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا ثم قال فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء/ 8] «1» فذكّر والقسمة مونثة لأنها في المعنى «الميراث» و «المال» ، فذكر على ذلك. وقال تعالى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الآية 48] أي: «وشاهدا عليه» بالنصب على الحال. وقال تعالى: شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [الآية 48] ف «الشّرعة» : الدين، من «شرع» «يشرع» ، و «المنهاج» : الطريق من «نهج» «ينهج» . وقال تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [الآية 51] ثم قال: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الآية 51] على الابتداء. وقال تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [الآية 60] أي: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ [الآية 60] وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ. وقال تعالى: وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [الآية 63] وقال عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ [الآية 63] بنصبهما بإسقاط الفعل عليهما. وقال تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [الآية 64] . فذكروا [ان اليد، هنا] «العطيّة» و «النّعمة» . وكذلك بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [الآية 64] كما تقول: إنّ لفلان عندي يدا» أي: نعمة. وقال تعالى أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ [ص/ 45] أي: أولي النّعم. وقد تكون «اليد» في وجوه، تقول: «بين يدي الدار» تعني: قدّامها، وليس للدار يدان. وقال تعالى: فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [الآية 67] «2» قرأ بعضهم (رسالاته) «3»

_ (1) . النساء 4/ 8 وقد سبق له الإشارة الى هذا في الآية المذكورة. (2) . هي في السبعة 246 قراءة ابي عمرو، وحمزة، والكسائي، وابن كثير، وقراءة عاصم في رواية، وفي الجامع 6/ 244 الى ابي عمرو، وأهل الكوفة، وفي الكشف 1/ 415 والتيسير 100 الى غير نافع، وابن عامر، وابي بكر، وفي البحر 3/ 530 إلى غير من قرأ بالأخرى، وفي حجّة ابن خالويه 108 بلا نسبة. (3) . في السبعة 246 الى نافع، والى عاصم في رواية، وفي الكشف 1/ 415 والتيسير 100 والبحر 3/ 530 الى نافع، وابن عامر، وأبي بكر، وفي الجامع 6/ 244 الى اهل المدينة، وفي حجّة ابن خالويه 107 بلا نسبة.

وكلّ صواب لأنّ «الرسالة» قد تجمع «الرّسائل» ، كما تقول «هلك البعير والشّاة» ، و «أهلك الناس الدينار والدرهم» ، تريد الجماعة. وقال تعالى: وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى [الآية 69] ، وقال في موضع آخر وَالصَّابِئِينَ [البقرة/ 62 والحج/ 17] ، والنصب القياس على العطف على ما بعد إِنَّ فأما هذه فرفعها على وجهين، كأن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [الآية 69] في موضع رفع في المعنى لأنه كلام مبتدأ لأنّ قوله: «إنّ زيدا منطلق» و «زيد منطلق» من غير ان يكون فيه «إنّ» في المعنى سواء، فان شئت إذا عطفت عليه شيئا جعلته على المعنى. كما قلت: «إن زيدا منطلق وعمرو» . ولكنه إذا جعل بعد الخبر فهو أحسن واكثر. وقال بعضهم: «لما كان قبله فعل شبه في اللفظ بما يجري على ما قبله، وليس معناه في الفعل الذي قبله وهو الَّذِينَ هادُوا [الآية 69] أجري عليه فرفع به وان كان ليس عليه في المعنى «1» ، ذلك أنه تجيء أشياء في اللفظ لا تكون في المعاني، منها قولهم: «هذا جحر ضبّ خرب» ، وقولهم «كذب عليكم الحجّ» يرفعون «الحج» «بكذب» وإنما معناه عليكم الحج نصب بأمرهم «2» . وتقول: «هذا حبّ رمّاني» فتضيف «الرّمان» إليك وإنّما لك «الحبّ» وليس لك «الرّمّان» . فقد يجوز اشباه هذا والمعنى على خلافه. وقال تعالى: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ [الآية 71] ولم يقل «ثمّ عمي وصمّ» وهو فعل مقدّم، لأنه أخبر عن قوم أنهم عموا وصمّوا، ثم فسّر كم صنع ذلك منهم كما تقول «رأيت قومك ثلثيهم» «3» ، ومثل ذلك قوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء/ 3] وإن شئت جعلت الفعل للآخر فجعلته على لغة الذين يقولون: «أكلوني البراغيث» «4» كما قال «5» [من

_ (1) . نقله في اعراب القرآن 1/ 287 والجامع 6/ 246 مشركا معه فيه الكسائي ولعل هذا ما دفع الأخفش الى نسبة الرأي الى «بعضهم» والبيان 1/ 300 والإملاء 1/ 222. (2) . نقله في الصحاح بشيء من التغيير «كذب» . (3) . نقله في اعراب القرآن 1/ 288 والجامع 6/ 248. (4) . وهي لغة ضعيفة لا يليق ان نخرّج بها النصّ القرآني. (5) . هو الفرزدق همام بن غالب. الديوان 1/ 50 وامالي ابن الشجري 1/ 133.

الطويل وهو الشاهد الخامس والثمانون بعد المائة] : ولكن ديافيّ أبوه وأمّه بحوران يعصرن السّليط أقاربه وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [الآية 73] وذلك انهم جعلوا معه «عيسى» و «مريم» . كذلك يكون في الكلام إذا كان واحد مع اثنين قيل «ثالث ثلاثة» كما قال تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة/ 40] وانما كان معه واحد. ومن قال: «ثالث اثنين» دخل عليه أن يقول: «ثاني واحد» . وقد يجوز هذا في الشعر وهو في القياس الصحيح. قال الشاعر» [من الوافر وهو الشاهد السادس والثمانون بعد المائة] : ولكن لا أخون الجار حتّى يزيل الله ثالثة الأثافي ومن قال: «ثاني اثنين» و «ثالث ثلاثة» قال: «حادي أحد عشر» إذا كان رجل مع عشرة. ومن قال: «ثالث اثنين» قال: «حادي عشرة» فأمّا قول العرب: «حادي عشر» و «ثاني عشر» فهذا في العدد إذا كنت تقول: «ثاني» و «ثالث» و «رابع» و «عاشر» من غير ان تقول: «عاشر كذا وكذا» ، فلما جاوز العشرة أراد أن يقول: «حادي» و «ثاني» ، فكان ذلك لا يعرف معناه إلّا بذكر العشرة، فضم إليه شيئا من حروف العشرة. وقال تعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ [الآية 94] على القسم أي: والله ليبلونّكم. وكذلك هذه اللام التي بعدها النون لا تكون إلا بعد القسم. وقال تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [الآية 95] . أي فعليه جزاء مثل ما قتل من النّعم. وقال تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً [الآية 95] انتصب على الحال بالِغَ الْكَعْبَةِ [الآية 95] من صفته وليس بالِغَ الْكَعْبَةِ بمعرفة لأن فيه معنى التنوين، لأنّه إذا قال: «هذا ضارب زيد» في لغة من حذف النون ولم يفعل بعد، فهو نكرة. ومثل ذلك قوله تعالى: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الأحقاف/ 24] ففيه بعض التنوين غير أنّه لا يوصل اليه من أجل الاسم المضمر. ثم قال تعالى:

_ (1) . لم أجد ما يشير الى القائل والقول، إلّا ما جاء في المنصف 3/ 82 من عجزه: يخون الدهر ثالثة الاثافي.

أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ [الآية 95] أي: أو عليه كفارة. رفع منوّن «1» ثم فسّر فقال طَعامُ مِسْكِينٍ وقرأ بعضهم (كفّارة طعام مساكين) «2» بإضافة الكفارة اليه. وقال تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً [الآية 95] «3» أي: أو عليه مثل ذلك من الصيام. كما تقول: «عليها مثلها زبدا» . وقرأ بعضهم: (أو عدل ذلك صياما) فكسر وهو الوجه «4» لأن «العدل» : المثل. وأمّا «العدل» ، فهو المثل أيضا. وقال وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ [البقرة/ 123] أي: مثل ففرقوا بين ذا وبين «عدل المتاع» كما تقول: «امرأة رزان» و «حجر رزين» . وقال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ [الآية 97] وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [الآية 97] أي: وجعل لكم الهدي والقلائد. وقرأ بعضهم (يضركم) بدلا من يَضُرُّكُمْ في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ [الآية 105] خفيفة، بالجزم لأنه جواب الأمر، من «ضار» «يضير» «5» . وقرأ بعضهم (يضرّكم) «6» فجعل الموضع جزما فيهما جميعا، الا انّه حرّك لأنّ الرّاء ثقيلة فأولها ساكن فلا يستقيم إسكان آخرها فيلتقي ساكنان وأجود ذلك لا يَضُرُّكُمْ «7» رفع على الابتداء لأنه ليس بعلة لقوله تعالى:

_ (1) . هي في الطبري 11/ 30 الى قراء اهل العراق، وفي السبعة 248 إلى ابن كثير، وعاصم، وابن عمرو، وحمزة، والكسائي وفي البحر 4/ 21 إلى السبعة عدا الصاحبين، وأن الأعرج وعيسى بن عمر قرءا كذلك مع توحيد «مسكين» ، وفي الكشف 1/ 418 والتيسير 100 الى غير نافع وابن عامر، وفي حجّة ابن خالويه 109 بلا نسبة. (2) . في الطبري 11/ 30 إلى عامة قراء أهل المدينة، وفي البحر 4/ 20 إلى الصاحبين، وفي السبعة 248، والكشف 1/ 418، والتيسير 100 إلى نافع وابن عامر، وفي حجة ابن خالويه 109 بلا نسبة. [.....] (3) . القراءة بفتح العين في البحر 4/ 21 إلى الجمهور، وفي معاني القرآن 1/ 320 وجه إعرابي لم ينسب قراءة. (4) . في الشواذ 35 قراءة منسوبة الى النبي الكريم (ص) ، وعبد الله بن عباس، وفي البحر 4/ 21 الى عبد الله بن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري، وفي معاني القرآن 1/ 320 لم ينسب قراءة، بل ذكر لغة لبعض العرب. (5) . في البحر 35 قراءة يحيى وإبراهيم في المحتسب 220، والبحر 4/ 37 على إبراهيم وذكره في الثاني بقلبه، ونقله في اعراب القرآن. (6) . هي في البحر 4/ 37 الى أبي حيوة، وفي معاني القرآن 1/ 323 وجه لم ينسب قراءة، وفي الكشاف 1/ 686 أن قراءة أبي حيوة: يضيركم. (7) . في البحر 4/ 37 إلى الجمهور، وفي معاني القرآن 1/ 323 لم ينسب هذا الوجه قراءة.

عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وانما أخبر أنّه لا يضرّهم. وقال تعالى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ [الآية 106] ثم قال اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ [الآية 106] أي: شهادة بينكم شهادة اثنين. فلما القى «الشهادة» قام «الاثنان» مقامها، وارتفعا بارتفاعها، كما «1» وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف/ 82] يريد: أهل القرية. وانتصبت «القرية» بانتصاب كلمة «الأهل» وقامت مقامها. ثم عطف أَوْ آخَرانِ [الآية 106] على «اثنان» . وقرأ بعضهم: (من الذين استحقّ عليهم الأوّلين) [الآية 107] «2» أي: من الأوّلين الذين استحقّ عليهم. وقرأ بعضهم (الأوليان) «3» وبها نقرأ. لأنّه حين قال: يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ [الآية 107] كان كأنه قد حدّهما حتى صارا كالمعرفة في المعنى فقال الْأَوَّلِينَ فأجرى المعرفة عليهما بدلا «4» . ومثل هذا مما يجري على المعنى كثير. قال الراجز [وهو الشاهد السابع والثمانون بعد المائة] : عليّ يوم تملك الأمورا صوم شهور وجبت نذورا وبدنا مقلّدا منحورا فجعله على «أوجب» لأنه في معنى «قد أوجب» . قال تعالى: قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [الآية 114] بجعل «تكون» من صفة «المائدة» كما

_ (1) . نقله في إيضاح الوقف 2/ 626، مع نقص في بعض العبارات وتغيير طفيف. (2) . في الطبري 11/ 194 الى عامة قراء الكوفة، وفي الكشف 1/ 420 والتيسير 100 الى أبي بكر وحمزة، وفي الجامع 6/ 359 الى ابن سيرين، وفي السبعة 248 الى حمزة والى عاصم في رواية، وفي حجة ابن خالويه 110. (3) . في معاني القرآن 1/ 324 هي قراءة الامام علي بن ابي طالب وأبيّ بن كعب، وفي الطبري 11/ 196 الى عامة قراء اهل المدينة والشام والبصرة، وفي السبعة 248 الى ابن كثير ونافع وابي عمرو ونافع وابن عامر والكسائي وعاصم في رواية، وفي التيسير 100 الى غير ابي بكر وحمزة، وزاد في الكشف 1/ 420 ان عليه الجماعة، وفي الجامع 6/ 359 الى ابي بن كعب، وفي البحر 4/ 45 الى الحرميين والعربيين والكسائي والامام علي بن ابي طالب وابي وابن عباس والى ابن كثير في رواية قرة عنه. (4) . نقله في اعراب القرآن للزجاجي 2/ 577، وشرح الأشموني 3/ 61 والهمع 2/ 117، والاملا 1/ 230.

فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي [مريم] «1» برفع «يرث» «2» إذا جعل صفة، وبجزمه «3» إذا جعل جوابا «4» كما تقول: «أعطني ثوبا يسعني» إذا أردت واسعا و «يسعني» إذا جعلته جوابا كأنك تشترط. وقال تعالى: وَآيَةً مِنْكَ [الآية 114] عطف على «العيد» كأنه قال: «يكون عيدا وآية» ، وذكر أنّ قراءة ابن مسعود «5» (تكن لنا عيدا) . وليس هَلْ يَسْتَطِيعُ [الآية 112] لأنهم ظنوا انه لا يطيق. ولكن معناه كقول العرب: أتستطيع أن تذهب في هذه الحاجة وتدعنا من كلامك» ، وتقول: «أتستطيع أن تكفّ عنّي فإنّي مغموم» . فليس هذا لأنه لا يستطيع ولكنه يريد «كفّ عنّي» ، ويذكر له الاستطاعة ليحتج عليه أي: إنّك تستطيع. فإذا ذكّره إياها علم أنها حجة عليه. وإنما قرئت (هل تستطيع ربّك) «6» فيما لديّ لغموض هذا المعنى

_ (1) . مريم 19/ 6 وقراءة الرفع هي في الطبري 16/ 48 الى عامة قراء المدينة ومكة وجماعة من اهل الكوفة وفي السبعة 407 الى ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة في الكشف 2/ 84 والتيسير 148 الى غير ابي عمرو والكسائي وفي الجامع 11/ 81 الى اهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة وفي البحر 6/ 174 الى الجمهور وفي المحتسب 2/ 38 الى علي بن ابي طالب وابن عباس وابن يعمر وابي حرب بن ابي الأسود والحسن والجحدري وقتادة وابي نهيك وجعفر بن محمد. (2) . قراءة الرفع في آية المائدة في البحر 4/ 56 الى الجمهور وفي معاني القرآن 1/ 325 بلا نسبة. (3) . الجزم في آية مريم هو قراءة في معاني القرآن 2/ 161 يحيى بن وثاب وفي الطبري 16/ 48 الى جماعة من اهل الكوفة والبصرة وفي السبعة 407 والكشف 2/ 84 والتيسير 148 الى ابي عمرو والكسائي وزاد في الجامع 11/ 81 يحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب والأعمش وفي البحر 6/ 174 الى النحويين والزهري والأعمش وطلحة واليزيدي وابن عيسى الاصفهاني وابن محيصن وقتادة. وفي الشواذ 83 الى ابن عباس والجحدري وفي الحجة 209 بلا كشف. أما قراءة الجزم في آية المائدة، ففي معاني القرآن 1/ 325 إلى عبد الله وفي الشواذ 36 إلى ابن مسعود والجامع 6/ 368 الى الأعمش وفي البحر 4/ 56 زاد عبد الله. (4) . نقله في البحر 4/ 56. (5) . هو عبد الله بن مسعود وقد مرت ترجمته فيما سبق. [.....] (6) . هي في معاني القرآن 1/ 325 وقراءة الامام علي بن ابي طالب وعائشة، وقرأ بها معاذ ورفعها الى رسول الله (ص) 1/ 325 وفي الطبري 11/ 218 و 219 الى جماعة من الصحابة والتابعين منهم سعيد بن جبير وتأولت بها عائشة وفي السبعة 249 والتيسير 101 الى الكسائي وزاد في البحر 4/ 54 الامام علي بن ابي طالب ومعاذا وابن عباس وعائشة وابن جبير وفي الجامع 6/ 365 الى النبي الكريم (ص) برواية معاذ وفي حجة ابن خالويه 109 بلا نسبة. اما القراءة بالياء ففي معاني القرآن 1/ 325 الى اهل المدينة وعاصم بن أبي النجود والأعمش وفي الطبري 11/ 219 الى عامة قراء المدينة والعراق في التيسير 101 الى غير الكسائي وفي حجّة ابن خالويه 109 بلا نسبة وفي البحر 4/ 53.

الآخر والله أعلم. وهو جائز كأنه أضمر الفعل فأراد «هل تستطيع أن تدعو ربّك» أو «هل تستطيع ربّك أن تدعوه» ، فكل هذا جائز. و «المائدة» الطعام. و «فعلت» منها: «مدت» «أميد» . قال الشاعر «1» [من الرجز وهو الشاهد الثامن والثمانون بعد المائة] : نهدي رؤوس المجرمين الأنداد إلى أمير المؤمنين» الممتاد «2» و «الممتاد» هو «مفتعل» من «مدت» .

_ (1) . هو رؤبة بن العجاج. ديوانه 40 ومجاز القرآن 1/ 183 و 341. (2) . ورد المصراع الثاني في مجاز القرآن 1/ 159 و 183، والمصراعان في مجاز القرآن 1/ 301 ب تهدي رؤوس المترفين الصداد، وكذلك في الصحاح «ميد» مع «الأنداد» ، وفي اللسان «ميد» نهدي رؤوس، وفي التاج «ميد» نهدي رؤوس المترفين الأنداد، وأيضا نهدي رؤوس المترفين الصداد، وب «نهدي» و «الأنداد وب «نهدي» و «الصداد» في التكملة «ميد» .

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"المائدة"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المائدة» «1» فإن قيل: كيف الارتباط والمناسبة بين قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الآية الأولى] وقوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [نفسها] ؟ قلنا: المراد بالعقود عهود الله عليهم في تحليل حلاله وتحريم حرامه، فبدأ بالمجمل ثم أتبعه بالمفصل من قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وقوله بعده حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الآية 3] . فإن قيل: ما أكله السبع وعدم أكله وتعذره، فكيف يحسن فيه التحريم حتى قال تعالى: وَما أَكَلَ السَّبُعُ [نفسها] ؟ قلنا: معناه وما أكل منه السبع، يعني الباقي بعد أكله. فإن قيل: قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [نفسها] يدل من حيث المفهوم عرفا على أنه لم يرض لهم الإسلام دينا قبل ذلك اليوم، وليس كذلك، فإن الإسلام لم يزل دينا مرضيا للنبي (ص) وأصحابه عند الله منذ أرسله عليه الصلاة والسلام. قلنا: قوله اليوم ظرف للجملتين الأوليين، لا للجملة الثالثة، لأن الواو الأولى للعطف والثانية للابتداء، فالجملة الثالثة مطلقة غير موقتة. فإن قيل: قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [الآية 4] كيف صلح جوابا لسؤالهم والطيبات

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

غير معلومة ولا متفق عليها لأنها تختلف باختلاف الطباع والبقاع؟ قلنا: المراد بالطيبات هنا الذبائح، والعرب تسمي الذبيحة طيبا وتسمي الميتة خبيثا، فصار المراد معلوما لكنه عام مخصوص كغيره من العموميات. فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى مُكَلِّبِينَ بعد قوله وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ [الآية 4] والمكلّب هو المعلم من كلاب الصيد؟ قلنا: قد جاء في تفسير المكلب أيضا أنه المضري للجارح والمغري له فعلى هذا لا يكون تكرارا «1» وعلى القول الأول يقول إنما عمم ثم خصص فقال مكلبين بعد قوله: وَما عَلَّمْتُمْ لأن غالب صيدهم كان بالكلاب، فأخرجه مخرج الغالب الواقع منهم. فإن قيل: ظاهر قوله تعالى وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ يقتضي إباحة الجوارح المعلمة وهي حرام. قلنا: فيه إضمار وتقديره: مصيد ما علمتم من الجوارح، يؤيده ما في تمام الكلام من قوله فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [نفسها] . فإن قيل: المؤمن به هو الله لقوله تعالى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة/ 136] فالمكفور به يكون هو الله أيضا، ويؤيده قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة/ 28] . وإذا ثبت هذا، فكيف قال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ [المائدة/ 5] مع أنه لا يصح أن يقال آمن بالإيمان فكذلك ضده؟ قلنا: المراد به: ومن يرتدّ عن الإيمان يقال بشأنه: كفر فلان بالإسلام إذا ارتد عنه، فكفر بمعنى ارتد لأن الرّدة نوع من الكفر، والباء بمعنى «عن» كما في قوله تعالى سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) [المعارج] وقوله تعالى فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) [الفرقان] . وقيل المراد هنا بالإيمان المؤمن به تسمية للمفعول بالمصدر كما في قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ [المائدة/ 96] ، أي مصيده، وقولهم: ضرب الأمير ونسج اليمن. فإن قيل: لم قال تعالى:

_ (1) . قوله «فعلى هذا لا يكون تكرارا» لا يخفي أن دفع التكرار لا يترتب على مجرد تفسير المكلبين بما ذكر، بل يجعله حالا من فاعل علمتم المفيد لهذا التفسير كما في البيضاوي، لا من الجوارح المبني عليه هذا الإشكال، فكان الأولى التعبير بذلك.

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) [المائدة] ، ولم يقل: وعملوا السيئات، مع أن الغفران يكون لفاعل السيئات لا لفاعل الحسنات؟. قلنا: كل أحد لا يخلو من سيئة صغيرة أو كبيرة، وإن كان ممن يعمل الصالحات وهي الطاعات، والمعنى: أن من آمن وعمل الحسنات غفرت له سيئاته قال تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود/ 114] . فإن قيل: لم قال تعالى بعد قوله وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ [المائدة/ 12] ، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) [المائدة] ، مع أن الذي كفر قبل ذلك فقد ضل سواء السبيل؟ قلنا: نعم ولكن الضلال بعد ما ذكر من النعم أقبح، لأن قبح الكفر بقدر عظم النعم المكفورة، فلذلك خصّه بالذكر. فإن قيل: لم قال تعالى وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [المائدة/ 14] ، ولم يقل ومن النصارى؟ قلنا: لأن هؤلاء كانوا كاذبين في دعواهم أنهم نصارى، وذلك أنهم إنما سموا أنفسهم نصارى ادعاء لنصرة الله تعالى، وهم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار الله، ثم اختلفوا بعده نسطورية ويعقوبية وملكانية أنصارا للشيطان، فقال ذلك توبيخا لهم. فإن قيل: لم قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الآية 15] ، أي مما كتمتموه من الكتاب فلا يظهره ولا يبين كتمانكم إياه، فكيف يجوز للنبي (ص) أن يمسك عن إظهار حق كتموه مما في كتبهم؟ قلنا: إنما لم يبين البعض لأنه كان يتبع الأمر ولا يفعل شيئا من الأمور الدينية من تلقاء نفسه، بل اتباعا للوحي، فما أمر ببيانه بيّنه، وما لم يؤمر ببيانه أمسك عنه إلى وقت أمره ببيانه. وعلى هذا الجواب يكون لفظ العفو مجازا عن الترك، فيكون قد أعلمه الله به وأطلعه عليه ولم يأمره ببيانه لهم فترك تبيانه لهم. الثاني أن ما كان في بيانه إظهار حكم شرعي كصفته ونعته والبشارة به وآية الرجم ونحوها بيّنه، وما لم يكن في بيانه حكم شرعي

ولكن فيه افتضاحهم وهتك أستارهم فإنه عفا عنه. الثالث أن عقد الذمة اقتضى تقريرهم على ما بدلوا وغيروا من دينهم، إلا ما كان في إظهاره معجزة له وتصديق لنبوته من نعته وصفته، أو ما اختلفوا فيه فيما بينهم وتحاكموا إليه فيه كحكم الزّنى ونحوه. فإن قيل: لم قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ مع أن العبد ما لم يهده أولا لا يتبع رضوانه فيلزم الدور؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: يهدي به الله من علم أنه يريد أن يتبع رضوانه، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت/ 69] أي والذين أرادوا سبيل المجاهدة فينا لنهدينهم سبل مجاهدتنا. فإن قيل: لم نر ولم نسمع «1» أن قوما من اليهود والنصارى قالوا نحن أبناء الله، فكيف أخبر الله تعالى عنهم بذلك؟ قلنا: المراد بقولهم أبناء الله خاصة الله، كما يقال أبناء الدنيا وأبناء الآخرة. وقيل فيه إضمار تقديره: أبناء أنبياء الله. فإن قيل: كيف يصح الاحتجاج عليهم بقوله تعالى قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ [الآية 18] مع أنهم ينكرون تعذيبهم بذنوبهم، ويدعون أن ما يذنبون بالنهار يغفر بالليل وما يذنبون بالليل يغفر بالنهار. قلنا: هم كانوا مقرين أنه يعذبهم أربعين يوما وهي مدة عبادتهم العجل في غيبة موسى عليه السلام لميقات ربه، ولذلك قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة/ 80] . وقيل أراد به العذاب الذي أوقعه ببعضهم في الدنيا من مسخهم قردة كما فعل بأصحاب السبت، وخسف الأرض كما فعل بقارون، وهذا لا ينكرونه، وعلى هذا الوجه يكون المضارع بمعنى الماضي في قوله فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ والإضافة إليهم بمعنى الإضافة إلى آبائهم، كأنه قال: فلم عذّب آباءكم. فإن قيل: قوله تعالى:

_ (1) . قوله (لم نر ولم نسمع إلخ ... ) لا يخفي ما في إيراد السؤال على هذا الوجه، مما ينبو عن ساحة الأدب في عظمة التنزيل.

بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [الآية 18] إن أريد به يغفر لمن يشاء منكم أيها اليهود والنصارى، ويعذب من يشاء يلزم جواز المغفرة لهم وأنه غير جائز لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء/ 48] ، وإن أريد به يغفر لمن يشاء من المؤمنين ويعذب من يشاء لا يصلح جوابا لقولهم. قلنا: المراد به يغفر لمن يشاء منهم إذا تاب من الكفر. وقيل: يغفر لمن يشاء ممن خلق وهم المؤمنون، ويعذب من يشاء وهم المشركون. فإن قيل: لم قيل: يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [الآية 20] ، ولم يكن قوم موسى عليه السلام ملوكا؟ قلنا: المراد جعل فيكم ملوكا، وهم ملوك بني إسرائيل، وهم اثنا عشر ملكا، لاثني عشر سبطا، لكل سبط ملك. وقيل المراد به أنه رزقهم الصحة والكفاية والزوجة الموافقة والخادم والبيت فسماهم ملوكا لذلك. وقيل المراد به أنه رزقهم المنازل الواسعة التي فيها المياه الجارية. فإن قيل: من أين علم الرجلان أنهم الغالبون حتى قالا، كما روى القرآن الكريم: فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ [الآية 23] . قلنا: من جهة وثوقهم بإخبار موسى (ع) بذلك كما ورد في التنزيل: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [الآية 21] . وقيل علما ذلك بغلبة الظن، وما عهداه مع صنع الله تعالى بموسى (ع) في قهر أعدائه. فإن قيل: قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) يدل على أن من لم يتوكل على الله لا يكون مؤمنا، وإلا لضاع التعليق وليس كذلك. قلنا: «إن» هنا بمعنى إذ، فتكون بمعنى التعليل كما في قوله تعالى: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) [البقرة] . فإن قيل: كيف التوفيق بين قوله تعالى: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [الآية 21] وبين قوله فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [الآية 26] . قلنا: معناه كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها، فلما أبوا الجهاد، قيل: فإنها محرمة عليهم. الثاني أن

كل واحد منهما عام أريد به الخاص، فالكتابة للبعض وهم المطيعون، والتحريم على البعض وهم العاصون. الثالث أن التحريم موقت بأربعين سنة والكتابة غير موقّتة، فيكون المعنى أن بعد مضي الأربعين يكون لهم. وهذا الجواب تام على قول من نصب الأربعين بمحرمة وجعلها ظرفا. فأما من جعل الأربعين ظرفا لقوله تعالى (يتيهون) مقدما عليه، فإنه جعل التحريم مؤبدا فلا يتأتى على قوله هذا الجواب، لأن التقدير عنده: فإنها محرمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة، وهو موضع قد اختلف فيه المفسرون والقراء من جملة من جوز نصب الأربعين بمحرمة ويتيهون، والزجاج من جملة من منع جواز نصبه بمحرمة، ونقل أن التحريم كان مؤبدا، وأنهم لم يدخلوها بعد الأربعين، ونقل غيره أنه دخلها بعد الأربعين من بقي منهم وذرية من مات منهم، ويعضد الوجه الأول كون الغالب في الاستعمال تقدم الفعل على الظرف الذي هو عدد، لا تأخّره عنه، يقال: سافر زيد أربعين يوما وما أشبه ذلك، وقلّما يقال على العكس. فإن قيل: لم قال تعالى: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً [الآية 27] ، ولم يقل قربانين لأن كل واحد منهما قرب قربانا؟ قلنا: أراد به الجنس فعبر عنه بلفظ الفرد كقوله تعالى وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها [الحاقة/ 17] . الثاني: أن العرب تطلق الواحد وتريد الاثنين، وعليه جاء قوله تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) [ق] وقال الشاعر: فإنّي وقيّار بها لغريب تقديره: فإني بها لغريب وقيار. كذلك كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ [البقرة/ 62] . وقيل إنما أفرده لأن فعيلا يستوي فيه الواحد والمثنى والمجموع. فإن قيل: أصلح قوله تعالى إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) جوابا لقوله لَأَقْتُلَنَّكَ. قلنا: لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل، قال له ذلك كناية عن حقيقة الجواب وتعريضا، معناه إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا منّي فلم تقتلني؟

فإن قيل: كيف قال هابيل لقابيل كما ورد في التنزيل: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [الآية 29] أي تنصرف بهما مع أن إرادة السوء والوقوع في المعصية للأجنبي حرام، فكيف للأخ؟ قلنا: فيه إضمار حرف النفي تقديره: إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل/ 15] ، أي أن لا تميد بكم وقوله تعالى تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ [يوسف/ 85] وقول امرئ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدا الثاني أن فيه حذف مضاف تقديره: إني أريد انتفاء أن تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة/ 93] ، أي حب العجل. الثالث أن معناه: إني أريد ذلك إن قتلتني لا مطلقا. الرابع أنه كان ظالما، وجزاء الظالم تحسن إرادة من الله تعالى فتحسن من العبد أيضا. فإن قيل: قوله تعالى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) يدل على أن قابيل كان تائبا لقوله عليه الصلاة والسلام «الندم توبة» فلا يستحق النار. قلنا: لم يكن ندمه على قتل أخيه، بل على حمله على عنقه سنة، أو على عدم اهتدائه إلى الدفن الذي تعلمه من الغراب، أو على فقد أخيه لا على المعصية، ولو سلمنا أن ندمه كان على قتل أخيه، ولكن يجوز أن الندم لم يكن توبة في شريعتهم بل في شريعتنا، أو نقول: التوبة تؤثر في حقوق الله تعالى لا في حقوق العباد، والدم من حقوق العباد فلا تؤثر فيه التوبة. فإن قيل: كيف يكون قتل الواحد كقتل الكل «1» ، وإحياء الواحد كإحياء الكل والدليل يأباه من وجهين: أحدهما أن الجناية كلما تعددت وكثرت كانت أقبح فتناسب زيادة الإثم والعقوبة، هذا هو مقتضي العقل والحكمة. الثاني أن المراد بهذا التشبيه إما أن يكون تساوي قتل الواحد والكل في الإثم والعقوبة، أو تقاربهما، وإنما كان يلزم منه أنه إذا قتل الثاني أو الثالث وهلم جرا أن لا يكون عليه إثم آخر، ولا يستحق عقوبة أخرى لأنه أثم إثم قتل الكل واستحق عقوبة قتل الكل

_ (1) . اشارة الى الآية 32 من سورة المائدة.

بمجرد قتل الأول أو الأول والثاني، لأن قتل الواحد إذا كان يساوي قتل الكل أو يقاربه، فقتل الاثنين يجعل عليه إثم قتل الكل وعقوبة قتل الكل، فكيف يزداد بعد ذلك بقتل الثالث والرابع وهلم جرا، ولو قتل الكل عن إثم، فلا يجوز أن يستحق بقتل الواحد أو الاثنين إثم قتل الكل، وبقتل الكل إثم قتل الكل؟ قلنا: أقرب ما قيل فيه أن المراد من قتل نفسا واحدة بغير حق كان جميع الناس خصومه في الدنيا إن لم يكن له ولي، وفي الآخرة مطلقا لأنهم من أب وأم واحدة. وقيل: معناه من قتل نفسا نبيا، وإماما عادلا، فهو كمن قتل الناس جميعا من حيث إبطال المنفعة على الكل، لأن منفعتهما عامة للكل. وقيل المراد بمن قتل هو قابيل، فإن عليه من الإثم بمنزلة إثم قتل الكل لأنه أول من سن القتل، فكل قتل يقع بعده يلحقه شيء من وزره بغلبة التسبب لقوله عليه الصلاة والسلام «من سن سنة حسنة» الحديث، وهذا أحسن في المعنى، ولكن اللفظ لا يساعد عليه وهو قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 32] لأن هذا المعنى إذ أريد به قابيل لا تختص كتابته ببني إسرائيل. فإن قيل: كيف وجه قوله تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الآية 33] ، وحقيقة المحاربة بين العبد والرب ممتنعة؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: يحاربون أولياء الله. وقيل أراد بالمحاربة المخالفة. فإن قيل: لم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ [الآية 36] ولم يقل بهما، والمذكور شيئان؟ قلنا: قد سبق جواب مثله قبيل هذا في قوله تعالى إِذْ قَرَّبا قُرْباناً [الآية 27] ، وهنا جواب آخر وهو أن يكون وضع الضمير موضع اسم الإشارة كأنه قال ليفتدوا بذلك، وذلك يشار به إلى الواحد والاثنين والجمع. فإن قيل، ما فائدة قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [الآية 42] وحال النبي عليه الصلاة والسلام مع أهل الكتاب لا يخلو عن هذين القسمين، لأنه إما أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم؟

قلنا: فائدته تخيير النبي عليه الصلاة والسلام بين الحكم بينهم وعدمه، ليعلم أنه لا يجب عليه أن يحكم بينهم كما يجب عليه ذلك بين المسلمين إذا تحاكموا إليه وقيل إن هذا التخيير منسوخ بقوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الآية 48] وهو القرآن يدل عليه قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [الآية 48] ، أي في الحكم بالتوراة. فإن قيل: لما أنزل الله القرآن صار الإنجيل منسوخا به، فكيف قال تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [الآية 47] ؟ قلنا: هو عام مخصوص: أي ما أنزل الله فيه من صدق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بعلاماته المذكورة في الإنجيل، وذلك غير منسوخ. فإن قيل: لم قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ [الآية 49] مع أن الكفار معاقبون بكل ذنوبهم؟ قلنا: أراد به عقوبتهم في الدنيا، وهو ما عجله من إجلاء بني النّضير وقيل بني قريظة وذلك جزاء بعض ذنوبهم لأنه جزاء منقطع، وأما جزاؤهم على شركهم فهو جزاء دائم لا يتصور وجوده في الدنيا وقيل أراد بذلك البعض ذنب التولي عن الرضا بحكم القرآن، وإنما أبهمه تفخيما له وتعظيما. فإن قيل: حسن حكم الله وصحته أمر ثابت على العموم بالنسبة إلى الموقنين وغير الموقنين، فكيف قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) . قلنا: لما كان الموقنون أكثر انتفاعا به من غيرهم، بل هم المنتفعون به في الحقيقة لا غير، كانوا أخص به، فأضيف إليهم لذلك، ونظيره: قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) [النازعات] . فإن قيل: قوله تعالى وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [الآية 51] يقتضي أن يكون من وادّ أهل الكتاب وصادقهم كافرا وليس كذلك لقوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة/ 8] . قلنا: المراد بقوله تعالى وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ: المنافقون، لأنها نزلت في شأنهم وهم كانوا من الكفار في الدنيا ضميرا واعتقادا، ومعناه أنه منهم في الآخرة جزاء، وعقابه أشد.

فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) [المائدة] وكم من ظالم هداه الله تعالى فتاب وأقلع عن ظلمه؟ قلنا: هاهنا ثلاثة معان: الأول أنه لا يهديهم ما داموا مقيمين على ظلمهم الثاني أن معناه: لا يهدي من قضى في سابق علمه أنه يموت ضالا الثالث أن معناه: لا يهدي القوم الظالمين يوم القيامة إلى طريق الجنة: أي المشركين. فإن قيل: لم قال تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الآية 54] ولم يقل أذلة للمؤمنين، وإنما يقال ذل له لا ذل عليه؟ قلنا: لأنه ضمن الذل معنى الحنوّ والعطف فعداه تعديته، كأنه قال حانين على المؤمنين عاطفين عليهم. فإن قيل: كيف قال تعالى وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) وكم مرة غلب حزب الله تعالى في زمن النبي (ص) وبعده إلى يومنا هذا؟ قلنا: المراد به الغلبة بالحجة والبرهان لا بالدولة والصولة، وحزب الله هم المؤمنون غالبون بالحجة أبدا. فإن قيل: المثوبة مختصة بالإحسان، فكيف قال تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ [الآية 60] . قلنا: لا نسلم أن الثواب والمثوبة مختص بالإحسان، بل هو الجزاء مطلقا بدليل قوله تعالى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) [المطففين] أي هل جوزوا، وقوله تعالى: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران/ 153] . وهو كلفظ البشارة لا اختصاص له، لغة، بالخبر السار، بل هو عام شامل للشر، قال الله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) [آل عمران] . فإن قيل: ما فائدة إرسال الكتاب والرسول إلى أولئك الكثيرين الذين قال تعالى في حقهم وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً [الآية 64] . قلنا: فائدته إلزام الحجة عليهم. الثاني تبجيل الكتاب والرسول إذا كان مرسلا إلى الخلق كلهم، كان ذلك أفخم وأعظم للرسول والمرسل. فإن قيل: قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [الآية 66] ،

يقتضي تعلّق الرخاء وسعة الرزق بالإيمان بالكتاب والعمل بما فيه، وليس كذلك فإن كثيرا من المؤمنين بالكتب الأربعة العاملين بما فيها ما لم ينسخ، عيشهم في الدنيا منكد ورزقهم مضيّق. قلنا: هذا التعليق خاص بحق أهل الكتب، لأنهم اشتكوا من ضيق الرزق حتى قالوا (يد الله مغلولة) فأخبرهم الله تعالى أن ذلك التضييق عقوبة لهم بشؤم معاصيهم وكفرهم، والله تعالى يجعل ضيق الرزق وتقديره نعمة في حق بعض عباده، ونقمة في حق بعضهم، وكذلك الرخاء والسعة فيعاقب بهما على المعصية، ويثيب بهما على الطاعة، ويختلف ذلك باختلاف أحوال الأشخاص، فلا يلزم من توسيع الرزق الإكرام، ولا من تضييقه الإهانة ولا يلزم عكسه أيضا، ولهذا رد الله تعالى ذلك بقوله فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ [الفجر/ 15] إلى قوله تعالى: كَلَّا [الفجر/ 17] أي ليس الأمر كما ظن الإنسان وزعم من أن توسيع الرزق دليل الكرامة، وتضييقه دليل الإهانة، بل دليل الكرامة هو الهداية والتوفيق للطاعات، ودليل الإهانة هو الإضلال وحرمة التوفيق. فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [الآية 67] . ومعلوم أنه إذا لم يبلغ المنزل إليه لم يكن قد بلغ الرسالة؟ قلنا: المراد حثه على تبليغ ما أنزل عليه من معايب اليهود ومثالبهم. فالمعنى بلغ الجميع، فإن كتمت منه حرفا كنت في الإثم والمخالفة كمن لم يبلغ شيئا البتة، فجعل كتمان البعض ككتمان الكل. وقيل أمر بتعجيل التبليغ كأنه (ص) كان عازما على تبليغ جميع ما نزل إليه، إلا أنه أخر تبليغ البعض خوفا على نفسه وحذرا مع عزمه على تبليغه في ثاني الحال، فأمر بتعجيل التبليغ، يؤيد هذا القول قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. فإن قيل: كيف ضمن الله تعالى لرسوله العصمة بقوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، ثم إنه (ص) شجّ وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته؟ قلنا: المراد به العصمة من القتل لا من جميع الأذى، فإن جميع العصمة من جميع المكاره لا تناسب أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم

جامعون مكارم الأخلاق ومن أشرف مكارم الأخلاق تحمل الأذى. الثاني أن هذه الآية نزلت بعد أحد، لأن سورة المائدة من آخر ما نزلت من القرآن. فإن قيل: كيف قال تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) «1» مع أن بعض الظالمين وهم العصاة من المؤمنين يشفع فيهم النبي (ص) يوم القيامة فيكون ناصرا لهم؟ قلنا: المراد بالظالمين هنا المشركون، يعلم ذلك من أول الآية ووسطها «2» . فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) بعد قوله في الآية نفسها: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ قلنا: المراد بالضلال الأول ضلالهم عن الإنجيل، وبالضلال الثاني ضلالهم عن القرآن. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [الآية 79] والنهي عن المنكر بعد فعله ووقوعه لا معنى له؟ قلنا: فيه إضمار حذف مضاف تقديره: كانوا لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله كما يرى الإنسان أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوى وتهيأ فينكر، ويجوز أن يريد بقوله لا يَتَناهَوْنَ لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه، بل يصرون عليه ويداومون، يقال: تناهى عن الأمر وانتهى عنه بمعنى واحد: أي امتنع عنه وتركه. فإن قيل: لم قال تعالى: وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81) والمراد بقوله منهم المنافقون أو اليهود على اختلاف القولين وكلهم فاسقون؟ قلنا: المراد به فسقهم بموالاة المشركين ودسّ الأخبار إليهم لا مطلق الفسق، وذلك الفسق الخاص مخصوص بكثير منهم، وهم المذكورون في أول الآية السابقة في قوله تعالى: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ [الآية 80] ، وليس شاملا لجميعهم. فإن قيل: لم قال تعالى

_ (1) . ورد قوله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) في موضعين آخرين هم: [البقرة/ 270] و [آل عمران/ 192] . (2) . يقصد الآية 72 من سورة المائدة.

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [الآية 90] وهذه الأعيان كلها مخلوقات لله تعالى فأين عمل الشيطان في وجودها؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: إنما تعاطي الخمر والميسر إلى آخره أو مباشرته إلخ. فإن قيل: مع هذا الإضمار كيف قال تعالى من عمل الشيطان، وتعاطي الخمر والقمار ونحوهما من عمل الإنسان حقيقة؟ قلنا: إنما أضيف إلى الشيطان مجازا لأنه هو السبب في وجود الفعل بواسطته ووسوسته وتزيينه ذلك للفساق، فصار كما لو أغرى رجل رجلا بضرب آخر فضربه، فإنه يجوز أن يقال للمغري هذا من عملك. فإن قيل: لم جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام في الآية الأولى ثم خص الخمر والميسر في الآية الثانية؟ قلنا: لأن العداوة والبغضاء بين الناس تقع كثيرا بسبب الخمر والميسر وكذلك يشتغلون بهما عن الطاعة، بخلاف الأنصاب والأزلام فإن هذه المفاسد لا توجد فيها، وإن كانت فيها مفاسد أخر. وقيل إنما كرر ذكر الخمر والميسر فقط لأن الخطاب للمؤمنين بدليل قوله تعالى في الآية نفسها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وهم إنما يتعاطون الخمر والميسر فقط، وإنما جمع الأربعة في الآية الأولى لإعلام المؤمنين، وأن هذه الأربعة من أعمال الجاهلية، وأنه لا فرق بين من عبد صنما أو أشرك بالله تعالى بدعوى علم الغيب، وبين من شرب الخمر أو قامر مستحلّا لهما. فإن قيل: كيف يحسن أن يفعل الله تعالى فعلا يتوسل به إلى تحصيل علم حتى قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ [الآية 94] . قلنا: معناه ليميز الله الخائف من غير الخائف عند الناس. وقيل معناه ليعلم عباد الله من يخافه بالغيب وهو قريب من الأول. وقيل معناه ليعلم الخوف واقعا كما علمه منتظرا. فإن قيل: لم قال تعالى وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [الآية 95] ، ووصف العمدية ليس بشرط لوجوب الجزاء، فإنه لو قتله ناسيا أو مخطئا وجب الجزاء أيضا؟

قلنا: عند ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وصف العمدية شرط لوجوب الجزاء، فلا يرد عليهم السؤال، وأمّا على قول الجمهور، فإنما قيّده بوصف العمدية، لأن الواقعة التي كانت سبب نزول الآية، كانت عمدا على ما يروى عن الصحابة، أنه اعترض حمار وحش بالحديبية وهم محرمون، فطعنه ابو اليسر برمحه، فقطعه، فنزلت الآية، فخرج وصف العمدية، مخرج الواقع لا مخرج الشرط. وقال الزهري: نزل الكتاب بالعمد، ووردت السنّة بالوجوب في الخطأ. فإن قيل: لم قال تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الآية 95] مع أن الشرط بلوغه الى الحرم لا غير؟ قلنا: لمّا كان المقصود من بلوغ الهدي الى الحرم تعظيم الكعبة، ذكر الكعبة تنبيها على ذلك. وقيل معناه بالغ حرم الكعبة. فإن قيل: قوله تعالى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) ، أي دلالة لهذه الأمور المذكورة على علم الله تعالى بما في السماوات وما في الأرض، وأنه بكل شيء عليم. قلنا: ذلك إشارة إلى كل ما سبق ذكره، من الغيوب في هذه السورة، من أحوال الأنبياء والمنافقين واليهود، لا الى المذكور في هذه الآية. الثاني ان العرب كانت تسفك الدماء وتنهب الأموال، فإذا دخل الشهر الحرام، أو دخلوا الى البلد الحرام كفّوا عن ذلك، فعلم الله تعالى أنّه لو لم يجعل لهم زمانا أو مكانا يقتضي كفهم عن القتل، ونهب الأموال لهلكوا، فظهرت المناسبة. فإن قيل: لم قال تعالى ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ [الآية 103] والجعل هو الخلق بدليل قوله تعالى ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الزّمر/ 6] وقوله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام/ الآية الأولى] ، وخالق هذه الأشياء هو الله تعالى؟ قلنا: المراد بالجعل هنا الإيجاب والأمر: أي ما أوجبها ولا أمر بها. وقيل المراد بالجعل التحريم. فإن قيل: قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [الآية 105] يدل

على عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما واجبان. قلنا: معنى قوله أَنْفُسَكُمْ: أي أهل دينكم كما قال تعالى وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء/ 29] ، أي أهل دينكم. وقيل المراد به آخر الزمان عند فساد الزمان، وتعذّر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو زماننا هذا. فإن قيل: كيف يقول الرسل: لا عِلْمَ لَنا [الآية 109] ، إذا قال الله تعالى لهم: ماذا أُجِبْتُمْ [نفسها] وهم عالمون بماذا أجيبوا؟ قلنا: هذا جواب الدهشة والحيرة، حين تطيش عقولهم من زفرة جهنم، نعوذ بالله تعالى منها، ومثله لا يفيد نفي العلم ولا إثباته. الثاني: أنهم قالوا ذلك تعريضا بالتشكّي من قومهم ولإظهار الالتجاء الى الله تعالى في الانتقام منهم، كأنهم قالوا: أنت أعلم بما أجابونا به من التصديق والتكذيب. الثالث معناه: لا علم لنا بحقيقة ما أجابونا به لأنا نعلم ظاهره وأنت تعلم ظاهره ومضمره، ويؤيد ما بعده. فإن قيل: أيّ معجزة لعيسى (ع) في تكليم الناس كهلا حتى قال: تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [الآية 110] . قلنا: قد سبق جوابه في سورة آل عمران «1» مستقصى. فإن قيل: كيف قال الحواريون هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [الآية 112] شكّوا في قدرة الله تعالى على بعض الممكنات وذلك كفر، ووصفوه بالاستطاعة وذلك تشبيه، لأن الاستطاعة إنما تكون بالجوارح والحواريون خلّص أتباع عيسى (ع) ، والمؤمنون به، بدليل قوله تعالى حكاية عنهم: قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) . قلنا: هذا استفهام عن الفعل لا عن القدرة، كما يقول الفقير للغنيّ القادر: هل تقدر ان تعطيني شيئا، وهذا يسمّى استطاعة المطاوعة لا استطاعة القدرة، والمعنى: هل يسهل عليك ان تسأل ربك؟ كقولك لآخر: هل تستطيع ان تقوم معي؟ وأنت تعلم استطاعته لذلك. فإن قيل: لو كان المراد هذا

_ (1) . هو قوله تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران/ 46] .

المعنى، فلم أنكر عليهم عيسى عليه السلام بقوله: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) ؟ قلنا: إن إنكاره عليهم إنّما كان لأنهم أتوا بلفظ يحتمل المعنى الذي لا يليق بالمؤمن المخلص إرادته، وإن كانوا لم يريدوه. فإن قيل: كيف قال عيسى (ع) : وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [الآية 116] وكل ذي نفس فهو ذو جسم، لأن النفس عبارة عن الجوهر القائم بذاته المتعلّق بالجسم تعلّق التدبير، والله تعالى منزه عن الجسم. قلنا: النفس تطلق على معنيين: أحدهما هذا، والثاني حقيقة الشيء وذاته كما يقال: نفس الذهب والفضة محبوبة: أي ذاتهما، والمراد به في الآية ثانيا هذا المعنى. [والنّفس ترد بمعنى عند، أي تعلم ما عندي، ولا أعلم ما عندك ولعل هذا المعنى أقرب المعاني للآية الكريمة] «1» . فإن قيل: كيف قال عيسى (ع) : ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ [الآية 117] ، مع أنه قال لهم كثيرا من الكلام المباح غير الأمر بالتوحيد؟ قلنا: معناه قلت لهم فيما يتعلق بالإله. فإن قيل: إذا كان عيسى لم يمت، وإنّما هو حي في السماء فكيف قال فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي [الآية 117] . قلنا: أراد بالتوفّي إتمام مدة إقامته في الأرض، وإتمامه قد سبق في قوله: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران/ 55] والسؤال إنما يتوجّه على قول من قال: إن السؤال والجواب وجدا يوم رفعه الى السماء، وأمّا من قال: إن السؤال إنّما يكون يوم القيامة وعليه الجمهور، فالجواب مطابق ولا إشكال فيه. في قوله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) . فإن قيل: لو قال عيسى عليه السلام: إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم، وإن تغفر لهم فإنهم عبادك، كان أظهر مناسبة؟

_ (1) . راجع لسان العرب، مادة نفس.

قلنا: معناه إن تعذّبهم فإنهم عبادك، وتصرّف المالك المطلق الحقيقي بعبيده مباح: أيّ تصرف كان، وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم، الذي لا ينقص من عزه شيء، بترك العقوبة والانتقام ممن عصاه، الحكيم في كل ما يفعله من العذاب او المغفرة. فإن قيل: لم قال تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الآية 119] يعني يوم القيامة، والصدق نافع في الدنيا والآخرة، ولفظ الآية في قوة الحصر؟ قلنا: لمّا كان نعت الصدق في الآخرة، هو الفوز بالجنّة والنجاة من النار، ونفعه في الدنيا دون ذلك، كان كالعدم بالنسبة الى نفعه في الآخرة، فلم يقيّد به في مقابلته. فإن قيل: قوله تعالى هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الآية 119] إن أراد به صدقهم في الآخرة، فالآخرة ليست بدار عمل، وإن أراد به صدقهم في الدنيا، فليس بمطابق لما ورد فيه، وهو الشهادة لعيسى (ع) بالصدق، فبما يجيب به يوم القيامة؟ قلنا: أراد به الصدق المستمرّ، بالصادقين في دنياهم وآخرتهم وعن قتادة رحمه الله: متكلمان صدقا يوم القيامة، فنفع أحدهما صدقه دون الآخر: أحدهما إبليس الذي قال: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم/ 22] . وصدق يومئذ فلم ينفعه صدقه، لأنه كان كاذبا قبل ذلك، والآخر عيسى (ع) الذي كان صادقا في الدنيا والآخرة، فنفعه صدقه. فإن قيل: ما في السموات والأرض العقلاء وغيرهم، فلماذا لم يغلّب العقلاء على غير العقلاء ولم يأت بالموصول «من» ، بل أتى بالموصول «ما» فقال، جل من قائل: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ [الآية 120] ؟ قلنا: لأن كلمة «ما» تتناول الأجناس كلها تناولا عاما بأصل الوضع، و «من» لا تتناول غير العقلاء بأصل الوضع، فكان استعمال «ما» في هذا الموضع أوفى.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"المائدة"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المائدة» «1» قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [الآية 2] . وهذه استعارة، والمراد مستبعدات الله التي أشعرها للناس، أي بينها لهم. من قولهم: أشعرت البدنة، إذا جرحتها في سنامها ليسيل دمها، فيعلم أنها هدي لبيت الله سبحانه: وهذا الفعل علامة لها، ودلالة عليها. وقوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [الآية 16] وهذه استعارة. والسلام هاهنا جمع سلامة. فالمراد أنه تعالى، يدلّ من أطاعه على طريق نجاته، وسبيل أمنته، لأن طاعته تعالى إمام «2» السلامة، فمن اتبع قياده نجا، ومن تقاعس عنه ضلّ وغوى. وقوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [الآية 19] وهذه استعارة. والمراد على انقطاع الإرسال الى الأمم و ... الزمان من «3» .... الرسل. تشبيها بحال إرسال الأنبياء إلى أممهم، ثم حال توفّيهم بعد أداء شرائعهم بثقوب النار ثم خمودها، واضطرامها ثم فتورها. وقوله تعالى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) . وهذه استعارة. ونظيرها قوله تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق: محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . في الأصل «إدام» ولا معني للإدام هنا لأنه ما يؤتدم به. ولعل ما استظهرناه هو الصواب، لأن الإمام له مكان القيادة. فكأن الطاعة تقود الى السلامة. (3) . موضع النقط كلمات لم تتبين بالأصل (المحقق) . [.....]

انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمران/ 144] أي لا تولّوا عن دينكم وتشكوا بعد يقينكم، فتكونا كالمتقهقر الراجع، والمتقاعس الناكص. وقوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) وهذه استعارة. والمراد: سوّلت له، وقرّبت عليه نفسه، ففعل. وطوّعت: فعّلت من الطوع، اي سهلت نفسه عليه ذلك، حتى أتاه طوعا، وانقاد إليه سمحا. وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [الآية 32] وأحياها هنا استعارة. لأن إحياء النفس بعد موتها لا يفعله إلا الله تعالى. وإنما المراد: من استبقاها وقد استحقت القتل، واستنقذها وقد أشرفت على الموت. فجعل سبحانه فاعل ذلك بها كمحييها بعد موتها. إذا كان الاستنقاذ من الموت، كالإحياء بعد الموت. وقوله سبحانه مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [الآية 41] ، وهذه استعارة. لأن صفة الإيمان والكفر إنما يوصف بها الإنسان دون القلب. والمراد: أنهم آمنوا بالظواهر، وكفروا بالبواطن. قوله سبحانه: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الآية 48] . وهذه استعارة. وقد تقدّم مثلها. والمعنى: مصدّقا بما سلف قبله من الكتاب الذي هو الإنجيل الصحيح. واستعير ذكر اليدين هاهنا، كما يقول القائل إذا سأله غيره عن راكب مرّ به: هو بين يديك. أي قد سار أمامك. ومهيمنا عليه: أي شاهدا عليه. فهذه ايضا استعارة أخرى. والمراد: أنّ ما في هذا الكتاب من وضوح الدلالة، يقوم مقام النطق بصحة الشهادة. وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [الآية 48] . وهذه استعارة. والمراد: ولا تطع أمرهم، ولا تجب داعيهم، فأقام سبحانه أهواءهم مقام الدعاة إلى الرّدى، والهداة إلى العمى. وقوله تعالى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ [الآية 48] . وهذه استعارة عجيبة: والمعنى: فبادروا فعل الخيرات إن كنتم على غير أمان من حضور الأجل، وتضييق الأمل. وذلك شبيه بسباق الخيل، لأن كل واحد من فرسانها

يشاحّ غيره على بلوغ الغاية المقصودة، وينافسه في الإسراع الى البغية المطلوبة. وقوله سبحانه: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الآية 54] . وهذه استعارة. لأن الحبّ الذي هو ميل الطباع لا يجوز على القديم سبحانه. وقوله سبحانه: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ [الآية 64] . وهذه استعارة. ومعناها أن اليهود اخرجوا هذا القول مخرج الاستبخال لله سبحانه، فكذّبهم تعالى بقوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وليس المراد بذكر اليدين هاهنا الاثنتين اللتين هما اكثر من الواحدة، وإنما المراد به المبالغة في وصف النعمة. كما يقول القائل: ليس لي بهذا الأمر يدان، وليس يريد به الجارحتين، وإنما يريد المبالغة في نفي القوة على ذلك الأمر. وربما قيل إن المراد بذلك نعمة الدنيا ونعمة الآخرة. والله أعلم أيّ ذلك أصوب. وقد أشبعنا الكلام على هذا المعنى في كتابنا الكبير. وقوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [الآية 64] وهذه استعارة. لأن الحرب لا نار لها على الحقيقة، وإنما شبّهت بالنار لاحتدام قراعها، وجدّ مصاعها «1» ، وأنها تأكل أهلها، كما تأكل النار حطبها. وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [الآية 66] . فهذه استعارة. لأن التوراة لا يصح عليها القيام، وإنما المراد لو أنهم اتبعوا حكمها. وقوله تعالى: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [الآية 66] استعارة اخرى على احد التأويلين، وهو أن يكون المراد بهذا القول العبارة عن سعة الرزق ورفاهة العيش. كما يقول القائل: فلان مغمور في النعيم والنّعمة من قرنه الى قدمه. والتأويل الآخر لأكلوا من فوقهم، أي من ثمار الشجر التي تفوت بسطة اليد، ومن تحت أرجلهم، أي من نبات الأرض الذي يباشر موطئ القدم. وقيل المراد بذلك ما يكون عن مساقط الغيث من إخصاب منابت الأرض.

_ (1) . ماصعه مصاعا: جالده بالسيف أو نحوه، اللسان، مادّة مصع.

فهذا كقوله تعالى: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف/ 96] . وقوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [الآية 89] . على قراءة من قرأ عقدتم، وعقّدتم بالتخفيف والتشديد، دون من قرأ عاقدتم. فهذه استعارة. والمراد بها، تأكيد الأيمان، حتى تكون بمنزلة العقد المؤكد، والحبل المحصد. أو يكون المراد، أنكم عقدتموها على شيء، خلافا لليمين اللغو، التي ليست معقودة على شيء، لأنّ الفقهاء يسمّون اليمين التي على المستقبل، يمينا معقودة، فهي التي يتأتى فيها البرّ والحنث، وتجب فيها الكفّارة. واليمين على الماضي عندهم ضربان: لغو، وغموس، فاللغو كقول القائل: والله ما فعلت كذا. وفي شيء يظنّ انه لم يفعله، وو الله لقد فعلت كذا. في شيء يظنّ أنه قد فعله. فهو اليمين على الماضي إذا وقعت كذبا. نحو قول القائل: والله ما فعلت. وهو يعلم انه قد فعل. وو اللَّه لقد فعلت. وهو يعلم انه لم يفعل. فهذه اليمين كفّارتها التوبة والاستعفار لا غير. وقوله تعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ [الآية 94] . وهذه استعارة: لأنّ الفارس هو الذي ينال القنيص برمحه. ولكن الرمح، لما كان مباشرا، حسن لهذه الحال أن يسمى نائلا. وقوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها [الآية 108] . وهذه استعارة. لأن الشهادة لا وجه لها. وإنّما المراد أن يأتوا بالشهادة على جليتها وحقيقتها. وخبّر تعالى عن ذلك بالوجه لأن به تعرف حقيقة الجملة، ويفهم كنه الصورة، كما قلنا فيما تقدّم. وهذه من الاستعارات البديعة. وقوله تعالى حاكيا عن المسيح (ع) : تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [الآية 116] . وهذه استعارة. لأن القديم سبحانه لا نفس له. والمراد: تعلم ما عندي ولا اعلم ما عندك، وتعلم حقيقتي ولا أعلم حقيقتك، أو تعلم مغيبي ولا أعلم مغيبك. فكأن فحوى ذلك: تعلم ما أعلم ولا اعلم ما تعلم. وقد استوفينا الكلام على ذلك في (حقائق التأويل) .

الفهرس

الفهرس سورة «آل عمران» المبحث الأول أهداف سورة «آل عمران» 3 (1) قصة التسمية 3 (2) مقاصد سورة «آل عمران» 5 العناية بأمرين عظيمين 5 الأمر الأول: قضية الألوهية وتقرير الحق فيها 6 (3) وحدة الدين عند الله 7 المسرفون في شأن عيسى (ع) 8 (4) بيان أسباب انصراف الناس عن الحق 8 (5) عظمة القرآن في تربية المؤمنين 10 (6) القرآن كتاب الوجود والخلود 12 (7) دروس من غزوة أحد 14 (8) سنن الله ماضية وقوانينه عامة 16 (9) منهج القرآن في بناء العقيدة والدفاع عنها 17 (10) أعداء يكيدون للإسلام 19 (11) ثلاثة خطوط عريضة 20

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «آل عمران» 23 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 23 الغرض منها وترتيبها 23 ما يجب لله سبحانه من الأوصاف 24 الردّ على مقالة النصارى الأولى 24 الردّ على مقالتهم الثانية 25 الردّ على مقالتهم الثالثة 26 الردّ على مقالتهم الرابعة 28 الردّ على مقالتهم الخامسة 28 تثبيت المؤمنين بعد ردّ مقالاتهم 29 تثبيت المؤمنين بعد أحد 30 الخاتمة 34 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «آل عمران» 35 المبحث الرابع مكنونات سورة «آل عمران» 41 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «آل عمران» 49 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «آل عمران» 65 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «آل عمران» 87 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «آل عمران» 101

سورة النساء

سورة النساء المبحث الأول أهداف سورة «النساء» 107 الوصية بالنساء واليتامى 107 اليتامى 108 المال والميراث 109 تعدد الزوجات 110 شبهة تفتضح وحجّة تتّضح 111 التضامن الاجتماعي 112 المحرّمات من النساء 113 الحكمة من هذا التحريم 113 مصادر التشريع في الإسلام 114 الاجتهاد من مصادر التشريع وبابه مفتوح أبدا 115 القتال وأسباب النصر 116 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النساء» 119 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 119 الغرض منها وترتيبها 119 براعة المطلع 120 أحكام اليتامى والسفهاء 120 أحكام الميراث 121 حكم الزّنا واللواط 121 أحكام متفرقة في النساء 121 تحريم التعدي على المال والنفس 122 قوامة الرجال على النساء 122 حقوق الله وبعض العباد 123

سورة المائدة

تحريم الصلاة على السكارى والجنب 123 التحذير من أهل الكتاب 123 عودة إلى الأحكام 124 أحكام القتال 125 تحريم المحاباة في الحكم 127 أحكام أخرى في النساء 128 تحريم المحاباة في الشهادة 129 عود إلى المنافقين وأهل الكتاب 129 حكم الكلالة 131 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النساء» 133 تقدّم وجوه مناسبتها 133 المبحث الرابع مكنونات سورة «النساء» 139 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النساء» 149 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النساء» 163 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النساء» 181 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النساء» 201 سورة المائدة المبحث الأول أهداف سورة «المائدة» 205

1- تاريخ النزول 205 2- قصة التسمية 206 المائدة 206 3- ظواهر تنفرد بها سورة المائدة 207 4- تشريع القرآن 207 5- الوفاء بالعقود 208 6- الظروف التي نزلت فيها السورة 209 7- أفكار السورة وأحكامها 209 8- النداءات الإلهية للمؤمنين 212 9- أهل الكتاب 213 10- اليهود 215 11- النصارى 215 القرآن من عند الله 216 12- عدالة أحكام السورة الخاصة بأهل الكتاب 216 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المائدة» 219 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 219 الغرض منها وترتيبها 219 أحكام العقود والمناسك 220 أحكام الوضوء والتيمم 221 التحذير من نقض العقود 221 الاعتبار بناقضي العقود من الأولين 222 نقض المنافقين واليهود لعقودهم 223 عود إلى ما سبق من الأحكام 226 الخاتمة 227

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المائدة» 229 المبحث الرابع مكنونات سورة «المائدة» 233 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المائدة» 239 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المائدة» 247 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المائدة» 263 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المائدة» 281

الجزء الثالث

الجزء الثالث سورة الأنعام المبحث الأول أهداف سورة «الأنعام» » 1 كيف أنزلت؟ سورة الأنعام سورة مكية، وهي أول سورة مكية في ترتيب المصحف. فالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة كلّها سور مدنيّة أمّا سورة الأنعام، فهي أوّل سورة مكّيّة توضع في السبع الطوال من سور القرآن الكريم. وقد جاءت عدّة روايات تذكر فضل سورة الأنعام وتبيّن أنّها نزلت جملة واحدة مشيّعة بالملائكة. قال الإمام الرازي في تفسيره «مفاتيح الغيب» : «إن هذه السورة اختصّت بنوعين من الفضيلة أحدهما أنّها نزلت دفعة واحدة، والثاني أنها شيّعها ألف من الملائكة. والسبب في ذلك أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين» . ويقول القرطبي: قال العلماء: «هذه السورة أصل في محاجّة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذّب بالبعث والنشور. وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرّف ذلك بوجوه كثيرة. وعليها بنى المتكلمون أصول الدين» . وعدد آيات سورة الأنعام (165) آية وعدد كلماتها (3053) كلمة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمد شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

2 - لم سميت بسورة الأنعام

2- لم سميت بسورة الأنعام سمّيت هذه السورة بسورة الأنعام، والأنعام ذوات الخفّ والظّلف: وهي الإبل والبقر والغنم بجميع أنواعها، لأنّها هي السورة التي عرضت لذكر الأنعام على تفصيل لم يرد في غيرها من السور، فقد ورد ذكر الأنعام في مواضع كثيرة من القرآن عرضا أمّا سورة الأنعام، فقد جاءت بحديث طويل عن الأنعام استغرق خمس عشرة آية، من أول الآية 136 إلى آخر الآية 150. وقد تناول الحديث عن الأنعام في هذه الآيات من السورة جوانب متعددة، تتصل بعقائد المشركين، فبينت السورة ما في عقائدهم من الخلل والفساد، إذ كانوا يحرمون بعض الأنعام على أنفسهم، ويجعلون قسما من الأنعام لآلهتهم وأصنامهم، وقسما لله، ثم يجورون على القسم الذي جعلوه لله فيأخذون منه لأصنامهم. 3- تاريخ نزول السورة نزلت سورة الأنعام في السنة الرابعة من البعثة المحمّديّة، أي عقب أمر النبي (ص) أن يصدع بالدعوة ويعلنها للناس بعد أن أسرّ بها ثلاث سنين. وتميّزت الفترة التي نزلت فيها سورة الأنعام بقسوة المشركين وعنفهم في مقاومة الدعوة الإسلامية وإنكارها، فقد بدأت الدعوة سرّا، ثم جهر النبي (ص) بدعوته في مكة. ونزلت سورة الأنعام بعد الجهر بالدعوة بسنة واحدة، فاستعرضت الأدلة على توحيد الله وقدرته ثم ساقت أدلة المشركين وشبههم فأبطلتها وفندتها. وقد أخذ المشركون بالنجاح الذي صارت عليه دعوة الإسلام حتى استطاعت أن تعلن عن نفسها بعد الخفاء، وأن تتحدّى بصوت عال ونداء جهير، بعد أن كان المؤمنون بها يلجئون إلى الشعاب والأماكن البعيدة ليؤدّوا صلاتهم، ورأى المشركون أن محمدا (ص) ماض في إعلان دعوته وتلاوة ما أنزل عليه من الكتاب، وفيه إنذار لهم وتفنيد لمعتقداتهم، وتسفيه لآرائهم، وإنكار لآلهتهم، وتهكّم بأوثانهم وتقاليدهم البالية، فكان منهم من يستمع للقرآن متأثّرا بقوّته أو متذوّقا لبلاغته، ومنهم من يبعد عنه خوفا منه. يومئذ واجهت دعوة الحق أعداءها مسفرة واضحة متحدّية، ووقف هؤلاء الأعداء مشدوهين مضطربين، يشعرون

4 - مميزات المكي والمدني

في أعماق نفوسهم بصدقها وكذبهم، ويترقبون يوما قريبا لانتصارها وانهزامهم، ولا يجدون لهم حيلة إلّا المكابرة والمعارضة المستميتة بما درجوا عليه من العقائد الباطلة، وبادّعائهم كذب الرسول (ص) ، وبزعمهم أن إرسال الرسل من البشر أمر لم يقع من قبل، وأن الله لو شاء إبلاغ عباده شيئا لأنزل إليهم الملائكة وأنكر كفار مكة البعث والدار الاخرة، واستماتوا في الدفاع عن عقائدهم وآلهتهم، ونسوا أن محمدا (ص) عاش فيهم عمرا طويلا لم يقل فيهم يوما قولة كاذبة، ولم يخن فيهم يوما أمانة اؤتمن عليها، وأنهم لذلك كانوا يلقبونه بالصادق الأمين. ولكنّهم فكروا فقط في أنّ الدعوة الجديدة يجب أن تموت في مهدها، ويجب أن تكتم أنفاسها قبل أن تنبعث حرارة هذه الأنفاس إلى البلاد والقبائل والشعوب. ووجّهت الدعوة الإسلامية بهذا النضال، وتحملت جميع مقتضياته وأثقاله، وكانت سورة الأنعام مثالا لتحقيق هذه الدعوة الإسلامية في هذه الفترة. فقد جمعت العقائد الصحيحة كلها، وعنيت بالاحتجاج لأصول الدين، وتفنيد شبه الملحدين، وإبطال العقائد الفاسدة، وتركيز مبادئ الأخلاق الفاضلة. 4- مميزات المكي والمدني وضع العلماء ضوابط تميّز السور المكية من المدنية، واستنبطوا خصائص الأسلوب والموضوعات التي تناولتها كل مجموعة منهما. فمن خصائص السور المكية ما يأتي: 1- الدعوة إلى التوحيد، وعبادة الله وحده وإثبات الرسالة، وإثبات البعث والجزاء وذكر القيامة وهولها، والنار وعذابها، والجنة ونعيمها ومجادلة المشركين، بالبراهين العقلية والآيات الكونية. 2- وضع الأسس العامة للفضائل الأخلاقية التي يقوم عليها كيان المجتمع، وفضح جرائم المشركين في سفك الدماء، وأكل أموال اليتامى ظلما، ووأد البنات، وما كانوا عليه من سوء العادات. 3- ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة زجرا للكافرين حتّى يعتبروا

5 - خصائص السور المكية واضحة في سورة الأنعام

بمصير المكذّبين قبلهم، وتسلية لرسول الله (ص) حتى يصبر على أذاهم ويطمئنّ الى الانتصار عليهم. 4- قصر الفواصل مع قوة الألفاظ، وإيجاز العبارة، بما يصخّ الآذان، ويشتدّ قرعه على المسامع، وينبّه القلوب ويحرّك الأفئدة. ومن خصائص السور المدنية ما يأتي: 1- بيان العبادات والمعاملات، والحدود، ونظام الأسرة، والمواريث، وفضيلة الجهاد، والصلات الاجتماعية، والعلاقات الدولية في السلم والحرب، وقواعد الحكم، ومسائل التشريع. 2- مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ودعوتهم إلى الإسلام، وبيان تحريفهم لكتب الله، وتجنّيهم على الحق، واختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم. 3- الكشف عن سلوك المنافقين، وتحليل نفسياتهم، وإزاحة الستار عن خباياهم، وبيان خطرهم على الدين. 4- طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرّر الشريعة ويوضح أهدافها. 5- خصائص السور المكية واضحة في سورة الأنعام «سورة الأنعام مثل كامل للخصائص المكية، إنها حشد من الصور الفنية العجيبة واللمسات الوجدانية الموحية، والمنطق الطبيعي الحي.. وهي كلّها من أولها إلى آخرها تنبض بإيقاع واحد، وتترقرق بماء واحد تفيض بينبوع زاخر متدفق» . إن موضوعها الذي تعالجه من مبدئها إلى منتهاها هو موضوع العقيدة، بكلّ مقوّماتها وبكلّ مكوّناتها، وهي تأخذ بمجامع النفس البشرية وتطوف بها في الوجود كله، وراء ينابيع الحقيقة وموحياتها المستترة والظاهرة في هذا الوجود الكبير. إنها تطوف بالنفس البشرية في ملكوت السماوات والأرض، تلحظ الظلمات فيها والنور، وترقب الشمس والنجوم، وتسرح في الجنات المعروشة وغير المعروشة، والحياة الباطلة والجارية، وتقف على مصارع الأمم الخالية، وآثارها البائدة والباقية، ثم تسبح مع ظلمات البحر والبر وأسرار الغيب والنفس والحي يخرج من الميّت، والميّت يخرج من

6 - الأغراض الرئيسة لسورة الأنعام

الحي، ومع الحبة المستكنة في ظلام الأرض، والنطفة المستكنة في ظلام الرحم. ثم تموج بالجن والإنس، والطير والوحش، والأوّلين والآخرين والأحياء والأموات، والحفظة من الملائكة على النفس بالليل والنهار.. إنه الحشد الكوني الذي يزحم أقطار النفس، وأقطار الحس، وأقطار اللمس وأقطار الخيال.. ثمّ إنّها اللمسات المبدعة المحببة، التي تنتفض المشاهد بعدها والمعاني، أحياء تمرح في النفس والخيال. وإذا كلّ مكرور مألوف من المشاهد والمشاعر، جديد نابض، كأنما تتلقّاه النفس أول مرة، ولم يطلع عليه من قبل ضمير إنسان. إلا أنّها القدرة المبدعة تتبدّى في صورة من صورها الكثيرة، فما يقدر على بث الحياة هكذا في الصور والمشاعر والمعاني، إلا الله سبحانه الذي بث في الوجود الحياة. 6- الأغراض الرئيسة لسورة الأنعام إن الأغراض الرئيسة التي استهدفتها هذه السورة الكريمة هي تركيز العقائد الأساسية الثلاث التي كان المشركون يومئذ يتنازعون فيها، وهذه العقائد الأساسية هي: أولا: توحيد الله. ويتصل بهذا إقامة الدليل على وحدة الألوهيّة، بلفت النظر إلى آثار الربوبية، وإلى صفات الله الخالق المتصرف، كما يتصل بها إبطال عقيدة الشرك، وشبهات المشركين، وتقرير أن العبادة والتوجّه والتحريم والتحليل، إنما ترجع إلى الله. ثانيا: الإيمان برسوله الذي أرسل، وكتابه الذي أنزل، وبيان وظيفة هذا الرسول، ورد الشبهات التي تثار حول الوحي والرسالة. ثالثا: الايمان باليوم الاخر وما يكون فيه من ثواب وعقاب وجزاء. وسوف نتناول كل غرض من هذه الأغراض بالتوضيح: (أ) وحدة الألوهيّة: لقد بدأت سورة الأنعام بتقرير الحقيقة الأولى في كل دين وعلى لسان كل رسول، تلك الحقيقة التي تؤمن بها الفطر السليمة ويدل عليها العالم بأرضه وسمائه. وما فيه من مخلوقات ناطقة

وصامتة ظاهرة وخفية وما فيه من تحوّلات وتقلّبات ونور وظلمات وهذه الحقيقة هي أن الإله الذي له (الحمد) المطلق والتنزيه الذي لا يحدّ هو الله، لأنه هو الذي «خلق» وهو الذي «جعل» فالخلق إنشاء وإبداع، والجعل تصريف وتقليب والعالم أجمع في دائرتيهما فلا ينفكّ شيء منه عن كلا هذين المظهرين: «خلق» و «جعل» . ومقتضى ذلك أنّ المخلوق المجهول، لا يمكن أن يتسامى إلى مرتبة الخالق الجاعل فيعبد كما يعبد، ويقصد كما يقصد، ذلك هو مطلع السورة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) . وكل ما جاء في هذه السورة إنما هو بيان وتفصيل، أو تمثيل وتطبيق على هذه الحقيقة أحيانا بصفة مباشرة، وأحيانا بوسائط تقرّب أو تبعد. وهذا هو المعنى الذي يعبّر عنه بعض العلماء بأنه الحكم بتوحيد الألوهيّة استدلالا بوحدانيّة الربوبيّة، وذلك في القرآن كثير. فأوّل فاتحة الكتاب: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) . وأول الكهف: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ. وأول فاطر: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا. ولو ذهبنا نتتبّع هذا المعنى لأوغلنا في التتبّع، ورأينا الكثير من الآيات، فإن هذا هو أصل الأديان كلّها وهو الحقيقة الأولى، كما تجلى ذلك في سورة الأنعام. وقد ساقت السورة عددا من الأدلّة على توحيد الله سبحانه، فهي تلفت إلى مظاهر الملك التام، والسلطان القاهر في الخلق والتصرّف الكامل، والعلم المحيط فتقول: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الآية 12] . وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) . وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ [الآية 59] . وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الآية 60] . وهي تلفت النظر إلى ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من

(ب) قضية الوحي والرسالة

شيء، لأنّ هذا النظر لا بد أن يثمر الإيمان بالله. بل تلفت الإنسان إلى نفسه، ليتفكّر في داخله كيف خلق؟ وكيف يفكّر وكيف يعيش وكيف يموت؟ وبهذا، تكون الحجة عامّة، لكلّ ذي عقل سليم وفطرة صافية، وإخلاص في تطلّب الحقيقة من دلائلها المبثوثة في آفاق السماوات والأرض، ولذلك يقول جل شأنه: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) [فصلت] . (ب) قضية الوحي والرسالة كما تحدثت سورة الأنعام عن الألوهيّة والربوبيّة، ولفتت الناس إلى مظاهر هما في الخلق والتصرف والتدبير المحكم، تحدثت عن حقيقة ثانية تنبني على الإيمان بهذه الحقيقة الأولى: ذلك أنّ من شأن الإله، أن يهدي عباده، ويرشدهم إلى ما تصلح به أمورهم، وتقوم عليه سعادتهم في دنياهم وأخراهم. ومن رحمة الله بعباده، أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتاب لهداية الناس من الضلالة إلى الهدى، وإخراجهم من الظلمات إلى النور. وقد عنيت سورة الأنعام بهذه الحقيقة، فتحدّثت، في كثير من آياتها، عن الوحي والرسالة من جوانب شتّى، بعضها يتّصل بإثبات الوحي وبيان حكمته والرد على منكريه وبعضها يرجع إلى بيان ما هو من وظيفة الرسول وما ليس من وظيفة وبعضها يتصل بموقف الناس أمام الرسالات الإلهية، وبعضها يتعلّق بالآداب التي رسمها الله للرسول، وما ينبغي أن يكون عليه سلوكه مع مخالفيه وموافقيه. قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الآية 19] . وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) . تكذيب المرسلين: عرضت السورة لموقف المكذّبين من الرسالة، وبينت أن التكذيب سنة قديمة. فعلى الرسول أن يصبر

نبوة محمد (ص) :

ويصابر، حتى لا يضيق صدره بتكذيبهم إياه، ولا ييأس من هدايتهم. وبيّنت السورة حسن عاقبة المرسلين. وسوء عاقبة المكذّبين قال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) . وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) . نبوة محمد (ص) : أثبت القرآن الوحي والرسالة ثم أثبت نبوّة محمد (ص) بالدليل القاطع والحجة البالغة. فقد نشأ هذا النبي يتيما فقيرا أمّيا في بيئة مشركة جاهلة فمن أين له هذا الكتاب المحكم الذي اشتمل على مبادئ الإصلاح العالمي كلها؟ والذي لم يستطع العلم، في أزهى عصوره، أن يهدم حقيقة من الحقائق التي جاء بها. إن القرآن قد تحدّى العرب ببلاغته وقوّة بيانه فعجزوا عن الإتيان بمثله، أو بعشر سور منه، أو بسورة واحدة. وقد تحدّى القرآن الزمان كله بخلوده وصحته، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الآية 91] . (ج) قضية البعث والجزاء نزلت سورة الأنعام في السنة الرابعة من البعثة بعد أن أمر الله رسوله أن يجهر بالدعوة، وأن يعلن عن العقيدة الإلهية، ويقرر حقيقة البعث والجزاء علنا أمام المشركين. وقد سلكت سورة الأنعام طرقا شتّى في الاستدلال على قضية البعث فقد استدلت عليه بخلق السماوات والأرض في مقدّمتها العنوانية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) . فمن خلق السماوات والأرض بقدرته فهو قادر على إحياء الموتى واعادة خلق الإنسان. فخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وكررت هذه الحقيقة وأكدت في آياتها بصور شتى فذكرت أن البعث حق، وأن الله بيده الخلق، والأمر، والبدء، والإعادة، والحساب، والجزاء قال تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الآية 12] . وقال سبحانه: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) . وقد استدلّ القرآن في قضية البعث والجزاء، بعديد من الأدلّة، منها أن الحكمة والعدل يقضيان بالحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، كما يقضيان بأن ينال المحسن إحسانه، والمسيء إساءته حتى يطهر المسيء من دنس النفس ويكون أهلا لرحمة الله الكاملة، وهذان شأنان هامّان، إذ كثيرا ما يرتحل الناس عن الدنيا دون أن يسهل طريق النقاء لمن دسّى نفسه، ودون أن يعرفوا الحق فيما اختلفوا فيه وإذا فلا بد من دار أخرى يلقى الإنسان فيها الجزاء أمام حاكم عادل، عليم خبير بكل ما قدّم الإنسان. وقد تعرّض أحد القضاة الفرنسيين لتاريخ القضاء في فرنسا، وأصدر كتابا ذكر فيه عددا من الحالات، حكم فيها بالإعدام أو الإدانة على متّهمين، ثم برّأتهم الأيّام والحقائق وأحصى عددا من الحالات، برّأ القضاء فيها متّهمين ثم أثبتت الأيام وحقائق الأحداث أنّهم مدانون. ثم عقّب القاضي بقوله: إنه لا بدّ من جزاء وحساب أمام قاض آخر، لا تخفى عليه خافية ولا تغيب عنه حادثة، في دار أخرى، ليعوّض الناس عن أخطاء القضاء في الدنيا، وليكون حكمه فيصلا ومنصفا للمظلومين، ورادعا للمجرمين، وفي القرآن الكريم آيات عدة تؤكد هذا المعنى، قال تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) [يونس] . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) [الجاثية] . وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) .

7 - قصة إبراهيم الخليل

وقد لوّن القرآن ونوّع في أدلّته على إثبات البعث، وعرض مشاهد القيامة واضحة للعيان. وعرضت سورة الأنعام لشأن البعث باعتباره أمرا كائنا ليس موضع إنكار، ولا محلا لريب وصوّرت فيه مواقف المشركين، وما سيكونون عليه في ذلك اليوم، كأنهم حاضرون معروضون أمام الناس، يتأمّلهم الإنسان، ويرى فعلهم وقولهم قال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) . وقال سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) . إلى غير ذلك ممّا تضمّنته السورة من الوصف العينيّ لمظاهر البعث الذي يأخذ القلب وينير الوجدان. 7- قصة إبراهيم الخليل حفلت سورة الأنعام بذكر طرف من قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، وإبراهيم أبو الأنبياء والرسول الذي دافع عن التوحيد، وتحدّى عبّاد الأصنام، وأخذ يتأمّل بفكره في ملكوت السماوات والأرض، ليرشد قومه، عن طريق الحوار، إلى فساد اعتقادهم ودليل خطأهم في تأليه الكواكب والقمر والشمس وغيرها. جنّ عليه الليل، وستره الظلام، فرأى كوكبا ممّا يعبدون وهو بين جماعة منهم، يتحدّثون ويسمرون، فجاراهم في زعمهم، وحكى قولهم، فقال هذا ربي. فلما أفل هذا الكوكب، وغاب هذا النجم تحت الأفق، تفقّده فلم يجده، وبحث عنه فلم يره فقال لا أحب الالهة المتغيّرة من حال إلى حال. ولما رأى القمر بازغا وهو أسطع نورا من ذلك الكوكب، وأكبر منه حجما، وأكثر نفعا قال كما ورد في التنزيل: هذا رَبِّي. لاستدراجهم واستهواء قلوبهم، فلما

أفل هذا أيضا واحتجب، واختفى نوره واستتر، قال كما روى القرآن الكريم، ذلك حكاية عنه: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) . بيّن لهم أن الله خالق الهداية، ومانح التوفيق. ثم رأى إبراهيم الشمس بازغة يتألق نورها وينبعث منها شعاعها، وقد كست الدنيا جمالا، وملأت الأرض حياة وبهاء، وأرجاء الكون نورا وضياء، فقال: هذا ربي، هذا أكبر من كل الكواكب، وأكثر نفعا، وأجل شأنا، فلما أفلت كغيرها، وغابت عن عبادها، رماهم بالشرك وقال كما روى القرآن، حكاية عنه: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) . فهذه الكواكب التي تنتقل من مكان إلى مكان، وتتحوّل من حال إلى حال، لا بد لها من خالق يدبرها ويحركها، وإله ينظمها ويسيّرها فهي لا تستحق عبادة ولا تعظيما. وبعد أن أعلن إبراهيم انصرافه عن آلهتهم، وبراءته من معبوداتهم أفاض الحديث عن إخلاصه لله بعبادته وخضوعه، فقال كما ورد في محكم التنزيل: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) . ولقد كان إبراهيم جريئا في إعلان إيمانه، وإخلاصه لربّه، ومجادلة قومه، وإفهامهم أن غير الله لا ينفع ولا يضرّ، وأن الله وحده هو النافع الضارّ، والمعطي المانع، وهو على كل شيء قدير. وقد ناقش إبراهيم أباه، وأوضح له طريق الهدى، وأخلص الدعاء لأبيه أن يلهمه الله طريق الهداية والرشاد، فلما تبيّن لإبراهيم أنّ أباه عدوّ لله تبرّأ منه. وهكذا كان إبراهيم عمليا في دعوته، عمليّا في هجرته وعزلته. وقد ظهرت قدرة إبراهيم وإخلاصه وتضحيته، حينما حطّم الأصنام، ولام قومه على عبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، وظهرت بطولة إبراهيم حينما امتحنه الله بذبح ولده إسماعيل، فامتثل إبراهيم لأمر ربّه، وأشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) [الصافات] .

8 - الوصايا العشر

وصدق الأب في طاعة ربه، وصدق الابن في الوفاء والامتثال وعزم الأب على ذبح ابنه، وأخلص النيّة فلما ظهر منه صدق النيّة، فدي إسماعيل بكبش عظيم، وأصبحت الأضحية سنّة في كل عام، يذبحها الغنيّ المقتدر ويوزّع من لحمها على الفقراء وعلى الأصدقاء، ذكرى للتضحية والفداء، واقتداء بإبراهيم الخليل. وكم لإبراهيم من مواقف جليلة عظيمة في مصر، وفي فلسطين، وفي جوار بيت الله الحرام، وفي بناء الكعبة وهو يخلص الدعاء لله في كل عمل. وقد مدحه القرآن، ووصفه بأحسن الصفات، إذ يقول جل جلاله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) [النحل] . 8- الوصايا العشر افتتح الربع الأخير من سورة الأنعام، بالدعوة إلى عشر وصايا هي النهي عن الإشراك بالله، والأمر بالإحسان إلى الوالدين، والنهي عن قتل الأولاد مخافة الحاجة، والنهي عن مقاربة الفاحشة في السرّ أو العلن، والنهي عن قتل النفس التي حرّم الله قتلها. ثم أمرت الآيات بالإحسان إلى اليتيم، وإتمام الكيل والميزان كما أمرت بالعدل في كل شيء وأمرت بالوفاء بالعهد، والاستقامة على الصراط القويم. الوصية الأولى: من هذه الوصايا العشر التي وردت في سورة الأنعام قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الآية 151] ، وهي الأساس الذي يصلح عليه أمر الناس، فإنّ المجتمع الذي يقوم على إيثار الله على كلّ ما سواه هو المجتمع الفاضل المثاليّ السعيد أما المجتمع الذي يشرك بالله أحدا أو يشرك بالله شيئا، فإنه مجتمع منحلّ، تسيّره المادة الصماء التي لا روح فيها ولا صلاح ولا قرار معها. والوصية الثانية: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الآية 151] . فالوالدان سبب في حياة الولد فيجب أن يشكرهما ويحسن إليهما، خصوصا في حالة الكبر والشيخوخة. والوصية الثالثة: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الآية 151] .

الوصية الرابعة:

أن قتل الإنسان لابنه اعتلال في الطبع أو خلل في العقل، فإن الولد بضعة من الوالد والشأن حتى في الحيوان أن يضحّي الوالد من أجل أولاده، ويحميهم، ويتحمل الصعاب في سبيلهم. وفي الحديث الصحيح، يقول النبي (ص) : «إن من أكبر الكبائر أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» . إذ أن الله يبسط الرزق لمن يشاء وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] . الوصية الرابعة: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الآية 151] . والفواحش هي كل فعل تنكره العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والمجتمع الذي يؤمن بأن هناك (فواحش) يجب أن تجتنب، و (محاسن) يجب أن تلتمس، هو المجتمع السليم الجدير بالنمو والارتقاء. الوصية الخامسة: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) . فالإنسان بنيان الله، ومن هدم بنيان الله ملعون، وبذلك يقرر الإسلام عصمة الدم الإنساني إلا بالحق ويعتبر من يعتدي على نفس واحدة بغير حق، كأنه اعتدى على الإنسانية كلها. وهو المبدأ الذي يعتبر أن الجريمة اعتداء على المجتمع كله. والوصية السادسة: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الآية 152] . فاليتيم عارض يعرض في كل مجتمع، ومن شأن المجتمعات الناضجة أن ترعى اليتامى، وأن تحافظ على صلاحهم في أنفسهم وفي أموالهم. وعلى الوصيّ أن يعامل اليتيم كما لو كان ابنا من أبنائه فيحسن توجيهه، وتأديبه، ورعايته، وكفالته حتى ينشأ اليتيم مواطنا صالحا وعضوا نافعا. الوصية السابعة: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ [الآية 152] . فالمؤمن عادل في بيعه وشرائه يضبط الكيل، ويعطي الحق، ويأخذ الحق. الوصية الثامنة: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الآية 152] .

الوصية التاسعة:

والعدل هو أساس الحكم السليم، العدل في القول، والعدل في الحكم، والعدل في الشهادة، والعدل في كل فعل وعمل. الوصية التاسعة: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [الآية 152] . والوفاء خلة حميدة، وصفة طيبة من الصفات التي يتحقّق بها الخير والصلاح وتستقر عليها أمور الناس. الوصية العاشرة: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الآية 153] . وهذه الوصية الأخيرة هي الجامعة لكل ما جاءت به دعوة الحق. فهي تدعو إلى السير على طريق الله، وشرعة الله، وأوامر الله، والابتعاد عن طرق الشيطان فطريق الله سبيل النجاح في الدنيا والاخرة، وفي سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الأنعام"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأنعام» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الأنعام بمكّة بعد سورة الحجر، وقد نزلت سورة الحجر بعد ثلاث سور من سورة الإسراء، وكان الإسراء، قبل الهجرة إلى المدينة بسنة، فتكون سورة الأنعام من السور التي نزلت بين الإسراء والهجرة. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لأنه فصّل فيها حكم الأنعام من الإبل، والبقر، والضأن، والمعز، وتبلغ آياتها خمسا وستين ومائة آية. الغرض منها وترتيبها نزلت سورة الأنعام دفعة واحدة في ذلك الزمن السابق، وتمتاز بطولها على كل السور المكّيّة ما عدا سورة الأعراف، فكان لها شأنها في ذلك حين نزولها، وقد اهتم النبي (ص) بها، فدعا الكتّاب فكتبوها من ليلتهم والغرض منها، إثبات التوحيد والنبوّة، ودحض مذاهب المبطلين والملحدين، وإبطال ما ابتدعوه من تحليل الحرام، وتحريم الحلال من الطيّبات، تقرّبا لأصنامهم وبهذا ينحصر الغرض منها في هذين المقصدين. وقد ابتدئت بإثبات التوحيد والنبوّة، تمهيدا لمناظرة المشركين فيهما وختمت ببيان أن النبي (ص) ليس في شيء منهم بعد أن قام بإبطال شبهاتهم، وأن ما أتاهم به من التوحيد هو دين أبيهم إبراهيم (ع) وأن الله سبحانه وتعالى ما كان ليتركهم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

إثبات التوحيد والنبوة الآيات [1 - 7]

من غير تكليف، وهو لم يخلقهم عبثا وإنما خلقهم، ليجعلهم خلفاءه في أرضه. وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة المائدة، لأنها من الطوال مثلها، ولأنه ذكر فيها كثير من أحكام الحلال والحرام، كما ذكر في سورة المائدة. إثبات التوحيد والنبوة الآيات [1- 7] قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) ، فذكر سبحانه أنه المستحق للحمد، لأنه الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، واستبعد مع هذا أن يسوّي به المشركون أصنامهم التي لا تقدر على هذه الأشياء العظيمة ثم استدل على توحيده أيضا بخلقه الإنسان من طين، وبكونه لا يغيب عن علمه شيء في السماوات والأرض، وما يعمله الناس في سرهم وجهرهم، وما يكسبون من خير وشر ثم ذكر أن النبي (ص) لا يأتيهم بآية من ذلك تدلّ على نبوّته، إلا أعرضوا عنها وكذّبوا واستهزءوا بها وأنه سوف يأتيهم أنباء ما يستهزئون به، فيأخذهم بعذابه كما أخذ كثيرا من قرون قبلهم مكّنهم في الأرض ما لم يمكّن لهم ثم ذكر أنه بلغ من تعنّتهم على النبي (ص) أنه لو نزّل سبحانه وتعالى عليه كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) . شبهتهم الأولى على التوحيد والنبوة الآيات [8- 36] ثمّ قال تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) فذكر أنهم كانوا يقولون، تعنّتا واستهزاء، إنه لو كان نبيا لأنزل عليه ملك يصدّقه في ما يدعو إليه من التوحيد والنبوة وقد أجابهم تعالى بأنه لو أنزل عليه ملكا ولم يؤمنوا به لعجّل بإهلاكهم، وهو لا يريد ذلك لهم، وبأنه لو أنزل ملكا لجعله في صورة البشر ليروه ويسمعوا كلامه، فلا يصدقون أنه ملك، ويعودون إلى اقتراح ما اقترحوه ثم ذكر أن تعجيل الإهلاك هو ما جرت به سنّته في الأمم التي كانت تقترح الآيات على رسلها تعنّتا واستهزاء، ثم لا يؤمنون بها

وأمرهم أن يسيروا في الأرض، ليروا بأنفسهم كيف كانت عاقبتهم. ثم بيّن لهم- بعد أن ذكر أنه لا سبيل إلى هذه الآية- آياته على التوحيد، فأمر النبي (ص) أن يسألهم لمن ما في السماوات والأرض؟ وأن يجيبهم بأن ذلك له سبحانه، وحده لا لآلهتهم وبأن له ما سكن في الليل والنهار من الدواب وغيرها ثم أمره أن يقول لهم: إنه لا يمكنه بعد هذا أن يتّخذ غيره سبحانه وليا من أصنامهم، وإنه قد أمر أن يكون أوّل من أسلم له ولا يشرك به، وإنه يخاف، إن عصاه، عذاب يوم القيامة ثم ذكر أنه من يصرف عنه هذا العذاب فقد رحمه الله، وأنه إن يمسسه بضرّ فلا كاشف له غيره، وإن يمسسه بخير فهو على كل شيء قدير وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) . ثم بيّن لهم الأدلة على النبوة، فأمر النبي (ص) أن يسألهم: أي شيء أكبر شهادة؟ وأن يجيبهم بأن الله هو الأكبر شهادة لا غيره منهم ومن آلهتهم، وقد شهد له بالنبوة بما أوحي إليه من القرآن المعجز، وإذا كانوا يشهدون أن معه آلهة أخرى تساويه في الشهادة، فهو لا يشهد معهم بذلك ثم ذكر أنّ أهل الكتاب يشهدون بنبوّته أيضا، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن أولئك المشركين قد ضلوا وخسروا أنفسهم فلا سبيل إلى إيمانهم ثم ذكر أنه لا يوجد أضل منهم لافترائهم شركاء له وتكذيبهم بآياته، وأنه سيحشرهم جميعا ثم يسألهم عن شركائهم، فينكرون أنّهم كانوا مشركين: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) . ثم انتقل إلى بيان بعض أسباب كفرهم، فذكر منها أنه جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا، وأنهم إن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها، وليس عندهم إذا جادلوا فيها إلّا أن يقولوا إن هذا إلا أساطير الأولين ثم ذكر أنهم ينهون الناس عن الاستماع إليه، وينأون عنه، ولا يضرّون بهذا إلا أنفسهم وأنهم سيندمون عليه حينما يعرضون على النار، ويتمنّون أن يردّوا إلى الدنيا ليؤمنوا بتلك الآيات التي كذّبوا بها، ولو أنهم ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى تكذيبهم ثم ذكر من تلك الأسباب أنهم لا يؤمنون إلّا بالحياة الدنيا، وينكرون أن يكون هناك بعث لهم

شبهتهم الثانية على التوحيد والنبوة الآيات [37 - 90]

وذكر أنهم سيبعثون ويعرضون عليه سبحانه، فيسألهم: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ [الآية 30] فيقرّون به ولا ينكرونه، ويجازيهم على هذا بإذاقتهم عذاب النار ثمّ ذكر أنّهم قد خسروا بإنكارهم البعث، وأنهم سيندمون حين تأتيهم الساعة بغتة وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم، وما أسوأها من أوزار لهم: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) . ثم ذكر للنبي (ص) أنه يعلم أنه يحزنه الذي يقولون من أن ما أنزل عليه من أساطير الأولين وأنهم لا يكذبونه بهذا، وإنّما يكذبون الله، ويجحدون آياته، وأنه قد كذّب رسل من قبل، فصبروا على تكذيبهم حتى نصرهم الله عليهم وأنه إن كان كبر عليه إعراضهم واقتراحهم تلك الآيات، فليبتغ نفقا في الأرض أو سلما في السماء فيأتيهم بها إن استطاع وأنه سبحانه، لو شاء لجمعهم على الهدى من غير آية من الآيات ثم نهاه أن يكون من الجاهلين، فيحزن لإعراضهم، أو يطمع في استجابتهم: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) . شبهتهم الثانية على التوحيد والنبوة الآيات [37- 90] ثم قال تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) فذكر أنهم اقترحوا عليه بعد ذلك آية عذاب، وردّ عليهم بأنه قادر أن ينزل عليهم ذلك، ولكنه لا يريد أن يهلكهم لحكمة لا يعلمها أكثرهم ثم ذكر أنه ما من دابّة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالهم، لينظروا في آياتها ويتركوا ما يقترحونه من ذلك تعنّتا ثم ذكر أن الذين يكذّبون بآياته في ذلك صمّ بكم، وأنه من يشأ يضلله فلا يهتدي بآية من الآيات، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ثم ذكر لهم أن العذاب الذي يقترحونه لو أتاهم أو أتتهم الساعة، فإنّهم لا يدعون غيره ليكشفه عنهم، وينسون هنالك آلهتهم، فليؤمنوا به من غير أن يقترحوا ذلك العذاب الذي لا يدعون فيه غيره ثم ذكر أن أمما قبلهم اقترحوا على رسلهم مثل ذلك، ولم يؤمنوا به بعد إجابتهم إليه، فأمهلهم ومدّ لهم حبل الطغيان، ثم أخذهم بغتة فإذا هم مبلسون ثم ذكر أنه لو فعل بهم أكثر مما يقترحون

فأخذ سمعهم وأبصارهم وختم على قلوبهم، فإنه لا يقدر غيره على رد ذلك إليهم وأن ذلك العذاب لو نزل بهم فإنه لا يهلك به إلا القوم الظالمون، فليقلعوا عن ظلمهم ولا يقترحوا نزول العذاب عليهم ثم ذكر أنه لا يرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين، ليبين أنهم لا قدرة لهم على إنزال تلك الآيات، فمن آمن فلا خوف عليه، ومن كذّب بآياته يمسّه العذاب بفسقه ثم أمر النبي (ص) أن يخبرهم بأنه لم يقل إن عنده خزائن الله، أو إنه يعلم الغيب، أو إنه ملك، حتى يصحّ لهم أن يتعنّتوا عليه باقتراح تلك الآيات، وإنّما هو رسول يتّبع ما يوحى إليه، هو من الوضوح كالفرق بين الأعمى والبصير ثم أمره أن ينذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربّهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع، ونهاه أن يطردهم عنه إرضاء لأولئك المتعنّتين ثم ذكر أنه فتنهم بهم ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ والله أعلم حيث يضع هدايته، ثم أمره أن يكرمهم إذا جاءوه للسلام ونحوه، بعد أن نهاه عن طردهم وذكر أنه يفصّل الآيات في ذلك ليظهر الحق له في إيثارهم على الذين يريدون طردهم، ويستبين سبيل أولئك المجرمين المتعنّتين عليهم ثم أمر النبي (ص) أن يخبرهم بأنه نهي أن يعبد ما يدعون من دونه، وبأنه لا يتبع أهواءهم في اقتراح الآيات، وبأنه على بيّنة من ربّه، وقد كذبوا به مع قيام هذه البيّنة، وليس عنده ما يستعجلون به من نزول العذاب عليهم، وإنما الحكم له تعالى في أمر عذابهم، ولو أنّ عنده ما يستعجلون به لقضي بينه وبينهم بإهلاكهم، وعند الله وحده مفاتيح الغيب، فهو الذي يعلم وقت عذابهم ثمّ ذكر كمال علمه وقدرته سبحانه، وأنّه قادر على أنه يبعث عليهم عذابا من فوقهم، أو من تحت أرجلهم، أو يلبسهم شيعا، ويذيق بعضهم بأس بعض وأنهم كذبوا بهذا العذاب، وهو حقّ لا ريب فيه ثم أمر النبي (ص) أن يخبرهم بأنه ليس بوكيل عليهم، ولكلّ نبأ وقت يحصل فيه من غير خلف. ثم أمر النبي (ص) إذا رآهم يخوضون في تكذيب آياته أن يعرض عنهم، حتى يخوضوا في حديث غيره وأخبره بأنّ الذين يتقونه من المؤمنين ليس عليهم شيء من حساب تكذيبهم، ولكنه يعظهم بذلك تنزيها لهم عن

شبهتهم الثالثة على التوحيد والنبوة الآيات [91 - 108]

سماع باطلهم، ثم أمره أن يترك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا أو خوضا في تكذيب آياته، وأن يذكّر بها قبل أن ترتهن نفس بما كسبت، ولا ينفعها من دون الله ولي ولا شفيع، ولا يقبل منها فداء عن عذابها، ولأصحابها شراب من حميم وعذاب أليم، بما كانوا يكافرون. ثمّ أمر سبحانه، النبي (ص) أن يذكر لهم أنه لا يصح له أن يدعو من دونه ما لا ينفع ولا يضر، فيردّ على عقبه بعد هدايته له، وأنّ هداه جلّ جلاله هو الهدى، وقد أمر هو وأتباعه أن يسلموا له، وأن يقيموا الصلاة ويتّقوه، وهو الذي يحشرون إليه، وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق، وإذا أراد تكوين شيء لا بد من أن يكون، وله المالك يوم ينفخ في الصّور، عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الخبير. ثم نوّه بشأن إثبات التوحيد بالنظر، فذكر أنه طريق إبراهيم (ع) ، وساق ما جرى بين إبراهيم وبين أبيه آزر في إنكاره عليه أن يتخذ أصناما آلهة وذكر سبحانه أنه أراه ملكوت السماوات والأرض ليستدل به على توحيده، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي [الآية 76] ، فلمّا غاب علم أنه لا يصلح أن يكون ربا. وكذلك نظر في القمر والشمس، وكان قومه يعبدون هذه الكواكب ويتّخذون لها تماثيل من أصنامهم، فتبرّأ من عبادتها، وتوجّه بوجهه للّذي فطر السماوات والأرض ثم ذكر أن قومه حاجّوه في ذلك فأنكر عليهم أن يحاجّوه فيه بعد أن اهتدى إليه، ثم نوّه بشأن تلك الحجة النظرية التي اهتدى بها وذكر أنه رفع بها درجته، ووهب له ذرية صالحة قاموا بها بعده، من إسحاق ويعقوب وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء ثم ذكر أنّ أولئك الأنبياء هم الذين آتاهم الكتاب والحكمة والنبوة، فإن يكفر بها مشركو العرب فقد وكل بها قوما ليسوا بها بكافرين: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) . شبهتهم الثالثة على التوحيد والنبوة الآيات [91- 108] ثم قال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الآية 91] . فذكر شبهتهم الثالثة في

إنكار التوحيد والنبوّة، وهي قولهم: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الآية 91] وفي هذا إنكار للتوحيد أيضا، لأنهم لم يقدّروا الله فيها حقّ قدره، لأنه لا يليق به أن يخلقهم ويتركهم من غير أن يرشدهم، وقد أمر النبي (ص) أن يسألهم: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ [الآية 91] وذكر أنهم جعلوه قراطيس يبدون بعضها، ويخفون منها ما فيه البشارة بالنبي (ص) ، وقد علموا من هذا ما لم يعلموه هم ولا آباؤهم ثم أمره أن يخبرهم بأن الذي أنزله هو الله، وحينئذ يبطل قولهم ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ثم ذكر أنه أنزل القرآن مصدقا لهذا الكتاب لينذر مكة ومن حولها، وأن الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الآية 92] لأنه يدعوهم إليها، ثم ذكر أنه لا يوجد أظلم ممّن افترى عليه كذبا أو ادّعى أنه يوحى إليه، ولم يوح إليه شيء أو أنه يمكنه أن ينزل مثل ما أنزل الله، فكيف يفتري النبي (ص) مثل هذا الكتاب عليه؟ ثم ذكر أنهم في حال الموت يخبرهم الملائكة بأنهم سيجزون عذاب الهون بقولهم عليه غير الحقّ، واستكبارهم عن آياته، وأنهم يجيئونه فرادى كما خلقهم أوّل مرة، وليس معهم ما أعطاهم من المال وغيره في دنياهم، ولا شفعاؤهم الذين زعموا أنهم شركاء فيهم. ثم أخذ في ذكر ما يبطل هذا الزعم، فذكر أنه فالق الحب والنوى، إلى غير هذا ممّا ذكره في إثبات قدرته وعلمه وحكمته، ولا يصح معه أن يكون هناك شريك له ثم ذكر أنهم مع هذا جعلوا له شركاء من الجن، وجعلوا له بنين وبنات من الملائكة وغيرهم، ورد عليهم بأنه بديع السماوات والأرض، فأنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة؟ إلى غير هذا مما ذكره في الرد عليهم ثم ذكر أنه قد جاءهم من هذا بصائر من ربهم، فمن أبصر فلنفسه، ومن عمي فعليها، وأنه كذلك يصرف الآيات حتى تصل إلى نهاية الكمال، ويزعموا أنها نتيجة دراسة وعلم، ثم أمر النبي (ص) أن يتبع ما أوحي إليه من تلك الآيات، ويعرض عن المشركين وما يقترحونه من الآيات على سبيل التعنّت وذكر أنه لو شاء ما أشركوا، وأنه لم يجعله حفيظا ولا وكيلا عليهم، فليس عليه إلا أن يبلغهم، ثم نهاهم أن يسبّوا آلهتهم، لئلا يسبّوه عدوا بغير علم:

شبهتهم الرابعة على التوحيد والنبوة الآيات [109 - 117]

كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) . شبهتهم الرابعة على التوحيد والنبوة الآيات [109- 117] ثم قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) فذكر أنهم أقسموا به جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها، ثم أجابهم بأنه يعلم أنهم لا يؤمنون بها إذا جاءتهم وإن وقع ذلك الحلف منهم، وأنه لو جاءهم بها تتحوّل أفئدتهم وأبصارهم عنها كما تحوّلت عن الآيات التي تتلى عليهم، وأنه لو أجابهم إلى ما يطلبون وزاد عليه بأن حشر عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلّا بمشيئته، فلا وجه لهم في تعليق إيمانهم على تلك الآيات التي يقترحونها ثم ذكر سبحانه أنه كذلك جعل لكل نبيّ عدوّا من شياطين الإنس والجن، يزخرف بعضهم إلى بعض بمثل ما زخرف المشركون بقسمهم، ليخدعوا بذلك من ينخدع بهم ثم ذكر أن الدليل على صدقه قد كمل بحكمه به، وهو الحكم الذي لا يطلب بعده حكم، كما كمل بشهادة المؤمنين من أهل الكتاب به، فلا يصحّ أن يلتفت بعد ذلك إلى ما يطلبونه من تلك الآيات، وقد تمّ حكم الله بذلك صدقا وعدلا ثم ذكر أنه لا يصح له بعد ذلك أن يطيعهم فيما يقترحون من طلب الآيات، وأنه إن أطاعهم في ذلك يضلّونه عن سبيل الحق ولا يصل إلى ما يريده من إيمانهم، لأنهم لا يتّبعون إلا الظنّ وإن هم إلّا يخرصون إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) . إبطال بدعة لهم في الحلال والحرام الآيات [118- 123] ثم قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) فانتقل إلى إبطال بدعة لهم في شركهم، وهي تحليل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة ونحوها تنويعا لضروب الكلام، وتصريفا لفنون الجدال، وكانوا يقولون للمسلمين: إنكم تعبدون الله، فما قتله الله أحقّ أن تأكلوه ممّا قتلتموه أنتم. فأمر المسلمين أن يعرضوا عن قولهم ويأكلوا ممّا ذكر اسمه سبحانه عليه ثم ذكر لهم أنه قد

شبهتهم الخامسة على التوحيد والنبوة الآيات [124 - 135]

فصّل لهم ما حرّم عليهم ولم يبح لهم الميتة إلّا عند الضرورة، وأنّ هؤلاء المشركين يريدون أن يضلّوهم عنه جلّ جلاله بأهوائهم وجهالاتهم ثم أمرهم أن يتركوا ذلك الإثم، ما ظهر منه وما بطن، ونهاهم أن يأكلوا ممّا لم يذكر اسمه عليه، وحذّرهم من الاستماع إلى ذلك الجدال الذي يوحي به شياطين المشركين إليهم ثم ضرب لهم مثلا ميّز به حال المؤمنين من الكافرين، وهو أنه لا يصحّ أن يجعل من كان ميتا بالشرك فأحياه الله تعالى بالإيمان كمن غرق في ظلمات الشرك، فصار بحيث لا يمكنه الخروج منها ثم ذكر أنه في هذه الظلمات زين للكافرين ما كانوا يعملون وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) . شبهتهم الخامسة على التوحيد والنبوة الآيات [124- 135] ثم قال تعالى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الآية 124] فذكر شبهتهم الخامسة في إنكار التوحيد والنبوة، وعاد بهذا إلى السياق الأول وقد حكوا عن الوليد بن المغيرة أنه قال: والله لو كانت النبوّة حقّا، لكنت أنا أحقّ بها من محمّد، فإنّي أكثر منه مالا وولدا. وحكوا عن غيره من المشركين، أنهم قالوا: لن نؤمن حتّى يحصل لنا مثل هذا المنصب. فأجابهم عن ذلك بأنه تعالى: أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الآية 124] ، ثمّ توعّدهم بأنهم سيصيبهم صغار عنده على ذلك التعالي، وذكر أن من يرد هدايته يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقا حرجا، فيتعنّت بمثل ما يتعنّت به أولئك المشركون ثم ذكر جلّ جلاله أن صراطه مستقيم، قد فصّله لمن يتذكرون، وأن لهم دار السلام بما كانوا يعملون ثم ذكر أنه سيحشر أولئك المشركين من الجنّ والإنس، فيخبر الجنّ بأنهم قد أكثروا من الإضلال تبكيتا لهم، ويبكّت الإنس على قبول إغوائهم، فيجيب الإنس بأنه قد استمتاع بعضهم ببعض، وصاروا الآن إلى أجلهم الذي أجّله لهم، فيقضي عليهم بجعل النار مثواهم، وكذلك يجمع بينهم في النار، ويولي بعضهم بعضا فيها بما كانوا يكسبون. ثم ذكر أنه

إبطال بدع لهم في الحلال والحرام الآيات [136 - 147]

يسألهم أيضا: ألم يأتكم رسل يقصّون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ فيعترفون بذلك ويشهدون على أنفسهم أنهم كانوا كافرين. ثم ذكر أن ذلك العذاب، إنّما كان بعد بعث الأنبياء، لأنه لا يليق بعد، له أن يهلك القرى قبل تنبيهها من غفلتها، وأنّ ثوابه وعقابه على درجات بقدر الأعمال، وأنه غنيّ ذو رحمة، لو شاء لعجّل لهم العذاب في الدنيا، واستخلف من بعدهم من يشاء من خلقه، وأن ما يوعدون من ذلك لآت، وما هم بمعجزين قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) . إبطال بدع لهم في الحلال والحرام الآيات [136- 147] ثم قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الآية 136] فذكر من بدعهم في شركهم، أنهم جعلوا له سبحانه نصيبا مما ذرأ من حرثهم وأنعامهم ونصيبا لآلهتهم، فإن نما نصيب آلهتهم دون نصيبه تركوا نصيبها لها، وقالوا لو شاء نمّى نصيب نفسه، وإن نما نصيبه دون نصيبها قالوا لا بد لها من نفقة، فأخذوا نصيبه، فأعطوه لسدنتها. ثم ذكر منها أنهم كانوا ينحرون أولادهم لآلهتهم، وكان الرجل يقوم في الجاهلية فيحلف لئن ولد له كذا وكذا غلاما لينحرنّ أحدهم ثم ذكر منها حجرهم لبعض أنعامهم، وتحريم ظهور بعضها، وتحريم ذكر اسم الله على بعضها، وجعل ما في بطون بعضها خالصة لذكورهم محرّما على أزواجهم، وقتلهم أولادهم سفها بغير علم، وتحريمهم ما رزقهم الله من الطيبات افتراء عليه: قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) . ثم بيّن حكمه في ذلك، فذكر أنه سبحانه هو الذي أنشأ جنّات معروشات وغير معروشات، والنخل والزرع وغيرهما، وأمر الناس أن يأكلوا منها ويؤدوا حقه فيها يوم حصادها ثم ذكر أنه أنشأ من الأنعام حمولة تحمل أثقالنا، وأنشأ منها فرشا يفرش للذبح، وأمر الناس أن يأكلوا منها ولا يتّبعوا فيها الشيطان فيما زيّنه من تلك البدع، وذكر أنه أباح من ذلك ثمانية أزواج ذكر وأنثى من كل من الضأن والمعز

شبهتهم السادسة على التوحيد والنبوة الآيات [148 - 158]

والإبل والبقر، ثم توعّدهم على افتراء ما حرّموه منها، وأمر النبي (ص) أن يخبرهم بأنه لا يجد فيما أوحى إليه محرّما من ذلك، إلّا أن يكون ميتة، أو دما مسفوحا، أو غير ذلك مما ذكره ثم ذكر أنه حرم على اليهود كل ذي ظفر وغيره مما حرمه عليهم عقابا لهم على بغيهم، وتوعدهم إذا كذبوه في ذلك فقال فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) . شبهتهم السادسة على التوحيد والنبوة الآيات [148- 158] ثم قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الآية 148] فذكر شبهتهم السادسة على التوحيد والنبوة، وهي قولهم: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء، وإذا كان ذلك بإرادته كان راضيا عنه. ثم رد عليهم بأن من قبلهم اعتمد على مثل هذا في تكذيب الرسل حتى ذاق عذابه، فعلم أنه كان واهما. وبأنهم يزعمون ذلك من غير أن يكون عندهم به علم، وبأن الحجة البالغة لله عليهم بمعجزاته التي أيد بها رسله، وبأنه لا أحد يشهد لهم على زعمهم أن الله حرّم ما حرّموه على أنفسهم ثم أمر النبي (ص) أن يتلو ما حرّمه عليهم من الشرك به وما ذكر معه وذكر أن هذا هو صراطه المستقيم الذي يجب عليهم أن يتّبعوه ولا يتّبعوا غيره من السبل التي تفرّقهم عن سبيله، وأنه أنزل التوراة على موسى هدى ورحمة لقومه، وأنزل القرآن لئلّا يحتجّ من كفر بعد التوراة بأنه لم ينزل عليهم كتاب كما أنزل على اليهود والنصارى من قبلهم، وأنه لو أنزل عليهم كتاب لكانوا أهدى منهم ثم ذكر أنه قد جاءهم ذلك الكتاب الذي يقطع عذرهم، وأنه لا يوجد أظلم منهم إذ صدفوا عن آياته بعد أن ظهر صدقها لهم، وأوعدهم على ذلك بما أعده لهم من سوء العذاب وذكر أنهم إذا كانوا ينتظرون بإيمانهم أن تأتيهم الملائكة أو غير ذلك من اقتراحاتهم، فإن إيمانهم لا ينفع في ذلك الوقت يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)

الخاتمة الآيات [159 - 165]

الخاتمة الآيات [159- 165] ثمّ قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) فذكر أن النبي (ص) ليس في شيء من أولئك المشركين الذين فرّقوا دينهم، لأنه بلّغهم رسالته، وكل إنسان لا يسأل إلّا عن عمله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الآية 160] ثم أمره أن يذكر لهم أنّ ما أتى به هو دين أبيهم إبراهيم الذي لم يكن من المشركين، وأنّ صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله الذي لا شريك له، وأنه لا يمكنه أن يطلب الى غيره وهو تعالى ربّ كل شيء، وأنّ الرسول (ص) يتحمل تبعة عمله في ذلك كما يتحملون تبعة عملهم، ثم إلى ربهم مرجعهم فيحكم بينهم في خلافهم ثم ذكر أنه جلّ وعلا خلقهم ليجعلهم خلائف الأرض، وأنه رفع بعضهم فوق بعض درجات ليبلوهم في ما آتاهم إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الأنعام"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأنعام» «1» قال بعضهم: مناسبة هذه السورة لآخر المائدة: أنها افتتحت بالحمد، وتلك ختمت بفصل القضاء، وهما متلازمتان كما قال تعالى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) [الزّمر] . وقد ظهر لي بفضل الله مع ما قدمت الإشارة إليه في آية زُيِّنَ لِلنَّاسِ [آل عمران: 14] . أنه لما ذكر في آخر المائدة لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) [المائدة: 120] على سبيل الإجمال، افتتح هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله. فبدأ بذكر: أنه خلق السماوات والأرض، وضم إليه أنه جعل الظلمات والنور، وهو بعض ما تضمنه قوله تعالى: وَما فِيهِنَّ في آخر المائدة. وضمن قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ أول الأنعام أن له ملك جميع المحامد، وهو من بسط: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ (120) في آخر المائدة. ثم ذكر سبحانه، أنه خلق النوع الإنساني، وقضى له أجلا مسمّى، وجعل له أجلا آخر للبعث وأنه جلّ جلاله، منشئ القرون قرنا بعد قرن، ثم قال: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 12] . فأثبت له ملك جميع المنظورات. ثم قال وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الآية 13] فأثبت له ملك جميع المظروفات

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978.

لظرفي الزمان. ثم ذكر أنه خلق سائر الحيوان، من الدواب والطير، ثم خلق النوم واليقظة، والموت والحياة، ثم أكثر في أثناء السورة من ذكر الخلق والإنشاء لما فيهن، من النيرين، والنجوم، وفلق الإصباح، وخلق الحب والنوى، وإنزال الماء، وإخراج النبات والثمار بأنواعها، وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات، والأنعام، ومنها حمولة وفرش. وكل ذلك تفصيل لملكه سبحانه، ما فيهن: وهذه مناسبة جليلة. ثم لما كان المقصود من هذه السورة بيان الخلق والملك، أكثر فيها من ذكر الرب الذي هو بمعنى المالك والخالق والمنشئ، واقتصر فيها على ما يتعلق بذلك من بدء الخلق الإنساني والكوني، والملكي والشيطاني، والحيواني والنباتي، وما تضمنته من الوصايا، فكلّها متعلّق بالقوام والمعاش الدنيوي، ثم أشار إلى أشراط الساعة. فقد جمعت هذه السورة المخلوقات بأسرها، وما يتعلّق بها، وما يرجع إليها، فظهر بذلك مناسبة افتتاح السور المكية بها، وتقديمها على ما تقدم نزوله منها. وهي في جمعها الأصول والعلوم والمصالح الدنيوية، نظير سورة البقرة في جمعها العلوم والمصالح الدينية. وما ذكر فيها من العبادات المحضة، فعلى سبيل الإيجاز والإيماء، كنظير ما وقع في البقرة من علوم بدء الخلق ونحوه، فإنه على سبيل الاختصار والإشارة. فإن قلت: فلم لم يفتتح القرآن بهذه السورة مقدّمة على سورة البقرة، مادام بدء الخلق مقدّما على الأحكام والتعبّدات؟. قلت: للإشارة إلى أن مصالح الدين والاخرة مقدّمة على مصالح المعاش والدنيا، وأن المقصود إنما هو العبادة، فقدم ما هو الأهم في نظر الشرع «1» ، ولأن علم بدء الخلق كالفضلة، وعلوم الأحكام والتكاليف متعين على كل

_ (1) . ولهذا جاء في البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة: 21] وليس في القرآن غيره بلفظه. قال الكرماني: العبادة في الآية: التوحيد. وهو أول ما يلزم العبد من المعارف. فكان هذا أول خطاب خاطب به العباد في القرآن، ثم ذكر سائر المعارف، وبنى عليها العبادات فيما بعدها من السور والآيات (أسرار التكرار في القرآن (22) .

واحد. فلذلك ينبغي ألا ينظر في علم بدء الخلق وما جرى مجراه من التواريخ، إلا بعد النظر في علم الأحكام وإتقانه. ثم ظهر لي بحمد الله وجه آخر، أكثر إتقانا مما تقدم. وهو أنه لما ذكر في سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا [الآية 87] إلى آخره، فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله افتراء عليه، وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا مما أحل الله، فيشابهوا بذلك الكفار في صنيعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز، ساق هذه السورة لبيان ما حرمه الكفار في صنيعهم، فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل، ثم جادلهم فيه، وأقام الدلائل على بطلانه، وعارضهم وناقضهم، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة «1» فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته المائدة من ذلك على سبيل الإجمال، وتفصيلا وبسطا، وإتماما، وإطنابا. وافتتحت بذكر الخلق والملك «2» ، لأنّ الخالق والمالك هو الذي له التصرّف في ملكه، ومخلوقاته، إباحة ومنعا، تحريما وتحليلا، فيجب ألّا يتعدّى عليه بالتصرف في ملكه. وكانت هذه السورة بأسرها متعلقة بالفاتحة، من وجه كونها شارحة لإجمال قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ (2) . وللبقرة من حيث شرحها لإجمال قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 21] . وقوله جلّ وعلا: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] . وبال عمران من جهة تفصيلها لقوله تعالى: وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران: 14] . وقوله جلّ وعلا: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] . وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق، والتقبيح لما حرموه على أزواجهم،

_ (1) . وهذا البيان الكامل في قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [الآية 136] إلى سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) . (2) . وذلك قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الآية الأولى] إلى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) .

وقتل البنات بالوأد «1» . وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها «2» . وفي افتتاح السور المكية بها وجهان آخران من المناسبة. الأول: افتتاحها بالحمد. والثاني: مشابهتها للبقرة، المفتتح بها السور المدنية، من حيث أن كلا منهما نزل مشيّعا. ففي حديث أحمد: «البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا» «3» . وروى الطبراني وغيره من طرق: «أن الأنعام شيّعها سبعون ألف ملك» . وفي رواية: «خمسمائة ملك» «4» . ووجه آخر، وهو: أن كل ربع من القرآن افتتح بسورة أولها الحمد. وهذه للربع الثاني، والكهف للربع الثالث، وسبأ وفاطر للربع الرابع. وجميع هذه الوجوه التي استنبطتها من المناسبات بالنسبة للقرآن كنقطة من بحر. ولما كانت هذه السورة لبيان بدء الخلق، ذكر فيها ما وقع عند بدء الخلق، وهو قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الآية 54] . ففي الصحيح: «لما فرغ الله من الخلق، وقضى القضية، كتب كتابا عنده فوق العرش: إنّ رحمتي سبقت غضبي» «5» .

_ (1) . سبق ما يدل على بدء الخلق، وما حرموه على أزواجهم، أما تقبيح قتل البنات بالوأد فجاء عقبه في قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ [الآية 140] . (2) . الأطعمة ذكرت هنا مفصلة في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ [الآية 141] إلى قوله: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) . (3) . أخرجه أحمد في المسند: 5: 26 عن معقل بن يسار. وأخرج أوله الترمذي: 8: 181 بتحفة الاحوذي. والدارس في فضائل القرآن عن ابن مسعود: 2: 447، ونزول الملائكة معها أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد: 6: 311 وعزاه للطبراني. (4) . أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن عمر: 7: 19، 20 وفيه (أنزلت جملة واحدة) وفيه (لهم زجل بالتسبيح والتحميد) . وعزاه للطبراني وقال: فيه يوسف الصفار، وهو ضعيف. وقال ابن الجوزي: متروك. (العلل المتناهية من اسمه يوسف) ونقل السيوطي عن ابن الصلاح في فتاواه رواية تخالف ذلك: أنها لم تنزل جملة، بل نزلت منها آيات بالمدينة، قيل: ثلاث، وقيل: غير ذلك (الإتقان: 1: 137) . (5) . أخرجه البخاري في بدء الخلق: 4: 129، وفيه (كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الأنعام"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الأنعام» «1» 1- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الآية 8] . سمّى ابن إسحاق من القائلين: زمعة بن الأسود، والنّضر بن الحارث ابن كلدة، وعبدة بن عبد يغوث، وأبيّ بن خلف، والعاصي بن وائل. أخرجه ابن أبي حاتم. 2- وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الآية 52] . نزلت في نفر، سمّي منهم: صهيب، وبلال، وعمّار، وخباب، وسعد بن أبي وقّاص، وابن مسعود، وسلمان الفارسي كما خرّجته في «أسباب النزول» «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . قال السيوطي في «لباب النقول في أسباب النزول» : 226- 227: «روى ابن حبان، والحاكم عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة: أنا، وعبد الله بن مسعود، وأربعة قالوا لرسول الله (ص) : اطردهم، فإنّا نستحي أن نكون تبعا لك كهؤلاء، فوقع في نفس النبي (ص) ما شاء الله فأنزل الله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ إلى قوله سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ. روى أحمد، والطبراني، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش على رسول الله (ص) وعنده خباب بن الأرت، وصهيب، وبلال، وعمار، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء؟ أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا، لو طردت هؤلاء لا تبعناك، فأنزل الله فيهم القرآن» . قلت: في «صحيح مسلم» في كتاب الفضائل، أثر سعد الأول. الذي أورده السيوطي في «أسباب النزول» . والخبر الثاني عن ابن مسعود، أخرج نحوه أبو يعلى وابن أبي شيبة عن خباب، بسند صحيح، كما في «المطالب العالية» : (3618) والبزار، كما في «كشف الأستار بزوائد البزار» 3: 48 رقم: 2209، وانظر «سيرة ابن هشام» 1: 392. [.....]

3- وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ [الآية 74] . قال ابن عباس: اسمه تارح «1» . أخرجه ابن أبي حاتم، من طريق الضّحّاك عنه. وأخرج عن السّدّي مثله «2» . 4- رَأى كَوْكَباً [الآية 76] . قال زيد بن علي: هو الزّهرة. وقال الزّهري «3» : هو المشتري. أخرجهما ابن أبي حاتم. 5- فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ [الآية 89] . يعني: أهل مكة «4» .

_ (1) . كذا في «الحاوي للفتاوي» . (2) . ساق السيوطي الأدلة بأن (آزر) ليس أبا إبراهيم في رسالته «مسالك الحنفا في والدي المصطفى» : المتضمنة في كتابه «الحاوي للفتاوي» 2: 202- 223 وفي «الدر المنثور» 3: 23. قال في «الحاوي للفتاوي» 2: 213- 214. « ... وهذا القول، أعني أن آزر ليس أبا إبراهيم، ورد عن جماعة من السلف. أخرج ابن المنذر بسند صحيح عن ابن جريج في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ قال: «ليس آزر بأبيه، إنما هو إبراهيم بن تيرح أو تارح» . وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن السدي أنه قيل له: اسم أبي إبراهيم آزر؟! فقال: بل اسمه تارح. وقد وجه من حيث اللغة بأن العرب تطلق لفظ الأب على العم إطلاقا شائعا، وإن كان مجازا وفي التنزيل: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة: 133] فأطلق على إسماعيل لفظ الأب، وهو عم يعقوب، كما أطلق على إبراهيم وهو جده» . غير أن من العلماء من يرى غير ذلك، فيقول ابن جرير الطبري في «تفسيره» 7: 159: «أولى القولين بالصواب منهما عندي قول من قال: هو اسم أبيه. لأن الله تعالى أخبر أنه أبوه، وهو القول المحفوظ من قول أهل العلم دون القول الاخر الذي زعم قائله أنه نعت، فإن قال قائل: فإن أهل الأنساب إنما ينسبون إبراهيم إلى تارح فكيف يكون آزر اسما له، والمعروف به من الاسم تارح؟ قيل له: غير محال أن يكون له اسمان كما لكثير من الناس في دهرنا هذا، وكان ذلك فيما مضى لكثير منهم، وجائز أن يكون لقبا والله تعالى أعلم» . وفي «البحر المحيط» 4: 164 لأبي حيّان: «قيل: إن آزر عم إبراهيم وليس اسم أبيه وهو قول [بعضهم] ، يزعمون أن آباء الأنبياء لا يكونون كفارا، وظواهر القرآن ترد عليهم، ولا سيما محاورة إبراهيم مع أبيه في غير ما آية» . (3) . الزهري: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري: فقيه حافظ، متفق على جلالته وإتقانه، ومن أوائل مدوني الحديث الشريف، توفي سنة (125) وقيل غير ذلك. (4) . أخرجه ابن أبي حاتم، كما في الفقرة التالية.

6- فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً [الآية 89] . يعني: أهل المدينة، والأنصار. أخرجه ابن أبي حاتم، من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس «1» . وأخرج عن أبي رجاء العطاردي «2» : فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً قال: هم الملائكة. 7- إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الآية 91] . قال ابن عباس: قال ذلك اليهود «3» . وقال مجاهد: مشركو قريش. وقال السّدّي: فنحاص اليهودي. وقال سعيد بن جبير: مالك بن الضّيف «4» . أخرجهم ابن أبي حاتم «5» . 8- وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الآية 93] . قال السّدّي: نزلت في عبد الله بن أبي سرح. 9- أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ [الآية 93] . قال قتادة: نزلت في مسيلمة، والأسود العنسي «6» . 10- وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ [الآية 93] . قال الشّعبي «7» : هو عبد الله بن أبيّ بن سلول. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. 11- أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الآية 122] . قال زيد بن أسلم وغيره: نزلت في عمر بن الخطاب. وقال عكرمة: في عمّار بن ياسر. 12- كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الآية 122] .

_ (1) . انظر «تفسير الطبري» 7: 174. (2) . أبو رجاء العطاردي: عمران بن ملحان، مخضرم، ثقة، معمّر، مات سنة (105) هـ وله مائة وعشرون سنة. (3) . أخرجه الطبري 8: 177، وابن المنذر، وأبو الشيخ. «الدر المنثور» 3: 29. (4) . وقيل: «الصيف» بالصاد المهملة والوجهان جائزان كما في «سيرة ابن هشام» 1: 514. (5) . انظر «تفسير الطبري» 5: 176. (6) . توفي مسيلمة الكذاب بن ثمامة عام (12) هـ، وأما الأسود العنسي. فهو عيهلة بن كعب، وهو أول من ارتد عن الإسلام فقد توفي سنة (11) هـ. (7) . الشّعبي: عامر بن شراحيل، أبو عمرو، ثقة مشهور، وفقيه فاضل، مات بعد المائة، وله نحو ثمانين من العمر.

قال الضّحّاك وزيد: نزلت في أبي جهل. أخرج ذلك ابن أبي حاتم «1» . 13- لَهُمْ دارُ السَّلامِ [الآية 127] . قال قتادة: هي الجنّة. أخرجه ابن أبي حاتم «2» . 14- عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا [الآية 156] . قال ابن عباس: هم اليهود، والنّصارى. أخرجه ابن أبي حاتم «3» . 15- يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ [الآية 158] . هو طلوع الشمس من مغربها كما ورد في حديث مرفوع عند «مسلم» وغيره «4» . وقال ابن مسعود: طلوع الشمس، والقمر من مغربهما. أخرجه الفريابي «5» . 16- إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً [الآية 159] . قال النبي (ص) : «هم الخوارج» .

_ (1) . انظر «تفسير الطبري» 8: 17. وفي «الإتقان» 2: 150 في قوله تعالى قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الآية 124] قال: سمي منهم: أبو جهل والوليد بن المغيرة. (2) . انظر «تفسير الطبري» 8: 25. (3) . و «الطبري» 8: 69. [.....] (4) . أخرج البخاري: (6506) في الرقاق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت رآها الناس وآمنوا أجمعين، فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا..» إلخ. وقد أخرج نحوه: مسلم وأبو داود والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، وأحمد، وعبد الرزاق، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي، في «شعب الإيمان» كما في «الدر المنثور» 3: 57. وروى الطبراني في «المعجم الصغير» 1: 64 رقم (164) عن أبي هريرة عن النبي (ص) في قوله عز وجل: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ قال: طلوع الشمس من مغربها. قال الحافظ في «فتح الباري» 11: 353: قال ابن عطية: في هذا الحديث- أي حديث البخاري دليل على أن المراد ب «بعض» في قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ طلوع الشمس من المغرب، وإلى ذلك ذهب الجمهور، انتهى. وقد ذكر المحدّث السيد محمد بن جعفر الكتاني في كتابه «نظم المتناثر» : 147 أن أحاديث طلوع الشمس من المغرب وردت من طريق (14) صحابيا، فجعلها بذلك من قسم المتواتر. (5) . وسعيد بن منصور، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ وعيد بن حميد. «الدر المنثور» .

أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبي أمامة «1» . وأخرجه الطبراني «2» من حديث عائشة، بلفظ: «هم أصحاب البدع، والأهواء» . وقال قتادة: هم اليهود، والنّصارى. أخرجه عبد الرزاق «3» . وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن السّدّي.

_ (1) . قال ابن كثير في «تفسيره» 2: 196: «لا يصح» . (2) . في «المعجم الصغير» ونصه: عن عمر بن الخطاب أن رسول الله (ص) قال لعائشة: «يا عائشة إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً هم أصحاب البدع، وأصحاب الأهواء، ليس لهم توبة وأنا منهم بريء، وهم مني براء» . قال الهيثمي: إسناده جيد. وأخرج نحوه أيضا الطبراني في «المعجم الأوسط» عن أبي هريرة كما في «مجمع الزوائد» 7: 22- 23. (3) . و «الطبري» 8: 77.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الأنعام"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأنعام» «1» 1- قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الآية 6] . أقول: دلالة القرن على الزمان مشهورة وحدّه عشر سنين أو عشرون أو ثلاثون أو أربعون أو خمسون أو ستون أو سبعون أو ثمانون أو مائة أو مائة وعشرون. والغالب هو مائة سنة. والعدد الأخير هو المعروف في عصرنا، وليس شيئا من المقادير الأخرى، فيقال القرن الرابع عشر الهجري، وحدّه من 1301 إلى 1400. ولكن للقرن دلالات أخرى في العربية القديمة، فهو الأمّة من الناس هلكت، ولم يبق منها أحد، وهذا متحقّق في الآية موضع بحثنا، كما هو متحقق في آيات أخرى منها: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [يونس: 13] . ولعل سبب إطلاق القرن على الأمّة، وعلى قدر من السنين في الوقت نفسه مردّه إلى علاقة أحدهما بالآخر بنوع من الاتّصال والملابسة. 2- وقال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الآية 25] . أي: ومنهم من يستمع إليك حين تتلو القرآن. روي أنّه اجتمع أبو سفيان، والوليد، والنضر، وعتبة، وشيبة، وأبو جهل، وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله (ص) فقالوا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

للنضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمّد؟ فقال: والذي جعلها بيته، يعني الكعبة، ما أدري ما يقول، إلّا أنّه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأولين، مثل ما حدّثكم عن القرون الماضية. فقال أبو سفيان: إنّي لأراه حقّا. فقال أبو جهل: كلّا، فنزلت الآية. والأكنّة: الأغطية، وهي جمع كنان. والمعنى غطّيت قلوبهم بأغطية لئلّا يفقهوا آيات الله، أي: لكي لا يفقهوها أقول: حذفت لام التعليل كما حذفت أداة النفي «لا» قبل الفعل «يفقهوه» للعلم به من قرينة الحال، وهذا نمط من إيجاز لغة التنزيل، وهو معرض من معارض البلاغة. 3- وقال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا [الآية 27] . والمعنى: ولو ترى إذ أروا النّار.... إن الفعل: «وقف» في الآية مبني للمفعول. والفعل وقف، والمصدر وقف ووقوف، خلاف الجلوس وهو لازم، تقول: وقفت الدابّة تقف وقوفا. ووقفت الدابّة وقفا، أي: وقّفتها أو أوقفتها، وهو فعل متعدّ نعرفه كثيرا في الأدب القديم، قال امرؤ القيس: وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمّل ومثل قول طرفة: وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلّد ومن ذلك قول النابغة: وقفت فيها سراة اليوم أسألها ... عن حال نعم أمونا عبر أسفار هذا هو «وقف» الفعل المتعدي، وهو ما لا وجود له في العربية المعاصرة، بل عدل عنه إلى المزيد فيقال: أوقفت السيّارة، ومثله المضاعف: وقّفها. على أن الفعل في الآية موضع بحثنا «وقفوا» بمعنى أروا وأدخلوا النار فعرفوا مقدار عذابها، كما تقول: وقفت على ما عند فلان، تريد قد فهمته وتبيّنته. 4- وقال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) . إنّ الأداة «قد» في قَدْ نَعْلَمُ من

الآية بمعنى «ربّما» ، الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته، كقول زهير: أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ولكنّه قد يهلك المال نائله وقد علق الشيخ أحمد بن المنير الإسكندري في حاشيته «الارتشاف» فقال: ومثلها، (أي: مسألة «قد» ) في قوله تعالى: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصّفّ: 5] فإنّه يكثر علمهم برسالته، ويؤكّده بظهور آياته، حتّى يقيم عليهم الحجّة في جمعهم بين متناقضين: أذيّته، ورسوخ علمهم برسالته. ومنه أيضا قول الشاعر: قد أترك القرن مصفرّا أنامله أقول: هذه الفائدة من خصائص العربية في اللغة القديمة، أي: أن «قد» تدخل على الفعل المضارع، وتفيد التكثير، بعكس الشائع الكثير وهو التقليل. أقول: قد يكون بقي شيء من إفادة التقليل ل «قد» مع المضارع في اللغة العربية المعاصرة، إلّا أن إفادة التكثير لا نجد له مكانا وذلك لأن المعربين من الأدباء وغيرهم قد أضاعوا الكثير من خصائص هذه وجهلوا مكانها. ومن المفيد أن نقف عند قول الزمخشري: أن «قد» في «قد نعلم» بمعنى «ربّما» . أود أن أقول: إن «ربّما» تفيد التقليل، وهي كذلك في العربية القديمة ولكنها تفيد التكثير أيضا. فماذا بقي منها في العربية المعاصرة؟ لم يبق من ذلك إلا إفادة التقليل وقد يضاف إلى التقليل، الشك والاحتمال الضعيف «1» . وفي هذه الآية جاء: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ. وهمزة «إن» مكسورة وقد جرينا في العربية على فتح الهمزة، إذا صحّ أن تؤوّل هي ومعمولاها بمصدر في موضع المفعول به للفعل «نعلم» . غير أن القراءة جرت بالكسر: وهذه سنة متبعة وعلينا قبولها، ولا يصح سبكها بالمصدر ثم الفعل «يحزن» مثل «ينصر» ، وقرئ أيضا بضم الياء. والقراءة بالفتح هي المثبتة، وهي الشهيرة، على أن الفعل ثلاثي «حزن يحزن» والفعل متعدّ.

_ (1) . انظر: مسألة «رب» ، ومسائل أخرى لابن السيد البطليوسي (نشر مجمع اللغة العربية في دمشق 1960) .

أقول: وكون هذا الفعل متعدّيا، معروف مشهور في العربية القديمة، ولا وجود له في العربية المعاصرة فإذا أريد تجاوزه إلى المفعول به، قالوا «أحزن» مزيدا بالهمزة. وجاء في «الصحاح» أنّ «حزن» لغة قريش، و «أحزن» لغة تميم. والمصدر الحزن. وأمّا الحزن فمصدر «حزن» اللازم. أقول: لم أهتد في استقرائي منذ زمان بعيد إلى استعمال «حزن» المتعدي بصيغة المضي، فكلّ الذي وجدته من نصوص هو استعمال «يحزن» ، ويؤيّد دعواي هذه ما ورد في لغة التنزيل، فقد جاء الفعل متعدّيا بصيغة «يفعل» في تسع آيات، منها قوله تعالى: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) [يس] . 5- وقال تعالى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها [الآية 59] . أريد أن أقف على قوله تعالى: إِلَّا يَعْلَمُها فأقول: هذا هو أسلوب القرآن يأتي الفعل بعد أداة الاستثناء في الجملة الحالية، وليس من واو كما نجد عند المعربين، ولا سيما في عصرنا الحاضر، يقال: ما رأيته إلا ووجدته مشغولا بمسألة مشكلة. وكأن الأسلوب الفصيح القول: ما رأيته إلا وجدته مشغولا بمسألة مشكلة. ومثل هذا قوله تعالى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) . وقوله تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) [الحجر] . 6- وقال تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً [الآية 65] . أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً بمعنى أن يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتّى، كلّ فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم: أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال. وكتيبة لبّستها بكتيبة ... حتى إذا التبست نفضت لها يدي «1»

_ (1) . «الكشاف» 2: 23.

واللّبس واللّبس: اختلاط الأمر، ولبس عليه الأمر يلبسه لبسا فالتبس، إذا خلطه عليه حتى لا يعرف جهته. وعلى هذا، فرّق بالفعل بين معنى الخلط وبين قولهم: لبس الثوب فهذه الأخيرة مثل «علم» ، والتي تفيد الخلط مثل «ضرب» . كما فرّق بالمصدر، فمصدر قولهم: لبس الثوب «اللّبس» بضم اللام، أما ما يفيد الخلط فهو «اللّبس» بفتح اللام. وقالوا: لا بس الرجل الأمر بمعنى خالطه ولا بست فلانا: عرفت باطنه. أقول: هذه هي الملابسة، أمّا أن يراد بها الالتباس كما في اللغة المعاصرة، فهو أمر جديد حدث عن طريق الاتساع، لأنّ الكلمة تفيد المخالطة. وقد كنا عرضنا لشيء من مادة «لبس» . 7- وقال تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الآية 68] . المراد بقوله تعالى: يَخُوضُونَ فِي آياتِنا، أي: في الاستهزاء بها والطعن فيها. أقول: جاءت مادة «الخوض» ، فعلا، ومصدرا، واسم فاعل في إحدى عشرة آية، وفي جميعها قد انصرف «الخوض» إلى الدخول في الباطل وما لا ينبغي، ومن ذلك قوله تعالى: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) [الطور] . غير أننا نجد «الخوض» ، مستعملا في العربية المعاصرة غير متصف بهذه الخصوصية المعنوية، فهو عام يكون في الخير والشر، والحق والباطل، يقال مثلا: «كنا نخوض في مختلف الشؤون» ، والشؤون تكون حقا وباطلا، وقد تكون كلها حقا. وهذا يعني أن المعربين قد جهلوا الكثير من خصائص هذه اللغة العريقة. 8- وقال تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها [الآية 70] . قوله تعالى: وَذَكِّرْ بِهِ، أي: بالقرآن، والمراد ب أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ أي: مخافة أن تسلم النفس إلى الهلكة والعذاب، وترتهن بسوء كسبها. وأصل الإبسال: المنع، لأن المسلم إليه يمنع

المسلم، قال عوف بن الأحوص الباهلي: وإبسالي بنىّ بغير جرم ... بعوناه ولا بدم مراق «1» ومنه: هذا عليك بسل، أي: حرام محظور. وأبسلت فلانا: أسلمته للهلاك فهو مبسل. ومثل هذا قوله تعالى من الأنعام: أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا [الآية 70] . أي: أسلموا بجرائمهم، وقيل: ارتهنوا، وقيل أهلكوا «2» . أقول: وهذا من الكلم الشريف الذي اشتملت عليه لغة القرآن، وليس لنا شيء منه في العربية المعاصرة. إننا لم نعرف في عربيتنا المعاصرة من مادة «بسل» إلا الباسل والبسالة فنقول: الجيش الباسل، وأبدى المحارب بسالة، ولا نعرف الفعل «بسل» . 9- وقال تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [الآية 73] . ورد «الصّور» في عشر من الآيات، وفي جميعها يرد الفعل «نفخ وينفخ» بالبناء للمفعول، فما الصّور هذا؟ وفي «الصّور» قولان أحدهما: أنه بفتح الواو جمعا لصورة، كما في قراءة لقوله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) [طه] . والثاني: أنه القرن الذي ينفخ فيه. أقول: وأما من قال: إن الصّور «بفتح الواو» هو المراد، وهو جمع صورة، فهو أبو علي. وقال أبو الهيثم: اعترض قوم فأنكروا أن يكون الصّور قرنا، كما أنكروا العرش والميزان والصّراط، وادّعوا أن الصّور جمع الصورة كما أن الصّوف جمع الصّوفة، والثّوم جمع الثّومة، ورووا ذلك عن أبي عبيدة. قال أبو الهيثم وهذا خطأ فاحش، وتحريف لكلمات الله، عزّ وجلّ، عن مواضعها لأن الله، سبحانه، قال: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر: 64] ففتح الواو.

_ (1) . الكشاف 2: 36. (2) . اللسان (بسل) .

قال: ولا نعلم أحدا من القرّاء قرأها: (فأحسن صوركم) ، وكذلك قال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الكهف: 99] ، فمن قرأ: (ونفخ في الصّور) ، أو قرأ: (فأحسن صوركم) فقد افترى الكذب وبدّل كتاب الله. أقول: وأنا أميل إلى قول أبي علي عن أبي عبيدة وهو أن «الصور» جمع صورة كالصوف جمع صوفة، أو أنه «الصّور» جمع الصورة، وذلك يبعد عنا فكرة التجسيم والتمثيل التي تكون في «القرن» ينفخ فيه. 10- وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ [الآية 80] . الكلام على وَقَدْ هَدانِ فالنون مكسورة، والأصل: «وقد هداني» والياء مطلوبة لأنها ضمير المتكلم وهي المفعول به، وقد حذفت هذه الياء واجتزئ عنها بكسرة قصيرة. أقول: «قصيرة» لأنها حركة قصيرة بالقياس إلى الياء التي هي كسرة أو حركة طويلة. ولماذا هذا الاجتزاء؟ سبب ذلك أن الوقف الجائز بعد هَدانِ يسوّغه وجود حركة قصيرة ولو كانت طويلة، لما حسن الوقف، لأن الوقف على النون الساكنة، أوقع على السمع من الوقف على الياء، أي: المدّ الطويل كما هو أحسن من الوقف على الكسر، وهذا من لطائف حسن الأداء، الذي تقتضيه قراءة القرآن، وإحسان تلك القراءة. 11- وقال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الآية 90] . الكلام على اقْتَدِهْ، والهاء فيها صوت اقتضاه الوقف الذي هو أولى من الوصل في هذه الآية، وذلك أن الوقف لو كان على «الدال» لوجب إسكان الدال، وبذلك يختلّ الفعل، ويلتبس معناه بالأمر من «اقتاد» ، فجيء بالهاء وهو صوت حلقي يحسن السكوت عليه ألا ترى أن العرب في باب النداء والندبة والاستغاثة، وقفوا على الهاء فقالوا يا غوثاه، ويا زيداه، ووا حرّ قلباه، وغير ذلك. 12- وقال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الآية 91] . والمعنى: ما عظّموا الله حقّ تعظيمه. وقال الخليل: ما وصفوه حقّ صفته.

أقول: هذا هو «القدر» بمعنى التعظيم الذي تحوّل إلى «التقدير» في لغة المعاصرين، يقولون: فلان حظي بالتقدير والاحترام. على أن «التقدير» في فصيح العربية القديمة ليس من هذا، وتقدير الله الخلق، تيسيره كلّا منهم، لما علم أنهم صائرون إليه من السعادة والشقاء، كذا قال المفسّرون والتقدير أيضا تعيين المقدار والدرجة والحدّ. قال تعالى: وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ [فصلت: 10] . وقال تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) [المدّثّر] . وقال تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: 39] . وقال تعالى: قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) [الإنسان] . 13- وقال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ [الآية 93] . أقول: واسم الفاعل «باسطو» مضاف إلى معموله، والمعنى يبسطون أيديهم، وهذا يعني أن الدلالة الزمنية هي حكاية الحال الماضية، ومن أجل ذلك وجبت الإضافة، ولم يجب النصب، وقد كنا أشرنا إلى هذا الموضوع وأوضحناه. 14- وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الآية 94] . أريد أن أقف على قوله تعالى أَوَّلَ مَرَّةٍ، والمضاف إلى المصدر حكمه حكم المصدر مفعولا مطلقا. أقول: درج المعاصرون على جرّ «أوّل» باللام فيقولون: حدث لأوّل مرّة، والفصيح: حدث أوّل مرّة. 15- وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [الآية 95] . اسم الفاعل في الآية أضيف إلى معموله، وامتنع النّصب. وانظر الآية: 93. 16- وقال تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 101] . قالوا: من إضافة الصفة المشبّهة إلى فاعلها، كقولك: فلان بديع الشّعر، أي: بديع شعره. كقولك: فلان ثبت الغدر، أي: ثابت فيه، والمعنى أنه عديم النّظير والمثل فيها. وقيل: البديع بمعنى المبدع «1» .

_ (1) . «الكشاف» 2: 53.

أقول: إن قولهم: البديع بمعنى المبدع أكثر وجاهة، وذلك لأنّ المبدع هو الموجد، والخالق، والبادئ، وأن بدأ وبدع وبده واحد في الأصل والمعنى واحد. وعلى هذا فالمبدع، مقابلا للبديع في الآية، يعضده الاشتقاق. 17- وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) . أقول القسم في غاية الإغلاظ. وقد كنت عرضت للايات المصدّرة ب «لئن» وأشرنا إلى اللام أنها موطئة للقسم، ومن أجل ذلك فافعل بعدها جواب للقسم، وقد أكّد بالنون لأنه الجواب المتصل باللام، المثبت المستقبل في دلالته الزمنية. وعلى هذا، فأسلوب المعاصرين ومن سبقهم ممن أشرنا إليهم من الشعراء، غير فصيح، في جعل الجواب للشرط، يدل عليه اقترانه بالفاء التي هي فاء الجزاء. وَما يُشْعِرُكُمْ، بمعنى (وما يدريكم) ، أن الآية التي تقترحونها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، وأنتم لا تدرون بذلك. وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية، ويتمنّون مجيئها. فكأنّه، عزّ وجلّ، قال وما يدريكم أنهم لا يؤمنون. على معنى أنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون به. ألا ترى إلى قوله تعالى: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الآية 110] . وقيل: «أنّها» بمعنى «لعلّها» من قول العرب: ائت السوق أنّك تشتري لحما. وقال امرؤ القيس: عوجا على الطّلل المحيل لأنّنا «1» ... نبكي الدّيار كما بكى ابن خذام ويقوّيها قراءة أبيّ: (لعلّها إذا جاءت لا يؤمنون) . وقرئ بالكسر على أن الكلام قد تمّ قبله بمعنى: وما يشعركم ما يكون منهم «2» .

_ (1) . لأننا بفتح اللام والهمزة، بمعنى لعلّنا. (2) . «الكشاف» 2: 57.

18- وقال تعالى: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ [الآية 138] . أقول: حجر بمعنى محجور مثل الذّبح والطّحن، وهذا باب كبير في العربية، وهو ما جاء على «فعل» بكسر فسكون ومعناه مفعول. ولعل هذه الأبنية السماعية التي تؤدّي ما تؤدّيه الأبنية القياسية، قد سبقت الأبنية القياسية، ومن أجل ذلك احتفظت العربية ببقاياها. ألا ترى أن «فعلة» في كثير من الألفاظ تؤدّي معنى «مفعول» ، نحو اللّقمة والكسوة والضحكة ونحو ذلك، ومثل ذلك ما ورد على «فعل» بفتحتين كالحلب والسلب والجلب والعلل والنّهل. 19- وقال تعالى: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الآية 139] . قال الزمخشري «1» : كانوا يقولون في أجنّة البحائر والسوائب: ما ولد منها حيّا، فهو خالص للذكور، لا تأكل منه الإناث. وأنّث لفظ (خالصة) للحمل على المعنى، لأنّ (ما) في معنى الأجنّة، وذكّر لفظ (محرّم) للحمل على اللفظ. ويجوز أن تكون التاء في «خالصة» للمبالغة مثلها في راوية الشعر. وأن تكون مصدرا وقع موقع الخالص، كالعاقبة، أي: ذو خالصة. أقول: ولا أرى قوله الثاني في أن التاء للمبالغة وجيها، والوجه الأول هو الحسن والصواب، وذلك أن لغة القرآن هي لغة العرب، وقد درج العرب على مراعاة اللفظ مرّة ومراعاة المعنى أخرى فإذا اقتضت الحال المراعاة مرّتين، حمل عليهما للتجانس وأظن أن هذه هي الحكمة اللطيفة، التي جرت عليها لغة القرآن، والله تعالى أعلم. ويحسن أن نشير إلى قول الزمخشري «البحائر والسوائب» بشيء من الشرح فنقول: أقول: البحيرة والسائبة من قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [المائدة: 103] .

_ (1) . «الكشاف» 2: 71. [.....]

قيل: البحيرة من الإبل التي بحرت أذنها، أي: شقّت طولا، ويقال: هي التي خلّيت بلا راع. وقال الأزهري، قال أبو إسحاق النحويّ: أثبت ما روينا عن أهل اللغة، في البحيرة، أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا، بحروا أذنها، أي: شقّوها، وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ولا تحلّأ عن ماء ترده، ولا تمنع من مرعى، وإذا لقيها المعيي المنقطع به لم يركبها. وقيل: البحيرة الشاة إذا ولدت خمسة أبطن، فكان آخرها ذكرا، بحروا أذنها، أي: شقّوها وتركت فلا يمسّها أحد. قال الأزهري: والقول هو الأوّل لما جاء في حديث أبي الأحوص الجشمي عن أبيه، أن النبيّ (ص) قال له: أربّ إبل أنت أم ربّ غنم؟ فقال: من كلّ قد آتاني الله فأكثر، فقال: هل تنتج إبلك وافية آذانها فتشقّ فيها وتقول: بحر؟ يريد جمع البحيرة. أقول: وهذا من عاداتهم ومعتقدهم الذي درجوا عليه بالباطل فجاء الإسلام وأبطله. وأمّا «السائبة» فهي أن الرجل في الجاهلية كان إذا قدم من سفر بعيد، أو برئ من علّة، أو نجته دابّة من مشقّة أو حرب قال: ناقتي سائبة، أي: تسيّب فلا ينتفع بظهرها، ولا تحلّأ عن ماء، ولا تمنع من كلأ، ولا تركب. وقيل: بل كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظما فتعرف بذلك فأغير على رجل من العرب، فلم يجد دابة فركب سائبة، فقيل: أتركب حراما؟ فقال: يركب الحرام من لا حلال له، فذهبت مثلا «1» . وجاء في الصحاح: السائبة الناقة التي كانت تسيّب في الجاهلية، لنذر ونحوه «2» . وهذه أيضا آبدة من أوابدهم التي درجوا عليها، وسنأتي إلى الوصيلة فنقول: الوصيلة كانت في الشّاء خاصّة، فكانت الشّاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا فهو

_ (1) . «اللسان» (سيب) . (2) . «الصحاح» (سيب) .

لآلهتهم، فإذا ولدت ذكرا وأنثى، قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذّكر لآلهتهم، هذا هو قول المفسّرين للاية. وقال غيرهم: الوصيلة الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن، وهي من الشّاء التي ولدت سبعة أبطن عناقين عناقين، فإن ولدت في السابع عناقا، قيل: وصلت أخاها، فلا يشرب لبن الأمّ إلّا الرجال دون النساء، وتجري مجرى السائبة. وقال أبو عرفة: الوصيلة من الغنم كانوا إذا ولدت الشاة ستّة أبطن، نظروا، فإن كان السابع ذكرا ذبح، وأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كانت أنثى وذكرا، قالوا: وصلت أخاها فلم يذبح، وكان لبنها حراما على النساء. على أن في الوصيلة أقوالا أخرى ليست بعيدة عن هذه الرسوم الجاهلية. وأما الحامي: فهو الفحل من الإبل يضرب الضّراب المعدود، قيل: عشرة أبطن، فإذا بلغ ذلك قالوا: هذا حام، أي: حمى ظهره فيترك فلا ينتفع منه بشيء ولا يمنع من ماء ولا مرعى. وقد أبطل الإسلام هذه الرسوم الجاهلية، وجعلها حلالا كغيرها من الحلال، وبذلك صرّحت الآية. 20- وقال تعالى: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً [الآية 142] . قال الفراء: «الحمولة» ما أطاق العمل والحمل. و «الفرش» : الصّغار. وقال أبو إسحاق: أجمع أهل اللغة على أن الفرش صغار الإبل. وقال بعض المفسّرين: «الفرش» صغار الإبل، وإن البقر والغنم من الفرش، والذي جاء في التفسير يدلّ عليه قوله عزّ وجل ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ [الآية 143] فلما جاء هذا بدلا من قوله تعالى: حَمُولَةً وَفَرْشاً جعله للبقر والغنم مع الإبل «1» . 21- وقال تعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) . أريد أن أقف قليلا على «الدراسة» ، وينبغي أن أرجع إلى الآية 105 من هذه السورة، وهي:

_ (1) . «اللسان» (فرش) .

وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) . وقد قرئت هذه الآية: (وليقولوا دارست) . والمعنى كما قالوا: درست كتب أهل الكتاب وأمّا دارست أي: ذاكرتهم. وقرئ: (درست) و (درست) ، أي: هذه أخبار قد عفت وامّحت. أقول: وهذه القراءة الأخيرة لا تعدل قوّة القراءة الأولى ووضوحها، التي اتّفق أكثر القراء وأهل العلم عليها. وقرأ ابن عباس ومجاهد: (دارست) ، وفسّرها: قرأت على اليهود وقرءوا عليك. وقرئ: (درست) أي: قرئت وتليت. والمصدر في هذا الفعل بمعنى القراءة الدّرس كالمصدر في «درس» بمعنى «عفا وامّحى» . أما الدراسة بمعنى القراءة، فهي خاصة بهذه الدلالة. والدّرس بمعنى القراءة من الأصول القديمة في مجموعة اللغات السامية، ومن المعلوم أن المدراش عند العبرانيين هو البيت الذي يدرسون فيه، نظير «المدرسة» في العربية التي استحدثت للمكان في العصور الإسلامية. ودلالة الدرس على القراءة لها شواهد من كلام الله العزيز، كقوله: أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) [القلم] . وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها [سبأ: 44] .

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الأنعام"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الأنعام» «1» قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ [الآية 6] ثم قال في الآية نفسها ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ كأنه أخبر النبي (ص) ثم خاطبه معهم كما قال سبحانه حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] فجاء بلفظ الغائب، وهو يخاطب، لأنه هو المخاطب. فأمّا قوله عزّ وجلّ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الآية 2] ف (أجل) على الابتداء وليس على قَضى. وقال تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ [الآية 12] بنصب لام (ليجمعنّكم) لأن معنى (كتب) كأنه قال «والله ليجمعنّكم» ثم أبدل فقال تعالى في الآية نفسها: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي: ليجمعنّ الذين خسروا أنفسهم «2» . وقال تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ [الآية 14] على النعت. وقرأ بعضهم (فاطر) بالرفع على الابتداء أي: هو فاطر «3» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في المشكل 1: 247 وإعراب القرآن 1: 307 والبحر 4: 83 وشرح الرضي 147 ونقله في البيان 1: 315 والإملاء 1: 236 والجامع 6: 396. (3) . في إعراب القرآن 1: 307 نقل وجهي النصب والرفع، والقراءة بالجرّ هي في البحر 4: 85 إلى الجمهور وفي معاني القرآن 1: 328 بلا نسبة، وفي الكشاف 2: 9 بلا نسبة، والإملاء 1: 236 بلا نسبة. والقراءة بالرفع، هي في البحر 4: 85 إلى ابن أبي عبلة وفي معاني القرآن 1: 328 بلا نسبة، وانظر ما سبق. وقراءة النصب في معاني القرآن 1: 236 و 1: 328 بلا نسبة، وعدّه في الإملاء شذوذا قرئ به وأورده في الجامع 6: 397 إعرابا لا قراءة.

وقال تعالى إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ [الآية 14] أي: وقيل لي: «لا تكوننّ» . وقال تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا [الآية 23] على الصفة «1» . وقرأ بعضهم (ربّنا) «2» على: يا ربّنا. وأمّا (والله) فبالجرّ على القسم، ولو لم تكن فيه الواو نصبت فقلت «الله ربّنا» . ومنهم من يجرّ بغير واو لكثرة استعمال هذا الاسم وهذا في القياس رديء. وقد جاء مثله شاذّا قولهم «3» [من الرجز وهو الشاهد التاسع والثمانون بعد المائة] : وبلد عاميّة أعماؤه «4» وإنّما هو: ربّ بلد وقال «5» : [من الوافر وهو الشاهد التسعون بعد المائة] : نهيتك عن طلابك أمّ عمرو ... بعاقبة «6» وأنت إذ صحيح يقول: «حينئذ» فالقى «حين» وأضمرها «7» . وصارت الواو عوضا من «ربّ» في «وبلد» . وقد يضعون «بل» في هذا الموضع. قال الشاعر «8» : [من الرجز وهو الشاهد الحادي والتسعون بعد المائة] : ما بال عين عن كراها قد جفت ... مسبلة تستنّ لمّا عرفت

_ (1) . في الطبري 11: 300 قراءة الخفض إلى عامّة قراء المدينة وبعض الكوفيين والبصريين، وفي السبعة 255 إلى ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو وابن عامر، وفي الكشف 1: 427، والتيسير 102 إلى غير حمزة والكسائي، وفي البحر 4: 95 إلى السبعة ما عدا الأخوين، وفي معاني القرآن 1: 330 بلا نسبة. (2) . في معاني القرآن 1: 330 إلى علقمة بن قيس النخعي، وفي الطبري 11: 300 إلى جماعة من التابعين وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة، وفي السبعة 255، والكشف 1: 427، والتيسير 102 إلى حمزة والكسائي، وفي البحر 4: 95 إلى الأخوين. وانظر الخزانة 3: 148 و 149، وشرح المفصل 3: 29 و 9: 315، واللسان أذذ. (3) . القائل هو رؤبة بن العجاج، مجموع أشعار العرب 3، والصحاح واللسان «عمي» ، وقيل هو العجاج، المقاييس «عمي» 4: 134. (4) . في شذور الذهب 320، وأوضح المسالك 553: وبلد مغبرّة أرجاؤه. (5) . هو أبو ذؤيب خويلد بن خالد بن محرث الهذلي ديوان الهذليين 1: 68، والخزانة 3: 147، ومختار الصحاح والصحاح واللسان أذذ. (6) . في المرتجل 10 «بعافية» وكذلك في مختار الصحاح، والبيت بعد في الخصائص 2: 376. (7) . نقله في الخزانة 3: 48 و 149، وشرح المفصل 3: 29 و 9/ هـ 31، واللسان أذذ. (8) . هو سؤر الذئب أخي بني مالك بن كعب بن سعيد. اللسان «حجف» و «بلل» ، ومعجم ألقاب الشعراء 121. [.....]

دارا لليلى بعد حول قد عفت بل جوز تيهاء كظهر الحجفت «1» فيمن قال «طلحت» «2» وقال تعالى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الآية 25] وواحد «الأكنّة» : الكنان. و «الوقر» في الأذن بالفتح، و «الوقر» على الظهر بالكسر. وقال يونس «3» «سألت رؤبة» «4» فقال: «وقرت أذنه» «توقر» إذا كان فيها «الوقر» . وقال أبو زيد «5» : «سمعت العرب تقول: «أذن موقورة» فهذا يقول: «وقرت» . قال الشاعر «6» [من الرمل وهو الشاهد الثاني والتسعون بعد المائة] : وكلام سيّئ قد وقرت ... أذني «7» منه وما بي من صمم وقال تعالى إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) فبعضهم يزعم أنّ واحده «أسطورة» وبعضهم «إسطارة» «8» ، ولا أراه إلّا من الجمع الذي ليس له واحد، نحو «عباديد» و «مذاكير» و «أبابيل» «9» . وقال بعضهم: «واحد الأبابيل» : إبّيل، وقال بعضهم: إبّول» مثل: «عجّول» ولم أجد العرب تعرف له واحدا «10» . فأمّا «الشّماطيط» فإنهم يزعمون أنّ واحده «شمطاط» . وكل هذه لها واحد

_ (1) . وردت المصاريع الأربعة مسلسلة في الصحاح «حجف» ، ووردت حسب تسلسلها في اللسان «حجف» الأول والرابع والخامس والثاني عشر في أرجوزة، وورد المصراع الرابع وحده وهو موضع الشاهد في الإنصاف 1: 902، والخصائص 1: 304 و 2: 98، وشرح المفصّل لابن يعيش 2: 118 و 4: 67 و 8: 105 و 9: 81، والمخصص 9: 7 و 16: 84 و 96 و 120. (2) . أفيدت المعاني عن «بل» ونطق هاء التأنيث تاء في المراجع السابقة، أو نقلت ومن قسم فيها، ومما جاء في «اللهجات» 393 و 394، يفاد ان نطق هاء التأنيث تاء لغة حمير وطيئ. (3) . هو يونس بن حبيب النحوي، وقد مرت ترجمته قبل. (4) . هو رؤبة بن العجّاج الراجز المشتهر، وترجمته وأخباره في الأغاني 21: 84، والشعر والشعراء 2: 594، وطبقات فحول الشعراء 2: 761. (5) . هو أبو زيد الانصاري النحوي، وقد مرت ترجمته قبل. (6) . هو المثقّب العبدي، راجع شعر المثقب العبدي 46، والخزانة 4: 431، واللسان «زعم» . (7) . في شعر المثقّب ب «عنه أذناي» وفي المصادر الأخرى كلها ب «أذني عنه» . (8) . نقله باجتزاء في الجامع 6: 405 وزاد المسير 3: 19. (9) . نقله في زاد المسير 3: 19. (10) . نقله في الصحاح «أبل» وعزاه في اللسان «أبل» إلى الجوهري.

إلّا أنه ليس يستعمل، ولم يتكلّم به لأنّ هذا المثال لا يكون إلّا جميعا. وسمعت العرب الفصحاء يقولون: «أرسل إبله أبابيل «1» » يريدون «جماعات «فلم يتكلّم لها بواحد. وأمّا قوله تعالى وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الآية 26] فانه من: «نأيت» «ينأى» نأيا» . وقال تعالى وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) نصب لأنّه جواب للتمني «2» وما بعد الواو كما بعد الفاء، وإن شئت رفعت «3» وجعلته على مثل اليمين، كأن القول «ولا نكذّب والله بآيات ربّنا ونكون والله من المؤمنين» «4» . هذا إذا كان هذا الوجه منقطعا من الأول. والرفع وجه الكلام، وبه نقرأ الآية. وإذا نصب جعلها واو عطف، فكأنهم قد تمنّوا ألّا يكذبوا وأن يكونوا «5» . وهذا، والله أعلم، لا يكون، لأنهم لم يتمنّوا الإيمان، إنّما تمنّوا الردّ، وأخبروا أنهم لا يكذبون، ويكونون من المؤمنين. وقال تعالى: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) من «وزر» «يزر» «وزرا» ويقال أيضا: «وزر» ف «هو موزور» . وزعم يونس «6» أنّ الاثنين يقالان. وقال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ [الآية 33] بكسر «إنّ» لدخول اللام الزائدة بعدها. وقال تعالى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)

_ (1) . نقل في الصحاح واللسان «أبل» . (2) . نقله في المحتسب 1: 192 و 252 والنصب في الطبري 11: 318 قراءة منسوبة إلى بعض قراء الكوفة وفي المصاحف 61 إلى عبد الله وفي السبعة 255 إلى حمزة وإلى عاصم وابن عامر في رواية وفي البحر 4: 101 أهمل عاصما وزاد حفصا، وفي الكشف 1: 427، والتيسير 102، والجامع 6: 409، اقتصر على حمزة وحفص وفي حجّة ابن خالويه 112 بلا نسبة. وفي الكتاب 1: 426 إلى عبد الله بن أبي إسحاق. (3) . في الطبري 11: 318 إلى عامّة قراء الحجاز والمدينة والعراقيين، وأن بعض قراء أهل الشام قرأ برفع نكذب ونصب نكون. وفي السبعة 255 إلى ابن كثير وأبي عمرو والكسائي وإلى عاصم وابن عامر في رواية. وفي الكشف 1: 427 والتيسير 102 إلى غير حمزة وحفص، وفي الجامع 6: 409 إلى أهل المدينة والكسائي وأبي عمرو وأبي بكر عن عاصم، وإلى ابن عامر وإلى عبد الله بن مسعود ب «فلا» وفي البحر 4: 102 إلى ابن عامر في رواية هشام، وإلى السبعة غير من ذكر. (4) . نقله في زاد المسير 3: 23. [.....] (5) . نقله بعبارة مغايرة في المحتسب 1: 192 و 193 و 252. (6) . انظر ترجمته فيما سبق.

قال العرب: «قد أصابنا من مطر» و «قد كان من حديث» «1» . وقال تعالى: نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ [الآية 35] ف «النفق» ليس من «النفقة» ولكنه من «النّافقاء» ، يريد دخولا في الأرض. وقال تعالى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الآية 38] يريد: جماعة أمة. وقال سبحانه: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ [الآية 35] ولم يقل «فافعل» بل أضمر. وقال الشاعر «2» [من الخفيف وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائة] : فبحظّ ممّا نعيش ولا تذ ... هب بك التّرّهات في الأهوال فأضمر فعش أو فعيشي. وقال تعالى: أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ [الآية 40] فهذا الذي بعد التاء من قوله تعالى: أَرَأَيْتَكُمْ إنما جاء للمخاطبة. وتركت التاء مفتوحة كما كانت للواحد، وهي مثل كاف «رويدك زيدا» إذا قلت: «أرود زيدا» . فهذه الكاف ليس لها موضع فتسمّى بجرّ ولا رفع ولا نصب، وانما هي من المخاطبة مثل كاف «ذاك» . ومثل ذلك قول العرب: «أبصرك زيدا» يدخلون الكاف للمخاطبة، وإنّما هي «أبصر زيدا» . قال تعالى: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ [الآية 46] ثم قال يَأْتِيكُمْ بِهِ [الآية 46] بحمله على السمع، أو على ما أخذ منهم. قال تعالى فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) بالنصب جوابا لقوله جلّ وعلا ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الآية 52] . وفي الآية الرابعة والخمسين قراءتان الأولى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ [الآية 54] «3»

_ (1) . نقله في الإملاء 1: 240 والبحر 4: 113 والبيان 1: 320. (2) . هو عبيد بن الأبرص، وقد سبق الاستشهاد بهذا الشاهد والكلام عليه قبل. (3) . في الطبري 11: 393 إلى بعض المكّيّين وعامة قراء أهل العراق من الكوفة والبصرة. وفي السبعة 258 إلى ابن كثير وأبي عمرو وحمزة والكسائي وكذلك في الكشف 1: 433، والتيسير 102، والجامع 6: 436، والبحر 4: 141، وزاد فيه الأعرج برواية.

وأَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) «1» ف (أنّه) بدل من (الرحمة) أي: كتب أنّه من عمل. وأمّا (فإنّه) «2» فعلى الابتداء أي: فله المغفرة والرّحمة فهو غفور رحيم «3» . وقرأ بعضهم (فإنّه) أراد به الاسم وأضمر الخبر. أراد «فإنّ» «4» . وفي قوله تعالى: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) ورد تأنيث السبيل، على لغة أهل الحجاز «5» وقرأ بعضهم وَلِتَسْتَبِينَ «6» يعني النبيّ (ص) . وقرأ بعضهم (وليستبين سبيل) «7» في لغة بني تميم «8» . وفي قوله تعالى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً [الآية 56] قراءة أخرى هي ضللت «9» . فمن قرأ ضَلَلْتُ فمن تضلّ «10» ومن قرأ «ضللت» فمن تضلّ «11» .

_ (1) . في الطبري «كالسابق» إلى بعض الكوفيين، وفي السبعة، والكشف والتيسير، والجامع، والبحر «كالسابق» إلى عاصم وابن عامر، وزاد في البحر الأعرج في رواية، وعليها رسم المصحف. (2) . وخرج عن هذا نافع وحده إذ قرأ بفتح الهمزة في «أنه» أولا وكسرها في «فانه» المراجع السابقة. (3) . نقله في إعراب القرآن 1: 315. (4) . عبارة غير بيّنة المعنى والتعليل وفي الأصل فإن. (5) . في الطبري 11: 395 إلى بعض المكيين وبعض البصريين، وفي الكشف 1: 434 والتيسير 103 إلى غير ابي بكر وحمزة والكسائي، وفي البحر 4: 141 إلى العربيين وابن كثير وحفص. (6) . وعلى هذه القراءة يجب فتح اللام، في «سبيل» وهي قراءة نافع كما في التيسير 103 والسبعة 258 والكشف 1: 434. (7) . في الطبري 11: 395 إلى عامة قراء أهل الكوفة، وفي السبعة 258 إلى حمزة والكسائي، وإلى عاصم في رواية، وفي الكشف 1: 433، والتيسير 103 والبحر 4: 141، أهمل عاصما وأبدل به أبا بكر. (8) . أشارت كتب اللغة الى التأنيث والتذكير في لفظ «السبيل» ولم تعزهما لغتين المذكر والمؤنث للفراء 87، والتذكير والتأنيث 16، والمذكر والمؤنث للمبرد 115، والبلغة 67، ونسبها كالأخفش في «لهجة تميم 317» . (9) . في الطبري 11: 397 أنّ القراء بها قليلون، وفي الشواذ 37 نسبت إلى يحيى وابن أبي ليلى، وفي الجامع 6: 438 إلى يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف، وروي عن أبي عمرو أنها لغة تميم. وفي البحر 4: 142 إلى السلمي وابن وثاب وطلحة. [.....] (10) . في الطبري 11: 397 إلى عامة قراء أهل الأمصار، وفي الجامع 6: 438 إلى الجمهور وأنها لغة الحجاز. (11) في الجامع أن باب «فرح» لغة تميم، وباب «ضرب» لغة الحجاز وفي الصحاح «ضلل» أن باب ضرب لغة نجد وهي الفصيحة وأن لأهل العالية لغة أخرى هي من باب «حسب» ، وما في اللسان «ضلل» عن كراع، أن باب «فرح» و «حسب» لغة تميم، وعن اللحياني أن باب «فرح» لغة أهل الحجاز، وأن باب «ضرب» لغة تميم. وفي «لهجة تميم 195» أن باب ضرب لغة نجد وباب فرح لغة أهل الحجاز والعالية، وأن باب ورث لغة تميم.

وقال تعالى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) بالجر على (من) أو بالرفع على (تسقط) «1» ، وإن شئت جعلته على الابتداء، وتقطعه من الأول. وقال تعالى: تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الآية 63] وقال أيضا وَخِيفَةً [الأعراف: 205] . و «الخفية» : الإخفاء و «الخيفة» من الخوف والرّهبة. وقال تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً [الآية 65] لأنها من «لبس» «يلبس» «لبسا» . وقال تعالى: أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ [الآية 70] وهي من «أبسل» «إبسالا» . وقال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا [الآية 70] . حَيْرانَ في قوله تعالى: حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ [الآية 71] «فعلان» له «فعلى» فهو لا ينصرف في المعرفة ولا النكرة. وأمّا قوله تعالى: إِلَى الْهُدَى ائْتِنا [الآية 71] فإنّ الألف التي في (ائتنا) ألف وصل ولكن بعدها همزة من الأصل هي التي في «أتى» وهي الياء التي في قولك «ائتنا» ، ولكنها لم تهمز حينما ظهرت ألف الوصل. لأن ألف الوصل مهموزة إذا استؤنفت، فكرهوا اجتماع همزتين. وقال تعالى: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) يقول: «إنّما أمرنا كي نسلم لربّ العالمين» كما قال وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) [الزّمر] أي: إنما أمرت بذلك. ثم قال تعالى وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ [الآية 72] أي: وأمرنا أن أقيموا الصّلاة واتّقوه. أو يكون وصل الفعل باللّام، والمعنى: أمرت أن أكون. والوصل باللام أيضا في قوله تعالى: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) [الأعراف] . وقوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ [الآية 73] أضيف (يوم) إلى (كن فيكون) وهو نصب وليس له خبر ظاهر، والله أعلم. وهو على ما فسّرت لك. وقال تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ

_ (1) . في الشواذ 37 إلى ابن أبي إسحاق، وفي البحر 4: 146 أنّ رفع «رطب» و «يابس» قراءة الحسن وابن أبي إسحاق وابن السميفع، وفي معاني القرآن 1: 338 بلا نسبة قراءة. وفي المشكل 1: 255 إلى الحسن وابن أبي إسحاق، وفي الكشاف 2: 31 بلا نسبة.

[الآية 73] وقرأ بعضهم (ينفخ) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الآية 73] «1» . وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الآية 74] قرئ آزَرَ بالفتح بدلا من لِأَبِيهِ «2» . وقد قرئت رفعا على النداء «3» كأنه قال «يا آزر» . وقال الشاعر [من الرجز وهو الشاهد الثالث والتسعون بعد المائة] : إنّ عليّ الله أن تبايعا ... تقتل صبحا أو تجيء طائعا «4» فأبدل «تقتل صبحا» من «تبايع» . في قوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الآية 76] قرأ «5» بعضهم: (أجنّ) . وقال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الرابع والتسعون بعد المائة] : فلمّا أجنّ اللّيل بتنا كأنّنا ... على كثرة الأعداء محترسان وقال [من الرجز وهو الشاهد الخامس والتسعون بعد المائة] : أجنّك اللّيل ولمّا تشتف فجعل «الجنّ» مصدرا ل «جنّ» . وقد يستقيم أن يكون «أجنّ» ويكون هذا مصدره، كما قال «العطاء» و «الإعطاء» . وأما قوله تعالى: أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ [البقرة: 235] فإنهم يقولون في مفعولها: «مكنون» ويقول بعضهم «مكنّ» وتقول: «كننت الجارية» إذا صنتها و: «كننتها من الشّمس» و «أكننتها من الشّمس» أيضا. ويقولون «هي مكنونة»

_ (1) . إشارة إلى معنى كون الرفع في «عالم» على الفاعلية ل «ينفخ» بالبناء للمعلوم، انظر الجامع 7: 21. (2) . وعليها في الطبري 11: 467 قراءة عامة قراء الأمصار، وفي البحر 4: 164 إلى الجمهور، وفي معاني القرآن 1: 340 بلا نسبة، وكذلك في البيان 1: 327، والإملاء 1: 248. (3) . في معاني القرآن 1: 340، أنها قراءة بعضهم، وفي الطبري 11: 467 إلى أبي زيد المديني والحسن البصري وفي المحتسب 1: 223 إلى أبيّ وابن عباس والحسن ومجاهد والضحّاك وابن يزيد المدني ويعقوب وسليمان التيمي، وفي الجامع 7: 23 إلى ابن عباس وأبي يعقوب وغيرهما، وفي البحر 4: 164 الى أبيّ وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم، واقتصر في المشكل 1: 258 على يعقوب، وفي الكشاف 2: 39، والبيان 1: 327، والإملاء 1: 248. (4) . في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 78 وشرح الأبيات للفارقي 94، وشرح ابن عقيل 2: 200، والخزانة 2: 373، والمقاصد النحوية 4: 199، ب «تؤخذ كسرها» بدل «تقتل صبحا» . (5) . في معاني القرآن 1: 341 بلا نسبة قراءة، وفي الطبري 11: 478 و 479، والجامع 7: 25 أنه لغة ولم ينسب قراءة.

و «مكنّة» «1» وقال الشاعر [من البسيط وهو الشاهد السادس والتسعون بعد المائة] : قد كنت أعطيهم مالي وأمنحهم ... عرضي وعندهم في الصّدر مكنون لأنّ قيسا تقوله: «كننت العلم» فهو «مكنون» . وتقول بنو تميم «أكننت العلم» ف «هو مكنّ» ، و «كننت الجارية ف «هي مكنونة» . وفي كتاب الله عز وجل: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ [البقرة: 235] وقال تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) [الصافات] وقال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد السابع والتسعون بعد المائة] : قد كنّ يكنن «3» الوجوه تستّرا ... فاليوم «4» حين بدون «5» للنّظّار وقيس تنشد «قد كن يكنن» . وقوله تعالى: فَلَمَّا أَفَلَ [الآية 76] فهو من «يأفل» «أفولا» . وأما قوله تعالى، كما ورد في التنزيل حكاية على لسان إبراهيم (ع) يقول للشمس: هذا رَبِّي [الآية 78] فقد يجوز على «هذا الشيء الطالع ربّي» «6» . أو على أنّه ظهرت الشمس وقد كانوا يذكرون الربّ في كلامهم، قال لهم: هذا رَبِّي. وإنما هذا مثل ضربه لهم ليعرفوا إذا هو زال أنه ينبغي ألّا يكون مثله إلها، وليدلّهم على وحدانية الله، وأنه ليس مثله سبحانه، شيء. وقال الشاعر [من الرجز وهو الشاهد الثامن والتسعون بعد المائة] : مكثت حولا ثمّ جئت قاشرا ... لا حملت منك كراع حافرا قال تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ [الآية 84] يعني: وَوَهَبْنا لَهُ

_ (1) . لم ينسب اللسان والصحاح «كنن» اللغتين، وإن أشار إليهما. (2) . هو الربيع بن زياد الشاعر الجاهلي، أحد الكملة أولاد فاطمة بنت الخرشب، شعر الربيع بن زياد 393، والأغاني 16: 28. (3) . في الخصائص 3: 300، والشعر والأغاني ب «يخبأن» ، وفي مجالس العلماء 144 ب «يكنن» ، المزيد بالهمزة. (4) . في الخصائص ومجالس العلماء «فالآن» . (5) . في الخصائص: «بدأن» وفي مجالس العلماء «بدين» . (6) . نقله في زاد المسير 3: 76، والبحر 4: 167، وأشرك معه الكسائي في إعراب القرآن 1: 322، والجامع 7: 27 و 28. [.....]

وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ «1» وكذلك وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى [الآية 85] . ووَ الْيَسَعَ [الآية 86] «2» وقرأ بعضهم: (واللّيسع) «3» ونقرأ بالخفيفة. وقال تعالى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الآية 90] . بالوقف على هاء (اقتده) وكلّ شيء من بنات الياء والواو في موضع الجزم، فالوقف عليه بالهاء، ليلفظ به كما كان. وقال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي [الآية 92] بالرفع على الصفة، أو بالنصب على الحالية ل أَنْزَلْناهُ. وقال تعالى وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الآية 93] فنراه يريد: يقولون أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ والله أعلم. وكأن في قوله باسِطُوا أَيْدِيهِمْ دليلا على ذلك لأنه قد أخبر أنهم يريدون منهم شيئا. قرئ قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ [الآية 96] بجعله مصدرا من «أصبح» «4» . وبعضهم يقرأ (فالق الأصباح) «5» على أنها جمع «الصّبح» . وقال تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً [الآية 96] أي: بحساب. حذفت الباء، كما من قوله تعالى: أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [الآية 117] أي: أعلم بمن يضلّ. و «الحسبان» جماعة «الحساب» مثل «شهاب» و «شهبان» «6» ، ومثله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) [الرحمن] أي: بحساب.

_ (1) . نقله في إعراب القرآن 1: 324. (2) . في الطبري 11: 510 قراءة عامة قراء الحجاز والعراق، وفي السبعة 362 إلى ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو وابن عامر، وفي الكشف 1: 438، والتيسير 104 إلى غير حمزة والكسائي، وفي الجامع 7: 32 الى أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم، وفي البحر 4: 174 إلى الجمهور، وفي حجة ابن خالويه 119، بلا نسبة. (3) . في معاني القرآن 1: 342 إلى أصحاب عبد الله، وفي الطبري 11: 511 إلى جماعة من قراء الكوفيين، وفي السبعة 262 والكشف 1: 438 والتيسير 104 إلى حمزة والكسائي، وفي البحر 4: 174 إلى الأخوين، وفي الجامع 7: 32 و 33 إلى الكوفيين، إلّا عاصما، وخص منهم الكسائي وفي حجة ابن خالويه 119، بلا نسبة. (4) . في الجامع 7: 45 نسبها قراءة إلى ابراهيم النخعي برواية الأعمش، وفي الطبري 11: 555، إلى الضحّاك ومجاهد وقتادة وابن عباس وابن زيد، وفي معاني القرآن 1: 346 لم ينسب قراءة. (5) . في الطبري 11: 556، والشواذ 39، والكشاف 2: 48، إلى الحسن البصري، وفي الجامع 7: 45 زاد عيسى بن عمرو، في البحر 4: 185 زاد أبا رجاء ولم ينسب هذا الوجه في معاني القرآن 1: 346 قراءة. (6) . نقله في التهذيب «حسب» 4: 331- 333، والمشكل 1: 263، وإعراب القرآن 1: 328، والجامع 7: 445.

وقال تعالى: أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [الآية 98] فنراه يعني: فمنها مستقرّ ومنها مستودع والله أعلم. وقال تعالى: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً [الآية 99] نراه يريد «الأخضر» كقول العرب: «أرنيها نمرة أركها مطرة» «1» . وقال تعالى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ [الآية 99] ثم قال: وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ [الآية 99] أي: «وأخرجنا به جنّات من أعناب» . ثم قال وَالزَّيْتُونَ [الآية 99] وواحد: «القنوان» : قنو، وكذلك «الصّنوان» واحدها: «صنو» . وقال تعالى: فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الآية 108] والأصل من «العدوان» . تقول: «عدا عدوا علينا» مثل «ضربه ضربا» «2» . وقال تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وفسّر على «لعلّها» «3» كما تقول العرب: «اذهب إلى السوق أنّك تشتري لي شيئا» أي: لعلّك. وقال الشاعر «4» [من الرجز وهو الشاهد التاسع والتسعون بعد المائة] : قلت لشيبان ادن من لقائه ... أنّا نغذّي القوم من شوائه «5» في معنى «لعلّنا» . قال تعالى: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا [الآية 111] أي: قبيلا قبيلا، جماعة «القبيل» «القبل» . ويقال

_ (1) . نقله في الصحاح «خضر» و «مطر» وإعراب القرآن 1: 328 و 329 والجامع 7: 47 والقول مثل: انظر مجمع الأمثال 1: 294 مثل 1556، والمستقصى 1: 144 مثل 567، والاشتقاق 184. (2) . في الطبري 12: 35 أنها إجماع الحجة من قراء الأمصار، وفي الكشاف 2: 56، والإملاء 1: 257، والمراجع السابقة كلها كالسابق بلا نسبة. (3) . في الطبري 12: 41 إلى أبيّ بن كعب، وعامة قراء أهل المدينة والكوفة، وفي السبعة 365 الى نافع وحمزة والكسائي، وشكّ في ابن عامر وإلى عاصم في رواية، وفي الكشف 1: 444، والتيسير 106 إلى أبي بكر في رواية والى غير أبي عمرو وابن كثير، وفي الجامع 7: 64 إلى أهل المدينة والأعمش وحمزة، وفي البحر 4: 201 الى السبعة غير من قرأ بالثانية، وفي الكتاب 1: 463 إلى أهل المدينة. (4) . هو أبو النجم العجلي الراجز المشهور، الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 460 والإنصاف 2: 311. (5) . في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 460، «كما تغدي الناس» وفي مجالس ثعلب 154 ب «كما يغدي القوم» وفي الإنصاف 2: 311 «كما تغدي القوم» .

«قبلا» «1» أي: عيانا. وتقول: «لا قبل لي بهذا» أي: لا طاقة. وتقول: «لي قبلك حق» أي: عندك. وقال تعالى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الآية 113] هي من «صغوت» «يصغا» مثل «محوت» «يمحا» . وقال جل شأنه وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الآية 100] على البدل كما قال إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ [الشورى] . وقال الشاعر «2» [من الوافر وهو الشاهد المئتان] : ذريني إنّ أمرك لن يطاعا ... وما ألفيتني حلمي مضاعا وقال [من البسيط وهو الشاهد الحادي بعد المائتين] : إنّي وجدتك يا جرثوم من نفر ... جرثومة اللّؤم لا جرثومة الكرم وقال الاخر «3» [من البسيط وهو الشاهد الخامس والخمسون بعد المائة] : إنّا وجدنا بني جلّان كلّهم ... كساعد الضّبّ لا طول ولا عظم وقال «4» [من الرجز وهو الشاهد الثاني بعد المائتين] : ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا ويقال: ما للجمال مشيها وئيدا. كما قيل [من الوافر وهو الشاهد الثالث بعد المائتين] : فكيف ترى عطيّة حين تلقى ... عظاما هامهنّ فراسيات وقال تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الآية 119] أي،

_ (1) . في الطبري 12: 48 الى قراء أهل المدينة، وفي السبعة 266، والكشف 1: 111، والتيسير 106، إلى نافع وابن عامر، وفي الجامع 7: 66، والبحر 4: 205 إلى ابن عباس وقتادة وابن زيد ونافع وابن عامر. (2) . هو عدي بن زيد العبادي، ديوانه 35، ومعاني القرآن 2: 424، والخزانة 2: 368، والمقاصد النحوية 4: 192 أو هو رجل من خثعم: شرح الأبيات للفارقي 199، والكتاب 1: 77، وتحصيل عين الذهب 1: 78 أو رجل من بجيلة: الكتاب 1: 77. (3) . قائل الشاهدين واحد، وكلاهما في الحيوان 6: 112، والقائل غير معروف، وقد سبق الاستشهاد قبل بالثاني منهما. [.....] (4) . هو قصير صاحب جذيمة، الكامل 2: 428 وقيل الخنساء بنت عمرو بن الشهيد المقاصد النحوية 2: 448، وقيل هي الزبّاء ملكة تدمر، اللسان «واد» و «صرف» ، والمقاصد النحوية 2: 448، والخزانة 3: 272، وشرح سقط الزند للخوارزمي 1783، ومجمع الأمثال 1: 233، والدرر 1: 141، والبيت بعد في معاني القرآن 2: 73.

والله أعلم، «وأيّ شيء لكم في ألّا تأكلوا» وكذلك وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ [البقرة: 246] يقول: «أيّ شيء لنا في ترك القتال» . ولو كانت (أن) زائدة لارتفع الفعل، ولو كانت في معنى «وما لنا وكذا» لكانت «وما لنا وألّا نقاتل» . في قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ [الآية 119] أوقع السّياق (أنّ) على النكرة لأنّ الكلام إذا طال، احتمل، ودل بعضه على بعض. وقال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها [الآية 123] فالبناء على «أفاعل» ، وذلك أنه يكون على وجهين يقول «هؤلاء الأكابر» و «الأكبرون» وقال نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا [الكهف: 103] وواحداهم «أخسر» مثل «الأكبر» . وقال تعالى وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الآية 137] لأن الشركاء زيّنوا. ثمّ قال سبحانه لِيُرْدُوهُمْ [الآية 137] من «أردى» «إرداء» . وقال حِجْرٌ لا يَطْعَمُها [الآية 138] و «الحجر» «الحرام» وقد قرئت بالضم (حجر) «1» ، وقد يكون اللفظان في معنى واحد. وقد يكون «الحجر» : العقل، قال الله تعالى: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) [الفجر] أي ذي عقل. وقال بعضهم: «لا يكون في قوله تعالى: وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الآية 138] إلا الكسر. وليس ذا بشيء لأنه حرام. وأما «حجر المرأة» ففيه الفتح والكسر، و «حجر اليمامة» «2» بالفتح، و «الحجر» ما حجرته، وهو قول أصحاب الحجر. وقوله عز وجل: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ [الآية 139] . وقد يجوز الرفع لأنّ المؤنّث قد يذكّر فعله. و (خالصة) أنثت لتحقيق الخلوص كأنه لما حقّق لهم الخلوص، أشبه

_ (1) . الطبري 12: 142 الى الحسن وقتادة، واقتصر في الجامع 7: 94 على الحسن، وزاد عليهما في البحر 4: 231 الأعرج. (2) . انظر معجم البلدان «حجر» .

الكثرة، فجرى مجرى «راوية» و «نسّابة» «1» . وقوله تعالى جَنَّاتٍ [الآية 141] بالجرّ لأن تاء الجميع في موضع النصب، مجرورة بالتنوين. ثم قال تعالى: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً [الآية 142] أي: وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشا. ثم قال تعالى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الآية 143] أي: أنشأ حمولة وفرشا ثمانية أزواج. أي: أنشأ ثمانية أزواج، على البدل «2» أو التبيان أو على الحال «3» . وقوله تعالى: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [الآية 143] أي على تقدير (أنشأ) قبل الآية، والله أعلم. وإنّما قال ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ لأنّ كلّ واحد «زوج» . تقول للاثنين: «هذان زوجان» وقال الله عز وجل وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذاريات: 49] وتقول للمرأة، «هي زوج» «4» و «هي زوجة» «5» و: «هو زوجها» . وقال تعالى: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الأعراف: 189] يعني المرأة وقال أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب: 37] وقال بعضهم: «الزوجة» وقال الأخطل [من البسيط وهو الشاهد السابع والعشرون بعد المائة] : زوجة أشمط مرهوب بوادره ... قد صار في رأسه التخويص والنزع وقد يقال للاثنين أيضا: «هما زوج» و «الزوج» النّمط يطرح على الهودج. قال لبيد [من الكامل وهو الشاهد السادس والعشرون بعد المائة] : من كلّ محفوف يظلّ عصيّه ... زوج عليه كلّة وقرامها وأمّا الضَّأْنِ [الآية 143] فمهموز وهو جماع على غير واحد. ويقال (الضئين) مثل «الشعير» وهو جماعة

_ (1) . نقله في الجامع 7: 95، وأشرك معه الكسائي فيه. (2) . نقله في المشكل 1: 275، وإعراب القرآن 1: 341، والجامع 7: 113. (3) . نقله في إعراب القرآن 1: 341. (4) . هي لغة أهل الحجاز، المخصص 17: 24، والبحر 1: 109، واللسان «زوج» وزاد المسير 1: 65، والمذكّر والمؤنث للفرّاء 95 و 108، ولهجة تميم 321، واللهجات العربية 503. (5) . هي لغة تميم وكثير من قيس وأهل نجد المصادر السابقة، وفي المذكّر والمؤنث 95 الى أهل نجد، وفي 108 الى سائر العرب غير أهل الحجاز.

«الضأن» والأنثى «ضائنة» والجماعة: «الضوائن» . والْمَعْزِ [الآية 143] جمع على غير واحد، وكذلك «المعزى» ، فأمّا «المواعز» فواحدتها «الماعز» و «الماعزة» والذكر الواحد «ضائن» فيكون «الضأن» جماعة «الضائن» مثل «صاحب» و «صحب» و «تاجر» و «تجر» وكذلك «ماعز» و «معز» . وقرأ بعضهم (ضأن) «1» و (معز) «2» جعله جماعة «الضائن» و «الماعز» مثل «خادم» و «خدم» ، و «حافد» و «حفدة» مثله، إلّا أنّه ألحق فيه الهاء. وأمّا قوله تعالى آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ [الآية 143] فالنصب فيه ب «حرّم» . وقال تعالى: فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً [الآية 145] أي: «إلّا أن يكون ميتة أو فسقا فإنّه رجس» . وقال تعالى: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا [الآية 146] فواحد «الحوايا» : «الحاوياء» «والحاوية» . ويريد تعالى بقوله، والله أعلم، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ أي: والبقر والغنم حرمنا عليهم. ولكنه أدخل فيها «من» والعرب تقول: «قد كان من حديث» يريدون: «قد كان حديث» وإن شئت قلت «ومن الغنم حرّمنا الشّحوم» كما تقول: «من الدّار أخذ النّصف والثلث» فأضفت على هذا المعنى كما تقول: «من الدّار أخذ نصفها» و «من عبد الله ضرب وجهه» . وقال هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ [الآية 150] لأن «هلمّ» قد تكون للواحد والاثنين والجماعة «3» . وكأنّ قوله تعالى

_ (1) . قرأ بفتح الهمزة، كما جاء في الشواذ 41 والمحتسب 234 والجامع 7: 114، طلحة بن مصرف اليماني، وزاد في الجامع 4: 239 الحسن وعيسى ابن عمر، وفي الكشاف 2: 74، والإملا 1: 263 بلا نسبة. أمّا بسكون الهمزة، ففي الجامع 7: 114 أنها لأبان بن عثمان، وفي حجة ابن خالويه 127، والشواذ 41، والكشاف 2: 74، والإملا 1: 263، بلا نسبة. (2) . نسب فتح العين كما في البحر 4: 239 الى الابنين وأبي عمرو، وفي الكشف 1: 456، والتيسير 108، الى غير نافع والكوفيين، وفي الكشاف 2: 74 والإملا 1: 263 بلا نسبة. أمّا سكون العين، فقد قرأ به، كما في الكشف 1: 456، والتيسير 108 نافع وأهل الكوفة، وفي الجامع 7: 114، أن القارئ أبيّ. وفي حجّة ابن خالويه 127، والكشاف 2: 74، والإملا 1: 263 بلا نسبة. (3) . نسبت في مجاز القرآن 1: 208 الى أهل العالية.

أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا [الآية 156] على ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الآية 154] كراهية أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا [الآية 156] . وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً [الآية 159] وقرأ بعضهم (فارقوا) «1» من «المفارقة» . وقال تعالى: فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الآية 160] على العدد كما تقول: «عشر سود» فان قلت كيف قال (عشر) و «المثل» مذكر؟ فإنّما أنّث لأنه أضيف إلى مؤنث وهو في المعنى أيضا «حسنة» أو «درجة» ، فإن أنّث على ذلك فهو وجه. وقرأ بعضهم (عشر أمثالها) «2» جعل «الأمثال» من صفة «العشر» . وما كان من صفة لا تضاف الى العدد. ولكن يقال «هم عشرة قيام» لا يقال: «عشرة قيام» .

_ (1) . نسبت في معاني القرآن 1: 366 إلى الإمام علي، وزاد الطبري 12: 268 قتادة، وأهمل في الكشف 1: 458 قتادة، وزاد النبي الكريم، وحمزة والكسائي، ولم يذكر في الجامع 7: 149، والبحر 4: 260 النبي الكريم، واقتصرت في السبعة 274 والتيسير 108 على حمزة والكسائي وفي الكشاف 2: 83 بلا نسبة، وكذلك في الإملاء 1: 267. (2) . قرئ بهذا الوجه كما جاء ذلك منسوبا في الطبري 12: 281 الى الحسن، وكذلك في الشواذ 41، وزاد عليه في الجامع 7: 151 سعيد بن جبير والأعمش، وزاد عليه في البحر 4: 261 عيسى بن عمر ويعقوب والقزاز عن عبد الوارث. وفي حجّة ابن خالويه 128 بلا نسبة. أمّا القراءة بالإضافة، فهي في الطبري 12: 281 إلى قراء الأمصار، وفي حجّة ابن خالويه 128 بلا نسبة.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الأنعام"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأنعام» «1» إن قيل: لم جمعت الظلمة دون النور في قوله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ؟ [الآية الأولى] . قلنا: ترك جمعه استغناء عنه بجمع الظلمة قبله فإنه يدل عليه، كما ترك جمع الأرض أيضا استغناء عنه بجمع السماء قبله في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الآية الأولى] . الثاني أن الظلمة اسم، والنور مصدر، والمصادر لا تجمع. فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى وَجَهْرَكُمْ [الآية 3] بعد قوله سبحانه يَعْلَمُ سِرَّكُمْ ومعلوم أن من يعلم السر يعلم الجهر بالطريق الأولى؟ قلنا: إنّما ذكره للمقابلة كما في قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 203] في بعض الوجوه. فإن قيل: لم خصّ السكون بالذكر دون الحركة في قوله تعالى: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الآية 13] على قول من فسره بما يقابل الحركة؟ قلنا: لأن السكون أغلب الحالتين على كل مخلوق من الحيوان والجماد، ولأن الساكن من المخلوقات أكثر عددا من المتحرك أو لأنّ كلّ متحرّك يصير إلى السكون من غير عكس أو لأنّ السكون هو الأصل والحركة حادثة عليه وطارئة. وقيل فيه إضمار تقديره: ما سكن وتحرك، فاكتفى بأحدهما اختصارا لدلالته على مقابله، كما في قوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] أي والبرد.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرخ. [.....]

فإن قيل: لم قال تعالى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الآية 14] ولم يقل وهو ينعم ولا ينعم عليه، وهذا أعمّ لتناوله الإطعام وغيره؟ قلنا لأن الحاجة إلى الرزق أمسّ فخصّ بالذكر. والثاني أن كون المطعم آكلا متغوّطا أقبح من كونه منعما عليه، فلذلك ذكره. فإن قيل: في قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) كيف يكذبون يوم القيامة بعد معاينة حقائق الأمور، وقد بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) [العاديات] ؟ قلنا: المبتلى يوم القيامة ينطق بما ينفعه وبما يضرّه لعدم التمييز بسبب الحيرة والدهشة، كحال المبتلى المعذّب في الدنيا يكذب على نفسه وعلى غيره، ويتكلم بما يضرّه، ألا تراهم يقولون كما ورد في التنزيل رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها [المؤمنون: 107] وقد أيقنوا بالخلود فيها، وقالوا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف: 77] وقد علموا أنه لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فاطر: 36] . فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) [النساء] ؟ قلنا: القيامة مواقف مختلفة ففي بعضها لا يكتمون، وفي بعضها يحلفون كاذبين، كما قال عزّ وجلّ فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) [الحجر] وقال تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) [الرحمن] وقيل إن حلفهم كاذبين يكون قبل شهادة جوارحهم عليهم وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً يكون بعد شهادتها عليهم. فإن قيل: لم قال تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الآية 32] وهو خير لغير المتّقين أيضا كالأطفال والمجانين؟ قلنا: إنّما خصّهم بالذكر، لأنهم الأصل فيها من حيث أنّ درجتهم أعلى، وغيرهم تبع لهم. فإن قيل: ما الحكمة من التعبير في قوله تعالى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) مخاطبا الرسول محمدا (ص) ونحن نعلم أنه جلّ وعلا قد خاطب النبي نوحا (ص) بقوله: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) [هود] أي خاطبه بألين الخطابين، مع أن

محمدا (ص) أعظم رتبة، وأعلى منزلة منه؟ قلنا: لأن نوحا عليه الصلاة والسلام، كان معذورا في جهله بمطلوبه، لأنه تمسّك بوعد الله تعالى في إنجاء أهله، وظنّ أن ابنه من أهله وأمّا محمد (ص) فما كان معذورا، لأنه كبر عليه كفرهم، مع علمه أن كفرهم وإيمانهم بمشيئة الله تعالى، وأنهم لا يهتدون إلّا أن يهديهم الله. فإن قيل: إذا بعث الله تعالى الموتى من قبورهم، فقد رجعوا إلى الله بالحياة بعد الموت، فما الحكمة من قوله تعالى: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) ؟ قلنا: المراد به وقوفهم بين يديه للحساب والجزاء، وذلك غير البعث وهو إحياؤهم بعد الموت فلا تكرار فيه. فإن قيل: قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً [الآية 37] لو صح من النبي (ص) هذا الجواب لصح لكل من ادّعى النبوة، وطولب بآية أن يقول إن الله قادر على أن ينزّل آية؟ قلنا: إذا ثبتت نبوته بما شاء الله من المعجزة، يصح له أن يقول ذلك، بخلاف ما إذا لم تثبت نبوته، والنبي (ص) كانت قد ثبتت نبوته بالقرآن، وانشقاق القمر، وغيرهما. فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [الآية 38] والدابّة لا تكون إلّا في الأرض، لأن الدابة في اللغة اسم لما يدبّ على وجه الأرض وما الحكمة في قوله تعالى وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الآية 38] والطيران لا يكون إلا بالجناح؟ قلنا: فيه فوائد: الأولى للتأكيد كقولهم: هذه نعجة أنثى، وقولهم كلمته بلساني، ومشيت إليه برجلي، وكما قال الله تعالى لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل: 51] وقال تعالى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 11] . الثانية نفي توهّم المجاز فإنه يقال: طار فلان في أمر كذا إذا أسرع فيه، وطار الفرس إذا أسرع الجري. الثالثة زيادة التعميم والإحاطة كأنه قال جميع الدواب الدابة وجميع الطيور الطائرة. فإن قيل: قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ

[الآية 40] إلى أن قال فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ [الآية 41] ومن جملة ما ذكر الدعاء فيه عذاب الساعة وهو لا يكشف عن المشركين؟ قلنا: لم يخبر عن الكشف مطلقا، بل مقيّدا بشرط المشيئة، وعذاب الساعة، لو شاء كشفه عن المشركين لكشفه. فإن قيل: قوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الآية 50] كيف ذكر القول في الجملة الأولى والثالثة، وترك ذكره في الجملة الثانية؟ قلنا: لما كان الإخبار بالغيب كثيرا ممّا يدّعيه البشر كالكهنة والمنجّمين وواضعي الملاحم، ثم إنّ كثيرا من الجهّال يعتقدون صحة أقاويلهم ويعملون بمقتضى أخبارهم، بالغ في سلبه عن نفسه بسلب حقيقته عنه بخلاف الإلهية والملكية، فإن انتفاءهما عنه وعن غيره من البشر ظاهر. فاكتفي في نفيهما، بنفي القول، إذ غير الدعوى فيهما لا تتصور في نفس الأمر ولا في زعم الناس، بخلاف علم الغيب فافترقا، والمراد بقوله تعالى قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ [الآية 50] أي لا أدّعي الإلهية، كذا قاله بعض المفسرين. فإن قيل: قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) لم ذكر سبيل المجرمين ولم يذكر سبيل المؤمنين، وكلاهما محتاج إلى بيانه؟ قلنا: لأنه إذا ظهر سبيل المجرمين، ظهر سبيل المؤمنين أيضا بالضرورة إذ السبيل سبيلان لا غير. فإن قيل: لم قال تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الآية 60] أي ما كسبتم، وهو يعلم ما جرحوا ليلا ونهارا؟ قلنا: لأن الكسب أكثر ما يكون بالنهار لأنه زمان حركة الإنسان، والليل زمان سكونه، لقوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص: 73] بعد قوله سبحانه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ [القصص: 72] . فإن قيل: قال تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الآية 62] يعني مولى جميع الخلائق. وقال في موضع آخر وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) [محمّد] ؟ قلنا: المولى الأول بمعنى المالك أو

الخالق أو المعبود، والمولى الثاني بمعنى الناصر فلا تنافي بينهما. فإن قيل: لم خصّ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ [الآية 73] بيوم القيامة، فقال تعالى: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [الآية 73] مع أن قوله الحق في كل وقت، وله الملك في كل زمان؟ قلنا: لأن ذلك اليوم، ليس لغيره فيه ملك، بوجه من الوجوه، وفي الدنيا لغيره ملك، خلافة عنه أو هبة منه وإنعاما، بدليل قوله تعالى في حق داود عليه السلام وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة: 251] وقوله وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ [البقرة: 247] وقوله في ذلك اليوم هو الحق الذي لا يدفعه أحد من العباد، ولا يشك فيه شاكّ من أهل العناد، لانكشاف الغطاء فيه للكل، وانقطاع الدعاوى والخصومات، ونظيره قوله تعالى وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) [الانفطار] وإن كان الأمر له في كل زمان، وكذا قوله تعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] ؟ فإن قيل: لم قال تعالى في معرض الامتنان وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [الآية 84] ولم يذكر إسماعيل مع أنه كان هو الابن الأكبر؟ قلنا: لأن إسحاق وهب له من حرة وإسماعيل من أمة وإسحاق وهب له من عجوز عقيم، فكانت المنّة فيه أظهر. فإن قيل: لم قال تعالى في وصف القرآن وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الآية 92] وكثير ممّن يؤمن بالآخرة من اليهود والنصارى وغيرهم لا يؤمن به؟ قلنا: معناه والذين يؤمنون بالآخرة إيمانا نافعا مقبولا، هم الذين يؤمنون به إما تصديقا به قبل إنزاله لما بشّر به موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، أو اتّباعا له بعد إنزاله والأمر كذلك، فإن من لم يصدق موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام في بشارتهما بمحمد (ص) وبالقرآن أو كان بعد بعثه ولم يؤمن به، فإيمانه بالآخرة غير معتدّ به ولا معتبر. فإن قيل: لم أفرد قوله سبحانه تعالى أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ [الآية 93] بعد قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الآية 93] وذلك أيضا افتراء؟ قلنا: لأنّ الأول عام، والثاني خاص، والمقصود الإنكار فيهما، ولا

يلزم من وجود العام وجود الخاص، ولكن يلزم من الذمّ على العامّ وإنكاره، الذمّ على الخاصّ وإنكاره لا محالة وما نحن فيه من هذا القبيل، والجواب المحقّق أن يقال إن هذا الخاص لمّا كان مخصوصا بمزيد قبح من بين أنواع الافتراء خصّه بالذكر، تنبيها على مزيد العقاب فيه والإثم. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الآية 102] بعد قوله سبحانه بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الآية 101] ؟ قلنا: ذكره أوّلا استدلالا به على نفي الولد، ثم ذكره ثانيا توطئة وتمهيدا لقوله تعالى: فَاعْبُدُوهُ [الآية 102] فإن كونه خالق كل شيء يقتضي تخصيصه بالعبادة والطاعة، فكانت الإعادة لفائدة جديدة. فإن قيل: في قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الآية 103] كيف خص الأبصار بإدراكه لها، ولم يقل وهو يدرك كل شيء مع أنه أبلغ في التمدح؟ قلنا: لوجهين: أحدهما مراعاة المقابلة اللفظية، فإنه نوع من البلاغة. الثاني أن هذه الصفة خاصة بينه وبين الأبصار أنه يدركها، بمعنى الإحاطة بها وهي لا تدركه، فأما غيره مما يدرك الأبصار فهي تدركه أيضا، فلهذا خصها بالذكر. فإن قيل: لم قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا [الآية 114] ولم يقل وهو الذي أنزل إليّ مع أنه سبحانه قال في موضع آخر: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [المائدة: 48] ؟ قلنا: لمّا كان إنزاله إلى النبي (ص) ليبلغه إلى الخلق ويهديهم به، كان في الحقيقة منزلا إليهم، لكن بواسطة النبي (ص) فصلح إضافة الإنزال إليه وإليهم. فإن قيل: في قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) كيف علّق الكون من المؤمنين بأكل الذبيحة المسمّى عليها، والكون من المؤمنين حاصل، وإن لم تؤكل الذبيحة أصلا؟ قلنا: المراد إعتقاد الحلّ لا نفس الأكل، فإن بعض من كان يعتقد حل الميتة من العرب كان يعتقد حرمة الذبيحة.

فإن قيل: لم أبهم فاعل التزيين هنا فقال تعالى كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وقال سبحانه في آية أخرى زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [النمل: 4] وقال في آية أخرى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل: 24] فمن هو مزيّن الأعمال للكفار في الحقيقة؟ قلنا: التزيين من الشيطان بالإغواء والإضلال والوسوسة وإيراد الشبه، ومن الله تعالى بخلق جميع ذلك، فصحّت الإضافتان. فإن قيل: لم قال تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الآية 130] والرسل إنما كانت من الإنس خاصة؟ قلنا: المراد برسل الجن هم الذين سمعوا القرآن من النبي (ص) وولّوا إلى قومهم منذرين، كما قال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: 29] . الثاني: أنه كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) [الرحمن] والمراد من أحدهما، لأنه إنّما يخرج من الملح. والثالث: أنه بعث إليهم رسل منهم، قاله الضحّاك ومقاتل. فإن قيل: لم ذكر شهادتهم على أنفسهم في قوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الآية 130] ، والمعنى فيهما واحد؟ قلنا: المعنى المشهود به متعدّد وإن كان في الشهادة واحدا، إلا أنهم في الأولى شهدوا على أنفسهم بتبليغ الرسل وإنذارهم، وفي الثانية شهدوا على أنفسهم بالكفر، وهما متغايران. فإن قيل: كيف أقرّوا في هذه الآية بالكفر وشهدوا على أنفسهم به، وجحدوه في قوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) ؟ قلنا: مواقف القيامة ومواطنها مختلفة، ففي بعضها يقرّون وفي بعضها يجحدون، أو يكون المراد هنا شهادة أعضائهم عليهم حينما يختم على أفواههم، كما قال تعالى الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس: 65] . فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الآية 140] والسّفه لا يكون إلا عن جهل؟ قلنا: معنى قوله تعالى بِغَيْرِ عِلْمٍ بغير حجة، وقيل بغير علم، بمقدار

قبحه ومقدار العقوبة فيه، وعلى الوجهين لا يكون مستفادا من الأوّل. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) بعد قوله سبحانه في الآية نفسها قَدْ ضَلُّوا؟ قلنا: الحكمة فيه الإعلام بأنهم بعد ما ضلوا لم يهتدوا مرّة أخرى، فإنّ من الناس من يضلّ ثمّ يهتدي بعد ضلاله. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى إِذا أَثْمَرَ [الآية 141] بعد قوله سبحانه كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ [الآية 141] ومعلوم أنه إنما يؤكل من ثمره إذا أثمر؟ قلنا: الحكمة فيه نفي توهّم توقف الإباحة على الإدراك والنضج، بدلالته على الإباحة من أول إخراج الثمر. فإن قيل: قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الآية 145] ، وفي القرآن تحريم أكل الربا ومال اليتيم ومال الغير بالباطل وغير ذلك؟ قلنا: محرّما مما كانوا يحرمونه في الجاهلية. فإن قيل: لم قال تعالى فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ [الآية 147] والموضع موضع العقوبة، فكان يحسن أن يقال فيه ذو عقوبة شديدة أو عظيمة ونحو ذلك؟ قلنا: إنّما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمته في الاجتراء على معصيته، وذلك أبلغ في التهديد ومعناه- والله أعلم-: لا تغترّوا بسعة رحمته، فإنه مع ذلك لا يرد عذابه عنكم. وقيل معناه: فقل ربّكم ذو رحمة واسعة للمطيعين، ولا يرد عذابه عن العاصين. فإن قيل: لم قال تعالى قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ [الآية 151] ثم فسره بعشرة أحكام خمسة منها واجبة، والتلاوة وصف للفظ لا للمعنى، كي لا يقال أضدادها محرمة؟ قلنا: قوله تعالى: أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ لا ينفي تلاوة غيره فقد تلا ما حرم وتلا غيره أيضا. الثاني أن فيه إضمارا تقديره: أتل ما حرم ربكم عليكم وأوجب. فإن قيل: لم خصّ مال اليتيم بالنهي عن قربانه بغير الأحسن، ومال البالغ أيضا كذلك؟ قلنا: إنّما خصه بالنهي لأن طمع الطامعين فيه أكثر، لضعف مالكه

وعجزه، وقلة الحافظين له والناصرين، بخلاف مال البالغ. الثاني: أن التخصيص لمجموع الحكمين وهما النهي عن قربانه بغير الأحسن، ووجوب قربانه بالأحسن، أو جواز قربانه بالأحسن بغير إذن مالكه، ومجموع الحكمين مختص بمال اليتيم، وهذا هو الجواب عن كونه مغيّبا ببلوغ الأشد، لأن المجموع ينتفي ببلوغ الأشد لانتفاء الحكم الثاني وقيل إن الغاية لمحذوف، تقديره: حتى يبلغ، فسلّموه إليه. فإن قيل: لم خصّ العدل بقوله تعالى: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الآية 152] ولم يقل: وإذا فعلتم فاعدلوا، والحاجة إلى العدل في الفعل أمسّ، لأن الضرر الناشئ من الجور الفعلي، أقوى من الضرر الناشئ من الجور القولي؟ قلنا: إنّما خصه بالقول ليعلم وجوب العدل في الفعل بالطريق الأولى، كما قال تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: 23] ولم يقل: ولا تشتمهما ولا تضربهما لما قلنا. فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الآية 164] «1» وقوله سبحانه وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] وقوله عزّ وعلا لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] وقد جاء في الحديث المشهور «من عمل سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها، إلى يوم القيامة» . قلنا: المراد بالآية الأولى وزر لا يكون مضافا إليها بمباشرة أو تسبّب، لتحقيق إضافته إلى غيرها على الكمال. أما إذا لم يكن كذلك فهو وزرها من وجه فتزره. وقيل معناه: لا تزره طوعا كما زعم المشركون بقولهم للنبي (ص) : ارجع إلى ديننا ونحن كفلاء بما يلحقك من تبعة في دينك. وقول الذين كفروا للذين آمنوا كما ورد في التنزيل اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] إلى قوله تعالى: عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) [العنكبوت] ومعنى باقي النصوص أنها تحمله كرها، فلا تنافي بينهما.

_ (1) . ورد القول الكريم نفسه في أكثر من موضع في القرآن الكريم.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الأنعام"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأنعام» «1» في قوله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) استعارة. لأن الأصل في هذه اللفظة: دابرة الفرس، وجمعها دوابر، وهي ما يلي حافره من خلفه. ودابرة الطائر: هي الشاخصة التي خلف رجله، وتدعى الصّيصيّة «2» أيضا. فالمراد بقوله سبحانه: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا والله أعلم: أي قطعت عنهم الأمداد اللاحقة بهم من خلفهم، والتالون لهم في غيّهم وضلالهم. أو قطع خلفهم من نسلهم، فلم تثبت لهم ذرّيّة، ولم يبق لهم بقية. وفي قوله سبحانه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ [الآية 46] استعارة. والمراد بالأخذ هاهنا، إبطال حواسّهم. وإذا بطلت، فكأنّها قد أخذت منهم، وغيّبت عنهم. وفي قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الآية 59] واستعارة. والمراد: وعنده الوصلة إلى علم الغيب، فإذا شاء فتحه لأنبيائه وملائكته، وإن شاء أغلق عنهم علمه، ومنعهم فهمه. وعبّر تعالى عن ذلك بالمفاتح، وهي أحسن عبارة، وأوقع استعارة. لأنّ كل ما يتوصل به إلى فتح المبهم، وبيان المستعجم سمّي بذلك. ألا ترى إلى قول الرجل لصاحبه إذا أشكل عليه أمر، أو اختلّ له حفظ:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . الصيصية والصيصة: شوكة الحائك، وشوكة الديك أو الطائر. والجمع صياص.

افتح عليّ، أي: بيّن لي، وفهّمني ما غرب عنّي. وفي قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الآية 68] استعارة. والمراد بها إثارة أحاديث الآيات ليستشفّوا بواطنها، ويعلموا حقائقها، كالخابط في غمرة الماء، لأنه يثير قعرها، ويسبر غمرها. وقد مضى الكلام على نظير ذلك في (النساء) . وفي قوله سبحانه: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [الآية 80] استعارة. لأن صفة الشيء بأنه يسع غيره، لا يطلق إلّا على الأجسام التي فيها الضّيق والاتّساع، والحدود والأقطار. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. فالمراد أن علمه سبحانه يحيط بكل شيء، فلا تخفى عليه خافية، ولا تدقّ عنه غامضة. وفي قوله سبحانه: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الآية 92] استعارة. والمراد بأمّ القرى مكّة، وإنّما سماها سبحانه بذلك، لأنها كالأصل للقرى، فكلّ قرية فإنما هي طارئة عليها، ومضافة إليها. وفي قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ [الآية 93] استعارة عجيبة. لأنه سبحانه شبه الذين يعتورهم كرب الموت وغصصه، بالذين تتقاذفهم غمرات الماء ولججه. وقد سميت الكربة غمرة لأنها تغمر قلب الإنسان، آخذة بكظمه، وخاتمة على متنفسه. والأصل في جميع ذلك غمرة الماء. وفي قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [الآية 95] استعارة على بعض الأقوال، ومعناها أنه سبحانه يشق الحبة الميتة، والنواة اليابسة، فيخرج منها ورقا خضرا «1» ، ونباتا ناضرا، ويخرج الحبّ اليابس الذاوي من النبت الحي النامي. وقال بعضهم: يخرج الإنسان الحي من النطفة وهي موات، ويخرج النطفة الموات من الإنسان الحيّ. والله أعلم بالصواب. وقوله سبحانه: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الآية 100] استعارة.

_ (1) . الورق الخضر هو الأخضر. ووزنها مثل فرح.

والمراد أنهم دعوا له سبحانه بنين وبنات بغير علم، وذلك مأخوذ من «الخرق» وهي الأرض الواسعة، وجمعها خروق، لأنّ الريح تتخرّق فيها، أي تتسع. والخرق من الرجال: الكثير العطاء، فكأنّه يتخرق. «والخرقة» جماعة الجراد مثل الحرقة، والخريق: الريح الشديدة الهبوب. فكأنّ معنى قوله تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ أي اتّسعوا في دعوى البنين والبنات له، وهم كاذبون في ذلك. والاختراق، والاختراع، والانتسال بمعنى واحد، وهو الادعاء للشيء على طريق الكذب والزور. وفي قوله سبحانه: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الآية 112] استعارة. لأن الزخرف في لغة العرب: الزينة. ومن ذلك قولهم: دار مزخرفة أي مزيّنة. فكأنه تعالى قال: يزيّنون لهم القول ليغترّوا به، وينخدعوا بظاهره، كما يستغرّ بظاهر جميل، على باطن مدخول. وفي قوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الآية 110] استعارة. لأن تقليب القلوب والأبصار على الحقيقة وإزالتها عن مواضعها، وإقلاقها عن مناصبها لا يصحّ، والبنية صحيحة والجملة حيّة متصرّفة. وإنما المراد، والله أعلم، أنّا نرميها بالحيرة والمخافة، جزاء على الكفر والضلالة. فتكون الأفئدة مسترجعة لتعاظم أسباب المخاوف، وتكون الأبصار منزعجة لتوقّع طلوع المكاره. وقد قيل: إنّ المراد بذلك تقليبها على قراميص «1» الجمر في نار جهنم، وذلك يخرج الكلام عن حيّز الاستعارة إلى حيز الحقيقة. وفي قوله تعالى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الآية 113] . وهذه استعارة. والمعنى: ولتميل إليه أفئدة هؤلاء المذكورين. ويقال: صغى فلان إلى فلان. أي مال إليه. وصغوه معه: أي ميله. ومنه أصغى بسمعه إلى الكلام. إذا أماله إلى جهته، ليقرب من استماعه. وميل القلب إلى المعتقدات، كميل السمع إلى المسموعات. وفي قوله تعالى:

_ (1) . القراميص: جمع قرماص، وهو في الأصل الحفرة الواسعة الجوف الضيقة الرأس أو هي موضع خبز الملّة.

لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الآية 127] . استعارة. والمراد: لهم محل الأمنة والسلامة والمنجاة من المخافة. وتلك صفة الجنة. والسلام هاهنا: جمع سلامة «1» . وفي قوله تعالى: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الآية 130] استعارة. لأنهم لمّا اغترّوا بالحياة الدنيا، حسن أن يقال إنها غرّتهم. ولما كان فيها ما تميل إليه شهواتهم، جاز أن يقال: إنّها استمالت شهواتهم. وفي قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الآية 153] استعارة. والسّبل التي هي الطرق لا تتفرّق بهم، وإنما هم الذين يفارقون نهجها، ويتّبعون عوجها. وفي قوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الآية 164] استعارة. والمعنى: ولا تحمل حاملة حمل أخرى. يريد تعالى في يوم القيامة. أي لا يخفف أحد عن أحد ثقلا، ولا يشاطره حملا. لأنّ كل إنسان في ذلك اليوم مشغول بنفسه، ومفدوح «2» بحمله. وليس أن هناك على الحقيقة أحمالا على الظهور، وإنما هي أثقال الآثام والذنوب. ونظير ذلك قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: 48 و 123] «3» .

_ (1) . ويصح أن يكون السلام اسما من اسم الله تعالى. فتكون دار السلام دار الله. كما يقال للكعبة بيت الله. (2) . المفدوح: الذي يحمل حملا فادحا، فيعيا به. (3) . وهذه الآية من المتشابه.

سورة الأعراف 7

سورة الأعراف 7

المبحث الأول أهداف سورة"الأعراف"

المبحث الأول أهداف سورة «الأعراف» «1» سورة الأعراف هي السورة السابعة في الترتيب المصحفي وهي إحدى السور التي بدئت ببعض حروف التهجي المص (1) ، ولم يتقدم عليها، من هذا النوع، سوى ثلاث سور سبقتها في تاريخ النزول وهي: ن، ق، ص. ويبلغ عدد السور التي بدئت بحروف التهجي تسعا وعشرين سورة، وكلّها سور مكية ما عدا البقرة وآل عمران. وعدد آيات سورة الأعراف مائتان وست آيات، عدد كلماتها 3315 كلمة. 1- معنى فواتح السور ليس لهذه الفواتح في اللغة العربية معان مستقلة، ولم يرد من طريق صحيح عن النبيّ (ص) ، بيان للمراد منها. بيد أنه قد أثرت عن السلف آراء متعددة في معاني هذه الحروف. وهذه الآراء، على كثرتها، ترجع إلى رأيين اثنين. أحدهما: أنها جميعا مما استأثر الله به ولا يعلم معناه أحد سواه، وهذا رأي كثير من الصحابة والتابعين. وثانيهما: أن لها معنى. وقد ذهبوا في معناها مذاهب شتى: 1- فمنهم من قال: إنها أسماء للسّور التي بدئت بها، أو أن كلّا منها علامة على انتهاء سورة والشروع في أخرى.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمد شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

2- ومنهم من قال: إنها «رموز» لبعض أسماء الله تعالى وصفاته. 3- ومنهم من قال: إن المقصود منها هو تنبيه السامعين وإيقاظهم، وسياسة النفوس المعرضة عن القرآن، واستدراجها للاستماع إليه، واستمالة العقول بشيء غريب على السمع للانتباه والإصغاء للقرآن. وأشهر آراء علماء البلاغة والبيان: أن هذه الحروف ذكرت للتحدي وبيان إعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن مع أنه مركّب من هذه الحروف المقطّعة التي يتخاطبون بها، وفي هذا دلالة على أنه ليس من صنع بشر، بل تنزيل من حكيم حميد. ويرى ابن جرير الطبري أن أفضل الآراء في معنى فواتح السور هو اشتمالها على جميع الوجوه التي ذكرها العلماء في معانيها. فهي أسماء للسورة، وهي رموز، وهي حروف للتنبيه والتحدي ... إلخ. وسورة الأعراف هي السورة المكية الثانية في ترتيب المصحف، وهي تتسم بتلك السمات العامة التي أسلفنا إليها في الحديث عن سورة الأنعام. ثم تتميز بطابعها الخاص بعد ذلك من ناحية الموضوعات التي تعالجها والسياق الذي تسير فيه. وموضوع السورة الرئيس هو الإنذار، إنذار من يتولون غير الله، ومن يكذبون بآيات الله، ومن يستكبرون عن طاعة الله، ومن ينسون الله، ومن لا يشكرون نعمته، إنذارهم بهلاك الدنيا وعذاب الاخرة، وذلك فوق الخزي والهوان والنسيان. تبدأ السورة بالإنذار، ثم تسلك بهذا المعنى سبلا شتى وتتصرف فيه تصرفات كثيرة، وترسم له صورا متعددة، وتلمس به المشاعر لمسات مختلفة. فتارة يتّخذ السياق شكل القصة: قصة آدم مع إبليس، ثم قصص نوح وهود وصالح وشعيب وموسى، مع أقوامهم لتنتهي كل قصة بالعذاب والنكال لمن يخالفون أمر الله وتارة يتّخذ شكل مشهد من مشاهد القيامة أو مشاهد الاحتضار تنكشف فيه مصائر المكذّبين، والمتكبّرين، ومصائر الطائعين، لله ربّ العالمين. ويتخلل القصص والمشاهد ما يتّسق مع الجو العام من توجيه الأنظار والقلوب، والدعوة إلى التوبة والإنابة،

2 - مقاصد السورة ومزاياها

قبل أن يحلّ العقاب، ويتحقق الإنذار، والإشارة إلى عواقب المكذبين من الأمم الخالية التي حقّ عليها النذير. كل ذلك يرد في تناسق مطلق، بين السياق والقصة، أو السياق والمشهد، أو السياق والتوجيهات، فتبدو القصص والمشاهد والتوجيهات كلها أجزاء من هذا السياق العام ملوّنة بلونه، مظلّلة بجوّه، محقّقة للغرض الذي يتجه إليه موضوع السورة الرئيس من البدء حتى الختام. 2- مقاصد السورة ومزاياها مهّدت سورة الأعراف لمقاصدها ببيان عظمة الكتاب، وجلال هدايته، وقوة حجته في توضيح الدعوة، وإنذار المخالفين بها. ثم تناولت أهداف الدعوة في مكة، وهي تقرير رسالة الإسلام وبيان أصول هذه الدعوة: توحيد الله في العبادة والتشريع، وتقرير البعث والجزاء، وتقرير الوحي والرسالة بوجه عام، وتقرير رسالة محمد (ص) بوجه خاص. وتلك هي أصول الدعوة الدينية التي كانت لأجلها جميع الرسالات الإلهية. وقد سلكت السورة، في طريقة عرض هذه الحقائق، أسلوبين بارزين، أحدهما أسلوب التذكير بالنعم، والاخر أسلوب التخويف من العذاب والنّقم. أمّا أسلوب التذكير بالنعم، فتراه واضحا في لفتها أنظار الناس إلى ما يلمسونه ويحسّونه من نعمة تمكينهم في الأرض، ونعمة خلقهم وتصويرهم في أحسن تقويم، ونعمة تمتّع الإنسان بما في هذا الكون من خيرات، سخّرها الله له. أمّا أسلوب الإنذار والتخويف، فهو ظاهر في جو السورة، وفي قصص الأنبياء فيها. وقد استغرق هذا القصص أكثر من نصفها، وقد ساقت لنا السورة ما دار بين الأنبياء وأقوامهم، وسجّلت السورة جزاء المكذبين بأمر الله الخارجين على دعوة رسله وهدايتهم، وهي ظاهرة تكررت الإشارة إليها في سور القرآن المكية، تحذيرا لأهل مكة أن يصيبهم ما أصاب الأمم من قبلهم. 3- عرض إجمالي لأجزاء السورة سورة الأعراف أول سورة طويلة نزلت من القرآن الكريم، وهي أطول

سورة في المكّيّ. وهي أول سورة عرضت لتفصيل في قصص الأنبياء مع أممهم. وقد نزلت بين جملتين من السور المكية: يكثر في الجملة التي نزلت قبلها السور القصيرة، التي تعرف بسور «المفصّل» «1» ويكثر في الجملة التي نزلت بعدها السور المتوسطة التي تعرف بسور «المئين» «2» . وتطالعنا سورة الأعراف بالحديث عن عظمة القرآن. وتأمرنا باتّباعه وتحذّرنا من مخالفته. وتحثّنا على العمل الذي تثقل به موازيننا يوم القيامة «3» في بداية تعدّ براعة استهلال أو عنوان لما تشتمل عليه السورة. وهي سمة غالبة في سور القرآن حيث نجد الآيات الأولى منها عنوانا معبّرا عن أهدافها وسماتها. وفي أول سورة الأعراف يقول سبحانه: المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (3) . ثم ساقت لنا السورة بأسلوب منطقي بليغ قصة آدم مع إبليس. وكيف أن إبليس قد خدعه بأن أغراه بالأكل من الشجرة المحرّمة. فلمّا أكل منها هو وزوجته، بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الآية 22] . ثمّ وجهت إلى بني آدم نداء، في أواخر هذا الرّبع، نهتهم فيه عن الاستجابة لوسوسة الشيطان. قال تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) . وفي الرّبع الثاني منها، نراها تأمرنا بأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد، وتخبرنا بأن الله- تعالى- قد أباح لنا أن نتمتّع بالطيّبات التي أحلّها لنا،

_ (1) . تسمّى سور «المفصّل» لكثرة الفصل بينها بالبسملة مثل «الضحى» . (2) . هي السور التي يكون عددها قرابة المائة آية. (3) . تفسير سورة الأعراف، لفضيلة الدكتور أحمد السيد الكوفي والدكتور أحمد سيّد طنطاوي، صفحة 6 وما بعدها.

وتبشّرنا بحسن العاقبة متى اتّبعنا الرسل الذين أرسلهم الله لهدايتنا ثمّ تسوق لنا، في بضع آيات، عاقبة المكذبين لرسل الله، وكيف أن كلّ أمّة من أمم الكفر، عند ما تقف بين يدي الله للحساب، فإنها تلعن أختها. قال تعالى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) . ثم تبيّن السورة بعد ذلك عاقبة المؤمنين فتقول: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) . وفي أواخر هذا الرّبع، وأوائل الرّبع الثالث منها، نراها تسوق لنا تلك المحاورات التي تدور بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وتحكي لنا ما يحصل بينهم من نداءات ومجادلات، تنتهي بأن يقول أصحاب النار لأصحاب الجنة على سبيل التذلل والتوسل، كما ورد في التنزيل: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) . فيجيبهم أصحاب الجنة كما ورد في التنزيل أيضا: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا. ثم تسوق لنا السورة بعد ذلك جانبا من مظاهر نعم الله على خلقه، وتدعونا إلى شكره عليها لكي يزيدنا من فضله. وفي الرّبع الرابع منها، وفي أواخر الثالث تحدثنا عن قصة نوح مع قومه. ثمّ عن قصّة هود مع قومه، ثمّ عن قصة صالح مع قومه. ثمّ عن قصة لوط مع قومه، ثمّ عن قصّة شعيب مع قومه، ولقد ساقت لنا، خلال حديثها عن هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم، من العبر والعظات، ما يهدي القلوب، ويشفي الصدور، ويحمل العقلاء على الاستجابة لهدى الأنبياء والمرسلين. أمّا في الرّبع الخامس منها، فقد

بيّنت لنا سنن الله في خلقه، ومن مظاهر هذه السنن أنه- سبحانه- لا يعاقب قوما إلا بعد الابتلاء والاختبار وأنّ الناس لو آمنوا واتقوا لفتح- سبحانه- عليهم بركات من السماء والأرض وأن الذين يأمنون مكر خالقهم، هم القوم الخاسرون. قال تعالى: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) . ثم عقبت على ذلك، ببيان أن الله تعالى قد ساق قصص السابقين للعظة والاعتبار. ثم أسهبت السورة في الحديث عن قصة موسى (ع) فقصّت علينا في زهاء سبعين آية، استغرقت الربع السادس والسابع والثامن، ما دار بينه وبين فرعون من محاولات ومناقشات، وما حصل بينه وبين السّحرة من مجادلات ومساجلات انتهت بأن قال السحرة كما روى القرآن حكاية عنهم: قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) . ثم حكت لنا ما لقيه موسى من قومه بني إسرائيل من تكذيب وجهالات، ممّا يدلّ على أصالتهم في التمرد والعصيان، وعراقتهم في الكفر والطغيان. وفي الرّبع التاسع منها، حدّثتنا عن العهد الذي أخذه الله على البشر بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ثمّ حدثتنا عن التفكير والتدبير في ملكوت السماوات والأرض، وبينت لنا أن موعد قيام الساعة لا يعلمه سوى علّام الغيوب، وأن الرسل الكرام وظيفتهم تبليغ رسالات الله، ثم هم بعد ذلك لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا. أما في الربع العاشر والأخير، فقد اهتمّت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله، وأنكرت على المشركين شركهم، ودعت الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) . وأمرتهم بأن يكثروا من التضرع والدعاء:

4 - قصة آدم

وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) . 4- قصة آدم ذكرت قصة آدم في سورة البقرة، ثم أكملت سورة الأعراف حلقات هذه القصة. وذكرت أنّ الله تعالى خلق آدم (ع) وأمر الملائكة بالسجود له إظهارا لفضله، وتنويها بما يكون له من شأن، بعد أن سألوا عن الحكمة في خلقه، وقد ركّبت فيه الشهوة والغضب، وبهما يفسد في الأرض ويسفك الدماء. وذكرت السورة موقف إبليس وإباءه السجود والامتثال لأمر الله، كما ذكرت قصة تأثّر آدم بوسوسة الشيطان، وإغرائه إيّاه بالأكل من الشجرة، وكيف كانت عاقبة آدم في الهبوط من الراحة والاطمئنان إلى الكدّ والتعب، وإلى مكافحة عوامل الشر التي بنيت الحياة عليها، وعلى ما يقابلها من عوامل الخير ومطالبة الإنسان بأن يقف مع جانب العقل والرسالة الإلهية، اللذين يشدّان أزره في التغلب على عوامل الشر. لقد كان آدم في نعيم الجنة يتمتّع بما فيها من كل ما تشتهي الأنفس، وتلذّ به الأعين، ويتنقّل بين أشجارها، ويتفيّأ ظلالها، ويتفكّه بثمارها، ويرتوي من عذب مياهها، وشاركته زوجته هذه المتعة. ولكنّ الشيطان أغراهما بالأكل من الشجرة وأقسم لهما بأنه من الناصحين. فلمّا أطاعا الشيطان، وأكلا من الشجرة، سلب الله عنهما نعمته وحرمهما جنته: وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) . وقد ندم آدم وحواء أشد الندم، وتابا إلى الله توبة نصوحا، فتاب الله عليهما وأمرهما أن يهبطا إلى الأرض ليكدحا ويعملا، فتعمر الأرض وتنتشر الحياة في جنباتها. وقد حذّر الله آدم وذرّيّته من الشيطان وإغرائه وبيّن سبحانه أن على المؤمن أن يلجأ إلى ربه، وأن يستعين بهداه، وألّا يخلد الى الهوى وألا ييأس من رحمة الله. فقد فتح الله باب التوبة على مصراعيه حتّى يتوب إليه التائبون ويلجأ إليه المؤمنون. فكلّ

5 - نعمة الثياب والزينة

بني آدم خطّاؤون وخير الخطّائين التوّابون. والمؤمن يتسامى بغرائزه، وينتصر على شهواته، وينهى نفسه عن الهوى، ويحملها على طريق الفلاح والاستقامة. قال تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) [الشمس] . 5- نعمة الثياب والزينة تحدثت سورة الأعراف عن نعم الله تعالى على بني آدم، ومن هذه النعم نعمة الملبس الذي يستر الناس به عورتهم ويجمّلون به أنفسهم، هيّأ الله لهم مادّته من القطن والصوف والحرير وما إليها، وألهمهم، بما خلق فيهم من غرائز، طرق استنباتها، وطرق صناعتها، بالغزل والنسيج والخياطة ولفت أنظارهم إلى أن تقوى الله في الانتفاع بتلك النعمة، واستخدامها في طاعة الله وشكره. وبذلك تستر الثياب العورة، وتكون مصدر نعمة لا نقمة. قال تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) . وفي هذا تنبيه إلى ان الحضارة الحقّة ليست في كشف المفاتن، ولا في إظهار العورات، وإنّما الحضارة الحقّة في السير على سنّة الله، وهدى رسله وتعاليم أنبيائه. توسّط الإسلام في شأن الزينة من الآيات المشهورة قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) . ومن هذه الآية تلمح سماحة الإسلام ويسره، فهو يأمر بالنظافة، ويدعو إلى التجمّل والتزيّن، ويحث على التمتّع بالطيبات. وفي الحديث الشريف يقول النبي (ص) : «إنّ الله نظيف يحبّ النّظافة، جميل يحبّ الجمال، طيّب يحبّ الطّيبين» . وقد جاء الإسلام دينا وسطا، فقد نهى عن التبذير والإسراف، وحذّر من الشح والبخل، وأمر بالقصد والاعتدال قال تعالى:

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الآية 32] . فهو سبحانه خلق الإنسان بيده، ونفخ فيه من روحه، وفضّله على كثير من المخلوقات، وسخّر له الكون بما فيه من سماء مرفوعة، وأرض مبسوطة، وجبال راسية، وبحار جارية، وليل مظلم، ونهار مضيء وأمره أن يستمتاع بالطيّبات، وأن يبتعد عن المحرّمات فهناك حدود بيّنها الله، فالحلال بيّن، والحرام بيّن وظاهر، وبينهما أمور مشتبهات فيها شبهة وإثم فمن ابتعد عن الشبهات فقد سلم عرضه ودينه ومن وقع في الشبهات، كانت الشبهات طريقا إلى الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. وصدق الله العظيم: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الآية 33] .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الأعراف"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأعراف» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الأعراف بعد سورة «ص» وقبل سورة «الجنّ» ، وكان نزول سورة «الجنّ» مع رجوع النبي (ص) من الطائف، وكان قد سافر إليها سنة عشر من بعثته ليعرض الإسلام على أهلها، فيكون نزول سورة الأعراف فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) وتبلغ آياتها ستّا ومائتي آية. الغرض منها وترتيبها يقصد من هذه السورة الإنذار والاعتبار بقصص الأولين وأحوالهم، وقد أخذ المشركون في هذا الترهيب والترغيب، بعد أن أخذوا في سورة الأنعام بطريق النظر والدليل، ولهذا ذكرت هذه السورة بعدها، ولأنها أيضا تشبهها في الطول، وقد فصّل فيها من أخبار الأولين ما أجمل في سورة الأنعام. وقد ابتدئت هذه السورة بمقدّمة في إنذار المشركين إجمالا بما حصل لأولئك الأولين، ثم أتبع هذا بتفصيل أخبارهم وبيان ما حصل لهم، ثم ختمت ببيان أنّ الهدى والإضلال بيد الله، فمن يهده ينتفع بهذا القصص،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المقدمة الآيات [1 - 9]

ومن يضلله لا ينتفع به، إلى غير هذا مما يأتي في هذه الخاتمة. المقدمة الآيات [1- 9] قال الله تعالى: المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) فذكر أن القرآن كتاب أنزل الى النبي (ص) ، ونهاه أن يضيق صدره من تكذيب المشركين له، لينذر به المشركين ويذكّر المؤمنين، وفي هذا براعة مطلع للغرض المقصود من هذه السورة، ثم أمرهم أن يتّبعوا ما أنزل إليهم من ربهم ولا يتّبعوا غيره من أوليائهم، وأنذرهم إجمالا بأنه كم أهلك قبلهم من قرية بعذاب جاءهم بياتا أو هم قائلون، فلما جاءهم العذاب اعترفوا بظلمهم فلم ينفعهم اعترافهم، ثم ذكر أنه سيجمعهم ومن أرسلوا إليهم فيسألهم عن أمرهم، ويقصّ عليهم ما يعلمه من أعمالهم، ويزن أعمالهم بالحقّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) . قصة آدم وإبليس الآيات [10- 58] ثم قال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (10) ، فذكر نعمته عليهم بالتمكين لهم في الأرض تمهيدا لقصة آدم. لأنه أول من مكّن له فيها، ثم ذكر أنه خلقه ثم صوّره ثمّ أمر الملائكة بالسّجود له تكريما لخلقه، وأن إبليس امتنع عن السجود له عنادا واستكبارا، وأنه جازاه على هذا باللعن والطرد من الجنة، وجعل وظيفته أقبح وظيفة وهي الوسوسة بالشر، ثم ذكر أنه أسكن آدم وزوجته الجنة ونهاهما، عن الأكل من شجرة منها عيّنها لهما، وأنّ إبليس احتال عليهما حتّى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة حياء، ثم ذكر أنه ناداهما بنهيه لهما فاعترفا بذنبهما، فأمرهما بأن يهبطا من الجنة إلى الأرض، وأوقع العداوة فيها بين ذرّيتهم وبين إبليس، وجعل لهم فيها مستقرّا ومتاعا إلى أن يرجعهم إليه. ثم ذكر أنه أنزل عليهما وعلى ذريتهما، بعد هبوطهما إلى الأرض، لباسا يواري سوآتهم، وأن لباس التقوى

خير من ذلك اللباس، ثم حذرهم أن يفتنهم إبليس كما فتن أبويهم في الجنة، وذكر أنه، هو وقبيله، يأتونهم من حيث لا يرونهم، وأنه قد جعلهم أولياء للذين لا يؤمنون، وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا، وزعموا أن الله أمرهم بها، ثم أمر النبي (ص) أن يخبرهم بأنه لا يأمر بالفحشاء، وإنما يأمر بالقسط وأن يقيموا وجوههم عند كل مسجد ويدعوه مخلصين له، ثم ذكر أنه سيعيدهم كما بدأهم فريقين: فريقا هداه، وفريقا حقّت عليه الضّلالة لأنهم اتّخذوا الشياطين أولياء من دونه ويحسبون أنهم مهتدون، ثم أمرهم أن يأخذوا ما أنزل عليهم من اللباس عند كل مسجد، وأن يأكلوا ويشربوا ولا يسرفوا في لباسهم وأكلهم وشربهم، وكانوا في الجاهلية يطوفون عراة بالبيت، الرجال بالنهار والنساء بالليل. ويقولون لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب، وكان منهم متنسكون لا يأكلون من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما ثمّ أمر النبي (ص) أن يسألهم سؤال تعجيز عمّن حرّم عليهم الزينة والطيّبات من الرزق، وذكر لهم أنه إنما حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي والشرك والكذب عليه، في تحريم ما حرموه على أنفسهم، وهدّدهم بأنه إذا كان يمهلهم على ذلك فلأنّ كل أمّة لها أجل فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) . ثم ذكر أنه أوحى إلى آدم (ع) وذريته حين هبطوا الى الأرض، أنه إذا أتاهم رسل يقصّون عليهم آياته، فمن آمن بهم فلا خوف عليه، ومن كذّب واستكبر فجزاؤه الخلود في النار ثم فصّل وعيدهم، فذكر أنه لا يوجد أظلم ممّن افترى عليه وكذّب بآياته، وأنهم ينالون نصيبهم في الحياة من العمر والرزق، ثم يتوفّاهم ملائكة الموت، ويسألونهم عن شركائهم ليدفعوا عنهم، فيجيبون بأنهم ضلّوا عنهم، ويعترفون بكفرهم وهناك يأمرهم بأن يدخلوا النار فيمن دخلها قبلهم من أمم الجن والإنس، فيتلاومون فيها بما ذكره من تلاومهم ثم ذكر أنهم لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة، حتى يلج الجمل في سمّ الخياط، والى غير هذا ممّا ذكر في وعيدهم. ثم أخذ السياق في تفصيل وعد المؤمنين، فذكر من نعيمهم في الجنة ما ذكر، ثم ذكر أنهم ينادون أصحاب

قصة نوح وقومه الآيات [59 - 64]

النار أنهم وجدوا ما وعدهم ربّهم حقّا، فهل وجدوا ما وعدوا به من العذاب حقّا؟ فيجيبونهم بأنهم وجدوه حقّا ثم ذكر أنه يوجد على الأعراف بين الجنة والنار رجال يعرفون كلّا من أهل الجنة والنار بسيماهم وينادونهم بما ذكره في ندائهم، وأن أصحاب النار ينادون أصحاب الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء، أو بما رزقهم الله، فيجيبونهم بأن الله حرّمهما على الكافرين الذين اغترّوا بدنياهم، وأنه ينساهم في آخرتهم كما نسوا لقاءها ثم ذكر سبحانه أنه جاءهم بكتاب فصّله على علم وجعله هدى ورحمة فقطع به عذرهم، ووبّخهم على انتظارهم تأويل ما أنذرهم به من العذاب وذكر أنه يوم يأتي تأويله، يعترفون بأنّ ما أنذروا به حق، ثم يسألون عن شفعاء يشفعون لهم، أو أن يردّوا ليعملوا أعمالا غير أعمالهم. ثم أخذ السّياق في إبطال اعتقادهم في أولئك الشفاء، فذكر أنه سبحانه ربّهم الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام إلخ، وأمرهم أن يدعوه جلّ شأنه تضرّعا وخفية، ولا يفسدوا في الأرض بعد أن أصلحها ومكّن لهم فيها وأن يدعوه خائفين عذابه، راجين رحمته، لأن رحمته قريب من المحسنين ثم ذكر تعالى أنه هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته، لتحمل السحاب الى البلد الميّت فتحييه، وأنه كذلك يحيي الموتى لعلهم يتذكرون وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) . قصة نوح وقومه الآيات [59- 64] ثم قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) فذكر أن نوحا أمر قومه بأن يعبدوا الله وحده وأنذرهم، إن لم يطيعوه، بعذاب يوم عظيم وأنهم أجابوه بأنهم يرونه في ضلال مبين، وأنه أجابهم بأنه لا ضلالة به، ولكنّه رسول من الله إليهم، وأنه ينصح لهم ويعلم من الله مالا يعلمون ثم ذكر أنهم أصرّوا على تكذيبه فأنجاه سبحانه، والذين معه في الفلك وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) .

قصة هود وقومه الآيات [65 - 72]

قصة هود وقومه الآيات [65- 72] ثم قال تعالى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) ، فذكر أنّ هودا أمر قومه بعبادة الله وحده، وأنهم أجابوه عن ذلك بتسفيهه وتكذيبه، وأنه أجابهم بأنه ليس به سفاهة، ولكنه رسول من الله ناصح لهم أمين ثم وبخهم أن يعجبوا أن جاءهم ذكر من ربهم على رجل منهم لينذرهم ويذكّرهم بنعمته عليهم، إذ جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح، وزادهم في الخلق بسطة، ثم ذكر أنهم أصرّوا على تكذيبه فأنجاه سبحانه، والذين معه رحمة منه وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) . قصة صالح وقومه الآيات [73- 79] ثم قال تعالى وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الآية 73] فذكر أن صالحا أمر قومه بعبادة الله وحده، وأنّه جاءهم بناقة الله آية لهم، وأنّه حذّرهم أن يمسّوها بسوء فيأخذهم عذاب أليم، وأنه ذكّرهم بنعمة الله عليهم إذ جعلهم خلفاء من بعد عاد، ثم ذكر أنهم أصروا على تكذيبه، فأخذتهم الرجفة، فأهلكتهم فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) . قصة لوط وقومه الآيات [80- 84] ثم قال تعالى: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) ، فذكر أن لوطا استنكر من قومه الفاحشة التي لم يسبقهم أحد إليها وهي إتيانهم الرجال من دون النساء، وأنهم أجابوه بتامرهم على إخراجه هو وأهله من قريتهم، فأنجاهم الله إلّا امرأته كانت من الغابرين وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) . قصة شعيب وقومه الآيات (85- 112) ثم قال تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الآية 85] فذكر أن شعيبا أمر قومه أن يعبدوا الله وحده

قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل الآيات [103 - 174]

ويوفوا الكيل والميزان، ولا يبخسوا الناس أشياءهم، ولا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ثم ذكر أن بعضهم استكبر، وأراد أن يخرج شعيبا هو ومن آمن به من قريتهم، وأنه سبحانه أخذهم بالرجفة فأهلكهم وكانوا هم الخاسرين فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) . ثم عقّب على هذه القصص، ببيان أنّ هذا شأنه في كلّ قرية أرسل فيها نبيّا، فلا يأخذها بعذاب الاستئصال دفعة واحدة، بل يأخذها أوّلا بالشدائد والأمراض، ثم يزيل عنهم ذلك، ويأتيهم بالخصب والرخاء، فلا يؤثّر فيهم شيء من ذلك وينسبون ما أصابهم منه إلى عادة الزمان، فيأخذهم بغتة وهم لا يشعرون ولو أنهم آمنوا، لفتح عليهم بركات السماء والأرض بالمطر والنبات. ثمّ وبّخ أهل القرى الحاضرة على أمنهم أن يصيبهم ما أصاب تلك القرى من بأسه بياتا وهم نائمون، أو ضحًى وهم يلعبون وعلى أمنهم مكره بهم، فلا يأمنه إلا القوم الخاسرون وعلى أنه لم يتبيّن لهم بعد أن ورثوا أرضهم وقصّ عليهم أخبارهم، أنه لو يشاء أصابهم كما أصابهم، ولكنّه طبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ثمّ ذكر أنه قصّ عليه من أنباء تلك القرى، وأنّهم كانوا سواء في أنهم يكذبون بعد نزول المعجزات كما كذبوا من قبلها، وينسون عهدهم أن يؤمنوا بعد نزولها وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) . قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل الآيات [103- 174] ثم قال تعالى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) فذكر أنه بعث موسى إلى فرعون وقومه بآياته، وأنّهم كذّبوا بها فأهلكهم ثمّ فصّل ذلك، فذكر أن موسى أخبر فرعون بأنه رسوله إليه، وطلب منه أن يرسل معه بني إسرائيل إلى الأرض التي وعدوا بها وأنّ فرعون طلب منه آية تدل على صدقه، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين، فلما رأى قومه ذلك زعموا أنه سحر، وطلبوا منه

أن يجمع السحرة ليغلبوه بسحرهم ثمّ ذكر ما كان من السحرة وإيمانهم حين ظهر لهم عجزهم، وما كان من إصرار فرعون وقومه على الكفر بعد عجز سحرتهم، ومضيهم في الانتقام من بني إسرائيل بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم فأمر موسى بني إسرائيل أن يستعينوا على ذلك بالصبر، ووعدهم أن يهلك الله عدوّهم ويستخلفهم في الأرض ثمّ ذكر ما كان من أخذه قوم فرعون بالسنين، ونقص من الثمرات، وأنّهم كانوا إذا أصيبوا بذلك لا يتّعظون به، بل يشتدّ كفرهم، ويزعمون أنّه من شؤم موسى وقومه عليهم ثمّ ذكر أنه أرسل عليهم بعد ذلك الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم فاستكبروا ولم يؤمنوا ثم أوقع عليهم الرّجز وهو الطاعون، فذهبوا إلى موسى ليدعو ربه أن يرفعه عنهم، ووعدوه عند رفعه أن يؤمنوا به ويرسلوا معه بني إسرائيل فلمّا كشف الرجز عنهم نكثوا عهدهم، فانتقم الله تعالى منهم بإغراقهم في البحر، وأورث بني إسرائيل الأرض التي بارك فيها، ودمّر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون. ثم ذكر ما كان من بني إسرائيل بعد أن أنجاهم وأغرق آل فرعون، وأنهم جاوزوا البحر، فأتوا على قوم يعبدون الأصنام، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلها مثلهم، فجهّلهم وبيّن لهم بطلان عبادة الأصنام، وأنه لا يليق بهم بعد أن أنجاهم الله من آل فرعون أن يعبدوا غيره ثم ذكر أن موسى (ع) تغيّب عن قومه أربعين ليلة، ليتلقّى التوراة فيها عن ربّه، واستخلف أخاه هارون على قومه، وأنه لما جاء لميقات ربّه، وكلّمه، طلب منه أن يراه وأنه لم يجبه الى ذلك، وطلب منه أن ينظر إلى الجبل، وقد تجلّى له فاندكّ وتفرّق، وخرّ هو صعقا من هول ما رأى فلمّا أفاق أظهر له التوبة من طلب رؤيته، فقبل توبته وأنزل عليه التوراة مكتوبة في الألواح وأمره أن يأخذها بقوّة، وأن يأمر قومه أن يأخذوا بأحسنها إذا كان فيها تخيير بين حسن وأحسن ووعدهم بأنه سيدخلهم الأرض التي وعدهم بها، وذكر أنه سيصرف عن آياته أصحابها الذين يتكبّرون فيها ويؤثرون سبيل الغيّ على سبيل الرشد، لأنهم كذبوا بآياته وغفلوا عنها، فحبطت أعمالهم ولا يجزون إلا ما كانوا يعملون ثم ذكر أن قوم موسى اتخذوا من بعده من حليّهم

عجلا جسدا له خوار فعبدوه من دونه سبحانه، وأنّهم ندموا على ذلك، ورأوا أنهم قد ضلّوا وطلبوا رحمة الله ومغفرته لذنبهم، وأن موسى رجع إليهم غضبان أسفا لما فعلوا، وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه هارون يجرّه إليه فاعتذر له بأنهم استضعفوه وكادوا يقتلونه، فطلب من ربه أن يغفر له ولأخيه ويرحمهم جميعا ولا يؤاخذهم بما فعلوا وقد أجيب بأنّ الذين اتخذوا العجل وزيّنوا عبادته لهم سينالهم غضب من ربهم وذلّة في الدنيا، لأنهم سيعودون إلى عصيان ربهم، وقد فعلوا ذلك، بعد أن فتحوا الأرض الموعودة لهم وبأنّ الذين لم يقعوا في العبادة مثلهم وأساؤوا بعدم مفارقتهم، ثمّ تابوا وآمنوا، ستغفر سيئاتهم. ثم ذكر سبحانه، أن موسى اختار سبعين رجلا منهم لميقاته ليعتذروا عن ذلك الفعل، وأنه أخذهم بالرجفة إظهارا لغضبه ممّا فعلوا، فتوجّه موسى إليه بالدعاء أن يغفر لهم ويرحمهم، ولا يؤاخذهم بما فعل السفهاء منهم وأنه جلّ جلاله أجابه بأنه يعذّب من يشاء ولا يسأل عمّا يفعل، وأنّ رحمته وسعت كلّ شيء حتّى العاصين من عباده، وسيكتبها للذين يتّقون ويؤتون الزكاة ويؤمنون به، ويتّبعون الرسول النبي الأمي حين يبعث إليهم، وهو الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، إلى غير هذا مما ذكره في البشارة بمحمد (ص) ، ثم استطرد السّياق من ذلك إلى أمره سبحانه للرسول (ص) بعد هذه البشارة أن يذكر للناس أنه رسول الله إليهم جميعا وأن يأمرهم باتباعه لعلّهم يهتدون ثم ذكر تعالى أن من قوم موسى أمّة يهدون بالحق، فلا ينكرون تلك البشارة. ثم عاد السياق إلى موسى وقومه، فذكر أن الله جلّ جلاله قطّعهم اثنتي عشرة أسباطا، وأنه أوحى إليه إذا استسقوه أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بعددهم وأنه ظلّل عليهم الغمام وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وأنّهم ما ظلموه سبحانه، إذ عصوه بعد هذا، ولكن ظلموا أنفسهم ثمّ ذكر من عصيانهم أنه أمرهم بسكنى القرية التي وعدهم بها، وهي بيت المقدس، وأن يقولوا حين دخولها حطّة ويدخلوا الباب سجّدا، فبدّلوا ذلك وقالوا حنطة،

قصة عالم لم يعمل بعلمه الآيات [175 - 177]

فطلبوا ذلك ولم يطلبوا حطّ الخطايا عنهم، ثم ذكر أيضا قصة الذين اعتدوا منهم في السبت، وأنهم أصرّوا على اعتدائهم ولم يسمعوا للذين وعظوهم، فأخذهم بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، وجعلهم في طباع القردة والخنازير من الشره والطمع، وبعث عليهم من يسومهم الذّل والصّغار إلى يوم القيامة، وبدّد شملهم في الأرض طوائف محكومة لأهلها، منهم الصالحون وهم الذين لم يصيروا في طباع القردة والخنازير، ومنهم دون ذلك وهم الذين صاروا في طباعها، وانحرفوا عمّا جاءت به التوراة من الأخلاق الفاضلة ثمّ ذكر أنه بلاهم بالحسنات والسّيئات لعلهم يرجعون إلى فضائل دينهم، فخلف من بعدهم خلف انحرفوا عنه أكثر منهم، يأخذون الرّشا على تحريف التوراة، ويزعمون أنه سيغفر ذلك لهم، مع أنهم يصرّون عليه ولا يقلعون عنه وقد أخذ عليهم عهد التوراة أن يحافظوا عليها ولا يحرّفوها، وهم يدرسون ذلك فيها ويعرفونه والدار الاخرة خير من تلك الرشوة التي يأخذونها على التحريف والذين يتمسّكون بالتوراة ولا يحرّفونها لا يضيع أجرهم فيها، ثمّ ذكر أنه أخذ هذا العهد عليهم حين رفع الجبل فوقهم، وأمرهم أن يأخذوا التوراة بقوّة ويحافظوا عليها، ثمّ ذكر أنه أخذ على بني آدم جميعا عهده يوم خلقهم، أن يعترفوا بأنه ربّهم ويطيعوه، وأنّهم شهدوا على أنفسهم يوم أخذه عليهم لئلّا يدّعوا يوم القيامة أنهم غفلوا عنه، أو أنهم أشركوا كما أشرك آباؤهم تقليدا لهم، فلا يصح أن يؤخذوا بما فعلوه قبلهم وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) . قصة عالم لم يعمل بعلمه الآيات [175- 177] ثم قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) فذكر نبأ عالم أتاه علم كتبه فلم يعمل به، فتولّاه الشيطان حتّى أضلّه وصار مثله كمثل الكلب في خسّته وذلّته. ثمّ ذكر أن هذا مثل الذين كذّبوا بآياته وأمر النبي (ص) أن يقصّ عليهم ذلك المثل لعلهم يتفكرون ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) .

الخاتمة الآيات [178 - 206]

الخاتمة الآيات [178- 206] ثمّ قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) فذكر ان الهداية والإضلال بيده وحده جلّ جلاله، فمن يهده فهو المهتدي ومن يضلله فأولئك هم الخاسرون ثمّ ذكر أنه خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس لا يعتبرون بما قصّه من ذلك، لأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون، فهم كالأنعام بل هم أضلّ ثمّ ذكر أن له سبحانه الأسماء الحسنى، وأمرهم أن يدعوه بها ولا يتّبعوا الذين يلحدون في أسمائه من أولئك الجهلاء وأنّ ممّن خلقه، أمة يهدون بالحق، فلا يلحدون في أسمائه وأنّ الذين كذّبوا بآياته، سيستدرجهم، ثمّ يأخذهم بغتة كما أخذ أولئك الأولين ثمّ وبّخهم على ترك التفكير في أمر النبي (ص) ليعلموا أنه ليس به جنّة، وإنما هو نذير مبين كما وبّخهم لأنّهم لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ليعرفوا خالقهم، وفيما ينذرهم به، ليعلموا أنه قد اقترب أجلهم ثمّ ذكر أن من يضلله فلا يهتدي بشيء من ذلك، ويتركهم في طغيانهم يعمهون. ثمّ ذكر سبحانه أنهم سألوا النبيّ (ص) عن ساعة ذلك العذاب أيّان مرساها؟ فأجابهم النبيّ (ص) بأنّ علمها عند الله وحده، وهي لا تأتيهم إلّا بغتة من غير سابق علم، وبأنه لم يدّع لهم أنه يملك لنفسه نفعا أو ضرّا، أو يعلم الغيب حتى يكون إليه ذلك الأمر وإنما يرجع ذلك إلى مشيئة الله وإرادته، وما هو إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون. ثم أخذ السّياق يبين لهم فساد شركهم، فذكر سبحانه أنه هو الذي خلقهم من نفس واحدة وجعل منها زوجها، فلمّا حملت منه دعوا الله لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فلمّا آتاهما ما طلبا جعل أولادهما له شركاء فيما آتاهما ثمّ وبخهم على أن يشركوا به مالا يخلق شيئا وهم يخلقون، إلى غير هذا مما ذكره في إبطال شركهم، ثم أمر النبي (ص) أن يأمرهم بدعوة شركائهم لكيده، تعجيزا لهم، وأن يذكر لهم أن وليّه الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين وأنّ هؤلاء الشركاء لا يستطيعون نصرهم ولا نصر أنفسهم، ثمّ ذكر سبحانه أن

النبي (ص) إن يدعهم إلى الهدى لا يسمعوا ينظرون إليه وهم لا يبصرون وأمره أن يأخذ بما شرعه له من العفو والأمر بالمعروف والإعراض عن الجاهلين، وأن يستعيذ به جلّ جلاله إذا اعتراه من الشيطان نزغ، لأن هذا هو سبيل المتّقين إذا مسّهم الشيطان بطائف منه ثمّ ذكر أنه إذا لم يأتهم بآية ممّا يقترحونه، قالوا لولا اقترحتها على الله، وأمره أن يجيبهم بأنه لا يتّبع إلا ما يوحى إليه، فلا يقترح شيئا عليه وبأنه، قد أتاهم بصائر من القرآن تغني عن غيره من المعجزات ثمّ أمرهم أن يستمعوا له وينصتوا إذا قرئ عليهم لعلّهم يرحمون وأمر النبي (ص) أن يذكره تضرّعا وخيفة، ودون الجهر من القول بالغدوّ والآصال ونهاه أن يكون من الغافلين إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الأعراف"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأعراف» «1» أقول: مناسبة وضع هذه السورة عقب سورة الأنعام فيما ألهمني الله سبحانه: أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق، وقال فيها: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام: 2] وقال في بيان القرون كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام: 6] ، وأشير فيها إلى ذكر المرسلين، وتعداد كثير منهم، وكانت الأمور الثلاثة على وجه الإجمال، لا التفصيل، ذكرت هذه السورة عقبها، لأنها مشتملة على شرح الأمور الثلاثة وتفصيلها. فبسط فيها قصة خلق آدم أبلغ بسط، بحيث لم تبسط في سورة كما بسطت فيها «2» . وذلك تفصيل إجمال قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام: 2] ثم فصلت قصص المرسلين وأممهم، وكيفية إهلاكهم، تفصيلا تامّا شافيا مستوعبا، لم يقع نظيره في سورة غيرها «3» ، وذلك بسط حال القرون المهلكة ورسلهم، فكانت هذه السورة شرحا لتلك الآيات الثلاث. وأيضا، فذلك تفصيل قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام: 165] . ولهذا صدّر هذه السورة بخلق آدم الذي جعله الله في الأرض

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. [.....] (2) . انظر في قوله تعالى من وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الآية 11] . الى: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) . (3) . انظر من قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الآية 59] الى فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) .

خليفة «1» وقال في قصة عاد: جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الآية 69] وفي قصة ثمود: جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الآية 74] . وأيضا فقد قال تعالى في الأنعام: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 12] . وهو موجز، وبسطه هنا بقوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الآية 156] . إلى آخره. فبيّن من كتبها لهم. وأما وجه ارتباط أول هذه السورة باخر الأنعام فهو: أنه تقدم هناك: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] وقوله تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الأنعام: 155] فافتتح هذه السورة أيضا باتباع الكتاب في قوله جل شأنه: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الآية 2] إلى اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الآية 3] . وأيضا لمّا تقدم تعالى في الأنعام: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) . قال في مفتتح هذه السورة: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) . فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ [الآية 7] . وذلك شرح التنبئة المذكورة. وأيضا فلمّا قال سبحانه في الأنعام: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160] . وذلك لا يظهر إلا في الميزان، افتتح هذه السورة بذكر الوزن، فقال: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الآية 8] ثمّ ذكر من ثقلت موازينه، وهو من زادت حسناته على سيّئاته، ثمّ من خفّت موازينه، وهو من زادت سيّئاته على حسناته ثمّ ذكر بعد ذلك أصحاب الأعراف، وهم قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم.

_ (1) . انظر من الآية رقم (11) الى آخر الآية رقم (25) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الأعراف"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الأعراف» «1» 1- فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ [الآية 44] . في «تفسير أبي حيّان «2» » . قيل: هو إسرافيل. وقيل: جبريل. وقيل ملك غير معيّن. 2- وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ [الآية 46] . ورد في أحاديث مرفوعة أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم «3» . أخرجه ابن مردويه، وأبو الشيخ من حديث جابر بن عبد الله، والبيهقي في «البعث» من حديث حذيفة. وأخرجه سعيد بن منصور، وعبد الرزاق «4» ، وغيرهما عن حذيفة موقوفا «5» . وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفا. وأخرج الطبراني «6» من حديث أبي سعيد الخدري، والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعا، أنهم قوم قتلوا في سبيل الله، وهم عصاة لآبائهم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . «البحر المحيط» 4: 103. (3) . وهو قول جمهور المفسّرين. انظر «تفسير ابن كثير» 2: 216. (4) . والحاكم في «المستدرك» 2: 320. (5) . الموقوف: هو ما أضيف الى الصحابة رضوان الله عليهم ولم يتجاوز به الى رسول الله (ص) . انظر: «منهج النقد في علوم الحديث» : 326. (6) . في «المعجم الأوسط» و «الصغير» ، وفيه محمد بن مخلد الرعيني، وهو ضعيف. «مجمع الزوائد» 7: 23. وابن عساكر في «تاريخ دمشق» في ترجمة الوليد بن موسى. كما في «تفسير ابن كثير» 2: 217.

وأخرج البيهقي عن أنس مرفوعا: أنهم مؤمنو الجنة. وأخرج هو، وأبو الشيخ من طريق سليمان التيمي، عن أبي مجلز «1» : أنهم من الملائكة. قال سليمان: قلت لأبي مجلز: الله يقول: (رجال) ، وأنت تقول: (الملائكة) ! قال هم ذكور، ليسوا بإناث «2» . وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: هم قوم صالحون، فقهاء، علماء. وأخرج أيضا عن الحسن قال: هم قوم كان فيهم عجب. وأخرج عن مسلم بن يسار قال: هم قوم كان عليهم دين. وفي «العجائب» للكرماني: قيل: هم الأنبياء. وقيل: الملائكة. وقيل: العلماء. وقيل: الصّالحون. وقيل: الشّهداء، وهم عدول الاخرة. وقيل: قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم. وقيل قوم قتلوا في الجهاد عصاة لآبائهم «3» . وقيل: قوم رضي عنهم آباؤهم، دون أمّهاتهم وأمّهاتهم دون آبائهم. وقيل: هم الذين ماتوا في الفترة، ولم يبدّلوا دينهم. وقيل: أولاد الزنا. وقيل: أولاد المشركين. وقيل: المشركون. انتهى. 3- فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ [الآية 138] .

_ (1) . سليمان التيمي: هو ابن طرخان، من عبّاد أهل البصرة وصالحيهم، ثقة وإتقانا وحفظا وسنّة، توفي سنة (143) . وأما أبو مجلز فهو: لاحق بن حميد السدوسي البصري، ثقة توفي نحو عام (109) هـ. (2) . قال ابن كثير في «تفسيره» 2: 217: وهذا صحيح الى أبي مجلز، لاحق بن حميد أحد التابعين، وهو غريب من قوله، وخلاف الظاهر من السياق، وقول الجمهور مقدّم على قوله، بدلالة الآية على ما ذهبوا عليه وكذا قول مجاهد: إنهم قوم صالحون علماء فقهاء، فيه غرابة أيضا والله أعلم. (3) . في خبر أخرجه أحمد بن منيع، كما في «المطالب العالية» : (3623) .

قال قتادة: أتوا على لخم وجذام «1» . أخرجه ابن أبي حاتم. وأخرج عن أبي قدامة قال: سمعت أبا عمران الجوني، قال: هل تدري من القوم الذين مرّ بهم بنو إسرائيل يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ؟ قلت: لا أدري! قال: هم قومك: لخم وجذام. 4- وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ [الآية 142] . قال ابن عباس: ذو القعدة، وعشر ذي الحجة. أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عطاء عنه، وأخرج مثله عن أبي العالية، وغيره. 5- سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) . قال مجاهد: مصيرهم في الاخرة. وقال الحسن: جهنّم. أخرجهما ابن أبي حاتم. وقد تصفّحت الرواية الأولى على بعض الكبار، فقال: مصر. ذكره الحافظ أبو الفضل العراقي في «شرح ألفية الحديث» «2» . 6- وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ [الآية 163] . قال ابن عباس: هي «أيلة» «3» . أخرجه ابن أبي حاتم، من طريق عكرمة عنه. وأخرج من وجه آخر عن عكرمة عنه قال: هي قرية يقال لها: «مدين» «4» بين أيلة والطّور.

_ (1) . كان قوم «لخم» يعبدون المشتري، ويحجون الى صنم في مشارف الشام، يقال له: الأقيصر، ويحلقون رؤوسهم. وأما «جذام» - وهم أول من سكن مصر من العرب، حين جاءوا في الفتح مع عمرو بن العاص- فكانوا يعبدون أوثان قوم لخم نفسها. انظر «معجم قبائل العرب» لكحّالة: 174، 1012. (2) . والحافظ السخاوي في «فتح المغيث شرح ألفيّة الحديث» 3: 71، وقول المؤلّف: «على بعض الكبار» : هو يحيى بن سلام، البصري، ثمّ الإفريقي، المفسّر الفقيه، المولود سنة 124، والمتوفى سنة 200، أدرك نحو عشرين من التابعين، له «تفسير القرآن» قال ابن الجوزي: «ليس لأحد من المتقدّمين مثله» وتفسيره ذاك توجد منه أجزاء خطيّة في تونس والقيروان. انظر «الأعلام» للزّركلي 8: 148. [.....] (3) . أيلة: مدينة إيلات في جنوب فلسطين. انظر وصفها في «معجم البلدان» . (4) . مدين: على البحر الأحمر محاذية لتبوك.

وأخرج عن ابن شهاب قال: هي طبرية. وأخرج عن عبد الرحمن بن زيد بن أيلم قال: هي قرية يقال لها: «مقنا» بين مدين وعينونا «1» . 7- وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها [الآية 175] . قال ابن مسعود: هو بلعم بن أبراء «2» . أخرجه الطبراني وغيره «3» . وقال ابن عباس: بلعم. وفي رواية: بلعام بن باعر «4» ، من بني إسرائيل. أخرجه أبو الشيخ من طرق عنه. وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق العوفي عنه قال: هو رجل يدعى بلعم من أهل اليمن. وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم، عن عبد الله بن عمرو قال: هو أمية بن أبي الصّلت «5» . وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق قتادة، عن ابن عباس قال: هو صيفي بن الراهب. وأخرج عن الشعبي قال: ابن عباس: هو بلعم بن باعوراء. وتقول ثقيف: هو أمية بن أبي الصلت. وتقول

_ (1) . عينونا: قيل: هي من قرى بيت المقدس. وقيل: قرية من وراء البثنية من دون القلزم في طرف الشام وقال البكري: قرية يطأها طريق المصريين إذا حجوا. «معجم البلدان» . (2) . كذا في «الدر المنثور» و «الطبري» : «أبر» ، ولفظ الحاكم في «المستدرك» : «باعوراء» . وفي «تاريخ دمشق» لابن عساكر 10: 256: «ويقال: بلعام بن باعوراء. ويقال: ابن أبر ويقال: ابن اور، ويقال: ابن باعر، كان يسكن قرية من قرى البلقان، وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم، فانسلخ من دينه له ذكر في القرآن» . (3) . قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7: 25: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح» . وأخرجه أيضا: الطبري في «تفسيره» 9: 81، والحاكم في «المستدرك» 2: 325، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» 10: 266، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه. كما في «الدر المنثور» . (4) . انظر «الدر المنثور» 3: 145. (5) . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. كما في «مجمع الزوائد» 7: 25، وصحّح نسبته ابن كثير في «تفسيره» 2: 265، وقال «وكأنه إنّما أراد أن أمية بن أبي الصّلت يشبهه، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم ينتفع بعلمه، فإنه أدرك زمان رسول الله (ص) ، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته، وظهرت لكل من له بصيرة، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه، وصار الى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم ورثى اهل بدر من المشركين، بمرثاة بليغة، قبّحه الله، وقد جاء في بعض الأحاديث أنه ممّن آمن لسانه ولم يؤمن قلبه، فإن له أشعارا ربّانية، وحكما وفصاحة، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام» .

الأنصار: هو الراهب الذي بني له مسجد الشقاق. وأخرج عن قتادة قال: هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى، فأبى أن يقبله وتركه. وفي «العجائب» للكرماني: قيل: إنه فرعون. والآيات: آيات موسى. 8- وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) . هي هذه الأمّة. أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة من قوله، وعن الربيع بن أنس «1» مرفوعا إلى النبي (ص) مرسلا «2» . وأخرجه أبو الشيخ عن ابن جريج قال: ذكر لنا أن النبي (ص) قال: «هذه أمتي» . 9- يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [الآية 187] . سمّي منهم: حمل بن قشير، وشمويل بن زيد «3» . 10- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الآية 189] . الآية كلّها في آدم وحواء. كما أخرجه التّرمذي، والحاكم من حديث سمرة مرفوعا «4» . وأخرجه ابن أبيّ عن ابن عباس، وغيره.

_ (1) . الربيع بن أنس البكري، أو الحنفي، بصري، له أوهام في روايته الحديث، مات سنة (140) هـ. (2) . المرسل: ما رفعه التابعي، كقول التابعي: قال رسول الله (ص) . (3) . أخرجه ابن جرير 9: 93، وابن إسحاق، وابو الشيخ، عن ابن عباس. (4) . التّرمذي (3079) في التفسير، وقال: هذا حديث حسن غريب. ورواه التّرمذي أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، وعنه أخرجه الحاكم في «المستدرك» 2: 325 وصحّحه على شرط مسلم، وأقره الذهبي عليه، ولم أر رواية سمرة في «المستدرك» ، كما عزاها المؤلف اليه، والله أعلم.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الأعراف"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأعراف» «1» 1- قال تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الآية 2] . قالوا: الحرج الشكّ منه، كقوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [يونس: 94] . وسمي الشكّ حرجا، لأنّ الشاكّ ضيّق الصدر حرجه، كما أنّ المتيقّن منشرح الصدر منفسحه. أي: لا تشكّ في أنّه منزّل من الله، ولا تحرج من تبليغه «2» . أقول: والأصل في «الحرج» الضّيق، ولنتسع قليلا في «الحرج» فنقول الحرج والحرج الإثم، والحارج الإثم. والحرج والحرج والمتحرّج: الكافّ عن الإثم. ورجل متحرّج، كقولهم: رجل متأثّم ومتحوّب ومتحنّث، يلقي الحرج والحوب والإثم عن نفسه. قال الأزهري: وهذه حروف جاءت معانيها مخالفة لألفاظها. وأحرجه، أي: آثمه، والتحريج: التضييق. وفي الحديث: «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» . قال ابن الأثير: الحرج في الأصل الضيق، ويقع على الإثم والحرام، وقيل: الحرج أضيق الضيق، ومعناه أي لا بأس عليكم ولا إثم أن تحدّثوا عنهم ما سمعتم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السّامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . «الكشاف» 2: 85- 86.

وحرج صدره يحرج حرجا: ضاق فلم ينشرح لخير، فهو حرج وحرج فمن قال: حرج، ثنّى وجمع، ومن قال: حرج، أفرد لأنه مصدر. وقوله تعالى: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام: 125] وحرجا. قال الفرّاء: قرأها عمر وابن عبّاس، حرجا، وقرأ الناس: حرجا. أقول: فإذا فسّرنا الآية موضع بحثنا على «الشكّ» ، فذلك من كون أن الشاكّ ضيّق الصدر متحرّج غير منشرح، ومثل هذا كثير في العربية، ومنه الإصر، وغيره. 2- وقال تعالى وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) . والمعنى فجاءها بأسنا وهم بائتون، أو هم قائلون، فالمصدر بتأويل الحال، أي: بائتين. ومثل هذه الآية، قوله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) . والبيات: البيتوتة مصدر الفعل بات يبيت، وقالوا يبات. والبيتوتة مثل مصادر أخرى وهي الغيبوبة، والصيرورة، والسيرورة، والشيعوعة والقيمومة، والحيلولة، والطيرورة، وكذلك القيلولة. وكنت لحظت في أن هذه المصادر، تلمح إلى أن أصل الفعل الأجوف هو المضاعف الثلاثي ألا ترى أنّنا نقول ضير وضرّ وضرر، وغبّ وغيب، وجبّ وجيب ولو استقريت سائر هذه المواد بشيء من لطف الصنعة، لوصلت الى هذه النتيجة التي لمحناها. ثم ماذا عن القيلولة التي ترجع إليها كلمة «قائلون» في الآية؟ القائلة: الظهيرة، يقال: أتانا عند القائلة، وقد تكون بمعنى القيلولة أيضا، وهي النّوم في الظهيرة. وفي «المحكم» : أن القائلة نصف النهار، والقيلولة نصف النهار، وقال يقيل قيلا ومقالا ومقيلا، الأخيرة عن سيبويه. وكأن المعاصرين قد ابتعدوا قليلا حينما أضافوا كلمة «نوم» الى «القيلولة» ، فقالوا: نوم القيلولة، ويريدون بذلك نوم الظهيرة. 3- وقال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ

الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) . والمراد: وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها، والمعنى: والوزن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم الوزن الحقّ، أي: العدل. ومن ثقلت موازينه، أي: من رجحت أعماله الموزونة، وهي الحسنات فهو من المفلحين، ومن خفّت موازينه إشارة الى سيئاته، فقد خسر نفسه. أقول: وصف الحسنات وأعمال الخير بالثّقل حينما توزن تعبير جميل، ما زال أهل عصرنا يستخدمون شيئا منه فيقولون رجل ذو وزن، أي: ذو قدر عظيم ومكانة، ويقولون في دارجتهم العامّية، فلان موزون بالمعنى نفسه، ويقال في طائفة من الألسن الدارجة: هو ثقيل بإبدال القاف كافا ثقيلة «ثكيل» وبكسر الثاء، وهي لغة قديمة في فعيل، إنها لغة تميم. على أن الفصيحة تأبى الوصف ب «الثقيل» ، لهذا المعنى وهو: من رجحت موازينه، والثقيل في الفصيحة القديمة والمعاصرة البليد الجامد الحسّ. على أن الفصيحة قد شاع فيها «ثقل الموازين» ، لمن كثرت حسناته ورجحت أعماله الحسنة، ويحسن بنا أن نشير إلى أن «الخفيف» قد يكون صفة إيجابية في العربية الفصيحة، فيقال: فلان خفيف الظل، ويكون صفة غير مقبولة في الألسن الدارجة. فالرجل الخفيف هو غير الرزين العاقل المستحي، وهو الشعشاع غير المتأدّب المتحرّج. 4- وقال تعالى: قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) . المعنى: فما يصحّ لك ان تتكبّر فيها وتعصي. وهذا من لطيف استعمال الفعل «يكون» وهو شيء آخر غير «كان» ذات العمل الخاص، وهو رفع المسند إليه ونصب المسند. والمراد ب «الصاغرين» أهل الصّغار والهوان. والصّغار: الذّلّ والضّيم وكذلك الصّغر، والمصدر الصّغر بالتحريك وصغر فلان يصغر صغرا وصغارا فهو صاغر، إذا رضي بالضيم.

قال تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) [التوبة] . أي: أذلّاء. أقول: فرّق في العربية بين الفعل ذي الدلالة المحسوسة، والفعل ذي الدلالة المجرّدة أو المعنوية، فالصّغر ضد الكبر، وهو في الجسم والسن، والصّغر والصّغار، الذل والهوان، والفعل صغر في الأول، وصغر في الثاني. 5- وقال تعالى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الآية 17] . الأيمان جمع يمين وهو الجهة اليمنى، والشّمائل جمع شمال وهو الجهة اليسرى. وكذلك اليد اليمين، واليد الشّمال وفلان ينعم بيمينه، ويقبض بشماله. والشّمال: الطّبع، والجمع شمائل أيضا، والشّمال: الخلق. وقلّما نجد كلمة «الشمال» في كلامهم بل نجدها مفردة. على أن الشّمال قد وردت في الشعر، قال عبد يغوث بن وقاص: ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل، وما لومي أخي من شماليا وقال صخر بن عمرو الشريد أخو الخنساء: أبى الشّتم أنّي قد أصابوا كريمتي وأن ليس إهداء الخنى من شماليا وقال آخر: هم قومي وقد أنكرت منهم شمائل بدّلوها من شمالي أمّا الريح التي تهبّ من جهة الشمال فهي شمال، وشمأل وشأمل. 6- وقال تعالى: قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً [الآية 18] . وقوله تعالى: «مذءوما» من ذأمه إذا ذمّه. أقول: والذأم، مهموزا: الذّمّ ومثله الذّام. ومن هنا نلمح القرابة بين المهموز والأجوف والمضاعف، وكنا قد أشرنا إلى الصلة بين المضاعف والأجوف، ومنه الذّامّ والذّم. 7- وقال تعالى: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) . أي: وأقسم لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) .

فإن قلت: المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك، تقول: قاسمت فلانا: حالفته، وتقاسما، تحالفا، ومنه قوله تعالى: قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النّمل: 49] «1» . وأقسمت: حلفت: وأصله من القسامة. وقال ابن عرفة في قوله تعالى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) [الحجر] . هم الذين تقاسموا وتحالفوا على كيد الرسول (ص) والقسامة: الذين يحلفون على حقّهم ويأخذون. وفي الحديث: «نحن نازلون بخيف «2» بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» . وتقاسموا من القسم اليمين، أي تحالفوا، يريد لمّا تعاهدت قريش على مقاطعة بني هاشم وترك مخالطتهم «3» . أقول: لم يبق لنا من هذه الذخيرة اللغوية في العربية المعاصرة إلّا أقسم من الحلف، أي: اليمين أمّا اقتسم، وقاسم، وتقاسم فكلّه يرجع الى القسم، وهو القطع والقصّ، والقسم: الجزء. 8- وقال تعالى: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الآية 22] . أي: وجعلا يخصفان. وقد ورد الفعل طفق في قوله تعالى: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [طه: 121] . وفي قوله تعالى: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) [ص] . هذا كلّ ما نعرف عن استعمال «طفق» في العربية فلم يؤثر استعمالها في غير هذه الآيات الكريمة. وقالوا: طفق بالفتح لغة رديئة، وهي ملازمة لحالة المضيّ فلم يرد يطفق ولا المصدر، فهو نظير كرب، وحرى، وعسى، في أنها وردت جامدة على هذه الهيئة، وليس من أبنية أخرى. 9- وقال تعالى

_ (1) . «الكشاف» 2: 95. [.....] (2) . الخيف: ما انحدر من غلظ الجبل، وارتفع عن مسيل الماء. (3) . «اللسان» (قسم) .

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً [الآية 26] . و «الريش» : لباس الزينة استعير من ريش الطير، لأنه لباسه وزينته، أي: أنزلنا عليكم لباسين: لباسا يواري سوآتكم، ولباسا يزينكم. قرأ عثمان، رضي الله عنه: ورياشا، جمع ريش. أقول: والرّيش والرّياش: الخصب والمعاش والمال والأثاث واللباس الحسن الفاخر. وأكبر الظن، أنّ هذه المعاني قد جاءت من «الريش» في الآية الكريمة التي تفيد الزينة. والرّياش في عصرنا، تفيد ما يفرش من البسط والزرابيّ، ونحو ذلك. 10- وقال تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الآية 27] . المراد ب «قبيله» جنوده من الشياطين. والقبيل: الجماعة من الناس، يكونون من الثلاثة فصاعدا، من قوم شتّى كالزّنج والرّوم والعرب وقد يكونون من نحو واحد وربما كان القبيل من أب واحد كالقبيلة. وللقبيل دلالات أخرى هي: يقال: ما يعرف قبيلا من دبير: يريد القبل والدّبر. والقبيل: طاعة الرّبّ تعالى، والدبير معصيته. والقبيل: باطن الفتل والدبير ظاهره، أو ما أقبل به على الصدر، والدبير: ما أدبر به عنه. والقبيل: فوز القدح في القمار، والدبير: خيبة القدح. والقبيل: الكفيل والعريف. على أنّنا لا نملك من كلّ هذه المادّة في هذه الدّلالات إلّا شيئا واحدا، لا نجد له أصلا واضحا قديما وذلك قولهم مثلا: اجتمعت أشياء كثيرة في البيت، من أثاث ورياش ولباس وغير ذلك من هذا القبيل، أي من هذه الأشياء وما يشبهها. 11- وقال تعالى حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الآية 40] . الجمل معروف وهو الحيوان. ولنرجع إلى القراآت، فقد ذكر أنّ ابن عباس قرأ: (حتى يلج الجمّل) ، بضم فتشديد، وهي الحبال المجموعة. وروي عن أبي طالب أنه قال: رواه القرّاء (الجمّل) بتشديد الميم، قال: ونحن نظن أنه أراد التخفيف.

قال أبو طالب: وهذا لأن الأسماء إنما تأتي على فعل مخفّف، والجماعة تجيء على فعّل مثل صوّم وقوّم. قال أبو الهيثم: قرأ أبو عمرو والحسن وهي قراءة ابن مسعود: حتى يلج الجمل، مثل النّغر في التقدير. فأما الجمل بالتخفيف فهو الحبل الغليظ، وكذلك (الجمّل) مشدّد، وهما قراءتان لابن عبّاس. قال ابن جني: هو الجمل على مثال نغر، والجمل على مثال قفل، والجمل على مثال طنب، والجمل على مثال مثل. قال ابن برّي: وعليه فسّر قوله تعالى حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ، فأمّا الجمل فجمع جمل، كأسد وأسد. والجمل: الجماعة من الناس. وحكي عن عبد الله وأبيّ: حتى يلج الجمّل. أقول: لقد عدل عن الجمل، وهو الحيوان إلى الجمل والجمّل وهو الحبل الغليظ والعدول وجه مقبول. وأما الخياط فهو المخيط، والخياط بوزن فعال، من أوزان الآلة والأداة نحو الصّمام، والقناع، والعفاص، والوكاء، والسّداد واللّثام وكثير غير ذلك. ولعل هذا من الأبنية القديمة قبل أن يكون للالة أبنية قياسية هي: مفعل، ومفعلة، ومفعال نحو مبرد، ومجرفة، ومكسار. 12- وقال تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا [الآية 44] . قالوا: «أن» ، في قوله تعالى أَنْ قَدْ وَجَدْنا يحتمل أن تكون مخفّفة من الثقيلة، وأن تكون مفسّرة كالتي في الآية السابقة. وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ [الآية 43] . أقول: أن تكون مفسّرة أوجه، ذلك أنها تتصدّر الكلام الذي نودي به ولعلّهم جعلوها مخفّفة من الثقيلة، لأن الجملة التي جاءت بعدها قد صدّرت ب «قد» ، وعندهم أنّ المخففة إن وقع خبرها جملة فعلية، فلا يخلو: إما أن يكون الفعل متصرّفا أو غير متصرف، فإن كان غير متصرف لم يؤت بفاصل وإن كان متصرّفا غير دعاء، فصل بفاصل في الأكثر، والفاصل هو «قد» أو حرف التنفيس، أو حرف نفي، أو لو.

أقول: فلمّا سبق الفعل في الآية المذكورة «قد» ، ذهبوا إلى أنّ «أن» مخفّفة من الثقيلة. والذي يعضد أنها مفسّرة، ما ورد من الآيات التي صدرت بفعل النداء وهو: نادى، ونودوا، كما في الآية الثالثة والأربعين من هذه السورة، وقد أشرنا إلى ذلك، والآية السادسة والأربعين، من هذه السورة أيضا، وفيها قوله تعالى: وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ والآية الخمسين من السورة نفسها، وفيها قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ. 13- وقال تعالى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ [الآية 46] . «الأعراف» ، أعراف الحجاب، وهو السور المضروب بين الجنّة والنار، وهي أعاليه، جمع عرف، استعير من عرف الفرس وعرف الديك. أقول: وهذا من معالم الاخرة التي أثبتتها لغة التنزيل كالصّراط وعلّيّين، وغيرهما. 14- وقال تعالى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ [الآية 46] . السيما: هي العلامة التي أعلمهم الله تعالى بها. وقد جاءت «السيما» في ست آيات من سور مختلفة بهذا المعنى الذي ذكرناه، ومنها: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح: 29] . ولقد أدرج أهل المعجمات «السيما» في «سوم» وقالوا فيها: والسّومة والسّيمة والسّيماء والسّيمياء: العلامة، وسوّم الفرس: جعل عليه السيّمة، أي: العلامة، وقالوا: إنّ «السّيما» ياؤها واو. وللكلمة عدّة صيغ، ومنها المدّ «سيماء» وهي لغة. قلت: أدرج أهل المعجمات هذه الكلمة في «سوم» ، وهي ألصق ب «الوسم» وليس شيئا أن يحدث القلب في الأصوات في الكلمات العربية، ألا ترى أنهم قالوا: ساوى وواسى مثلا «1» . 15- وقال تعالى:

_ (1) . لقد لمح الغربيون المستعربون أن «سيما» قد تكون من «» اليونانية، وتعني العلامة، ومنها أخذ وو يراد بالأولى علم الدلالة، وبالثانية علم دلالة الألفاظ.

حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ [الآية 57] . قال الزمخشري «1» : سحائب ثقالا بالماء جمع سحابة. والضمير في «سقناه» يرجع للسحاب على اللفظ، ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث كما لو حمل الوصف على اللفظ لقيل ثقيلا. أقول: السّحاب في العربية يراعى فيه اللفظ في الغالب، أي: أنه مفرد كالماء والهواء، وإن كان في الحقيقة شيئا لا يتبيّن فيه الإفراد من الجمع، وهو شيء كثير كالغمام والماء والهواء، ولكثرته روعي المعنى في الآية، فجاء الوصف «ثقالا» ، بصيغة الجمع. ثم جاء الضمير فعاد على السحاب في لفظه المفرد، فبدا هذا النمط الخاص في الآية من المراعاة. أقول: هذه من خصائص لغة القرآن التي احتفظت بخصائص العربية القديمة. 16- وقال تعالى: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) . «الملأ» في الآية تعني: الأشراف والسادة، وقيل: الرجال ليس معهم نساء. وسمّوا بذلك لأنهم ملاء بما يحتاج إليه. أقول: ولنا أن نقول إن الفعل ملؤ يملؤ ملاءة فهو مليء، أي: صار مليئا، أي: ثقة. هذا هو المليء وهو ليس بعيدا من جماعة «الملأ» ، ولكن المعاصرين استعملوه بمعنى «ملئان» و «مملوء» . 17- قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ [الآية 61] . أقول إن كلمة «قوم» منادى مضاف إلى ياء المتكلم، فهو «يا قومي» ، غير أن العربية في أدائها السليم، تفرض أن يجتزأ بالكسرة عن المدّ الطويل وهو الياء، وأرى أن ذلك بسبب طول الكلمة، فأداة النداء «يا» ، تشتمل على مدّ طويل، يكون هو والمنادى تركيبا طويلا لا يحتمل الياء الأخيرة، فقصر المدّ، واكتفي بالكسرة، ومثله: يا ربّ، ثم استحسن هذا الحذف فبقيت «ربّ» في لغة الدعاء مع حذف «يا» منها.

_ (1) . «الكشاف» 2: 111.

18- وقال تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) . لم يجئ الجمع «عميا» جمع أعمى، ولا عميانا، وإنما جاء «عمين» جمعا ل «عم» ، وهو الصفة على «فعل» ، لتجمع بالياء والنون على شاكلة أواخر الآيات (الفواصل) ، مختومة بالنون. فقد جاءت الفواصل بالنون فهي ترحمون، وتعلمون، وتفلحون وغيرها. وقالوا: وقرئ عامين، وقالوا: إن «العمي» يدلّ على عمى ثابت، والعامي على عمى حادث. ومن النادر أن يأتي الوصف على «فاعل» من الفعل اللازم على «فعل» مثل «فرح» فهو ضجر ولا يقال ضاجر، وهو طرب ولا يقال طارب، وهو حزن ولا يقال حازن، ولكنهم قالوا: عام وعم على السواء وهذا من لطائف العربية. 19- وقال تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) . الآلاء: النّعم، والمفرد ألى وإلى وإلي. والعجيب أن الكلمة لا نراها إلا جمعا فأمّا قول الأعشى: أبيض لا يرهب الهزال ولا يقطع رحما، ولا يخون إلا فنادر، لا نجد له شاهدا آخر، وقال فيه ابن سيده: يجوز أن يكون «إلا» هنا واحد آلاء الله، ويجوز ان يكون مخفّفا من الإلّ الذي هو العهد. أقول: وقد يشيع في العربية الجمع، وينسى المفرد نحو «أرجاء» ، وقلّما يوجد «رجا» مستعملا، ومثله «آناء» كآناء الليل، وقلما نجد «إنّى» وهو المفرد. 20- وقال تعالى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [الآية 65] . قال الزمخشري: و «أخاهم» عطف على «نوحا» . أقول: كيف يجوز عطف على معطوف عليه قبله بكلام طويل، أي في قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ (59) . والذي أراه أن «أخاهم» في الآية الخامسة والستين، منصوب بفعل محذوف للعلم به، وهو «أرسلنا» ، فكأننا نقرأ: وإلى عاد أرسلنا أخاهم هودا. ونستطيع أن نقول مثل هذا في قوله تعالى:

وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [الآية 73] أي: أرسلنا أخاهم صالحا. 21- وقال تعالى: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) . قرأ جميع القراء «تعثوا» بفتح الثاء من عثي يعثى عثوّا، وهو أشدّ الفساد. وفي الفعل «عثي» لغتان: هما عثا يعثو عثوّا، وعاث يعيث عيثا، ولم يقرأ بهما. أقول: وليس لنا من هذا الفعل في العربية المعاصرة إلّا عاث يعيث. وحقيقة عثي يعثى، مقلوب عاث يعيث، كما قال كراع. ولكنهم قالوا: إن اللغة الجيدة عثي يعثى. وقد كنا عرضنا لهذا الفعل في آية سابقة. 22- وقال تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) . أي: من الذين غبروا في ديارهم، أي: بقوا فهلكوا، والتذكير لتغليب الذكور على الإناث. وغبر الشيء يغبر غبورا: مكث وذهب وغبر الشيء: بقي. والغابر: الباقي، والغابر: الماضي. ومن هنا قالوا: هو من الأضداد. أقول: ولعلّ هذا كلّه جاء من أنّ الغابر، باقيا أو ماضيا، إنّما يكون سائرا عابرا: أي: متحرّكا. ومن هنا كانت العلاقة بين غبر، وعبر علاقة أصيلة. 23- وقال تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) . أي: ربّنا احكم بيننا، والفتاحة الحكومة، أي الحكم بين المتخاصمين، أو أظهر أمرنا حتّى يتفتّح ما بيننا وبين قومنا. أقول: وهذا من الكلم الشريف الذي اشتملت عليه لغة القرآن، والفتّاح، من صفة الله، هو الحاكم. وهو الفتّاح العليم. والفتّاح من أسماء الله تعالى الحسنى. وفي حديث ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله- عزّ وجلّ-: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا حتّى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي: أحاكمك، ومنه: «لا تفاتحوا أهل القدر» ، أي: لا تحاكموهم. أقول: وليس في عربيّتنا المعاصرة

شيء من هذا، فهل أدركنا ضعف هذه اللغة التي صرنا إليها؟ فكيف يراد لها أن تكون لغة العصر والحضارة الجديدة، بغير الجد والعمل الدائب والرجوع الى الأصول! 24- وقال تعالى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الآية 105] . قال الزمخشري «1» : حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، فيه أربع قراءات: المشهورة، وحقيق عليّ أن لا أقول، وهي قراءة نافع، وحقيق أن لا أقول، وهي قراءة عبد الله، وحقيق بأن لا أقول، وهي قراءة أبيّ. وفي القراءة المشهورة إشكال، ولا تخلو من وجوه: أحدها: أن تكون مما يقلب من الكلام لأمن الإلباس كقوله: نزلت بخيل لا هوادة بينها ... وتشقى الرّماح بالضّياطرة الحمر ومعناه: وتشقى الضياطرة بالرّماح. والثاني: أن ما لزمك فقد لزمته، فلما كان قول الحق حقيقا عليه، كان هو حقيقا على قول الحق، أي: لازما له. والثالث: أن يضمّن «حقيق» معنى حريص كما ضمّن «هيّجني» معنى «ذكّرني» في بيت الكتاب «2» . والرابع: وهو الأوجه والأدخل في نكت القرآن: أن يغرق موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام، ولا سيما وقد روي أن عدو الله فرعون قال له لما قال: «إني رسول من ربّ العالمين» : كذبت، فيقول: أنا حقيق على قول الحق، أي: واجب علي قول الحق، أن أكون أنا قائله والقائم به، ولا يرضى إلّا بمثلي ناطقا به. 25- وقال تعالى: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ [الآية 124] . «من خلاف» ، أي من كل شقّ طرفا، وهذا يعني قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى. فكلمة «الخلاف» مصطلح تاريخي خاص.

_ (1) . «الكشاف» 2: 137- 138. (2) . البيت هو: إذا تغنّى الحمام الوزق هيّجني، ... وإن تغيّبت عنها، أمّ عمّار

26- وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ [الآية 130] . المراد ب «السنين» سنين القحط. والسنة من الأسماء الغالبة كالدّابّة والنجم، ونحو ذلك وقد اشتقوا منها، فقالوا: أسنت القوم، بمعنى أقحطوا. أقول: إن دلالة «السنة» على القحط، وصيرورتها من الأسماء الغالبة كالدّابة والنّجم، إنما جاءت في الأصل من الوصف أو الإضافة، كأن يقال: سنة شديدة أو سنة قحط، ثم جرّدت من الوصف أو الإضافة للعلم بها وشيوعها، فصارت «سنة» ، وقد يشير الى صحة هذا التعليل ما يقال لدى العامة من أن «السنة سنة» ، يريدون بها سنة شديدة تأخذ بخناقهم. قال، وقد اشتقوا منها: أسنت القوم بمعنى أقحطوا وقد كنا أشرنا إلى هذا. قلت: ومن ذلك قول ابن الزّبعرى: عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكّة مسنتون عجاف ولنسرّح الطرف في سعة هذه المفردة الغنية، فماذا فيها؟: قالوا: أسنى القوم إذا أقاموا سنة في موضع. ويقال: تسنّت فلان كريمة آل فلان، إذا تزوّجها في سنة القحط. وجاء في «الصحاح» : يقال تسنّتها إذا تزوّج رجل لئيم امرأة كريمة لقلّة مالها، وكثرة ماله. والسّنتة والمسنتة: الأرض التي لم يصبها مطر فلم تنبت. قال أبو حنيفة: فإن كان بها يبيس من يبيس عام أوّل، فليست بمسنتة ولا تكون مسنتة حتى لا يكون بها شيء. وعام سنيت ومسنت: جدب. وسانتوا الأرض: تتبّعوا نباتها. أقول: وإذا كانت العربية قد أفادت من التاء في «السنة» فولدت هذه الفوائد الكثيرة، فقد أفادت من «الهاء» «1» ،

_ (1) . أقول: إن الفوائد اللغوية التي عرضنا لها، قد جاءت استفادة من هاء التأنيث لا من «الهاء» ، التي زعم اللغويون أنها من أصل «سنة» الذي هو «سنهة» فكما استفيد من التاء فجاءت «أسنت» وغيرها من الفوائد، كذلك استفيد من الهاء، علامة التأنيث في توليد فوائد أخرى.

وهي نظيرة التاء، وكلاهما علامة تأنيث فولّدت فوائد أخرى هي هذه: قالوا: سنهت النخلة وتسنّهت إذا أتى عليها السّنون. ولقد ابتعد اللغويون المتقدّمون في النظر الى المواد الثنائية، مثل شفة وسنة وعضة وغيرها وزعموا أنها ثلاثية حذفت لامها، واللام إما هاء وإما واو على خلاف بينهم، ولذلك قالوا: تسنّهت فجعلوا اللام هاء، وقالوا تسنّيت عنده إذا أقمت عنده سنة، وكأن اللام واو لقولهم في التصغير سنيّة، وفي الجمع سنوات، والذي ذهب الى الهاء قال: سنيهة في التصغير وسنهات في الجمع. وعندي، أنّ الفوائد اللغوية التي جاءت فيها الهاء، قامت على اعتبار هاء التأنيث أصلا، كما عدّت التاء أصلا، وهي للتأنيث. وكما قالوا تسنّهت عنده، قالوا تسنّيت إذا أقمت عنده سنة. وقالوا: سانهه مسانهة وسناها، أي: عامله بالسنة أو استأجره لها. وسانهت النخلة، وهي سنهاء: حملت سنة ولم تحمل أخرى، قال سويد بن الصامت: فليست بسنهاء ولا رجّبيّة ... ولكن عرايا في السنين الجوائح والسّنهاء: التي أصابتها السنة المجدبة، وقد تكون النخلة التي حملت عاما ولم تحمل آخر، وقد تكون التي أصابها الجدب، وأضرّ بها فنفى ذلك عنها. وقالوا: طعام سنه وسن إذا أتت عليه السّنون وسنه الطعام والشراب سنها وتسنّة: تغيّر، وقال تعالى: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة: 259] . والتّسنّه: التّكرّج الذي يقع على الخبز، والشّراب وغيره. وقرئت الآية: (لم يتسنّ) لمن نظر الى أنّ الواو هي لام الكلمة في الأصل. وكثير من هذا قد كنا أشرنا إليه في آيات سابقة. 27- وقال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الآية 131] .

يطّيّروا، أي: يتطيّروا، أي: يتشاءموا. و «طائرهم عند الله» أي: سبب خيرهم وشرّهم عند الله. وأصل الطائر: ما تيمّنت به أو تشاءمت، وأصله في الجناح. وقالوا للشيء يتطيّر به من الإنسان وغيره: طائر الله لا طائرك. فرفعوه على إرادة: هذا طائر الله، وفيه معنى الدعاء، وإن شئت نصبت أيضا. وقال ابن الأنباري: معناه فعل الله لا فعلك وما تتخوّفه. وقال اللّحياني: يقال: طير الله لا طيرك، وطائر الله لا طائرك، وصباح الله لا صباحك. قال: يقولون هذا كلّه إذا تطيّروا من الإنسان، والنصب على معنى: نحبّ طائر الله، وقيل بنصبهما على معنى أسأل الله طائر الله لا طائرك. والمصدر: الطّيرة. وجرى له الطائر بأمر كذا، وقال عزّ وجلّ: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الآية 131] المعنى ألا إنّما الشؤم الذي يلحقهم، هو الذي وعدوا به في الاخرة، لا ما ينالهم في الدنيا. ومن هنا كان الطائر الحظّ، وطائر الإنسان عمله الذي قلّده، وقيل: رزقه وهذا يعني، أن الطائر يكون الحظّ في الخير والشر. وفي حديث أمّ العلاء الأنصارية: اقتسمنا المهاجرين، فطار لنا عثمان بن مظعون، أي: حصل نصيبنا منهم عثمان. ومنه حديث رويفع: إن كان أحدنا في زمان رسول الله (ص) ، ليطير له النصل، وللآخر القدح. معناه: إن الرّجلين كانا يقتسمان السّهم فيقع لأحدهما نصله، وللآخر قدحه. وطائر الإنسان: ما حصل له في علم الله مما قدّر له ومنه الحديث: «بالميمون طائره» ، أي: بالمبارك حظّه. ويجوز أن يكون أصله من الطير السانح والبارح. وقوله- عز وجل- وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: 13] . قيل: حظّه، وقيل: عمله. أقول: ولقد أمدّ «الطير» ، وهو من المخلوقات المعروفة العربية بقدر من الفوائد، ذلك أنّهم قرنوا بعضها بالخير

وبعضها بالشر، فكان السانح منها وكان البارح، والسانح ما أتى عن يمينك من ظبي أو طائر، وهو أمارة يمن وخير والبارح ما أتاك من ذلك عن يسارك، وهو أمارة شؤم وشر. 28- وقال تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) . «إذا هم ينكثون» جواب «لمّا» ، يعني فلما كشفناه عنهم فأجاءوا «1» النكث، وبادروا لم يؤخّروه، ولكن لمّا كشف عنهم نكثوا. أقول: جاءت الجملة الاسمية من المبتدأ والخبر بعد «إذا» الفجائية، وعلى هذا جرى أسلوب لغة التنزيل. ثم جدّ في العربية منذ أزمان قولهم: خرجت فإذا به ماش في الطريق، والجديد المولّد هو خفض الضمير بالباء وهذا هو الأسلوب المتّبع في العربية المعاصرة. ومثل هذه الآية، قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) . 29- وقال تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) . «إنّ هؤلاء» ، أي: عبدة الأصنام الذين مرّ بهم بنو إسرائيل، ورأوهم يعكفون على أصنام لهم فسألوا موسى (ع) أن يجعل لهم إلها كما لهؤلاء آلهة، فقال كما ورد في التنزيل: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ، أي: مدمّر مكسّر ما هم فيه، من قولهم: إناء متبرّ إذا كان فضاضا، أي: فتاتا، أو يقال لكسار الذهب: تبر. والمعنى: يتبّر الله ويهدم دينهم الذي هم عليه. وفي حديث علي (ع) عجز حاضر ورأي متبرّ، أي: مهلك، والتّبار الهلاك. وقال- عزّ وجلّ- وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) [الفرقان] . 30- وقال تعالى: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الآية 144] . والمعنى اخترتك على أهل زمانك وآثرتك عليهم برسالاتي وبكلامي. والاصطفاء: الاختيار، واصطفاه اختاره، وهو افتعال من الصّفوة، ومنه النبيّ المصطفى- صلوات الله عليه- أي: اصطفاه ربّه، أي: اختاره.

_ (1) . أجاءوا: جاءوا به.

والصفوة، مثلثة الصاد، خيار كل شيء. وقد كان مع الاختيار في الآية الإيثار، وما أرى ذلك إلا من استعمال الخافض «على» . وقد جاء الاصطفاء بمعنى الاختيار مع الإيثار، باستعمال الخافض في عدة آيات هي: قال تعالى: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) [الصافات] . وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) [آل عمران] . قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 247] . ونجد هذا الفعل بمعنى الاختيار دون الإيثار، وذلك لخلوّ الآيات من حرف الخفض «على» كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ [آل عمران: 42] . إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة: 132] . قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: 59] . لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ [الزمر: 4] . ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: 32] . وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا [البقرة: 130] . اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75] . وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) [ص] . 31- وقال تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) . والمعنى: ولما اشتدّ ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل، لأنّ من اشتدّ ندمه وحسرته، يعضّ يده غمّا، فتصير يده مسقوطا فيها. أقول: وسقط في أيديهم بمعنى وقع البلاء في أيديهم، أي: وجدوه وجدان من يده فيه، يقال ذلك للنادم عند ما يجده مما كان خفي عليه، ويقال: سقط في يده وأسقط، وبغير الألف أفصح. وقيل، معناه: صار الذي كان يضربه، ملقّى في يده. أقول: وهذا من جملة أفعال جاءت

على بناء المفعول مثل: حمّ وغمّ وهرع وهزل وغيرها، وهي مسندة إلى الفاعل في الحقيقة. 32- وقال تعالى: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي [الآية 150] . «ابن أمّ» ، منادى حذفت منه أداة النداء، وقرئ بالفتح تشبيها بخمسة عشر، وبالكسر على طرح ياء الإضافة وابن أمي بالياء، وابن إمّ بكسر الهمزة والميم. أقول: قولهم تشبيها بخمسة عشر، أرادوا بها أن «ابن» و «أم» ، قد اتّحدا بالإضافة، فكأنّهما ركّبا تركيبا لازما وقد جرت العربية في المركّبات على تحريكهما بالفتح نحو: بين بين، وصباح مساء، وبيت بيت، وبابا بابا، وهرج مرج، وشذر مذر وغير ذلك. ولا أريد أن أقول كما قال الأقدمون: إنّهم اختاروا الفتحة لخفّتها، ولكن أقول: كذا درجوا عليه، وكذا وردت لغتهم. 33- وقال تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ [الآية 154] . قال أهل اللغة المراد ب «سكت الغضب» سكن الغضب، وهو قول الزجّاج. وقال المفسّرون يجوز أن يكون المعنى على القلب، أي: سكت موسى عن الغضب كما تقول: أدخلت القلنسوة في رأسي، والمعنى أدخلت رأسي في القلنسوة. أقول: إطلاق السكوت على هدوء الغضب من الاستعارات الجميلة التي حفلت بها لغة التنزيل، فلا حاجة إلى هذا التخريج. 34- وقال تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الآية 155] . والمعنى: من قومه سبعين رجلا، فحذف الجار، فأوصل الفعل إلى الاسم، كقوله: ومنّا الذي اختير الرجال سماحة وجودا إذا هبّ الرّياح الزعازع أي: ومنّا الذي اختاره الناس من بين الرجال، ف «الرجال» نصب على نزع الخافض. أقول: إن مسألة نزع الخافض يمكن أن نفسر بها مجيء الأفعال اللازمة التي تأتي متعدية أيضا، فقولهم: التقاه لا بد أن يكون أصله

التقى به. ثم نزع الخافض فأوصل الفعل الى الضمير. ولعل الكثير من الأفعال المتعدية كانت لازمة في الأصل، ثم صير الى هذه الطريقة التماسا للخفة التي آلت إلى الإيجاز. 35- وقال تعالى وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الآية 156] . والمعنى لقوله تعالى هُدْنا إِلَيْكَ تبنا إليك، وهو قول مجاهد، وسعيد بن جبير، وإبراهيم. قال ابن سيدة: عدّاه بإلى لأنّ فيه معنى «رجعنا» ، وقيل: معناه تبنا ورجعنا وقربنا من المغفرة، وكذلك قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ [البقرة: 54] . أقول: وليس لأهل اللغة أن يعقدوا صلة بين هذا الفعل وبين الفعل «هادوا» في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا [البقرة: 62، والمائدة: 69، والحج: 17] ، ذلك بأن هذا الفعل الأخير يرجع الى «يهود» ، وهو اسم قبيلة نسب إليها اليهود. ولنعد الى مادة «هاد يهود» التي وردت في الآية في كلامنا عليها فنقول: المتهوّد: المتوصّل بهوادة إليه، وهو المتقرّب. والتهويد والتّهواد والتهوّد: الإبطاء في السّير واللين والترفّق. والتهويد: المشي الرّويد كالدّبيب ونحوه، وهو السّير الرفيق. وفي حديث ابن مسعود: «إذا كنت في الجدب، فأسرع السير ولا تهوّد» . أي: لا تفتر، وكذلك التهويد في المنطق، وهو الساكن، يقال: غناء مهوّد، قال الراعي: وخود من اللائي تسمّعن بالضّحى ... قريض الرّدافى بالغناء المهود والتهويد أيضا النوم. وتهويد الشراب: إسكاره. وهوّده الشراب إذا فتّره فأنامه، وقال الأخطل: ودافع عنّي يوم جلّق غمزه ... وصمّاء تنسيني الشراب المهوّدا أقول: إن معنى «هاد» في الآية بمعنى التوبة أو الرجوع في قوله تعالى: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ، واستفيد هذا المعنى من التضمين، الذي دلّ عليه الخافض «إلى» ، فقد نقل من «السير» وهو المعنى القديم، إلى «التوبة» وهي

«الرجوع» أيضا، فاقتضى استعمال «إلى» . ولمّا كان أصل المعنى السير والترفق، فهو قريب من الفتور، فقالوا: «هوّد الشراب» . ألا ترى أن في ذلك شيئا من مقلوب «هدأ» مثلا؟ ثم من المفيد أن نذكر أن العامة في الحواضر العراقية يقولون: «هوّد الألم» ، في الكلام على الجراحات والأوجاع. 36- وقال تعالى: وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً [الآية 160] . والمراد ب «الأسباط» القبائل، ومن أجل ذلك قيل: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مطابقة. وحقيقة الأسباط أولاد الولد جمع سبط، والسبط مذكر، ولكنه أريد به القبيلة، وهم أسباط اليهود من ولد يعقوب (ع) . 37- وَقُولُوا حِطَّةٌ [الآية 161] . وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ [البقرة: 58] . وقال الزجّاج: معناه قولوا مسألتنا حطّة، أي: حطّ ذنوبنا عنّا، أو أمرنا حطّة، قال: ولو قرئت (حطّة) بالنصب كان وجها في العربية، كأنه قيل لهم: قولوا احطط عنّا ذنوبنا حطّة، فحرّفوا هذا القول وقالوا لفظة غير هذه اللفظة التي أمروا بها، وجملة ما قالوا أنّه أمر عظيم، سمّاهم الله به فاسقين. وقال الفرّاء: قولوا ما أمرتم به حطّة، أي: هي حطّة، فخالفوا إلى كلام بالنّبطية، فذلك قوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة: 59] . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنهم قالوا «حنطة» حينما بدّلوا. 38- وقال تعالى: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً [الآية 163] . والمعنى إذ يتجاوزون حدّ الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه، وأمروا بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة. والسّبت: مصدر سبت اليهود، إذا عظّموا سبتهم بترك الصيد والاشتغال بالتعبّد. أقول: السبت من الكلم السامي

القديم، الذي أفادت منه العربية، ودخل في عداد الكلمات المتصرّفة، فكان منه الفعل والمصدر. 39- وقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ [الآية 167] . قوله تعالى: تَأَذَّنَ رَبُّكَ بمعنى عزم ربّك، وهو «تفعّل» من الإيذان وهو الإعلام، لأنّ العازم على الأمر يحدّث نفسه به، ويوذنها بفعله، وأجري مجرى فعل القسم، كعلم الله وشهد الله، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم، وهو قوله تعالى لَيَبْعَثَنَّ، والمعنى: وإذ حتم ربّك، وكتب على نفسه، ليبعثنّ على اليهود إلى يوم القيامة «1» . 40- وقال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) . قوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ بمعنى قلعناه ورفعناه، كقوله سبحانه: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة: 63] . ومنه نتق السّقاء، إذا نفضه ليقتلع الزّبدة منه «2» . أقول: وهذا من الكلم العربي القديم الذي حفظته لغة القرآن. قالوا: نتقت الغرب من البئر، أي: جذبته بمرّة. وفي الحديث في صفة مكّة والكعبة: أقلّ نتائق الدنيا مدرا. والنّتائق جمع نتيقة، فعيلة بمعنى مفعولة من النّتق، وهو أن يقلع الشيء فيرفعه من مكانه ليرمي به. هذا هو الأصل، وأراد بها هاهنا البلاد لرفع بنائها وشهرتها في موضعها. 41- وقال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) . قوله تعالى: فَهُوَ الْمُهْتَدِي حمل على اللفظ، وقوله سبحانه فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، حمل على المعنى. أقول: يريد أن لفظ «من» مفرد في وضعه، جمع في معناه.

_ (1) . «الكشاف» 2: 173. (2) . المصدر نفسه 2: 175.

والحقيقة أن لفظ «من» يكون مفردا وجمعا في المعنى. وكأن الآية حين حمل الجزء الأخير منها على المعنى، فجاء قوله تعالى فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، كان ذلك مراعاة للسياق الذي درجت عليه السورة، فالفواصل كلها بالنون، ومن أجل ذلك حمل على المعنى. 42- وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الآية 180] . قوله تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ، أي واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيها، فيسمّونه بغير الأسماء الحسنى. أقول: اشتهر الإلحاد بأنه الكفر بالله، والإشراك به والشك فيه، وهذا مجاز، حقيقته الميل والعدول عن الشيء، وقد جاء في الآية على الحقيقة. ويعرض للألفاظ ان يشتهر فيها المجاز، وتترك الحقيقة هذا كثير، نتبيّنه في جمهرة كبيرة من الكلم. 43- وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) . قوله تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ، أي سنستدنيهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم، ونضاعف عقابهم. أقول: و «الاستدراج» من الكلم المعروف في اللغة المعاصرة، ويراد به استدناء المرء بضرب من الحيلة والمخادعة، لأخذه بشيء، والإفادة منه. 44- وقال تعالى: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها [الآية 187] . السؤال عن الساعة وعن موعدها، وقوله تعالى كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها معناه: كأنك عالم بها. وحقيقته: كأنك بليغ في السؤال عنها، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه، استحكم علمه فيه ورصن وهذا التركيب، معناه المبالغة. ومنه إحفاء الشارب، واحتفاء البقل: استئصاله. وأحفى في المسألة إذا ألحف. وحفى بفلان وتحفّى به: بالغ في البرّ به «1» وجاء في «الانتصاف» «2» : وفي

_ (1) . «الكشاف» 2: 184. (2) . «الانتصاف» لأحمد المنير الإسكندري، حاشية على «الكشاف» 2: 184.

هذا النوع من التكرير نكتة لا تلفى إلّا في الكتاب العزيز ... وذاك أن المعهود في أمثال هذا التكرير أن الكلام إذا بني على مقصد، واعترض في أثنائه عارض، فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول، وقد بعد عهده، طرّي بذكر المقصد الأول لتتصل نهايته ببدايته، وقد تقدّم لذلك في الكتاب العزيز أمثال، وهذا منها، فإنه لما ابتدأ الكلام بقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، ثم، اعترض ذكر الجواب المضمّن في قوله سبحانه: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، إلى قوله بَغْتَةً، أريد تتميم سؤالها عنها بوجه من الإنكار عليهم، وهو المضمّن في قوله جلّ وعلا: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها وهو شديد التعلق بالسؤال، وقد بعد عهده فطرّي ذكره تطرية عامة ولا نراه أبدا يطرى إلا بنوع من الإجمال، كالتذكرة للأوّل مستغنى عن تفصيله بما تقدّم، فمن ثمّ قيل: يَسْئَلُونَكَ، ولم يذكر المسؤول عنه وهو الساعة، اكتفاء بما تقدم، فلما كرّر السؤال لهذه الفائدة، كرّر الجواب أيضا مجملا، فقيل: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ. أقول: واستعمال «حفيّ» في العربية المعاصرة يكون بتطلّبه الباء حرف جر بعده، فيقال: هو حفيّ بما فاز به. 45- وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) . قوله تعالى: فَلا تُنْظِرُونِ بكسر النون، اجتزئ بالكسرة عن الياء. لم يكن ذلك من خطّ المصحف الذي جرى على نمط خاص، وإنما كان ذلك لسبب صوتي، هو أنّ أواخر الآيات قد ختمت بالنون في الأسماء والأفعال نحو الشاكرين وصامتين والصالحين ويؤمنون ويشركون وغيرها وإنما حرّكت النون في هذه الآية بالكسرة، كي يستغنى عنها عند الوقف على آخر الآية، فتكون كسائر الفواصل الأخرى ولا يتأتّى ذلك، لو أثبتت الياء. وإذا كان هذا هو السبب في حذف الياء والاستغناء عنها بالكسرة، فما السبب في حذف الياء في الذي يسبق قوله تعالى: فَلا تُنْظِرُونِ، وهو قوله سبحانه: كِيدُونِ؟ الجواب عن هذا: أن الياء حذفت استحسانا لتأتي الكلمة مشاكلة للكلمة الأخرى التي ختمت بها الآية قوله: فَلا تُنْظِرُونِ. والمشاكلة في الأصوات كثيرة في لغة التنزيل، وهي تؤدي غرضا صوتيا

يرمي الى حسن الأداء والتلاوة. 46- وقال تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) قال الزمخشري «1» : «العفو» ضد الجهد، أي: خذ ما عفا لك من أفعال الناس، وأخلاقهم، وما أتي منهم، وتسهّل من غير كلفة، ولا تداقّهم، ولا تطلب منهم الجهد وما يشقّ عليهم حتى لا ينفروا كقوله (ص) : يسّروا ولا تعسّروا. قال الشاعر: خذي العفو منّي تستديمي مودّتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب وقيل: خذ الفضل وما تسهّل من صدقاتهم. أقول: والعفو بهذه الخصوصية المعنوية أصل المعنى، وقولنا: عفو الخاطر، ما جاء سهلا على البديهة من غير قصد ولا رويّة. 47- وقال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الآية 200] . والمعنى وإما ينخسنّك منه نخس، بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به، فاستعذ بالله. أقول: النزغ والنخس والنّسغ واحد، وكذلك الندغ. ونزغه: طعنه بيد أو رمح. ونسغت الواشمة بالإبرة. والنغز في الألسن الدراجة كالنسغ بالإبرة، وهو منه على القلب والإبدال. 48- وقال تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها [الآية 203] . واجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه، أي: جمعه، أو جبي إليه فاجتباه، أي: أخذه. ومعنى قوله تعالى لَوْلا اجْتَبَيْتَها: هلا اجتمعتها، افتعالا من عند نفسك، لأنهم كانوا يقولون: ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً [سبأ: 43] أو هلّا أخذتها منزلة عليك مقترحة؟ «2» . وقال ثعلب: معناه: جئت بها من نفسك. وقال الفرّاء: هلّا اجتبيتها، بمعنى هلا اختلقتها وافتعلتها من قبل نفسك.

_ (1) . «الكشاف» ، 2: 189- 190. (2) . المصدر نفسه، 2: 192. [.....]

وقال الزّجّاج في قوله تعالى: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ [يوسف: 6] . معناه وكذلك يختارك ويصطفيك. وهذا المعنى يرد في ثماني آيات. أقول: لم يبق شيء من هذا الفعل المفيد في العربية المعاصرة، وكان خليقا بالكتّاب أن يعودوا إليه. 49- وقال تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الآية 204] . توجب الآية الاستماع والإنصات، عند قراءة القرآن في الصلاة وغير الصلاة. وقيل: كانوا يتكلّمون في الصلاة، فنزلت. أقول: ألا ترى أن المجرّد من أنصت وهو «نصت» غير وارد في الاستعمال وهو والفعل «صمت» شيء واحد، ثم جاء القلب المكاني ليحدث خصوصية معنوية في أنصت.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الأعراف"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الأعراف» «1» قال تعالى: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الآية 2] على الابتداء «2» . وقال: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الآية 2] على النهي كما قال: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ [الكهف: 28] أي: «الحرج فلا يكن في صدرك» ، و: «عيناك فلا تعدوا عنهم» . وقال تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الآية 6] أي «لنسألنّ القوم الذين بعث إليهم وأنذروا» . وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) . فَلَنَقُصَّنَّ [الآية 7] بالنون واللام، لأنّ قوله تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ على القسم. وقال تعالى: وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ [الآية 10] فالياء غير مهموزة وقد همز بعض القراء «3» وهو رديء لأنها ليست بزائدة. وانما يهمز ما كان على مثال «مفاعل» إذا جاءت الياء زائدة في الواحد والألف والواو التي تكون الهمزة مكانها نحو «مدائن» لأنها «فعايل» . ومن جعل «المدائن» من

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرخ. (2) . نقل رأي الأخفش في زاد المسير 3: 135. (3) . في الطبري 2: 316 و 317 الى عبد الرحمن، وفي السبعة الى نافع، وغلطها نقلا عن أبي بكر، وفي الشواذ 42 الى خارجة عن نافع والأعرج، وفي الجامع 7: 167 الى الأعرج ونافع، وفي البحر 4: 271 الى الأعرج وزيد بن علي والأعمش وخارجة، عن نافع وابن عامر في رواية.

«دان» «يدين» لم يهمز لأن الياء حينئذ من الأصل. وأمّا «قطائع» و «رسائل» و «عجائز» و «كبائر» فإنّ هذا كلّه مهموز، لأنّ واو «عجوز» زائدة، ألا ترى أنك تقول: «عجز» وألف «رسالة» زائدة إذ تقول «أرسلت» فتذهب الألف منها. وتقول في «كبيرة» «كبرت» فتذهب الياء منها. وأما «مصايب» فكان أصلها «مصاوب» لأن الياء إذا كانت أصلها الواو، فجاءت في موضع لا بد من أن تحرك فيه، قلبت الواو في ذلك الموضع إذا كان الأصل من الواو، فلمّا قلبت صارت كأنها قد أفسدت حتى صارت كأنها الياء الزائدة، فلذلك همزت، ولم يكن القياس أن تهمز. وناس من العرب يقولون «المصاوب» وهي قياس» . وقال تعالى: صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ [الآية 11] . «ثمّ» في معنى الواو «2» ويجوز أن يكون معناه (لآدم) كما تقول للقوم: «قد ضربناكم» وإنّما ضربت سيدهم. وقال تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الآية 12] ومعناه: ما منعك أن تسجد، و (لا) هاهنا زائدة. وقال الشاعر «3» [من الطويل وهو الشاهد الرابع بعد المائتين] : أبى جوده «لا» البخل واستعجلت به ... «نعم» من فتى لا يمنع الجوع «4» قاتله «5» وفسرته العرب: أبى جوده البخل «وجعلوا (لا) زائدة حشوا هاهنا وصلوا بها الكلام. وزعم يونس أنّ أبا عمرو، كان يجرّ «البخل» ولا يجعل «لا» مضافة إليه أراد: أبى جوده (لا) التي هي للبخل لأن (لا) قد تكون للجود والبخل. لأنه لو قال له: «امنع الحقّ»

_ (1) . وقد نقلت من هذه الآراء جذاذات في التهذيب 12: 253 «صاب» وإعراب القرآن 1: 351 و 352 والجامع 7: 167 و 168. (2) . نقله في الجامع 7: 168. (3) . لم تفد المصادر والمراجع شيئا في الشاعر. (4) . في ما عدا الصحاح واللسان «لا» وردت ب «الجود» . (5) . البيت في الخصائص 2: 35 و 283، ومغني اللبيب 1: 249 و 217، وأمالي ابن الشجري 2: 228، واللسان «لا» ، وفيه نقلت عبارات الأخفش من غير نسبة، وكذلك في الصحاح «لا» .

او «لا تعط المساكين» فقال «لا» كان هذا جودا منه. وقال تعالى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) أي: على صراطك. كما تقول: «توجّه مكّة» أي: إلى مكة. وقال الشاعر (من الطويل وهو الشاهد الخامس بعد المائتين) : كأنّي إذ أسعى لأظفر طائرا ... مع النّجم في جوّ السّماء يصوب يريد: لأظفر بطائر. فألقى الباء ونحوه أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الآية 150] يريد: عن أمر ربكم. وقال تعالى قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً [الآية 18] لأنه من «الذّأم» تقول «ذأمته» ف «هو مذءوم» والوجه الاخر من «الذم» : «ذممته» ف «هو مذموم» تقول: «ذأمته» و «ذممته» و «ذمته» كلّه في معنى واحد ومصدر: «ذمته» «الذّيم» . وقال تعالى: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [الآية 18] فاللام الاولى للابتداء والثانية للقسم. وقال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ [الآية 20] والمعنى: فوسوس إليهما الشيطان «1» . ولكن العرب توصل بهذه الحروف كلّها الفعل، ومنهم من يقول: «غرضت» في معنى: اشتقت اليه. وتفسيرها: غرضت من هؤلاء إليه. وقال تعالى إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ [الآية 20] كأنه يقول: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا كراهة أَنْ تَكُونا «2» كما تقول: «إيّاك أن تفعل» أي: كراهة أن تفعل. وقال تعالى: وَطَفِقا [الآية 22] وقرأ بعضهم (وطفقا) «3» فمن قال «طفق» قال: «يطفق» «4» ومن قال «طفق» قال «يطفق» . وقرأ قوله تعالى: يَخْصِفانِ [الآية 22] قرأه (يخصّفان) جعلها من «يختصفان» فأدغم التاء في الصاد

_ (1) . نقله في إعراب القرآن 1: 353. (2) . نقله في زاد المسير 3: 179، وأشرك معه الزجاج. (3) . في الشواذ 42، والبحر 4: 280 نسبت القراءة بالفعل من باب «ضرب» الى ابي السمال، وكذلك في الكشاف 2: 96. (4) . نقله في الجامع 7: 180، وإعراب القرآن 1: 354، والصحاح «طفق» .

فسكنت، وبقيت الخاء ساكنة، فحرّكت الخاء بالكسر، لاجتماع الساكنين «1» . ومنهم من يفتح الخاء ويحوّل عليها حركة التاء «2» . وقال تعالى: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فكأنه على القسم، والله أعلم، كأنه قال: «والله لنكوننّ من الخاسرين إن لم تغفر لنا وترحمنا» . وقال تعالى: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الآية 26] برفع قوله سبحانه وَلِباسُ التَّقْوى على الابتداء، وجعل خبره في قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ «3» وقد نصب بعضهم (ولباس التّقوى) «4» . وقال تعالى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الآية 30] بتذكير الفعل بسبب الفصل كما في قوله تعالى لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [الحديد: 15] . وقال تعالى: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [الآية 35] كأنّ المعنى (فأطيعوهم) . وقال تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الآية 40] من «ولج» «يلج» «ولوجا» . وقال سبحانه: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الآية 41] بكسر (غواش) لأن هذه الشين في موضع عين «فواعل» فهي مكسورة. وأما موضع اللام منه فالياء، والياء والواو إذا كانتا بعد كسرة وهما في موضع تحرك برفع أو جرّ، صارتا ياء ساكنة في الرفع، وجرتا ونصبتا في النصب. فلمّا صارتا ياء ساكنة وأدخلت

_ (1) . في المحتسب 245، والجامع 7: 180، والكشّاف 2: 96 أنها قراءة الحسن، وزاد في البحر 4: 280 الأعرج ومجاهدا وابن وثاب. (2) . في الشواذ 42 الى الزهري، وفي المحتسب 245 بلا نسبة. وفي الجامع 7: 181 الى ابن بريدة ويعقوب، وفي البحر 4: 280 الى الحسن في رواية محبوب وابن بريدة ويعقوب. وقد نقل هذا عنه في الصحاح «خصف» . [.....] (3) . في السبعة 280 الى ابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة، وزاد في الوقف 2: 652 مجاهدا والأعمش، وفي الكشف 1: 460 والتيسير 109/ إلى غير من أخذ بالأخرى. (4) . في معاني القرآن 1: 375 الى الكوفيين، وفي الجامع 1: 375 إلى أهل المدينة والكسائي، وفي السبعة 280 والكشف 1: 460 والتيسير 109 الى نافع وابن عامر والكسائي، وفي الوقف 2: 653 أهمل ابن عامر، وزاد أبا جعفر وشبية.

عليها التنوين وهو ساكن ذهبت الياء لاجتماع الساكنين. وقال تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الآية 43] وهو ما يكون في الصدور. وأما الذي يغلّ به الموثق فهو «الغلّ» . وقال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الآية 43] كما قال سبحانه: اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ [يونس: 35] وتقول العرب: «هو لا يهتدي لهذا» أي: لا يعرفه. وتقول: «هديت العروس إلى بعلها» . وتقول أيضا: أهديتها إليه» و «هديت له» وتقول: «أهديت له هديّة» . وبنو تميم يقولون «هديت العروس إلى زوجها» جعلوه في معنى «دللتها» وقيس تقول: «أهديتها» جعلوها بمنزلة الهدية. وقال تعالى وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ (44) وأَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الآية 44] وقال أيضا في موضع آخر: أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [يونس: 10] وأَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا [الآية 44] فهذه «أنّ» الثقيلة خفّفت وأضمر فيها، ولا يستقيم أن تجعلها الخفيفة لأنّ بعدها اسما. والخفيفة لا يليها الأسماء. وقال الشاعر «1» [من البسيط وهو الشاهد السادس بعد المائتين] : في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كلّ من يخفى وينتعل «2» وقال الشاعر «3» [من الوافر وهو الشاهد السابع بعد المائتين] : أكاشره وأعلم أن كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص. وتكون أَنْ قَدْ وَجَدْنا في معنى «أي» . وقوله تعالى: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ [الآية 50] تكون «أي أفيضوا»

_ (1) . هو الأعشى ميمون بن قيس، الصبح المنير والإنصاف 1: 113، وفي الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 282 و 440 و 480 و 2: 123، والخزانة 3: 547. (2) . عجزه في الصبح المنير «أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل» وفي تحصيل عين الذهب 2: 123 ب «من فتية» . والبيت بعد في الخصائص 2: 441، والمنصف 3: 129، والخزانة 4: 356، والمقاصد النحوية 2: 287، والدرر 1: 119. (3) . هو عديّ بن زيد معجم شواهد العربية 203، وليس في ديوانه، وذلك ما أشار اليه مؤلف المعجم، ولكنه ليس كما ذكر موجودا في الخصائص 1: 126 و 261، وهو في شرح المفصل 1: 54 وفيه «شاء» بالمعجمة المثلثة. وفي الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 440 والإنصاف 1: 113 و 236 وأمالي ابن الشجري 1: 188.

وتكون على «أن» التي تعمل في الأفعال لأنك تقول: «غاظني أن قام» و «غاظني أن ذهب» فتقع على الأفعال، وإن كانت لا تعمل فيها وفي كتاب الله وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: 6] معناها: أي امشوا. وقال تعالى: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الآية 53] بنصب ما بعد الفاء، لأنه جواب استفهام. وقوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ [الآية 54] عطف على قوله سبحانه: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الآية 54] «1» . وقال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) بتذكير (قريب) وهي صفة «الرحمة» وذلك كقول العرب «ريح خريق» و «ملحفة جديد» و «شاة سديس» . وإن شئت قلت: تفسير «الرحمة» هاهنا: المطر، ونحوه «2» . فلذلك ذكّر. كما في قوله تعالى: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا [الآية 87] بالتذكير على إرادة «الناس» . وإن شئت جعلته كبعض ما يذكّرون من المؤنث «3» كقول الشاعر «4» [من المتقارب وهو الشاهد الحادي والثلاثون] : فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها وقال تعالى في أول هذه السورة: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الآية 2] لِتُنْذِرَ بِهِ [الآية 2] فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الآية 2] هكذا تأويلها على التقديم والتأخير. وفي كتاب الله مثل ذلك كثير، قال تعالى: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) [النمل] والمعنى- والله أعلم- فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ وفي كتاب الله

_ (1) . نقله في اعراب القرآن 1: 363، والجامع 7: 221. (2) . نقله في التهذيب 9: 125 «قرب» ، والمشكل 1: 294، والبحر 4: 313، وزاد المسير 3: 216، والتصريح 2: 32، واعراب القرآن 1: 365، والجامع 7: 228. (3) . نقله مع الشاهد في اعراب القرآن 1: 364، والجامع 7: 228. (4) . هو عامر بن جوين الطائي، او الخنساء، الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 240، ومجاز القرآن 2: 67، والصحاح واللسان «بقل» ، والبيت بعد في معاني القرآن 1: 137.

وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ [النحل] والمعنى- والله أعلم- وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وفي غافر فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر: 83] . والمعنى- والله أعلم- فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنَ الْعِلْمِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ. وقال بعضهم فَرِحُوا بِما هو عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي: كان عندهم العلم وهو جهل ومثل هذا في كلام العرب وفي الشعر كثير من التقديم والتأخير. يكتب الرجل: «أمّا بعد، حفظك الله وعافاك، فإنّي كتبت إليك» فقوله «فإنّي» محمول على «أمّا بعد» وانما هو «أمّا بعد فإنّي» وبينهما كما ترى كلام. قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد الثامن بعد المائتين] : خير من القوم العصاة أميرهم ... يا قوم فاستحيوا النساء الجلّس والمعنى: خير من القوم العصاة أميرهم النّساء الجلّس يا قوم فاستحيوا. قال الاخر «1» [من البسيط وهو الشاهد التاسع بعد المائتين] : الشّمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم اللّيل والقمرا «2» ومعناه: الشمس طالعة لم تكسف نجوم الليل والقمر لحزنها على «عمر» «3» وذلك أنّ الشمس كلما طلعت كسفت القمر والنجوم فلم تترك لها ضوا. وقوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة: 258] ثم قال أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [البقرة: 259] ف «الكاف» تزاد في الكلام. والمعنى: «ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه أو الّذي مرّ على قرية» . ومثلها في القرآن. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] والمعنى ليس

_ (1) . هو جرير بن عطية بن الخطفي. ديوانه 2: 736، والكامل 2: 652. (2) . في الديوان «فالشمس كاسفة ليست بطالعة» ، وكذلك شرح الأبيات للفارقي 118، وفي الكامل ب «فالشمس» والشاهد بعد في الصحاح «بكى» . (3) . هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الخليفة الأموي، ترجمته وأخباره في مروج الذهب 3: 192- 205، والأغاني 8: 151.

مثله شيء. لأنه ليس لله مثل «1» . وقال الشاعر «2» [من الرجز وهو الشاهد العاشر بعد المائتين] : فصيّروا مثل كعصف مأكول «3» والمعنى: فصيّروا مثل عصف، والكاف زائدة. وقال الاخر «4» (من الرجز وهو الشاهد الحادي عشر بعد المائتين) : وصالبات ككما يؤثفين ... فإحدى الكافين زائدة وقوله تعالى بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً [النساء: 56] يعني غيرها في النضج، لأنّ الله عز وجل يجدّدها فيكون أشدّ للعذاب عليهم. وهي تلك الجلود بعينها التي عصت الله تعالى، ولكن أذهب عنها النضج، كما يقول الرجل للرجل: «أنت اليوم غيرك أمس» وهو ذلك بعينه إلا أنه نقص منه شيء أو زاد فيه. وفي كتاب الله عز وجل وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) [الأنعام] فيسأل السائل فيقول كيف كانوا كاذبين ولم يعودوا بعد. وإنما يكونون كاذبين إذا عادوا. وقد قلتم إنه لا يقال له كافر، قبل أن يكفر، إذا علم أنه كافر. وهذا يجوز أن يكون أنّهم الكاذبون بعد اليوم كما يقول: «أنا قائم» وهو قاعد، يريد «إني سأقوم» . أو يقول تعالى وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ يعني ما وافوا به القيامة من كذبهم وكفرهم، لأنّ الذين دخلوا النار كانوا كاذبين كافرين. وقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) [القيامة] يقول «تنظر في رزقها وما يأتيها من الله» . يقول الرجل: «ما أنظر إلّا إليك» ولو كان نظر البصر، كما يقول بعض الناس، كان في الآية التي بعدها بيان ذلك. ألا ترى أنه قال وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) [القيامة] ولم يقل: «ووجوه لا تنظر ولا ترى» وقوله تعالى: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) يدلّ

_ (1) . سبق للأخفش أن ذكر هذه الآراء، في كلامه على الآيتين 258 و 259 في سورة البقرة، بعبارة لا تكاد تختلف. (2) . هو رؤبة بن العجّاج. ديوانه 181، والخزانة 4: 270، وقيل هو حميد الأرقط الكتاب 1: 203. [.....] (3) . في الخزانة «فأصبحوا» . والبيت بعد في شرح الأبيات للفارقي 180. (4) . هو خطام المجاشعي، الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 13، والكتاب 1: 203 و 2: 331، والخزانة 1: 367، والشاهد أيضا في الخزانة 2: 354 و 4: 273.

«الظن» هاهنا على النظر ثم الثقة بالله وحسن اليقين، ولا يدل على ما قالوا. وكيف يكون ذلك والله سبحانه يقول لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام: 103] وقوله تعالى وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30] يعني ما تشاؤون من الخير شيئا إلّا أن يشاء الله أن تشاؤوه. وقوله تعالى إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها [النور: 40] حمل على المعنى، وذلك أنه لا يراها وذلك أنّك إذا قلت: «كاد يفعل إنما تعني قارب الفعل ولم يفعل» فإذا قلت «لم يكد يفعل» كان المعنى أنه لم يقارب الفعل ولم يفعل على صحة الكلام. وهكذا معنى هذه الآية. إلّا أنّ اللّغة قد أجازت «لم يكد يفعل» في معنى: فعل بعد شدة، وليس هذا صحة الكلام أنه إذا قال: «كاد يفعل» فإنما يعني قارب الفعل. وإذا قال: «لم يكد يفعل» يقول: «لم يقارب الفعل» إلا أنّ اللغة جاءت على ما فسرت لك، وليس هو على صحة الكلمة. وقال تعالى أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ [الآية 69] كأنه قال: «صنعوا كذا كذا وعجبوا» فقال «صنعتم كذا وكذا أو عجبتم» فهذه واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام. وقال تعالى وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [الآية 65] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [الآية 73] فكلّ هذا- والله أعلم- نصبه على الكلام الأول على قوله تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الآية 59] وكذلك وَلُوطاً [الآية 80] ، وقال بعضهم: «واذكر لوطا» . وإنما يجيء هذا النصب على هذين الوجهين، أو يجيء على أن يكون الفعل قد عمل فيما قبله، وقد سقط بعده فعل على شيء من سببه، فيضمر له فعلا. فإنّما يكون على أحد هذه الثلاثة، وهو في القرآن كثير. وقال تعالى خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام: 165] وقال خُلَفاءَ [الآية 69] و [الآية 74] وكلّ جائز، وهو جماعة «الخليفة» . وقال تعالى وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً [الآية 69] أي: انبساطا. وقال في موضع آخر بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة: 247] وهو مثل الأول. وتقرأ فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ [الآية 73] بالجزم إذا جعلته جوابا،

وبالرفع إذا أردت (فذروها آكلة) . وقال تعالى وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها [الآية 145] وقال قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ [الجاثية: 14] وفَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا [الزخرف: 83] فصار جوابا في اللفظ، وليس كذلك في المعنى. وقال تعالى: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ [الآية 85] . ثم قال تعالى: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ [الآية 86] تقول: «هم في البصرة» و «بالبصرة» و «قعدت له في الطّريق» و «بالطّريق» . وقال تعالى كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [الآية 92] وهي من «غنيت» «تغنى» «1» «غنى» . وقال تعالى: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى [الآية 98] فهذه الواو للعطف دخلت عليها ألف الاستفهام. وقال تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها [الآية 100] أي: (أو لم يتبيّن لهم) وقرأ بعضهم (نهد) «2» بالنون أي: «أو لم نبيّن لهم» أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ. وقال تعالى: نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها [الآية 101] «من» زائدة وأراد «قصصنا» كما تقول «هل لك في ذا» وتحذف «حاجة» . وقال تعالى: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ [الآية 101] فقوله سبحانه بِما كَذَّبُوا والله أعلم يعني: «بتكذيبهم» باعتبار (ما كذّبوا) اسما للفعل والمعنى: «لم يكونوا ليؤمنوا بالتكذيب» أي لا نسمّيهم بالإيمان بالتكذيب «3» . وقال تعالى: وَما تَنْقِمُ مِنَّا [الآية 126] «4» وقرأ بعضهم (وما تنقم منّا) «5»

_ (1) . نقله في إعراب القرآن 1: 369. (2) . في الشواذ 45 إلى ابن عباس والسلمي، وفي المشكل 1: 297 الى مجاهد، وفي البحر 4: 350، والكشاف 2: 134، والبيان 1: 369، والإملاء 1: 280، بلا نسبة. (3) . نقله في إعراب القرآن 1: 371. (4) . هي قراءة الجمهور، كما في البحر 4: 366. (5) . في الشواذ 45، الى يحيى وإبراهيم وأبي حياة، وفي البحر 4: 366، إلى أبي حياة وأبي اليسر هاشم وابن أبي عبلة، وفي الجامع 7: 261، الى الحسن، وكذلك في إعراب القرآن 1: 374.

وهما لغتان «1» (نقم) ، «نقم» ، «ينقم» و «ينقم» وبالأولى نقرأ. وقال تعالى وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ [الآية 132] لأن (مهما) من حروف المجازاة وجوابها (فما نحن) . وقال تعالى وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) «2» «ويعرشون» «3» لغتان وكذلك (نبطش) و (نبطش) «4» ، و «يحشر» و «يحشر» ، و «يكفّ» و «يكفّ» ، و «ينفر» و «ينفر» . وقال تعالى: الطُّوفانَ [الآية 133] وواحدتها في القياس «الطوفانة» «5» . وقال الشاعر «6» [من الرمل وهو الشاهد الثاني عشر بعد المائتين] : غيّر الجدّة من آياتها «7» ... خرق الرّيح وطوفان المطر وهي من «طاف» «يطوف» . وقال تعالى: جَعَلَهُ دَكًّا [الآية 143] وهو سبحانه حين قال «جعله» كان كأنه قال «دكّه» وقرأ بعضهم (دكّاء) وإذا أراد هذا فقد أجري مجرى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] لأنه يقال: «ناقة دكّاء» إذا ذهب سنامها. وقال تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [الآية 143] على معنى «تجلّى أمره» نحو ما يقول الناس: «برز فلان لفلان» وإنّما برز جنده.

_ (1) . نقله في إعراب القرآن 1: 374، والجامع 7: 261. (2) . في الطبري 9: 44، أنها قراءة عامة قراء الحجاز والعراق، إلّا عاصما، وهي إحدى لغتين مشهورتين عند العرب، وفي السبعة 292، إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي، وإلى عاصم في رواية. وفي البحر 4: 377، إلى الحسن ومجاهد وأبي رجاء، وفي السبعة إلى غير ابن عامر، وأبي بكر، وفي الكشف 1: 475، والتيسير 113، إلى غير أبي بكر، وابن عامر. (3) . في الطبري 9: 44، الى عاصم بن أبي النجود، وفي السبعة 292، إلى ابن عامر، وإلى عاصم في رواية، وفي الجامع 7: 272، إلى ابن عامر وأبي بكر عن عاصم، وفي الكشف 1: 475، والتيسير 113، والبحر 4: 377 الى ابن عامر وأبي بكر. (4) . نصر لتميم، وضرب للحجاز، اللهجات العربية 444، ولهجة تميم 193، والمزهر 2: 275. وكذلك الأمر في «عرش» . (5) . نقله في إعراب القرآن 1: 375، والجامع 7: 267، والبحر 4: 372. (6) . هو حسيل بن عرفطة. نوادر أبي زيد 77. (7) . في نوادر أبي زيد 77، والمنصف 2: 228، ب «عرفانه» بدل «آياتها» . [.....]

وأمّا قوله تعالى رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الآية 143] فإنما أراد علما لا يدرك مثله إلّا في الاخرة فأعلم الله سبحانه موسى (ع) أن ذلك لا يكون في الدنيا. وقرأها بعضهم «دكّاء» «1» جعله «فعلاء» وهذا لا يشبه أن يكون. وهو في كلام العرب: «ناقة دكّاء» أي: ليس لها سنام. والجبل مذكّر، إلّا أن يكون «جعله مثل دكّاء» وحذف «مثل» . وقال تعالى: مِنْ حُلِيِّهِمْ [الآية 148] «2» وقرأ بعضهم «حليّهم» «3» و «حليّهم» «4» عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [الآية 148] وقرأ بعضهم «جؤار» «5» وكلّ من لغات العرب. وقال تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ [الآية 149] وقرأ بعضهم «سقط» «6» وكلّ جائز، والعرب تقول: «سقط في يديه» و «أسقط في أيديهم» «7» . وأمّا قوله تعالى: مِنْ حُلِيِّهِمْ بضم الحاء فانه «فعول» وهي جماعة «الحلي» ومن قرأ «حليّهم» في اللغة

_ (1) . هذه القراءة في الطبري 9: 54، الى عامة الكوفيّين وعكرمة، وفي الجامع 7: 278 إلى أهل الكوفة، وفي السبعة 293، والكشف 1: 475، والتيسير 113، والبحر 4: 384، الى حمزة والكسائي. أمّا قراءة «دكّا» ، ففي الطبري 9: 54، الى عامة قراء أهل المدينة والبصرة، وفي الشواذ 45، الى يحيى بن وثاب، وفي السبعة 293 الى ابن كثير ونافع وابن عمرو وابن عامر وعاصم، وفي الجامع 7: 278 إلى أهل المدينة وأهل البصرة، وفي الكشف 1: 475، والتيسير 113، إلى غير حمزة والكسائي. (2) . في الطبري 9: 62 أنها قراءة مستفيضة، وفي السبعة 294 إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم وابن عامر، وفي البحر 4: 392 إلى السبعة غير من أخذ بسواها، وإلى الحسن وأبي جعفر وشيبة. وفي الجامع 7: 284، إلى أهل المدينة وأهل البصرة، وفي الكشف 1: 477، والتيسير 113، إلى غير حمزة والكسائي، وفي الجامع 7: 284، إلى أهل الكوفة إلّا عاصما، وفي البحر 4: 392 الى الأخوين وأصحاب عبد الله، ويحيى بن وثاب وطلحة والأعمش. (3) . في السبعة 294 إلى حمزة والكسائي، وإلى عاصم في رواية. وفي الكشف 1: 477، والتيسير 133. (4) . في البحر 4: 392 إلى يعقوب. (5) . في الشواذ 46، الى أبي السمال، وفي البحر 4: 392 الى الإمام علي وأبي السمال، وقد نقل هذا في الصحاح «جأر» . (6) . في الشواذ 46، الى اليماني، وفي البحر 4: 394، الى فرقة منهم ابن السميفع. (7) . في البحر 4: 394، إلى ابن أبي عبلة. ويبدو مما جاء في اللهجات العربية، أنّ الزيادة لغة تميم، والتجريد لغة الحجاز 494 وما بعدها، ولهجة تميم 203 وما بعدها.

الأخرى فالمكان الياء كما قالوا: «قسيّ» و «عصيّ» . وقال تعالى وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي [الآية 150] بإثبات نونين، واحدة للفعل والأخرى للاسم المضمر وإنّما ثبتت في الفعل، لأنه رفع ورفع الفعل إذا كان للجميع، والاثنين بثبات النون، إلّا أن نون الجميع مفتوحة ونون الاثنين مكسورة، وقد قال تعالى: أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ [الأحقاف: 17] وقد يجوز في هذا الإدغام والإخفاء. وقال تعالى: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً [الآية 160] على تقدير اثنتي عشرة فرقة، ثمّ أخبر أن الفرق أسباط، ولم يجعل العدد على الأسباط. وقال تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الآية 154] وقرأ بعضهم (سكن) «1» إلّا أنّها ليست على الكتاب، فنقرأ سَكَتَ وكلّ من كلام العرب. وقال تعالى وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الآية 155] أي: اختار من قومه، فلما نزعت «من» عمل الفعل. وقال الشاعر «2» [من الطويل وهو الشاهد الرابع عشر] : منا الذي اختير الرجال سماحة ... وجودا «3» إذا هبّ الرّياح الزعازع وقال آخر «4» [من البسيط وهو الشاهد الخامس عشر] : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب وقال النابغة «5» : [من الكامل وهو الشاهد السادس عشر] : نبّئت زرعة والسّفاهة كاسمها ... يهدي إليّ أوابد الأشعار «6» وقال تعالى:

_ (1) . في الشواذ 46، والجامع 7: 292، والبحر 4: 398، أنها قراءة معاوية بن قرة. (2) . هو الفرزدق همّام بن غالب: ديوانه 2: 516، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 18. (3) . في الديوان ب «وخيرا» . (4) . هو عمرو بن معدي كرب الزّبيدي، ديوانه 35، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 17، والخزانة 1: 164، وفيها منسوب أيضا إلى أعشى طرود إياس بن عامر، أو العباس بن مرداس، أو زرعة بن السائب، أو خفاف بن ندبة، وفي الكامل 1: 32، منسوبا إلى أعشى طرود إياس بن عامر. (5) . هو زياد بن معاوية، وقد سبقت ترجمته. (6) . البيت في ديوانه 97، والمقاصد النحوية 2: 439.

لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) كما قال إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) [يوسف] بوصل الفعل باللام. وقال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الآية 156] أي: وسعت كلّ من يدخل فيها، لا تعجز عمّن دخل فيها أو يكون يعني الرحمة التي قسّمها بين الخلائق، يعطف بها بعضهم على بعض، حتى عطف البهيمة على ولدها. وقال فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [الآية 169] إذا قلت «خلف سوء» و «خلف صدق» فهما سواء. و «الخلف» إنّما يريد به الذي بعد ما مضى خلفا كان منه، أو لم يكن خلفا إنّما يكون يعني به القرن الذي يكون بعد القرن، و «الخلف» الذي هو بدل ممّا كان قبله، قد قام مقامه وأغنى غناه. تقول «أصبت منك خلفا» «1» . وقال تعالى: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى [الآية 169] بإضافة «العرض» الى «هذا» وفسر «هذا» ب «الأدنى» وكل شيء فهو عرض سوى الدراهم والدنانير فإنها عين. وأما «العرض» فهو كلّ شيء عرض لك تقول: «قد عرض له بعدي عرض» أي: «أصابته بليّة وشرّ» وتقول: «هذا عرضة للشرّ» و «عرضة للخير» كلّ هذا تقوله العرب. وقال تعالى وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة: 224] وتقول: «أعرض لك الخير» و «عرض لك الخير» وقال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد السابع عشر بعد المائتين] : لا أعرفنّك معرضا لرماحنا ... في جفّ تغلب وارد الأمرار «3» و «العارض» من السحاب: ما استقبلك وهو ما ورد في قول الله عزّ وجلّ فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً [الأحقاف: 24]

_ (1) . جاء في الصحاح: «الخلف والخلف: ما جاء من بعد. يقال: «هو خلف سوء من أبيه وخلف صدق من أبيه» بالتحريك إذا قام مقامه. قال الأخفش: هما سواء منهم من يحرّك ومنهم من يسكّن فيهما جميعا إذا أضاف. ومنهم من يقول «خلف صدق» بالتحريك ويسكّن الاخر. ويريد بذلك الفرق بينهما قال الراجز: إنّا وجدنا خلفا بئس الخلف ... عبدا إذا ما ناء بالحمل خفف «الصحاح» «خلف» . [.....] (2) . هو النابغة الذبياني زياد بن معاوية، «ديوانه 128» . اللسان «جفف» و «مرر» والصحاح كذلك. (3) . في الصحاح واللسان كما مر، «عارضا» بدل «معرضا» ، و «وارد» بدل «واردي» كما هو في الأصل.

وأما «الحبيّ» : فما كان من كل ناحية وتقول: «خذوه من عرض الناس» أي: ممّا وليك منهم، وكذلك «اضرب به عرض الحائط» أي، ما وليك منه. وأما «العرض» و «الطول» فإنه ساكن. وأما قوله «1» [من الطويل وهو الشاهد الثامن عشر بعد المائتين] : لهنّ عليهم عادة قد عرفنها «2» ... إذا عرضوا الخطّيّ فوق الكواثب «3» وأعرضوا، فهذا لأنّ: عرض عرضا. و: «عرضت عليه المنزل عرضا» و «عرض لي أمر عرضا» هذا مصدره. و «العرض من الخير والشرّ» : ما أصبت عرضا من الدنيا فانتفعت به تعني به الخير، و «عرض لك عرض سوء» . وقال تعالى: مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ [الآية 168] لا أعلم أحدا يقرأها إلّا نصبا. وقال تعالى: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ [الآية 177] فجعل «القوم» هم «المثل» في اللفظ أي: مثل القوم، كما في قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ. وقال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ [الآية 179] من: «ذرأ» «يذرأ» «ذرءا» . وقال تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الآية 180] «4» وقرأ بعضهم (يلحدون) «5» جعله من «لحد» «يلحد» وهي لغة «6» . وقال في موضع آخر

_ (1) . هو النابغة الذبياني، زياد بن معاوية، ديوانه 58، واللسان «كثب» . (2) . الصدر من الديوان واللسان. (3) . في الديوان واللسان «عرض» والديوان «عرّض» . (4) . في الطبري 9: 134، أنّها قراءة عامة قراء أهل المدينة، وبعض البصريّين والكوفيّين، وفي السبعة 298 إلى ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وأبي عمرو والكسائي، وفي البحر 4: 430 إلى السبعة، إلّا من أخذ بالأخرى، وفي الكشف 1: 484، والتيسير 114، إلى غير حمزة. (5) . في الطبري 9: 134 الى عامة قراء أهل الكوفة، وفي السبعة 298، والتيسير 114، والكشف 1: 484، إلى حمزة، وفي البحر 4: 430، إلى حمزة وابن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى. (6) . لغة المجرّد هي للحجاز، وبعض قرى العالية، وقريش، ولغة المزيد هي لتميم وقيس ومنطقة نجد ودبير وعقيل، اللهجات العربية 492- 498.

لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ [النحل: 103] «1» وقرأ بعضهم (يلحدون) » وهما لغتان ويُلْحِدُونَ أكثر، وبها نقرأ ويقوّيها وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ [الحج: 25] «3» . وقال تعالى: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ [الآية 176] ولا نعلم أحدا يقول (خلد) . وقوله (أخلد) أي: لجأ إليها. وقال تعالى حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً [الآية 189] لأنّ «الحمل» ما كان في الجوف و «الحمل» ما كان على الظهر. وقال وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها [الحج: 2] وأمّا قوله تعالى أَثْقَلَتْ [الآية 189] أي: «صارت ذات ثقل» كما تقول «أتمرنا» «4» أي: «صرنا ذوي تمر» «5» و «ألبنّا» أي: صرنا ذوي لبن» و «أعشبت الأرض» و «أكمأت» وقرأ بعضهم: (فلمّا أثقلت) «6» . وقال تعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما [الآية 190] وقرأ بعضهم (شركا) «7» لأنّ «الشرك» إنّما هو «الشركة» وكان ينبغي في قول من قال هذا، أن يقول «فجعلا لغيره شركا فيما آتاهما» «8» . وقال تعالى إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ [الآية 201] و «الطّيف» أكثر

_ (1) . في الطبري 14: 179 هي قراءة عامة قراء المدينة والبصرة، وفي السبعة 375 إلى ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وأبي عمرو، وفي المحتسب 2: 12 إلى الحسن، وفي البحر 5: 236 إلى غير من أخذ بالأخرى، وفي السبعة وفي التيسير 138 إلى غير حمزة والكسائي، وفي الكشف 1: 484 اقتصر على حمزة. (2) . في الطبري 14: 180 أنّها قراءة أهل الكوفة، وفي الكشف 1: 484، والجامع 10: 178، إلى حمزة، وزاد في السبعة 298 و 375، والتيسير 138، الكسائي، وفي البحر 5: 536 زاد عبد الله بن طلحة والسلمي والأعمش ومجاهدا. (3) . نقل هذا في زاد المسير 3: 293. (4) . نقله بعبارة أخرى في إعراب القرآن 1: 391. (5) . نقله في الصحاح «نقل» وزاد المسير 3: 301. (6) . في الشواذ 48، نسبت إلى اليماني، وفي البحر 4: 440 بلا نسبة. [.....] (7) . في الطبري 9: 148 و 149 إلى عامة قراء أهل المدينة، وبعض المكيين والكوفيين، وفي السبعة 299 إلى نافع وإلى عاصم في رواية، وفي الكشف 1: 485 والتيسير 115 أبدل أبا بكر بعاصم، وفي البحر 4: 440 زاد ابن عباس وأبا جعفر وشيبة وعكرمة ومجاهدا وأبان بن ثعلب. (8) . نقل هذا في إعراب القرآن 1: 391، والجامع 7: 190.

في كلام العرب. وقال الشاعر «1» [من المتقارب وهو الشاهد التاسع عشر بعد المائتين] : ألا يا لقوم لطيف الخيال ... أرقّ من نازح ذي دلال «2» ونقرأها (طائف) لأنّ عامة القراء عليها. وقال تعالى بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الآية 205] وتفسيرها «بالغدوات» كما تقول: «آتيك طلوع الشمس» أي: في وقت طلوع الشمس كما قال تعالى بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ [آل عمران: 41 وغافر: 55] وهو مثل «آتيك في الصّباح وبالمساء» وأما «الآصال» فواحدها: «أصيل» «3» مثل: «الأشرار» واحدها: «الشّرير» و «الأيمان» واحدتها: «اليمين» .

_ (1) . هو أميّة بن أبي عائذ الهذلي: ديوان الهذليين 2: 172، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 319. (2) . في ديوان الهذليين والصاحبي 114 ب «يؤرق» بدل «أرّق» وقد نقله في زاد المسير 3: 309 و 310. (3) . نقله في إعراب القرآن 1: 396، ونقله في الجامع 7: 356.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الأعراف"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأعراف» «1» إن قيل: النهي في قوله تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ [الآية 2] متوجّه الى الحرج فما وجهه؟ قلنا: هو من باب القول لا أرينّك هنا، معناه: لا تقم هنا فإنّك إن أقمت رأيتك، فمعنى الآية، فكن على يقين منه ولا تشكّ فيه، لأنّ المراد بالحرج الشكّ. فإن قيل: لم قال الله تعالى أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الآية 4] ، والإهلاك، إنّما هو بعد مجيء البأس وهو العذاب؟ قلنا: معناه أردنا إهلاكها، كقوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] وقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: 98] . فإن قيل: ميزان القيامة واحد، فلم قال تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ [الآية 8] ووَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ [الآية 9] ؟ قلنا: إنما جمع، لأنّ السّياق أراد بالميزان الموزونات من الأعمال. وقيل إنما جمعه، لأنه ميزان يقوم مقام موازين، ويفيد فائدتها، لأنه يوزن به ذرّات الأعمال، وما كان منها في عظم الجبال. فإن قيل: كيف توزن الأعمال وهي أعراض لا ثقل لها ولا جسم، والوزن من خواص الأجسام؟ قلنا: الموزون صحائف الأعمال. الثاني أنه قد ورد أن الله تعالى يحيلها

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» لمحمد بن أبي بكر الرازي، الناشر: مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

في جواهر وأجسام، فتتصور أعمال المطيعين في صورة حسنة، وأعمال العاصين في صورة قبيحة، ثم يزنها والله على كل شيء قدير. فإن قيل: لم قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الآية 11] وكلمة ثم للترتيب، وخطاب الملائكة، عليهم السلام، بالسجود، سابق على خلقنا وتصويرنا؟ قلنا: المراد ولقد خلقنا أباكم، ثم صوّرناه بطريق حذف المضاف. وقيل المراد: ولقد خلقنا أباكم، ثمّ صوّرناكم في ظهره. والقول الأول أظهر. فإن قيل: لم قال تعالى لإبليس فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها [الآية 13] أي في السماء، وليس له ولا لغيره أن يتكبر في الأرض أيضا. قلنا: لما كانت السماء مقرّ الملائكة المطيعين، الذين لا توجد منهم معصية أصلا، كان وجود المعصية منهم أقبح، فلذلك خصّ مقرهم بالذكر. فإن قيل: لم أجيب إبليس الى الإنظار، وإنّما طلب الإنظار ليفسد أحوال عباد الله تعالى، ويغويهم؟ قلنا: لما في ذلك من ابتلاء العباد، ولما في مخالفته من عظم الثواب، ونظير ذلك ما خلقه الله تعالى في الدنيا من أصناف الزخارف، وأنواع الملاذّ والملاهي، وما ركّبه في الأنفس من الشهوات، ليمتحن بها عباده. فإن قيل: لم قال تعالى فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما [الآية 20] ولم يكن غرضه من الوسوسة كشف عورتهما، بل إخراجهما من الجنة، ويؤيّده قوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ [الآية 36] ؟ قلنا: اللام في لِيُبْدِيَ لام العاقبة والصيرورة، لا لام كي، كما في قوله تعالى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] وقول الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلّكم يصير إلى التّراب فإن قيل: أيّ آية لله تعالى، في اللباس والكسوة، حتى قال تعالى في آية اللباس والكسوة ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ [الآية 26] ؟

قلنا: معناه أنّ اللباس والكسوة للإنسان خاصة، علامة من العلامات الدالّة على أن الله تعالى فضّله على سائر الحيوانات، وقيل معناه: ذلك من نعم الله. فإن قيل: لم قال تعالى في حقّ إبليس يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما [الآية 27] ونازع لباسهما هو الله تعالى؟ قلنا: لمّا كان ذلك السبب، بسبب وسوسته وإغوائه أضيف النزع إليه، كما يقال: أشبعني الطعام وأرواني الشراب، والمشبع والمروي في الحقيقة، إنّما هو الله تعالى، وهما سبب. فإن قيل: لم قال تعالى كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) وهو بدأنا أوّلا نطفة، ثمّ علقة، ثمّ مضغة، ثمّ عظاما، ثمّ لحما كما ذكر، ونحن لا نعود عند الموت، ولا عند البعث بعد الموت، على ذلك الترتيب؟ قلنا: معناه كما بدأكم أوّلا من تراب، كذلك تعودون ترابا. وقيل معناه: كما أوجدكم أوّلا بعد العدم، كذلك يعيدكم بعد العدم، فالتشبيه في نفس الإحياء والخلق، لا في الكيفيّة والترتيب. وقيل معناه: كما بدأكم سعداء وأشقياء، كذلك تعودون، ويؤيّده تمام الآية، وقيل معناه: كما بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تعودون، كما قال تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى [الأنعام: 94] . فإن قيل: لم قال تعالى مخبرا عن الزينة والطيّبات قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الآية 32] مع أن الواقع المشاهد، أنّها لغير الذين آمنوا أكثر وأدوم؟ قلنا: فيه إضمار، تقديره: قل هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا، لأن المشركين شاركوهم فيها خالصة للمؤمنين في الاخرة. فإن قيل: لم قال تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) والميراث عبارة عمّا ينتقل من ميت إلى ميت، وهو مفقود هنا؟ قلنا: هو على تشبيه أهل الجنة وأهل النار، بالوارث وبالموروث عنه. وذلك أن الله تعالى، خلق في الجنة منازل للكفار على تقدير الايمان، فمن لم يؤمن منهم، جعل منزله لأهل الجنّة. الثاني أنّ نفس دخول الجنة بفضل الله

ورحمته، من غير عوض، فأشبه الميراث، وإن كانت الدرجات فيها بحسب الأعمال. فإن قيل: لم قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الآية 54] أمّا الخلق بمعنى الإيجاد والإحداث، فظاهر أنه مختص به سبحانه وتعالى، وأمّا الأمر فلغيره أيضا، بدليل قوله تعالى وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [آل عمران: 104 و 114 التوبة: 71] وقوله تعالى وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [الآية 199] وقوله تعالى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ [طه: 132] ؟ قلنا: المراد بالأمر هنا، قوله تعالى كُنْ عند خلق الأشياء، وهذا الأمر الذي به الخلق مخصوص به كالخلق. الثاني أن المراد بالخلق والأمر ما سبق ذكرهما في هذه الآية، وهو خلق السماوات والأرض، وأمر تسخير الشمس والقمر والنجوم كما ذكر، وذلك مخصوص به عزّ وجلّ. فإن قيل: لم قال تعالى على لسان نوح (ع) لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ [الآية 61] بالتاء، ولم يقل ليس بي ضلال كما وصفه قومه به، وذلك أشدّ مناسبة ليكون نافيا ما أثبتوه عينه؟ قلنا: الضلالة أقل من الضلال، فكان نفيها أبلغ في نفي الضلال عنه، كأنه قال: ليس بي شيء من الضلال، كما لو قيل ألك ثمر فقلت مالي ثمرة؟ كان ذلك أبلغ في النفي من قولك مالي ثمر. فإن قيل: لم وصف الملأ بالذين كفروا في قصة هود، دون قصة نوح (ع) ؟ قلنا: لأنه كان في أشراف قوم هود، من آمن به منهم عند هذا القول، فلم يكن كل الملأ من قومه قائلين له إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ [الآية 66] بخلاف قوم نوح فإنه لم يكن منهم من آمن به عند قولهم كما ورد في التنزيل إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) فكان كل الملأ قائلين ذلك، هكذا أجاب بعض العلماء وهذا الجواب منقوض بقوله تعالى في سورة هود في قصة نوح (ع) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا [هود: 27] ، وجواب هذا النقض، أنه يجوز أن القول كان وقع مرتين، والمرة الثانية بعد إيمان بعضهم. فإن قيل: لم ورد على لسان صالح عليه السلام، قوله لقومه بعد ما أخذتهم الرجفة وماتوا يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

ولا يحسن من الحي مخاطبة الميت لعدم الفائدة؟ قلنا: هذا مستعمل في العرف، فإن من نصح إنسانا فلم يقبل منه حتى قتل أو صلب ومرّ به ناصحه، فإنه يقول له: كم نصحتك يا أخي فلم تقبل حتّى أصابك هذا. وفائدة هذا القول، حثّ السامعين له على قبول النصيحة ممّن ينصحهم، لئلّا يصيبهم ما أصاب المنصوح الذي لم يقبل النصيحة، حتّى هلك. فإن قيل: لم قال شعيب (ع) كما ورد في التنزيل وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها [الآية 85] وهم ما زالوا كافرين مفسدين لا مصلحين؟ قلنا: بعد أن أصلحها الله تعالى، بالأمر بالعدل، وإرسال الرسل. وقيل معناه بعد أن أصلح الله تعالى أهلها، بحذف المضاف. وقيل معناه بعد الإصلاح فيها: أي بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء، وأتباعهم العاملين بشرائعهم، فإضافته كاضافة قوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: 33] يعني بل مكرهم في الليل والنهار. فإن قيل: كيف خاطبوا شعيبا (ع) بالعود في الكفر بقولهم كما ورد في التنزيل: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الآية 88] وهو أجابهم إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها [الآية 89] وهو لم يكن في ملّتهم قط، لأن الأنبياء (ع) لا يجوز عليهم شيء من الكبائر خصوصا الكفر؟ قلنا: العرب تستعمل عاد بمعنى صار ابتداء، ومنه قوله تعالى حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) . الثاني، أنه قيل ذلك على طريق تغليب الجماعة على الواحد، باشتمال الكلام على الذين آمنوا منهم بعد كفرهم، وبجعلهم عائدين جميعا، إجراء للكلام على حكم التغليب وعلى ذلك أجرى شعيب (ع) جوابه. فإن قيل: لم ورد على لسان فرعون فَأْتِ بِها بعد إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ [الآية 106] ؟ قلنا: معناه إن كنت جئت بآية من عند الله، فأتني بها: أي أحضرها عندي. فإن قيل: لم قال تعالى قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) وفي سورة الشعراء

قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) [الشعراء] فنسب هذا القول الى فرعون؟ قلنا: قاله هو وقالوه هم فحكى تعالى قوله، ثمّ قولهم هنا. فإن قيل: السحرة إنّما سجدوا لله تعالى طوعا، لمّا تحقّقوا معجزة موسى (ع) ، فلم قال تعالى وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) . قلنا: لمّا زالت كلّ شبهة لهم بما عاينوا من آيات الله تعالى على يد نبيّه، اضطرهم ذلك الى مبادرة السجود فصاروا من غاية المبادرة، كأنّهم ألقوا الى السجود تصديقا لله ولرسوله. فإن قيل: لم قال تعالى هنا حكاية عن السحرة الذين آمنوا وعن فرعون قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) الى قوله سبحانه وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) ثمّ حكى عنهم هذا المعنى في سورة طه، وسورة الشعراء، بزيادة ونقصان في الألفاظ المنسوبة إليهم وهذه الواقعة ما وقعت إلا مرّة واحدة، فلم اختلفت عبارتهم فيها؟ قلنا: الجواب عنه، أنهم إنما تكلموا بذلك بلغتهم لا باللغة العربية، وحكى الله ذلك عنهم باللغة العربية مرارا لحكمة اقتضت التكرار والإعادة، نبيّنها في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى، فمرّة حكاه مطابقا للفظهم في الترجمة رعاية للفظ وبعد ذلك حكاه بالمعنى جريا على عادة العرب في التفنّن في الكلام، والمخالفة بين أساليبه، لئلّا يملّ إذا تمحّض تكراره. فإن قيل: في قوله تعالى مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها [الآية 132] لم سموها آية، ثم قالوا لتسحرنا بها؟ قلنا: ما سموها آية لاعتقاد أنها آية، بل حكاية لتسمية موسى (ع) على طريق الاستهزاء والسخرية. فإن قيل: لم قال تعالى وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) أي أهلكنا، وقال سبحانه في موضع آخر: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) [الشعراء] ؟ قلنا: معناه: ودمرنا، أي أبطلنا ما كان يصنع فرعون وقومه من المكر والمكيدة في حق موسى (ع) وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) أي يبنون من الصرح الذي أمر فرعون هامان ببنائه ليصعد بواسطته الى السماء. وقيل هو

على ظاهره، لأن الله تعالى أورث ذلك بني إسرائيل مدّة، ثم دمّره جميعه. فإن قيل: في قوله تعالى وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَفِي ذلِكُمْ: إن كان إشارة إلى الإنجاء فليس فيه بلاء، بل هو محض نعمة، وإن كان إشارة إلى القتل والأسر، فإضافته إلى آل فرعون بقوله تعالى وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أشدّ مناسبة لسياق الآية، وهو الامتنان: ولهذا قيل: يقتّلون ويستحيون، فأضاف إليهم الفعلين. قلنا: البلاء مشترك بين النعمة والمحنة، لأنه من الابتلاء وهو الاختبار يقال بلاه وابتلاه: أي اختبره، والله تعالى يختبر شكر عباده بالنعمة، ويختبر صبرهم بالمحنة، يؤيّده قوله تعالى وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ [الآية 168] وقوله تعالى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] فمعنى الآية، وفي ذلك الإنجاء نعمة عظيمة من ربّكم عليكم. فإن قيل: في قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ [الآية 142] المواعدة كانت أمره بالصوم في هذا العدد، فلم ذكرت الليالي مع أنها ليست محلّا للصوم، بل يقع في القلب أنّ ذكر الأيام أولى، لأنها محل الصوم الذي وقعت به المواعدة؟ قلنا: العرب في أغلب تواريخها إنّما تذكر الليالي وإن كان مرادها الأيام لأن الليل هو الأصل في الزمان، والنهار عارض لأن الظلمة سابقة في الوجود على النور. وقيل إنه كان في شريعة موسى (ع) جواز صوم الليل. فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الآية 142] وقد علم مجموع الميقات من قوله تعالى وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ [الآية 142] ؟ قلنا: فيه فوائد: إحداها التأكيد. الثانية أن يعلم أن العشر ليال لا ساعات. الثالثة أن لا يتوهم أنّ العشر التي وقع بها الإتمام كانت داخلة في الثلاثين، يعني كانت عشرين وأتمّت بعشر، كما في قوله تعالى: وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ [فصّلت: 10] على ما نذكره مشروحا في حم السجدة.

فإن قيل: لم قال موسى (ع) وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) وقد كان قبله كثير من المؤمنين، وهم الأنبياء ومن آمن بهم؟ قلنا: معناه، وأنا أوّل المؤمنين بأنّك يا الله، لا ترى بالحاسّة الفانية من الجسد الفاني، في دار الفناء. وقيل معناه: وأنا أوّل المؤمنين من بني إسرائيل في زماني. وقيل أريد بالأوّل الأقوى والأكمل في الإيمان، يعني كأنّ القول: لم يكن طلبي للرؤية لشكّ عندي في وجودك أو لضعف في إيماني، بل لطلب مزيد الكرامة. فإن قيل: لم قال تعالى: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها [الآية 145] أي التوراة، وهم مأمورون بالعمل بكلّ ما في التوراة؟ قلنا: معناه بحسنها وكلّها حسن. الثاني أنهم أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشر، ففعل الخير أحسن من ترك الشر. الثالث أن فيها حسنا وأحسن كالاقتصاص والعفو، والانتصار والصبر، والواجب والمندوب والمباح، فأمروا بالأخذ بالعزائم والفضائل، وما هو أكثر ثوابا. فإن قيل: لم قال تعالى وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [الآية 148] واتّخاذهم العجل كان في زمن موسى (ع) بالنقل، وفي سياق الآية ما يدلّ على ذلك. قلنا: معناه من ذهابه إلى الجبل. وقيل من بعد الأخذ عليهم أن لا يعبدوا غير الله. فإن قيل: لم عبّر عن الندم بالسقوط في اليد، في قوله تعالى وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ [الآية 149] وأي مناسبة بينهما؟ قلنا: لأنّ من عادة من اشتدّ ندمه وحسرته على فائت، أن يعضّ يده غمّا، فتصير يده مسقوطا فيها، لأنّ فاه قد رفع فيها و «سقط» مسند إلى «في أيديهم» ، وهو من كنايات العرب كقولهم للنائم: ضرب على أذنه. فإن قيل: لم قال تعالى غَضْبانَ أَسِفاً [الآية 150] وهما متقاربان في المعنى؟ قلنا: لأن الأسف الحزين، وقيل الشديد الغضب ففيه فائدة جديدة. فإن قيل: لم قال تعالى أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ [الآية 154] ولم يقل وفيها، وإنّما يقال

نسختها لشيء كتب مرة ثم نقل فأما أوّل مكتوب فلا يسمّى نسخة، والألواح لم تكتب من مكتوب آخر؟ قلنا: لما ألقى الألواح، قيل إنّه انكسر منها لوحان، فنسخ ما فيهما في لوح ذهب، وكان فيهما الهدى والرحمة، وفي باقي الألواح تفصيل كل شيء وقيل إنما قيل وَفِي نُسْخَتِها لأن الله تعالى لقّن موسى (ع) التوراة، ثمّ أمره فنقلها بكتابتها من صدره إلى الألواح، فسمّاها نسخة. فإن قيل لم قال تعالى وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الآية 157] أي مع النبي (ص) يعني القرآن، والقرآن إنما أنزل مع جبريل (ع) على النبي (ص) ، لا مع النبي (ص) ؟ قلنا: معه: أي مقارنا لزمانه. وقيل معه: أي عليه، وقيل معه: أي إليه، ويجوز ان يتعلّق معه باتّبعوا لا بأنزل معناه: واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي (ص) والعمل بسنّته، أو واتّبعوا القرآن كما اتّبعه هو، مصاحبين له في اتّباعه. فإن قيل: لم قال تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [الآية 162] وهم إنّما بدّلوا القول الذي قيل لهم، لأنهم قيل لهم وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة: 58] فقالوا حنطة؟ قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة. فإن قيل: لم قال تعالى قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [الآية 166] وانتقالهم من صورة البشر الى صورة القردة، ليس في وسعهم؟ قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة. فإن قيل: الحلم من صفات الله تعالى، فلماذا قال عزّ وعلا إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ [الآية 167] وسرعة العقاب تنافي صفة الحلم، لأن الحليم هو الذي لا يعجّل بالعقوبة على العصاة؟ قلنا: معناه شديد العقاب. وقيل معناه سريع العقاب إذا جاء وقت عقابه، لا يردّه عنه أحد. فإن قيل: التمسّك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة، فلماذا قال تعالى وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ [الآية 170] . قلنا: إنّما خصّها بالذكر، إظهارا

لمزيتها، لكونها عماد الدين بالحديث، وناهية عن الفحشاء والمنكر بالآية. فإن قيل: قوله تعالى فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ [الآية 176] تمثيل لحال بلعام «1» ، فلماذا ورد بعده قوله عز وجل ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الآية 177] والمثل لم يضرب إلّا لواحد؟ قلنا: المثل في الصورة، وإن ضرب لبلعام، ولكن أريد به كفّار مكّة كلّهم لأنهم صنعوا مع النبي (ص) ، بسبب ميلهم الى الدنيا وشهواتها، من الكيد والمكر، ما يشبه فعل بلعام مع موسى (ع) . الثاني أنّ ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ راجع إلى قوله تعالى مَثَلُ الْقَوْمِ لا إلى أول الآية. فإن قيل: لم ورد على لسان النبي (ص) إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) وهو (ص) ، كان بشيرا ونذيرا للنّاس كافّة كما قال تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28] ؟ قلنا: المراد بقوله تعالى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لقوم كتب عليهم في الأزل أنهم يؤمنون، وإنّما خصّهم بالذكر، لأنهم هم المنتفعون بالإنذار والبشارة دون غيرهم، فكأنه نذير وبشير لهم خاصّة، كما قال تعالى إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) [النازعات] ويجوز أن يكون متعلق النذير محذوفا تقديره: إن أنا إلّا نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون فاستغنى بذكر أحدهما عن الاخر، كما استغنى بالجملة عن التفصيل، في تلك الآية لأن المعنى: وما أرسلناك إلا كافّة بشيرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين. فإن قيل: لم قال الله تعالى حكاية عن آدم (ع) وحوّاء رضي الله عنها جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما [الآية 190] وقال عزّ وجلّ فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) والأنبياء معصومون عن مطلق الكبائر، فضلا عن الشرك الذي هو أكبر الكبائر؟ قلنا: المراد بقوله تعالى جَعَلا لَهُ أي جعل أولادهما بطريق حذف المضاف، وكذا قوله تعالى فِيما آتاهُما أي فيما آتى أولادهما، ويؤيّد هذا قوله تعالى فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ

_ (1) . بلعام: عرّاف في بني إسرائيل.

حيث ذكر ضمير الجمع، ولم يقل يشركان ومعنى اشتراك أولادهما فيما آتاهم الله تعالى، تسميتهم أولادهم بعبد العزّى وعبد مناف، وعبد شمس، ونحو ذلك، مكان عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم. وقيل الضمير في «جعلا» للولد الصالح، وهو السليم الخلق، وإنّما قيل «جعلا» لأنّ حواء كانت تلد في بطن ذكرا وأنثى. وقيل المراد بذلك تسميتها إياه عبد الحارث، والحارث اسم إبليس في الملائكة، وسبب تلك التسمية يعرف من تفسير الآية، وإنما قيل «شركاء» إقامة للواحد مقام الجمع، ولم يذهب آدم وحواء إلى أن الحارث ربه، بل قصد أنه كان سبب نجاته. وقال جمهور المفسّرين: قوله تعالى فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ في مشركي العرب خاصّة، وهو منقطع عن قصّة آدم وحواء عليهما السلام.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الأعراف"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأعراف» «1» في قوله تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) . استعارة. لأن الخسران في التعارف إنّما هو النقص في أثمان المبيعات. وذلك يخصّ الأموال لا النفوس. إلّا أنه سبحانه لمّا جاء بذكر الموازين وثقلها وخفّتها، جاء بذكر الخسران بعدها، ليكون الكلام متّفقا، وقصص الحال متطابقا. وكأنه سبحانه جعل نفوسهم لهم بمنزلة العروض المملوكة، إذ كانوا يوصفون بأنهم يملكون نفوسهم، كما يوصفون بأنهم يملكون أموالهم. وذكر خسرانهم لها، لأنهم عرّضوها للخسار، وأوجبوا لها عذاب النار. فصارت في حكم العروض المتلفات، وتجاوزوا حدّ الخسران في الأثمان، إلى حد الخسران في الأعيان. وفي قوله سبحانه حاكيا عن إبليس: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) استعارة، والصراط هنا كناية عن الدين، جعله الله سبحانه طريقا للنجاة والمفاز، وفي داري القرار والمجاز وإنما قال صراطك، لمّا كان الدين كالطريق المؤدية إلى رضا الله سبحانه ومثوبته، الموصلة إلى نعيمه وجنته. فكان إبليس- لعنه الله- إنما يوعد بالقعود على طريق الدين ليضلّ عنه كلّ قاصد، ويردّ عنه كلّ وارد، بمكره وخدائعه، وتلبيسه ووساوسه. تشبيها بالقاعد على مدرجة بعض السّبل ليخوّف السالكين منها، ويعدل

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

بالقاصدين عنها. والمراد: لأقعدنّ لهم على صراطك المستقيم، فلمّا حذف الجارّ انتصب الصراط. والحذف هنها أبلغ في الفصاحة، وأعرق في أصول العربية. ونظيره قول الشاعر «1» . كما عسل الطريق الثعلب أي عسل في الطريق. وكلّ ما في القرآن من ذكر سبيل الله سبحانه، فالمراد به الطريق المفضية إلى طاعته عاجلا، وإلى جنّته آجلا. وقوله سبحانه: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الآية 22] . استعارة. والمراد أنه أوقعهما في أهوائه بغروره لهما. وكل واقع في مثل ذلك فإنه نازل من علو إلى استفال، ومن كرامة إلى إذلال. فلذلك قال تعالى: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ. وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتابنا الكبير، عند القول فيما اختلف العلماء فيه من ذنوب الأنبياء (ع) . وقول تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الآية 26] وقد قرئ: ورياشا «2» ، وهما جميعا استعارة هنا «3» . لأنّ المراد بهما اللباس. وسمي اللباس ريشا ورياشا تشبيها بريش الطائر الذي يستر جملته. ومن كلام العرب: أعطيته رجلا بريشه. أي بكسوته. وقال المفسّرون: معنى لباس التّقوى، ما كان من الملابس يستر العورة، لأنّ ستر العورة من أسباب التّقوى. وقرئ: «ولباس التّقوى» . نصبا بأنزلنا عليكم. والرفع فيه على معنى الابتداء. ويكون «خير» خبرا له. فيكون المعنى: ولباس التقوى المشار إليه خير. وهذا أسدّ القولين في هذا المعنى. وفي قوله تعالى:

_ (1) . هو الشاعر ساعدة بن جؤبة يصف رمحا. والبيت كاملا هو: لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه، كما عسل الطريق الثّعلب انظر ابن هشام في «أوضح المسالك» ج 2 من 16. (2) . قرأ ذلك الحسن وعاصم من رواية المفضّل الضبّي، كما قرأه ابو عمرو من رواية الحسين بن علي الجعفي. (3) . الاستعارة في قوله تعالى قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً لا تتّضح إلا إذا كان اللباس هو المطر الذي به ينبت القطن والكتان. أي أنزلنا عليكم مطرا ينتج القطن والنبات الذي تتخذون منه ملابسكم- انظر القرطبي ج 7 من 184.

وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الآية 29] استعارة. لأن الوجه لا يصحّ عليه القيام. والمعنى: «فوجّهوا وجوهكم عند كل مسجد» . ويجوز أن يكون معنى ذلك: «فتوجّهوا بجملتكم نحو كل مسجد» . لأن وجه الشيء عبارة عن جملته. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [الآية 40] استعارة. والمراد لا يصلون إلى الجنة ولا يتسهّل لهم السبيل إليها، ولا يستحقّون بأعمالهم الدخول إليها. ومثل ذلك قوله سبحانه: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) [القمر] أي سهّلنا خروجه من السماء إلى الأرض، ورفعنا الحواجز بينه وبين الخلق. وقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الآية 41] وهذه استعارة. وقد مضى في (آل عمران) إلّا أنّ الزيادة هاهنا قوله سبحانه: وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ فكأنه جعل لهم من النار أمهدة مفترشة وأغشية مشتملة، فيكون استظلالهم بحرها، كاستقرارهم على جمرها. نعوذ بالله من ذلك. وقوله سبحانه: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الآية 43] . وهذه استعارة. لأنه ليس هناك شيء يتأتّى نزعه على الحقيقة. والمعنى: أزلنا ما في صدورهم من الغلّ بإنسائهم إيّاه، وبإحداث أبدال له تشغل أماكنه من قلوبهم، وتشفع مواقعه من صدورهم. وقال بعض المفسّرين: معنى ذلك: أهل الجنة لا يحسد بعضهم بعضا على علوّ المنزلة فيها، والبلوغ إلى مشارف رتبها. والحسد: الغلّ. وقوله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وهذه استعارة خفيّة. وقد تكون استعارة خفيّة، واستعارة جليّة. وذلك أن حقيقة الميراث في الشرع، هو ما انتقل إلى الإنسان من ملك الغير بعد موته على جهة الاستحقاق. فأما صفة الله تعالى بأنه الوارث لخلقه، كقوله سبحانه: وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) [القصص] وكقوله: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 180 الحديد: 10] فهو مجاز. والمراد: أنه سبحانه الباقي بعد فناء الخلق، وتقوّض السماء والأرض. وقد استعمل ذلك أيضا في نزول قوم ديار قوم بعدهم، وأخذ قوم أموال

قوم بعد إجلائهم وحربهم. فقال سبحانه في هذه السورة: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الآية 137] . وقال تعالى في موضع آخر: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها [الأحزاب: 27] وليس يصحّ في ميراث الجنّة مثل هذه المعاني التي ذكرت، لأن الجنة لا يسكنها قوم بعد قوم قد فارقوها وانتقلوا عنها. فقوله سبحانه: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها على الأصل الذي قدّمناه استعارة. ويكون المعنى الذي يسوّغ هذه الاستعارة، أنّ هؤلاء المؤمنين لمّا عملوا في الدار الدنيا أعمالا استحقّوا عليها الجزاء والثواب، ولم يصحّ أن يوفّر عليهم ذلك إلا في الجنّة، وهي من الدار الاخرة فكأنّهم استحقّوا دخولها. فحسن من هذا الوجه أن يوصفوا بأنهم أورثوها، وإن لم يكن سكناهم لها بعد سكنى قوم آخرين انتقلوا عنها. وسوّغ ذلك أيضا اختلاف حال الدّارين، وانتقالهم من الأولى إلى الآخرة. فكأنّ ما عملوه في الدار الأولى كان سببا لما وصلوا إليه في الدار الاخرة، كما يستحقّ الميراث بالسبب. وقوله تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً [الآية 45] وهذه استعارة، فإن، سبيل الله سبحانه: دينه. ومعنى وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يبتغون عنها المتحاول، ويطلبون منها الفسح والمخارج، ويوهمون بالشّبهات أنّها معوجّة غير قويمة، ومضطربة غير مستقيمة. وقوله تعالى: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) وقد مضى نظير ذلك في أوّل السورة. وقوله سبحانه: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ [الآية 54] وهذه استعارة.

سورة الأنفال 8

سورة الأنفال 8

المبحث الأول أهداف سورة"الأنفال"

المبحث الأول أهداف سورة «الأنفال» «1» أهداف السورة من الأسباب المباشرة لنزول سورة الأنفال معالجة شؤون حدثت بين المسلمين في غزوة بدر منها كراهتهم للخروج إلى بدر حينما دعاهم الرسول إلى الخروج، وكراهتهم للقتال حينما وصلوا إلى بدر وتحتّم عليهم أن يقاتلوا. ومنها اختلافهم بعد تمام النصر في قسمة الغنائم. ومنها اختلاف الرأي في معاملة الأسرى أيقبلون منهم الفداء أم يقتلونهم؟ وفي جو هذه الشؤون عرضت السورة لما يجب أن يكون عليه المسلمون في خاصة أنفسهم، من جهة امتثال الأمر، والإخلاص، والحيطة والحذر من الأعداء، وتذكّر نعم الله عليهم، والآداب التي يجب مراعاتها في أثناء القتال، وفيما يتصل به، من إعداد العدّة، والمحافظة على العهود، وعلاقة بعضهم ببعض، حتى يكونوا أهلا لما وعدهم الله من النصر والتأييد وحتى يفوزوا بدرجات المغفرة والرضا عند الله. ولا يفهم من ذلك أن كراهة القتال كانت طابعا عاما بل كانت رغبة فريق قليل ونفر محدود، كان يفضّل الغنيمة والحصول على التجارة على القتال، لكن بقية الجيش كان على استعداد للتضحية والفداء، وكان القرآن يوحّد

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمد شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

صور من معركة بدر

الهدف، ويرشد الجميع إلى أن القتال أفضل لأن فيه انتصافا للمؤمنين، وإعلاء لكلمة الله، ودحرا للطغيان، وتحطيما لطواغيت الكفر، وردعا للمشركين، وقد استشار النبي (ص) المسلمين قبل بدء المعركة: هل يقدم على القتال؟ أم يعود إلى المدينة؟ فأدلى أبو بكر وعمر برأيهما، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله، فنحن معك والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) [المائدة] ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. ثم قال النبي (ص) «أشيروا عليّ أيها الناس» ، فقام سعد بن معاذ زعيم الأنصار، وقال: يا رسول الله، آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق نبيّا، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا إنّا لصبر في الحرب وصدق في اللقاء، لعل الله يريك منّا ما تقرّ به عينك. وعندئذ أشرق وجه الرسول (ص) بالمسرّة، وقال لأصحابه سيروا وابشروا، فإن الله وعدني إحدى الحسنيين العير أو النفير، وقد فرّت العير فلم يبق إلا النفير فسار المسلمون، وكلهم أمل في النصر وتأييد الله. صور من معركة بدر نزلت سورة الأنفال في غزوة بدر، وهي الموقعة الفاصلة في تاريخ الإسلام والمسلمين، بل في تاريخ البشرية كلها إلى يوم الدين. الموقعة التي قدّر المسلمون أن تكون غايتها غنيمة أموال المشركين، وقدّر رب المسلمين أن تكون فاصلا بين الحق والباطل، وأن تكون مفرق الطريق في تاريخ الإسلام، ثم تكون مفرق الطريق في خط سير التاريخ الإنساني العام، وفيها ظهرت الاماد البعيدة، بين تدبير البشر لأنفسهم فيما يحسبونه الخير، وتدبير رب البشر لهم، ولو كرهوه في أول الأمر. نزلت سورة الأنفال في غزوة بدر، فتضمّنت الكثير من دستور السلم

الغنائم

والحرب، ودستور الغنائم والأسرى، ودستور المعاهدات والمواثيق وتضمنت بعد ذلك، الكثير من دستور النصر والهزيمة، وبتضمّنها لأسباب النصر والهزيمة، ولواجبات المجاهدين في الإعداد والاستعداد، ثم ترك الأمر بعد ذلك لله، وما النصر إلا من عند الله. ثم إنها تضمنت بعد ذلك، مشاهد من الموقعة ومشاهد من حركات النفوس قبل المعركة، وفي ثناياها وبعدها. مشاهد حية تعيد إلى المشاعر وقع المعركة، وصورها وسماتها، كأن القارئ يراها. وإلى جوار المعركة استطراد السياق أحيانا إلى صور من حياة الرسول (ص) وحياة أصحابه في مكة، حينما كانوا قليلا مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطّفهم الناس وصور من حياة المشركين قبل هجرة الرسول (ص) من بين ظهرانيهم ومن بعدها وأمثلة من مصائر الكافرين من قبل- كدأب آل فرعون والذين من قبلهم- والدأب معناه الصفة والشأن، أي إن شأن الكافرين واحد في تكذيب الرسل، واستحقاق العقاب وبذلك تقرر السورة سنّة الله، التي لا تتخلّف في نصر المؤمنين وهزيمة المكذبين. الغنائم لقد افتتحت السورة بالحديث عن الأنفال. وهي الغنائم التي يغنمها المسلمون في جهادهم لإعلاء كلمة الله. وقد ثار بين أهل بدر جدال حول تقسيمها بعد النصر في المعركة، فردهم الله إلى كلمته وحكمه فيها، ردهم إلى تقواه وطاعته، وطاعة رسوله، واستجاش فيهم وجدان التقوى والإيمان، ثم ذكّرهم بما أرادوا هم لأنفسهم من الغنيمة وما أراد الله لهم من النصر، وكيف سارت المعركة وهم قلة لا عدد لهم ولا عدة، وأعداؤهم كثرة في الرجال والعتاد، وكيف ثبتهم الله سبحانه بمدد من الملائكة، وبالمطر يستقون منه، ويثبت الأرض تحت أقدامهم فلا تسوخ في الرمال، وبالنعاس يغشاهم، فيسكب عليهم السكينة والاطمئنان، ويلقي الرعب في قلوب أعدائهم، وينزل بهم شديد العقاب. قال تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) .

الحرب والسلام

الحرب والسلام تضمنت سورة الأنفال دراسة كاشفة وتصويرا ملموسا، للمواقف الناجحة والحروب الهادفة كما رسمت السورة، مع سورة أخرى في القرآن الكريم، أسباب النصر في الميدان، ومن هذه الأسباب ما يأتي: 1- إخلاص النية، والرغبة في الشهادة، وإيثار الاخرة على الدنيا، وتحمّل تبعات الحرب وآلام القتال. 2- الثبات في اللقاء، وتذكّر الله سبحانه في العسر واليسر، وعدم الفرار من الميدان، وبذل النفس والنفيس في سبيل الله. 3- إعداد العدّة، وتجهيز أدوات القتال والتدريب عليها، مع وحدة الصف، وتماسك القوى، وترابط المقاتلين. 4- التوكل على الله، والالتجاء إليه بعد الأخذ في الأسباب، وطاعة القائد وتنفيذ الأوامر، والمحافظة على النظام وأخذ الحذر. 5- البعد عن التنازع والاختلاف في حال القتال وما يتعلق به، فإن النزاع والخلاف من أكبر الأسباب في إذهاب القوة وتمكين الأعداء: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الآية 46] . أي لا تختلفوا، فإنّ الخلاف يؤدي الى الضعف والهزيمة، وضياع القوة والدولة. 6- عدم تصديق الخلافات والأراجيف، ومصاولة اليأس والقنوط، والقضاء على أساليب العدو وعلى الحرب النفسية التي يشنها، رغبة منه في تثبيط الهمم والتيئيس من النصر. ثم يأمر الله المؤمنين في سورة الأنفال، أن يثبتوا في كل قتال، مهما خيّل إليهم في أول الأمر من قوة أعدائهم. فإن الله هو الذي يقتل، وهو الذي يرمي، وهو الذي يدبّر، وما هم إلا أسباب ظاهرة لتنفيذ إرادة الله. وسخر القرآن من المشركين الذين كانوا قبل الموقعة يستفتحون، فيطلبون أن تدور الدائرة على أضل الفريقين وأقطعهما للرحم، فيقول: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الآية 19] . ويحذر المسلمين أن يتشبهوا بالكفار والمنافقين الذين يسمعون

صفات المؤمنين

بآذانهم، ولكنهم لا يسمعون بقلوبهم، لأنهم لا يستجيبون ولا يهتدون. ثم تدعو السورة إلى الاستجابة لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم، ولو خيّل إليهم أن فيه القتل والموت، وتذكّرهم كيف كانوا قليلا مستضعفين يخافون أن يتخطّفهم الناس، فأعزّهم الله ونصرهم، وأنهم، إذا اتقوا الله جعل لهم فرقانا من النصر الكامل، ذلك فوق تكفير السيئات وغفران الذنوب، وما ينتظرهم من فضل الله الذي تتضاءل دونه المغانم والأموال. وكما وضعت سورة الأنفال صفحة في كتاب الإسلام عن الجهاد، فإنها قابلتها بصفحة أخرى عن السلم لمن يجنح إليه ويختار الهدنة. ويتّضح لنا من السورة، أن السلم هو القاعدة في الإسلام، أما الحرب فطارئة لدفع الباطل وإقرار الحق ثم يدعو الإسلام إلى السلم دعوته إلى الجهاد، ويحافظ على العهد ما وفي به المعاهدون، ويؤمّن المخالفين للإسلام في العقيدة من كل اعتداء غادر، ويحصر الحروب في أضيق نطاق تقضي به ضرورة تأمين السلم والحق والعدل. يقول سبحانه وتعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) . والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح، تعبير لطيف، يلقي ظل الدعة الرقيق، فهي حركة جناح يميل إلى السلم، ويرخي ريشه في وداعة واطمئنان، فإذا الجوّ من حوله طمأنينة وسلام. وهناك حالة استثنائية واحدة، هي حالة جزيرة العرب، التي سيجيء في سورة براءة، نبذ عهود المشركين فيها جميعا، وتخليصها من الشرك كافّة، لتكون موطنا خالصا للإسلام. صفات المؤمنين تعرّضت سورة الأنفال لبيان صفات المؤمنين، كما ورد تحديد هذه الصفات في أول سورة «البقرة» وأول سورة «المؤمنون» ، وفي سورة «الفرقان» وفي كثير من السور. وإذا استوعبنا هذه الآيات، وجدناها تدور حول تحديد المؤمن- الذي يريده الله- بمن يجمع بين سلامة العقيدة وسلامة الخلق، وصلاح العمل، وبمن يكون في ذلك كله، مثالا صادقا، وصورة صحيحة لأوامر الله وإرشاداته.

نداءات إلهية للمؤمنين

وقد وصف الله المؤمنين في سورة الأنفال بخمس صفات هي: وجل القلوب عند ذكر الله، وزيادة الإيمان عند تلاوة آياته، والتوكل على الله وحده، وإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزق الله. ثم بيّن أنهم بهذه الصفات يكونون أهل الإيمان حقا، ويكون لهم عند الله درجات عالية في الجنة. فالمؤمن حقّا يراقب مولاه، ويرجو رحمته، ويخشى عقابه، ويخشع عند تذكّر آياته وهو في خشوعه وخضوعه وعبادته، مخلص القلب، ثابت اليقين. ومن صفات المؤمن، زيادة إيمانه ورسوخ عقيدته عند تلاوة القرآن وتدبر آياته، ومعرفة أحكامه وأسراره كما أن إقامته للصلاة وأداءه للزكاة، تقتضيان هذا الإيمان سلوكا وتطبيقا، ممّا يزيّن الإيمان في القلب ويزيده ثقة ويقينا. فالصلاة في حقيقتها، مناجاة، ومناداة، وخشوع، وخضوع، وقراءة، ودعاء. ومن ثمرتها، طهارة المؤمن من الفحشاء والمنكر، وتهذيب الغرائز، وتقويم السلوك، وتربية الضمير. والزكاة فيها تكافل المجتمع، وترابط الأغنياء والفقراء. وفي سورة الأنفال، حثّ على الإنفاق من كل ما رزق الله، وهو يشمل، كما فصّل الفقهاء، زكاة الأموال، وزكاة الزروع والثمار، وزكاة الماشية، وزكاة الرّكاز وكل ما يستخرج من باطن الأرض، وزكاة التجارة. ولا نكاد نجد آية عرضت للصلاة، إلا وتذكر الإنفاق في سبيل الله. كما أنا لا نكاد نجد آية تعرضت لأوصاف المؤمنين، وتهملهما أو تهمل أحدهما. فقد جعل الله إقامة الصلاة، مثالا لبذل النفس في سبيله، وجعل الإنفاق مثالا لبذل المال في سبيله. وبذلك يتّسم الإيمان بطابع تهذيب النفس وطهارة القلب، كما يتّسم بأنه دافع عملي إلى السلوك النافع، والعمل الصالح الذي يؤدي إلى إصلاح المجتمع، وتماسك الأمة، وتقوية روابط المودة والرحمة والألفة بين الناس. نداءات إلهية للمؤمنين أخذت سورة الأنفال تنادي المؤمنين ست مرات بوصف الإيمان. في النداء الأول: تأمرهم بالثبات في الميدان، والشجاعة في القتال وتنهاهم عن الفرار من المعركة، وتتوعد الفارّ من

ميدان القتال بعذاب السعير، وغضب الله العليّ القدير. والنداء الثاني: يشتمل على الأمر بطاعة الله ورسوله وقد امتثل المسلمون لذلك الأمر فانقادوا لأحكام الله، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيله سبحانه. وهذا الطريق هو طريق النصر للسابقين واللاحقين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الآية 20] . والنداء الثالث: الاستجابة لله وللرسول، وتغليب أمرهما على كل ما سواهما، من أوامر، وفي الحديث الشريف: «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلّا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» . النداء الرابع: دعوة إلى ترك الخيانة، والبعد عن إفشاء أسرار الأمة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) . النداء الخامس: دعوى إلى تقوى الله في أحكامه وسننه، وبيان أن التقوى شجرة مثمرة، وأعظم ثمارها النور الذي يبصّر صاحبه بالحق، والعدل، وطريق الصلاح والهدى. النداء السادس: يأمر بذكر الله، وتلاوة كتابه، وينهى عن الفرقة والتنازع والاختلاف، ويحثّ على الصبر والتمسّك بالوحدة والجماعة، حيث يقول سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الأنفال"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأنفال» «1» تاريخ نزول السورة ووجه تسميتها نزلت سورة الأنفال بعد سورة البقرة، وكان نزولها بعد غزوة بدر، وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، فتكون سورة الأنفال من السّور التي نزلت بين غزوة بدر وصلح الحديبية. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ والأنفال هي الغنائم، وتبلغ آياتها خمسا وسبعين آية. الغرض منها وترتيبها نزلت سورة الأنفال في غزوة بدر لتشرح وقائعها، وتستخلص وجوه العبر منها، وكانوا قد تنازعوا بعدها في قسمة الأنفال، لأن النبي (ص) قسم على من حضرها وبعض من لم يحضرها، فأعطى ممن لم يحضرها عثمان بن عفان، لأنه تركه على ابنته رقيّة زوجه وكانت مريضة، وأعطى طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد، وكان قد بعثهما للتجسس على العير، وثلاثتهم من المهاجرين، وكذلك أعطى خمسة من الأنصار، وقيل إن من باشر القتال فقتل وأسر نازع من كان يقف مع النبي (ص) ، فقال الأولون: الغنائم لنا لأننا قتلنا وهزمنا. وقال الآخرون كنا ردءا لكم، ولو انهزمتم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكميّة الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

تفويض قسمة الأنفال لله والرسول الآيات (1 - 40)

لا نحزتم إلينا، فلا تذهبوا بالغنائم دوننا. فسألوا النبي (ص) عن حكمها، فنزلت هذه السورة تجيبهم في أولها بأن قسمة الأنفال لله ورسوله، لأن الله هو الذي نصرهم ومكّنهم منها، فدبّر لهم ما دبّر في هذه الغزوة، وأمدّهم بما أمدّهم به من الملائكة، إلى غير هذا ممّا ذكره في هذا السياق ثم تجيبهم بعد هذا ببيان مصرف الأنفال، وقد فصلت في هذا قسمتها، وبيّن السياق أنّ خمسها لله وللرسول ولذي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل، وأيد حقهم في خمسها بمثل ما أيد به حق الله والرسول في قسمتها، ومضى السياق في هذا إلى آخر السورة. وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة «الأعراف» ، لأن فيها تحقيق ما أنذر به المشركون في هذه السورة، ولأنها تعدّ هي وسورة التوبة، كسورة واحدة متممة للسبع الطوال. تفويض قسمة الأنفال لله والرسول الآيات (1- 40) قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) فذكر جلّ وعلا أن قسمة الأنفال من حقه وحق رسوله، وأمرهم أن يتقوه ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا ما يؤمرون به، إن كانوا مؤمنين، لأن المؤمنين هم الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، إلى غير هذا مما ذكره من صفاتهم. ثم ذكر سبحانه أنه لا يفعل في تقسيم الأنفال إلا ما فيه مصلحتهم، وإن خفيت عليهم. كما أخرجه من بيته يوم بدر بوعده الحق من النصر على المشركين، وإنّ فريقا منهم لكارهون لقتالهم، ثم ذكر إذ يعدهم إحدى الطائفتين وهي النفير أنّها لهم، وأنهم ودّوا أن غير ذات الشوكة وهي العير تكون لهم، وأنه يريد أن يحق الحق بتسليطهم على ذات النفير، وأن يقطع دابر الكافرين. ثم ذكر إذ يستغيثونه فأمدّهم بألف من الملائكة مردفين، وأنه لم يجعل هذا الإمداد إلا بشرى لهم، ولتطمئن به قلوبهم، وما النصر إلا من عنده وحده سبحانه، وليس بالملائكة ولا بغيرهم،

ثم ذكر إذ يغشّيهم النوم ليحصل لهم به الأمن، وما أنزل عليهم من المطر ليطهّرهم به ويذهب عنهم وسوسة الشيطان، وكان المشركون قد سبقوا إلى الماء وغلبوا عليه، وطمعوا أن تكون لهم الغلبة به، وقد عطش المؤمنون وخافوا، وأعوزهم الماء للشرب والطهارة. ثم ذكر إذ يوحي إلى الملائكة أنه معهم، وأمره لهم بتثبيت المؤمنين، وإخباره لهم بأنه سيلقي الرعب في قلوب المشركين، وأمره لهم بأن يضربوهم فوق الأعناق ويضربوا منهم كل بنان، لأنهم شاقّوا الله ورسوله، والله شديد العقاب، فليذوقوا هذا العذاب في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب النار، ثم ذكر نهيه للمؤمنين أن يولّوهم الأدبار عند لقائهم، ووعيده لمن يفعل هذا منهم. ثم ذكر أنه مع هذا لا يكون المؤمنون هم الذين قتلوهم، ولكنه هو الذي قتلهم بتدبيره لهم، وقد أراد ذلك ليبلي المؤمنين بلاء حسنا على ما أصابهم من المشركين قبل هذه الغزوة، ويوهن كيدهم بمن قتل من صناديدهم، ثم ذكر للمشركين أنهم إن يستنصروا بالهتهم فقد جاءهم استنصارهم بنصر المؤمنين عليهم، وإن ينتهوا عن القتال فهو خير لهم، وإن يعودوا إليه يعد إليهم بمثل ذلك النصر، ولن تغني عنهم فئتهم شيئا ولو كثرت. ثم أخذ السياق في وعظهم بما يناسب مقام هذه الوقائع، فأمرهم سبحانه أن يستجيبوا له ولرسوله، ولا يتنازعوا فيما يدعوهم إليه، كما تنازعوا في تقسيم الأنفال، وفي دعوتهم إلى القتال، ثم حذّرهم أن يصيبهم بالخلاف والتنازع فتنة تعمّ الظالم وغيره منهم، وأمرهم أن يذكروا وهم قليل مستضعفون بمكة، فاواهم في المدينة ونصرهم بفضل طاعتهم، وإذعانهم له ولرسوله. ثم نهاهم أن يخونوا الله ورسوله بالتّجسّس للأعداء وغيره، وأمرهم أن يعلموا أن أموالهم وأولادهم فتنة لهم، فلا يقاتلوا لأجل الغنائم، ولا يفتتنوا بها، كما افتتنوا في غنائم بدر، ثم ذكر لهم أنهم إن يتقوه ينصرهم على الكفار، ويغفر لهم ما حصل منهم. ثمّ ذكر ما كان من مكر المشركين

مصرف الأنفال الآيات (41 - 75)

بالنبي (ص) في ليلة الهجرة، وأنه سبحانه مكر بهم فدبّر أمره حتى نجّاه منهم. وأنهم كانوا إذا تتلى عليهم آياته في إنذارهم ووعيدهم، لم يؤمنوا بها، وسألوه أن يمطرهم حجارة من السماء، أو يأتيهم بعذاب أليم إن كانت من عنده، وأنه ما كان ليعذّبهم والنبي معهم في مكة، وهم يستغفرونه، ويتوبون إليه، واحدا بعد واحد. ثم ذكر أنهم يستحقون ما طلبوه من العذاب، لأنهم يصدّون عن المسجد الحرام، ولم تكن صلاتهم فيه إلا صفيرا وتصفيقا، ثم ذكر أنه أذاقهم ما طلبوه من العذاب يوم بدر، وأنهم سيغلبون بعد هذا، ثم يحشرون إلى جهنّم، فيذوقون عذابها بعد عذاب الدنيا، ثم أمر النبي (ص) أن يذكر لهم، أنهم إن ينتهوا عن كفرهم يغفر لهم ما سلف منهم، وإن يعودوا إلى القتال فسيصيبهم ما أصاب أمم الكفر قبلهم وأمر المؤمنين أن يستمرّوا في قتالهم حتى لا يفتنوهم في دينهم، ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا عن الكفر والقتال فإن الله بما يعلمون بصير وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) . مصرف الأنفال الآيات (41- 75) ثم قال تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الآية 41] ، فذكر أن خمس الأنفال يصرف لمن ذكرهم، والباقي، وهو أربعة أخماسها، يصرف للغانمين ثم أيد حقه وحق المذكورين في الخمس، بأنه جلّ وعلا الذي أنزل النصر يوم بدر، وقد نزلوا بالعدوة الدّنيا بعيدين عن الماء، ونزل المشركون بالعدوة القصوى قريبين منه، ولو تواعد الفريقان على القتال لاختلفوا في الميعاد، لقلّة المسلمين وكثرة المشركين، ولكنّ الله جمع بينهم على هذا الحال ليكون النصر معجزة من المعجزات لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الآية 42] ثم أيده أيضا بأنه الذي أراهم للنبي (ص) في منامه قليلا ليقدموا على قتالهم، ثم قلّلهم في أعين المؤمنين بعد التقائهم بهم لتقوى قلوبهم، ثم ذكر ما كان من أمره لهم أن يثبتوا ويستعينوا به ويطيعوا رسوله، وما كان من نهيه لهم أن يتنازعوا ويخرجوا كالمشركين بطرا

ورئاء الناس، وقد غرّهم الشيطان وأخبرهم بأنه جار لهم، فلما تراءت الفئتان للقتال فرّ منهم، لأنه رأى ما لم يروه من مدد الملائكة للمؤمنين ثم ذكر ما كان من استحقار المنافقين واليهود، لقلّة عددهم ورميهم لهم بالغرور لخروجهم بهذا العدد القليل، مع أن من يتوكل على الله ينصره ولو كان قليل العدد، ثم ذكر ما كان من الملائكة الذين سلّطهم على المشركين يتوفّونهم ويضربون وجوههم وأدبارهم، ويأمرونهم أن يذوقوا عذاب الحريق بما قدمت أيديهم ثم ذكر أنه أخذهم بهذا أخذ آل فرعون والذين كفروا من قبلهم بذنوبهم، لأنه لا يغيّر نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم. ثم ذكر أن أولئك المنافقين واليهود الذين رموا المؤمنين بالغرور لقلة عددهم شر الدوابّ عنده، لجهلهم ونقضهم عهودهم عهدا بعد عهد ثم أمر النبي (ص) إذا وجدهم في الحرب، أن يفعل بهم ما يشرد به من خلفهم من أعدائه، وإذا خاف منهم خيانة أن ينبذ إليهم عهدهم نبذا ظاهرا، بألّا يبادرهم بالحرب قبل علمهم بنبذ العهد. ثم أوعد الكفار جميعا، بأنه لا يعجزه أن يصيبهم بمثل ما أصابهم يوم بدر، وأمر المؤمنين أن يعدّوا لقتالهم ما استطاعوا من آلات الحرب ليرهبوهم بذلك، ويرهبوا من يبطن لهم العداوة من المنافقين واليهود، ثم أمره إذا جنحوا بعد ذلك للسلم أن يجنح لها وذكر أنهم إن يريدوا خداعه بها فإنه هو حسبه، وهو الذي أيّده بنصره وبالمؤمنين، ثم أمره أن يحرّضهم دائما على القتال، ووعدهم بأنهم إن يكن منهم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منهم مائة صابرة تغلب ألفا، ثم خفف عنهم وأمرهم أن يثبتوا المائة منهم لمائتين، والألف لألفين. ثم عاتب النبي (ص) والمسلمين على اتخاذهم الأسرى في غزوة بدر، لأنه لا يصح له اتخاذ الأسرى من الكفار إلا بعد أن يثخن فيهم بالقتل، ليضعف جمعهم، ويقلّ عددهم ثم ذكر أنهم آثروا الأسر طمعا في الفداء، ولولا أنه لا يعذب إلّا بعد الإنذار لمسّهم فيما أخذوا عذاب عظيم ثم أباح لهم بأن يأكلوا ممّا أخذوه من الفداء، لئلّا يفهموا من ذلك أنه محرّم عليهم ثم أمره أن يذكر لمن قاتل مع

المشركين من مسلمي مكة وأسر معهم، أنه إن يعلم في قلوبهم خيرا يؤتهم خيرا ممّا أخذ منهم، وأنهم إن يريدوا خيانته بعد إطلاقهم فقد خانوه من قبل فأمكن منهم ثمّ رغّبهم في الهجرة، فجعل ولاية الإسلام للمهاجرين والأنصار، وقطع الولاية بين من هاجر ومن لم يهاجر منهم، وأجاز للمهاجرين والأنصار إن استنصروهم أن ينصروهم إلا على من عاهدوهم من المشركين وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض، فلا يصح للمسلمين أن يوالوهم ويقاتلوا معهم وذكر أن المهاجرين والأنصار، هم المؤمنون حقّا لا غيرهم ممّن لم يهاجر، وأن الذين آمنوا من بعد ذلك وهاجروا، فهم من المؤمنين حقّا أيضا ثم أبطل الإرث بسبب الهجرة والنصرة، وجعله لذوي القرابة، فقال جلّ شأنه وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الآية 75] .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الأنفال"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأنفال» «1» اعلم أن وضع هذه السورة وبراءة هنا، ليس بتوقيف من الرسول (ص) والصحابة، كما هو الراجح في سائر السور، بل اجتهاد من عثمان رضي الله عنه. وقد كان يظهر في بادئ الرأي: أن المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود، لاشتراك كل منها في اشتمالها على قصص الأنبياء، وأنها مكية النزول، خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطوال، وعدّوا السابعة يونس، وكانت تسمّى بذلك، كما أخرجه البيهقي في الدلائل «2» . ففي فصلها من الأعراف، بسورتين هما الأنفال وبراءة، فصل للنظير عن سائر نظائره، هذا مع قصر سورة الأنفال، بالنسبة إلى الأعراف وبراءة. وقد استشكل ابن عباس حبر الأمة قديما ذلك. فأخرج أحمد وأبو داود والتّرمذي والنّسائي وابن حبّان والحاكم، عن ابن عباس، قال، قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني «3» ، وإلى براءة وهي من المئين «4» ، فقرنتم بينهما، ولم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. [.....] (2) . السبع الطوال كما أخرج النسائي: 1: 114 عن ابن عباس: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والانعام، والأعراف. وأورد السيوطي نقلا عن ابن أبي حاتم وغيره عن سعيد بن جبير: أن السابعة يونس (الإتقان: 1: 220) . (3) . المثاني: إما أنها من الثناء. أو فيها الثناء والدعاء. أو لأنها تثنى بغيرها. (الإتقان: 1: 190) وقيل: لأنها ثانية للمئين، تالية لها وقبل: لتثنية الأمثال فيها بالعبر. حكاه السيوطي عن النّكزاوي (الإتقان: 1: 220) . (4) . المئين: ما زادت آياتها على المائة أو قاربتها، وهي ما وليت الطول (الإتقان: 1: 220) .

تكتبوا بينهما «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله (ص) ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصّتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله (ص) ولم يبيّن لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم «1» ، ووضعتها في السبع الطوال «2» . فانظر إلى ابن عباس رضي الله عنه، كيف استشكل على عثمان رضي الله عنه أمرين: وضع «الأنفال» و «براءة» في أثناء السبع الطوال، مفصولا بهما بين السادسة والسابعة، ووضع الأنفال وهي قصيرة مع السور الطويلة. وانظر كيف أجاب عثمان رضي الله عنه، أولا بأنه لم يكن عنده في ذلك توقيف، فإنه استند إلى اجتهاد، وأنه قرن بين «الأنفال» و «براءة» لكونها شبيهة بقصتها في اشتمال كل منهما على القتال، ونبذ العهود، وهذا وجه بيّن المناسبة جليّ، فرضي الله عن الصحابة، ما أدقّ أفهامهم! وأجزل آراءهم! وأعظم أحلامهم! وأقول: يتم بيان مقصد عثمان رضي الله عنه في ذلك بأمور فتح الله بها: الأول: أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها، لكونها مشتملة على البسملة، فقدّمها لتكون لفظة منها، وتكون «براءة» بخلوّها من البسملة كتتمّتها وبقيّتها، ولهذا قال جماعة من السلف: إن «الأنفال» و «براءة» سورة

_ (1) . قال الباقلاني: إنّما لم تكتب البسملة أول براءة، لأن النبي (ص) أراد أن يعلم من بعده أن كاتبي فواتح السور لم يكتبوها برأيهم، وإنّما اتبعوا ما سنّ وشرع، وإلّا فلا فرق بين براءة وغيرها لو كان من طرق الرأي. وأيضا فإن براءة نزلت بالسيف وبعض العهود، وفي البسملة رأفة ورحمة وأمان، فتركت لأجل ذلك (نكت الانتصار لنقل القرآن: 77، 78) . (2) . أخرجه احمد في المسند: 1: 57 وأبو داود في الصلاة: 1: 208، والترمذي في التفسير: 8: 477- 478، والحاكم في المستدرك: 2: 330، وانظر الدر المنثور: 2: 207، وعزاه السيوطي لابن أبي شبية والنسائي، ولم أجده في النسائي.

واحدة، لا سورتان «1» . الثاني: أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطول، فإنه ليس في القرآن بعد الأعراف أنسب ل «يونس» منها، وذلك كاف في المناسبة. الثالث: أنه خلّل بالسورتين (الأنفال وبراءة) أثناء السبع الطوال المعلوم ترتيبها في العصر الأول، للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف، وإلى أن رسول الله (ص) قبض قبل أن يبيّن محلهما، فوضعا كالموضع المستعار بين السبع الطوال، بخلاف ما لو وضعتا بعد السبع الطوال، فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف، وترتيب السبع الطوال يرشد إلى دفع هذا الوهم «2» . فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله بها، ولا يغوص عليها إلّا غوّاص. الرابع: أنه لو أخّرهما وقدّم «يونس» ، وأتى بعد «براءة» ب «هود» ، كما في مصحف أبيّ بن كعب، لمراعاة مناسبة السبع الطوال، وإيلاء بعضها بعضا، لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة. فإنّ الأولى بسورة يونس أن تولّى بالسور الخمس التي بعدها، لما اشتركت فيه من الاشتمال على القصص، ومن الافتتاح بالذكر، وبذكر الكتاب، ومن كونها مكّيات، ومن تناسب- ما عدا «الحجر» في المقدار- وبالتسمية باسم نبي، و «الرعد» اسم «3» ملك، وهو مناسب لأسماء الأنبياء. فهذه ستة وجوه في مناسبة الاتصال بين «يونس» وما بعدها، وهي آكد من ذلك الوجه السابق في تقديم «يونس» بعد «الأعراف» . ولبعض هذه الأمور، قدّمت «سورة الحجر» على «النحل» ، مع كونها أقصر منها، ولو أخرت «براءة» عن هذه السور الست المناسبة جدا بطولها، لجاءت بعد عشر سور أقصر منها، بخلاف وضع «سورة النحل» بعد

_ (1) . أخرجه أبو الشيخ عن أبي روق، وابن أبي حاتم عن سفيان، وابن اشتة عن ابن لهيمة (الإتقان: 1: 225) . (2) . أي: وهم أن يكون وضعهما بين السبع الطوال بتوقيف. وقد جاء ترتيب السبع الطوال متواليات. (3) . أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس: 8: 145 أن اليهود قالوا للنبي (ص) : أخبرنا عن الرعد. فقال: «ملك من الملائكة موكل بالسحاب» . وذكر السيوطي في الإتقان: 4: 79: أن ابن أبي حاتم أخرجه عن عكرمة، وأن مجاهدا سئل عن الرعد، فقال: ملك. ألم تر الله يقول وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ [الرعد: 13] .

«الحجر» ، فإنها ليست ك «براءة» في الطول. ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرنا من تقديم «الحجر» على «النحل» ، لمناسبة ذوات (الر) قبلها، وما تقدم من تقديم «آل عمران» على «النساء» ، وإن كانت أقصر منها لمناسبة «البقرة» ، مع الافتتاح ب (الم) ، وتوالي الطواسين والحواميم، وتوالي «العنكبوت» و «الروم» و «القمر» و «السجدة» ، لافتتاح كلّ منها ب (الم) ، ولهذا قدّمت «السجدة» على الأحزاب، التي هي أطول منها. هذا ما فتح الله به. وأما ابن مسعود، فقدّم في مصحفه «البقرة» على «النساء» ، و «آل عمران» ، و «الأعراف» ، و «الأنعام» ، و «المائدة» ، و «يونس» ، فراعى الطوال، وقدم الأطول فالأطول. ثم ثنّى بالمئين، فقدّم «براءة» ، ثم «النحل» ، ثم «هود» ، ثم «يوسف» ، ثم «الكهف» . وهكذا الأطول فالأطول، وذكر «الأنفال» بعد «النور» «1» . ووجه مناسبتها لها: أنّ كلّا منهما مدنية، ومشتملة على أحكام، وأن في «النور» وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: 55] . وفي الأنفال: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ [الآية 26] . ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة، فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل، وفي الثانية تذكير به.

_ (1) . انظر الإتقان: 1: 224 نقلا عن ابن أشتة في المصاحف، من رواية جرير بن عبد الحميد.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الأنفال"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الأنفال» «1» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الآية 1] . سمّي من السائلين: سعد بن أبي وقّاص. كما أخرجه أحمد وغيره «2» . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: أن السّائلين قرابة النبي (ص) . 2- وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) . سمّي منهم: أبو أيوب الأنصاري. ومن الفريق الذين لم يكرهوا: المقداد. أخرج ذلك ابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أبي أيوب. 3- إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ [الآية 7] . هما: أبو سفيان، وأصحابه، وأبو جهل وأصحابه وهي ذات الشوكة «3» . 4- إِنْ تَسْتَفْتِحُوا [الآية 19] . أخرج الحاكم» عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير «5» ، قال: كان المستفتح

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . أحمد برقم (1538) ، والطبري (15657) 9: 117، وأبو داود (2740) والترمذي (3080) والحاكم 2: 132، والبيهقي في «السنن الكبرى» 6: 291. قال التّرمذي: حسن صحيح. وقال أحمد شاكر في «شرح المسند» وتعليقه على «الطبري» : إسناده صحيح. (3) . أخرجه الطبري عن قتادة 9: 125. (4) . في «المستدرك» 2: 328، والطبري في «تفسيره» 9: 138. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. (5) . في «المستدرك» : «ابن أبي صعير» . والوجهان جائزان كما في «الإصابة» . [.....]

أبو جهل وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن عروة بن الزبير وعطية. 5- إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ [الآية 22] . قال ابن عباس: هم نفر من بني عبد الدّار. أخرجه ابن أبي حاتم «1» . 6- وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 30] . سمّي منهم- وهم المجتمعون في دار النّدوة: عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان، وطعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر، والنضر بن الحارث، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، وأبو جهل، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبّه ابنا الحجّاج «2» . 7- لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الآية 31] . قاله: النّضر بن الحارث: أخرجه ابن جرير وغيره، عن سعيد بن جبير «3» . 8- قال (تعالى) : وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ [الآية 32] . وقال ذلك: أبو جهل كما أخرجه البخاري عن أنس. وأخرجه ابن أبي حاتم، عن طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنّ قائل ذلك: النّضر بن الحارث «4» . وأخرج عن قتادة قال: قال ذلك سفلة هذه الأمّة، وجهلتها. 9- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 36] . قال الحكم بن عتيبة «5» : نزلت في أبي سفيان. أخرجه ابن أبي حاتم. وأخرج ابن إسحاق عن مشايخه: أنها نزلت في ابي سفيان، ومن كان له في العير من قريش تجارة. 10- وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ [الآية 41] .

_ (1) . والبخاري في «صحيحه» برقم (4646) في التفسير، والطبري 9: 140. (2) . انظر «سيرة ابن هشام» 1: 481. (3) . في «صحيحه» (4648) في التفسير. (4) . رواه الطبري 9: 152 عن سعيد بن جبير. (5) . «تهذيب التهذيب» 2: 432، و «أسباب النزول» للواحدي ط صقر: 234.

قال ابن عباس: هو يوم بدر، فرق الله فيه بين الحقّ والباطل. أخرجه ابن أبي حاتم. 11- وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الآية 42] . قال عبّاد بن عبد الله بن الزّبير: يعني أبا سفيان، وأصحابه نحو الساحل. أخرجه ابن أبي حاتم. 12- وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ [الآية 48] . عنى سراقة بن مالك بن جعشم. أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس. 13- إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ [الآية 48] . قال ابن عباس: رأى جبريل، والملائكة. أخرجه ابن أبي حاتم. 14- إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ [الآية 49] . سمّي من القائلين: عتبة بن ربيعة في حديث أخرجه الطبراني في «الأوسط» عن أبي هريرة «1» . وسمّى منهم مجاهد خمسة: (أبا) «2» قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا قيس ابن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة، وعليّ بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبّه. أخرجه ابن جرير «3» . 15- وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً [الآية 58] . قال ابن شهاب: نزلت في بني قريظة. أخرجه أبو الشيخ. 16- وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الآية 60] . ورد في حديث مرفوع: أنهم الجنّ. أخرجه ابن أبي حاتم «4» . وقال مجاهد: قريظة «5» .

_ (1) . قال الهيثمي: فيه عبد العزيز بن عمران، وهو ضعيف. «مجمع الزوائد» 6: 78. (2) . زيادة من «الطبري» وهي مثبتة في «جمهرة النسب» لابن الكلبي 1: 126. (3) . «تفسير الطبري» الأثر رقم: (16195) 10: 16 جمهرة النسب 1: 120. (4) . ومسدّد بن مسرهد في «مسنده» ، كما في «المطالب العالية» 3: 335 ورواه الطّبراني، وفي إسناده مجاهيل. «مجمع الزوائد» 7: 27. (5) . الطبري 10: 22.

وقال السّدّي: أهل فارس «1» . وقال ابن اليمان: الشياطين التي في الدّور. أخرج ذلك ابن أبي حاتم «2» . 17- وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) . نزلت لما أسلم معه (ص) أربعون آخرهم عمر. كما أخرجه الطّبراني وغيره. وقال الزّهري: يقال: نزلت في الأنصار. أخرجه ابن أبي حاتم. 18- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى [الآية 70] . سمّي منهم: العبّاس، وعقيل، ونوفل بن الحارث، وسهيل بن بيضاء «3» .

_ (1) . قال الطبري في «تفسيره» 10: 23: «قول من قال عنى به الجن أقرب وأشبه بالصواب» . (2) . وفي سنده: إسحاق بن بشر الكاهلي، وهو كذاب: قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7: 28. (3) . أخرج ذلك: الحاكم وصحّحه، والبيهقي في «سننه» عن عائشة. كما في «الدر المنثور» 3: 204، ووقع فيه: «عتبة بن عمر» بدل «سهيل بن بيضاء» ، وفي «الإتقان 2: 150: «سهل» بدل «سهيل» ، وفي رواية ابن إسحاق في «السيرة» : «عمرو» بدل «عمر» . وقد ساق ابن هشام في «السيرة النبوية» 2: 3- 8 أسماء ستة وستين رجلا، كانوا أسرى عند المسلمين يوم بدر.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الأنفال"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأنفال» «1» 1- قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الآية 1] . الأنفال: جمع نفل وهو الغنيمة، وإنّما سألوا عنها لأنها كانت حراما على من كان قبلهم، فأحلّها الله لهم. وقيل أيضا: إنه (ص) نفّل في السرايا، فكرهوا ذلك في تأويله: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) كذلك تنفّل من رأيت، وإن كرهوا، وكان سيدنا رسول الله (ص) جعل لكل من أتى بأسير شيئا، فقال بعض الصحابة: يبقى آخر الناس بغير شيء. قال الأزهري: وجماع معنى النفل والنافلة، ما كان زيادة على الأصل. وسمّيت الغنائم أنفالا، لأنّ المسلمين فضّلوا بها على سائر الأمم، الذين لم تحلّ لهم الغنائم. وصلاة التطوّع نافلة، لأنها زيادة أجر لهم، على ما كتب لهم من ثواب ما فرض عليهم. ونفل النبي (ص) السرايا في البدأة الرّبع، وفي القفلة الثلث، تفضيلا لهم على غيرهم من أهل العسكر، بما عانوا من أمر العدوّ، وقاسوه من الدأب والتعب، وباشروه من القتال والخوف. وكل عطيّة تبرّع بها معطيها، من صدقة أو عمل خير، نافلة. والنّفل: الهبة والعطيّة في التطوّع. وتنفّل فلان على أصحابه: إذا أخذ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السّامرّائي، مؤسسة الرسالة العربية، بيروت، غير مؤرخ. [.....]

أكثر مما أخذوا، عند الغنيمة. ونفّلت فلانا على فلان: فضّلته. والنّفل والنافلة: ما يفعله الإنسان، ممّا لا يجب عليه. أقول: وهذه من الموادّ القديمة التي اكتسبت في حياتهم معاني محددة، فكانت من رسومهم ومصطلحهم. على أننا لا نجد الآن من هذه الذخيرة اللغوية، إلا قول المعاصرين: «ومن نافلة القول» ، يريدون بها الزيادة غير الواجبة. 2- وقال تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الآية 7] . الطائفتان هما العير والنّفير. والنفير نفير قريش، الذين كانوا نفروا إلى بدر، ليمنعوا عير أبي سفيان. ويقال: فلان لا في العير ولا في النفير، قيل هذا المثل لقريش من بين العرب، وذلك أن النبي (ص) لمّا هاجر إلى المدينة ونهض منها لتلقّي عير قريش، سمع مشركو قريش بذلك، فنهضوا ولقوه ببدر، ليأمن عيرهم المقبل من الشام مع أبي سفيان، فكان من أمرهم ما كان، ولم يكن تخلّف عن العير والقتال إلا زمن أو من لا خير فيه، فكانوا يقولون لمن لا يستصلحونه لمهمّ: فلان لا في العير ولا في النفير، فالعير ما كان منهم مع أبي سفيان، والنفير ما كان منهم مع عتبة بن ربيعة قائدهم يوم بدر. وغَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ، هي العير لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا و «الشوكة» كانت في النفير لعددهم وعدّتهم. والشّوكة: الحدّة مستعارة من واحدة الشوك، ويقال: شوك القنا لشباها. ومنها قولهم: شائك السلاح أي: تتمنّون أن تكون لكم العير. أقول: وأصل الشوكة كما قلنا واحدة الشوك، ولحدّتها وما تؤدّي من الأذى، أطلقت على القوة والسلاح، وهكذا كانت مواد العربية البدوية مصدرا، أمدّ العربية بموادّ كثيرة من اللغة العالية، ومنها مواد الحضارة. 3- وقال تعالى: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) . والمشاقّة والشّقاق، غلبة العداوة

والخلاف، وشاقّه يشاقّه مشاقّة وشقاقا: خالفه. وقال الزجاج في قوله تعالى: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) [الحج] . الشّقاق: العداوة بين فريقين، والخلاف بين اثنين سمّي ذلك شقاقا، لأنّ كلّ فريق من فريقي العداوة قصد شقّا، أي ناحية غير شقّ صاحبه. أقول: والكثير ممّا جاء على «فاعل» من المضاعف أن يدغم في الماضي والمضارع، غير أن الفعل في الآية قد قرئ بفكّ الإدغام، وحرّك بالكسر لسكون اللام بعده، وذلك خير من إبقاء الإدغام، وتحريكه بكسر أو فتح لوقوع الساكن بعده، ولولا هذا لكان الإدغام واجبا، وهذا شيء من لطائف هذه اللغة الشريفة، على أن العربية تجيز إبقاء الإدغام في مثل هذه الحال، وسيأتي شيء من هذا. 4- وقال تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الآية 16] . المراد بقوله تعالى: مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ هو الكرّ بعد الفرّ، يخيّل الى عدوّه أنه منهزم، ثم يعطف عليه. وهو باب من خدع الحرب ومكايدها. أقول: و «التّحرّف» بهذه الخصوصية المعنوية من الكلم المفيد، الذي ينبغي أن يصار إليه في مثل هذه الأحوال والظروف في عصرنا فهو من الكلم الخاص، الذي يخص ظرفا خاصا، كما يخصّ جماعة المعنيين بالقتال. وطبيعي أن «التحرّف» من معنى الميل، والعدول إلى جهة ما. وأما قوله تعالى: أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ، أي: منحازا إلى جماعة أخرى من المسلمين، سوى الفئة التي هو فيها. والتحوّز والتحيّز سواء وهو التّنحّي. أقول: و «التّحيّز» في عربيتنا المعاصرة هو الميل إلى جهة ما، وهي في الكثير الجهة السائرة في طريق الباطل وغير الحق، فإذا قيل: فلان متحيّز فكأنّهم قالوا: فلان جائر يميل مع الباطل. وأما التحوّز فلا نعرفه في العربية المعاصرة.

5- وقال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ [الآية 30] . المراد بقوله تعالى: لِيُثْبِتُوكَ ليسجنوك أو يوثقوك أو يثخنوك بالضرب والجرح، من قولهم: ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح، وفلان مثبت وجعا، وقرئ: «ليثبّتوك» ، بالتشديد. وقرأ النّخعي: ليبيتوك من البيات. وعن ابن عباس: ليقيّدوك، وهو دليل لمن فسّره بالإيثاق. 6- وقال تعالى: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) . وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، ما سطره الأوّلون من الأمم السالفة، أي: ما كتبوه. ولمّا كانت كتابات هؤلاء وما سطروه وما خلفوه من رموز كذبا، أطلقت «الأساطير» على الأباطيل والأكاذيب. وقد جاء أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ في تسع آيات مختلفات بهذا المعنى. وقال أهل اللغة: الأساطير واحدتها إسطار وإسطارة بالكسر، وأسطير وأسطيرة وأسطور وأسطورة بالضم. وقالوا أيضا الأساطير جمع الأسطورة كالأحاديث جمع الأحدوثة. وقال آخرون: الأساطير جمع أسطار، وأسطار جمع سطر، فكأنه جمع الجمع. ومنهم من قال: الأساطير لا واحد لها. أقول: ومن العجيب أننا لم نقف إلا على «الأساطير» بلفظ الجمع، فلم نجد الأسطور ولا الأسطورة، ولا الأسطير، ولا الأسطيرة، ولا الإسطارة. وعندي أن هذه المواد استحدثت بعد أن رأى اللغويون الكلمة مجموعة «أساطير» ، فذهبوا إلى هذه المواد المفترضة، قياسا على نظائره، فالذي قال: إن مفردها أسطورة قاسها على الأحاديث والأحدوثة، ومثل هذا سائر ما افترضوه من المفرد، لهذه الكلمة المجموعة. وأرى أن من ذهب إلى أنها جمع أسطار، وأسطار جمع سطر، مثل السطور على حق، فالكلمة جمع الجمع وهي تعني ما كتبه الأولون من سطور، أي: كتابات.

غير أن المعاصرين أجروها مجرى الأحاديث والألاعيب فقالوا: مفردها أسطورة، فما الأسطورة في اصطلاح أهل عصرنا؟ أقول: إن الكثير من المسمّيات في هذا العصر، أخذ فحواها، وعرفت حقائقها من اللغات الأجنبية، ومن هذه مادة «الميثولوجيا» «1» التي تعني حكايات غريبة فيها أخبار، وحقائق، وشخوص، ومخلوقات، وسرد يرمي إلى فكرة أخلاقية، أو دينية، أو اجتماعية من عادات وتقاليد وغيرها، وربّما لا ترمي إلى شيء، وهي تشتمل على أناسيّ، وحيوانات، وطيور، ومخلوقات أخرى غريبة من الإنس والجن، بعضها إنسان وبعضها حيوان غريب. وهذه المواد الأدبية التاريخية القديمة حفلت بها الآداب القديمة في العراق، ومصر، وسائر بلاد العرب، واليونان، والرومان، والهند، والصين وغيرها. وقد أشير إليها في عصرنا هذا لدى الدارسين العرب، فماذا يستعيرون لها من الأسماء العربية؟ لقد استعاروا «الأساطير» لهذه المواد بما اشتملت عليه من رسوم وتقاليد وشخوص، وما يضطرب فيها المخلوقات، من هنا لزموا المفرد الذي أشارت إليه المعجمات العربية القديمة، فكانت «الأسطورة» بهذا المعنى المعروف. ثم حاول نفر من الدارسين إلى الكتابة في الأساطير العربية، فذهبوا إلى أن «أوابد» العرب في معتقدهم، وعاداتهم، وسلوكهم شيء من الأساطير. 7- وقال تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الآية 35] . المكاء من المصادر الدالة على الأصوات، وهو الصفير، ومكا الإنسان يمكو مكوا ومكاء: صفر بفيه. ومنه المكّاء، كأنه سمّي بذلك لكثرة مكائه، وهو طائر في ضرب القنبرة يألف الريف، وجمعه مكاكيّ. والتصدية تفعلة من الصّدى، أو من صد يصدّ صديدا، أي: ضجّ. وهذا يعني أن الصلة واضحة بين المعتلّ والمضاعف. أي: أنّهم جعلوا المكاء

_ (1) . علم «الميثولوجيا» من الكلمة الاغريقية «» .

والتصدية في موضع الصلاة، وذلك أنّهم كانوا يطوفون بالبيت عراة: الرجال والنساء، وهم مشبّكون بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفّقون، وكانوا يفعلون نحو ذلك، إذا قرأ رسول الله (ص) في صلاته، يخلطون عليه. أقول: والمكاء والتصدية، من الكلم ذي الدلالة التاريخية المفيدة. 8- وقال تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الآية 39] . أقول: إن الفعل «تكون» ، فعل على نمط الأفعال التي تكتفي بالمرفوع الفاعل. وهو الذي يدعوه النحاة، «التام» غير الناقص الذي يقتضي مرفوعا ومنصوبا. وهذا الضرب من الفعل كثير في العربية القديمة، قليل جدا في العربية المعاصرة، بل قل: إن المعاصرين يجهلونه، فلا يرد في كلامهم وأدبهم. ومثله قوله تعالى: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) . وقوله تعالى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ [المائدة: 71] . وقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس] . وغير ذلك من الآيات. وأنت تقف على الفعل التام في الأدب القديم، وفي أسلوب القصص كأن يقال: فكان اليوم الثالث، وحدث فيه كذا وكذا. 9- وقال تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الآية 42] . أقول: هذه هي القراءة المشهورة، وقرأ أهل المدينة: «ويحيا من حيي عن بينة» . قال الفرّاء: كتابتها على الإدغام بياء واحدة، وهي أكثر قراءات القراء، وإنما أدغموا الياء في الياء، وكان ينبغي ألّا يفعلوا لأن الياء، الأخيرة لزمها النصب في «فعل» ، فأدغم لمّا التقى حرفان متحرّكان من جنس واحد، قال: ويجوز الإدغام في الاثنين، للحركة اللازمة للياء الأخيرة، فتقول: حيّا، وحيّيا. وينبغي للجمع أن لا يدغم إلا بياء، لأنّ الياء يصيبها الرفع وما قبلها مكسور، فينبغي لها أن تسكّن فتسقط بواو الجماعة، وربّما أظهرت العرب الإدغام في الجمع إرادة تأليف

الأفعال، وأن تكون كلها مشددة، فقالوا في حييت حيّوا، وفي عييت عيّوا، قال وأنشدني بعضهم: يحدن بنا عن كلّ حيّ كأنّما ... أخاريس عيّوا بالسّلام وبالكتب قال: وأجمعت العرب على إدغام «التحية» لحركة الياء الأخيرة، كما استحبّوا إدغام «حيّ» و «عيّ» للحركة اللازمة فيهما، فأما إذا سكنت الياء الأخيرة فلا يجوز الإدغام مثل: «يحيي ويعيي، وقد جاء في الشعر الإدغام في مثل هذا الموضع، وهو قوله: وكأنّها بين النّساء سبيكة ... تمشي بسدّة بيتها فتعيّى أقول: ومن الواجب أن نقف قليلا على هذه الألفاظ المشكلة لفائدتها اللغوية التاريخية، ولنهتدي إلى مكان علم الأصوات من الناحية التطبيقية. 10- وقال تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ [الآية 61] . السّلم تؤنث تأنيث نقيضها، وهي الحرب، قال: السّلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع وقرئ بفتح السين وكسرها. أقول: والسّلم في العربية المعاصرة مذكر، يقال السّلم العالمي. 11- وقال تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الآية 67] . أقول: كنا عرضنا للفعل «كان» ، وهي مكتفية بالمرفوع الفاعل، تلك التي سمّاها النحويون «التامة» . وفي هذا، تأتي «كان» مرة ثانية في قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ، والمعنى ما صح له وما استقام، وهذا معنى جديد للفعل يجعلها تامة أيضا مكتفية بالمرفوع نظير «يكون» ، التي تليها في الآية نفسها، ومعناها الحصول والثبوت، وهي تامة أيضا مكتفية بالفاعل «أسرى» . 12- وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الآية 73] . أقول: كنت قد عرضت لدلالة «بعض» على الإفراد، وأتيت بشواهد من لغة التنزيل، وها أنا أقف على هذه الآية لأشير إلى أن كلمة «بعض» فيها، تدل على الجمع دلالة صريحة، وفي هذا ردّ على من زعم أنها تدل على الواحد ليس غير.

المبحث السادس المعاني الغوية في سورة"الأنفال"

المبحث السادس المعاني الغوية في سورة «الأنفال» «1» الواحد من «الأنفال» : «النّفل» وقال تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الآية 5] فهذه الكاف يجوز أن تكون على قوله أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الآية 4] . كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ «2» وقال بعض أهل العلم كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ [الآية 1] بإضافة «ذات» إلى «البين» وجعله (ذات) لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم مؤنث، وبعضه يذكّر نحو «الدار» و «الحائط» أنّثت «الدار» وذكّر «الحائط» «3» . وقال تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الآية 7] فقوله تعالى: أَنَّها بدل من قوله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وقال جلّ شأنه: غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ [الآية 7] فأنّث لأنه يعني «الطائفة» «4» . وقال: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الآية 12] معناها: «اضربوا الأعناق» «5» كما تقول: «رأيت نفس زيد» تريد «زيدا» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرخ. (2) . نقله في إعراب القرآن 1: 397، والبحر 4: 462. (3) . نقله في المزهر 1: 533، والصحاح «ذا» . (4) . نقله في زاد المسير 3: 324. (5) . نقله في المشكل 1: 312، وإعراب القرآن 15: 401، وزاد المسير 2: 330، والجامع 7: 378، والبحر المحيط 4: 470.

وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الآية 12] واحد «البنان» «البنانة» . وقال تعالى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ [الآية 14] كأنّ ذلِكُمْ جعل خبرا لمبتدأ، أو مبتدأ أضمر خبره حتى كأنه قيل: «ذلكم الأمر» و «الأمر ذلكم» . ثم قال تعالى وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ [الآية 14] أي: الأمر ذلكم وهذا، فلذلك انفتحت «أنّ» . ومثل ذلك قوله وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) وأمّا قول الشاعر «1» [من البسيط وهو الشاهد العشرون بعد المائتين] : ذاك وإنّي على جاري لذو حدب ... أحنو عليه كما «2» يحنى على الجار فإنما كسر «إنّ» لدخول اللام. قال الشاعر «3» : [من الطويل وهو الشاهد الحادي والعشرون بعد المائتين] : وأعلم علما ليس بالظنّ أنّه ... إذا ذلّ مولى المرء فهو ذليل وإنّ لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوراته لدليل فكسر الثانية لأن اللام بعدها. ومن العرب من يفتحها، لأنه لا يدري أن بعدها لاما، وقد سمع مثل ذلك من العرب، في قوله تعالى بقراءة غير صحيحة: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) [العاديات] ففتح وهو غير ذاكر للّام، فوقع في غلط قبيح في القراءة «4» . وقال تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى تقول العرب: «والله ما ضربت غيره» وإنما ضربت أخاه كما تقول: «ضربه الأمير» والأمير لم يل ضربه. مثل هذا في كلام العرب كثير. وقال جلّ وعلا:

_ (1) . هو الأحوص الأنصاري. ديوانه 108، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 464. (2) . في الكتاب والتحصيل «بما» . (3) . هو طرفة بن العبد البكري. ديوانه 85، والتهذيب 5: 164 «حصا» ، وقيل هو كعب بن سعد الغنوي، الصحاح «حصا» واللسان «حصا» . في الديوان «إنه» . (4) . في إعراب ثلاثين سورة 158، نسبت قراءة مستهجنة إلى الحجاج بن يوسف، وزاد في الشواذ 178 أبا السمال، وكذلك في البحر 8: 505، واقتصر في الجامع 20: 163 على أبي السمال. والشاهد في القراءة المغلوطة، قراءة الآية الثالثة وحدها.

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الآية 25] فليس قوله سبحانه والله أعلم تُصِيبَنَّ بجواب، ولكنه نهي بعد أمر، ولو كان جوابا ما دخلت النون. وقال جلّ شأنه: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [الآية 32] بنصب (الحقّ) لأن (هو) - والله أعلم- جعلت هاهنا صلة في الكلام، زائدة توكيدا كزيادة (ما) «1» . ولا تزاد إلّا في كل فعل لا يستغني عن خبر، ليست «هو» بصفة ل «هذا» لأنك لو قلت: «رأيت هذا هو» لم يكن كلاما، ولا تكون هذه المضمرة من صفة الظاهرة، ولكنها تكون من صفة المضمرة، في نحو قوله تعالى: وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف: 76] وتَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ( [المزّمّل: 20] لأنك تقول «وجدته هو» و «أتاني هو» فتكون صفة، وقد تكون في هذا المعنى أيضا غير صفة، ولكنها تكون زائدة كما كان في الأوّل. وقد تجري في جميع هذا مجرى الاسم، فيرفع ما بعده إن كان ما قبله ظاهرا أو مضمرا، في لغة لبني تميم «2» في قوله تعالى بقراءة من قرأ: (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) «3» و (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) «4» و (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) «5» كما تقول «كانوا آباؤهم الظالمون» إنما جعلوا هذا المضمر نحو قولهم «هو و «هما» و «أنت» زائدا في هذا المكان. ولم يجعل في مواضع الصفة، لأنه فصل، أراد أن يبيّن به أنه ليس بصفة ما بعده لما قبله، ولم يحتج الى هذا في الموضع الذي يكون له خبر. وقال تعالى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الآية 34] ف «أن» هاهنا زائدة-

_ (1) . نقله في إعراب القرآن 1: 404، والمشكل 1: 314. (2) . لهجة تميم 283. (3) . القراءة برفع الحق، هي في البحر 4: 488 إلى الأعمش وزيد بن علي، وبنصبها هي في البحر كذلك، والجامع 7: 398، إلى العامة والجمهور. (4) . القراءة بالرفع، في معاني القرآن 3: 37، إلى عبد الله، وفي الشواذ 136 إلى أبي زيد النحوي، وجمعهما في البحر 8: 27 والقراءة بالنصب في البحر، كذلك إلى الجمهور. [.....] (5) . القراءة بالرفع في الشواذ 164، نسبت إلى أبي السمال، وزاد عليه في البحر 8: 367 ابن السميفع والقراءة بالنصب في البحر، كذلك إلى الجمهور.

والله أعلم. وقد عملت «1» وقد جاء في الشعر، قال «2» [من البسيط وهو الشاهد السابع والأربعون بعد المائة] : لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها ... إليّ لامت ذوو أحسابها عمرا «3» وقوله تعالى: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا [الآية 42] وأمر الله كله مفعول ولكن أراد أن يقصّ الاحتجاج عليهم، وقطع العذر قبل إهلاكهم. وقال: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الآية 35] بالنصب على خبر «كان» . وقرأ بعضهم: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الآية 37] «4» جعله من «ميّز» مثقلة وخففها آخرون فقالوا لِيَمِيزَ «5» من «ماز» «يميز» وبها نقرأ. وقرأ بعضهم: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا [الآية 42] «6» وقرأ آخرون: «بالعدوة» «7» وبالأولى نقرأ، وهما لغتان «8» . وقال بعض العرب الفصحاء: «العدية» فقلب الواو ياء، كما تقلب الياء واوا في نحو «شروى» و «بلوى» ، لأنّ ذلك يفعل بها فيما هو نحو من ذا، نحو «عصيّ» و «أرض

_ (1) . نقله في إعراب القرآن 1: 405، والمشكل 1: 314 و 4: 490. (2) . هو الفرزدق همّام بن غالب. ديوانه 1: 283، والخزانة 2: 87. (3) . في الديوان: لام بدل لامت، وفي الخزانة «إذن للام» ، وفي الديوان ب «أحلامهم» بدل أحسابها. (4) . القراءة بالتضعيف، هي في السبعة 306 إلى حمزة والكسائي، والتشديد لهجة بدو الجزيرة اللهجات العربية 536. (5) . هي قراءة نسبت في السبعة 306 إلى ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وأبيّ وعليها رسم المصحف. (6) . في الطبري 10: 10 إلى عامة قرّاء المدنيين والكوفيين، حملا على لغة مشهورة. وفي السبعة 306 إلى نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي وفي الكشف 1: 491 والتيسير 116 والبحر 4: 499 إلى غير ابن كثير وأبي عمرو. (7) . في الطبري 10: 10 نسبت إلى بعض المكيين والبصريين حملا على لغة مشهورة، وفي السبعة 306 إلى ابن كثير وأبي عمرو، وفي الكشف 1: 491 والتيسير 116 والبحر 4: 499 إلى ابن كثير وأبي عمرو. (8) . الضم لغة تميم وعليها رسم المصحف. المزهر 2: 277 ولهجة تميم 159 واللهجات العربية 183، وأضيف إليها في الأخير البيئات البدوية الأخرى، كأسد وبكر بن وائل وقيس عيلان وأما الكسر، فكما جاء فيها لغة الحجاز وقريش.

مسنيّة» وفي قولهم «قنية» لأنها من «قنوت» . قال تعالى: وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الآية 42] بجعل «الأسفل» ظرفا، ولو شئت قلت: «أسفل منكم» «1» إذا جعلته صفة «الركب» ولم تجعله ظرفا. قال تعالى: وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الآية 42] «2» بإلزام الإدغام، إذ صار في موضع يلزمه الفتح، فصار مثل باب التضعيف. فإذا كان في موضع لا يلزمه الفتح، لم يدغم نحو بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [الأحقاف: 33 والقيامة: 40] إلّا أن تشاء تخفي، وتكون في زنة متحرك، لأنها لا تلزمه، لأنك تقول «تحيي» فتسكن في الرفع وتحذف في الجزم، فكل هذا لا يمنعه الإدغام. وقرأ بعضهم: «من حيي عن بيّنة» «3» ولم يدغم إذا كان لا يدغمه في سائر ذلك. وهذا أقبح الوجهين، لأنّ «حيي» مثل «خشي» لمّا صارت مثل غير التضعيف، أجرى الياء الآخرة مثل ياء «خشي» . وتقول للجميع «قد حيوا» كما تقول «قد خشوا» ولا تدغم لأن ياء «خشوا» تعتل هاهنا. وقال الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد الثاني والعشرون بعد المائتين] : وحيّ حسبناهم فوارس كهمس ... حيوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا «5» وقد ثقّل بعضهم وتركها على ما كانت عليه، وذلك قبيح. قال الشاعر «6» [من مجزوء الكامل وهو

_ (1) . في البحر 4: 500 هي قراءة زيد بن علي. (2) . القراءة بياء واحدة في «حي» هي في معاني القرآن 1: 411 قراءة أكثر القراء، وفي السبعة 306 إلى ابن كثير في رواية. وإلى أبي عمرو وابن عامر حمزة والكسائي، وفي الكشف 1: 492 والتيسير 116 والبحر 4: 501 إلى غير نافع والبزي وأبي بكر من السبعة، وأبدل في الجامع 8: 22 أهل المدينة بنافع. (3) . القراءة بياءين هي في السبعة 306 و 307 إلى عاصم في رواية، وفي أخرى إلى ابن كثير وفي الكشف 1: 492 والتيسير 116 والبحر 4: 501 إلى نافع والبزي وأبي بكر، وفي الجامع 8: 22 أبدل أهل المدينة بنافع. (4) . هو أبو حزابة الوليد بن حنيفة. الأغاني 19: 156، وهامش 91 فهرس شواهد سيبويه. (5) . في الكتاب وتحصيل عين الذهب 2: 387 ب «وكنا» بل «وحي» . وشرح المفصّل لابن يعيش 10: 116. [.....] (6) . هو عبيد بن الأبرص. ديوانه 126، وتحصيل عين الذهب 1: 387 وشرح المفصّل لابن يعيش 10: 115، واللسان «حيا» و «عيا» . وقيل هو ابن مفرّع، الصحاح «حيا» .

الشاهد الثالث والعشرون بعد المائتين] : عيّوا بأمرهم كما ... عيّت ببيضتها الحمامه «1» جعلت له عودين من ... نشم وآخر من ثمامة «2» وقال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) بإضمار الخبر، والله أعلم. وقال الشاعر [من الخفيف وهو الشاهد الحادي والثلاثون بعد المائة] : إن يكن طبّك الدّلال فلو في ... سالف الدّهر والسنين الخوالي يريد بقوله «فلو في سالف الدهر» أن يقول: «فلو كان في سالف الدهر لكان كذا وكذا» فحذف هذا الكلام كلّه. قال تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الآية 61] بتأنيث «السّلم» «3» وهو «الصلح» وهي لغة لأهل الحجاز، ولغة العرب الكسر. وفي قوله تعالى: فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الآية 62] «حسبك» اسم. قال تعالى: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الآية 72] وهو في الولاء. أما في السلطان ف «الولاية» ولا أعلم كسر الواو في الأخرى إلّا لغة. قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ [الآية 75] بجعل الخبر بالفاء كما تقول: «الذي يأتيني فله درهمان» ، فتلحق الفاء لما صارت في معنى المجازاة.

_ (1) . في الديوان: برمت بنو أسد كما برمت، وفي المنصف 2: 191 ب «النعامة» بدل الحمامة. وهو في المغرب 2: 153. (2) . في الديوان: «لها» بدل «له» . وفي شرح المفصّل لابن يعيش 10: 117، وضعت لها عودين من ضعة. (3) . المذكر والمؤنث للفراء 84، والتذكير والتأنيث للسجستاني 15.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الأنفال"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأنفال» «1» إن قيل: قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الآية 2] إلى آخر الآيتين، يدل على أن من لم يتصف بجميع تلك الصفات، لا يكون مؤمنا، لأن كلمة «إنّما» للحصر. قلنا: فيه إضمار تقديره: إنّما المؤمنون إيمانا كاملا، وإنّما الكاملون في الإيمان، كما يقال الرجل من تصبّر على الشدائد، يعني الرجل الكامل. فإن قيل: قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الآية 4] ينفي إرادة ما ذكرتم. قلنا: معناه أولئك هم المؤمنون إيمانا كاملا حقّا، وقيل إنّ «حقّا» متعلق بما بعده لا بما قبله، والمؤمنون تمام الكلام. فإن قيل: كيف يقال: إن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، وقد قال تعالى: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الآية 2] ؟ قلنا: المراد هنا آثار الإيمان من الطمأنينة واليقين والخشية ونحو ذلك، لأن تظاهر الأدلة على المدلول مما يزيده رسوخا في العقائد وثبوتا فأما حقيقة الإيمان فهو التصديق والإقرار بوحدانية الله تعالى، وكما أن الإلهية الوحدانية لا تقبل الزيادة والنقصان، فكذا الإقرار بها. فإن قيل: قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الآية 5] تشبيه، فأين المشبّه والمشبّه به؟

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

قلنا: معناه: امض على ما رأيته صوابا، من تنفيل الغزاة في قسمة الغنائم وإن كرهوا، كما مضيت في خروجك من بيتك للحرب بالحقّ، وهم كارهون. وقيل معناه: فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فهو خير لكم، وإن كرهتم، كما كان إخراجك من بيتك بالحقّ؟ فإن قيل: لم قال تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ [الآية 8] وكلاهما متعذّر، لأنه تحصيل حاصل؟ قلنا: المراد بالحق الإيمان، والباطل الشرك، فاندفع السؤال. فإن قيل ما الحكمة من التكرار في قوله تعالى: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ؟ قلنا: إنّما ذكر أوّلا، لبيان أن إرادتهم كانت متعلقة باختيار الطائفة، التي كانت فيها الغنيمة، وإرادة الله تعالى باختيار الطائفة التي في قهرها نصرة الدين، فذكره أوّلا للتمييز بين الإرادتين، ثم ذكره ثانيا لبيان الحكمة في قطع دابر الكافرين. فإن قيل: لم قال تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الآية 17] ومعلوم أن المؤمنين يوم بدر قتلوا الكفار، ورماهم النبي (ص) بكفّ من حصا الوادي في وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلّا وقع في عينيه شيء من ذلك، فشغلوا بعيونهم وانهزموا، فتبعهم المؤمنون يقتلون ويأسرون؟ قلنا: لمّا كان السبب الأقوى في قتلهم، إنّما هو مدد الملائكة وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، وتثبيت قلوب المؤمنين وأقدامهم، وذلك كله فعل الله تعالى، نفى الفعل عنهم ونسبه إليه، يعني إن كان ذلك في الصورة منكم فهو في الحقيقة مني، فسبيلكم الشكر دون العجب والفخر، وكذلك الرمية أثبتها لرسول الله (ص) لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأن أثرها الذي لا يوجد مثله عن رمي البشر، فعل الله تعالى. ونظير هذا، قولك لمن يصدر عنه قول حسن أو فعل مكروه، بتسليط من هو أعلى رتبة منه: هذا ليس قولك ولا فعلك. وقيل معنى قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ [الآية 17] وما رميت الرعب في

قلوبهم إذ رميت الحصا في وجوههم، ولكن الله رمى الرعب في قلوبهم. ولأهل الحقيقة في هذه الآية وفي نظائرها من الكتاب والسنة، مباحث لا يحتملها هذا المختصر، وهي مستقصاة في كتب التصوف. فإن قيل: لم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ [الآية 20] ثنّى في الأمر، ثم أفرد في النهي؟ قلنا: كما يذكر في لغة العرب الاسم المفرد ويراد به الاثنان والجمع، فكذلك يذكر ضمير المفرد ويراد به ضمير الاثنين كقولهم: إنعام فلان ومعروفه يغشيني، والإنعام والمعروف لا ينفع مع فلان، وعليه جاء قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] أي يرضوهما، فكذا هنا معناه: ولا تولوا عنهما. الثاني أنه إن أفرد باعتبار عود الضمير إلى الله وحده لأنه الأصل، مع أن طاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان، قال الله تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] فكان الإعراض عن الرسول (ص) إعراضا عن الله تعالى، فاكتفي بذكره. الثالث أن معناه: ولا تولّوا عن هذا الأمر وعن أمثاله فالضمير للأمر لا للرسول (ص) . الرابع: إنه إنما لم يقل ولا تولّوا عنهما، لئلا يلزم منه الإخلال بالأدب من النبي (ص) عند نهيه للكفار، في قرانه بين اسمه واسم الله تعالى، في ذكرهما بلفظ واحد، من غير تقديم اسم الله، كما روي، «أن خطيبا خطب فقال: من أطاع الله ورسوله فقد رشد، ومن عصاهما فقد غوى، فقال له النبي (ص) : «بئس خطيب القوم أنت، هلّا قلت: ومن عصى الله ورسوله فقد غوى» ؟ فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ [الآية 23] ؟ قلنا: معناه ولو علم الله فيهم تصديقا وإيمانا في المستقبل، لأسمعهم سماع فهم وقبول أو لأنطق لهم الموتى، يشهدون بصدق نبوّتك كما طلبوا. وقيل: معنى لَأَسْمَعَهُمْ: لرزقهم الفهم والبصيرة، وأسمعهم وحالهم هذه الحال، وهو أنه لم يعلم فيهم الخير، لتولّوا وهم معرضون، لعنادهم وجحودهم الحق، بعد ظهوره. فإن قيل: التولّي والإعراض واحد،

فما الحكمة في قوله تعالى لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ؟ قلنا: معناه لتولّوا عن الإيمان، وأعرضوا عن البرهان، فلا تكرار. فإن قيل: فما الحكمة في ذكر السماء في قوله تعالى: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الآية 32] والمطر إنما يكون من السماء؟ قلنا: الجواب الاول المطر المطلق، إنما يكون من السماء ولكن المطر المضاف هنا، وهو مطر الحجارة، قد يكون من رؤوس الجبال، ومن حيطان المساكن والقصور وسقوفها فكان ذكر السماء مفيدا، لأنّ الحجارة إذا نزلت من السماء، كانت أشدّ نكاية، وأكثر ضررا. الجواب الثاني، أنه لما كانت الحجارة المسوّمة للعذاب، وهي السّجّيل معهودة النزول من السماء، ذكر السماء إشارة إلى إرادة المعهود من الحجارة، كأنه قال: فأمطر علينا حجارة من سجّيل فوضع قوله من السماء، موضع قوله من سجيل، كما يقول: صبّ عليه مسرودة من حديد، يعني درعا. فإن قيل: لم قال تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الآية 33] ويوم بدر عذبهم الله تعالى بالقتل والأسر، وهو فيهم؟ قلنا: معناه وأنت مقيم فيهم بمكة، وكان كذلك، لأن النبي (ص) ما دام بمكة لم يعذّبوا، فلما أخرجوه من مكة وخرجوا لحربه عذّبوا. وقيل معناه: وما كان الله ليعذّبهم عذاب الاستئصال، وأنت فيهم. وقيل معناه: وما كان الله ليعذّبهم العذاب الذي طلبوه، وهو إمطار الحجارة، وأنت فيهم. فإن قيل: لم قال الله تعالى أوّلا وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الآية 33] ، ثم قال جلّ وعلا وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الآية 34] ، وهو يوهم التناقض؟ قلنا: معناه وما لهم أن لا يعذّبهم الله بعد خروجك من بينهم، وخروج المؤمنين والمستغفرين. وقيل: المراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال، وبالثاني عذاب غير الاستئصال، وقيل: المراد بالأول عذاب الدنيا، وبالثاني عذاب الاخرة. فإن قيل: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الآية 35] والمكاء الصفير، والتصدية التصفيق، وهما ليسا بصلاة؟

قلنا: معناه أنهم أقاموا المكاء والتصدية، مقام الصلاة، كما يقول القائل زرت فلانا، فجعل الجفاء صلتي: أي أقام الجفاء مقام صلتي، ومنه قول الفرزدق: أخاف زيادا أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا أراد بالأداهم القيود وبالمحدرجة السياط، ووضعهما موضع العطاء. فإن قيل: في قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) لم ينته الكافرون عن الكفر، فلم قال سبحانه وَإِنْ يَعُودُوا [الآية 38] والعود إلى الشيء، إنّما يكون بعد تركه والإقلاع عنه؟ قلنا: معناه إن ينتهوا عن عداوة رسول الله (ص) ومحاربته، يغفر لهم ما قد سلف من ذلك وإن يعودوا إلى قتاله وعداوته، فقد مضت سنة الأولين منهم، الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر، أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية. وقيل معناه: إن ينتهوا عن الكفر بالإيمان، يغفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي، كما قال النبي (ص) «الإسلام يجبّ ما كان قبله» وإن يعودوا إلى الكفر بالارتداد بعد ما أسلموا، فقد مضت سنة الأولين من الأمم، من أخذهم بعذاب الاستئصال. فإن قيل: الفائدة في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهرة، وهي زوال الرعب من قلوب المؤمنين، وتثبيت أقدامهم، وزيادة اجترائهم على القتال فما فائدة تقليل المؤمنين في أعين الكفّار، حتى قال الله تعالى: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الآية 44] مع أن في ذلك زوال الرعب من قلوب الكافرين، وتثبيت أقدامهم، واجتراؤهم على القتال؟ قلنا: فائدته أن لا يستعد الكفّار كلّ الاستعداد، فيجترءوا على المؤمنين معتمدين على قلتهم، ثم تفجؤهم الكثرة فيدهشوا ويتحيّروا وأن يكون ذلك سببا يتنبه به المشركون على نصرة الحق، إذ رأوا المؤمنين مع قلّتهم في أعينهم، منصورين عليهم. وفي التقليل من الطرفين معارضة، تعرف بالتأمل. فإن قيل: قوله تعالى وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الآية 46] يدلّ على حرمة المنازعة والجدال أيضا،

لأنه منازعة، فكيف تجوز المناظرة، وهي منازعة وجدال؟ قلنا: المراد بالمنازعة هنا: المنازعة في أمر الحرب والاختلاف فيه، لا المنازعة في إظهار الحق، بالحجة والبرهان، والدليل عليه أن ذلك مأمور به. قال الله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] لكن للجواز شروط، يندر وجودها في زمننا هذا: أحدها، أن يكون كل المقصود منها ظهور الحق على لسان أيّ الخصمين، كما كانت مناظرة السلف، وعلامة ذلك أن لا يفرح بظهور الحق على لسانه، أكثر ممّا يفرح بظهوره على لسان خصمه. فإن قيل: كيف قال إبليس كما ورد في التنزيل إِنِّي أَخافُ اللَّهَ [الآية 48، والمائدة: 28] وهو لا يخاف الله، لأنه لو خافه لما خالفه ثم أضلّ عبيده؟ قلنا: قال قتادة، لقد صدق وعد الله في قوله كما روى القرآن ذلك، حكاية عنه: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ [الآية 48] يعني جبريل والملائكة (ع) معه نازلين من السماء لنصرة المسلمين يوم بدر، وكذب في قوله إِنِّي أَخافُ اللَّهَ والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له بهم. وقيل لمّا رأى نزول الملائكة على صورة لم يرها قط، خاف قيام الساعة التي هي غاية إنظاره، فيحل به العذاب الموعود. وقيل معنى أَخافُ اللَّهَ: أعلم صدق وعده لنبيّه النصر، وقد جاء الخوف بمعنى العلم، ومنه قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الآية 229] ويحتمل عندي أن يكون خاف أن يحل به الملائكة ما دون الإهلاك من الأذى إذ لم يخف الإهلاك، ثم أقول: كيف تؤخذ عليه كذبة واحدة وهو أفسق الفسقة، وأكفر الكفرة، فلا عجب في كذبه، وإنما العجب في صدقه. فإن قيل: أي مناسبة بين الشرط والجزاء في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) ؟ قلنا: لما أقدم المؤمنون، وهم ثلاث مائة وبضعة عشر، على قتال المشركين، وهم زهاء ألف، متوكّلين على الله، وقال المنافقون: غرّ هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ثلاثة أمثالهم عددا، أو أكثر، قال الله تعالى ردّا على المنافقين، وتثبيتا للمؤمنين: وَمَنْ

يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) أي غالب يسلّط القليل الضعيف، على الكثير القوي وينصره عليه، حكيم في جميع أفعاله. فإن قيل لم قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) ولم يقل ليس بظالم، وهو أبلغ في نفي الظلم عن ذاته المقدسة؟ قلنا: قد سبق هذا السؤال، وجوابه في سورة آل عمران. فإن قيل: قوله عز وجل ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الآية 53] وذلك إشارة إلى إهلاك كفار مكة وآل فرعون، ولم تكن لهم حال مرضية غيّروها؟ قلنا: كما تغير الحال المرضية الى المسخوطة، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها وأسوأ وأولئك كانوا، قبل بعث الرسول (ص) إليهم، عباد أصنام. فلما بعث الرسول (ص) إليهم بالآيات البينات، فكذّبوه، وعادوه، وسعوا في قتله، غيّروا حالهم إلى أسوأ منها، فغيّر الله تعالى، ما أنعم به عليهم من الإمهال، وعاجلهم بالعذاب. فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الآية 55] بعد قوله جلّ وعلا: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا (55) ؟ قلنا مراده، أن يبيّن أنّ شرّ الكفّار الذين كفروا، واستمرّوا على الكفر إلى وقت الموت. فإن قيل: ما الحكمة من تكرار المعنى الواحد في مقاومة الجماعة، لأكثر منه، قبل التخفيف وبعده، في قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الآية 65] إلى قوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) ؟ قلنا: فائدته، الدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت بل كما ينصر الله تعالى العشرين على المائتين، ينصر المائة على الألف وكما ينصر المائة على المائتين، ينصر الألف على الألفين. فإن قيل: لم أخبر الله تعالى عن هذه الغلبة، ونحن نشاهد الأمر بخلافها فإن المائة من الكفار، قد تغلب المائة من المسلمين، بل المائتين في بعض الأحوال؟ قلنا: إنما أخبر الله عز وجل عن هذه الغلبة، بشرط الصبر، الذي هو

الثبات في موقف الحرب او الذي هو الموافقة بين المسلمين ظاهرا وباطنا، فمتى وجد الشرط تحقّقت الغلبة للمسلمين، مع قلتهم لا محالة. ولقائل أن يقول إن هذه الغلبة، مخصوصة بطائفة كان النبي (ص) أحدهم، وسياق الآية يدل عليه. فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [الآية 67] مع أنه يريد الدنيا أيضا، لأنه لولا إرادته إيّاها لما وجدت، فما فائدة هذا التخصيص؟ قلنا: المراد بالإرادة هنا الاختيار والمحبة، لا إرادة الوجود والكون، فالمعنى أتحبّون عرض الحياة الدنيا وتختارونه، والله يختار ما هو سبب الجنة، وهو إعزاز الإسلام، بالإثخان في القتل.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الأنفال"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأنفال» «1» وقوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الآية 7] . وهذه استعارة عجيبة: لأن ذات الشوكة هاهنا، إحدى الطائفتين التي فيها سلاح الأبطال وآلة النزال وذلك أنّ النبي (ص) خرج بالمسلمين يطلب عير قريش، المقبلة من الشام مع أبي سفيان بن حرب، وفيها أموالها وذخائرها وعرفت قريش خروجه (ص) لذلك فخرجت لتمنع عيرها، وتقاتل دونها. فلما عرف المسلمون خبر خروج قريش للقتال، كانوا يتمنّون أن يخالفوهم إلى العير فيغنموها، ويكون ظفرهم بالطائفة التي فيها الغنم، لا الطائفة التي فيها الجد والحد. فجمع الله بينهم وبين قريش على بدر، وكانت الحرب المشهورة التي قتل فيها صناديد المشركين، واشتدّت أعضاد المؤمنين. والكناية بذات الشوكة، عن ذات السلاح والعدّة، من أشرف البلاغة وأوقع الاستعارة، تشبيها بالشوكة «2» تخز «3» ، والمدية التي تخرّ. وقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الآية 24] . وهذه استعارة، على بعض التأويلات المذكورة في هذه الآية والمعنى أنّ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق: محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . سياق الكلام يقتضي أن يكون: بالشوكة التي تخز، ولعل لفظة «التي» سها عنها الناسخ. (3) . من خزّ: خزّه بالرمح أي طعنه.

الله تعالى أقرب إلى العبد من قبله، فكأنه حائل بينه وبين قلبه من هذا الوجه أو يكون المعنى: أنه تعالى قادر على تبديل قلب المرء، من حال الى حال، إذا كان سبحانه موصوفا، بأنه مقلّب القلوب والمعنى انه ينقلها من حال الأمن إلى حال الخوف، ومن حال الخوف الى حال الأمن، ومن حال المساءة إلى حال السرور، ومن حال المحبوب الى حال المكروه. وقوله تعالى: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ [الآية 37] . وهذه استعارة، والمراد بها: العمل الخبيث وهو ما يستحق العقاب، ولا يصح فيه أن يركم بعضه على بعض، وإنّما يصح ذلك في الأجسام والأجرام فالمراد، إذا وصفت العمل الخبيث بالكثرة، كثرة فاعله، ومن صفات الكثرة تراكم الشيء بعضه على بعض، كالرمل الهيام «1» والسحاب الرّكام، ومعنى (جعله في جهنم) العقاب ينزل عليه بنار جهنم وقد قيل في ذلك وجه آخر، يخرج الكلام من باب الاستعارة، وهو أن يكون المراد بالخبيث هاهنا المال الذي أخذ من غير حق، وأنفق في غير حقه. فإنّ الله سبحانه، يجعله في نار جهنم مع آخذيه، من الوجوه المحرّمة، ومنفقيه في الوجوه المذمومة، على طريق العقوبة لهم والتجديد لخسرانهم، كلما كثر إليه نظرهم، كما قال سبحانه، في صفة الأموال المكنوزة الممنوعة من إخراج الزكاة: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) [التوبة] . وقوله تعالى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الآية 46] . وهذه استعارة، لأنه لا ريح هناك على الحقيقة، وإنما ذلك على مخرج قول العرب: «قد هبّت ريح فلان» إذا تجددت له دولة، أو ظهرت له نعمة، ويقولون: «الريح مع فلان» أي الإقبال معه، والأقدار تساعده. وأصل ذلك أن الريح في الحرب، إذا كان مجراها مع

_ (1) . الرّمل الهيام: ما لا يتماسك.

إحدى الطائفتين، كان عونا لها على أعدائها، في تفريق جموعهم وتقويض صفوفهم، وإثارة القتام «1» والغبرة في عيونهم ووجهوهم وهذه الأحوال كلها، أعوان عليها مع عدوهم، فما جاء في هذا المعنى، قول ضرار بن الخطاب الفهري: قد أيقنوا يوم لا قونا بأنّ لنا ... ريح القتال وأصلاب الذين لقوا أراد لنا دولة القتال وقوة الاستظهار. ومما جاء في هذا المعنى: أتنظران قليلا ريث غفلتهم أم تعدوان فإنّ الريح للعادي وهذا قول بعض حراب «2» العرب يخاطب صاحبه «3» كأنه قد تنتظران «4» غفلة الحي مراقبة، أم تقدمان على استلاب إبلهم مزالبة «5» . فإن الدولة للمقدم، والغنيمة للمصمم، والعدو في الأصل هو السلوك بالظلم والبغي. يقال: عدو وعدوان، وعلى ذلك قوله تعالى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً [يونس: 90] . وقال بعضهم قول الشاعر: «هاهنا تعدوان» إنما أراد به عدو الأقدام، فكأنه قال أن تنجوا سالمين، ولا تتعرضا لشوكة الحي محاصرين فإنّ الإقبال للناجي بحشاشته، والرابح بسلامته، إذ كانت السلامة هي الغنيمة التي حازها، والطريدة التي استقاها. والقول الأول هو المعتمد، وهو بغرض الشاعر أليق ألا ترى إلى البيت الأول كيف حقر فيه شأن علوف «6» الحي إطماعا لصاحبيه فيهم، واعتدادا كنا أما عليهم «7» ، وذلك حيث يقول:

_ (1) . القتام: الغبار الأسود، غبار الحرب. (2) . كذا في النسخة، ولعل الأصل خراب جمع خارب، وهم سراق الإبل. (3) . ربما كانت العبارة في الأصل صاحبية لأن السياق يقتضي ذلك. (4) . لعل الأصل (كأنه قال) . (5) . كذا في النسخة، ولعلها «مذاءبة» أخذا من فعل الذئب. ورد في اللسان (مادة زلب) : زلب الصبي بأمّه لزمها، ولم يفارقها، عن الجرشي والليث: ازدلب في معنى استلب. قال: وهي لغة رديئة. [.....] (6) . كذا في النسخة، وقد تكون في الأصل خلوف. (7) . كذا جاء في النص.

يا صاحبي ألا لا حيّ بالوادي ... إلّا عبيدا «1» وإماء بين أوتادي وقوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الآية: 61] . وهذه استعارة، والمراد بها: فإن مالوا إلى السلم ميل ثبات عليه، وركون إليه، لا ميل مكر ومخادعة وإدهان ومواربة، فسالمهم على هذا الوجه الذي طلبوا السلم عليه، وأنّث السياق «السّلم» ، لأنه بمعنى المسالمة والمخادعة، وما يجري مجرى ذلك. وقوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الآية 67] . وهذه استعارة، والمراد بها: تغليظ الحال وكثرة القتل وذلك مأخوذ من قول القائل: قد أثخنني هذا الأمر، أي بلغ أقصى المبالغ في الثقل عليّ، والإيلام لقلبي.

_ (1) . البيتان لأعشى طرود كما في ديوان الأعشين وقد جاء عجز ثانيهما الذي هو الأول «سوى عبيد وأم بين أذواد» والإماء: جمع أمة. [وعجز البيت كما ورد في المتن، لا يستقيم وزنه إلّا بحذف الواو، قبل «إماء» .

سورة التوبة 9

سورة التوبة 9

المبحث الأول أهداف سورة"التوبة"

المبحث الأول أهداف سورة «التوبة» «1» أسماء السورة عرفت سورة التوبة من العهد الأول للإسلام بجملة أسماء، تدل بمجموعها على ما اشتملت عليه من المبادئ والمعاني، التي يجب مراعاتها في معاملة الطوائف كلها، مؤمنهم ومنافقهم، وكتابيّهم ومشركهم. وأشهر هذه الأسماء «سورة التوبة» ، وهو يشير إلى ما تضمنته السورة من تسجيل توبة الله، وتمام رضوانه على المؤمنين الصادقين، الذين أخلصوا في مناصرة الدعوة، وصدقوا في الجهاد مع النبي (ص) ، حتى وصل بهم إلى الغاية المرجوّة، وذلك في قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) . ولا ريب في أن تسجيل هذه التوبة للمؤمنين- بعد أن كابدوا الجهد والمشقات في سبيل نصرة الحق- لما يقوّي روح الإيمان في قلوبهم، ويبعد بهم عن مزالق المخالفة، أو التقصير. وقد تخلّف ثلاثة من المسلمين عن الاشتراك في الجهاد، ولم يسهموا في

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمد شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

أين البسملة؟

أعباء جيش العسرة، فأمر النبي (ص) بمقاطعتهم ومعاقبتهم، ومكثوا فترة من الزمن في عزلة تامة بغرض تأديبهم وتهذيبهم، ثم تاب الله عليهم، وقبل توبتهم. وكان ذلك درسا للمسلمين حتى لا يتخلّفوا عن الجهاد ولا يقصّروا في القيام بأعباء الدين وتعاليمه. ومن أسماء السورة «براءة» ، وهي تشير الى غضب الله ورسوله على من أشرك بالله، وجعل له سبحانه، ندّا، وشريكا وإعلام الناس في يوم الحج الأكبر. أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الآية 3] . وقد عرفت السورة بعد ذلك، بأسماء أخرى، فكانت تسمّى «الكاشفة» و «المثيرة» و «الفاضحة» و «المنكّلة» ، وغير ذلك مما حفلت به كتب التفسير، وهي ألفاظ أطلقت عليها، باعتبار ما قامت به، من كشف أسرار المنافقين، وإثارة أسرارهم، وفضيحتهم بها، وتنكيلها بهم. ورد أنّ ابن عباس رضي الله عنه قال: سورة التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل في المنافقين وتنال منهم حتّى ظننّا أنّها لا تبقي أحدا إلّا ذكرته بقولها: ومنهم، ومنهم، ومنهم. وهو يشير إلى ما جاء في هذه السورة من أصناف المنافقين مثل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [الآية 49] . وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) . وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) . أين البسملة؟ من خصائص سورة التوبة، أنه لم يذكر في أولها «بسم الله الرحمن الرحيم» ، لأنها تبدأ بإعلان الحرب الشاملة، ونبذ العهود كافّة، والبسملة تحمل روح السلام والطمأنينة، لذلك لم تبدأ بها سورة الحرب والقتال. وربما كان سبب عدم وجود البسملة في أولها، الاشتباه في أنها جزء من

أهداف سورة التوبة

سورة الأنفال، خصوصا أن سورة الأنفال تحكي جهاد المسلمين في معركة بدر، وسورة التوبة تصف جهاد المسلمين في معركة تبوك. فقصة الأنفال شبيهة بقصة سورة التوبة، من ناحية الهدف العام، والتحريض على الجهاد، والتحذير من التخلّف عن أمر الله ورسوله. لذلك تركت سورة التوبة مع سورة الأنفال. ووضع بينهما فاصل السورة، ولم يكتب في أوّل التوبة «بسم الله الرحمن الرحيم» ، احترازا من الصحابة أن يضيفوا أي شيء إلى رسم القرآن، إلّا بتوجيه من النبي (ص) . روى الترّمذي بإسناده عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى «الأنفال» وهي من المثاني، وإلى «براءة» وهي من المئين، وقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر: «بسم الله الرحمن الرحيم» ، ووضعتموها في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله (ص) ممّا يأتي عليه الزمان، وهو ينزل عليه السور ذات العدد، فكان إذا أنزل عليه الشيء، دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت «الأنفال» من أوّل ما نزل بالمدينة، وكانت «براءة» من آخر ما نزل من القرآن، وكانت قصّتها شبيهة بقصّتها، وخشيت أنها منها. وقبض رسول الله (ص) ، ولم يبيّن لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» ، ووضعتها في السبع الطوال. أهداف سورة التوبة سورة التوبة هي السورة التاسعة في ترتيب المصحف، وهي من السور المدنية، وقد نزلت في أواخر السنة التاسعة من الهجرة. وهي السنة التي خرج فيها النبي (ص) بالمسلمين إلى تبوك، بقصد غزو الروم، كما خرج أبو بكر في أواخر سنة تسع على رأس المسلمين، لحجّ بيت الله الحرام. هدفان أصليان وقد كان للسورة، بحكم هذين الحادثين العظيمين، في تاريخ الدولة

رحمة الله بالعباد

الإسلامية، هدفان أصليان: أحدهما: تحديد القانون الأساسي الذي تشاد عليه دولة الإسلام. وذلك بالتصفية النهائية بين المسلمين ومشركي العرب، بإلغاء معاهدتهم، ومنعهم من الحج، وتأكيد قطع الولاية بينهم وبين المسلمين، وبوضع الأساس في قبول بقاء أهل الكتاب في جزيرة العرب، وإباحة التعامل معهم. ثانيهما: إظهار ما كانت عليه نفوس أتباع النبي (ص) حينما استنفرهم ودعاهم إلى غزو الروم، وفي هذه الدائرة تحدّثت السورة عن المتثاقلين منهم، والمتخلّفين والمبطئين وكشفت الغطاء عن فتن المنافقين، وما انطوت عليه قلوبهم من أحقاد، وما قاموا به من أساليب النفاق. وقد عرضت السورة من أوّلها للهدف الأول. واستغرق ذلك سبعا وثلاثين آية في أول السورة، وقد تضمنت هذه الآيات ما يأتي: (أوّلا) تقرير البراءة من المشركين، ورفع العصمة عن أنفسهم وأموالهم. (ثانيا) منحهم هدنة، مقدارها أربعة شهور. (ثالثا) إعلام الناس جميعا، يوم الحج الأكبر (وهو يوم عيد الأضحى) بهذه البراءة. (رابعا) إتمام مدة العهد، لمن حافظ منهم على العهد. (خامسا) بيان ما يعاملون به، بعد انتهاء أمد الهدنة، أو مدة العهد. (سادسا) تأمين المستجير حتى يسمع كلام الله. (سابعا) بيان الأسباب التي أوجبت البراءة منهم، وصدور الأمر بقتالهم. (ثامنا) إزالة وساوس قد يخطر في بعض النفوس، أنها تبرّر مسالمة المشركين، أو الإبقاء على عهودهم. رحمة الله بالعباد لقد برئ الله من المشركين ومن فعالهم، لأنّ الشرك والكفر ظلم عظيم، وجحود بحق الله الخالق الرازق، الذي يستحق العبادة وحده، لكن الله سبحانه أمهل المشركين مدة أربعة أشهر، لتمكينهم من النظر والتدبير، لاختيار ما يرون فيه مصلحتهم، من الدخول في الإسلام، أو الاستمرار على العداء.

غزوة تبوك

ولعل الحكمة في تقدير تلك المهلة، بأربعة أشهر، أنها هي المدة التي كانت تكفي لتحقيق ما أبيح لهم من السياحة في الأرض، والتقلّب في شبه الجزيرة، على وجه يمكّنهم من التشاور والأخذ والرد، مع كل من يريدون أخذ رأيه، في تكوين الرأي الأخير. قال تعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) . ومن رحمة الإسلام أيضا، إباحة تأمين المشرك، وتقرير عصمة المستأمن، وقد أوجب الله على المسلمين حماية المستأمن، في نفسه وماله، ما دام في دار الإسلام، وجعل لأفراد المسلمين حق إعطاء ذلك الأمان، (فالمسلمون عدول يسعى بذمتهم أدناهم) . والإسلام يبيح، بهذا الأمان، التبادل التجاري والصناعي والثقافي، وسائر الشؤون ما لم يتصل شيء منها بضرر الدولة. وقد كان للإسلام من مشروعية الأمان، وسيلة قوية لنشر دعوته، وإيصال كلمة الله إلى كثير من الأقاليم النائية، من غير حرب ولا قتال. قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) . فالإسلام يمنح الجوار والأمان للمشرك، الذي يبحث عن الحقيقة، ويريد أن ينظر في الإسلام نظر تأمل ودراسة، فيسمح له بالدخول فيما بين المسلمين والتعامل معهم، والاختلاط بهم، حتى يفهم حكم الله ودعوته. فإن اطمأن ودخل الإيمان في قلبه، التحق بالمؤمنين، وصار في الحكم كالتائبين. وإن لم يشرح صدره للإسلام وأراد الرجوع إلى جماعته، حرم اغتياله، ووجبت المحافظة عليه، حتى يصل مكان أمنه واستقراره. وبذلك بلغ الإسلام شأوا بعيدا في حماية الفكر والنظر، وتذليل الطريق أمام الباحثين والمفكّرين، وحمايتهم حتى يصلوا إلى مواطن الأمان، أيّا كانت معتقداتهم، وصدق الله العظيم: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256] . غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، وصلت للرسول (ص) أنباء، تفيد أن

الروم قد جمعوا جموعهم، واعتزموا غزو المسلمين في بلادهم، فأمر النبي (ص) أن يتجهز المسلمون، وأن يأخذوا عدّتهم، ويخرجوا إلى تبوك لقتال الروم في بلادهم، قبل أن يفاجئوه في بلده. أعلن النبي (ص) النفير العام، وكان قلّما يخرج إلى غزوة، إلا ورّى بغيرها، مكيدة في الحرب، إلا ما كان من هذه الغزوة- غزوة تبوك- فقد صرّح بها لبعد الشّقّة، وشدة الزمان، إذ كان ذلك في شدة الحرّ، حين طابت الظلال، وأينعت الثمار، وحبّب إلى الناس المقام. عندئذ وجد المنافقون فرصة سانحة، للتخذيل فقالوا: لا تنفروا في الحر، وخوّفوا الناس بعد الشّقّة وحذّروهم شدّة بأس الروم. وكان لهذا كله، أثره في تثاقل بعض الناس، عن الخروج للجهاد. كذلك أخذ المنافقون يستأذنون في التخلف عن الغزو، معتذرين بالأعذار الكاذبة الواهنة، كما دبّر بعضهم المكائد للنبي (ص) في ثنايا الطريق. ولم يكن بدّ من هذا الامتحان ليكشف الله المنافقين، ويثبّت المؤمنين الصادقين، فالشدائد هي التي تكشف الحقائق، وتظهر الخبايا. وقد ظهر الإيمان الصادق، من المؤمنين المخلصين، فسارعوا إلى تلبية الدعوة بأموالهم وأنفسهم، يجهّزون الجيش، ويعدون العدّة، وقد خرج أبو بكر حينئذ عن كل ما يملك، كما قام بنصيب الأسد في التجهيز عثمان بن عفان، بذل الآلاف، وجهّز المئات من البعير والخيل، وجهّز هو وغيره الفقراء الأقوياء، الذين جاءوا إلى النبي (ص) بأنفسهم، ليحملهم، فقال لهم كما ورد في التنزيل: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ [الآية 92] . ثم يستمر سياق سورة «التوبة» في الحديث عن المنافقين، وما يظهر منهم من أقوال وأعمال تكشف عن نواياهم، التي يحاولون سترها فلا يستطيعون فمنهم من ينتقد النبي (ص) في توزيع الصدقات، ويتّهم عدالته في التوزيع، وهو المعصوم ذو الخلق العظيم

ومنهم من يقول هو أذن يستمع لكل قائل، ويصدّق كل ما يقال. ومنهم من يتخفّى بالقولة الفاجرة الكافرة، حتى إذا انكشف أمره استعان بالكذب والحلف، ليبرئ نفسه من تبعة ما قال ومنهم من يخشى أن ينزل الله على رسوله سورة، تفضح نفاقهم، وتكشفهم للمسلمين. ثم تقارن «السورة» بين المنافقين والمؤمنين، لتبيّن الفرق الواضح بين صفات المنافقين، وصفات المؤمنين الصادقين، الذين يخلصون للعقيدة ولا ينافقون فقد خرج المؤمنون للجهاد مع رسول الله (ص) وقطعوا مسافة طويلة في الصحراء الجرداء، تقدر بنحو 692 كيلو مترا. وكان المؤمنون يتدافعون إلى الجهاد، ويشتاقون إلى الشهادة. ولمّا أحس الروم بقدوم المسلمين، انسحبوا من أطراف بلادهم الى داخلها، فلمّا وصل المسلمون إلى تبوك، لم يجدوا للروم أثرا. وقد عقد النبي (ص) معاهدات مع أمراء الحدود، وعاد إلى المدينة مرهوب الجانب، محفوظا بعناية الله. وقد استقبل النبي (ص) المتخلّفين عن الجهاد في غزوة تبوك، فمنهم أصحاب الأعذار الحقيقية، وهؤلاء معذورون معفون من التّبعة ومنهم القادرون الذين قعدوا بدون عذر، فعليهم تبعة التخلف، ووزر النكوص عن الجهاد. ثم تمضي سورة التوبة، فتتحدث عن الأعراب، فتذكر طبيعتهم، وصنوفهم، ومواقفهم من الإيمان والنفاق. ثم تقسم الجماعة الإسلامية كلّها عند غزوة تبوك، وبعدها، إلى طبقاتها ودرجاتها، وفق مقياس الإيمان والأعمال: فهناك السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار، والذين اتّبعوهم بإحسان وهناك المنافقون الذين تمرّسوا بالنفاق، وتعوّدوا عليه، سواء أكانوا من الأعراب، أم من أهل المدينة وهناك الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا، واعترفوا بذنوبهم وهناك الذين أخطئوا وأمرهم متروك لله، إمّا يعذّبهم، وإمّا يتوب عليهم وهناك فئة أخلصت لله في الإيمان، وتخلّفت من غير عذر، ثم ندمت ندما عميقا، وضاقت الدنيا في وجهها، ولجأت إلى

علاقات المسلمين بغيرهم

الله، تطلب مغفرته ورحمته، فتاب الله عليهم، وألهمهم طريق التوبة والسداد، إن الله هو التواب الرحيم. علاقات المسلمين بغيرهم سورة التوبة، هي آخر سور القرآن نزولا وفي هذه السورة نجد القول الفصل في علاقات الأمة المسلمة بالمشركين، وبأهل الكتاب، وبالمنافقين وهذا هو موضوعها الذي تدور حوله. لقد كانت بين المسلمين وبعض المشركين عهود، ولم يكن المشركون يحافظون على عهودهم، إلّا ريثما تلوح لهم فرصة، يحسبونها مؤاتية للكرّة على المسلمين، وكان المشركون، حتى بعد فتح مكة، يطوفون بالبيت عرايا، على عادتهم في الجاهلية، ويصفّقون، ويصفرون، مخلّين بكرامة البيت العتيق، فلم يكن بدّ من أن تخلص الجزيرة العربية للإسلام، وأن تتخلّص من الشرك. والجهاد، هو الوسيلة لتطهير الجزيرة من رجس المشركين والمنافقين ثم تناولت السورة موضوع الجهاد بالنفس، والمال، وبيّنت شرفه وأجره. وأنحت على المتخلّفين القاعدين، واستجاشت وجدان المسلمين الى قتال الكفار المنافقين، بما صوّرت من كيدهم للمسلمين، وحقدهم عليهم، وتمني الشر لهم، وما تحمله نفوسهم من الخصومة والبغضاء، وما وقع منهم للرسول (ص) ومن معه من المؤمنين وبذلك كانت سورة التوبة، تحمل القول الفصل في علاقات المسلمين بغيرهم، وتحدّد موقفهم الحاسم الأخير. وقد لوّنت السورة أساليب الدعوة إلى الجهاد، فحينا تنكر على المؤمنين تثاقلهم وإخلادهم إلى الأرض، وحينا آخر تهتمّ بتطهير الجيش من عناصر الفتنة والخذلان، ومرة أخرى توضح أن سنة الله ماضية لا تتخلّف وأن من قوانين الحق سبحانه، أنّ البقاء والعزة والسلطان، إنّما هو يكون للعاملين المجاهدين أمّا المتباطئون والمتثاقلون، الذين يؤثرون حياتهم، ويضنّون بأنفسهم وأموالهم، ويخلدون إلى الأرض، ويعرضون عن دعوة الجهاد في سبيل حريتهم وبقائهم، فإنهم لا بدّ ذاهبون، وهم لا محالة مستذلّون مستعبدون.

فضل الرسول الأمين

فضل الرسول الأمين تعرّضت سورة التوبة، لبيان فضل رسول الله (ص) ومكانته السامية، ومناقبه الكريمة فذكرت أن الله سبحانه أنزل السكينة عليه، وأيّده بجنود من الملائكة في يوم «حنين» ، حين انهزم المؤمنون، وولّوا مدبرين. ومن كرامة الرسول (ص) أن الله نصره عند الهجرة مع صاحبه الصّدّيق، وكان الله معهما بتأييده وإنزاله الطمأنينة والأمان عليهما وحفظهما في الغار، حتّى عميت عنهما عيون الكفار وجعل الله كلمة المؤمنين في ارتفاع وانتصار، وشأن الكافرين في هزيمة واندحار وقد فرضت سورة التوبة على المؤمنين عدة واجبات، تجاه نبيهم منها: 1- محبّته (ص) والتزام هديه، والعمل بسنّته، كما نجد ذلك في الآية 25. 2- تحرّي مرضاته، لأن رضاه من رضا الله سبحانه، ونجد ذلك في الآية 62. 3- وجوب طاعته، والنصح له، ووجوب نصره. 4- تحريم إيذائه، وتحريم معاداته، وتحريم القعود عن الخروج معه في الجهاد. وتختم السورة آياتها بذكر صفات رسول الله (ص) . فهو الرحمة المهداة، لتطهير المؤمنين، وتزكيتهم، وتعليمهم، والدعاء لهم فحبّه فريضة، وبغضه كفر وحرمان. وقد تكفّل الله بنصر رسوله، حتى ولو تخلى عنه جميع الناس، فإن معه الله القوي القدير، قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"التوبة"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التوبة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة التوبة بعد سورة المائدة، وكان نزولها في ذي القعدة أو ذي الحجّة من السنة التاسعة للهجرة، وكان النبي (ص) أرسل أبا بكر في أخريات ذي القعدة ليحجّ بالناس، فنزلت هذه السورة بعد سفره، وفيها نبذ العهود للمشركين جميعهم الذين لم يفوا بعهودهم، فأرسل بها عليّا ليبلّغها إلى الناس في يوم الحج الأكبر، فلحق أبا بكر في الطريق، ثم أبلغها الناس في ذلك اليوم، ثم نادى: لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فتكون سورة التوبة، من السور التي نزلت بين غزوة تبوك ووفاة النبي (ص) . وقد سميت هذه السورة باسم التوبة، لأنه ذكر في الآيتين: 117 و 118، توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتّبعوه في ساعة العسرة، بعد ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ [الآية 117] ، وعلى الثلاثة الذين خلّفوا في غزوة تبوك، وتبلغ آياتها تسعا وعشرين ومائة آية. الغرض منها وترتيبها نزلت هذه السورة لتحديد علاقة المسلمين بأعدائهم في آخر عهد النبوّة، وكان أعداؤهم على ثلاثة أقسام: أوّلها مشركو العرب، وقد نبذت في هذه السورة عهود الذين لم يفوا بعهودهم منهم، وأمهلوا فيها أربعة

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

الكلام على المشركين وأهل الكتاب الآيات (1 - 37)

أشهر يسيحون في الأرض، وأتمّ فيها عهد من وفي بعهده إلى مدته، لتخلص جزيرة العرب للمسلمين وحدهم. وثانيها من حاربهم من اليهود والنصارى، وقد أمروا فيها بقتالهم وقبول الجزية منهم إذا سالموهم. وثالثها المنافقون، وقد فضحوا فيها، وكشفت أسرارهم، وأمر المسلمون بمقاطعتهم والبعد عنهم. وتنقسم هذه السورة في ذلك الى قسمين: أوّلهما في الكلام على المشركين وأهل الكتاب، وثانيهما في الكلام على المنافقين وقد استطرد في أثناء ذلك إلى بعض الحوادث التي وقعت في تاريخ نزول هذه السورة، كغزوة حنين وغزوة تبوك. وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة الأنفال، لما سبق من أنهما يعدّان كسورة واحدة تتمّم السبع الطوال وقد ذهب كثير من الصحابة إلى أنهما سورة واحدة، وجعل هذا هو السبب في ترك التسمية في أول هذه السورة ومما يذكر في المناسبة بين السورتين، أن سورة الأنفال ذكرت فيها العهود، وسورة التوبة ذكر فيها نبذ العهود وأن سورة الأنفال، ختمت بفرض الموالاة بين المؤمنين، وقطعها بينهم وبين الكفار وقد افتتحت بهذا سورة التوبة وأن قصة سورة التوبة، تشبه قصة سورة الأنفال، لأن كلّا منهما نزل في القتال. الكلام على المشركين وأهل الكتاب الآيات (1- 37) قال الله تعالى بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) . فأوجب البراءة من عهود المشركين، وأباح لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر، وأمر أن يؤذنوا بهذا يوم الحجّ الأكبر فإن تابوا في مدة إمهالهم فهو خير لهم، وإن أصرّوا على كفرهم فلن يعجزوا الله في دنياهم، ولهم في الاخرة عذاب أليم ثم استثنى منهم الذين كان لهم عهد ولم ينقضوه، فأمر أن يتمّ لهم عهدهم إلى مدّتهم، ثمّ أمر بقتالهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم حيث وجدوا، فإن تابوا كفّ عن قتالهم ثم أمر النبي (ص) أن يجير من استجاره منهم حتّى يسمع كلامه، وأن يبلغه بعد هذا مأمنه من دار قومه، ويكون حكمه في القتال كحكمهم ثم أنكر السياق أن يكون لأولئك المشركين عهد عند

النبي (ص) ، واستثنى منهم الذين عاهدهم عند المسجد الحرام، فأمر سبحانه أن يستقيموا لهم ما استقاموا لهم، ثم عاد السياق فأنكر أن يكون لأولئك المشركين عهد، وهم إن يظهروا على المؤمنين لا يرعوا فيهم عهدا، لأنهم غير مخلصين في عهدهم، وأكثرهم فاسقون لا قيمة للعهد عندهم ثم ذكر من فسقهم أنهم آثروا الكفر على الإيمان بثمن قليل من متاع الدنيا، وأنهم لا يرقبون في مؤمن عهدا، وأنهم هم المعتدون على المسلمين ثم ذكر أنهم إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فهم إخوانهم في الدين وأنهم، إن نكثوا أيمانهم من بعدهم وجب قتالهم ونقض عهدهم، لأنهم لا أيمان لهم. ثم ذكر في تسويغ قتالهم، أنهم نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول من مكة، قبل أن يهاجر منها، وبدءوا المسلمين بالقتال ظلما وعدوانا ثم أمرهم بقتالهم ليعذّبهم سبحانه بأيديهم ويخزيهم، وينصرهم عليهم، ويشفي صدورهم منهم وذكر أنه لم يكن ليتركهم، من غير أن يميز بالجهاد بين الصادقين في إيمانهم وغيرهم، ولم يكن ليترك المشركين يعمرون المسجد الحرام بكفرهم، لأن الأحقّ بعمارته الذين يؤمنون بالله واليوم الاخر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ثم أنكر على المشركين أن يسوّوا بين ذلك، وما يقومون به من سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام وحكم بأن المؤمنين أعظم درجة عنده منهم. ثم نهى المؤمنين بعد البراءة من عهود الكفار، أن يتّخذوا آباءهم وإخوانهم أولياء، إن آثروا الكفر على الإيمان وأوعدهم إن آثروا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وأزواجهم وعشيرتهم وأموالهم وتجارتهم، عليه وعلى رسوله والجهاد في سبيله، أن يتربّصوا حتى يأتي سبحانه بأمره ثم ذكر أنه جلّ جلاله نصرهم في مواطن كثيرة ليؤثروه على غيره وخصّ من هذه المواطن يوم حنين، إذ أعجبتهم كثرتهم فلم تغن عنهم شيئا، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ثم ولّوا مدبرين. ثم أنزل سكينته على النبي ومن ثبت معه، وهزم أعداءهم ثم ذكر أنه يتوب على من يشاء منهم، والله غفور رحيم يا أَيُّهَا الَّذِينَ

الكلام على المنافقين الآيات (38 - 129)

آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) . ثم أمرهم أن يقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر، ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحقّ من أهل الكتاب، حتى يعطوا الجزية وكانوا قد حاربوهم، وانضموا إلى المشركين عليهم ثم أثبت ما ذكره من كفرهم، بأن اليهود يقولون عزير ابن الله، والنصارى يقولون المسيح ابن الله، يضاهئون المشركين قبلهم، في زعمهم أن له أولادا من الملائكة وغيرهم وأثبته أيضا باتّخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا يطيعونهم من دونه سبحانه، ثم ذكر أنهم يريدون أن يطفئوا نوره، وهو دين الإسلام، بأفواههم، ليسوّغ ما أمر به من قتالهم ثم ذكر أن كثيرا من أحبارهم ورهبانهم ليأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدونهم عن سبيله وأن الذين يكنزون منهم الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيله، لهم عذاب أليم يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) . ثم ختم الكلام على الفريقين، ببيان ما يحلّ القتال فيه، وما يحرم من شهور السنة، فذكر أن عدة الشهور اثنا عشر شهرا، وأنّ منها أربعة حرما، يحرّم القتال عليهم فيها، ويجب عليهم قتال المشركين كافّة فيما عداها، كما يقاتلونهم كافة ثم حرّم عليهم النّسيء، وهو تأخير الأشهر الحرم عن مواضعها من السنة، إذا صادفتهم وهم في حرب، أو لم يوافق الحج فيها موسم تجارتهم، ليواطئوا عدة ما حرّم الله فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [الآية 37] . الكلام على المنافقين الآيات (38- 129) ثم قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [الآية 38] ، فذكر ما حصل من المنافقين في غزوة تبوك، وكانت في وقت الصيف وشدّة الحر وما حصل في غزو

الروم، وهي دولة قوية ليست كمن قاتلوهم من قبائل العرب، فتثاقل عنها المنافقون واستعظموا غزو الروم، وأثّروا في بعض المؤمنين، وقد بدأ بلومهم على تثاقلهم، إذا قيل لهم انفروا في سبيله، وإيثارهم الحياة الدنيا على الاخرة ثم ذكر أنهم إلّا ينفروا يعذّبهم، ويستبدل قوما غيرهم، ولا يضرّوا النبي (ص) ، وأنهم إلّا ينصروه فقد نصره في هجرته من مكة ثاني اثنين، وقد جزع رفيقه وهما في الغار أن يدركهما المشركون، فقال له كما ورد في التنزيل لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [الآية 40] فأنزل سكينته عليه، وأيّده بجنود من عنده، وجعل كلمة الكافرين السّفلى، وكلمته هي العليا ثم أمرهم أن ينفروا خفافا وثقالا، ويجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ورغّبهم في ذلك، بأنه خير لهم لو كانوا يعلمون ثم عاد السياق إلى توبيخهم على تثاقلهم، فذكر سبحانه، أنه لو كان دعاهم إلى عرض قريب من الدنيا، أو سفر سهل لاتّبعوه طمعا في منافع الدنيا، ولكن طال السفر عليهم في هذه الغزوة، وأيسوا من الفوز بالغنائم، فتثاقلوا عنها، وسيحلفون بالله، أنهم لو استطاعوا الخروج لخرجوا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) [الآية] ، ثم عاتب تعالى النبي (ص) على إذنه لهم بالقعود، وكان من الخير ألّا يأذن لهم، حتّى يعلم الصادقين في عذرهم من الكاذبين ثم ذكر أن الذين يؤمنون به وباليوم الاخر، لا يستأذنون في الجهاد بأموالهم وأنفسهم، لأنهم يعلمون عظيم ما أعدّ لهم في ذلك اليوم، إذا استشهدوا في الجهاد، وإنما يستأذن في الجهاد الذين لا يؤمنون بذلك من المنافقين ولو أنهم أرادوا الخروج، لأعدوا له عدّته، وخرجوا مع المجاهدين ولكنه علم المصلحة في عدم خروجهم، فثبّطهم عن الخروج ولو خرجوا، لأوقعوا الفتنة في صفوف المسلمين، وأطلعوا أعداءهم على أسرارهم، كما فعلوا مثل هذا من قبل، في غزوة أحد وغيرها. ثم قسّمهم في النفاق إلى أقسام، أولها: الذين إذا طلبوا للجهاد ذهبوا إلى النبي (ص) وعرضوا عليه أن يعينوه بأموالهم، على أن يأذن لهم في القعود، ولا يفتنهم بعدم الإذن فسقطوا في الفتنة من حيث يظهرون البراءة منها. ثم ذكر السياق بعد هذا،

أنه إن أصاب الرسول (ص) فوز ساءهم، وإن أصيب بمكروه، فرحوا بحذرهم وعدم خروجهم وأمر النبي (ص) أن يذكر لهم، أنه لن يصيب المسلمين إلا ما كتب لهم وأنهم لا يتربّصون بهم إلا إحدى الحسنيين: النصرة أو الشهادة أمّا هم فسيصابون بعذاب من عند الله، أو بأيدي المسلمين ثم ذكر لهم أنّ ما ينفقونه طوعا أو كرها، ليقعدوا في نظيره عن القتال، لن يتقبله منهم لفسقهم، وكفرهم، وعدم إخلاصهم في صلاتهم وإنفاقهم ثم نهى النبيّ (ص) أن تعجبه أموالهم وأولادهم، لأنه يريد أن يعذّبهم بها في الدنيا، بإنفاقها فيما يكرهون، وهو أشقّ شيء عليهم وتزهق أنفسهم، وهم كافرون، فيعذّبون في الاخرة أيضا. ثم ذكر أنهم، مع هذا، يحلفون أنهم من المسلمين، وما هم منهم، ولكنهم قوم جبناء، يفرقون من الجهاد لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) . وثانيها: الذين يطعنون على النبي (ص) في الصدقات المفروضة، ويزعمون أنه يخص بها أقاربه وأهل مودته فإن أعطوا منها، رضوا وإن لم يعطوا، سخطوا ولو أنهم رضوا بقسمة الله ورسوله فيها، ونصيبهم منها، لكان خيرا لهم ثم ذكر في الجواب عن طعنهم، أنّ هذه الصدقات لها مصارف معلومة، من الفقراء ومن ذكرهم، وهي مصارف لا تراعى فيها قرابة ولا مودة، وإنّما تراعى فيها المصلحة والحاجة. وثالثها: الذين يؤذون النبي (ص) ويقولون هو أذن، لأنه يسمع ما يقال فيهم وقد أمره سبحانه أن يذكر لهم أنه أذن خير لهم، لأنه يؤمن بالله ويخافه، فلا يقدم على أذى أحد، ولا يسمع إلا للمؤمنين الصادقين، الذين يريدون المصلحة بنقل أخبارهم ثم ذكر أنهم إذا بلغ عنهم ما يقولون، يحلفون للمسلمين أنهم لم يقولوه ليرضوهم، والله ورسوله أحق أن يرضوه، بترك ما يقولونه من الإثم ثم ذكر أنهم حين يفعلون ذلك، يحذرون أن تنزل عليهم سورة تفضحهم به وأمر النبيّ (ص) أن يأمرهم بأن يفعلوا ما يفعلونه من الاستهزاء به وغيره، فإن الله مخرج ما يحذرون من أسرارهم،

بهذه السورة التي أنزلها فيهم ثم ذكر أنه إذا سألهم عما يبلغ عنهم، اعتذروا عنه، بأنه كان على وجه اللعب لا على وجه الجدّ، وردّ عليهم بأنه لا محلّ للّعب في أمر الله وآياته ورسوله، إلى غير ذلك ممّا ذكره في الردّ عليهم ثم ذكر أن المنافقين والمنافقات بعضهم من بعض، فلا يوالي بعضهم إلّا بعضا، لأنهم يستأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، إلى غير هذا ممّا لا يصحّ موالاتهم عليه. ثم ذكر سبحانه، أنه أعدّ لهم على ذلك نار جهنّم خالدين فيها وذكر أنه سينالهم ما نال من كان قبلهم، ممّن كانوا أشدّ منهم قوة، وأكثر أموالا وأولادا، كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وغيرهم. ثم ذكر أن المؤمنين يجب أن يكون بعضهم أولياء بعض، لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على عكس ما يفعله المنافقون وذكر ما أعدّ لهم من الثواب، كما ذكر ما أعدّ للمنافقين من العذاب ثم أمر النبي (ص) أن يجاهدهم بالتغليظ والتشديد عليهم، ثم أعاد السياق ما ذكره سبحانه، من حلفهم وإنكارهم ما يقولونه بعد الأمر بجهادهم، ليؤكد ثانيا أنهم قالوه. ورابعها: الذين عاهدوا الله إن أغناهم أن يتصدّقوا من أموالهم، فلمّا آتاهم ما طلبوا بخلوا بصدقاتهم، فجازاهم على ذلك بأن أعقبهم نفاقا لا يفارقهم الى يوم القيامة، وهددهم بأنه يعلم سرّهم ونجواهم ولا يخفى عليه، جلّت قدرته، شيء من أحوالهم ثم ذكر أنهم مع بخلهم بالصدقات يطعنون المطّوعين من المؤمنين فيها، والذين لا يجدون ما يتصدقون به إلا جهد المقلّ، فيسخرون منهم ويزعمون أنهم يقصدون الرياء والسمعة، وأن الله غنيّ عن صدقة المقلّ منهم ثم ذكر أنه جازاهم سخرية بسخرية، ولهم عذاب أليم، ونهى النبي (ص) أن يستغفر لهم كما يستغفر للمسلمين وذكر أنه لا يغفر لهم، ولو استغفر لهم سبعين مرة، لأنهم كفروا به وبرسوله وهو لا يهدي القوم الفاسقين. ولما انتهى السياق من بيان أقسامهم، عاد إلى أصل الكلام في تثاقلهم وتخلّفهم عن غزوة تبوك، فذكر ما كان من فرحهم بتخلّفهم، وكراهتهم للجهاد

بأموالهم وأنفسهم، وتثبيطهم الناس عن هذه الغزوة وأوعدهم الله وسبحانه، على ذلك بما أوعدهم به، ثم أمر النبي (ص) ألّا يأذن لهم في الخروج بعد ذلك إذا استأذنوه فيه، وألّا يشركهم معه في قتال عدو، ونهاه نهيا قاطعا أن يصلّي على أحد منهم مات، وأن يقوم على قبره وأن تمتدّ عينه إلى أموالهم وأولادهم، كما كان يفعل قبل ذلك من أخذ أموالهم، وقبول تخلفهم ثم وبّخ أصحاب الأموال منهم على ما كانوا يفعلونه من ذلك، ورضاهم بأن يقعدوا مع الخوالف من النساء والولدان ثم ذكر أن الرسول والمؤمنين على خلاف ما يفعل أولئك المنافقون، وأنه أعدّ لهم على ذلك ما أعدّ من جنات النعيم. ثم شرع السياق في بيان ما حصل من منافقي الأعراب في تلك الغزوة، وكان ما سبق في منافقي المدينة، فذكر، جلّت قدرته، أن المعذّرين منهم جاءوا ليؤذن لهم في القعود، وهم الذين يعتذرون بلا عذر، وأن بعضهم قعد ولم يعتذر جراءة على الله ورسوله فأوعدهم سبحانه، بأنهم سيصيبهم عذاب أليم ثم نفي الحرج عمّن قعد بعذر لضعفه أو لأنه لا يجد الأهبة والزاد والراحلة، فهؤلاء ليس عليهم من سبيل، والله غفور رحيم، إنما السبيل على الذين يستأذنون وهم أغنياء، ولا ضعف فيهم ثم ذكر أنهم سيعتذرون إليهم بعد رجوعهم من الغزو، ونهى النبي (ص) عن قبول عذرهم وذكر أنهم سيحلفون لهم أنهم لم يقدروا على الخروج، ليعرضوا عنهم ولا يوبّخوهم وأمرهم أن يعرضوا عنهم، إعراض مقت وسخط ثم ذكر أن منافقي الأعراب أشدّ كفرا ونفاقا وجهلا من منافقي المدينة وأن منهم من يعتقد أن ما ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران، ويتربص بالمسلمين الدوائر بظهور أعدائهم عليهم ثم ذكر أن من الأعراب من يخلص في إيمانه، وأنه سيدخلهم في رحمته وأن السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان، لهم درجات أعلى منهم، لأن الأعراب، وإن أخلصوا في إيمانهم، ليس لهم مثل سبقهم وجهادهم. ثم ذكر أن من الأعراب وأهل

المدينة منافقين مردوا على النفاق وأن النبي (ص) لا يعلمهم، وهو سبحانه، يعلمهم، وسيعذّبهم مرتين في الدنيا والاخرة وأن منهم آخرين اعترفوا بذنوبهم، وخلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا وذلك بخروجهم مع النبي (ص) في سائر الغزوات، وتخلّفهم في هذه الغزوة وأنه قد قبل توبتهم، وغفر لهم وكانوا قد تأخّروا عن تقديم زكواتهم قبل توبتهم، فأمر النبي (ص) أن يأخذها منهم، لتتمّ توبتهم بها ثم ذكر أنه هو الذي يقبل التوبة عن عباده، ويأخذ الصدقات ترغيبا فيها لمن لم يتب، وأمرهم أن يعملوا الصالحات، لتكفّر ما مضى من سيئاتهم وأخبرهم بأنه يرى عملهم، ترغيبا وترهيبا لهم ثم ذكر أن منهم آخرين ندموا على ما فعلوا، ولكنهم أحجموا عن الحضور الى النبي (ص) ، وإظهار التوبة، خوفا منه أو خجلا واستحياء، وأنهم مرجون لأمره، فإما يعذّبهم وإمّا يوفّقهم لتكميل التوبة، لأن الندم وحده لا يكفي فيها، ثم ذكر أن منهم الذين اتّخذوا مسجدا قبيل غزوة تبوك، يضارّون به مسجد قباء، ويفرّقون به بين المؤمنين ونهى النبيّ (ص) أن يصلّي فيه، وذكر أن مسجد قباء الذي أسس على التقوى، من أول يوم، أحقّ بذلك وأجدر وكان قد أمر النبي (ص) بتخريبه، فذكر أنه لا يزال بنيانهم بعد تخريبه ريبة في قلوبهم، إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) . ولما انتهى من ذكر ما فعلوه في تلك الغزوة، ذكر أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، بأنّ لهم الجنة، فلا يصحّ لمسلم أن يبخل بنفسه وماله في الجهاد، كما يبخل أولئك المنافقون، وأنه وعد المجاهدين بذلك وعدا عليه حقّا في التوراة والإنجيل والقرآن، ولا يوجد من هو أوفى بعهده منه. ثمّ أمرهم أن يستبشروا بذلك البيع الرابح، وأخبرهم بأن ذلك هو الفوز العظيم، ومدحهم بأنهم التائبون العابدون، إلى غير ذلك من الصفات التي امتازوا بها على المنافقين، وجعلتهم يبذلون أنفسهم وأموالهم، في سبيل الله، راضين مطمئنين. ثم نهى النبي (ص) والمؤمنين عن الاستغفار لأولئك المنافقين بعد أن بيّن ما حصل منهم، لأن هذا أشد

عقوباتهم، فكرر النهي عنه تأكيدا له، وذكر انه لا يصح أن يقتدوا، في هذا، باستغفار إبراهيم لأبيه، لأنه لم يستغفر له إلّا بعد أن وعده أن يؤمن، فلما لم يف بوعده تبرّأ منه، وترك الاستغفار له ثم ذكر أنه لا يؤاخذهم بما سبق منهم فيضلّهم، لأنه لا يؤاخذ قوما بعد إذ هداهم، حتى يبيّن لهم ما يتّقون، ثم ذكّرهم بكمال علمه، وواسع ملكه، لينقادوا لنهيه، ويستغنوا به، عن أولئك المنافقين. وكان قد حصل من النبي (ص) والمؤمنين بعض ما يؤاخذون عليه في تلك الغزوة، كإذنه (ص) للمنافقين في القعود، وتأثّر بعض المؤمنين بتثبيط المنافقين. فذكر أنه تاب عليهم من تلك الزلّات وعلى الثلاثة الذين تخلّفوا منهم، ثم ندموا وتابوا، وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع، فتاب عليهم بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنّوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه وأمرهم بأن يتّقوه، ويكونوا مع الصادقين. ثم ذكر أنه ما كان لأهل المدينة، ومن حولهم من الأعراب، على العموم، أن يتخلفوا عن النبي (ص) ، لأنهم لا يصيبهم شيء في الجهاد، ولا ينالون ظفرا على العدو، إلّا كتب لهم به عمل صالح، ولا ينفقون نفقة، ولا يقطعون واديا إلّا كتب لهم ثم ذكر أنه لا يكلفهم كلّهم أن ينفروا إلى النبي (ص) ، وإنّما يكلفهم أن تنفر من كل فرقة منهم طائفة إليه، ليتفقّهوا في الدين، ويشاركوه في الجهاد، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. ثم أمر المؤمنين أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار، وهم المنافقون وقد أمر النبي (ص) بجهادهم فيما سبق، فأعاده تأكيدا له، والمراد من قتالهم، أن يظهروا العداوة لهم بالتشديد والتغليظ عليهم كما سبق ثمّ حرّضهم عليهم، فذكر أنهم إذا أنزلت سورة من القرآن، فمنهم من يقول: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [الآية 124] وأجاب عن قولهم بأن المؤمنين يزدادون بها إيمانا. وأما هم فيزدادون بها نفاقا إلى نفاقهم ثم وبّخهم بأنهم يفتنون في نفاقهم كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ

يَذَّكَّرُونَ (126) . ومنهم من ينظر عند نزولها، هل يراه أحد إذا انصرف كراهة لسماعها، ثم ينصرفون إلى دورهم صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) . ثم ذكر لهم من أمر النبي (ص) ما لا يصحّ معه أن ينافقوه، وهو أنه رسول لهم من أنفسهم، عزيز عليه ما هم فيه من العنت، حريص عليهم بالمؤمنين، رؤوف رحيم فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"التوبة"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التوبة» «1» أقول: قد عرف وجه مناسبتها، ونزيد هنا أن صدرها «2» تفصيل لإجمال قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58] . وآيات الأمر بالقتال متصلة بقوله سبحانه هناك: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60] . ولذا قال هنا في قصة المنافقين: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا [الآية 46] . ثم إن بين السورتين تناسبا من وجه آخر، وهو: أنه سبحانه، في الأنفال، تولّى قسمة الغنائم، وجعل خمسها خمسة أخماس «3» ، وفي براءة تولّى قسمة الصدقات، وجعلها لثمانية أضعاف «4» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . صدر التوبة: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ إلى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [الآيات 3- 5] . (3) . وذلك قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال: 41] . (4) . وذلك قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"التوبة"

المبحث الرابع مكنونات سورة «التوبة» «1» 1- بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) . سمّى منهم مجاهد: خزاعة، ومدلجا. أخرجه ابن أبي حاتم «2» . 2- فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [الآية 2] . قال الزّهري: نزلت في شوّال (الأربعة أشهر) «3» شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم «4» . وقال مجاهد: هي من عشرين من آخر ذي الحجّة، الى عشرة تخلو من ربيع الاخر. أخرجهما ابن أبي حاتم. ويؤيد الأولى قوله تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [الآية 5] . 3- وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ [الآية 3] . فسّر في أحاديث مرفوعة ب «يوم النّحر» . أخرج ذلك التّرمذي من حديث

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . وابن جرير 10، 44، وابن أبي شيبة، وابن المنذر. «الدر المنثور» 3: 209. وسقط من هذه الفقرة حتى نهاية الفقرة رقم 219 من النسخ المطبوعة. (3) . زيادة من «الدر المنثور» 3: 211. و «الطبري» . (4) . أخرجه ابن جرير 10: 45، وعبد الرزاق، والنحّاس. «الدر المنثور» .

عليّ، وعمرو بن الأحوص «1» وابن جرير «2» من حديث ابن عمر. وأخرجه عن ابن عباس، والمغيرة بن شعبة موقوفا. وروى ابن أبي حاتم عن المسور بن مخرمة أنه: يوم عرفة. وأخرج مثله عن عمر، وابن عباس موقوفا. وأخرجه ابن جرير «3» عن عليّ، وابن الزّبير. وقال سعيد بن المسيّب: هو: اليوم الثاني من يوم النّحر. أخرجه ابن أبي حاتم. 4- إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الآية 4] . قال ابن عباس: هم قريش. وقال محمد بن عباد بن جعفر: هم بنو جذيمة بن عامر، من بني بكر بن كنانة «4» . وقال مجاهد: بنو مذحج، وخزاعة. أخرج ذلك أبن أبي حاتم. 5- إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الآية 7] . قال ابن عباس: هم قريش. أخرجه بن أبي حاتم. 6- فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [الآية 12] . قال قتادة: هم أبو سفيان، وأبو جهل، وأميّة بن خلف، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن ربيعة. أخرجه ابن أبي حاتم «5» .

_ (1) . حديث علي في الترمذي برقم (3088) ورجح أنه موقوف، وفي إسناده (الحارث الأعور) متكلم فيه. وحديث ابن الأحوص في الترمذي برقم (3087) أيضا وقال: حسن صحيح، وابن ماجة (3055) وانظر «فتح الباري» 8: 320. [.....] (2) .: 10: 52- 53، والبخاري 3: 574 تعليقا، وأبو داود (1945) ، وابن ماجة (3058) ، والبيهقي 5: 139، والحاكم 2: 331، والطّبراني في «المعجم الصغير» 2: 119. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. (3) . 10: 49. (4) . المثبت من «الدر المنثور» وانظر: «جمهرة النسب» للكلبي 1: 208، و «تفسير الطبري» 10: 58. (5) . والحاكم 2: 322 عن ابن عمر وصححه، وأقرّه الذهبي. قال الحافظ في «فتح الباري» 8: 323: «وتعقب بأن أبا جهل وعتبة قتلا ببدر، إنّما ينطبق التفسير على من نزلت الآية المذكورة، وهو حيّ، فيصحّ في أبي سفيان، وسهيل بن عمرو، وقد أسلما» .

7- وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) . قال مجاهد، والسّدّي، وعكرمة: هم خزاعة. أخرج ذلك ابن أبي حاتم «1» . 8- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [الآية 28] . هو سنة تسع من الهجرة «2» . 9- وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [الآية 30] . سمّي منهم: سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، ومحمد بن دحية، وشاس بن قيس، ومالك بن الضّيف. أخرجه ابن أبي حاتم «3» عن ابن عباس. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج «4» قال: قالها رجل واحد اسمه فنحاص. 10- إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [الآية 36] . قال (ص) : «ثلاث «5» متواليات: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرم، ورجب مضر: الذي بين جمادى وشعبان» . أخرجه الشيخان «6» ، من حديث أبي بكرة. 11- إِذْ هُما فِي الْغارِ [الآية 40] . هو غار ثور، جبل بمكة. 12- إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [الآية 40] .

_ (1) . انظر: «تفسير الطبري» 10: 64. (2) . انظر: «تفسير الطبري» 10: 75، و «تفسير ابن كثير» 2: 346. (3) . وابن جرير في «تفسيره» 10: 78، وليس فيه «محمد بن دحية» . (4) . في «تفسير الطبري» 10: 78: «عن ابن جريج قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير» . (5) . انظر توجيه الرواية من حيث اللغة في «فتح الباري» 8: 325. (6) . البخاري (4662) في التفسير، ومسلم في القسامة (1679) ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» .

هو أبو بكر رضي الله عنه «1» . 13- وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [الآية 47] . قال مجاهد: هم عبد الله بن أبيّ بن سلول، ورفاعة بن التابوت، وأوس بن قيظيّ. أخرجه ابن أبي حاتم «2» . 14- وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [الآية 49] . هو الجد بن قيس، كما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس «3» . 15- وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [الآية 58] . هو ذو الخويصرة. كما أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري «4» . 16- إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [الآية 60] . سمّي من المؤلّفة في عهده (ص) : أبيّ بن شريق، وأحيحة بن أمية بن خلف، وأسد «5» بن حارثة، والأقرع بن حابس، وجبير بن مطعم، والحارث بن هشام، وحرملة بن هودة، وخالد بن هودة «6» ، وحكيم بن حزام، وحكم «7» بن طليق، وحويطب بن عبد العزّى، وخالد بن قيس السهمي، وزيد الخيل، والسائب بن أبي السائب،

_ (1) . ثبت ذلك في: البخاري (3653) في مناقب المهاجرين، و (4663) في التفسير، ومسلم 5: 242 في الفضائل (بشرح النووي) ، والترمذي (3095) في التفسير، وأحمد في «المسند» برقم (11) ، و (3251) 1: 348. وانظر «المسند» لأحمد 1: 330 (3063) و 1: 331 (3063) . كما خرج ذلك الإمام الحافظ القاضي: أبو بكر أحمد بن علي الأموي المروزي، المولود نحو سنة (202) هـ والمتوفى سنة (292 هـ) ، شيخ النسائي والطّبراني وغيرهما، في جزئه المسند الذي أفرده في أحاديث أبي بكر الصديق، المسمى ب «مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه» والذي يعتبر من أجمع ما أفرد في أحاديث أبي بكر خاصة، وذلك في الأحاديث ذات الأرقام: (42) ، (56) ، (62) ، (65) ، (71) ، (72) ، (73) ، (82) . (2) . والطبري 10: 102، وفي «تفسير مجاهد» 1: 280 زيادة «عبد الله بن نبتل» . (3) . في إسناده: يحيى الحماني، وهو ضعيف. قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7: 30، وأخرجه الطبري أيضا 10: 104. (4) . «صحيح البخاري» رقم (6933) في استتابة المرتدّين. [.....] (5) . والمثبت من «الإصابة» . (6) . في «سيرة ابن هشام» : «هودة» . بالذال المعجمة والمثبت من «الإصابة» . (7) . في «الإصابة» : «حكيم» .

وسهيل بن عمرو، وشيبة بن عثمان، وسفيان بن عبد الأسد «1» ، وأبو سفيان بن حرب، وابناه: معاوية، ويزيد، وأبو السنابل بن بعكك، وصفوان بن أمية، وعبد الرحمن بن يربوع، وعيينة بن حصن الفزاري، وعمرو بن الأهتم التميمي، والعباس بن مرداس السّلمي، ومخرمة بن نوفل، وسعيد بن يربوع، وقيس بن عدي، وعمرو بن وهب، وهشام بن عمرو، والنّضر بن الحارث ومطيع بن الأسود، وأبو جهم بن حذيفة، وعلقمة بن علاثة، وعمير بن مرداس، وقيس بن مخرمة، وعكرمة بن عامر، وعمرو بن ورقة، ولبيد بن ربيعة، والمغيرة بن الحارث، وهشام بن الوليد المخزومي. 17- وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ [الآية 61] . نزلت في نبتل بن الحارث. كما أخرجه ابن ابي حاتم، عن ابن عباس «2» . 18- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [الآية 65] . نزلت في عبد الله بن أبيّ. كما أخرجه ابن أبي حاتم «3» من حديث ابن عمر. وقيل: هو وديعة بن ثابت «4» ذكره السّهيلي. 19- إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ [الآية 66] . هو مخشي «5» بن حميّر. كما أخرجه ابن أبي حاتم، عن كعب بن مالك. وأخرج من طريق الضّحّاك، عن ابن عباس قال: الطائفة، الرجل، والنّفر «6» .

_ (1) . في كونه من المؤلفة قلوبهم، فيه نظر. قاله الحافظ ابن حجر في ترجمته في «الإصابة» . (2) . انظر «سيرة ابن هشام» 1: 521، و «تفسير الطبري» 10: 116. (3) . وابن المنذر، والعقيلي في «الضعفاء» ، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والخطيب في «رواة مالك» . «الدر المنثور» 3: 254. (4) . أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس. «الدر المنثور» 3: 254، و «الطبري» 10: 119 عن ابن إسحاق. (5) . في «الدر المنثور» : «محشي» ، وفي «سيرة ابن هشام» : «مخشّن» ، قال ابن هشام 2: 524: «ويقال: مخشي» وكذا جاء في «تفسير ابن كثير» 2: 367 و «الإصابة» و «الإتقان» 2: 146. (6) . معنى قول الضحّاك أن الطائفة قد يراد بها الرجل الواحد، كما هو هنا.

20- وَالْمُؤْتَفِكاتِ [الآية 70] . قال محمد بن كعب القرظي: حدّثت أنّهنّ كنّ خمسا: ضبعة، ومغيرة، وعمرة، ودوما، وسدوم: وهي القرية العظمى أخرجه أبن أبي حاتم. 21- يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا [الآية 74] . نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت. أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس وكعب بن مالك «1» . 22- وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا [الآية 74] . قال ابن عباس: همّ رجل، يقال له: الأسود، بقتل النبي (ص) . أخرجه ابن أبي حاتم «2» . 23- وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) . نزلت في ثعلبة بن حاطب. أخرجه الطّبراني، وغيره من حديث أبي أمامة «3» . زاد ابن إسحاق: ومعتّب بن قشير. 24- الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ [الآية 79] . سمّي من المطّوّعين: عبد الرحمن بن عوف، وعاصم بن عدي. ومن الذين لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ [الآية 79] : أبو عقيل، ورفاعة بن سعد «4» في آثار أخرجها ابن أبي حاتم.

_ (1) . وروى ابن جرير برقم (16974) عن قتادة أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول. قال ابن جرير رحمه الله: «والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى، أخبر عن المنافقين أنهم يحلفون بالله كذبا، على كلمة كفر تكلّموا بها، أنهم لم يقولوها وجائز أن يكون في ذلك القول، ما روي عن عروة، أن الجلاس قاله، وجائز أن يكون قائله عبد الله بن أبيّ بن سلول، والقول ما ذكر قتادة منه أنه قال، ولا علم لنا بأيّ ذلك من أيّ، إذ كان لا خبر بأحدهما يوجب الحجة، ويتوصل به إلى يقين العلم به، وليس ما يدرك علمه بفطرة العقل، فالصواب أن يقال فيه كما قال الله جل ثناؤه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [الآية 74] . (2) . انظر «تفسير الطبري» 10: 129. (3) . وإسناده ضعيف جدا. لأن في إسناده علي بن يزيد الألهاني، وهو متروك. كما في «مجمع الزوائد» 7: 32. (4) . في «فتح الباري» 8: 331: «سهل» كما في رواية عبد بن حميد. قال الحافظ: «فيحتمل أن يكون تصحيفا، ويحتمل أن يكون اسم أبي عقيل «سهل» ولقبه «حبحاب» أو هما اثنان» . وفي «المطالب العالية» 3: 341 رقم (3647) رواية ابن أبي شيبة. وأثر أبي عقيل، رواه ابن مسعود وأخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (4668) في التفسير.

وأبو خيثمة الأنصاري. أخرجه ابن جرير «1» . 25- وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ [الآية 81] . قال ذلك رجل من بني سلمة. أخرجه ابن جرير «2» عن محمّد بن كعب. 26- فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ [الآية 83] . قال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا [من المنافقين] . أخرجه ابن جرير «3» . 27- وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ [الآية 90] . قال السّدّي: من قرأها خفيفة، [قال] : بنو مقرّن. ومن قرأها مشدّدة، قال الذين لهم عذر. وقال ابن إسحاق «4» : ذكر لي أنهم نفر من بني غفار. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. 28- وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ [الآية 92] . سمّي منهم العرباض بن سارية. في حديث أخرجه الحاكم في «المستدرك» «5» . وعبد الله بن مغفّل «6» المزني، وعمرو المزني: جد كثير بن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الأزرق الأنصاري، وأبو ليلى الأنصاري. في آثار أخرجها ابن أبي حاتم. وقال مجاهد: هم بنو مقرّن «7» من مزينة. أخرجه ابن أبي حاتم. وقال محمد بن كعب القرظي: هم سبعة نفر: سالم بن عمير، وحرمي بن عمرو- ويقال: هرمي، ويقال: حزم-

_ (1) . 10: 36. [.....] (2) . 10: 139. (3) . 10: 141. والزيادة منه. (4) . «سيرة ابن هشام» 2: 518. (5) . والطبري (17086) 10: 146، والأثر لم أجده في «المستدرك» . (6) . التصويب من «سيرة ابن هشام» 2: 518. (7) . والتصويب من «الدر المنثور» و «تفسير الطبري» 10: 146.

وأبو ليلى: عبد الرحمن بن كعب، وسلمان بن صخر، وأبو عبلة: عبد الرحمن بن زيد «1» ، وعمرو بن غنمة «2» ، وعبد الله بن عمرو المزني، أخرجه ابن جرير «3» . وسمّي منهم: علبة بن زيد الحارثي «4» في أثر عند ابن مردويه. وثعلبة بن زيد الأنصاري من بني حرام في أثر في «تفسير عبد الغني بن سعيد الثقفي» . 29- وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الآية 99] . قال مجاهد: هم بنو مقرّن من مزينة. أخرجه ابن أبي حاتم. وكانوا عشرة فيما أخرجه ابن جرير «5» . 30- وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [الآية 100] . قال أبو موسى الأشعري، وسعيد بن المسيّب: هم الذين صلّوا القبلتين. وقال الشّعبي: هم أهل بيعة الرضوان. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. وقال محمد بن كعب، وعطاء بن يسار: هم أهل بدر. وقال الحسن: هم من أسلم قبل الفتح. أخرجهما سنيد «6» . 31- وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ [الآية 101] . قال مولى ابن عباس: هم جهينة، ومزينة، وأشجع، وأسلم، وغفار، أخرجه ابن المنذر. 32- وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ [الآية 102] . قال ابن عباس: هم سبعة، أبو لبابة وأصحابه.

_ (1) . وقع في «الطبري» ط شاكر: يزيد. (2) . التصويب من «الطبري» . (3) . 10: 146. (4) . التصويب من «الدر المنثور» . (5) . 11: 5 عن عبد الله بن مغفل. (6) . سنيد بن داود: صاحب «التفسير» ، ضعّفه المحدثون على الرغم من إمامته ومعرفته، توفي سنة (226) هـ. انظر لتخريج الآثار «تفسير الطبري» 11: 6.

وقال زيد بن أسلم: ثمانية، منهم: أبو لبابة، وكردم، ومرداس. وقال قتادة: سبعة من الأنصار، منهم: جد بن قيس، وأبو لبابة، وجذام، وأوس. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. 33- وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ [الآية 106] . قال مجاهد: هم هلال بن أميّة، ومرارة، وكعب بن مالك. أخرجه ابن أبي حاتم. 34- وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً [الآية 107] . هم أناس من الأنصار. 35- لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الآية 107] . هو أبو «1» عامر الراهب. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس. وأخرج من وجه آخر عنه، قال: هم رجال من الأنصار، منهم: بخزج «2» : جدّ عبد الله بن حنيف، ووديعة بن خذام، ومجمّع بن جارية الأنصاري. وأخرج عن سعيد بن جبير قال: هم حي، يقال لهم: بنو غنم. وقال ابن إسحاق: الذين بنوا [مسجد الضرار] اثنا عشر رجلا: خذام «3» بن خالد، من بني «4» عبيد بن زيد، أحد بني عمرو بن عوف، [ومن

_ (1) . المثبت من «تفسير الطبري» ، و «تفسير ابن كثير» 2: 387. (2) . هو اسم، كما في «تاج العروس» مادة (بحزج) 5: 412 ط الكويت. وفي النسخ المطبوعة: «مجدح» ، وفي «سيرة ابن هشام» 2: 530، «بحزج» وفي «تفسير الطبري» 11: 18 «بخدج» ، وكذا في «المحبر» : 470، وكذا ضبطت في «تاج العروس» وفيه أنه اسم شاعر. وفي «تفسير الطبري» ط دار المعارف 14: 471 علق عليها الأستاذ شاكر قائلا «ما أدري قوله «جد عبد الله بن حنيف» ولست أدري أهو من كلام ابن عباس- راوي الخبر- أو من كلام غيره- من رجال السند- وإن كنت أرجّح أنه من كلام غيره، لأني لم أجد في الصحابة ولا التابعين «عبد الله بن حنيف» ، وجدّه «بحزج» ، والمذكور في المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار: «عباد بن حنيف» ، وأخو «سهل بن حنيف» . فأخشى أن يكون سقط من الخبر شيء، فاختلط الكلام. وفي نسب «سهل بن حنيف» ، و «عمرو، وهو بحزج بن حنش بن عوف بن عمرو» (انظر «طبقات ابن سعد» 3: 2: 39، ثم 5: 59، و «جمهرة الأنساب» لابن حزم: 316) ولكن هذا قديم جدا في الجاهلية، وهو بلا شك غير «بحزج» ، الذي كان من أمره ما كان في مسجد الضرار» . [.....] (3) . في سائر الأصول: «جذام» والمثبت من «تفسير الطبري» بتحقيق شاكر. (4) . الطبري 11: 23 ط الحلبي: «خالد بن عبيد» ، والمثبت من «تفسير الطبري» ط شاكر.

داره أخرج مسجد الشقاق] «1» وثعلبة بن حاطب، من بني عبيد، وهو إلى بني أمية بن زيد، ومعتّب بن قشير، من بني ضبيعة بن زيد، وعباد بن حنيف، أخو سهل بن حنيف، من بني عمرو بن عوف وجارية بن عامر، وابناه: مجمّع بن جارية، وزيد بن جارية ونبتل بن الحارث، وهو من بني ضبيعة، وبحدج، وهو من بني ضبيعة، وبجاد بن عثمان وهو من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت، وهو إلى بني أمية [ابن زيد] «2» رهط أبي لبابة بن عبد المنذر «3» . 36- لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [الآية 108] . أخرج مسلم «4» عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أنه: المسجد النبويّ. وأخرجه أحمد «5» عن أبيّ بن كعب، وسهل بن سعد مرفوعا، وأخرجه ابن جرير عن ابن عمر وزيد بن ثابت، وأبي سعيد موقوفا. وأخرج عن ابن عباس أنه: مسجد قباء «6» .

_ (1) . زيادة من «الطبري» و «سيرة ابن هشام» . (2) . زيادة من «سيرة ابن هشام» . (3) . انظر «سيرة ابن هشام» 2: 530. (4) . برقم (1398) 3: 542 «شرح النووي» في أواخر الحج، وأحمد في «المسند» ، والطبري في «تفسيره» 11: 21، والحاكم في «المستدرك» 2: 334، ونص الحديث كما في «صحيح مسلم» : «حميد الخراط، قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن، قال: مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، قال: قلت له كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسّس على التقوى قال: قال أبي: دخلت على رسول الله (ص) في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله، أيّ المسجدين الذي أسس على التقوى؟. قال، فأخذ كفّا من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال «هو مسجدكم هذا» لمسجد المدينة. قال النووي في «شرح صحيح مسلم» : «هذا نصّ بأنه المسجد الذي أسّس على التقوى المذكور في القرآن، وردّ لما يقول بعض المفسرين أنه مسجد قباء، وأمّا أخذه (ص) الحصباء، وهي الحصى الصغار وضربها في الأرض، فالمراد به المبالغة في الإيضاح، لبيان أنه مسجد المدينة» . وقال الحافظ بن كثير في «تفسيره» 3: 486 في موضع من تفسير سورة الأحزاب: «إنّ الآية، إنّما نزلت في مسجد قباء، كما ورد في الأحاديث الأخر لكن إذا كان ذاك أسّس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله (ص) أولى بتسميته بذلك، والله أعلم» . (5) . «مسند أحمد» 5: 116. (6) . قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 14: 479 ط شاكر: «وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال هو مسجد الرسول (ص) لصحة الخبر بذلك عن رسول الله» .

37- فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [الآية 108] . هم بنو عمرو بن عوف من الأنصار، منهم: عويم بن ساعدة. قال ابن جرير «1» : لم يبلغنا أنه سمّي منهم غيره. 38- وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [الآية 118] . هم هلال، ومرارة، وكعب «2» . 39- وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) . قال ابن عمر: مع محمد (ص) ، وأصحابه. وقال الضّحّاك: مع أبي بكر، وعمر، وأصحابهما. وقال السّدّي: مع هلال، ومرارة، وكعب. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. 40- قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [الآية 123] . قال الحسن: يعني [الرّوم، و] «3» الدّيلم. أخرجه ابن أبي حاتم.

_ (1) . 9: 127، والحديث نحوه عن ابن خزيمة في «صحيحه» برقم (83) وفي هامشه: «إسناده ضعيف» . وله شاهد في «المستدرك» 1: 155، وانظر: «الفتح الربّاني» 1: 284، ورواه الطبراني في المعاجم الثلاثة، كما في «مجمع الزوائد» 1: 212 وقال: «رواه أحمد والطبراني في الثلاثة، وفيه شرحبيل بن سعد، ضعّفه مالك وابن معين وأبو زرعة، ووثقه ابن حبان» . (2) . انظر هذا الكتاب الآية (106) من سورة التوبة (براءة) وانظر «صحيح البخاري» كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك رقم (4418) . (3) . زيادة من «الدرّ المنثور» 3: 293.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"التوبة"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «التوبة» » 1- وقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) . قوله تعالى: وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً، أي: لم يعاونوا عدوّا لكم. أقول: والمظاهرة: المعاونة، والتظاهر التعاون. وقال تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ [التحريم: 4] ، أي تعاونا، والظهير العون. وقوله تعالى: تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ [البقرة: 85] ، أي تتعاونون. وقوله تعالى: وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ [الممتحنة: 9] ، أي: عاونوا. واستظهر عليه بالأمر: استعان. وفي حديث علي رضي الله عنه، يستظهر بحجج الله وبنعمته على كتابه. أقول: وقد اجتهد المعاصرون في إثبات «التظاهرة» ، و «المظاهرة» ، لتكون مؤدية لما هو في اللغات الغربية الحديثة أو: لأن الفعل في هذين الاسمين الأعجميين يعني في العربية، «أظهر، وأبان، وأعلن» فكانت «التظاهرة» أو «المظاهرة» في العربية الجديدة يقابلون بها الكلمتين الأعجميتين. وهذا يعني، أن هذين المولّدين

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السّامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.

الجديدين، ليس فيهما من فكرة «التعاون» ، التي هي في «تظاهر» و «ظاهر» . 2- وقال تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ [الآية 5] . المراد بقوله تعالى: وَخُذُوهُمْ: وأسروهم، والأخيذ: الأسير. أقول: وهذا من معاني الفعل «أخذ» ، الذي ينصرف إلى عدة معان. 3- وقال تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [الآية 8] . قوله تعالى: وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ، أي: يغلبوكم، أقول، ولم يكن لهذا الفعل معنى الغلبة والفوز إلا بمجيء (عليكم) بعده، فاستعمال «على» يشعر بهذا. وقوله تعالى: لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا، أي: لا يراعوا حلفا، وقيل: قرابة، وأنشد لحسّان: لعمرك إنّ إلّك من قريش ... كإلّ السّقب من رأل النّعام وقيل: إنه بمعنى «الإله» ، وقرئ «إيلا» وهو بمعناه. أقول: إن «الإلّ» مضاعفا، و «الإيل» بالمدّ، والإله بمعنى، وكلّه واحد في الأصل، وهو من المواد القديمة في مجموعة اللغات السامية. وقد كنا أشرنا إلى هذه المادة في آية سابقة. 4- وقال تعالى: وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً [الآية 16] . ووليجة الرجل: بطانته وخاصّته ودخلته، وقال أبو عبيدة: الوليجة البطانة، وهي مأخوذة من ولج يلج ولوجا ولجة إذا دخل، أي: ولم يتّخذوا بينهم وبين الكافرين، دخيلة مودّة. 5- وقال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الآية 26] . وقالوا: المعنى: رحمته التي سكنوا بها، وآمنوا. أقول: والسكينة من كلم القرآن الخاصّ، بمعنى اختصّ به، وهي بهذا المعنى في ثلاث آيات، ومنها أيضا: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها [الآية 40] . والسكينة: الوداعة والوقار، وقوله،

عز وجل: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ [البقرة: 248] . قال الزجاج: معناه فيه ما تسكنون به، إذا أتاكم. وفي الحديث: نزلت عليهم السكينة، تحملها الملائكة، أي: الرحمة. 6- وقال تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [الآية 30] . المضاهاة مشاكلة الشيء بالشيء، وقد يهمز «ضاهأ» ، ومنه القراءة المشهورة، في الآية التي وقفنا عليها. وضاهيت الرجل: شاكلته وعارضته، وفلان ضهيّ فلان، أي: نظيره وشبيهه. وقد استعملت المضاهاة بمعنى المعارضة والمماثلة في الأدب، ومن ذلك «مضاهاة كليلة ودمنة» لابن الهبّارية، أي: أن الشاعر نظم الحكايات نظما. ومن الحقّ، أن نلاحظ أنّ «المهموز» في العربية تسهّل همزته غالبا، فيتحوّل الهمز إلى مدّ، نحو أومأ وأومى، وربأ وربا وغير ذلك. 7- وقال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [الآية 37] . النسيء: تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون، شقّ عليهم ترك المحاربة، فيحلّونه ويحرّمون مكانه شهرا آخر، حتّى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرّمون من شقّ شهور العام أربعة أشهر، وذلك قوله تعالى: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ [الآية 37] ، أي: ليوافقوا العدّة التي هي الأربعة ولا يخالفوها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربما زادوا في عدد الشهور فجعلوها ثلاثة عشر، أو أربعة عشر ليتّسع لهم الوقت. ولذلك قال عزّ وعلا إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً [الآية 36] . أقول: ونسأ الشيء: ينسأه نساء وأنسأه: أخّره، والاسم النّسيئة والنّسيء ونسأ الله في أجله، وأنسأ أجله: أخّره.

وفي الحديث عن أنس بن مالك: من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسأ في أجله، فليصل رحمه. والنّسء: التأخير يكون في العمر والدّين. ومن هذه الدلالة اللغوية، أي: التأخير، أخذ العرب الجاهليون مادة «النسيء» ، فصارت من رسومهم ومصطلحهم، وإليها أشارت الآية الكريمة. 8- وقال تعالى: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [الآية 42] . العرض: ما عرض لك من منافع الدنيا. يقال: الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البرّ والفاجر، أي: لو كان ما دعوا إليه غنما قريبا سهل المنال، و «سفرا قاصدا» أي: وسطا مقاربا. أقول في قوله تعالى: وَسَفَراً قاصِداً لا أرى أن المراد به «الوسط المقارب» ، إذ لا يمكن أن يأتلف مع «العرض القريب» ، الذي يسبقه في الآية، ولكني أرى أن يكون «السفر القاصد» هو ما يعبّر عنه في اللغة المعاصرة ب «السفر المباشر» ، وسنأتي إلى المباشر بعد هذا. ألا ترى أنه قال: إنهم سيتبعونك لو دعوتهم الى مغنم قريب من عرض الدنيا، وسفر مباشر (يريد أقرب منه) ، ولهرعوا إليك؟ أقول: لو أن المعاصرين أطالوا النظر في كلمات الله، لرأوا فيها ما يسدّ حاجاتهم اللغوية، وما يضطربون فيه من مصطلح حديث. إنهم قالوا: سفر مباشر، وبداية مباشرة، وطريقة مباشرة، كما قالوا سفر غير مباشر، وبداية غير مباشرة، وطريقة غير مباشرة، ويريدون بالنمط الأول ما يشرع فيه على الفور أو في الحال، وبالنمط الثاني ما لا يشرع فيه في الحال، بل يتمهّل فيه ويتريّث. ولا أدري كيف فهموا «المباشرة» على هذا النحو، ذلك بأن فصيح «المباشرة» أن تلي الأمر بنفسك. وعلى كل حال لا نستطيع أن نحمل وصف الشيء ب «المباشر» في عربيتنا المعاصرة على الخطأ، ولكننا، نقول: إنها لغة جديدة مولّدة، أدّى إليها التطور في الدلالة، وهذا شيء يعرض لجميع اللغات، فقد تتغيّر المعاني، فيظهر جديد، ويختفي قديم.

9- وقال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [الآية 47] . الخبال: الفساد والشر. والخبل والخبل والخبل والخبال: الجنون، ويقال به خبال، أي: مسّ. وهذا هو المعروف المشهور، ممّا بقي من الكلمة في اللغة المعاصرة. وأما الخبال بمعنى الفساد والشر، كما في الآية فنظيره قوله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمران: 118] . قال الزجاج: هو الفساد وذهاب الشيء، وأنشد بيت أوس: أبني لبينى لستم بيد ... إلا يدا مخبولة العضد وقوله تعالى: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ، بمعنى ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم، وإفساد ذات البين. وقال الفرّاء: الإيضاع السّير بين القوم. والأصل من قول العرب: أوضع الراكب ووضعت الناقة، وهو السير والعدو، فكأنّ الآية: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ، تلمح الى هذا الأصل، لأنّ الموضع يسعى بالإفساد، ففي الكلمة «سعي» بمعنى السير والعدو. 10- وقال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [الآية 61] . الأذن: الرجل الذي يصدّق كلّ ما يسمع ويقبل قول كل أحد، سمّي بالجارحة التي هي آلة السماع كأنّ جملته أذن سامعة، ونظيره قولهم للربيئة «عين» . وإيذاؤهم له: هو قولهم فيه «هو أذن» . وأذن خير كقولك: رجل صدق، تريد الجودة والصلاح، كأنه قيل: نعم هو أذن، ولكن نعم الأذن. ويجوز أن يريد: هو أذن في الخير والحق، وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك. أقول: واستعارة الأذن لهذا النوع من المعاني الشريفة، ما زال معروفا في العربية المعاصرة، فيقال: هو أذن صاغية، أي: مطيع، ولكن هذه «الأذن الصاغية» تكون في الخير والشر على السواء. 11- وقال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الآية 63] .

المحادّة: المخالفة ومنع ما يجب عليك، والمعاداة والمنازعة وهي مفاعلة من الحدّ، وحادّ يحادّ. وقد فكّ الإدغام في الآية، وحقه أيضا ألا يفكّ، لغرض صوتي، لأن الفعل مجزوم، وينبغي تحريكه بالكسر لمكان سكون اللام بعده. 12- وقال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ [الآية 79] . أي: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ، أي: المتطوعين المتبرعين. والمطوّعة: الذين يتطوّعون للجهاد، أدغمت التاء في الطاء، كما في وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً [البقرة: 83] وهو التفعّل من الطاعة. 13- وقال تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ [الآية 83] . أقول: الفعل «رجع» في هذه الآية متعدّ، والكاف هي المفعول به، فكما يكون «رجع» لازما كقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) [البقرة] . وقد جاء الفعل لازما في طائفة كبيرة من الآيات، أمّا مجيئه متعدّيا، فهو قليل، منه الآية التي أثبتناها، وقوله تعالى: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ [طه: 40] وفي ست آيات أخرى. أقول: وليس في العربية المعاصرة إلا الفعل اللازم، فإذا أريد المتعدي صير إلى المزيد بالهمزة «أرجع» . 14- وقال تعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ [الآية 90] . المعذّرون: هم الذين لا عذر لهم، ولكن يتكلّفون عذرا وأما المعذرون فهم الذين لهم عذر. وقرأها ابن عباس ساكنة العين، وكان يقول: والله لكذا أنزلت. وذهب إلى أن المعذرين الذين لهم عذر، والمعذرين الذين يعتذرون بلا عذر، كأنهم المقصّرون الذين لا عذر لهم فكأن الأمر عنده أن المعذّر بالتشديد، هو المظهر للعذر اعتلالا من غير حقيقة له في العذر، وهو لا عذر له، والمعذر الذي له عذر. والمعذّر الذي ليس بمحقّ على جهة المفعّل، وهو في الأصل

المعتذر، فأدغمت التاء في الذال، لقرب المخرجين. 15- وقال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [الآية 101] . قوله تعالى: مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ، أي: تمهّروا فيه، وهو من مرن فلان عمله، ومرد عليه: إذا درب به وضري، حتى لان عليه، ومهر فيه. أقول: ودلالة «مرد» على المرانة والتمهّر، من لغة التنزيل العزيز، التي لا نجدها في غير هذه الآية الكريمة.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"التوبة"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «التوبة» «1» قال: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الآية 3] أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الآية 3] أي: بأنّ الله بريء ورسوله كذلك وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ [الآية 2] أي: بأن الله. وقال: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ [الآية 5] فجمع السياق على أدنى العدد لأنّ معناها «الأربعة» وذلك أن «الأشهر» إنّما تكون إذا ذكرت معها «الثلاثة» الى «العشرة» فإذا لم تذكر «الثلاثة» الى «العشرة» فهي «الشّهور» . وقال تعالى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [الآية 5] وألقى السياق «على» ، قال الشاعر [من الوافر وهو الشاهد السادس والخمسون] : نغالي اللّحم للأضياف نيئا ... ونبذله إذا نضج القدور أراد: نغالي باللحم «2» . وقال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ [الآية 6] فابتدأ بعد «إن» ، وأن يكون رفع أحد على فعل مضمر أقيس الوجهين، لأنّ حروف المجازاة لا يبتدأ بعدها. إلّا أنهم قد قالوا ذلك في (أن) لتمكّنها وحسنها إذا وليتها الأسماء، وليس بعدها فعل مجزوم في اللفظ، كما قال الشاعر [من البسيط وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد المائة] :

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرخ. (2) . قد نقل رأي الأخفش، في زاد المسير 3: 398. [.....]

عاود هراة وأن معمورها خربا «1» . وقال «2» الاخر [من الكامل وهو الشاهد الرابع والعشرون بعد المائتين] : لا تجزعي أن منفسا أهلكته ... وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي وقد زعموا أن قول الشاعر «3» [من الطويل وهو الشاهد الخامس والعشرون بعد المائتين] : أتجزع أن نفس أتاها حمامها ... فهلّا الّتي عن بين جنبيك تدفع «4» لا ينشد إلا رفعا، وقد سقط الفعل على شيء من سببه. وهذا قد ابتدئ بعد «أن» وان شئت جعلته رفعا بفعل مضمر. وقال تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ [الآية 7] فهذا استثناء خارج من أول الكلام. والَّذِينَ في موضع نصب. وقال تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ [الآية 8] فأضمر «كيف لا تقتلونهم» والله أعلم «5» . وقال تعالى: وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ [الآية 13] لأنك تقول «هممت بكذا» و «أهمّني كذا» . وقال تعالى: فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ [الآية 25] لا تنصرف. وكذلك كل جمع ثالث حروفه ألف، وبعد الألف حرف ثقيل، أو اثنان خفيفان فصاعدا، فهو لا ينصرف في المعرفة ولا النكرة، نحو «محاريب» و «تماثيل» و «مساجد» وأشباه ذلك، إلّا أن يكون في آخره الهاء، فإن كانت في آخره الهاء انصرف في النكرة نحو «طيالسة» و «صياقلة» . وإنما منع العرب من صرف هذا الجمع، أنه مثال لا يكون للواحد ولا يكون إلّا للجمع والجمع أثقل من الواحد. فلما كان هذا المثال لا يكون إلّا للأثقل لم

_ (1) . سبق الكلام على الشاهد. (2) . هو النمر بن تولب. ديوانه 72، وتحصيل عين الذهب 1: 67. (3) . هو زيد بن رزين «ذيل الأمالي 106 و 107، وسمط اللئالي 49 وشرح شواهد المغني 149. (4) . في شرح شواهد المغني: «فهل أنت عمّا بين جنبيك تدفع» . وفي المحتسب 1: 281 ب «أتدفع عن» بدل «أتجزع أن» . (5) . نقله في إعراب القرآن 2: 419.

يصرف. وأمّا الذي في آخره الهاء، فانصرف لأنّها منفصلة كأنّها اسم على حيالها. والانصراف إنّما يقع في آخر الاسم فوقع على الهاء، فلذلك انصرف فشبه ب «حضرموت» ، و «حضرموت» مصروف في النكرة. وقال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً [الآية 28] وهو «الفقر» ، تقول: «عال» «يعيل» «عيلة» أي: «افتقر» . و «أعال» «إعالة» : إذا صار صاحب عيال «1» . و «عال عياله» و «هو يعولهم» «عولا» و «عيالة» . وقال سبحانه: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (3) أي: ألّا تعولوا العيال. و «أعال الرجل» «يعيل» إذا صار ذا عيال «2» . وقال تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [الآية 30] وقد طرح بعضهم التنوين، وذلك رديء، لأنه إنّما يترك التنوين، إذا كان الاسم يستغني عن الابن، وكان ينسب الى اسم معروف. فالاسم هاهنا لا يستغني. ولو قلت «وقالت اليهود عزير» لم يتمّ كلاما إلّا أنه قد قرئ وكثر وبه نقرأ على الحكاية «3» كأنهم أرادوا «وقالت اليهود نبيّنا عزير ابن الله» . وقال تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [الآية 32] لأن أَنْ يُتِمَّ اسم كأنه «يأبى الله إلّا إتمام نوره» . وقال تعالى: يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [الآية 34] ثم قال: يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ [الآية 35] فجعل الكلام على الاخر. وقال الشاعر «4» [من المنسرح وهو الشاهد الستون] : نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف وقال تعالى:

_ (1) . نقله في الصحاح «عيل» ، وزاد المسير 3: 417 و 418. (2) . نقله في اللسان «عيل» . (3) . القراءة بالتنوين، نسبت في معاني القرآن، إلى الثقات وفي الطبري 14: 204 إلى بعض المكيين والكوفيين وفي السبعة 313 إلى عاصم والكسائي، والى ابن عمرو في رواية وفي الكشف 1: 501، والتيسير 118، والجامع 8: 116، والبحر 5: 31 اقتصر على عاصم والكسائي. أمّا القراءة بلا تنوين، فنسبت في معاني القرآن 1: 431 إلى الثقات وفي الطبري 14: 205 إلى عامة قراء أهل المدينة، وبعض المكّيين والكوفيين وفي السبعة 313 الى ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وحمزة وفي الجامع 8: 116 أهمل حمزة وفي البحر 5: 31 الى السبعة، إلا عاصما والكسائي وفي الكشف 1: 501، والتيسير 118، الى غير عاصم والكسائي. (4) . سبق الكلام على القائل والقول.

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [الآية 37] وهو التأخير. وتقول «أنسأته الدّين» إذا جعلته إليه يؤخّره هو. و: «نسأت عنه دينه» أي: أخّرته عنه. وإنّما قلت: «أنسأته الدّين» لأنّك تقول: «جعلته له يؤخّره» و «نسأت عنه دينه» «فأنا أنسّئه» أي: أؤخّره. وكذلك «النّساء في العمر» يقال: «من سرّه النّساء في العمر» «1» ، ويقال «عرق النّسا» غير مهموز. وقال تعالى: لِيُواطِؤُا [الآية 37] لأنّها من «واطأ» ومثله (هي أشدّ وطاء) «2» أي: مواطأة، وهي المواتاة وبعضهم قرأ «وطا» «3» أي: قياما. وقال تعالى: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [الآية 38] لأنّه من «تثاقلتم» ، فأدغمت التاء في الثاء، فسكنت، فأحدث لها ألفا، ليصل إلى الكلام بها. وقال تعالى: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا [الآية 40] لأنه لم يحمله على (جعل) وحمله على الابتداء. وقال تعالى: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ [الآية 46] جعل من «بعثته» ف «انبعث» وسمعت من العرب، من يقول: «لو دعينا لاندعينا» . وتقول: «انبعث انبعاثا» أي: «بعثته» ف «انبعث انبعاثا» وتقول: «انقطع به» إذا تكلّم، فانقطع به، ولا تقول «قطع به» . وقال تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [الآية 41] في هذه الحال، إن شئت قرأت «انفروا» في لغة من قال «ينفر» وان شئت (انفروا) . وقال تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [الآية 43] لأنّه استفهام، أي: «لأيّ شيء» . وقال تعالى: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا [الآية 57] لأنه من

_ (1) . نقله في الصحاح «نسأ» وفيه «من سرّه النّساء ولا نساء فليخفّف الرّداء، وليباكر الغداء، وليقلّ غشيان النّساء، وكذلك جاء القول في اللسان، والتاج «نسأ» مسبوقا بقولهم «قال فقيه العرب» . (2) . المزمل 73: 6، وهي قراءة نسبت في الطبري 29: 129 الى بعض قراء البصرة، ومكة، والشام، في السبعة 658، والكشف 2: 244، والتيسير 216، الى أبي عمرو وابن عامر وفي الجامع 19: 40 زاد أبا العالية، وابن أبي إسحاق، ومجاهدا، وحميدا، وابن محيصن، والمغيرة، وأبا حياة، واختارها أبو عبيد. (3) . نسبت في الطبري 29: 129 الى عامة قراء مكة، والمدينة، والكوفة وفي السبعة 658 الى ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وفي الكشف 2: 344، والتيسير 216، الى غير أبي عمرو، وابن عامر وفي الجامع 19: 40 الى غير من أخذ بالقراءة الأخرى. وعلى هذه القراءة رسم المصحف.

«ادّخل» «يدّخل» «1» وقال بعضهم: (مدخلا) «2» جعله من «دخل» «يدخل» وهي فيما أعلم أردأ الوجهين. ويذكرون أنها في قراءة أبيّ «3» (مندخلا) «4» أراد شيئا بعد شيء. وإنما قرئت (مغارات) «5» لأنها من «أغار» فالمكان «مغار» «6» قال الشاعر [من البسيط وهو الشاهد الحادي والسبعون بعد المائة] : الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبّحنا ربّي ومسّانا لأنّها من «أمسى» و «أصبح» ، وإذا وقفت على «ملجأ» قلت «ملجئا» لأنه نصب منوّن، فتقف بالألف، نحو قولك «رأيت زيدا» . وقال تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ [الآية 40] وكذلك ثالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة: 73] وهو كلام العرب. وقد يجوز «ثاني واحد» و «ثالث اثنين» وفي كتاب الله ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ [المجادلة: 7] وقال ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] وخَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] وسَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] . وقال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ [الآية 58] «7» وقرأ بعضهم: (يلمزك) «8» . وقال تعالى: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [الآية 61] أي: هو أذن خير لا أذن شرّ «9» . وقرأ بعضهم (أذن خير

_ (1) . في الجامع 8: 165، والبحر 5: 55 نسبت هذه القراءة إلى الجمهور. (2) . في الشواذ 53، نسبت هذه القراءة الى عبد الله بن مسلم وفي الجامع 8: 165 الى الحسن، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن وزاد في البحر 5: 55 سلمة بن محارب، ويعقوب، وابن كثير، بخلاف عنه. [.....] (3) . هو أبيّ بن كعب. ترجمته في طبقات الذهبي 1: 32، وطبقات ابن الخياط 301، وتعريب التهذيب 1: 43. (4) . نسبت هذه القراءة الى أبيّ في الشواذ 53، والمحتسب 295، والجامع 8: 165، والبحر 5: 55. (5) . في الشواذ 53، نسبت هذه القراءة الى عبد الرحمن بن عوف، وفي البحر 5: 55، الى سعد بن عبد الرحمن بن عوف. (6) . نقله في إعراب القرآن 2: 432، والجامع 8: 165. (7) . في السبعة 315 نسبت الى كل القراء، وفي البحر 5: 56 نسبت الى الجمهور. (8) . في السبعة 315، نسبت الى ابن كثير وأهل مكة وفي الشواذ 53، الى الحسن وابن كثير وفي البحر 5: 56 زاد يعقوب وحماد بن سلمة، عن ابن كثير وأبا رجاء، وهي قراءة المكّيّين، ورويت عن أبي عمرو. (9) . القراءة بالإضافة، هي في الطبري 14: 325 الى عامة قراء الأمصار وفي حجّة ابن خالويه 151 الى القراء جميعا، عدا نافعا.

لكم) «1» والاولى أحسنهما، لأنك لو قلت «هو أذن خير لكم» لم يكن في حسن هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ وهذا جائز على ان تجعل (لكم) صفة «الأذن» . وقال تعالى: وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [الآية 61] أي: وهو رحمة. وقرأ بعضهم قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ [الآية 63] . بكسر الألف، لأنّ الفاء التي هي جواب المجازاة، ما بعدها مستأنف «2» . وقال تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ [الآية 62] و «سيحلفون بالله لكم ليرضوكم» «3» ولا أعلمه إلّا على قوله «ليرضنّكم» كما قال الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد السادس والعشرون بعد المائتين] : إذا قلت قدني قال بالله حلفة ... لتغني عنّي ذا أنائك أجمعا «5» أي: لتغنينّ عني. وهو نحو وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الأنعام: 113] أي: ولتصغينّ. وقال تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [الآية 81] أي: مخالفة. وقرأ بعضهم (خلف) «6»

_ (1) . القراءة بتنوين «أذن» في الطبري 14: 325، نسبت الى الحسن البصري، وفي حجّة ابن خالويه 151، الى نافع وحده وفي الجامع 8: 192، الى الحسن وعاصم في رواية أبي بكر وفي البحر 5: 62 الى الحسن، ومجاهد، وزيد بن علي، وأبي بكر، عن عاصم. (2) . نقله في المشكل 1: 333، وإعراب القرآن 2: 434 و 435، والجامع 8: 195، وفي البحر 5: 65 أشرك معه الفراء، والهمزة في المصحف مفتوحة، وهي قراءة العامة، القرطبي 8: 195. (3) . لا توجد في المصحف الكريم آية بهذا المنطوق، وإنّما فيه: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ [الآية 42] وسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ [الآية 95] ويَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [الآية 96] . (4) . هو حريث بن عناب الطائي، شرح الأبيات للفارقي 187 وشرح شواهد المغني 190، والخزانة 4: 580 والمقاصد النحوية 1: 354 و 3: 360 والدرر اللوامع 2: 44. (5) . في شرح المفصّل لابن يعيش 3: 8، قال بدل قلت وفي الخزانة 4: 580، ب «قال قطني» بدل «قلت قدني» ، و «لتغنن» وفي المقاصد النحوية 1: 354 و 3: 360، ب «قال بدل قلت» وفي الدرر 2: 44 ب «قيل» بدل «قلت» ، وفي شرح شواهد المغني للسيوطي 190، ب «إذا قال قدني قلت آليت» . (6) . في الشواذ 54، والكشاف 2: 296، نسبت قراءة الى أبي حياة وفي البحر 5: 79، زاد ابن عباس، وعمرو بن ميمون.

و (خلاف) أصوبهما، لأنّهم خالفوا مثل «قاتلوا قتالا» ولأنه مصدر «خالفوا» . وقرأ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ [الآية 90] خفيفة لأنها من «أعذروا» «1» وقرأ بعضهم الْمُعَذِّرُونَ ثقيلة يريد: «المعتذرون» «2» . ولكنه ادغم التاء في الذال كما قال يَخِصِّمُونَ (49) [يس] وبها نقرأ. وقد يكون (المعذرون) » بكسر العين، لاجتماع الساكنين، وإنّما فتح لأنّه حوّل فتحة التاء عليها. وقد يكون أن تضم العين تتبعها الميم «4» وهذا مثل مُرْدِفِينَ (9) [الأنفال] «5» . وقال تعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [الآية 98] «6» كما تقول: «هذا رجل السّوء» وقال الشاعر «7» [من الطويل وهو الشاهد السابع والعشرون بعد المائتين] : وكنت كذئب السّوء لمّا رأى دما ... بصاحبه يوما أحار على الدّم وقد قرئت (دائرة السّوء) «8» ، وذا ضعيف لأنك إذا قلت «كانت عليهم دائرة السّوء» كان أحسن من «رجل السوء» ألا ترى أنك تقول: «كانت عليهم دائرة الهزيمة» لأنّ الرجل لا

_ (1) . في معاني القرآن 1: 448، نسبت إلى ابن عبّاس، وكذلك في الطبري 14: 416، وأضاف في 418 أن مجاهدا وقتادة تأوّلا بها. وفي الشواذ 54، الى ابن عباس وفي الجامع 8: 224، الى الأعرج والضحّاك، ورويت عن عاصم وابن عباس وفي البحر 5: 83 و 84، الى ابن عباس، وزيد بن علي، والضحّاك، والأعرج، وأبي صالح، وعيسى بن هلال، ويعقوب، والكسائي. [.....] (2) . وفي الطبري 14: 418، والبحر 5: 83، أنها القراءة المجمع عليها عند الجمهور وعليها رسم المصحف. (3) . أورد في الجامع 8: 224، هذا الوجه، ولم ينسبه قراءة. (4) . نقل هذا في إعراب القرآن 2: 439، والجامع 8: 224، والبحر 5: 83. (5) . وفيها وردت الكلمة بلا «أل» ولا يعلم ما المقصود من التشبيه المذكور. (6) . في معاني القرآن 1: 449، أنها قراءة أكثر القراء، وفي الطبري 14: 431 إلى عامّة قراء أهل المدينة والكوفة وفي السبعة 316، إلى نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وابن كثير، في رواية، وفي البحر 5: 91، إلى السبعة غير ابن كثير، وأبي عمرو، وفي الكشف 1: 505، والتيسير 119، والجامع 8: 234، إلى غير ابن كثير، وأبي عمرو. (7) . هو الفرزدق. ديوانه 2: 749. (8) . في معاني القرآن 1: 449، نسبت الى مجاهد، وفي الطبري 14: 431، الى بعض أهل الحجاز، وبعض البصريين، وفي السبعة 316، الى ابن كثير، وأبي عمرو، وابن محيصن، وفي الكشف 1: 505، والتيسير 119، والجامع 8: 234، والبحر 5: 91، اقتصر على ابن كثير، وأبي عمرو.

يضاف إلى السّوء، كما يضاف هذا، لأنّ هذا يفسر به الخير والشر، كما نقول: «سلكت طريق الشرّ» و «تركت طريق الخير» «1» . وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [الآية 100] «2» وقرأ بعضهم: (والأنصار) «3» رفع عطفه على وَالسَّابِقُونَ والوجه هو الجرّ، لأن السابقين الأولين كانوا من الفريقين جميعا. وقال تعالى: هارٍ فَانْهارَ بِهِ [الآية 109] فذكروا أنه من «يهور» وهو مقلوب وأصله «هائر» ولكن قلب مثل ما قلب «شاك السّلاح» وإنما هو «شائك» . وقال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [الآية 103] فقوله تعالى وَتُزَكِّيهِمْ بِها على الابتداء، وان شئت جعلته من صفة الصدقة، ثم جيء بها توكيدا. وكذلك تُطَهِّرُهُمْ «4» . وقال تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [الآية 61] أي: يصدّقهم كما تقول للرجل «أنا ما يؤمن لي بأن أقول كذا وكذا» أي: ما يصدقني. وقال تعالى: أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ [الآية 108] . أي: «منذ أوّل يوم» لأنّ من العرب من يقول «لم أره من يوم كذا» يريد «منذ أوّل يوم» يريد به «من أوّل الأيّام» كقولك «لقيت كلّ رجل» تريد به «كلّ الرّجال» «5» . قال تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ [الآية 106] «6» (من أرجيت) «7» . وقرأ

_ (1) . نقل في إعراب القرآن 2: 440، والجامع 8: 238. (2) . هي في الطبري 14: 439 والبحر 14: 92 قراءة العامة والجمهور. (3) . في معاني القرآن 1: 450، الى الحسن البصري وكذلك في الطبري 14: 439 وفي الشواذ 54، الى عمر بن الخطاب، والحسن، وقتادة، ويعقوب بن طلحة وفي المحتسب 1: 300، زاد سلاما، وسعيد بن سعد، وعيسى الكوفي. وزاد في البحر 5: 92، طلحة واقتصر في الجامع 8: 235، على عمر بن الخطاب. (4) . نقله في إعراب القرآن 1: 441. (5) . نقله في الصحاح «يوم» . (6) . في الطبري 14: 464، أنّ القراءة قرأت بها ولم يعيّن، وفي الكشّاف 1: 506، إلى نافع، وحفص، وحمزة، والكسائي وفي البحر 5: 97، زاد الحسن، وطلحة، وأبي جعفر، وابن نصاح، والأعرج وفي التيسير 119، إلى غير ابن كثير، وأبي عمرو، وأبي بكر، وابن عامر واقتصر في الجامع 8: 252، على الكسائي وحمزة. (7) . هي لغة أهل الحجاز، حملا على طبيعتهم في ترك الهمز اللهجات العربية 254 وما بعدها. [.....]

بعضهم: (وآخرون مرجئون) من «أرجأت» «1» . وقال بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ [الآية 110] «2» و (تقطّع) «3» في قول بعضهم وكل حسن. وقال تعالى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [الآية 112] إلى رأس الآية ثم فسر وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) لأنّ قوله سبحانه- والله أعلم- التَّائِبُونَ إنّما هو تفسير لقوله جلّ وعلا إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ [الآية 111] ثم فسّر فقال «هم التّائبون» . ثم قال تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [الآية 113] أي «وما كان لهم استغفار للمشركين» وقال وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس: 100] . أي ما كان لها الايمان إلّا بإذن الله. وقال: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [الآية 114] يريد «إلّا من بعد موعدة» كما تقول: «ما كان هذا الشرّ إلّا عن قول كان بينكما» أي: عن ذلك صار. وقال تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ [الآية 117] «4» وقرأ بعضهم: (تزيغ) «5» جعل السياق في

_ (1) . في الطبري 14: 464، مثل ما قال في السّابقة وفي الكشف 1: 506، إلى غير نافع، وحفص، وحمزة، والكسائي وفي البحر 5: 97، الى من لم يأخذ بالأخرى من السبعة وفي التيسير 119 الى ابن كثير، وأبي بكر، وأبي عمرو، وابن عامر. (2) . في الطبري 14: 498، الى بعض قراء المدينة، والكوفة وفي السبعة 319، إلى ابن عامر، وحمزة، والى عاصم في رواية وفي الكشف 1: 508، والتيسير 120، والبحر 5: 101، أهمل عاصما وزاد في الجامع 8: 266، يعقوب. (3) . قراءة نسبت في الطبري 14: 497، الى بعض قراء الحجاز، والمدينة، والبصرة، والكوفة وفي السبعة 319، إلى ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، والكسائي، وإلى عاصم، في رواية وفي الكشف 1: 508، والتيسير 120، الى غير ابن عامر، وحفص، وحمزة وفي البحر 5: 101، الى غير من أخذ بالأخرى من السبعة وفي الجامع 8: 266، إلى الجمهور. (4) . القراءة بالياء، نسبت في السبعة 319، إلى حمزة، وحفص، عن عاصم وفي التيسير 120، والبحر 5: 109، إلى حفص، وحمزة وزاد في الجامع 8: 280، الأعمش. وعليها رسم المصحف. (5) . نسبت في السبعة 319، إلى غير حمزة، وإلى عاصم في رواية، قرأ بها أبو بكر واقتصر في التيسير 120، والبحر 5: 109، على نسبتها إلى غير حمزة وحفص.

(كاد) و (كادت) اسما مضمرا، ورفع القلوب على (يزيغ) ، وان شئت رفعتها على (كاد) وجعلت (يزيغ) حالا، وإن شئت جعلته مشبها ب «كان» فأضمرت في (كاد) اسما، وجعلت يَزِيغُ قُلُوبُ في موضع الخبر. وقال تعالى وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ [الآية 118] وهي هكذا إذا وقفت عليها، ولا تقول (ملجئا) لأنه ليس هاهنا نون. ألا ترى أنك لو وقفت على «لا خوف» لم تلحق ألفا. وأمّا «لو يجدون ملجأ» فالوقف عليه بالألف، لأن النصب فيه منوّن. وقال تعالى: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [الآية 123] «1» وبها نقرأ، وقرأ بعضهم (غلظة) «2» وهما لغتان «3» . وقال تعالى: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [الآية 124] «4» ف «أيّ» مرفوع بالابتداء، لسقوط الفعل على الهاء، فان قلت: «ألا تضمر في أوّله فعلا» كما في قوله تعالى أَبَشَراً مِنَّا واحِداً [القمر: 24] فلأن قبل «بشر» حرف استفهام وهو أولى بالفعل و (أيّ) استغني به عن حرف الاستفهام فلم يقع قبله شيء هو أولى بالفعل فصارت مثل قولك «زيد ضربته» . ومن نصب «زيدا ضربته» في الخبر نصب «أيّ» هاهنا «5» . وقال تعالى: نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ [الآية 127] . كأنه قال: «قال بعضهم لبعض» لأنّ نظرهم في هذا المكان، كان إيماء أو شبيها به، والله أعلم. وقال تعالى:

_ (1) . في السبعة 320، هي قراءة غير عاصم. (2) . في الشواذ 55، هي قراءة أبان بن عثمان وفي البحر 5: 115، زاد أبا حياة، والسلمي، وابن أبي عبلة، والمفضّل. (3) . في البحر، كما سبق، والجامع 8: 298، أن كسر الفاء لغة أسد وزاد في الأخير، أنها لغة لأهل الحجاز، وأنّ ضمّها لغة تميم. (4) . ضم «أي» في البحر 5: 115 قراءة الجمهور. (5) . في البحر 5: 116، أنّها قراءة زيد بن علي، وعبيد بن عمير واقتصر في الكشاف 2: 324، على عبيد بن عمير.

عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ [الآية 128] بجعل (ما) اسما وعَنِتُّمْ من صلته. وقال تعالى خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً [الآية 102] فيجوز في العربية أن تكون «باخر» كما تقول: «استوى الماء والخشبة» أي: «بالخشبة» و «خلطت الماء والّلبن» أي «باللّبن» .

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"التوبة"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «التوبة» «1» إن قيل: لأي سبب تركت كتابة البسملة في أول هذه السورة، بخلاف سائر السور؟ قلنا: لمّا تشابهت، هي والأنفال، واختلفت الصحابة في كونهما سورتين أو سورة واحدة، تركت بينهما فرجة، عملا بقول من قال هما سورتان وتركت البسملة بينهما، عملا بقول من قال هما سورة واحدة. وممّن قال بذلك قتادة رحمه الله. الثاني: أن اسم الله تعالى سلام وأمان، و «براءة» فيها قتل المشركين، ومحاربتهم، فلا يناسب كتابتها. فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [الآية 12] وخصّ الأمر بالقتال بأئمة الكفر، مع أنّ النكث والطّعن ليس مخصوصا بهم، بل هو مسند إلى جميع المشركين؟ قلنا المراد بأئمّة الكفر، رؤوس المشركين وقادتهم. وقيل كفّار مكة، لأنهم كانوا قدوة جميع العرب في الكفر فكأنّ النكث والطعن لم يوجد إلّا منهم، لمّا كانوا هم الأصل فيه، فلذلك خصّهم بالذكر. فإن قيل: لم قال تعالى وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [الآية 30] ونحن نسأل اليهود والنصارى عن ذلك فينكرونه ويجحدونه؟ قلنا: طائفة من اليهود، وطائفة من

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرخ.

النصارى، هم الذين يقولون ذلك لا كلّهم، فالألف واللام للعهد، لا للجنس، ولا للاستغراق، أو أطلق اسم الكل وأريد البعض، كما قال تعالى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ [آل عمران: 45] وإنّما قال لها جبريل وحده. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ [الآية 30] وقول كل أحد، إنّما يكون بفمه. قلنا: معناه أنه قول لا تعضده حجة أو برهان، إنما هو مجرد لفظ لا أصل له. وقيل ذكر ذلك للمبالغة في الرد عليهم، والإنكار لقولهم، كما يقول الرجل لغيره، أنت قلت لي ذلك بلسانك. فإن قيل: دين الحق هو من جملة الهدى، فما الحكمة في عطفه على الهدى في قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ [الآية 33] ؟ قلنا: المراد بالهدى هنا القرآن، وبدين الحق الإسلام، وهما متغايران. الثاني أنه، وإن كان داخلا في جملة الهدى، ولكنّه خصّه بالذكر تشريفا له، وتفضيلا، كما في قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] وقوله تعالى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] . فإن قيل: لم قال تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الآية 33] ، ولم يقل على الأديان كلّها، مع أنه أظهره على الأديان كلها؟ قلنا: المراد بالدّين هنا اسم الجنس، واسم الجنس المعرّف باللام، يفيد معنى الجمع، كما في قولهم: كثر الدرهم والدينار في أيدي الناس. فإن قيل: لم قال تعالى وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 34] والمذكور الذهب والفضة، فأعاد الضمير على أحدهما؟ قلنا: أعاد الضمير على الفضّة لأنها أقرب المذكورين، أو لأنها أكثر وجودا في أيدي الناس، فيكون كنزها أكثر ونظيره قوله تعالى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ [البقرة: 45] . الثاني: أنه أعاد الضمير على المعنى، لأن المكنوز دنانير ودراهم وأموال، ونظيره قوله تعالى وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] لأنّ كل طائفة مشتملة على عدد كثير، وكذا

قوله تعالى هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج: 19] يعني المؤمنين والكافرين. الثالث: أن العرب إذا ذكرت شيئين يشتركان في المعنى، تكتفي بإعادة الضمير على أحدهما، استغناء بذكره عن ذكر الاخر، لمعرفة السامع باشتراكهما في المعنى، ومنه قول حسان بن ثابت: إنّ شرخ الشّباب والشعر الأسود ... ما لم يعاص كان حنونا ولم يقل ما لم يعاصيا وقول الاخر: فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيّار بها لغريب ولم يقل لغريبان، ومنه قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [الآية 62] وقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ [الأنفال: 20] وليس قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: 11] وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً [النساء: 112] من هذا القبيل: لأن الإضمار جعل عن أحدهما لوجود لفظة أو، وهي لإثبات أحد المذكورين، فمن جعله نظير هذا فقد سها، إلا أن يثبت أنّ أو في هاتين الآيتين بمعنى الواو وفي هاتين الآيتين لطيفة، وهي أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما أعاده في الآية الأولى على التجارة، وإن كانت أبعد، ومؤنثة أيضا لأنها أجذب لقلوب العباد عن طاعة الله تعالى من اللهو، لأن المشتغلين بها أكثر من المشتغلين باللهو، أو لأنها أكثر نفعا من اللهو، أو لأنها كانت أصلا، واللهو تبعا، وأعاده في الآية الثانية على الإثم رعاية لمرتبة القرب والتذكير. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً [الآية 36] وهي عند الناس أيضا كذلك في كل ملة، سواء أكانت الشهور قمرية أم شمسية؟ قلنا: الحكمة فيه، أن يعلم أن هذا التقسيم والعدد ليس مما أحدثه الناس، وابتدعوه بعقولهم من ذات أنفسهم، وإنما هو أمر أنزله الله سبحانه، في كتبه على ألسنة رسله. فإن قيل: لم قال تعالى فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [الآية 36] خصّ الأربعة الحرم بذلك، وظلم النفس منهي عنه في كل زمان؟ قلنا: قال ابن عباس رضي الله عنهما، الضمير في قوله تعالى

فِيهِنَّ راجع إلى قوله سبحانه اثْنا عَشَرَ شَهْراً لا الأربعة الحرم فقط، فاندفع السؤال. الثاني: أن الضمير راجع إلى الأربعة الحرم فقط، إمّا لأنها أقرب، أو لما قاله الفراء: إن العرب تقول في العشرة وما دونها لثلاث ليال خلون، وأيام خلون، فإذا جاوزت العشرة قالت خلت ومضت، للفرق بين القليل وهو العشرة فما دونها، وبين الكثير وهو ما زاد عليها، ولهذا قال في الاثني عشر: منها، وقال في الأربعة: فيهن. فعلى هذا يكون تخصيصها بالذكر، إمّا لمزيد فضلها وحرمتها عندهم في الجاهلية، فيكون ظلم النفس فيها أقبح، ونظيره قوله تعالى فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] وإن كان ذلك منهيّا عنه في غير الحجّ أيضا، أو لأن المراد بالظلم النسيء، وهو كان مخصوصا بها، أو قتال الكفار فيها ابتداء، أو ترك قتالهم إذا ابتدءوا، وذلك كلّه مخصوص بها؟ فإن قيل: الشهر مذكّر فقياسه فيها؟ قلنا: الضمير بالهاء والنون، لا يختص بالمؤنّث، ولو اختص، فالمراد بقوله فِيهِنَّ ساعات الأشهر، وهي مؤنثة. فإن قيل: لم قال تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [الآية 36] والإنسان لا يظلم نفسه، بل يظلم غيره؟ قلنا: لا نسلّم أنه لا يظلم نفسه، قال الله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [النساء: 110] وقال تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1] . الثاني، أن معناه فلا يظلم بعضكم بعضا كما قال تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ [البقرة: 84] وقال تعالى فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] وقال تعالى وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] . الثالث، أن معناه فلا تنقصوا حظ أنفسكم من الاخرة بالمعصية فإنّ من عصى، فقد ظلم نفسه بنقصه ثوابها، وتوجيه العقاب والذم إليها، وإليه الإشارة بقوله تعالى وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1] . الرابع، أنّ كل ظالم لغيره، فهو ظالم لنفسه في الحقيقة لأن ضرر ظلمه في حق المظلوم، ينقطع عن قريب، لأنه لا يتعدى الدنيا، وضرر ظلمه في حق

نفسه، يراه في الاخرة حيث لا ينقطع، أو يكون أشد وأدوم. فإن قيل: قوله تعالى إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [الآية 37] يدل على قبول الكفر للزيادة والنقصان فكذلك الإيمان الذي هو ضده، فيكون حجة للشافعي رحمة الله عليه في قوله: الإيمان يقبل الزيادة والنقصان. قلنا: معناه زيادة معصية في الكفر. فإن قيل: قوله تعالى لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الآية 44] إن كان نهيا فأين الجزم؟ وإن كان نفيا فقد وقع المنفي، لأنّ كثيرا من المؤمنين المخلصين استأذنوه في التخلّف عن الجهاد لعذر، ويعضده قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور: 62] فقيل إن المراد به، كلّ أمر طاعة اجتمعوا عليه، كالجهاد، والجمعة، والعيد، ونحوها؟ قلنا: هو نهي بصيغة النفي، كقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] . الثاني: قال ابن عباس، رضي الله عنهما، هي منسوخة بقوله تعالى لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ. الثالث: أنّ المراد بقوله تعالى يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ [الآيتان 44- 45] الاستئذان في التخلّف عن الجهاد من غير عذر، وكذا المراد بالآية التي بعدها، وبقوله سبحانه: لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إباحة الاستئذان في التخلّف عن الأمر الجامع لعذر، فلا نسخ لإمكان العمل بالآيتين، لأن محل الحكم مختلف، وهو وجود العذر وعدمه. فإن قيل: لم قال تعالى وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) أخبر أنهم أمروا بالقعود، وذمهم على القعود، والتخلف عن الخروج للجهاد، والاستئذان في القعود؟ قلنا: ليس في الآية ما يدلّ على أن الله تعالى، هو الأمر لهم، فقيل الأمر لهم بذلك هو الشيطان بالوسوسة والتزيين. الثاني أنّ بعضهم أمر بعضا. الثالث أن النبي (ص) قال لهم ذلك غضبا عليهم. الرابع أنه أمر توبيخ وتهديد من الله تعالى لهم، كقوله تعالى اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] يعضده قوله تعالى مَعَ الْقاعِدِينَ أي مع

النساء والصبيان والزّمنى «1» الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت. فإن قيل: إذا كان الله تعالى، علم أنّ المنافقين لو خرجوا مع المؤمنين للجهاد ما زادوهم إلّا خبالا: أي فسادا، ولأوضعوا خلالهم: أي ولأسرعوا السعي بينهم بالنمائم، فلم أمرهم سبحانه، بالخروج مع المؤمنين؟ قلنا: أمرهم بالخروج لإلزامهم الحجّة، ولإظهار نفاقهم. فإن قيل: قوله تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) يدل على أن الفسق يمنع قبول الطاعات؟ قلنا: المراد بالفسق هنا، الفسق بالكفر والنفاق، لا مطلق الفسق، وذلك محبط للطاعات، ومانع من قبولها ويعضده قوله عز وجل وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ [الآية 54] . فإن قيل: لم عدل في آية الصدقات «2» عن اللام إلى «في» في المصارف الأربعة الأخيرة؟ قلنا: للتنبيه على أنهم أقوى في استحقاق الصدقة ممّن سبق ذكره لأن «في» للظرفية والوعاء، فنبه بها على أنهم أحقّاء بأن توضع فيهم الصدقات، ويجعلوا مصبّا لها، لما ورد في فكّ الرقاب من الكتابة أو الرّقّ أو الأسر وفي فكّ الغارمين عن الدّين من التخليص والإنقاذ وفي سبيل الله، يشمل السياق الغازي الفقير، أو المنقطع في الحجّ، والفقير البيّن الفقر وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال ولا يرد المؤلّفة قلوبهم، لأن بعضهم كفّار، وبعضهم مسلمون ضعيفو النية في الإسلام، فكيف يعارض بهم من ذكرنا. أو لأن الله تعالى علم أن وجوب إعطائهم سينسخ، فلذلك جعلهم في القسم المقدم الذي هو أضعف. فإن قيل: لم كرر: «في» في الأربعة الأخيرة ولم يكرر اللام في الأربعة الأولى؟ قلنا: للتنبيه على ترجيح استحقاق المصرفين الأخيرين على الرقاب

_ (1) . الزّمنى: مفردها زمين، وهو الذي أصابه ضعف، لكبر سنّ، أو مطاولة علّة. (2) . هي الآية السّتون، من سورة التوبة.

والغارمين، من جهة أن إعادة العامل تدل على مزيد قوة تأكيد، كقولك مررت بزيد وبعمرو. فإن قيل: لم عدّي فعل الإيمان إلى الله تعالى بالباء، وإلى المؤمنين باللام، في قوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [الآية 61] ؟ قلنا: لأنه قصد التصديق بالله الذي هو ضد الكفر به، فعدّاه بالباء كما يعدّى ضدّه بها، وقصد التسليم والانقياد للمؤمنين فيما يخبرون به، لكونهم صادقين عنده، فعدّاه بما يعدّى به التسليم والانقياد، ويعضده قوله تعالى وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) [يوسف] وقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة: 75] ، وقوله تعالى فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [يونس: 83] وقوله تعالى أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) [الشعراء] وأمّا قوله تعالى قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [طه: 71] فمشترك الدلالة، لأنه قال في موضع آخر قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الأعراف: 123] وقال ابن قتيبة في الجواب عن أصل السؤال: إن الباء واللام زائدتان، والمراد بالإيمان التصديق، فمعناه يصدق الله، ويصدق المؤمنين. فإن قيل: قوله تعالى أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً [الآية 63] يدلّ على تخليد أصحاب الكبائر في النار، لأن المراد بالمحادّة المخالفة والمعاداة؟ قلنا: قوله تعالى أَلَمْ يَعْلَمُوا [الآية 63] خبر عن المنافقين الذين سبق ذكرهم، فيكون المراد به المحادّة بالكفر والنفاق، وذلك موجب للتخليد في النار. فإن قيل: لم قال الله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ [الآية 64] ، وسورة القرآن، إنما تنزل على النبي (ص) لا على المنافقين؟ قلنا: معناه أن تنزل فيهم، «فعلى» هنا بمعنى «في» كما في قوله تعالى عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة: 102] وقولهم كان ذلك على عهد فلان. الثاني: أنّ الإنزال هنا بمعنى القراءة فمعناه أن تقرأ عليهم. فإن قيل: الحذر في هذه الآية واقع

منهم على إنزال السورة، فلم قال تعالى: قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) . قلنا: قوله تعالى مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) أي مظهر ما تحذرون ظهوره من نفاقكم، بإنزال السورة وهو مناسب لقوله تعالى تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [الآية 64] الثاني: أن معناه مظهر ومبرز ما تحذرون من إنزال السورة. فإن قيل: لم قال تعالى تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ وإنباؤهم بما في قلوبهم، تحصيل الحاصل، لأنهم عالمون به فما فائدته؟ قلنا: معناه تنبّئهم بأن أسرارهم وما كتموه من النفاق شائعة ذائعة، وتفضحهم بظهور ما اعتقدوا أنه لا يعرفه غيرهم، ولا يطّلع عليه سواهم، وهذا ليس من تحصيل الحاصل. فإن قيل: لم قال الله تعالى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [الآية 67] وقال بعده وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الآية 71] وكلمة «من» أدل على المشابهة والمجانسة، من حيث أنها تقتضي الجزئية والبعضية، فكانت بالمؤمنين أولى وأحرى، لأنّهم أشدّ تشابها، وتجانسا في الصفات والأخلاق؟ قلنا: المراد بقوله تعالى: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي بعضهم على دين بعض، أي على عادتهم وخلقهم بإضمار لفظة الدين أو الخلق ونحوه، لأن «من» تأتي بمعنى على، ومنه قوله تعالى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الأنبياء: 77] وقوله تعالى لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [البقرة: 226] أي: يحلفون على وطء نسائهم وهذا هو المعنى المراد في قوله عليه الصلاة والسلام «فمن رغب عن سنّتي فليس مني» وقوله عليه الصلاة والسلام «من غشّنا فليس منا» . والمراد بقوله تعالى بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي أنصارهم وأعوانهم في الدّين وكل واحدة من العبارتين صالحة، للفريقين إلا أنه خصّ المنافقين بتلك العبارة، تكذيبا لهم في حلفهم السابق، في قوله تعالى وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ [الآية 56] وتقريرا لقوله تعالى وَما هُمْ مِنْكُمْ [الآية 56] . فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ [الآية 69] مع أن

قوله تعالى فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ [الآية 69] بوضع الظاهر موضع الضمير، مغن عنه، كما قال تعالى وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [الآية 69] من غير تكرار؟ قلنا: الحكمة فيه، تصدير التشبيه بذم المشبه بهم، باستمتاعهم بما أوتوا من حظوظ الدنيا، واشتغالهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة الباقية، وطلب الفلاح في الاخرة، وتهجين حالهم، وتقبيح صفتهم، ليكون التشبيه بعد ذلك أبلغ في ذم المشبّهين بأولئك الأوّلين، كما تريد أن تنبّه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير حق، ويظلم ويفسق وأنت تفعل مثل فعله. وأمّا قوله تعالى وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [الآية 69] فإنه لمّا كان معطوفا على ما قبله وهو التشبيه المصدّر بتلك المقدّمة، أغنى ذلك عن إعادة تلك المقدّمة المذكورة، للتقبيح والتهجين. فإن قيل: قوله تعالى أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الآية 69] فحبوط العمل، إن كان عبارة عن بطلان ثوابه، فذلك إنّما يكون في الاخرة، وإن كان عبارة عن بطلان منفعته، فأعمال المنافقين في الدنيا ليست باطلة المنفعة، لأنهم ينتفعون بها في حقن دمائهم وأموالهم، وجريان أحكام المسلمين عليهم؟ قلنا: المراد بالأعمال، إن كانت نوعي أعمالهم الدينية والدنيوية فالحبوط في الدنيا راجع إلى أعمالهم الدنيوية وهي كيدهم ومكرهم وخداعهم ونفاقهم الذي كانوا يقصدون به إطفاء نور الله تعالى، ودفع آياته وبيّناته. ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون، فلم ينالوا من ذلك ما أملوه وقصدوه من إبطال دين الله تعالى، وستر نبوّة محمد (ص) . والحبوط في الاخرة، راجع إلى أعمالهم الدينية، وهي عباداتهم وطاعاتهم لأنهم فعلوها نفاقا ورياء فبطل ثوابها في الاخرة، وإن كان المراد بأعمالهم مجرّد الأعمال الدينية، فحبوطها في الدنيا هو عدم قبولها، لأن الله تعالى يقبل العبادة في الدنيا، ثم يثيب عليها في الاخرة، والمراد بحبوطها في الدنيا، عدم قبولها، وعدم إطلاق الأسماء الشريفة عليها، كالعبادة والقربة والحسنة، ونحو ذلك وهذا

ضد قوله تعالى وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) [العنكبوت] فدلّ على أن للطاعات أجرا معجلا في الدنيا، غير الأجر المؤجل إلى الاخرة، وهو القبول، وحسن الثناء، والذكر، وإلقاء المحبة في قلوب الخلق، كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) [مريم] قيل معناه: يحبّهم، ويحبّبهم إلى عباده من غير سبب بينه وبينهم يوجب المحبة، وكذلك على العكس حال العصاة والفساق يبغضهم، ويبغّضهم إلى عباده من غير سبب بينه وبينهم يوجب البغض. فإن قيل: قوله تعالى وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) لم خصّ الأرض بالنفي، مع أن المنافقين ليس لهم وليّ ولا نصير، من عذاب الله في الأرض، ولا في السماء في الدنيا وفي الاخرة؟ قلنا: لمّا كان المنافقون لا يعتقدون الوحدانية ولا يصدّقون بالآخرة، كان اعتقادهم وجود الوليّ والنصير مقصورا على الدنيا فعبر عن الدنيا، بالأرض وخصّها بالذكر لذلك. الثاني أنه أراد بالأرض أرض الدنيا والاخرة فكأنه قال: ومالهم في الدنيا من وليّ ولا نصير. فإن قيل: لم خصّ السبعين بالذكر في قوله تعالى إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [الآية 80] مع أن الله تعالى لا يغفر للمنافقين، ولو استغفر لهم الرسول (ص) ألف مرة، بدليل قوله تعالى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون: 6] ولأنّهم مشركون، والله تعالى لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] ؟ قلنا: جرت عادة العرب، بضرب المثل في الآحاد بالسبعة، وفي العشرات بالسبعين، وفي المئات بسبعمائة، استعظاما لها واستكثارا لا أنهم يريدون بذكرها الحصر، فكأنه قال: إن تستغفر لهم أعظم الأعداد وأكثرها، فلن يغفر الله لهم، ويحدّده ما ذكره بعد ذلك، من بيان الصارف عن المغفرة، في قوله تعالى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الآية 80] . فإن قيل: لو كان المراد ما ذكرتم، لما خفي ذلك على النبي (ص) وهو

أفصح العرب وأعلمهم بأساليب الكلام وتمثيلاته، حتّى قال لمّا نزلت هذه الآية: إن الله تعالى قد رخّص لي فسأزيد على السبعين. وفي رواية أخرى. فسأستغفر لهم أكثر من السبعين، لعلّ الله أن يغفر لهم؟ قلنا: لم يخف عليه ذلك، وإنّما أراد بما قال إظهار غلبة رحمته ورأفته، بمن بعث إليهم، كما وصفه الله تعالى بقوله لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الآية 128] . وفي إظهار النبي (ص) الرأفة والرحمة لطف لأمته، وحثّ لهم على التراحم، وشفقة بعضهم على بعض وهذا دأب الأنبياء (ع) ، ألا ترى إلى قول إبراهيم صلوات الله عليه كما ورد في التنزيل وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) [ابراهيم] . فان قيل: لم قال تعالى ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) والمغفرة والرحمة إنما تكون للمسيئين، لا للمحسنين؟ قلنا: معناه والله غفور رحيم للمسيئين إذا تابوا، فهو متعلّق بمحذوف لا بالمحسنين، لأنهم قد سدّوا بإحسانهم طريق العقاب والذم، فليس عليهم سبيل فيهما. الثاني، أنّ المحسن من الناس، وإن تناهى في إحسانه لا يخلو من إساءة بينه وبين الله تعالى، أو بينه وبين الناس، لكنه إذا أحسن باجتناب الكبائر، غفر الله له صغائر سيئاته، ورحمه، كما قال تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: 31] . فإن قيل قوله تعالى فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [الآية 105] أي سيعلم، لأن السين للاستقبال، والرؤية من الله تعالى بمعنى العلم، والله تعالى عالم بعملهم حالا ومالا؟ قلنا: معناه في حقّ الله، أنه سيعلمه واقعا موجودا كما علمه غيبا، لأن الله تعالى يعلم كلّ شيء على ما هو عليه، فيعلم المنتظر منتظرا، ويعلم الواقع واقعا وأما في حق الرسول (ع) فهو على ظاهره. فإن قيل: إن الله تعالى، قد وصف العرب بالجهل في القرآن، بقوله سبحانه وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ [الآية 97] فكيف يصح الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم، على كتاب الله وسنة رسوله (ص) ؟

قلنا: هذا وصف من الله لهم، بالجهل في أحكام القرآن لا في ألفاظه ونحن لا نحتجّ بلغتهم في بيان الأحكام، بل نحتج بلغتهم في بيان معاني الألفاظ، لأن القرآن والسنة جاءا بلغتهم. فإن قيل لم قال تعالى في صفة المنافقين مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [الآية 101] وقال في موضع آخر وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد: 30] . قلنا: هذه الآية، نزلت قبل تلك الآية، فلا تناقض، لأنه نفى علمه لهم في زمان، ثم أثبته بعد ذلك في زمان آخر. فان قيل: قوله تعالى خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً [الآية 102] قد جعل كلّ واحد منهما مخلوطا، فأين المخلوط به؟ قلنا: كلّ واحد مخلوط ومخلوط به، لأن معناه: خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك: خلطت الماء واللبن، تريد خلطت كلّ واحد منهما بصاحبه، وفيه من المبالغة ما ليس في قولك: خلطت الماء باللبن، لأنك بالباء جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به، وبالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما كأنك قلت: لخلطت الماء باللبن، واللبن بالماء ويجوز أن تكون الواو بمعنى الباء، كقولهم: بعت شاة ودرهما، يعنون شاة بدرهم. فإن قيل: لم قال تعالى وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [الآية 112] بالواو، وما قبلها من الصفات بغير واو؟ قلنا: لأنها صفة ثامنة، والعرب تدخل الواو بعد السبعة إيذانا بتمام العدد، فإن السبعة عندهم هي العقد التام كالعشرة عندنا فأتوا بحرف العطف الدال على المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، ونظيره قوله تعالى وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] بعد ما ذكر العدد مرّتين بغير واو وقوله تعالى في صفة الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] بالواو لأنها ثمانية. وقال في صفة النار، نعوذ بالله منها، فتحت أبوابها بغير واو لأنها سبعة. وليس قوله تعالى ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) [التحريم] من هذا القبيل، لأن الواو لو أسقطت فيه لاستحال المعنى، لتناقض الصفتين. وقيل إنّما دخلت الواو على الناهين عن المنكر، إعلاما بأن الأمر بالمعروف، ناه عن المنكر، في حال أمره بالمعروف فهما

صفتان متلازمتان، بخلاف باقي الصفات المذكورة، فإنها ليست متلازمة ولا ينقض هذا بقوله تعالى الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ [الآية 112] لأنهما ليستا صفتين متلازمتين، لأن السجود يلزم الركوع أمّا الركوع، فلا يلزم السجود، بدليل سجود التلاوة، وسجود الشكر والزمخشري لم يتكلم على هذه الواو. فإن قيل: لم قال تعالى لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) أي بأحسن الذي كانوا يعملون بإضمار حرف الجر، مع أنهم يجزون بحسنة أيضا، لقوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) [الزلزلة] ؟ قلنا: معناه بحسن الذي كانوا يعملون، وهو الطاعات كلها، لا بسيّئة وهو المعاصي، فالأحسن هنا، بمعنى الحسن وسيأتي في سورة الروم، في قوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] وما يوضح هذا إن شاء الله تعالى. الثاني: أن معناه، ليجزيهم الله أحسن من الذي كانوا يعملون. فإن قيل: قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً [الآية 124] يدل على أن الإيمان يقبل الزيادة؟ قلنا: قال مجاهد: معناه فزادتهم علما لأن العلم من ثمرات الإيمان، فجعل مجازا عنه، والله أعلم.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"التوبة"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «التوبة» «1» ....... «2» .... على الحقيقة هي التقارب بالحدود مثل المسامتة، وهي المماثلة في السّمت الذي هو الجهة، وذلك من صفات الأجسام، وذوات الحدود والأقطار. فالمراد إذن بالمحادّة هاهنا كون الإنسان في غير الحدّ الذي فيه أولياء الله سبحانه. فكأنهم في حدّ، وأولياء الله سبحانه في حدّ. وكذلك الكلام في مشاقّة الله تعالى على أحد التأويلين، وهو أن يكون الإنسان في شقّ أعداء الله وحربه، لا في شقّ أوليائه وحزبه. وحقيقة الكلام أن يكون المراد به محادّة أولياء الله على الصفة التي ذكرناها فقال تعالى: يُحادِدِ اللَّهَ [الآية 63] كما قال: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 57] أي يؤذون أولياء الله ورسوله، لأنّ الأذى لا يجوز على من لا تلحقه المنافع والمضار، والمساآت والمسارّ. وفي قوله سبحانه: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [الآية 64] وهذه استعارة. لأن السورة، نطقها من جهة البرهان، لا من جهة اللسان. فكأنه سبحانه، أراد أنّ الناس يعلمون، بهذه السورة، النازلة في المنافقين، بواطن نفوسهم، وعقائد قلوبهم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....] (2) . هنا بداية القسم الموجود من سورة التوبة، أما ما قبل ذلك فمفقود مع آخر قسم من سورة الأعراف.

وقوله سبحانه «1» : رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ [الآية 87] . [الخوالف النساء «2» ] المقيمات في دار الحي بعد رحيل الرجال. وإنما سمّي النساء خوالف تشبيها لهنّ بالخوالف، التي واحدتهن خالفة، وهي الأعمدة تكون في أواخر بيوت الحيّ المضروبة. فشبّهن- لكثرة لزوم البيوت- بالخوالف التي تكون في البيوت. وقد قيل إن الخوالف أيضا زوايا البيوت، واحدتها خالفة والمعنى واحد. وقد يجوز أن يكون المراد بقوله تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ حقيقة الخوالف التي هي أعمدة البيوت أي رضوا بأن يكونوا في بيوتهم، فيكونوا- بالملازمة لها- كخوالفها وأعمدتها. وقد يجوز أيضا، أن يكون الخوالف هاهنا جمع فرقة خالفة. وهي الجماعة التي تقعد عن الغزو، كالشيوخ، والنساء، وذوي العاهات، والولدان. وممّا يقوي ذلك قوله تعالى أمام هذا الكلام: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) . وكنت سمعت شيخنا أبا الفتح عثمان بن جنّي «3» النحوي- رحمه الله- يقول ذلك، ويذهب إلى مثله أيضا في قوله سبحانه: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: 10] . ويقول: هي جمع فرقة كافرة. إلا أنّ الكلام يكون على القول الأول استعارة. ويكون على هذا القول حقيقة. وفي قوله سبحانه: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [الآية 98] استعارة. «4» .... عليهم أيام السوء، لأن الأيام والشهور قد تسمى دوائر، على طريق الاستعارة. فليس لأنها ترجع بأعيانها، وإنّما تعود أشباهها وأمثالها، فشهر كشهر، ويوم كيوم، وساعة كساعة، وسنة كسنة. يقال دارت السنون، ودارت الشهور على

_ (1) . هذه زيادة ليست بالأصل يقتضيها السياق. (2) . هذا السطر ممحوّ، وقد استظهرناه من السياق، الذي يفسر الخوالف بالنساء المقيمات في دار الحيّ. (3) . أبو الفتح عثمان بن جنّي، إمام من أئمّة النحو. وقد اشتهر بشرحه لديوان المتنبّي، وبكتابه «الخصائص» في اللغة، وهو مشهور. وكان المتنبي يقول: «ابن جني أعرف بشعري مني» ، وقد كان ابن جني أستاذا للشريف الرّضي، ونقل هذا عنه كثيرا في كتابه «المجازات النبوية» . توفي سنة 392 هـ. (4) . هنا سطران ممحوان محوا تاما.

هذا المعنى. إلّا أن هذه اللفظة، أعني الدائرة والدوائر، قد اختص ذكرها بالمواضع المكروهة. فيقال: دارت عليهم الدوائر، إذا أهلكتهم الأيام، وأفنتهم الأعوام. ويقال: دارت لهم الدنيا. إذا وصفوا بمواتاة الإقبال، وانتظام الأحوال. فكأنّ التمييز في الخير أو الشرّ، إنما يقع بقولنا: دارت لهم، ودارت عليهم. وفي قوله سبحانه: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ [الآية 109] استعارة. والمراد بها ذكر ما بناه المنافقون من مسجد الضّرار «1» ، بعد ما بنى المؤمنون من المسجد المعروف بمسجد قباء «2» . لأن المؤمنين وضعوا هذا البناء، وهم مؤمنون متّقون، عارفون موقنون، فكأنهم وضعوه على قواعد من الإيمان، وأساس من الرضوان. والمنافقون، إنما وضعوا ذلك البناء كيدا للمؤمنين، وإرصادا للمسلمين. فكأنهم وضعوه على شفا جرف هار متقوّض، وأساس واه منتقض فكأنما انهار بهم في نار جهنّم، أي أسقطهم ذلك الفعل في عذاب النار، ودائم العقاب. وهذه من أحسن الاستعارات. وفي قوله تعالى: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ [الآية 110] استعارة. ومعناها أن ذكر البنيان الذي بنوه لا يزال ريبة في قلوبهم، يخافون معها إنزال الله بهم ضروب العقاب، أو بسط المؤمنين عليهم لما ظاهروهم من العناد والشقاق. فهم أبدا بنفوسهم مستريبون، وعليها خائفون مشفقون. فلا يزالون على ذلك، إلا أن تقطّع قلوبهم حسرة، وتزهق نفوسهم خيفة. وفي قوله تعالى:

_ (1) . مسجد الضرار، هو المسجد الذي بناه المنافقون بقباء، لإضرار المسلمين وتفريق كلمتهم، وقد سألوا النبي (ص) عند رجوعه من تبوك، أن يأتي مسجدهم هذا ليصلّي فيه فأنزل الله فيه قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً. وقد أمر النبي (ص) بهدم هذا المسجد، الظالم أهله فحرق، وهدم، واتخذ موضعه مكانا للقمامة. (2) . مسجد قباء هو المسجد الذي أسسه النبي (ص) على التقوى من أول يوم نزل فيه قباء، وهي بلدة على بعد ميلين من جنوب المدينة.

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [الآية 111] استعارة. وذلك أنه سبحانه لمّا أمرهم ببذل نفوسهم وأموالهم في الجهاد عن دينه، والمنافحة عن رسوله (ص) ، وضمن لهم على ذلك الخلود في النعيم، والأمان من الجحيم، كانت نفوسهم وأموالهم بمنزلة العروض المبيعة وكانت الأعواض المضمونة عنها بمنزلة الأثمان المنقودة، وكانت الصفقة رابحة، لزيادة الأثمان على السلع، وإضعاف الأعواض على القيم. وجملة هذا الباب، أنّ العبادات كلّها كالتجارات، في أنها طلب للمنافع. فالعبادات «3» طلب لمنافع الاخرة، والتجارات طلب لمنافع الدنيا. وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ [الآية 117] استعارة. لأن حقيقة الزّيغ الاعوجاج والميل. والمراد: من بعد ما كادت قلوبهم تزول من عظم الخيفة، وتقنط من نزول الرحمة، فتكون بذلك كالشيء الزائغ بعد الاستقامة، والمستمال بعد الثبات والرصانة. ومن الدليل على ذلك، قوله تعالى، بعد هذه الآية: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ [الآية 118] فهذه أيضا استعارة. لأن النفس بالحقيقة لا توصف بالضّيق والاتساع، وإنما المراد بذلك المراد بالقول الأول، من أنه عبارة عن انضغاط القلوب بشدّة الكرب، وبلوغها منقطع الصبر. وقوله سبحانه: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [الآية 120] وهذه استعارة. فالمراد بها، أنهم لا ينبغي لهم أن يكرموا أنفسهم، عمّا يبذل النبي (ص) فيه نفسه، ولا يحفظوا مهجهم في المواطن التي تحضر فيها مهجته، اقتداء به، واتّباعا لأثره. وهذه لفظة يستعملها أهل اللسان كثيرا، فيقولون: رغبت بنفسي عن الضيم، وأرغب بك يا فلان عن القتل، أي أضنّ بنفسي عن أن تذلّ، وأنفس بمثلك عن أن يقتل.

_ (3) . في الأصل «بالعبادات» ، وهو تحريف من الناسخ.

فالظاهر، يدل على أنهم رضوا بنفوسهم عن نفس النبي (ص) . والمراد: وما كان لهم أن يرغبوا بالنفوس. عن. «1» .... التي ينزلها نفسه، ويعرض فيها مهجته. وقوله سبحانه: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) وهذه استعارة ظاهرة. وذلك ان السّورة لا تزيد الأرجاس «2» رجسا، ولا القلوب مرضا، بل هي شفاء للصدور، وجلاء للقلوب ولكنّ المنافقين لما ازدادوا عند نزولها عمى وعمها، وازدادت قلوبهم ارتيابا ومرضا، حسن أن يضاف ذلك الى السورة، على طريق لأهل اللسان معروفة. وقد استقصينا الكلام على ذلك في عدة مواضع من كتابنا الكبير. فمن أراد بلوغ أقاصي هذه الطريقة، والضرب في أقطارها، والتفسّح في أعطافها، فليتتبّع مواضعها من ذلك الكتاب بمشيئة الله. وقوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ [الآية 128] وهذه استعارة. والمراد بأنفسكم هاهنا- والله أعلم- أي من جنس أنفسكم وخلقكم، لتكونوا إليه أسكن، والى القبول منه أقرب. ويجوز أن يكون من أنفسكم أي من قبيلكم وعشيرتكم، كما يقول القائل: فلان من أنفس بني فلان. أي من صميم أنسابهم، وليس من وسطائهم وملاصقهم. وقد يجوز أن يكون المراد برسول من أنفسكم، أي من أشقائكم وأعزّائكم، كما يقول القائل لذي ودّه والقريب من قلبه: أنت من نفسي، وأنت من قلبي. أي أنت شقيق النفس، وقسيم القلب. ومما يقوّي ذلك، قوله سبحانه:

_ (1) . بياض بالأصل. ويصحّ أن توضع هنا كلمة المواطن، أو المواضع، أو المنازل، أو ما إليها من هذا الباب. (2) . في الأصل «لا تزيد الأرجاس إلّا رجسا» وإلا زائدة من الناسخ بها ينقلب المعنى الى الضد. والصواب حذفها كما أثبتناه.

عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) أي بحبّه لكم، وميله إليكم، يعزّ عليه أن تعنتوا وتعاندوا، فتحرموا الثواب، وتستحقوا «1» العقاب، فهو حريص على إيمانكم، رأفة بكم، وإشفاقا عليكم.

_ (1) . في الأصل «ويستحقّوا» بضمير الغائبين، والصواب «وتستحقّوا» بضمير المخاطبين كما أثبتناه.

الفهرس

الفهرس سورة الأنعام المبحث الأول أهداف سورة «الأنعام» 3 1- كيف أنزلت 3 2- لم سميت سورة الأنعام 4 3- تاريخ نزول السورة 4 4- مميزات المكي والمدني 5 5- خصائص السور المكية واضحة في سورة الأنعام 6 6- الأغراض الرئيسة لسورة الأنعام 7 (أ) وحدة الألوهية 7 (ب) قضية الوحي والرسالة 9 تكذيب المرسلين 9 نبوة محمد (ص) 10 (ج) قضية البعث والجزاء 10 7- قصة إبراهيم الخليل 12 8- الوصايا العشر 14.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأنعام» 17 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 17 الغرض منها وترتيبها 17 إثبات التوحيد والنبوة 18 شبهتهم الأولى على التوحيد والنّبوّة 18 شبهتهم الثانية على التوحيد والنّبوّة 20 شبهتهم الثالثة على التوحيد والنّبوّة 22 شبهتهم الرابعة على التوحيد والنّبوّة 24 إبطال بدعة لهم في الحلال والحرام 24 شبهتهم الخامسة على التوحيد والنّبوّة 25 إبطال بدع لهم في الحلال والحرام 26 شبهتهم السادسة على التوحيد والنّبوّة 27 الخاتمة 28 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأنعام» 29 المبحث الرابع مكنونات سورة «الأنعام 33 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأنعام» 39 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الأنعام» 53 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأنعام» 69 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأنعام» 79.

سورة الأعراف المبحث الأول أهداف سورة «الأعراف» 85 1- معنى فواتح السور 85 2- مقاصد السورة ومزاياها 87 3- عرض إجمالي لأجزاء السورة 87 4- قصة آدم 91 5- نعمة الثياب والزينة 92 توسّط الإسلام في شأن الزينة 92 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأعراف» 95 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 95 الغرض منها وترتيبها 95 المقدمة 96 قصة آدم وإبليس 96 قصة نوح وقومه 98 قصة هود وقومه 99 قصة صالح وقومه 99 قصة لوط وقومه 99 قصة شعيب وقومه 99 قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل 100 قصة عالم لم يعمل بعلمه 103 الخاتمة 104 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأعراف» 107

المبحث الرابع مكنونات سورة «الأعراف» 109 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأعراف» 115 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الأعراف» 141 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأعراف» 159 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأعراف» 171. سورة الأنفال المبحث الأول أهداف سورة «الأنفال» 177 صور من معركة بدر 178 الغنائم 179 الحرب والسلام 180 صفات المؤمنين 181 نداءات إلهية للمؤمنين 182 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأنفال» 185 تاريخ نزول السورة ووجه تسميتها 185 الغرض منها وتسميتها 185 تفويض قسمة الأنفال لله والرسول 186 مصرف الأنفال 188.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأنفال» 191 المبحث الرابع مكنونات سورة «الأنفال» 195 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأنفال» 199 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الأنفال» 207 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأنفال» 213 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأنفال» 221. سورة التوبة المبحث الأول أهداف سورة «التوبة» 227 أسماء السورة 227 أين البسملة؟ 228 أهداف سورة التوبة 229 هدفان أصليان 229 رحمة الله بالعباد 230 غزوة تبوك 231 علاقات المسلمين بغيرهم 234 فضل الرسول الأمين 235.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التوبة» 237 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 237 الغرض منها وترتيبها 237 الكلام على المشركين وأهل الكتاب 238 الكلام على المنافقين 240 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التوبة» 249 المبحث الرابع مكنونات سورة «التوبة» 251 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «التوبة» 263 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «التوبة» 271 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «التوبة» 283 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «التوبة» 297.

الجزء الرابع

الجزء الرابع سورة يونس 10

المبحث الأول أهداف سورة"يونس"

المبحث الأول أهداف سورة «يونس» «1» نزلت سورة يونس بعد سورة الإسراء، وكان الإسراء قبل الهجرة بسنة، فتكون سورة يونس من السور التي نزلت بين الإسراء والهجرة، فهي سورة مكية من أواخر ما نزل من القرآن بمكّة. وقد سمّيت بهذا الاسم لذكر قصة يونس فيها، وتبلغ آياتها تسعا ومائة آية. أهدافها الإجمالية موضوعات هذه السورة هي موضوعات السور المكّيّة الغالبة، وهي الجدل حول مسائل العقيدة والتوجيه إلى آيات الله الكونية، وسنن الله في الأرض، والعظة بالقرون الخوالي ومصائرها، وعرض بعض القصص من هذا الجانب الذي تبرز فيه العظة واللمسات الوجدانية، التي تنتقل بالإنسان من آيات الله في الكون إلى آياته في النفس، إلى مشاهد القيامة المؤثّرة، إلى قصص الماضين ومصائرهم، كأنها جميعا حاضرة معروضة للأنظار. وهذه السورة تتضمن شيئا من هذا كله، وينتقل السياق فيها من غرض إلى غرض، بمناسبات ظاهرة أو خفيّة بين مقاطعها، ولكن جوهرها كلّه هو هذا الجوّ، حتّى ليصعب الفصل بين مقطع ومقطع فيها، في أغلب الأحيان.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

الدرس الأول: مظاهر قدرة الله

الدرس الأول: مظاهر قدرة الله يبدأ القسم الأول من السورة بأحرف ثلاثة هي ألف، لام، راء، كما بدأت سورة البقرة وسورة آل عمران بأحرف مشابهة، ذكر العلماء أنها أسماء للسورة أو إشارة إلى أسماء الله تعالى وصفاته، أو هي لبيان إعجاز القرآن الكريم، أو هي مما استأثر الله تعالى بعلمه. ثم تأخذ السورة في عرض عدة أمور، هي بيان حكمة القرآن وطريقته في تنبيه الغافلين إلى تدبّر آيات الله سبحانه، في صفحة الكون وتضاعيفه: في السماء والأرض، وفي الشمس والقمر، وفي الليل والنهار، وفي مصارع القرون الأولى، وفي قصص الرسل فيهم، وفي دلائل القدرة الكامنة والظاهرة في هذا الوجود. ثم تشرح السورة، الحكمة في الإيحاء إلى رجل من البشر، يعرفه الناس ويطمئنون إليه، ويأخذون منه، ويعطونه، بلا تكلّف ولا جفوة ولا تحرّج، وتذكر الحكمة من إرسال الرسل. فالإنسان بطبعه مهيّأ للخير والشر، وعقله هو أداته للتمييز. ولكن هذا العقل في حاجة إلى ميزان مضبوط يعود إليه دائما كلما اختلط عليه الأمر وأحاطت به الشبهات وجذبته التيارات والشهوات. وهذا الميزان الثابت العادل هو هدى الله وشريعته. وتلفت سورة، النظر إلى خلق السماوات والأرض وتدبير الأمر فيهما، وإظهار قدرة الله تعالى: الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ [الآية 5] . وقدر اختلاف الليل والنهار، وخلق هذا ودبّره، فهو سبحانه الذي يليق أن يكون ربّا يعبد، ولا يشرك به شيء من خلقه. إن هذا الليل المظلم، الساكن إلّا من دبيب الرؤى والأشباح، وهذا الفجر المتفتّح في نهاية الليل كابتسامة الوليد، وهذه الحركة التي يتنفس بها الصبح فيدب النشاط في الحياة والأحياء، وهذا الطير الرائح الغادي القافز الواثب الذي لا يستقر على حال، وهذا النبت النامي المتطلع أبدا إلى النمو والحياة، وهذه الخلائق الذاهبة الآيبة في تدافع وانطلاق، وهذه الأرحام التي تدفع، والقبور التي تبلع، والحياة ماضية في طريقها كما شاء الله.

الدرس الثاني: الأدلة على وجود الله

إن هذا الحشد من الصور والأشكال، والحركات والأحوال والرواح والذهاب والبلى والتجدد والذبول والنماء، والميلاد والممات، والحركة الدائبة في هذا الكون الهائل التي لا تنسى ولا تتوقف لحظة من ليل أو نهار. إن هذا كله ليستنهض كل همة في كيان البشر، للتأمل والتدبر والتأثر، حتى يستيقظ القلب ويتفتح لمشاهدة الآيات المبثوثة في ظواهر الكون وحناياه. والقرآن الكريم يعمد مباشرة إلى إيقاظ القلب، لتدبّر هذا الحشد من الصور والآيات، وتأمل قدرة الله في اختلاف الليل والنهار، بالطول والقصر، فيطول الليل في الشتاء، ويقصر في الصيف، ويطول النهار في الصيف، ويقصر في الشتاء. ووراء كل إبداع يد الله القدير، الذي رفع السماء وزيّنها بالنجوم وحفظها من التصدع والوقوع، وبسط، سبحانه، الأرض وثبّتها بالجبال، وزيّنها بالنبات، وأحياها بالأمطار. إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) . الدرس الثاني: الأدلة على وجود الله يستهل الدرس الثاني من سورة يونس، بإعلان جزاء المؤمنين، وعاقبة المكذبين، حيث يقول سبحانه: أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ( [الآية 26] . فالجزاء الحق من جنس العمل، فمن عمل صالحا في الدنيا، أدخله الله الجنّة ومتّعه بالطيّبات، ونجّاه من النار. ثم تستمر الآيات في بيان عقوبة المكذّبين، وجزاء الخائنين وتسوق السورة عددا من الأدلة والبراهين تنتهي كلها إلى هدف واحد، هو إشعار النفس بتوحيد الله وصدق الرسول، واليقين باليوم الآخر، والقسط في الجزاء. تلمس الأدلة أقطار النفس، وتأخذ بها إلى آفاق الكون في جولة واسعة شاملة، جولة من الأرض إلى السماء، ومن آفاق الكون إلى آفاق النفس، ومن ماضي القرون إلى حاضر البشر، ومن الدنيا إلى الآخرة. وقد لا حظنا في الدرس الماضي لمسات من هذه، ولكنها في هذا الدرس أظهر. فمن معرض الحشر،

إلى مشاهد الكون، إلى ذات النفس، وإلى التحدي بالقرآن، إلى التذكير بمصائر المكذبين من الماضين، ومن ثم لمحة عابرة عن الحشر في مشهد جديد، إلى تخويف من المفاجأة بالعذاب، وإلى تصوير علم الله الشامل الذي لا يندّ عنه شيء، إلى بعض آيات الله في الكون، إلى الإنذار بما ينتظر المفترين على الله يوم الحساب. إنها مجموعة من اللمسات العميقة الصادقة، لا تملك نفس سليمة التلقي، صحيحة الاستجابة ألّا تستجيب لها، وألّا تتذاوب الحواجز والموانع فيها، دون هذا الفيض من المؤثّرات المستمدة من الحقائق الواقعة، ومن فطرة الكون وفطرة النفس، وطبائع الوجود. لقد كان الكفّار صادقين في إحساسهم بخطر القرآن على صفوفهم، وهم يتناهون عن الاستماع إليه، خيفة أن يجرفهم بتأثيره ويزلزل قلوبهم، وهم يريدون أن يظلوا على الشرك صامدين. وإن سورة واحدة كهذه، أو بعض سورة، لتحمل من المؤثرات النفسية والعقلية، ما لا يحمله جمع كبير من قوى الشرك والانحراف والفسوق. لقد أخذ القرآن على النفوس كل مسلك، ليسير بها نحو الإيمان، وساق إليها أدلّة محسوسة ملموسة حيث يقول سبحانه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الآية 31] . من المطر الذي يحيي الأرض وينبت الزرع ومن طعام الأرض ونباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها فمن سطح الأرض أرزاق، ومن أعماقها أرزاق، ومن أشعة الشمس أرزاق، ومن ضوء القمر أرزاق، حتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق. أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [الآية 31] . يهبهما القدرة على أداء وظائفهما أو يحرمهما، ويصحّحهما أو يمرضهما ويصرفهما إلى العمل أو يلهيهما. وإن تركيب العين وأعصابها، وكيفية إدراكها للمرئيات، أو تركيب الأذن وأجزائها، وطريقة إدراكها للذبذبات، لعالم وحده يدير الرؤوس عند ما يقاس هذا الجهاز أو ذاك، إلى أدق الأجهزة التي يعدّها الناس، من معجزات العلم الحديث. وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [الآية 31] .

الدرس الثالث: قصص الأنبياء

أي النور من الظلام، والظلام من النور والنهار من الليل، والليل من النهار والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والنبتة من الحبة، والحبة من النبتة والفرخ من البيضة، والبيضة من الفرخ ... إلى آخر هذه المشاهدات العجيبة، وإلّا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة؟ وأين كان يكمن العود، وأين كانت الجذور والساق والأوراق؟. وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ كله في هذا الذي ذكر، وفي سواه من شؤون الكون وشؤون البشر؟ من يدبّر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق؟ ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر. فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) . أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ، الذي يدبّر الأمر كله في هذا وفي سواه. فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ [الآية 32] . هو سبحانه صاحب الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين. الدرس الثالث: قصص الأنبياء اشتملت الآيات (71- 93) من سورة يونس على ذكر طرف من قصة نوح (ع) مع قومه وقصة موسى (ع) مع فرعون وملئه. وقد تحقق فيهما عاقبة المكذّبين، وهلاك المخالفين لأوامر الله وهدى رسله، والقصص في القرآن يجيء في السياق ليؤدي وظيفة فيه، ويتكرّر القصص في المواضع المختلفة بأساليب تتفق مع مواضعه من السياق والحلقات التي تعرض منه في موضع تفي بحاجة ذلك الموضع. وتلاحظ فيما عرض من قصتي نوح وموسى (ع) هنا، وفي طريقة العرض، مناسبة ذلك لموقف المشركين في مكّة من النبي (ص) والقلة المؤمنة معه، واعتزاز هذه القلة المؤمنة بإيمانها في وجه الكثرة والقوة والسلطان، كما تلحظ المناسبة الواضحة بين القصص والتعقيبات التي تتخلله وتتلوه. قصة نوح بدأت قصة نوح (ع) من الحلقة الأخيرة، حلقة التحدي الأخير بعد الإنذار الطويل والتذكير والتكذيب،

ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة ولا من ركب فيها ولا الطوفان ولا التفصيلات الواردة في سور أخرى. لأن الهدف هنا هو إبراز التحدي الذي واجه نوحا (ع) من قومه، واستعانته بالله تعالى، ونجاته ومن معه وهم قلة، وهلاك المكذبين له وهم كثرة وقوة. لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة التي يقصها إلى حلقة واحدة، ويختصر تفصيلات الحلقة الواحدة إلى نتائجها الأخيرة وهي نجاة نوح (ع) ومن آمن معه في السفينة واستخلافهم في الأرض على قلّتهم، وإغراق المكذبين على قوّتهم وكثرتهم. قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) . وأما قصة موسى (ع) ، فيبدأه السياق من مرحلة التكذيب والتحدي، وينهيها عند غرق فرعون وجنوده، وإذا كانت قصة نوح (ع) قد ذكرت في أربع آيات فقط، هي الآيات [71- 74] من سورة يونس، فإن قصة موسى (ع) قد ذكرت على نطاق أوسع خلال ثماني عشرة آية، هي الآيات [75- 93] . وقد ألمّت قصة موسى بالمواقف ذات الشبه، بموقف المشركين في مكة من الرسول (ص) وموقف القلّة المؤمنة التي معه. وهذه الحلقة المعروضة هنا من قصة موسى (ع) ، مقسّمة إلى ثلاثة مواقف يليها تعقيب يتضمّن العبرة من عرضها في هذه السورة، على النحو الذي عرضت به. وهذه المواقف الثلاثة تتابع في السياق على هذا النحو: أولا: وصول موسى (ع) إلى فرعون ومعه آيات تسع ذكرت في سورة الأعراف، ولكنها لم تذكر في سورة يونس، ولم تفصّل لأن السياق لا يقتضيها، والإجمال في هذا الموضع يغني، والمهم هو تلقي فرعون وملئه لآيات الله، لقد استقبلوها بالظلم والاستكبار قال تعالى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) ادّعى فرعون أن معجزة موسى سحر ظاهر، وجمع له كبار السحرة، وأرادوا أن يغرقوا الجماهير في صراع السحر،

بأن تعقد حلقة للسحر يتحدّون بها موسى، وما معه من آيات، تشبه السحر في ظاهرها، ليخرجوا منها في النهاية بأن موسى ليس إلا ساحرا ماهرا. والموقف الثاني موقف المبارزة بين السحرة وموسى (ع) ، فقد ألقى السحرة حبالهم وعصيّهم، وتحركت الحبال والعصيّ فبهرت جميع الناس وأرهبتهم، ثم ألقى موسى عصاه في الأرض، فانقلبت حية هائلة لها شفتان طويلتان، شفة في الأرض تبتلع جميع الحبال والعصيّ التي ألقاها السحرة، وشفة مرفوعة إلى أعلى. ثم أمسك موسى (ع) بعصاه فعادت كما كانت، وبطل السحر وعلا صوت الحق. ولكن السياق يختصر المشاهد هنا لأنها ليست مقصودة في هذا المجال، ويسدل الستار ليرفع على موسى (ع) ومن آمن معه وهم قليل، وهذه إحدى عبر القصة المقصودة: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [الآية 83] . وفي هذا الموضع تفيد الآيات، أن الذين أظهروا إيمانهم وانضمامهم إلى موسى (ع) من بني إسرائيل، كانوا هم الفتيان الصغار لا مجموعة الشعب الإسرائيلي، وأنهم تعرضوا للارهاب من فرعون، ولكن موسى ثبّتهم على الإيمان، ودعا موسى ربه أن ينجي المؤمنين، وأن يهلك الكافرين، فاستجاب الله دعاءه، وجاء الموقف الحاسم. والمشهد الثالث والأخير في قصة التحدي والتكذيب، هو غرق الطغاة الظالمين، ونجاة من آمن بالمرسلين.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"يونس"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «يونس» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة يونس بعد سورة الإسراء، وكان الإسراء قبل الهجرة بسنة، فتكون سورة يونس من السّور التي نزلت بين الإسراء والهجرة. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لذكر قصة يونس (ع) فيها، وتبلغ آياتها تسعا ومائة آية. الغرض منها وترتيبها يقصد من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن، وهي في هذا تنقسم إلى أربعة أقسام: أولها في إبطال شبههم عليه، وثانيها في تحديهم به، وثالثها في دعوتهم إلى تصديقه بطريق الترغيب والترهيب، ورابعها في خاتمة تناسب مقام هذه السورة. وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة التوبة لأنها ختمت كما سبق بترغيبهم في الإيمان برسول جاءهم من أنفسهم، وقد ابتدأت هذه السورة بإنكار تعجّبهم من أن يوحى إلى رجل منهم، وهذا إلى أن هذه السورة أولى السّور المئين، وهي التي تأتي في الترتيب بعد السبع الطوال. إبطال شبههم على القرآن الآيات [1- 36] قال تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) فأقسم بهذه الحروف أن ما أنزله هو آيات الكتاب الحكيم، ثم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز. المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

ذكر شبهتهم الأولى على تنزيله، وهي استنكارهم أن ينزل على رجل منهم، لينذرهم بما جاء فيه من البعث والعقاب والثواب، وزعمهم أن هذا سحر باطل لا حقيقة له ثم أجابهم بإثبات قدرته على بعثهم وعقابهم وثوابهم، فذكر، سبحانه، أنه هو ربهم الذي خلق السماوات والأرض ثم استوى على العرش يدبر أمره وحده، ولا يشفع أحد عنده إلّا بإذنه ولا بدّ من رجوعنا إليه ليجزي المؤمنين بالقسط، ويعاقب الكافرين على كفرهم ثم ذكر أنه هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدّره منازل لنعلم عدد السنين والحساب، وأن في اختلاف الليل والنهار، وما خلقه في السماوات والأرض لآيات لقوم يتّقون. ثم أوعد الذين لا يؤمنون بلقائه بأن مأواهم النار، ووعد المؤمنين جنات تجري من تحتها الأنهار في جنات النعيم دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) . ثم ذكر، جلّ شأنه، أنه لو يعجّل لهم العقاب في الدنيا، كما يعجل لهم الخير فيها، لعجل بهلاكهم، ولكنه لم يرد هذا ليذرهم في طغيانهم يعمهون. ويكون عقابهم، بعد إمهالهم، قطع عذرهم ثم ذكر أنه إذا مس الإنسان ضرّ، من جنس ما ينذر به دعاه إلى كشفه، فإذا كشفه عنه، عاد إلى كفره ونسي دعاءه له، ليثبت بهذا أن تعجيل العذاب لهم لا يؤثّر فيهم ثم ذكر أنه قد عجل العذاب لمن كفر قبلهم، فلم يؤمنوا وأصرّوا على كفرهم، وأنه جعلهم خلائف في الأرض، من بعدهم، لينظر كيف يعملون. ثم ذكر تعالى شبهتهم الثانية على تنزيل القرآن، وهي أنهم إذا تتلى عليهم آياته، يطلبون أن يأتيهم بقرآن غير هذا، أو يبدله لهم، ثم أمره أن يجيبهم بأنه لا يمكنه أن يفعل ذلك من نفسه، لأنه لا يتّبع إلّا ما يوحى إليه، ويخاف عذاب يوم عظيم إن عصى ربه، وبأنه قد لبث فيهم عمرا من قبله، لا يتلو عليهم كتابا ولا يجلس إلى معلّم، فلا يمكن أن يكون هذا القرآن منه ثم ذكر أنه لا يوجد أظلم ممّن افترى عليه كذبا أو كذّب بآياته كما يفعلون، وأوعدهم على هذا، بأنهم لا يفلحون ثم ذكر أنهم يعبدون ما لا يضرّهم ولا ينفعهم، ويزعمون أنهم شفعاؤهم عنده،

فيمنعون ما يوعدون به من ذلك، وأمره أن يجيبهم بأنهم يخبرونه بشفعاء لا يعلمها في السماوات ولا في الأرض وذكر أن الناس كانوا أمة واحدة على التوحيد، فاختلفوا فيه بعد اتفاقهم وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) . ثم ذكر شبهتهم الثالثة على تنزيل القرآن، وهي طلبهم آية عذاب تدل على تنزيله، ثم أمره أن يجيبهم بأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلّا هو، وأمرهم أن ينتظروه لأنه ينتظره ولا يشك في وقوعه ثم ذكر أنه إذا آتاهم بآية عذاب، ثم أذاقهم رحمة بعدها، مكروا فيها ولم يؤمنوا بها، فهكذا يكون حالهم إذا أجيبوا إلى ما طلبوه منها، وهدّدهم على ذلك بأنه أسرع مكرا منهم. وبأن رسله يكتبون ما يمكرون ليحاسبهم عليه ثم ضرب لهم مثلا على مكرهم في هذا، فذكر أنه هو الذي يسيّرهم في البر والبحر، حتّى إذا كانوا في الفلك، وجرت بريح طيّبة، وفرحوا بها، جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموج من كل مكان، وظنّوا أنهم أحيط بهم دعوه مخلصين لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فلما أنجاهم عادوا إلى بغيهم ونسوا دعاءهم له ثم ذكر أن بغيهم لا يعود إلا على أنفسهم، وأنهم يتمتعون به في هذه الحياة ثم إليه مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون، ثم ضرب لهم مثلا في شأن هذه الدنيا التي يبغون فيها وينسون الآخرة معها فذكر أن مثلها كماء أنزله من السماء فاختلط به نبات الأرض، حتى إذا أخذت به زخرفها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها [الآية 24] ، أتاها أمره ليلا أو نهارا فجعلها حصيدا كأن لم تكن بالأمس ثم ذكر أنه يدعو إلى دار السلام التي لا يزول نعيمها كما يزول نعيم الدنيا، وأنه يهدي من يشاء إلى طريق يوصل إليها، وأن للذين أحسنوا في دنياهم الحسنى في تلك الدار وزيادة، والذين كسبوا السيئات جزاؤهم سيئة فيها بمثل سيئاتهم ثم أمره أن يذكر لهم يوم يحشرهم جميعا، ثم يأمرهم أن يلزموا مكانهم هم وشركاؤهم، فيقطع بينهم ويتبرأ شركاؤهم من عبادتهم، ويشهدون الله على أنهم كانوا عنها غافلين ثم ذكر أنه هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت، ويردّون إليه وحده، ويضل عنهم آلهتهم.

تحديهم بالقرآن الآيات [37 - 56]

ثم أمره أن يسألهم من يرزقهم من السماء والأرض؟ ومن يملك السمع والبصر؟ ومن يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحي؟ ومن يدبّر الأمر؟ وذكر أنهم سيقولون الله، وأنه يجب عليهم حينئذ أن يتّقوه، وأن من يكون هذا شأنه يكون ربّهم الحق، وأنه ليس بعد الحق إلّا الضلال فإنّى يصرفون ثم أمره أن يسألهم هل من شركائهم من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ وأن يجيب عنهم بأنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده فإنّى يؤفكون، ثم أمره أن يسألهم هل من شركائهم من يهدي إلى الحق؟ وأن يجيب عنهم بأنه سبحانه هو الذي يهدي للحق، وحينئذ يكون هو الأحق بأنّ يتّبع ممّن لا يهدي إلّا أن يهدى فما لهم كيف يحكمون وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) . تحديهم بالقرآن الآيات [37- 56] ثم قال تعالى: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) فانتقل من إبطال شبههم على القرآن إلى تحدّيهم به، وذكر أنه ما كان أن يفترى من دونه، ولكنه تصديق لما قبله من الكتاب وتفصيل له، وأنه لا ريب في تنزيله من عنده، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة مثله، وأن يدعوا من استطاعوا من دونه ليساعدهم على الإتيان به ثم ذكر أنهم يكذبون به من غير أن يحيطوا بعلمه، ومن قبل أن يأتيهم تأويله، فكذّبوا به جهلا وعنادا، كما كذّب الذين من قبلهم ثم ذكر أن منهم من يؤمن به وينكره عنادا، ومنهم من لا يؤمن به جهلا، وأنه أعلم بهم ومجازيهم على كفرهم، ثم أمره إن كذّبوه بعد تحديهم وعجزهم أن يتركهم ولا يطمع في إيمانهم، لأن منهم من يستمعون إليه فلا يسمعون، ولا يمكنه أن يسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون، ومنهم من ينظر إليه فلا ينظر، ولا يمكنه أن يهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ثم ذكر أنه لم يظلمهم بهذا، ولكن أنفسهم يظلمون. ثم أتبع ذلك بوعيدهم، فذكر، سبحانه، أنه يوم يحشرهم يكون حالهم كحال من لم يلبث إلا ساعة من النهار في الدنيا، لأنهم لم ينتفعوا بما مكثوه

دعوتهم إلى تصديق القرآن بالترغيب والترهيب الآيات [57 - 98]

فيها، وأنهم يتعارفون بينهم ليوبّخ بعضهم بعضا ثم ذكر أنه إما يرينّه بعض الذي يعدهم من العذاب في الدنيا، أو يتوفينّه قبل أن يريه له، فإليه، تعالى، مرجعهم ثم هو شهيد على ما يفعلون، وأن لكل أمة رسولا لا تعذب قبله: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) . ثم ذكر أنهم سألوا مستهزئين: متى هذا الوعد بالعذاب؟ وأمر النبي (ص) أن يجيبهم بأن أمر ذلك مفوض إليه، جل جلاله، وحده، لأنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا، ولكل أمة أجل لا تتأخّر عنه ولا تتقدّم، وبأن يسألهم عن فائدتهم في استعجال هذا العذاب، لأنهم إذا آمنوا عند وقوعه يكون إيمانهم بطريق الإلجاء ولا ينفعهم، ثم يقال لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) . ثم ذكر أنهم سألوه عن ذلك العذاب مرة أخرى: أحقّ هو؟ وأمره أن يجيبهم بأنه حق، وأنهم لا يعجزونه إذا أراد عذابهم، وأنه إذا أتاهم وكان لهم ملك ما في الأرض لافتدوا به ثم ذكر أن له، سبحانه، ما في السماوات والأرض، دليلا على قدرته على تحقيق وعيده لهم، ولكن أكثرهم لا يعلم هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) . دعوتهم إلى تصديق القرآن بالترغيب والترهيب الآيات [57- 98] ثم قال تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) فذكر أنه موعظة منه وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين وأمرهم أن يفرحوا بفضله عليهم به، لأنه خير مما يجمعون، ثم أمرهم أن يخبروه عمّا رزقهم به، فجعلوا منه حراما وحلالا، أكان بإذنه أم كان افتراء عليه؟ ليبيّن حاجتهم إلى هدايته وذكر أنه إذا كان افتراء عليه، فما يكون جزاؤهم عليه يوم القيامة؟ وأنه ذو فضل عليهم بإنزاله هذا القرآن، الذي يبيّن لهم حرامه وحلاله، ولكنّ أكثرهم لا يشكرون، ثم أخذ في وعد النبي (ص) والمؤمنين على الإيمان بما أنزله إليهم، فذكر أنه ما يكون في شأن وما يتلو منه من قرآن إلا كان شاهدا عليهم، وأن كل صغيرة وكبيرة ثابتة عنده في كتاب مبين ثم

ذكر أن أولياءه منهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) . ثم نهى النبي (ص) أن يحزن لتكذيبهم لما أنزل عليه، لأن العزة له وحده، جلّت قدرته، وهو يسمع ويعلم تكذيبهم، وله من في السماوات ومن في الأرض، وما يتبعون من دونه شركاء فيه، وإنما يظنون أنهم شركاء من غير أن يكون لهم دليل عليه ثم ذكر أنه سبحانه، هو الذي جعل الليل سكنا والنهار مبصرا، وأن في هذا آية لمن يسمع على أنه لا شريك له، وأنهم زعموا أنّه اتّخذ ولدا يشاركه في ملكه، وأبطل هذا بأنه هو الغنيّ الذي له ما في السماوات وما في الأرض، فلا يشاركه فيه ولد ولا غيره ثم أمر النبي (ص) أن يخبرهم بأن الذين يفترون عليه الكذب من الولد وغيره لا يفلحون مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) . ثم أخذ السياق في ترهيبهم بما حصل للمكذبين قبلهم، فأمر تعالى النبي (ص) أن يتلو عليهم نبأ نوح (ع) وما حصل لقومه من هلاكهم بالطوفان، وقد سبقت قصتهم في سورة الأعراف، ولكن ما هنا يخالف ما هناك في السياق والأسلوب والزيادة والنقص ثم ذكر أنه بعث من بعده رسلا إلى قومهم، فجاؤوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل، وأنه كذلك يطبع على قلوب المعتدين ثم ذكر أنه بعث من بعدهم موسى وهارون، إلى فرعون وقومه، وأنهم لم يؤمنوا به فأغرقهم في البحر، وقد سبقت هذه القصة في سورة الأعراف أيضا، ولكن ما هنا يخالف ما هناك في السياق والأسلوب والزيادة والنقص، وقد ختمت هنا بأنه، سبحانه، بوّأ بني إسرائيل مبوّأ صدق من الأرض المقدسة، بعد أن نجّاهم من فرعون وقومه وذكر أنهم لم يختلفوا في دينهم حتى جاءهم العلم، وأنه، جلّ جلاله، يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. ثم أمر النبي (ص) على سبيل التعريض إن كان في شكّ من هذا القصص أن يسأل أهل الكتاب عنه، ونهاه أن يكون من الذين يكذّبون بآياته ثم ذكر أن الذين حقت عليهم كلمته من الأوّلين لا يؤمنون ولو

الخاتمة الآيات [99 - 109]

جاءتهم كل آية حتى يروا عذابه، وأنه كان عليهم أن يؤمنوا لينفعهم إيمانهم، ثم استثنى منهم قوم يونس (ع) لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) . الخاتمة الآيات [99- 109] ثم قال تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) فذكر للنبي (ص) أنه لو شاء، سبحانه، لآمن بما أنزل إليه من في الأرض جميعا، وأنه لا يصحّ أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، ثم أمرهم أن ينظروا في آياته في السماوات والأرض ليؤمنوا بالنظر فيها وذكر أن هذا لا يغني عنهم لأنهم لا يريدون الإيمان، وإنما ينتظرون مثل أيام العذاب التي أهلك فيها الأولين، ثم نجّى رسله والذين آمنوا معهم، ثم أمره إن استمروا بعد هذا على شكهم في دينه، أن يخبرهم بأنه لا يعبد ما يعبدون من دونه، ولكن يعبد الذين يتوفّاهم، وبأنه أمر أن يكون من المؤمنين، وأن يقيم وجهه للدين حنيفا ولا يكونّن من المشركين ثم نهاه أن يدعو من دونه ما لا ينفعه ولا يضرّه، وذكر له أنه إن يمسسه بضرّ فلا كاشف له إلا هو، وإن يرده بخير فلا رادّ له، ثم أمره أن يذكر لهم أنه قد جاءهم الحق (القرآن) منه، وأنّ من اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فعليها، وأنه ليس عليهم بوكيل وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"يونس"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «يونس» «1» أقول: قد عرف وجه مناسبتها فيما تقدم في سورة الأنفال. ونزيد هنا: أن مطلعها شبيه بمطلع سورة الأعراف، وأنه سبحانه قال فيها: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا [الآية 2] فقدّم الإنذار وعمّمه، وأخّر البشارة وخصّصها. وقال تعالى في مطلع الأعراف: لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) . فخص الذكرى وأخّرها، وقدّم الإنذار، وحذف مفعوله ليعمّ. وقال هنا: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الآية 3] . وقال في الأوائل، أي أوائل الأعراف مثل ذلك «2» . وقال هنا: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [الآية 3] . وقال هناك: مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف/ 54] . وأيضا فقد ذكرت قصة فرعون وقومه في الأعراف، فاختصر ذكر عذابهم، وبسط في هذه السورة أبلغ بسط «3» . فهي شارحة لما أجمل في سورة الأعراف منه.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. [.....] (2) . وذلك في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الأعراف/ 54] . (3) . في عذاب فرعون قال تعالى في الأعراف: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) . وقال في يونس: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ الى فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [الآيات 90- 91] .

المبحث الرابع مكنونات سورة"يونس"

المبحث الرابع مكنونات سورة «يونس» «1» 1- قَدَمَ صِدْقٍ [الآية 2] . قال مقاتل: هو محمد شفيع صدق. أخرجه ابن أبي حاتم 2- فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ [الآية 16] . قال قتادة: أربعين سنة. أخرجه ابن أبي حاتم. 3- بِمِصْرَ بُيُوتاً [الآية 87] . قال مجاهد: بمصر الإسكندرية. أخرجه ابن أبي حاتم «2» . 4- مُبَوَّأَ صِدْقٍ [الآية 93] . قال قتادة: بالشام. أخرجه ابن المنذر «3» . 5- إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [الآية 83] . قيل: الضمير لفرعون. و (الذّريّة) : مؤمن آل فرعون، وامرأة فرعون، وخازنه «4» . وامرأة خازنه. 6- إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [الآية 98] . هم أهل قرية «نينوى» بشاطئ دجلة من بلاد الموصل. أخرجه ابن أبي حاتم عن السّدّيّ وغيره.

_ (1) . انتقى هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . الطبري 11/ 68. (3) . الطبري 11/ 107. (4) . 11/ 114.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"يونس"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «يونس» «1» 1- وقال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الآية 2] . المراد بقوله تعالى: قَدَمَ صِدْقٍ السابقة والفضل والمنزلة الرفيعة، وقد سمّيت السابقة «قدما» ، لأن السعي والسّبق بالقدم، كما سمّيت النّعمة يدا، لأنها تعطى باليد، وباعا لأن صاحبها يبوع بها، فقيل: لفلان قدم في الخير. وإضافته إلى صِدْقٍ دلالة على زيادة فضل، وأنه من السّوابق العظيمة، وقيل: مقام صدق. 2- وقال تعالى: قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [الآية 15] . أراد تعالى بقوله: ما يَكُونُ لِي، ما يتسهّل لي، وما يمكنني أن أبدّله. أقول: وهذا من معاني الفعل «كان» ، وهي التامّة غير الناقصة، التي تنصرف إلى معان عدّة. وقوله تعالى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى تشتمل على «إن» النافية، وهذا يدعونا إلى أن نقف على هذه الأداة النافية قليلا. قال النحاة في باب «ليس» وعملها: إنّ النافيات: «ما» ، و «لا» ، و «لات» و «إن» ، تعمل عمل «ليس» . تعمل عمل «ليس» . فأما «إن» النافية فمذهب البصريين والفرّاء أنّها لا تعمل شيئا، ومذهب الكوفيين، خلا الفرّاء، أنها تعمل عمل «ليس» ، وقال به من البصريّين أبو العباس المبرّد، وأبو

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السّامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.

بكر بن السّرّاج، وأبو عليّ الفارسي، وأبو الفتح بن جني. واستشهدوا مع ذلك بقول الشاعر: إن هو مستوليا على أحد إلّا على أضعف المجانين وقال آخر: إن المرء ميتا بانقضاء حياته ولكن بأن يبغى عليه فيخذلا وذكر ابن جني في «المحتسب» أنّ سعيد بن جبير، رضي الله عنه، قرأ: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) [الأعراف/ 194] . أقول: لا أريد أن أناقش عمل «إن» فتلك مسألة ضعيفة يعوزها الشاهد الآية، والشاهد الشعري الصحيح، ذلك بأن قراءة سعيد بن جبير قراءة خاصة، والقراءات الكثيرة تجمع على: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ «1» . فليس في الآية «إن» النافية، بل هي «إنّ» المشبهة بالفعل للتوكيد، المشدّدة النون، وعلى هذا ليس في آي القرآن «إن» النافية التي تعمل عمل «ليس» . أما البيتان اللذان ادّعي أنهما شاهدان في «إن» النافية العاملة، فهما بيتان يتيمان لا يعرف لهما قائل. ومجموع هذه الشواهد، على ضعفها، يشير إلى أن الأداة غير عاملة على النحو الذي أرادوا. غير أنّ «إن» النافية قد وجدت في آيات القرآن داخلة على الجملة اسمية وفعلية تنفيهما، ولكن النفي، في جميع الشواهد الآيات، منتقض ب «إلّا» . أقول: ولولا «إلا» هذه، لكان السامع والقارئ في حيرة وإشكال من أمر هذه الأداة النافية «إن» ، لأن هذه الأداة على عدة أحوال فهي شرطية، وهي مخففة وهي زائدة. غير أن وجود «إلّا» جعل القارئ والسامع يدرك أنها نافية، ودونك طائفة من الآيات التي وردت فيها «إن» النافية: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) [الأنفال] . إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الأنفال/ 34] .

_ (1) . وعليها رسم المصحف الشريف.

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام/ 116] . إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النجم/ 28] . إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) [يس] . وغيرها كثير. ومثل هذه الشواهد قد نجدها في كلام العرب وهي قليلة «1» . 3- وقال تعالى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا [الآية 21] . جواب (إذا) الشرطية الأولى هو (إذا) الثانية التي تفيد المفاجأة، وإنما جعل «إذا» جوابا لكونها بعض الجملة لما فيها من معنى المفاجأة، وهي ظرف مكان، وهو كقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) [الروم] . ومعناه: وإن تصبهم سيّئة قنطوا. ومعنى الآية المتقدمة: وإذا أذقنا الناس رحمة.... مكروا. 4- وقال تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ [الآية 22] . في هذه الآية ابتداء خطاب وبعد ذلك إخبار عن غائب، لأنّ كلّ من أقام يخاطبه جاز له أن يردّه إلى الغائب، قال كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة إن تفلّت وقال عنترة: شطّت مزار العاشقين فأصبحت ... عسرا عليّ طلابك ابنة مخرم وقوله تعالى: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ [الآية 23] . المعنى: فلما أنجاهم بغوا «2» . أقول: ومثل هذا الانتقال من الخطاب إلى الغيبة معروف في لغة التنزيل، وهو غرض ترمي إليه لغة العرب في غير القرآن من كلامهم. 5- وقال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ [الآية 26] .

_ (1) . فاتنا أن نشير إلى قوله تعالى: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ [يونس/ 68] . والمعنى: ما عندكم من سلطان، وفي هذه الآية وردت «إن» النافية، ولم ينتقض نفيها ب «إلا» . (2) . «مجمع البيان» للطبرسي 10/ 101.

وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ أي: لا يغشى وجوههم غبرة فيها سواد، أي: لا يرهقهم ما يرهق أهل النار إذكارا بما ينقذهم منه برحمته. والفعل «رهق يرهق» ، قد جاء في أربع آيات أخرى بهذا المعنى، ومنها: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) [عبس] . أقول: وليس لنا في العربية المعاصرة إلا الفعل المزيد «أرهق» ، بمعنى «عذّب» و «آذى» و «حمّله ما لا يطيق» . على أن الفعل المزيد قد جاء في ثلاث آيات منها: وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) [الكهف] . كما ورد «الرّهق» في آيتين من سورة الجن منهما: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) [الجن] . أي: زادوهم إثما وغيّا. ولا بد أن نشير إلى الفعل «كان» الذي يعني «وجد» فهو مكتف بمرفوعه. 6- وقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ [الآية 28] . قوله تعالى: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي: ففرّقنا بينهم وقطعنا أقرانهم، والوصل التي كانت بينهم في الدنيا، أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف «1» . وقال الفرّاء: هي ليست من «زلت» بالضم، وإنما هي من «زلت» بالكسر وزلت الشيء فأنا أزيله إذا فرّقت ذا من ذا، وأبنت ذا من ذا، وقال فزيّلنا لكثرة الفعل، ولو قلّ لقلت: زل ذا من ذا. وقرأ بعضهم: (فزايلنا) وهو مثل قولك: لا تصعّر ولا تصاعر. وقال تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا [الفتح/ 25] . يقول: لو تميّزوا. أقول: وهذه بعض الذخائر اللغوية التي حفظها القرآن، ولولا ذلك لعفا الأثر وضاعت فرائد. 7- وقال تعالى:

_ (1) . «الكشاف» : 2/ 343.

إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) . قال الزمخشري «1» : إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً، أي: لا ينقصهم شيئا مما يتصل بمصالحهم من بعثة الرسل وإنزال الكتب، ولكنهم يظلمون أنفسهم بالكفر والتكذيب. أقول: هكذا درج المفسرون عامة على تفسير الظلم في هذه الآية، بمعنى نقصهم حسناتهم. وقد يكون «نقص الحسنات والمصالح» ظلما، ولكني أقول: المراد، والله أعلم، أنهم لم يظلموا شيئا، أي: ما كان قليلا جدا. وأنا إن أذهب إلى هذا فدليلي ما يمكن أن يوحي به استعمال لفظ «شيء» في طائفة من آي الذكر الحكيم. قال تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ [البقرة/ 113] . عَلى شَيْءٍ أي: على شيء يصح ويعتدّ به. وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ [البقرة/ 155] . بِشَيْءٍ بقليل من كل واحد من هذه البلايا، وطرف منه. وقال تعالى: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران/ 154] . يقول الكافرون بعضهم لبعض هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب، قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار، أي: أنطمع أن يكون لنا الغلبة على هؤلاء، أي: ليس لنا من ذلك شيء. أقول: والقلّة المتضمنة في «شيء» ، يعضدها التنكير، وزيادة «من» الجارة قبلها. ومثل هذه الآية قوله تعالى: وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النساء/ 113] . والمعنى: لا يضرّونك بكيدهم ومكرهم شيئا، فإن الله حافظك وناصرك.

_ (1) . «الكشاف» 2/ 349.

وقال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام/ 38] . أي: ما تركنا، وقيل: معناه ما قصرنا، وقوله تعالى: مِنْ شَيْءٍ أي: مهما كان قليلا بدلالة التنكير. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام/ 159] . هذا خطاب للنبيّ (ص) وإعلام له أنه ليس منهم في شيء، وأنه على المباعدة التامة، من أن يجتمع معهم في معنى من مذاهبهم الفاسدة. وليس خافيا دلالة «الشيء» على القلة في هذه الآية. وقال تعالى: وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً [هود/ 57] . أي: ولا تضرّونه بتولّيكم شيئا من ضرر مّا، لأنه لا يجوز عليه المضار والمنافع، وإنما تضرّون أنفسكم. وقال تعالى: ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يوسف/ 38] . أي: ما صحّ لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله أيّ شيء كان من ملك، أو جنّيّ، أو إنسيّ، فضلا عن أن نشرك به صنما لا يسمع ولا يبصر. وقد بقي من معنى «شيء» في إفادة القلة والصغر الكثير في نثر الأدباء وشعرهم طوال العصور إلى عصرنا هذا، وقد نجد من ذلك شيئا في اللهجات الدارجة. وقد يتضح هذا المعنى من القلة أن كلمة «شيء» تأتي كثيرا بعد النفي لتؤكد النفي وهي منكّرة. يقال: لا أعرف شيئا ولا أملك من شيء، وما يغنيني عن ذلك من شيء، والله أعلم بما أراد. 8- وقال تعالى: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [الآية 61] . وَما يَعْزُبُ (قرئ بالضمّ والكسر، أي: وما يبعد وما يغيب. وفي الحديث: أنهم كانوا في سفر مع النبي (ص) فسمع مناديا، فقال: انظروه تجدوه معزبا أو مكلئا. وهو الذي عزب في إبله أي: غاب. والعازب من الكلأ: البعيد المطلب، والمعزب: طالب الكلأ البعيد. والعزيب المال العازب عن الحيّ. أقول: أراد ب «المال» الإبل وسائر الماشية.

ومن المفيد أن أشير أن «العزيب» بهذا المعنى ما زالت معروفة لدى الرعاة في عصرنا. 9- وقال تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) . في هذه الآية وردت (إن) النافية مرتين، وكنا قد بسطنا القول فيها. وقوله تعالى: يَخْرُصُونَ (66) ، أي: يحزرون ويقدّرون أن تكون شركاء تقديرا باطلا. ومن المفيد أن نبسط القول في الفعل «خرص» ، الذي كاد أن يطوى خبره في العربية المعاصرة، لولا ما نسمع قليلا من استعمالهم «تخرّص» بمعنى ابتدع الكذب والأوهام، وهي مثل ذلك في فصيح العربية كما في قوله تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) [الذاريات] . قال الزجاج: هم الكذّابون. وتخرّص فلان على الباطل واخترصه، أي افتعله. والفعل (يخرصون) في الآية بمعنى الحزر، ولأنه من الذين يتّبعون الظن فهو أقرب إلى الوهم والباطل. ولنعد إلى «الخرص» أيضا فنقول: وأصل الخرص: التظنّي فيما لا تستيقنه، ومنه خرص النخل والكرم، إذا حزرت التّمر لأنّ الحزر إنّما هو تقدير بظنّ لا إحاطة، والاسم الخرص، بالكسر، ومن هنا قيل للكذب خرص، لما يدخله من الظنون الكاذبة. وقد خرصت النخل والكرم أخرصه خرصا، إذا حزرت ما عليها من الرطب تمرا، ومن العنب زبيبا. وفي الحديث عن النبي (ص) أنه أمر بالخرص في النخل والكرم خاصة دون الزرع القائم، وذلك لأن ثمارها ظاهرة. أقول: وما زال «الخرص» معروفا لتقدير ما على النخل من تمر لدى أهل البساتين في جنوبي العراق. والذي نلاحظه أن مجموع ما يتصل بهذه اللفظة هو من العامي الدارج تقريبا، ولا نعرفه في الفصيحة المعاصرة. 10- وقال تعالى: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [الآية 78] . أقول: والمراد بقوله تعالى: لِتَلْفِتَنا لتصرفنا. وأكثر من «لفت» استعمالا «التفت» وتلفّت المزيدان.

قال تعالى: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ [هود/ 81] . وفي الحديث في صفته (ص) : فإذا التفت التفت جميعا، أراد أنه لا يسارق النظر. وفي الحديث أيضا: «إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يلفت الكلام كما تلفت البقرة الخلى «1» بلسانها» . أقول: إن ما في الحديث يذكّر بأقوال المعاصرين مما ولّدوه متأثرين باللغات الغربية الأعجمية وهو قولهم: اللّف والدوران، وفلان يلف ويدور أي: لا يفصح ويعمّي عن قصد، وهي صفة تقرب من الاحتيال والخداع. ويقولون في العربية المعاصرة: وهذا يلفت النظر، من «ألفت» وهو رباعيّ مولّد لا تعرفه الفصيحة. وقولهم: «ألفت النظر» ، وهو ملفت للنظر في العربية المعاصرة، جديد من المجازات التي جدّت في العربية، والأصل فيها نقل ما في اللغات الأعجمية. ومن المفيد أن نقف قليلا على مادة «لفت» ، لندرك سعة العربية التي جاءت بالفرائد من هذا الأصل القديم. قالوا: واللّفوت من النساء: التي تكثر التلفّت، وقيل: هي التي يموت زوجها أو يطلّقها ويدع عليها صبيانا، فهي تكثر التلفّت إلى صبيانها. وقيل: هي التي لها زوج، ولها ولد من غيره، فهي تلفّت إلى ولدها. وفي الحديث: لا تتزوّجنّ لفوتا، وهي التي لها ولد من زوج آخر، فهي لا تزال تلتفت إليه وتشتغل به عن الزوج. والألفت: القويّ اليد الذي يلفت من عالجه، أي: يلويه. والألفت والألفك في كلام تميم: الأعسر، سمّي بذلك لأنه يعمل بجانبه الأميل. وفي كلام قيس: الأحمق مثل الأعفت، والأنثى لفتاء. وفوائد أخرى قديمة أشارت إليها المعجمات. 11- وقال تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ [الآية 88] . أريد بالأمر في الآية الدعاء عليهم،

_ (1) . الخلى: الرّطب من النبات.

والمراد بالطّمس على الأموال تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها. والطّموس: الدروس والامّحاء، وطمس الطريق يطمس ويطمس طموسا: درس وامّحى أثره. وطمسته طمسا يتعدّى ولا يتعدّى، وانطمس الشيء وتطمّس: امّحى ودرس. وقال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس/ 66] . ومعناه: لأعميناهم. ويكون الطموس بمعنى المسخ، كقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً [النساء/ 47] . وكما ورد التعبير القرآنيّ: لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ في الآية السابقة، كذلك فقد ورد التعبير القرآنيّ: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ في قوله تعالى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ [القمر/ 37] . أي: مسحناها كسائر الوجه فلم ير لها شقّ، فلما تغيّر المعنى صير إلى المتعدي، ولم يأت بالخافض «على» كما في الآية. وطمس النجم ذهاب ضوئه، ومنه قوله تعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) [المرسلات] . أقول: والذي لنا من هذا الفعل في العربية المعاصرة، هو غير المتعدي «انطمس» ، لذهاب الأثر والامّحاء. ولنا في اللهجات الدارجة قول العامة: طمس الرجل، وطمس الشيء، وهو الغطس في الماء وغيره كالوحل. 12- وقال تعالى: فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) . أقول: قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعانِّ، فعل أمر مسند إلى ألف الاثنين، وحقه أن تحذف منه نون الرفع «نون الاثنين» . وهذا يعني أن النون المكسورة المشدّدة هي نون التوكيد. وقرئ بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين، كما قالوا تشبيها بنون التثنية، وقرئ بتخفيف التاء أيضا. 13- وقال تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها [الآية 98] . فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ، أي: فهلّا كانت قرية واحدة.

فمعنى (لولا) ، الحضّ فهي بمنزلة «هلّا» ، ومثلها قوله تعالى: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ [الآية 20] . 14- وقال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) . أقول: حذفت الياء من «ننج» لغرض صوتي، وذلك لأن قصر المدّ والاكتفاء بالكسر مما يتطلبه إسكان اللام في الْمُؤْمِنِينَ، ليكون بين الجيم واللام صوت قصير هو الكسرة لأن المد الطويل، أي: الياء لا يجعل الكلمتين مرتبطتين على هذا النحو من الإحكام. وإلا فليس من سبب آخر نحوي، أو ما يسمّى خط المصحف اقتضى ذلك.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"يونس"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «يونس» «1» قال تعالى: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ [الآية 2] القدم هاهنا: التقديم، كما تقول: «هؤلاء أهل القدم في الإسلام» أي: الذين قدّموا خيرا فكان لهم فيه تقديم «2» . وقال تعالى: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ [الآية 5] ثقيلة وَقَدَّرَهُ ممّا يتعدى إلى مفعولين، كأنه «وجعله منازل» . وقال تعالى: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [الآية 5] فجعل القمر هو النور كما تقول: «جعله الله خلقا» وهو «مخلوق» و «هذا الدرهم ضرب الأمير» . وهو «مضروب» . وقال جلّ شأنه: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة/ 83] فجعل الحسن هو المفعول كالخلق. وقال تعالى: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ وقد ذكر الشمس والقمر كما قال وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة/ 62] . وقال سبحانه: كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [الآية 12] وكَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً [الآية 45] وهذا في الكلام كثير وهي «كأنّ» الثقيلة ولكن أضمر فيها فخفّفت كما تخفف أنّ ويضمر فيها، وإنما هي «كأنه لم» وقال الشاعر «3» [من الخفيف وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد المائتين] :

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرخ. [.....] (2) . نقله في الصحاح «قدم» والبحر 5/ 130. (3) . هو زيد بن عمرو بن نفيل، الكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 290، والخزانة 3/ 95 واللسان «ويا» وقيل هو نبيه بن الحجاج «اللسان» أيضا.

وي كأن من يكن له نشب يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضرّ وكما قال «1» [من الهزج وهو الشاهد التاسع والعشرون بعد المائتين] : [وصدر مشرق النّحر] ... كأن ثدياه حقّان «2» أي: كأنه ثدياه حقّان. وقال بعضهم «كأن ثدييه» فخفّفها وأعملها، ولم يضمر فيها. وقال تعالى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً [الآية 19] على خبر «كان» كما إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً [يس/ 29 و 53] . أي «إن كانت تلك إلّا صيحة واحدة» . وقال تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ [الآية 9] كأن (تجري) مبتدأة منقطعة من الأوّل. وقال تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [الآية 22] ، وإنما قيل: وَجَرَيْنَ بِهِمْ لأنّ (الفلك) يكون واحدا وجماعة. قال تعالى: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) [الشعراء/ 119 ويس/ 41] وهو مذكر. وأمّا قوله جلّ شأنه حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ فجوابه قوله سبحانه: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ [الآية 22] . وأمّا قوله تعالى: دَعَوُا اللَّهَ [الآية 22] فجواب لقوله سبحانه: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [الآية 22] وإنما قال بِهِمْ وقد قال كُنْتُمْ بذكر الغائب ومخاطبته. قال الشاعر «3» [من الطويل وهو الشاهد العاشر بعد المائة] : أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة أن تقلّت وقال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الآية 23] أي: وذلك متاع الحياة الدنيا، وأراد «متاعكم متاع الحياة الدّنيا» . وقال تعالى: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ [الآية 24] أي: كمثل ماء.

_ (1) . هذا الشاهد أحد الخمسين التي لا يعرف قائلها في الكتاب. (2) . صدره احدى صور وروده في المراجع المذكورة، وهي الكتاب 1/ 281 و 283 وتحصيل عين الذهب، وشرح ابن عقيل 1/ 334، وشرح الأبيات للفارقي 252، والخزانة 4/ 358، واللسان «أنن» مرتين. (3) . هو كثير بن عبد الرحمن الخزاعي المعروف ب «كثير عزة» وقد سبق الاستشهاد بهذا الشاهد.

وقال تعالى: وَازَّيَّنَتْ [الآية 24] أي «وتزيّنت» ولكن أدغمت التاء في الزاي لقرب المخرجين، فلمّا سكن أولها زيد فيها ألف وصل، فصارت (وازّيّنت) ثقيلة «ازّيّنا» يريد المصدر وهو من «التزيّن» وإنما زيدت الألف بالإدغام حين أدغم ليصل الكلام، لأنه لا يبتدأ بساكن. وقال تعالى: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ [الآية 26] ، لأنه من «رهق» «يرهق» «رهقا» . وقال تعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [الآية 38] وهذا، والله أعلم، «على مثل سورته» وألقى «1» السورة كما قال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ( [يوسف/ 82] يريد «أهل القرية» . وقال تعالى: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها [الآية 27] وزيدت الباء، كما زيدت في قولك «بحسبك قول السوء» . وقال تعالى في قراءة من قرأ: (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) [الآية 27] فالعين «2» ساكنة لأنه ليس جماعة «القطعة» ولكنه «قطع» اسم على حياله «3» . وقرأ عامّة الناس قِطَعاً» يريدون به جماعة «القطعة» ويستند الأول إلى قوله تعالى: مُظْلِماً لأن «القطع» واحد فيكون «المظلم» من صفته. والذين قالوا «القطع» يعنون به الجمع، وقالوا نجعل مُظْلِماً حالا ل اللَّيْلِ. وقال تعالى: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ [الآية 28] في معنى «انتظروا أنتم وشركاؤكم» . وقال تعالى: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ

_ (1) . نقله في الهمع 1/ 127 والمغني 1/ 110 وشرح المفصّل لابن يعيش 8/ 139 و 2/ 115 وشرح الرضي على الكافية 292 والبحر 5/ 147 و 148. (2) . يقصد عين الكلمة في ميزانها وهو حرف الطاء. (3) . هي في الطبري 11/ 110 إلى بعض متأخري القراء وفي السبعة 325 والكشف 1/ 517، والتيسير 121 والجامع 8/ 333 والبحر 5/ 150 الى ابن كثير والكسائي. (4) . في معاني القرآن 1/ 462 أنها قراءة العامة، وكذلك نسب في الطبري 11/ 110 إلى عامة قراء الأمصار، وفي السبعة 325 إلى نافع وأبي عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة، وفي البحر 5/ 150 إلى السبعة ممن لم يأخذ بالسابقة، وإلى ابن أبي عبلة، وفي الكشف 1/ 517 والتيسير 121 إلى غير ابن كثير والكسائي. وعلى هذه القراءة رسم المصحف.

[الآية 30] أي: تخبر. وقرأ بعضهم «1» تتلو أي: تتبعه. وقال تعالى: أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [الآية 31] . فإن قلت: «كيف دخلت (أم) على (من) فلأن (من) ليست في الأصل للاستفهام وانما يستغنى بها عن الألف، فلذلك أدخلت عليها (أم) ، كما أدخل على (هل) حرف الاستفهام وإنما الاستفهام، في الأصل الألف. و (أم) تدخل لمعنى لا بد منه. قال الشاعر «2» [من الطويل وهو الشاهد الثلاثون بعد المائتين] : أبا مالك هل لمتني مذ حضضتني ... على القتل أم هل لامني لك لائم «3» في قوله تعالى: ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) ، إن شئت جعلت (ماذا) اسما بمنزلة (ما) وإن شئت جعلت (ذا) بمنزلة «الذي» . وقال تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ [الآية 53] كأنه قال «ويقولون أحقّ هو» . وقال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) . وقرأ بعضهم (تجمعون) «4» أي: تجمعون يا معشر الكفار. وقرأ بعضهم (فلتفرحوا) «5»

_ (1) . في معاني القرآن 1/ 463 نسبت إلى عبد الله بن مسعود، وفي الطبري 11/ 112 إلى جماعة من أهل الكوفة وبعض أهل الحجاز، وفي السبعة 325 والتيسير 121 والجامع 8/ 334 إلى حمزة والكسائي، وفي البحر 5/ 153 الى الأخوين وزيد بن علي. (2) . هو في الكتاب 1/ 486 زفر بن الحارث، وفي تحصيل عين الذهب والدرر اللوامع 2/ 178 هو الجحّاف بن حكيم السّلمي، وكذلك في الأغاني 11/ 60. (3) . في الأغاني والدرر ب «إذ» «مذ» وفي الدرر «فيك» بدل «منك» . (4) . هي في الطبري 11/ 126 الى أبي بن كعب في رواية، والى أبي جعفر القارئ، وفي السبعة 327، والكشف 1/ 520، والتيسير 122، والجامع 8/ 354، إلى ابن عامر، وفي الشواذ 57 إلى زيد بن ثابت، وأبي جعفر المدني، وأبي النتاج، كذا، وفي البحر إلى أبي، وابن القعقاع، وابن عامر، والحسن على ما زعم هارون، ورويت عن النبي الكريم. (5) . نسبت في معاني القرآن 1/ 469 إلى زيد بن ثابت، وفي الطبري 11/ 126 الى أبيّ في رواية، والحسن البصري، وأبي جعفر القارئ وفي الشواذ 57 إلى زيد بن ثابت، وأبي النتاج. كذا، وأبي جعفر المدني، وفي المحتسب 313 الى النبي الكريم، وعثمان بن عفان، وأبيّ بن كعب، والحسن، وأبي رجاء، ومحمد بن سيرين والأعرج وأبي جعفر، بخلاف، والسلمي وقتادة والجحدري، وهلال بن يساف والأعمش بخلاف، والعباس ابن الفضل وعمرو بن فائد، وفي الكشاف 1/ 520 الى ابن عامر وغيره، وفي الجامع 8/ 354 الى الحسن، ويزيد بن القعقاع، ويعقوب وغيرهم، وفي البحر 5/ 172 الى عثمان بن عفان، وأبي، وأنس، والحسن، وأبي رجاء، وابن هرمز، وابن سيرين، وأبي جعفر المدني، والسلمي وقتادة، والجحدري، وهلال بن يساف، والأعمش، وعمرو بن فائد، والعباس بن الفضل الأنصاري، ورويت عن النبي الكريم، وأنها وردت عن يعقوب، وكذلك نسبت إلى ابن عطية، وابن القعقاع وابن عامر، والحسن، على ما زعم هارون. أما القراءة بالياء، فنسبت في معاني القرآن 1/ 469، والبحر 5/ 172 إلى العامة، وخصّ منهم الجامع 8/ 354 ابن عامر، وكذلك في الكشف 1/ 520، وفي الطبري 11/ 126 إلى قراء الأمصار، وإلى أبي التياح، وأبي بن كعب في رواية. [.....]

وهي لغة للعرب رديئة، لأن هذه اللام إنما تدخل في الموضع الذي لا يقدر فيه على «افعل» يقولون: «ليقل زيد» لأنك لا تقدر على «افعل» . ولا تدخل اللام إذا كلمت الرجل فقلت «قل» ولم تحتج إلى اللام «1» . وقوله تعالى: فَبِذلِكَ بدل من قوله سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ. وقال تعالى في قراءة من قرأ: (وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّة في الأرض ولا في السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) [الآية 61] على تقدير: «ولا يعزب عنه أصغر من ذلك ولا أكبر» بالرفع «2» . وقرأ أكثرهم (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) «3» بالفتح أي: (ولا من أصغر من ذلك ولا من أكبر) ولكنه «أفعل» ولا ينصرف، وهذا أجود في العربية، واكثر في القراءة، وبه نقرأ. وقال تعالى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [الآية 71] تقول العرب: أجمعت أمري أي أجمعت على أن أقول كذا، أي عزمت عليه وقرأ بعضهم (وشركاؤكم) «4» والنصب أحسن «5» لأنك لا تجري الظاهر

_ (1) . نقله في الصحاح «تا» . (2) . في الطبري 11/ 130 هي قراءة بعض الكوفيين، وفي السبعة 328 إلى حمزة وحده، كذلك في الكشف 1/ 521 والتيسير 123، والبحر 5/ 174، وزاد في الجامع 8/ 356 يعقوب. (3) . في الطبري 11/ 130 إلى عامة القراء، وكذلك في البحر 5/ 174، وفي الكشف 1/ 521، والتسير 123 الى غير حمزة، وفي السبعة 328 إلى ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وعاصم وابن عامر، والكسائي. (4) . في معاني القرآن 1/ 473 هي قراءة الحسن، وكذلك في الطبري 11/ 142، وفي الشواذ 57 إلى الحسن ويعقوب وسلام، وفي البحر 5/ 179 إلى أبي عبد الرحمن والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وسلام ويعقوب. وفي الجامع 8/ 362 الى الحسن وابن أبي إسحاق ويعقوب وفي المحتسب 8/ 362 الى أبي عبد الرحمن والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي وسلام ويعقوب وأبي عمرو. (5) . في الطبري 11/ 142 إلى قراء الأمصار، وفي البحر 5/ 179 إلى الزهري والأعمش والجحدري وأبي رجاء والأعرج، والأصمعي عن نافع ويعقوب بخلاف، وفي المحتسب 314 الى الأعرج وأبي رجاء وعاصم والجحدري والزهري والأعمش، وفي الجامع 8/ 362 إلى عاصم والجحدري.

المرفوع على المضمر المرفوع، إلا أنه قد حسن، في هذا، للفصل الذي بينهما، كما في قوله تعالى: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا [النمل/ 67] فحسن، لأنه فصل بينهما بقوله سبحانه تُراباً. وقرأ بعضهم (فاجمعوا) «1» . وبالمقطوع نقرأ. وفي قوله تعالى: ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً [الآية 71] يَكُنْ جزم بالنهي. وقال تعالى: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا [الآية 77] قرئ سِحْرٌ على الحكاية لقولهم، كما ورد في التنزيل: أَسِحْرٌ هذا، وقول موسى (ع) أَتَقُولُونَ أَسِحْرٌ هذا «2» . وقال تعالى: لِتَلْفِتَنا [الآية 78] من لفت يلفت، نحو أنا ألفته، «لفتا» أي: ألويه عن حقّه. وقال تعالى: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ [الآية 81] أي: (الذي جئتم به السحر) وقرأ بعضهم (السحر) بالاستفهام «3» . وقال سبحانه: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ [الآية 83] أي ملأ الذرّيّة «4» . وقال تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا [الآية 88] بنصب يُؤْمِنُوا لأنّه جواب الدعاء بالفاء. قال تعالى: رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ [الآية 88] أيّ: فضلّوا. كما قال سبحانه: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص/ 8] أي: فكان. وهم لم يلتقطوه ليكون

_ (1) . قراءة وصل الهمزة هي في السبعة 328 الى نافع، وفي المحتسب 314 الى الأعرج، وأبي رجاء، وعاصم الجحدري، والزهري، والأعمش، واقتصر في الجامع 8/ 362 على عاصم الجحدري، وفي البحر 5/ 179 الى الزهري، والأعمش، والجحدري، وأبي رجاء، والأعرج، والأصمعي عن نافع ويعقوب بخلاف عنه. (2) . نقله في إعراب القرآن 2/ 463، والجامع 8/ 466. (3) . في معاني القرآن 1/ 475 نسبت الى مجاهد وأصحابه، وفي الطبري 11/ 148 الى مجاهد، وبعض المدنيين، والبصريين، وفي السبعة 328، والكشف 1/ 516، والجامع 8/ 368، الى أبي عمرو، وزاد في البحر 5/ 182 مجاهدا وأصحابه، وابن القعقاع. أما القراءة بلا استفهام، ففي الطبري 11/ 148 الى عامة قرّاء الحجاز والعراق، وفي السبعة 328، والكشف 1/ 521، والجامع 8/ 368 الى غير أبي عمرو، وفي البحر 5/ 183 الى غير من أخذ بالأخرى من السبعة. (4) . نقله في المشكل 1/ 353، وإعراب القرآن 2/ 464، والجامع 8/ 370، والبحر 5/ 183، و 184 والبيان 1/ 419، والإملاء 2/ 32.

لهم عدوّا وحزنا، وإنّما التقطوه فكان، هذه اللام تجيء في هذا المعنى. وقوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُوا عطف على لِيُضِلُّوا في الآية 88 نفسها، من سورة يونس. وقال تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [الآية 92] قرأ بعضهم (ننجيك) «1» وقوله سبحانه: بِبَدَنِكَ أي: لا روح فيه «2» . وقال بعضهم معنى: نُنَجِّيكَ نرفعك على نجوة من الأرض. وليس قولهم: «أنّ البدن هاهنا» «الدرع» بشيء ولا له معنى «3» . وقال تعالى: وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [الآية 97] بتأنيث فعل الكل، عند إضافته الى الآية، وهي مؤنّثة «4» . وقال تعالى: لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [الآية 99] فجاء بقوله جَمِيعاً توكيدا، كما في قوله سبحانه: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل/ 51] ففي قوله: إِلهَيْنِ دليل على الإثنين «5» . وقال تعالى: كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) أي: «كذلك ننجي المؤمنين حقّا علينا» . وقال تعالى: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الآية 105] أي: وأمرت أن أقم وجهك للدّين.

_ (1) . في البحر 5/ 189 الى يعقوب. ونقله في إعراب القرآن 2/ 466، والجامع 8/ 380. (2) . نقله في الصحاح «بدن» ، ونقله في الجامع 8/ 380. (3) . نقله في الجامع 8/ 380. (4) . نقله في زاد المسير 4/ 64. (5) . نقله في زاد المسير 4/ 67، والجامع 8/ 385. [.....]

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"يونس"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «يونس» «1» إن قيل: لم قال الله تعالى: يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) ، والله تعالى فصّل الآيات للعلماء وسواهم. قلنا: لمّا كان تفصيل الآيات مخصوصا بالعلماء، وكان انتفاعهم بالتفصيل أكثر من انتفاع سواهم به، فقد أضاف التفصيل إليهم وخصهم به. فإن قيل: لم قال تعالى سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) ، مع أن أقوال أهل الجنة وأحوالهم لا آخر لها، لأن الجنة دار الخلود؟ قلنا: معناه آخر دعائهم في كل مجلس، دعاء أو ذكر أو تسبيح، فإن أهل الجنة يسبّحون ويذكرون للتنعم والتلذذ بالذكر والتسبيح. فإن قيل: قد أنكر الله تعالى على الكفار احتجاجهم بمشيئته، في قوله سبحانه: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام/ 148] . ولهذا لا يجوز للعاصي أن يحتج في وجود المعصية منه، بقوله لو شاء الله ما فعلت هذه المعصية فلا تقيموا عليّ حدها فكيف ورد في التنزيل على لسان النبي (ص) : لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ [الآية 16] ؟ قلنا: النبي (ص) قال هذه الجملة بأمر الله تعالى، لأن الله عزّ وجلّ قال له: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وللعبد أن يحتجّ بمشيئة الله إذا أمره الله أن يحتج بها، أما ما ليس

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

كذلك، فليس له أن يحتجّ بمجرّد المشيئة، وما أوردتموه كذلك. فإن قيل: لم قال تعالى: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الآية 23] . والبغي لا يكون إلا بغير الحق، لأن البغي هو التعدي والفساد، من قولهم بغى الجرح إذا فسد، كذا قاله الأصمعي، فما فائدة التقييد؟. قلنا: قد يكون الفساد بالحق، كاستيلاء المسلمين على أرض الكفار، وهدم دورهم، وإحراق زروعهم، وقطع أشجارهم، كما فعل رسول الله (ص) ببني قريظة. فإن قيل: لم شبه الله تعالى الحياة الدنيا بماء السماء دون ماء الأرض، فقال سبحانه: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ [الآية 24] ؟ قلنا: لأن ماء السماء وهو المطر، لا تأثير لكسب العبد فيه، ولا حيلة للعبد في زيادته ونقصانه، كما أن الحياة لا حيلة للعبد في زيادتها ونقصانها. الثاني: أن ماء السماء يستوي فيه جميع الخلائق، الوضيع والشريف، الغني والفقير، الحيوان وغيره أيضا كالمدر والحجر والشوك والثمر، كما أن الحياة كذلك، فكأن تشبيه الحياة بماء السماء أشد مناسبة ومطابقة. فإن قيل: لم قال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ [الآية 28] وقال في موضع آخر وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [البقرة/ 174] . قلنا: يوم القيامة مواقف ومواطن، ففي موقف لا يكلّمهم، وفي موقف يكلّمهم، ونظيره قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) [الرحمن] وقوله فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) [الحجر] . الثاني المراد أنه لا يكلمهم كلام إكرام بل كلام توبيخ وتقريع. فإن قيل: قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الآية 31] إلى آخر الآية، يدل على أنهم معترفون أن الله تعالى هو الخالق والرازق والمدبّر لجميع المخلوقات، فكيف يعترفون بذلك كله ثم يعبدون الأصنام؟ قلنا: كانوا، في عبادتهم الأصنام، يعتقدون أنهم يتقرّبون بها إلى الله سبحانه فطائفة منهم كانت تقول نحن

لا نتأهّل لعبادة الله تعالى بغير واسطة، لعظمة إجلاله، ونقصنا وحقارتنا، فجعلوا الأصنام وسائط، كما قال تعالى: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر/ 3] وطائفة كانت تقول: نتّخذ أصناما على هيئة الملائكة، ونعبدهم، لتشفع لنا الملائكة عند الله، ليقرّبونا إلى الله، وطائفة كانت تقول: الأصنام قبلة لنا في عبادة الله، كما أن الكعبة قبلة في عبادته، وطائفة، وهي الأكثر، كانت تقول: على كل صنم شيطان موكل به من عند الله، فمن عبد الصنم حق عبادته، قضى الشيطان حوائجه على وفق مراده، بأمر الله، ومن قصّر في عبادة الصنم أصابه الشيطان بنكبة بأمر الله فكل الطوائف من عبدة الأصنام، كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله، والتقرب إليه، ولكن بطرق مختلفة. فإن قيل: لم قال تعالى: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) فحصر سبحانه شهادته على أفعالهم، في الآخرة، مع أنه شهيد على أفعالهم في الدنيا والآخرة؟ قلنا: ذكر الشهادة وأراد مقتضاها ونتيجتها، وهو العقاب والجزاء، فكأنه قال: ثم الله يعاقب على ما يفعلون، أو مجاز على ما يفعلون، كما قال تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة/ 197] ونظائره في القرآن العزيز كثيرة. فإن قيل: لم قال تعالى: بَياتاً أَوْ نَهاراً [الآية 50] ولم يقل ليلا أو نهارا، وهو أظهر في المطابقة، استعمالا مع النهار في القرآن العزيز وغيره؟ قلنا: لأن المعهود المألوف في كلام العرب، عند ذكر البطش والإهلاك والوعيد والتهديد، ذكر لفظ البيات سواء أقرن به النهار أم لم يقرن، فلذلك لم يقل ليلا. فإن قيل: لم قال تعالى: ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أي ماذا يستعجلون منه، وأول الآية للمواجهة؟ قلنا: أراد بذكر المجرمين الدلالة على موجب ترك الاستعجال، وهو الإجرام، لأن من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه ويفزع من مجيئه، وإن أبطأ، فضلا عن أن يستعجله.

فإن قيل: لم قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [الآية 58] ولم يقل فبذينك، والمشار إليه اثنان: الفضل والرحمة. قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة في قوله تعالى عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة/ 68] . فإن قيل: قوله تعالى: وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 60] تهديد، لأن فيه محذوفا تقديره: وما ظنهم أن الله فاعل بهم يوم القيامة بكذبهم، فكيف يناسبه قوله تعالى بعده: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ. قلنا: هو مناسب، لأن معناه أن الله لذو فضل على الناس، حيث أنعم عليهم بالعقل، والوحي، والهداية، وتأخّر العذاب، وفتح باب التوبة فكيف يفترون على الله الكذب مع توافر نعمه عليهم؟ فإن قيل: لم قال تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ [الآية 61] ، فأفرد، ثم قال في الآية نفسها وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ فجمع، والخطاب للنبي (ص) ؟ قلنا: قال ابن الأنباري: إنما جمع في الفعل الثالث ليدل على أن الأمة داخلون مع النبي (ص) في الفعلين الأوّلين. وقال غيره: المراد بالفعل الثالث أيضا النبي (ص) وحده، وإنما جمع تفخيما له وتعظيما كما في قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة/ 75] على قول ابن عباس رضي الله عنهما، وكما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون/ 51] . والمراد به النبي (ص) ، كذا قاله ابن عباس والحسن وغيرهما، واختاره ابن قتيبة والزجّاج. فإن قيل: لم قدّم الأرض على السماء في قوله تعالى: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [الآية 61] وقدّم السماء على الأرض في قوله تعالى في سورة سبأ: عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ/ 3] ؟ قلنا: حق السماء أن تقدم على الأرض مطلقا لأنها أشرف، لكنه لما ذكر هنا في صدر الآية شهادته على شؤون أهل الأرض وأقوالهم وأعمالهم، ثم أردفه بقوله سبحانه:

وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ [الآية 61] ناسب ذلك تقديم الأرض على السماء. الثاني أن العطف بالواو نظير التثنية وحكمه حكمها، فلا يعطى رتبة كالتثنية. فإن قيل: لم قال تعالى هنا: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [الآية 65] وقال في موضع آخر وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون/ 8] ؟ قلنا: أثبت الاشتراك في نفس العزة التي هي في حق الله تعالى القدرة والغلبة، وفي حق الرسول (ص) علوّ كلمته وإظهار دينه، وفي حقّ المؤمنين نصرهم على أعدائهم، وقوله تعالى: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [الآية 65] أراد به العزة الكاملة التي يندرج فيها عزة الإلهية، والخلق، والإماتة، والإحياء والبقاء الدائم، وما أشبه ذلك فلا تنافي. فإن قيل: إذا كانت السموات والأرض، وما فيهما من المخلوقات، وما وراءهما كل ذلك لله تعالى ملكا وخلقا، فما فائدة التخصيص في قوله تعالى في الآية التالية: مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ؟ قلنا: إنما خص العقلاء المميّزين بالذكر، وهم الملائكة والثقلان، ليعلم أن هؤلاء إذا كانوا عبيدا له، وهو ربّهم، ولا يصلح أحد منهم للربوبية، ولا للشركة معه، فما وراءهم ممّا لا يعقل كالأصنام والكواكب ونحوهما، أحقّ أن لا تكون له ندّا وشريكا. فإن قيل: لم ورد قوله تعالى على لسان موسى (ع) أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا [الآية 77] على طريق الاستفهام، وهم إنّما قالوا ذلك على طريق الإخبار، أو التحقيق المؤكّد، بأن واللام، لا على طريق الاستفهام، قال الله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) ؟ قلنا: فيه إضمار تقديره. أتقولون للحق لمّا جاءكم إن هذا لسحر مبين. ثم قال أَسِحْرٌ هذا إنكارا لما قالوه، فالاستفهام من قول موسى (ع) لا مفعول لقولهم. فإن قيل: لم نوّع الخطاب في قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ

قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) فثنّي أولا ثم جمع ثم أفرد؟ قلنا: خوطب أولا موسى وهارون أن يتبوّءا لقومهما بيوتا، ويختاراها للعبادة، وذلك ممّا يفوض إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم سيق الخطاب عامّا لهما، ولقومهما، باتّخاذ المساجد والصلاة فيها، لأن ذلك واجب على الجمهور، ثم خصّ موسى (ع) بالبشارة تعظيما لها أو تعظيما له عليه السلام. فإن قيل: لم قال تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما [الآية 89] أضافها إليهما، والدعوة إنما صدرت عن موسى عليه السلام، قال الله تعالى: وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً [الآية 88] إلى آخر الآية؟ قلنا: نقل أن موسى (ع) كان يدعو، وهارون (ع) كان يؤمّن على دعائه والتأمين دعاء في المعنى، فلهذا أضاف الدعوة إليهما. الثاني: أنه يجوز أن يكون هارون دعا أيضا مع موسى، إلا أن الله تعالى خصّ موسى بالذكر، لأنه كان أسبق بالدعوة، وكان أصلا فيها، فجاء هارون ليعاونه في حملها بدعوة من موسى، استجاب لها الله تعالى. فإن قيل: لو كان كذلك، لقال تعالى دعونا كما بالتثنية؟ قلنا: لما كانت الدعوة مصدرا، اكتفي بذكرها في موضع الإفراد والتثنية والجمع بصيغة واحدة كسائر المصادر، ونظيره قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة/ 7] . فإن قيل: لم قال تعالى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [الآية 94] و «إن» إنما تدخل على ما هو محتمل الوجود، وشك النبي (ص) في القرآن منتف قطعا؟ قلنا: الخطاب ليس للنبي (ص) بل لمن كان شاكّا في القرآن، وفي نبوة محمد (ص) ، فكأنه قال «فإن كنت أيّها الإنسان في شكّ» . فإن قيل: قوله تعالى: مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يدل على أن الخطاب للنبي (ص) لا لغيره. قلنا: لا يدل، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) [النساء]

وقال تعالى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ [التوبة/ 64] . الثاني أن الخطاب للنبي (ص) والمراد غيره، كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب/ 1] ويعضده قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) [النساء] ويعضد هذا الوجه قوله تعالى بعده: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي [الآية 104] . الثالث: أن تكون «إن» بمعنى ما، تقديره: فما كنت في شكّ مما أنزلناه إليك فاسأل. المعنى لسنا نأمرك أن تسأل أحبار اليهود والنصارى عن صدق كتابك، لأنك في شكّ منه، بل لتزداد بصيرة ويقينا وطمأنينة. الرابع: أن الخطاب للنبي (ص) ، مع انتفاء الشك منه قطعا، أو المراد به إلزام الحجة على الشاكّين الكافرين، كما يقول لعيسى (ع) أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة/ 116] وهو عالم بانتفاء هذا القول منه، لإلزام الحجّة على النصارى. فإن قيل: قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [الآية 99] ما الحكمة في ذكر جَمِيعاً بعد قوله سبحانه كُلُّهُمْ وهو يفيد الشمول والإحاطة؟ قلنا: «كلّ» يفيد الشمول والإحاطة، ولا يدل على وجود الإيمان منهم بصفة الاجتماع، و «جميعا» يدل على وجوده منهم في حالة واحدة، كما تقول جاءني القوم جميعا: أي مجتمعين، ونظيره قوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) [الحجر] . فإن قيل: قوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 101] كيف يصح هذا الأمر، مع أنّا لا نعلم جميع ما فيهما ولا نراه؟ قلنا: هو عامّ أريد به ما ندركه بالبصر ممّا فيهما، كالشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار والمعادن والحيوانات والنبات، ونحو ذلك ممّا يدل على وجود الصانع وتوحيده وعظيم قدرته، فيستدلّ به على ما وراءه. فإن قيل في قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [الآية 107] ما الحكمة في ذكر المسّ في الضر، والإرادة في الخير؟

قلنا: لاستعمال كل من المسّ والإرادة في كل من الضرّ والخير، وأنه لا مزيل لما يصيب به منهما، ولا رادّ لما يريده فيهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المسّ في أحدهما، والإرادة في الآخر، ليدلّ بما ذكر على ما لم يذكر، مع أنه قد ذكر المسّ فيهما في سورة الأنعام، وإنما عدل هنا عن لفظ المسّ المذكور في سورة الأنعام، إلى لفظ الإرادة، لأن الجزاء هنا قوله تعالى: فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [الآية 107] والرد إنما يكون في ما لم يقع بعد، والمسّ إنما يكون في ما وقع، فلهذا قال تعالى ثمّ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) [الأنعام] ومعناه، فإن شاء أدام ذلك الخير، وإن شاء أزاله، فلا يطلب دوامه وزيادته إلّا منه تعالى.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"يونس"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «يونس» «1» قوله سبحانه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الآية 2] وهذه استعارة. لأن المراد بالقدم هاهنا: السابقة في الإيمان، والتقدّم في الإخلاص. والعبارة عن ذلك بلفظ القدم غاية في البلاغة، لأن بالقدم يكون السبق والتقدم. فسمّيت قدما لذلك. وإن كان التأخّر أيضا يكون بها، كما يكون التقدّم بخطوها، فإنّما سمّيت بأشرف حالاتها وأنبه متصرّفاتها. وقال بعضهم: إيمانهم في الدنيا هو قدمهم في الآخرة. لأن معنى القدم في العربية: الشيء تقدّمه أمامك ليكون عدّة لك، حتى تقدم عليه. وقال بعضهم: ذكر القدم هاهنا على طريق التمثيل والتشبيه، كما تقول العرب: قد وضع فلان رجله في الباطل، وتخطّى الى غير الواجب. ومعناه أنه انتقل الى فعل ذلك، كما يتنقّل الماشي، وإن لم يحرّك قدمه، ولم ينقل خطاه. وقوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الآية 3] وهذه استعارة. لأن حقيقة الاستواء إنّما توصف بها الأجسام التي تعلو البساط وتميل وتعتدل. والمراد بالاستواء هاهنا: الاستيلاء بالقدرة والسلطان، لا بحلول القرار والمكان. كما يقال:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق: محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

استوى «1» فلان الملك على سرير ملكه. بمعنى استولى على تدبير الملك، وملك مقعد الأمر والنهي. وحسن صفته بذلك، وإن لم يكن له في الحقيقة سرير يقعد عليه، ولا مكان عال يشار اليه. وإنما المراد نفاذ أمره في مملكته، واستيلاء سلطانه على رعيته. فإن قيل: فالله سبحانه مستول على كل شيء بقهره وغلبته، ونفاذ أمره وقدرته، فما معنى اختصاص العرش بالذكر هاهنا؟ قيل، كما ثبت، أنه تعالى ربّ لكل شيء. وقد قال في صفة نفسه، رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) [التوبة والمؤمنون/ 86 والنمل/ 26] فإن قيل: فما معنى قولنا عرش الله، إن لم يرد بذلك كونه عليه؟ قيل كما يقال: بيت الله وإن لم يكن فيه، والعرش في السماء تطوف به الملائكة تعبّدا، كما أن البيت في الأرض تطوف به الخلائق تعبّدا. وقوله سبحانه: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [الآية 10] وهذه استعارة على بعض الأقوال. كأنّ المعنى، أنّ بشراهم بالسلامة من المخاوف عند دخول الجنّة، تجعل مكان التحية لهم. لأن لكل داخل دارا تحيّة يلقى بها، ويؤنس بسماعها. والسلام هاهنا من السلامة، لا من التسليم. وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها [الآية 24] . وهذه استعارة حسنة، لأن الزّخرف في كلامهم اسم للزّينة واختلاف الألوان المونقة. وقوله سبحانه: أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها. أي لبست زينتها بألوان الأزهار، وأصابيع الرياض، كما يقال: أخذت المرأة قناعها. إذا لبسته. وتقول لها: خذي عليك ثوبك. أي البسيه. وقوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف/ 31] أي البسوا ثيابكم. وقوله سبحانه: فَجَعَلْناها حَصِيداً [الآية 24] . استعارة أخرى، لأن

_ (1) . ومنه قول الراجز: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق انظر «القرطبي» ج 7 ص 220.

الحصيد من صفة النبات، لا من صفة الأرض. والمعنى: فجعلنا نباتها كذلك. فاكتفى بذكر الأرض من ذكر النبات لأن النبات فيها، ومنشأه منها. وقوله سبحانه: كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً [الآية 27] . وهذه استعارة. لأن الليل على الحقيقة لا يوصف بأن له قطعا متفرقة، وأجزاء متنصفة. وإنما المراد، والله أعلم، أن الليل لو كان ممّا يتبعّض وينفصل، لأشبه سواد وجوههم أبعاضه وقطعه. ونصب سبحانه مُظْلِماً على أنه حال من الليل. وفيه زيادة معنى. لأن الليل قد سمّي ليلا وإن كان مقمرا، فإنما قال سبحانه: مظلما، على أنّ التشبيه إنما وقع به أسود ما يكون جلبابا، وأبهم أثوابا. وقوله سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [الآية 67] وهذه استعارة عجيبة. وقد أومأنا الى نظيرها فيما تقدم. وذلك أنه سبحانه، إنما سمّى النهار مبصرا، لأن الناس يبصرون فيه، فكأن ذلك صفة الشيء بما هو سبب له، على طريق المبالغة. كما قالوا: ليل أعمى وليلة عمياء. إذا لم يبصر الناس فيها شيئا لشدة إظلامها. وقوله تعالى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً [الآية 71] . فَأَجْمِعُوا من الإجماع. وهذه استعارة. والمعنى اشتوروا في أمركم، وأجمعوا له بالكم، وبالغوا في قدح الرأي بينكم، حتى لا يكون أمركم غمة عليكم «1» . أي مغطّى تغطية حيرة، ومبهما إبهام جهالة، فيكون عليكم كالغمّة العمياء، والطخية «2» الظلماء. وذلك مأخوذ من قولهم: غمّ الهلال. إذا تغطى ببعض الموانع التي تمنع من رؤيته. ثم افعلوا بي ما أنتم فاعلون. وهذه حكاية لقول نوح عليه السلام لقومه. ويخرج الكلام منه على الاستقلال لكيدهم، وقلة الحفل باستجماعهم واحتشادهم. وقوله سبحانه: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ [الآية 88] .

_ (1) . ومنه قول الشاعر الجاهلي طرفة: لعمرك ما أمري عليّ بغمّة ... نهاري، ولا ليلي عليّ بسرمد (2) . الطّخية: الظلمة.

وهذه استعارة لأنّ حقيقة الطمس محو الأثر. من قولهم: طمست الكتاب. إذا محوت سطوره. وطمست الريح ربع الحيّ. إذا محت رسومه. فكأنّ موسى عليه السلام، إنما دعا الله سبحانه بأن يمحو معارف أموالهم بالمسح لها، حتى لا يعرفوها، ولا يهتدوا إليها، وتكون منقلبة عن حال الانتفاع بها، لأن الطمس تغيّر حال الشيء الى الدّثور والدّروس. وقوله تعالى: وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ استعارة أخرى. إما أن يكون المراد بها ما يراد بالختم والطبع. لأن معنى الشدّ يرجع الى ذلك. أو يكون المراد به تثقيل العقاب على القلوب، بالإيلام لها، ومضاعفة الغمّ والكرب عليها. ويكون ذلك على معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» «1» أي غلّظ عليهم عقابك، وضاعف عليهم عذابك. وقوله سبحانه: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وهذه استعارة. وقد أومأنا الى مثلها فيما تقدّم. والمراد بها: استقم على دينك، واثبت على طريقك. وخصّ الوجه بالذكر، لأنه به يعرّف توجّه الجملة نحو الجهة المقصودة، وقد يجوز أن يكون المراد بذلك، والله أعلم، أقم وجهك أي قوّمه نحو القبلة التي هي الكعبة. مستمرّا على لزومها، وغير منحرف عن جهتها.

_ (1) . هذا الحديث في مسند ابن حنبل ج 12 ص 250 بتحقيق المحدّث الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر. وقد ذكر الشيخ أن إسناده صحيح. وقد رواه ابن سعد في الطبقات، ورواه مسلم والبخاري في صحيحيهما. ونص الحديث في المسند: (لما رفع النبي (ص) رأسه من الركعة الاخيرة من صلاة الصبح، قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكّة. اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف) .

سورة هود 11

سورة هود 11

المبحث الأول أهداف سورة"هود"

المبحث الأول أهداف سورة «هود» «1» تمهيد عن الوحدة الموضوعية للسورة هود عليه السلام هو أول رسول الى قوم عاد، وعاد أول أمة من نسل سام بن نوح «2» ، وقد تحدّث القرآن كثيرا عن هود فيمن تحدّث عنهم من رسل الله الكرام وقد ذكر باسمه خمس مرات في هذه السورة التي سميت باسمه. وسورة هود من السور المكّيّة، شأنها كشأن السّور المكّيّة الأخرى: تقرير أصول الدين، وإقامة الأدلة عليها وردّ الشّبه التي كان يثيرها المعارضون حول الدعوة وصاحبها، والحديث عن اليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، وهي الموضوعات نفسها التي تحدثت عنها السورة السابقة، سورة يونس. عناصر الدعوة الإلهية والمتدبّر لسورة هود يرى أنها قررت عناصر الدعوة الإلهية- وهي التوحيد والرسالة والبعث- من طريق الحجج العقلية، مع الموازنة بين النفوس المستعدة للايمان، والنفوس النافرة منه. وقد عرضت لذلك في أربع وعشرين آية يختم بها الربع الأول منها، ثمّ أخذت السورة تتحدّث عن جملة من الرسل السابقين لبيان وحدة الدعوة الإلهية، وتسلية الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنذارا للمكذّبين.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. (2) . محمود شلتوت، الى القرآن الكريم ص 77.

ويستغرق قصص هؤلاء الرسل الكرام معظم السورة، فتذكر قصة نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى (ع) . وطريقة العرض هنا تختلف عنها في سورة أخرى، والحلقات التي تعرض من كل قصة تختلف كذلك لاختلاف السياق، فيمتنع التكرار، فيما يخيل أنه تكرار للقارئ العابر للقرآن الكريم. هذا القصص الذي يستغرق معظم سورة هود: مرتبط كلّ الارتباط بما قبله وما بعده من السورة، متناسق مع السياق حتى في التعبير اللفظي أحيانا، فالقصة والمشهد والعظة والتعقيب تتناسق كلها تناسقا عجيبا، وتكشف عن بعض وظيفة القصة في القرآن الكريم. تبدأ سورة هود بقوله تعالى. الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) . وهذا المطلع، يقرر أن المهمة الأولى للنبي هي الدعوة إلى توحيد الله، وينذر بالعذاب من يكذّب بدعوة الله. ويبشّر بالنعيم من آمن بها. وقصص السورة كله يساق لتوكيد هذين المعنيين، فيرد في ألفاظ تكاد تكون واحدة يقولها كل رسول. وكأنما يقولها ويمضي، حتّى يأتي أخوه فيقولها كذلك ويمضي، والمكذّبون هم المكذّبون. تبدأ قصة نوح بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) . ثمّ بقوله جلّ وعلا حكاية على لسان هود وصالح وشعيب (ع) : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الآية 50] . يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الآية 61] . يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الآية 84] . ونهايات القصص كلّها، هلاك المكذّبين وعقوبة المعتدين، ووعيد لجميع المتكبّرين عن الإيمان بالحق، والانقياد للعقيدة الصحيحة، قال تعالى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) .

1 - العقيدة والايمان بالله

وتتضمّن سورة هود إثبات الوحي، وتنزيل القرآن من عند الله سبحانه، وتثبيت الرسول (ص) ، وتقوية يقينه مع من آمن به من المؤمنين، حتّى لا يضيق صدرهم بالمكذّبين والمستهزئين. ثم يختم القصص في سورة هود بقوله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) . وهكذا نجد أن القصة في القرآن الكريم، تؤدّي دورا متناسقا مع موضوع السورة وسياقها، وتعرض بالطريقة والعبارة اللتين تحققان هذا التناسق الجميل الدقيق. 1- العقيدة والايمان بالله يتضمّن الدرس الأول من السورة: دعوة المشركين إلى توحيد الله واستغفاره والتوبة ممّا هم فيه، ويبشّرهم إن فاءوا الى هذا بمتاع حسن وجزاء طيّب، وينذر المعرضين عن الدعوة بعذاب كبير، ويقرر عقيدة الإيمان باليوم الآخر، والرجعة الى الله لتحقيق البشرى والإنذار، ثم يعرض مشهدا لهم وهم يحاولون التخفّي عن مواجهة الرسول، وهو يجيبهم بالبيان، يعقّب عليه بعلم الله الشامل اللطيف الذي يتابعهم وهم أخفى ما يكونون عن العيون، ويتصل بهذا المعنى علم الله بكلّ دابة في الأرض حيث تكون. كما يتصل به الحديث عن خلق السماوات والأرض. ثم يعرض صورا من النفس البشرية القلقة المتعجّلة في السراء والضراء. ومع ذلك فهم يستعجلون العذاب إذا ما أخّر عنهم الى حين. ثم ينتقل الى التحدي بالقرآن الذي يقولون إنه مفترى من دون الله، وتهديد من لا يؤمنون بالآخرة، ومن يفترون على الله الكذب، ويعرض مشهدا من مشاهد القيامة يتجلى فيه مصداق هذا الوعيد، ومصداق البشرى للمؤمنين. ومن المعالم البارزة في هذا الدرس ما يأتي: 1- تقرير عقيدة التوحيد، وسوق الأدلة على قدرة الله سبحانه الذي أبدع الكون على غير مثال سابق. وقد تتساءل عن سر عناية القرآن بعقيدة التوحيد، وتكرير الدعوة إليها في كثير من آياته.

2 - إعجاز القرآن

والجواب أنه ما كان لدين أن يقوم في الأرض، وأن يقيم نظاما للبشر قبل أن يقرر هذه الدعوة. فالتوحيد مفترق الطريق بين الفوضى والنظام، بين الخرافة والإيمان، بين الهوى واليقين. والاعتراف بوجود الله ضروري في الفطرة السليمة، لأنّ الله خلق الإنسان، وأودعه نفخة مقدسة من الروح، ولذلك تتجه الفطرة الى الله خالقها وبارئها لتروي ظمأها اليه، وتلبي نداء الشوق الكامن إليه في أعماقها. 2- عناية الآيات، بأن تلفت نظر الإنسان الى ما في الكون من آيات القدرة، ودلائل الإعجاز، وعجائب الصنع، ومواطن الاعتبار. فهذا الكون الفسيح الشاسع الأرجاء وما فيه من قوى منظورة لنا وغير منظورة، وما يخضع له من نظام لا يحتمل الخلل، ودقة لا تسمح بالعبث، دليل على أن هذا الكون لم يوجد من طريق صدفة عمياء، بل وجد لأنّ خالقا حكيما هو الذي أوجده. 3- إثبات علم الله بكل صغيرة وكبيرة في هذا الكون، وتقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذا العالم الفسيح، وتيسير الأسباب للسعي والحركة وعمارة الكون، ومن الآيات المشهورة بين الناس قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) . وهي تصور علم الله الشامل، المحيط بكل ما يدب على الأرض، من إنسان وحيوان وزاحفة وهامة وحشرة وطير. فما من دابة من هذه الدواب إلّا وعند الله علمها، وعلى الله رزقها، وهو سبحانه يعلم أين تستقر وأين تكمن، ومن أين تجيء وأين تذهب. وكل فرد من أفرادها مقيّد في هذا العلم الدقيق. إنها صورة متّصلة للعلم الإلهي في حالة تعلقه بالمخلوقات، يرتجف لها كيان الإنسان حين يحاول تصوّرها بخياله الإنساني، فلا يطيق. فسبحان من أحاط بكلّ شيء علما. 2- إعجاز القرآن يلمح القارئ لهذه السورة قوة أسلوبها وترابط أفكارها، وتوالي حملاتها على الكفار، حتّى كأنها جيش كامل مشتمل على عديد من الكتائب والفصائل والجنود.

إنها دعت، في الدرس السابق، الى التوحيد، ولفتت الأنظار الى قدرة الله البالغة وعلمه المحيط بكل شيء. وهي، هنا، تسوق دليلا آخر على صدق عقيدة التوحيد، وصدق رسالة محمد (ص) ، هذا الدليل هو إعجاز هذا القرآن وروعته وقوته. ويتجلى هذا الاعجاز فيما يلي: 1- إخباره عن الأمم الماضية التي لم يعاصرها محمد (ص) ، ولم يعرف تاريخها ولم يقرأ عنها. 2- اشتماله على أصول التشريع، وسياسة الخلق، وقواعد الحكم، وآداب المعاملة، ونظام العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة. 3- إخباره عن أنباء لاحقة تأكّد صدقها، وتحقّق وقوعها. لقد ادّعى كفّار مكّة أنّ محمّدا (ص) قد اختلق القرآن من عنده، ولم ينزل عليه من السماء، فتحدّاهم القرآن أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات. أي ليختلقوا كما اختلق محمد (ص) ، فهم عرب مثله، وهم أرباب الفصاحة والبيان، والقرآن مؤلّف من حروف وكلمات وجمل يعرفونها ويؤلفون من مثلها كلامهم، فالعجز عن الإتيان بمثل القرآن دليل على أنه ليس من صنع بشر، وليس من افتراء محمد (ص) ، ولكنه كلام الله العليم الخبير. وقد سمح لهم القرآن أن يستعينوا بمن شاؤوا، من الشركاء والفصحاء والبلغاء والشعراء والإنس والجن، ليشاركوهم في تأليف هذه السور، قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) . وقد سبق أن تحدّاهم القرآن بسورة واحدة في سورة يونس، فلماذا تحدّاهم بعد ذلك بعشر سور. قال المفسرون القدامى، إن التحدي كان على الترتيب: بالقرآن كلّه ثم بعشر سور، ثم بسورة واحدة. ولكن هذا الترتيب ليس عليه دليل، بل الظاهر أن سورة يونس سابقة والتحدي فيها بسورة واحدة، وسورة هود لاحقة والتحدي فيها بعشر سور. وترتيب الآيات في النزول ليس من

3 - القصص في سورة هود

الضروري أن يتبع ترتيب السور، فقد كانت الآية تنزل فتلحق بسورة سابقة أو لاحقة في النزول، إلّا أن هذا يحتاج الى ما يثبت هذا الترتيب، وليس في أسباب النزول ما يثبت أن آية يونس كانت بعد آية هود. والترتيب التحكمي في مثل هذا لا يجوز. وقد حاول صاحب تفسير المنار، أن يجد لهذا العدد (عشر سور) علة فأجهد نفسه طويلا، ليقرّر أنّ المقصود بالتحدي هنا هو القصص القرآني، وأنه بالاستقراء يظهر أن السور التي كان قد نزل بها قصص مطوّل الى وقت نزول سورة هود كانت عشرا، فتحدّاهم بعشر سور «1» ، وهو احتمال وجيه. ويرى بعض المفسرين المحدثين: أنّ التحدي كان يلاحظ حالة القائلين وظروف القول، فيقول مرة: ائتوا بمثل هذا القرآن. او ائتوا بسورة. أو بعشر سور. دون ترتيب زمني، لأنّ الغرض كان التحدي في ذاته بالنسبة لأي شيء من هذا القرآن، لا بمقداره كله، أو بعضه، أو سورة منه على السواء، فالتحدّي كان بنوع هذا القرآن لا بمقداره، والعجز كان عن هذا النوع، لا عن المقدار. وعندئذ يستوي الكلّ والبعض والسورة. ولا يلزم ترتيب، إنما هو مقتضى الحالة التي يكون عليها المخاطبون، ونوع ما يقولون عن هذا القرآن في هذه الحالة. فهو الذي يجعل من المناسب ان يقول: «سورة» ، أو «عشر سور» ، أو «هذا القرآن» . ونحن اليوم، لا نملك تحديد الملابسات التي لم يذكرها لنا القرآن. 3- القصص في سورة هود القصص في هذه السورة هو قوامها، إذ عدد آياتها (123) مائة وثلاث وعشرون آية، يشتمل قصص الأنبياء منها على (89) تسع وثمانين آية. لكن القصص لم يجئ فيها مستقلا، بل جاء مصداقا للحقائق الكبرى التي جاءت السورة لتقريرها، وهي التوحيد والبعث والجزاء. وقد جال السياق جولات متعددة حول هذه الحقائق: جال في ملكوت السماوات والأرض، وفي جنبات النفس، وفي ساحة الحشر، ثم أخذ

_ (1) . تفسير المنار 12/ 32- 41.

قصة نوح (ع)

يجول في جنبات الأرض، وأطوار التاريخ مع قصص الماضين. والقصص هنا مفصّل بعض الشيء، لأنه يتضمن الجدل حول حقائق العقيدة التي وردت في مطلع السورة. والتي يجيء كل رسول لتقريرها، وكأنما المكذّبون هم المكذبون وكأنما طبيعتهم واحدة، وعقليّتهم واحدة على مدار التاريخ. ويتّبع القصص، في هذه السورة، خط سير التاريخ، فيبدأ بنوح، ثم هود، ثم صالح، ويلم بإبراهيم في الطريق إلى لوط ثم شعيب ثم إشارة الى موسى ويشير الى الخط التاريخي، لأنه يذكّر التالين بمصير السالفين. وليس من قصدنا أن نذكر قصص هؤلاء الأنبياء الكرام، فذلك ما لا يتّسع له المجال، ولكن واجبنا نحو سورة هود، يحتّم علينا أن نذكر لمحات من سيرة هؤلاء الرسل. قصة نوح (ع) لقد ألمحت سورة يونس إلى قصة نوح فذكرت الحلقة الاخيرة منها، وهي غرق الكافرين ونجاة المؤمنين. ولكن سورة هود تعرضت لقصة نوح بمزيد من التفصيل خلال أربع وعشرين آية: من الآية 25 الى الآية 49. تناولت دعوة نوح الى الله، وجداله مع قومه وصنعه السفينة، وتعرّضه لسخرية قومه، ثم فوران التنور، واكتساح الطوفان، وركوب السفينة تسير بأمر الله وقدرته: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [الآية 41] . ثم تهدأ العاصفة، وتبلع الأرض ماءها، وتمسك السماء عن المطر، وتعود الحياة سيرتها، فيناجي نوح (ع) ربّه بعد غرق ولده، قائلا: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [الآية 45] . أي وقد وعدتني بنجاة أهلي، فيجيبه الله سبحانه: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [الآية 46] . والمعنى: إنه عمل عملا غير صالح، فهو من صلب نوح وذريّته، إلا أنه منقطع الصلة به في نسب الإيمان، وصلة العمل الصالح. وهنا يتنبه نوح الى حقيقة العدل الإلهي، ويرى أن عقاب الله عامّ لكل الكافرين، وأن نعيمه عام لجميع المؤمنين، فليس بين

قصة هود

الله وبين أحد من عباده نسب ولا صلة، فالخلق كلهم عباد الله، يتفاضلون عنده بالتقوى، ويدركون ثوابه بالعمل الصالح: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات/ 13] . ويكون التعقيب على قصة نوح معبّرا عن أهداف القصص القرآني، مبشّرا بالنجاة والنصر للمؤمنين، منذرا بالهلاك والعذاب للكافرين. قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) . فيحقق هذا التعقيب من أهداف القصص القرآني في هذه السورة ما يأتي: 1- حقيقة الوحي التي ينكرها المشركون. فهذا القصص غيب من الغيب، ما كان يعلمه النبي (ص) ، وما كان معلوما لقومه، ولا متداولا في محيطة وإنّما هو الوحي من لدن حكيم خبير. 2- وحقيقة وحدة العقيدة، من لدن نوح أبي البشر الثاني، هي نفسها، والتعبير عنها يكاد يكون واحدا، مشتملا على الدعوة الى الايمان بالله، والدعوة الى مكارم الأخلاق، والبعد عن الرذائل والمنكرا. 3- وحقيقة السنن الجارية التي لا تتخلف ولا تحيد (والعاقبة للمتقين) ، فهم الناجون وهم المستخلفون. وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) [الأنبياء] . قصة هود تناول الدرس السابق قصة نوح عليه السلام ونجاته ومن معه في الفلك، ثم هبوطه على الأرض، مستحقّا لبركات الله عليه وعلى المؤمنين من ذريته، أمّا المكذّبون من ذرّيته فلهم عذاب أليم، وقد دارت عجلة الزمن، ومضت خطوات التاريخ وإذا عاد من نسل نوح الذين تفرّقوا في البلاد، ومن بعدهم ثمود، ممّن حقت عليهم كلمة الله. وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) . فأما عاد، فكانوا قبيلة تسكن الأحقاف، «والحقف كثيب الرمل المائل» في جنوب الجزيرة العربية.

وأما ثمود، فكانت قبيلة تسكن مدائن الحجر- بين تبوك والمدينة- وبلغت كل منهما في زمانها أقصى القوة والمنعة والرزق والمتاع. ولكن هؤلاء وهؤلاء كانوا ممّن حقت عليهم كلمة الله، بما عتوا عن أمر الله واختاروا الوثنية على التوحيد، وكذّبوا الرسل شرّ تكذيب، وفي قصّتهم هنا، مصداق ما في مطلع السورة من بشارة للمؤمنين، وإنذار للكافرين. وقد ذكرت قصة هود في سورة الأعراف من الآية 65 إلى الآية 72، وفي سورة الشعراء من الآية 123 إلى الآية 140، ثم ذكرت هنا في سورة هود من الآية 50 الى الآية 60. وقد نتساءل: لماذا سمّيت هذه السورة بسورة هود، مع أنها اشتملت على عدد كبير من قصص الأنبياء، منهم نوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وموسى عليهم السلام، والجواب أن قوم هود (ع) قد حباهم الله سبحانه، نعما وافرة وخيرات جليلة، وأرسل السماء عليهم بالمطر، فزرعوا الأرض وأنشأوا البساتين، وشادوا القصور، ومنحهم الله فوق ذلك بسطة في أجسامهم وقوّة في أبدانهم. وكان الواجب عليهم أن يفكّروا بعقولهم وأن يشكروا الله على هذه النّعم، ولكنهم لم يفعلوا ذلك بل اتّخذوا أصناما يعبدونها من دون الله، ثم عثوا في الأرض فسادا وظلما وعدوانا. ولما جاءهم هود يدعوهم إلى الله، ويأمرهم بتقواه وطاعته، ويحذّرهم من البغي والعدوان، لم يصيخوا لدعوته، ولم يؤمنوا برسالته. وإذا كانت السورة تسمّى بأغرب شيء فيها، فإن الغرابة في قصة هود هي أن قومه «عادا» كانوا أكثر فضلا ونعمة، ولكنهم قابلوا هذه النعمة بالجحود والكنود. وتذكر الآيات معارضتهم لهود وإنكارهم عليه، واعتقادهم أن آلهتهم أنزلوا به الجنون والاضطراب، فيتبرّأ هود من آلهتهم ويتحدّاهم، ويستنهض همتهم في أقصى ما يستطيعون من قوى الكيد، وأنه لن يعبأ بهم ولا بجمعهم، قال هود، كما ورد في التنزيل: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها [الآية 56] . وهي صورة محسوسة للقوة الإلهية. فالناصية أعلى الجبهة، والله تعالى

وحده صاحب القهر والغلبة والتصريف في كل ناصية، وهي صورة حسّيّة تناسب الموقف، وتناسب غلظة القوم وشدتهم، وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم، حين استكبروا في الأرض بغير الحقّ: وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) [فصّلت] . وتذكر الآيات هنا خاتمة أمر هود مع قومه، على حسب سنة الله في نصرة أوليائه وخزي أعدائه. قال تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) . وتستمرّ «سورة هود» فتعرض قصة صالح مع قومه، ودعوته لهم إلى دين الله، وتودّده إليهم بقوله كما ورد في التنزيل: وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ [الآية 64] . وكانت ناقة ضخمة تشرب من الماء في يوم، وتتركه فلا تذوقه في اليوم الآخر. ولكنهم عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، فنجّى الله صالحا ومن معه من المؤمنين، وأرسل صيحة عاتية أهلكت الكافرين، فصاروا جثثا هامدة، وأصبحت ديارهم خاوية خالية: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"هود"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «هود» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة هود بعد سورة يونس، ونزلت سورة يونس بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة هود في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لذكر قصة هود فيها، وتبلغ آياتها ثلاثا وعشرين ومائة آية. الغرض منها وترتيبها يقصد من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن مثل سورة يونس، ولهذا ذكرت بعدها لتكمل الغرض منها، ولتستوفي جانب القصص الذي ذكر فيها، وقد ابتدأت بإثبات تنزيل القرآن بالتنويه بشأنه وبيان حاجتهم إليه، وبتحدّيهم به كما تحدّوا به في سورة يونس، ثم انتقل من هذا الى القصص لتثبيت النبي (ص) على تكذيبهم له، ثم ختمت بما يناسب هذا السياق فيها. إثبات تنزيل القرآن الآيات [1- 24] قال الله تعالى: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) ، فأقسم بهذه الحروف انه كتاب أحكمت آياته ثم فصّلت فصولا: حلالا وحراما، ترغيبا وترهيبا، ونحو ذلك، وأنه أنزله كذلك ليعبدوه، ويستغفروه ويتوبوا إليه. ليمتعهم متاعا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

حسنا الى أجل مسمّى، ثم أوعدهم، إن تولّوا عنه، بعذاب يوم كبير، وذكر أن إليه مرجعهم وهو على كل شيء قدير، وأنه يعلم ما يسرّون وما يعلنون من أعمالهم، وما من دابة في الأرض إلا عليه رزقها ويعلم مستقرّها ومستودعها، وكل ذلك عنده في كتاب مبين ثم ذكر أنه سبحانه هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ليبلوهم: أيّهم أحسن عملا، فلا بدّ لهم من يوم يحاسبون فيه على أعمالهم ثم ذكر أن النبي (ص) إذا أخبرهم مع هذا بأنهم مبعوثون بعد الموت، يزعمون أن هذا سحر باطل لا حقيقة له، وأنه إذا أخّر عنهم جلّ جلاله هذا العذاب الذي يوعدهم به، يقولون على سبيل الاستهزاء: (ما يحبسه؟) . وأجابهم بأنه يوم يأتيهم لا يصرف عنهم ويحيق بهم ما كانوا به يستهزئون. ثم أراد أن يبين أنه لو عجّل لهم هذا العذاب لم يؤمنوا به، لأن الواحد منهم إذا أذاقه رحمة ثم نزعها منه يبالغ في اليأس والكفر، فإذا أذاقه نعماء بعد هذا، ظنّ أن السيئات ذهبت عنه الى غير عودة وبالغ في الفرح والفخر، ومثل هذا لا يتّعظ بنقمة ولا نعمة، ثم استثنى منهم الذين صبروا لأنهم لا ييأسون في النقمة ولا تبطرهم النعمة، ووعدهم مغفرة وأجرا كبيرا. ثم عاد السياق الى الحديث عن القرآن، فذكر تعالى للنبي (ص) أنه لعله يترك بعض ما يوحي إليه منه ويضيق به صدره لأنهم يطلبون آية تدل على أنه منزل من عنده سبحانه، كأن ينزل عليه كنزا أو يجيء معه ملك ثم ذكر أنه ليس إلّا نذيرا لهم، فلا يطلب منه إلّا أن يبلّغهم، وهو على كل شيء وكيل ثم ذكر أنّهم يزعمون أنه افتراه عليه، وأمره أن يتحدّاهم بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وأمرهم أن يدعوا من استطاعوا ليساعدوهم على الإتيان بها، ثم أمرهم إن لم يستجيبوا لهذا التحدّي، أن يعلموا أنه إنما أنزل بعلمه، وأنه لا إله إلا هو، لأنهم لم يستطيعوا هم وآلهتهم أن يأتوا بما تحدّاهم به، وطلب منهم أن يسلموا بعد عجزهم عنه ثم ذكر أن الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الإيمان به يوفّي إليهم أجور أعمالهم فيها، ولا يكون لهم في الآخرة إلا النار، ويحبط ما صنعوا فيها وتبطل أعمالهم، لأنهم

تثبيت النبي بالقصص على تكذيبهم الآيات [25 - 99]

وفّوا أجورها في دنياهم ثم ذكر أن من كان على بيّنة من ربّه- وهو القرآن- ويتلوه شاهد منه- وهو الإنجيل- ومن قبله كتاب موسى- وهو التوراة- لا يمكن أن يكون جزاؤه كغيره، أولئك يؤمنون به، ومن يكفر به فالنار موعده ثم نهى النبي (ص) على سبيل التعريض أن يكون في مرية منه: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) ثم ذكر أنه لا يوجد أظلم ممّن افترى عليه كذبا بشركهم، وأنهم يعرضون عليه، ويقول الأشهاد من الملائكة الذين كانوا يراقبونهم في دنياهم: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) ثم يذكرون أنهم كانوا يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون، وأنهم لم يكونوا معجزين في الأرض، وما كان لهم من دون الله من أولياء يمنعون عنهم، ولكنه أراد إمهالهم ليضاعف العذاب لهم، وأنهم ما كانوا يستطيعون سماع القرآن، وما كانوا يبصرون هديه، وأنهم خسروا أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون، وأنهم في الآخرة هم الأخسرون ثم أتبع هذا بوعد المؤمنين بأنهم أصحاب الجنة هم فيها خالدون، وضرب مثلا للفريقين فقال سبحانه: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) . تثبيت النبي بالقصص على تكذيبهم الآيات [25- 99] ثم قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) فذكر سبحانه أنه أرسل نوحا الى قومه لينذرهم قبل أن يأخذهم بعقابه. فأمرهم ألا يعبدوا إلا الله لأنه يخاف عليهم عذاب يوم أليم، فأجابه الذين كفروا من قومه بأنهم لا يرونه إلا بشرا مثلهم، ولا يرونه اتّبعه إلا أراذلهم بادي الرأي، ولا يرون لهم عليهم من فضل. بل يظنونهم كاذبين في دعواهم، ثم ذكر أنه أجابهم بأنه على بيّنة من ربّه وقد أتاه رحمة من عنده، فإذا كان هذا قد عمّي عليهم فلا يلزمهم أن يؤمنوا به وهم له كارهون. وقد فصّل في قصته هنا ما فصل، وذكر فيها ما لم يذكره في قصة يونس من الأخبار والحكم والمواعظ إلى أن ختمها ببيان ما كان من عقابه لمن

كذّبه، وأنه سبحانه نجّاه هو ومن آمن به وبارك عليه وعلى أمم منهم يهتدون بهديهم، ومنهم أمم سيمتّعهم في الدنيا ثم يمسهم منه عذاب أليم: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) . ثم ذكر أنه أرسل الى عاد أخاهم هودا فأمرهم سبحانه بعبادته وحده، وقد مضت قصته معهم في سورة الأعراف. لكن ما ذكر منها هنا يخالف ما ذكر منها هناك في السياق والأسلوب والزيادة والنقص، وقد ذكر في ختامها أنه لمّا جاء أمره بهلاكهم نجّى هودا ومن آمن به، وأنهم لا يذكرون إلا بأنهم جحدوا بآياته وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبّار عنيد: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) . ثم ذكر أنه أرسل إلى ثمود أخاهم صالحا، فأمرهم سبحانه أن يعبدوه وحده، وقد مضت قصتهم أيضا في سورة الأعراف، والفرق بينها في السورتين كالفرق بين قصة عاد فيهما، وقد ذكر في ختامها أنه، لمّا جاء أمره بهلاكهم نجّى صالحا ومن آمن به، وأخذت الكافرين الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) . ثم ذكر أنه جاءت رسله إبراهيم بالبشرى، وأنه قدّم لهم بعد السلام عجلا حنيذا «1» ليأكلوا منه فلم تمتدّ إليه أيديهم، فلما رأى ذلك نكرهم وأوجس منهم خيفة، فطمأنوه وأخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط، وكانت امرأته قائمة فضحكت فبشّروها بولد يولد لها من إبراهيم وهو إسحاق، وبولد يكون لإسحاق يكون هو يعقوب ثم ذكر أن إبراهيم طلب منهم أن يؤخّروا عذاب قوم لوط لعلّهم يؤمنون به، وأنهم أمروه أن يعرض عن هذا الطلب، لأنه قد جاء أمر الله بهلاكهم، ثم ذكر قصة قوم لوط وقد مضت في سورة الأعراف، والفرق بينها في السورتين هو ما سبق في قصة عاد وثمود، وقد ذكر جلّ وعلا في ختامها، أنه أمر لوطا وأهله إلا امرأته

_ (1) . اى مشويا

الخاتمة الآيات [100 - 123]

أن يخرجوا من قريتهم، ثم أمطر عليها حجارة من سجّيل منضود: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) . ثم ذكر أنه أرسل الى مدين أخاهم شعيبا، فأمرهم سبحانه أن يعبدوه وحده، وقد مضت قصتهم في سورة الأعراف، والفرق بينها في السورتين هو ما سبق في قصة عاد وثمود وقوم لوط، وقد ذكر في ختامها، أنه لما جاء أمره بهلاكهم نجّى شعيبا ومن آمن به، وأخذت الكافرين الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) ثم ذكر أنه أرسل موسى الى فرعون وقومه وقد مضت قصّتهم في سورة يونس، ولكنه لم يفصّلها هنا كما فصّلها هناك، وإنما ذكر تعالى أنهم خالفوه واتّبعوا أمر فرعون، فأوردهم النار، وبئس الورد المورود: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) . الخاتمة الآيات [100- 123] ثم قال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) فذكر أن ما سبق من أنباء القرى يقصّه عليه وبعضها لا تزال آثاره قائمة، وبعضها ذهبت آثاره كلّها، وأنه لم يظلمهم بهذا، ولكنهم ظلموا أنفسهم، باتخاذهم آلهة غيره، فلم تدفع عنهم شيئا ثم ذكر أن في هذا دليلا لمن خاف عذاب الآخرة، وأنه يوم يجمع له الناس وما يؤخره إلا لأجل معدود، إلى غير هذا مما ذكره من أحوال الأشقياء والسعداء فيه. ثم نهى النبي (ص) ، على سبيل التعريض، أن يكون في مرية ممّا يعبده قومه، وذكر أنهم لا يعبدون إلا كما يعبد الذين قصّ أخبار هلاكهم، وأنه سيوفّيهم نصيبهم من العذاب أيضا ثم ذكر أنه قد أنزل على موسى التوراة من قبله، فاختلفوا فيها كما اختلف قومه فيما أنزل اليه، وأنه لولا أن كلمته سبقت بتأخير عذابهم لقضى به بينهم، وأنه جلّت قدرته، لا بد أن يوفّي كلّا من الفريقين جزاء أعمالهم: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) ثم أمره أن يستمر على استقامته، كما أمر هو ومن تاب معه، ونهاهم أن يطغوا كما يطغى المشركون، أو يركنوا إليهم لئلّا تمسّهم النار، ولا يجدون من دونه أولياء ثم لا

ينصرون. وأمره أن يستمر على إقامة الصلاة في أوقاتها، وأن يصبر على تكذيب قومه له: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) . ثمّ عاد سبحانه الى أولئك الذين قصّت أخبار هلاكهم، فذكر سبحانه أنه لم يكن فيهم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممّن أنجاهم، وأنهم اتّبعوا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين، وأنه لم يكن ليهلك تلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، وأنه لو شاء لجعلهم مصلحين جميعا ولا يزالون مختلفين إلّا من رحمه، ولذلك خلقهم: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) . ثم ذكر للنبي (ص) ما قصّ من أنباء الرسل ليثبّت به فؤاده، وأنه جاءه في هذه السورة القصص الحقّ وموعظة وذكرى للمؤمنين، وأمره أن يخبر الذين لا يؤمنون بما جاء فيه من الوعيد بالعذاب، أن يعملوا ما يقدرون لمنعه، لأنه سيعمل لتحقيقه، وأمرهم أن ينتظروه لأنه والمؤمنين ينتظرونه لهم: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"هود"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «هود» «1» أقول: وجه وضعها بعد سورة يونس: أن سورة يونس ذكر فيها قصة نوح مختصرة جدا، مجملة «2» ، فشرحت في هذه السورة وبسّطت بما لم تبسطه في غيرها من السور، ولا في سورة الأعراف على طولها، ولا في سورة نوح التي أفردت لقصّته. فكانت هذه السورة شارحة لما أجمل في سورة يونس «3» . فإن قوله هناك: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ [يونس/ 109] ، هو عين قوله هنا: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) . [فكان أول هود تفصيلا لخاتمة يونس] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . وذلك من قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ [يونس/ 71] إلى فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) [يونس] . (3) . وذلك من قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الآية 25] إلى قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ [الآية 48] . [.....]

المبحث الرابع مكنونات سورة"هود"

المبحث الرابع مكنونات سورة «هود» «1» 1- أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [الآية 17] . قال ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية «2» : من كان على بيّنة: محمد (ص) والشاهد: جبريل. وقال زيد بن أسلم: من: محمّد والشاهد: القرآن. وقال الحسين «3» بن علي: من: المؤمن والشاهد: محمد (ص) . أخرج ذلك ابن أبي حاتم. وأخرج عن محمد بن الحنفية «4» قال: قلت لأبي: يا أبت: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ إنّ الناس يقولون: إنك أنت هو. قال: وددت أني أنا هو. لكنه لسانه «5» . وأخرج عن عباد بن عبد الله قال: قال علي: ما في قريش أحد، إلّا وقد نزلت فيه آية.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . هذا القول صحّحه ابن كثير. (3) . كذا في الطبري في «تفسيره» 12/ 10. (4) . محمد بن الحنفية: هو ابن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، لكنه نسب الى أمه، كان ثقة عالما من أفاضل أهل بيته، مات بعد الثمانين. (5) . المثبت من «تفسير الطبري» 12/ 10 ووقع في «الدر المنثور» 3/ 324: و «مجمع الزوائد» 7/ 37: «لسان محمد (ص) » . وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه خليد بن دعلج، وهو متروك.

قلت له: فما نزل فيك؟ قال: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ «1» . وفي «العجائب» للكرماني: قيل: (الشاهد) : ملك يحفظه «2» . وقيل: أبو بكر. وقيل: الإنجيل «3» . 2- وَيَقُولُ الْأَشْهادُ [الآية 18] . يأتي في سورة غافر «4» . 3- الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 19] . قال السّدّيّ: هو محمد (ص) . أخرجه ابن أبي حاتم. 4- وَفارَ التَّنُّورُ [الآية 40] . أخرجه ابن أبي حاتم عن علي قال: فار التنور من مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة. وأخرج عن ابن عباس في قوله تعالى: وَفارَ التَّنُّورُ. قال: العين التي بالجزيرة عين الوردة. وأخرج عن قتادة قال: التنوّر: أشرف الأرض، وأعلاها، عين بالجزيرة: عين الوردة «5» . وأخرج من وجه آخر عن ابن عباس قال: وَفارَ التَّنُّورُ بالهند. 5- وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) . قال ابن عباس: كان معه في السفينة ثمانون رجلا، معهم أهلوهم، أحدهم: جرهم «6» . أخرجه ابن أبي حاتم «7» .

_ (1) . ضعّفه ابن كثير في «تفسيره» . (2) . أخرجه الطبري في «تفسيره» 12/ 12 عن مجاهد، وهو جبريل كما في روايات أخر فيه. (3) . قال الطبري بعد أن أورد الأقوال في تفسير هذه الآية 12/ 12: «وأولى هذه الأقوال التي ذكرها بالصواب في تأويل قوله تعالى: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قول من قال: هو جبريل لدلالة قوله سبحانه في الآية نفسها: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً على صحة ذلك، وذلك أن نبي الله (ص) لم يتل قبل قبل القرآن كتاب موسى، فيكون ذلك دليلا على صحة قول من قال: عنى به لسان محمّد (ص) ، أو محمّدا نفسه، أو عليّا، على قول من قال عنى به عليّا، ولا يعلم أن أحدا كان تلا ذلك قبل القرآن، أو جاء به ممّن ذكر أهل التأويل أنه عني بقوله تعالى: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ غير جبرئيل عليه السلام. (4) . في الآية (51) وهو قوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) . (5) . عين الوردة: موضع على مقربة من الكوفة. انظر «الروض المعطار» : 423. (6) . وكان لسانه عربيّا، كما في «الدر المنثور» 3/ 333. (7) . والطبري 12/ 26- 27.

وأخرج في آثار عن قتادة، وكعب الأحبار، ومحمد بن عبّاد بن جعفر، ومطر، وغيرهم: أنه كان معه اثنان وسبعون مؤمنا، وهو، وزوجته، وأولاده الثلاثة: سام، وحام، ويافث وزوجات الثلاثة، وأنه ركبها في عشر خلون من رجب، ونزل في عشر خلون من المحرم «1» . 6- وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ [الآية 42] . قال قتادة: كان اسمه كنعان. أخرجه ابن أبي حاتم. وقيل: يام. حكاه السّهيلي. فائدة: وقع السؤال كثيرا، هل كان ماء الطوفان عذبا، او ملحا؟ لم نعبأ بذلك. ثم رأيت ما يدل على أنه كان عذبا. أخرج ابن أبي حاتم، من طريق نوح ابن المختار، عن أبي سعيد عقيص «2» قال: خرجت أريد أن أشرب ماء المر، فمررت بالفرات، فإذا الحسن والحسين فقالا: يا أبا سعيد، أين تريد؟ قلت: أشرب ماء المرّ. قالا: لا تشرب ماء المر، فإنه لما كان زمن الطوفان أمر الله الأرض أن تبلع ماءها، وأمر السماء أن تقلع، فاستعصى عليه بعض البقاع فلعنه، فصار ماؤه مرّا، وترابه سبخا «3» ، لا ينبت شيئا. 7- فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [الآية 65] . قال قتادة: هي: يوم الخميس، والجمعة، والسبت وصبّحهم العذاب يوم الأحد. أخرجه ابن أبي حاتم.

_ (1) . قال الطبري 12/ 27: والصواب من القول في ذلك القول أن يقال كما قال الله: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) يصفهم بأنهم كانوا قليلا، ولم يحدّ عددهم بمقدار، ولا خبر عن رسول الله (ص) صحيح. فلا ينبغي أن يتجاوز في ذلك حد الله، إذ لم يكن لمبلغ عدد ذلك حدّ من كتاب الله أو أثر عن رسول الله (ص) » . (2) . في «لسان الميزان» و «الميزان» : «عقيصا» وهو رجل غير ثقة في حديثه، حتى إن الدّارقطني تركه، ولم يوثّقه النسائي، ولا الجوزجاني. وقال ابن عديّ: ليس له رواية يعتمد عليها عن الصحابة، وإنما له قصص يحكيها. لذلك لا يعتمد على هذا الخبر وقول ابن عدي هذا يكفي لرده. انظر «ميزان الاعتدال» 3/ 88 و «لسان الميزان» 2/ 433. [.....] (3) . سبخا: مالحا.

8- وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ [الآية 71] . اسمها: سارة. 9- قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي [الآية 78] . سمّى السّدّيّ الكبرى: ريثا، والصغرى: رغوثا. أخرجه ابن أبي حاتم. وسمى الوسطى «1» .

_ (1) . هذه العبارة ضرب عليها بالقلم، وروى الطبري 12/ 51 عن مجاهد قال: لم يكنّ بناته، لكن كنّ من أمته، وكل نبي أبو أمته.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"هود"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «هود» «1» 1- وقال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ [الآية 5] . قوله تعالى: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ، أي: يزورّون عن الحق وينحرفون عنه: لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومن ازورّ عنه وانحرف، ثنى عنه صدره، وطوى عنه كشحه. أقول: و «ثني الصدر» من مجازات القرآن البديعة التي لم نعرفها في مجازات العرب. 2- وقال تعالى: لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) . قال الزجّاج: «لا» نفي لما ظنّوا أنه ينفعهم، كأنّ المعنى لا ينفعهم ذلك جرم أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) ، أي: كسب ذلك الفعل، لهم الخسران. وقال غيره: معناه: لا بدّ ولا محالة أنهم. وقيل: معناه حقا، ويستعمل في أمر يقطع عليه ولا يرتاب فيه، أي: لا شكّ أن هؤلاء الكفار هم أخسر الناس في الآخرة. أقول: حين اختلفت الأقوال في معنى «لا جرم» ، أصبحت الكلمة من المسائل المشكلة، فليس في طوق المتكلّم أن يستعملها، ولعل من أجل ذلك لم يكتب لها البقاء كثيرا في العربية، وقلّما نقف على شيء منها في النصوص. لقد روي في حديث قيس بن عاصم قوله: لا جرم لأفلّنّ حدّها. قال ابن الأثير: هذه كلمة ترد بمعنى

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

تحقيق الشيء، واختلف فيها فقيل أصلها التبرئة بمعنى لا بدّ، وقد استعملت بمعنى حقّا. وقال الخليل: إن «جرم» إنما تكون جوابا لما قبلها من الكلام، يقول الرجل: كان كذا وكذا وفعلوا كذا، فتقول: لا جرم أنهم سيندمون، أو انه سيكون كذا وكذا. 3- وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) . قوله تعالى: وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ، اي: اطمأنّوا إليه، وانقطعوا الى عبادته بالخشوع والتواضع، وهو من الخبت أي: الأرض المطمئنة. وقيل: معناه أنابوا وتضرّعوا إليه، وهو قول ابن عبّاس. وعن مجاهد: المعنى خضعوا له وخشعوا اليه، والكلّ متقارب. وفي قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) [الحج] . أي: المتواضعين: وقيل: المطمئنّين. وفي قوله تعالى: فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج/ 54] . فسّره ثعلب بأنه التواضع. وفي حديث الدعاء: «واجعلني لك مخبتا» . أقول: وهذا من الكلم القرآني الذي نهض له أهل العلم من اللغويين والمفسّرين، ووقفوا منه وقفات فيها جدّ وإخلاص. 4- وقال تعالى: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [الآية 27] . قوله تعالى: بادِيَ الرَّأْيِ بمعنى أوّل الرأي أو ظاهر الرأي، وانتصابه على الظرف، أصله: وقت حدوث أول رأيهم، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم، فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه. وقرئ بالهمز وغير الهمز. أقول: قد يحمل على الظرف مسائل كثيرة ليست من الظرف في الدلالة الزمانية أو المكانية، فما أضيف الى الظرف أو إلى كلّ ما يدلّ على شيء من الزمان والمكان ينصب على الظرفية، ألا ترى أن «أثناء» جمع ثني، و «خلال» مصدر يدل على المكان، ولكنهما اكتسبا الظرفية من الخافض «في» كما في قولهم: «في أثناء» ،

والخافض «من» في قولهم «من خلال» ، ثم اتسع في الاستعمال، وشاعت الظرفية في الكلمتين فأسقط الخافض فقيل: وحدث أثناء ذلك والأصل: «في أثناء ذلك» ، وقيل: وعرض خلال الأمر، والأصل: من خلال. 5- وقال تعالى: وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ [الآية 30] . المراد بقوله تعالى: مِنَ اللَّهِ، أي من انتقامه، فمن يمنعني من ذلك إن طردتهم أقول: وطيّ، «الانتقام» ، بهذه الصورة يتبين من المعنى وسياق الآية قبلها. وفي أسلوب القرآن، من الإيجاز بالحذف، ما لا يدركه إلا الفطن اللبيب. 6- وقال تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) . أقول: إن أسلوب القرآن جرى على نسق من إحكام الجملة العربية، فخصّها بشيء كثير من «التناسب» ، وأريد بالتناسب محاكاة الطول، حتّى لكأنّك مع هذا النظم البديع أمام مشهد متّصل الصّور منسجم الألوان، وهذا من لطف بديع القرآن. وأنت إذا تلوت: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ، ثم عقّبت عليها بقوله تعالى: وَيا سَماءُ أَقْلِعِي، غلب عليك جمال هذا التقطيع عن الانصراف الى السجع بين «ابلعي» و «أقلعي» . ونتابع هذا الأسلوب المحكم في وضع الفقر، المصيب كل الإصابة للمعنى بيانا وتصويرا، فنجد أنفسنا مأخوذين بلطف الصنعة في السّرد، وما يشبه الحركة الفنّية، في الخطاب والجواب الذي يقتضيه مقام سرد الخبر، ونتلو: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) . قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) . قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ

عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) . ونجتزئ بهذا القدر، من هذه اللغة الشريفة التي أحسن الله بناءها، فكان من ذلك سر الإعجاز. 7- وقال تعالى: أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ [الآية 60] . قوله تعالى: كَفَرُوا رَبَّهُمْ، المراد به (كفروا بربهم) فحذف الباء كقولهم: أمرتك الخير، والمعنى أمرتك بالخير، وهذا من باب الحذف والإيصال، وفي لغة القرآن، وغيره، نظائر وأشباه، قال تعالى: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) . ولا بد أن نستذكر قوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الأعراف/ 155] . وقد مرّ كلامنا على الآية. 8- وقال تعالى: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها [الآية 61] . المراد بقوله تعالى: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها، أي: أذن لكم في عمارتها، واستخراج قومكم منها، وجعلكم عمّارها. أقول: هذا هو أصل الاستعمار، فماذا من أمره في العربية المعاصرة. لا أريد أن ادخل في موضوع «الاستعمار» بمعناه الحديث، فهو تسلط أجانب أعداء على بلاد ليست بلادهم، والاستيلاء عليها والإفادة من خيراتها. ومن غير شكّ، أن في هذا فهما جديدا لهذه الكلمة، يدخل في باب التطور الجديد، وكم من كلمة هبطت من عل الى الدرك الأسفل، وليس غريبا أن تجد عكس ذلك. 9- وقال تعالى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [الآية 70] . قوله تعالى: نَكِرَهُمْ مثل أنكره واستنكره، إلا أنّ «منكور» قليل في كلامهم، وقال الأعشى: وأنكرتني وما كان الذي نكرت منّي الحوادث إلّا الشّيب والصّلعا أقول: قولهم: إنّ «منكور» قليل في كلامهم مع وجود الفعل الثلاثي، وهذا

مألوف في العربية، ألا ترى انهم قالوا: الظّلام والظّلمة، حتّى إذا أرادوا الفعل قالوا: أظلم الليل، وليس لهم «ظلم» . 10- قال تعالى: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) . أقول: والحنيذ المشويّ بالرّضف في أخدود، أي: بالحجارة. وهذا، مما كان معروفا في رسوم الجاهليين وغيرهم، من أهل البوادي. 11- وقال تعالى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) . قال الزمخشري «1» : كانت مساءة لوط وضيق ذرعه لأنه حسب أنهم إنس، فخاف عليهم خبث قومه، وأن يعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم. أقول: جاء في كتب اللغة: أن الذرع الطاقة. وضاق بالأمر ذرعه وذراعه أي: ضعفت طاقته، ولم يجد من المكروه فيه مخلصا، ولم يطقه ولم يقو عليه، وأصل الذّرع إنما هو بسط اليد فكأنك تريد: مددت يدي إليه فلم تنله، قال حميد بن ثور يصف ذئبا: وإن بات وحشا ليلة لم يضق بها ... ذراعا، ولم يصبح لها وهو خاشع وضاق به ذرعا مثل ضاق به ذراعا، ... ونصب «ذرعا» ، لأنه خرج مفسّرا محوّلا، لأنه كان في الأصل: ضاق ذرعي به، فلما حوّل الفعل خرج قوله ذرعا مفسّرا، ومثله طبت به نفسا، وقررت به عينا. وأصل «الذّرع» ان يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه، فإذا حملته على أكثر من طاقته حتى يبطر، ويمدّ عنقه ضعفا عمّا حمل عليه. 12- وقال تعالى: وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ [الآية 78] . قال أبو عبيدة: معناه يستحثّون إليه كأنه يحثّ بعضهم بعضا. وتهرّع إليه: عجل. أقول: وأصل الهرع والهرع والإهراع شدّة السّوق، وسرعة العدو، قال الشاعر: كأنّ حمولهم متتابعات، ... رعيل يهرعون الى رعيل وهذا الفعل «هرع» ، ومثله قولهم

_ (1) . «الكشاف» 2/ 413.

«ضاق به ذرعا» في الآية السابقة، يدلان دلالة واضحة على مكانة البداوة وتأثيرها في العربية، وكيف أنها أمدّت هذه اللغة بذخائر حوّلها الاستعمال وأبعد عنها صفة البداوة، فصارت من مواد الحضارة. ومن المفيد أن أشير الى أن الفعل «هرع» بني في استعمالهم على ما لم يسمّ فاعله: وقالوا معناه المعلوم مثل سقط وحمّ وغمّ وغير ذلك. غير أن المعربين في عصرنا، درجوا على بنائه على «فعل يفعل» نظير «سطع يسطع» ، وكأن التنبيه على موطن التجاوز والخطأ أفاد، فبدأ إصلاحهم للخطأ. 13- وقال تعالى: وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ [الآية 89] . قوله تعالى: لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ، أي: لا يكسبنّكم شقاقي إصابة العذاب. و «جرم» مثل «كسب» في تعدّيه الى مفعول واحد والى مفعولين: تقول: جرم ذنبا وكسبه، وجرمته ذنبا وكسبته إيّاه، قال: ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا وقرأ ابن كثير بضم الياء من «أجرمته ذنبا» إذا جعلته جارما له، أي: كاسبا، وهو منقول من «جرم» المتعدّي الى مفعول واحد، كما نقل «أكسبه المال» من «كسب المال» ، وكما لا فرق بين كسبته مالا وأكسبته إيّاه، فكذلك لا فرق بين «جرمته ذنبا» و «أجرمته إيّاه» . والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما، إلّا ان المشهورة أفصح لفظا «1» . أقول: وليس لنا شيء من هذا الفعل. بهذه الدلالة أو ما يقرب منها في عربيتنا المعاصرة. 14- وقال تعالى: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا [الآية 92] . والظّهريّ: الذي تجعله بظهر، أي: تنساه وتغفل عنه، والمراد بالآية أي لم تلتفتوا إليه، وتركتم أمر الله وراء ظهوركم. قال ابن سيده: واتّخذ حاجته ظهريّا، استهان بها كأنّه نسبها الى الظّهر، على غير قياس، كما قالوا في النّسب الى البصرة بصريّ.

_ (1) . «الكشاف» 2/ 421.

وفي حديث عليّ- عليه السلام-: اتّخذتموه وراءكم ظهريّا حتى شنّت عليكم الغارات، أي: جعلتموه وراء ظهوركم. أقول: لم يبق من هذه المادة الجميلة إلا ما ورد على التثنية، وهو معروف لدى القلة من أهل العربية الملتزمة بالفصاحة، يقال: هو نازل بين ظهرانيهم، أي: بين أظهرهم، وأقام بينهم. وقد ورد في الحديث الشريف أيضا، ويقال بين ظهريهم أيضا. وينبغي أن ننبّه الى أنّ قولهم: «بين ظهرانيهم» و «ظهريهم» ينبغي أن يكون الأول والثاني بفتح الظاء، والأول أيضا بفتح النون. وتنبيهي هذا دليل أن الخطأ معروف، كما أن الأقدمين نبّهوا على مثل هذا. 15- وقال سبحانه وتعالى: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) . أي: ما زادوهم غير تخسير، يقال: تبّ إذا خسر، وتبّبه غيره إذا أوقعه في الخسران. أقول: لا نعرف في العربية المعاصرة هذا الفعل ولا المصدر، كما لا نعرف الثلاثي منه، ولا نقرأه إلّا في لغة التنزيل. 16- وقال تعالى: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) . والمعنى: غير مقطوع. وجذّ الشّعر معروف في عصرنا في العربية المعاصرة. أما الجذ بمعنى القطع كما في الآية، فهو معروف في العربية القديمة، فالجذّ القطع، وكسر الشيء الصّلب، والجذاذ والجذاذ، ما كسر منه، وضمّه أفصح من كسره، والواحدة جذاذة، وقطع الفضة الصغار جذاذ، ويقال لحجارة الذهب. والجذاذات القراضات للفضة. وجذذت الحبل قطعته فانجذّ، وجذّ النّخل يجذّه جذا وجذاذا وجذاذا حرمه. عن اللحيانيّ، وهي مثل جزّ جزا وجزازا وجزازا. ورحم جذّاء: مقطوعة. أقول: ذهب كل هذا وليس لنا إلّا الشّعر يجذّ، وإلّا قول المعاصرين من الباحثين في مصطلحهم «الجذاذة» لقطعة الورق، التي يثبتون فيها فائدة خاصة، يرجعون إليها بعد جمع ما يحتاجون إليه من فوائد ومعارف، لتدخل في المادة التي يحرّرونها كتابا أو أي شيء آخر.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"هود"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «هود» «1» وقال تعالى: إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا بجعله خارجا من أوّل الكلام على معنى «ولكنّ» «2» وقد فعلوا هذا فيما هو من أول الكلام، فنصبوا. وقال الشاعر «3» [من البسيط وهو الشاهد الحادي والثلاثون بعد المائتين] : يا صاحبيّ ألا لا حيّ بالوادي ... إلّا عبيدا قعودا بين أوتاد فتنشده العرب نصبا. وقال تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً [الآية 17] على خبر المعرفة. وقال تعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [الآية 17] وقرأ بعضهم (مرية) «4» تكسر وتضم وهما لغتان «5» . وقال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ [الآية 24] أي: «كمثل الأعمى والأصمّ» «6» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في إعراب القرآن 2/ 471 والمشكل 1/ 356 والجامع 9/ 11. (3) . هو صخر الغي الهذلي، شرح أشعار الهذليين 939 والمحتسب 2/ 292 وديوان صخر الغي 71. (4) . في الشواذ 59 الى الإمام علي بن أبي طالب والحسن، وفي البحر 5/ 211 الى السلمي وأبي رجاء وأبي الخطاب والسدوسي والحسن، وقال هي لغة أسد وتميم والناس وأهل مكة (كذا) . (5) . الكسر لأهل الحجاز، والضم لتميم وأسد، المزهر 2/ 276 واللهجات العربية 184. (6) . نقله في إعراب القرآن 2/ 474 والجامع 9/ 21.

وقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [الآية 27] أيّ: في ظاهر الرأي. وليس بمهموز لأنّه من «بدا» «يبدو» أي: ظهر. وقال بعضهم (بادئ الرأي) أي: فيما يبدأ به من الرأي «1» . وقال تعالى: قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [الآية 32] وقرأ بعضهم (جدلتنا) «2» وهما لغتان. وقال تعالى: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الآية 40] بجعل الزوجين الضربين الذكور والإناث. وزعم يونس «3» أن قول الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائتين] : وأنت امرؤ تعدو على كلّ غرّة ... فتخطئ فيها مرّة وتصيب يعني الذئب. وقال: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [الآية 41] بجعلها من جريت «4» ، وقرأ بعضهم (مجراها ومرساها) إذا جعلت من أجريت» .

_ (1) . القراءة بلا همز في الطبري 12/ 27 نسبت الى عامة قراء المدينة والعراق، وفي السبعة 332 والكشف 1/ 526 والتيسير 124 الى غير أبي عمرو. والقراءة بالهمز في الطبري 12/ 27 الى بعض أهل البصرة، وفي السبعة 332 والكشف 1/ 526 والتيسير 124 والجامع 9/ 24 الى أبي عمرو وفي البحر 5/ 215 زاد عيسى الثقفي. (2) . في الجامع 9/ 28 والبحر 5/ 218 الى ابن عباس، وزاد الشواذ 60 السختياني، وفي الإملاء 2/ 38 أنّ الجمهور على إثبات الألف. (3) . هو يونس بن حبيب، وقد سبقت ترجمته. [.....] (4) . في معاني القرآن 2/ 14 أن فتح الميم الاولى إلى مسروق وعبد الله، وفي الكشف 1/ 528 فتح الميم الأولى إلى حفص والكسائي، وكذلك في السبعة 333 والتيسير 124 والبحر 5/ 225 وفتح الميم الى ابن مسعود وعيسى بن عمر الثقفي وزيد بن علي والأعمش. (5) . هي في معاني القرآن 2/ 14 الى ابراهيم النخعي والحسن وأهل المدينة، وهي بضم الثانية وحدها الى مسروق وعبد الله وفي السبعة 333 أنّ ضمّ الميم في الأولى الى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم في رواية، والى أبي بكر، وضم الميم في الثانية له القراء كلهم، وفي الكشف 1/ 528 ضم الميم في مجراها إلى غير حفص وحمزة والكسائي، وضم الميم في الثانية الى الإجماع. وفي البحر 5/ 225 ضم الميم في الاولى إلى مجاهد والحسن وأبي حيّان والأعرج وشيبة والجمهور من السبعة والحرميين والعربيين وأبي بكر، وضمّ الميم في الثانية الى القراء كلهم.

وقرأ بعضهم (مجريها ومرسيها) «1» لأنه أراد أن يجعل ذلك صفة لله عز وجل. وقال تعالى: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي [الآية 43] بقطع (سآوى) لأنّه «أفعل» وهو يعني نفسه. وقال: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [الآية 43] ويجوز أن يكون على «لإذا عصمة» أي: معصوم ويكون إِلَّا مَنْ رَحِمَ رفعا بدلا من العاصم «2» . وقال تعالى: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [الآية 46] منوّن «3» لأنه حين قال- والله أعلم: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الآية 46] كان في معنى «أن تسألني» فقال إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وقال وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ [الآية 48] بالرفع على الابتداء نحو قولك «ضربت زيدا وعمرو لقيته» على الابتداء «4» . وقال: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الآية 64] بالنصب على خبر المعرفة. وقال: قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ [الآية 72] فإذا وقفت قلت (يا ويلتاه) لأنّ هذه الألف خفيفة وهي مثل ألف الندبة فلطفت من أن تكون في السكت وجعلت بعدها الهاء، ليكون أبين لها، وأبعد للصوت. وذلك أنّ الألف إذا كانت بين حرفين كان لها صدّى كنحو الصوت يكون في جوف الشيء، فيتردّد فيه فيكون أكثر وأبين. ولا تقف على ذا الحرف في القرآن كراهية خلاف الكتاب. وقد ذكر أنه يوقف على ألف الندبة فان كان هذا صحيحا، وقفت على الألف.

_ (1) . في معاني القرآن 2/ 14 إلى مجاهد، وفي الطبري 12/ 44 الى أبي رجاء العطاردي، وفي الجامع 9/ 37 الى مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري وأبي رجاء العطاردي، وفي البحر 5/ 225 الى الضحّاك والنخعي وابن وثّاب وأبي رجاء ومجاهد وابن جندب والكلبي والجحدري. (2) . نقله في التهذيب 2/ 54 «عصم» . (3) . في معاني القرآن 2/ 17 نسبت إلى عامة القراء، وفي الطبري 12/ 50 و 51 و 52 إلى الحسن وابن عباس وسعيد بن جبير والضحّاك وعامة قراء الأمصار وابراهيم وقتادة ومجاهد. وفي السبعة 334 الى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة، وفي الكشف 1/ 530 والتيسير 125 الى غير الكسائي. (4) . نقله في إعراب القرآن 2/ 481 والجامع 9/ 48 والبحر 231.

وقال تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ [الآية 74] وهو الفزع. ويقال: «ألقي في روعي» ويقال: «أفرخ روعك» «1» و «ألقي في روعي» أي: في خلدي. «فالروع» القلب والعقل. و «الرّوع» : الفزع. وقال تعالى: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [الآية 78] بالرفع «2» ، وكان عيسى «3» يقول (هنّ أطهر لكم) «4» وهذا لا يكون إنما ينصب خبر الفعل الذي لا يستغني عن خبر، إذا كان بين الاسم وخبره هذه الأسماء المضمرة التي تسمى الفصل، يعني: «هي» و «هو» و «هنّ» ، وزعموا أن النصب قراءة الحسن أيضا. وقال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي [الآية 78] ف «الضيف» : يكون واحدا ويكون جماعة. تقول: «هؤلاء ضيفي» ، هذا ضيفي، كما تقول: «هؤلاء جنب» و «هذا جنب» ، و «هؤلاء عدوّ» و «وهذا عدوّ» . وقال تعالى: قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [الآية 80] وبإضمار «لكان» . وقال إِلَّا امْرَأَتَكَ [الآية 81] يقول: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ بالنصب «5» . وقرأ بعضهم (إلّا أمرأتك) بالرفع «6» وحمله على الالتفات. أي لا يلتفت منكم إلّا امرأتك. وقال: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً بالنصب

_ (1) . مثل من أمثال العرب التهذيب 3/ 177 راع، واللسان «روع» ، مجمع الأمثال 2/ 81 مثل 2789، وفصل المقال 57 و 356. (2) . في الطبري 12/ 85 والجامع 9/ 76 والبحر 5/ 246 نسبت الى العامة والجمهور. (3) . هو عيسى بن عمر الثقفي، وقد مرت ترجمته. (4) . نسبها في الطبري 12/ 85 إلى عيسى، وزاد عليه في الجامع 9/ 76 الحسن البصري، وزاد في الشواذ 60 محمد بن مروان وأبا عمرو بن العلاء، وأغفل الحسن، وفي البحر 5/ 247 نسبها الى الحسن وزيد بن علي وعيسى وسعيد بن جبير ومحمد بن مروان، وفي المحتسب 325 نسبها الى سعيد بن جبير والحسن بخلاف، ومحمد بن مروان وعيسى وابن أبي إسحاق. (5) . في الطبري 12/ 89 نسبها الى عامة القراء من الحجاز والكوفة، وفي الكشف 1/ 536 والتيسير 125 والبحر 5/ 248 إلى غير ابن كثير وأبي عمرو، وعيّن منهم في الجامع 9/ 80 ابن مسعود، وفي السبعة 338 الى نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. (6) . في معاني القرآن 2/ 24 الى الحسن، وفي الطبري 12/ 89 الى بعض البصريين، وفي السبعة 338 والكشف 1/ 536 والتيسير 125 والجامع 9/ 80 والبحر 5/ 248 الى ابن كثير وأبي عمرو.

بالتنوين. ف «المنضود» من صفة «السّجّيل» ، و «المسوّمة» من صفة «الحجارة» فلذلك انتصب. وقال تعالى: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا [الآية 87] أي «أن نترك وأن نفعل في أموالنا ما نشاء» وليس المعنى «أصلاتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء» لأنه ليس بذا أمرهم. وقرأ بعضهم (تشاء) «1» وذلك إذا عنوا شعيبا. وقال تعالى: مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) يريد «ومحصود» ك «الجريح» و «المجروح» . وقال سبحانه: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الآية 105] ومعناه «تتفعّل» فكان الأصل أن تكون «تتكلّم» ولاستثقال اجتماع التاءين حذفت الآخرة منهما، لأنها هي التي تعتل فهي أحقهما بالحذف، ونحو (تذكّرون) «2» يسكنها الإدغام، فإن قيل: «فهلّا أدغمت التاء هاهنا في الذال وجعلت قبلها ألف وصل، كما قلت: «اذّكّروا» فلأن هذه الألف إنما تقع في الأمر وفي كلّ فعل معناه «فعل» فأما «يفعل» و «تفعل» ، فلا. وقال تعالى: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا [الآية 54] على الحكاية تقول: «ما أقول إلّا» : «ضربك عمرو» و «ما أقول إلّا: «قام زيد» . وقال: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ [الآية 66] فأضاف (خزي) الى «اليوم» فجرّه، وأضاف «اليوم» إلى «إذ» فجرّه «3» . وقال تعالى: نَكِرَهُمْ [الآية 70] تقول «نكرت الرجل» و «أنكرته» . وقال: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) فهو مصدر «تبّبوهم» «تتبيبا» .

_ (1) . في الشواذ 61 نسبت القراءة بالتاء إلى الإمام علي بن ابي طالب والضحاك. وأبدل في الجامع 9/ 87 السلمي بالإمام. وفي البحر 5/ 253 زاد ابن أبي عبلة وزيد بن علي وطلحة. أما القراءة بالنون فهي في البحر 5/ 253 الى الجمهور. (2) . في الأصل تذكرون، والكلام يشير الى ما أثبتناه، وقد وردت هذه اللفظة في سبعة عشر موضعا من القرآن الكريم، أولها الأنعام 6/ 152 وآخرها الحاقة 69/ 42. [.....] (3) . هي في السبعة 336 قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحمزة وعاصم، والى نافع في رواية، وفي الكشف 1/ 532 والتيسير 125 والبحر 5/ 240 الى غير نافع والكسائي، وخصّ من المستثنى منهم في الجامع 9/ 61 أبا عمرو.

وقال: إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ [الآية 8] و «الأمّة» : الحين كما قال وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف/ 45] . وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ [الآية 15] ف كانَ في موضع جزم وجوابها نُوَفِّ. وقال تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [الآية 17] بإضمار الخبر. وقال فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [الآية 17] بجعل النار هي الموعد، وإنّما الموعد فيها كما تقول العرب: «الليلة الهلال» ومثلها إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [الآية 81] . وقال: وَغِيضَ الْماءُ [الآية 44] تقول «غضته» ف «أنا أغيضه» وتقول: «غاضته الأرحام» ف «هي تغيضه» وقال: وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ [الرعد/ 8] . وفي قوله تعالى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [الآية 44] ثقّل «الجوديّ» لأن الياء ياء النسبة، فكأنه أضيف الى «الجود» كقولك: «البصريّ» و «الكوفيّ» . وقال: وَلا تَطْغَوْا [الآية 112] من «طغوت» «تطغا» مثل «محوت» «تمحا» . وقال تعالى: وَلا تَرْكَنُوا [الآية 113] من «ركن» «يركن» ، وإن شئت قلت «ولا تركنوا» «1» وجعلتها من «ركن» «يركن» . وقال تعالى: طَرَفَيِ النَّهارِ [الآية 114] بتحريك الياء لأنها ساكنة لقيها حرف ساكن، لأن اكثر ما يحرّك الساكن بالكسر، نحو يا صاحِبَيِ السِّجْنِ [يوسف/ 39 و 41] . وقال تعالى: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [الآية 114] لأنها جماعة، تقول «زلفة» و «زلفات» و «زلف» . وقال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) لأنه عنى النبيّ (ص) ، أو قال له «قل لهم وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) » .

_ (1) . هي في الشواذ 61 الى قتادة، وفي المحتسب 329 زاد طلحة والأشهب وأبا عمرو، وأغفل في الجامع 9/ 108 أبا عمرو والأشهب، وفي البحر 5/ 269 كما في المحتسب.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"هود"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «هود» «1» إن قيل: لم قال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [الآية 3] مع أن التوبة مقدّمة على الاستغفار؟ قلنا: المراد: استغفروا ربكم من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. كذا قاله مقاتل. وهذا الاستغفار مقدم على هذه التوبة. الثاني: أنّ فيه تقديما وتأخيرا. الثالث قال الفرّاء: ثمّ هنا بمعنى الواو، وهي لا تفيد ترتيبا، فاندفع السؤال. فإن قيل: من لم يستغفر ولم يتب، فإنّ الله يمتّعه متاعا حسنا الى أجله: أي يرزقه ويوسع عليه كما قال ابن عباس، أو يعمّره كما قال ابن قتيبة، فما الحكمة في قوله تعالى وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى؟ قلنا: قال غيرهما: المتاع الحسن، المشروط بالاستغفار والتوبة، هو الحياة في الطاعة والقناعة، ومثل هذه الحياة إنما تكون للمستغفر التائب التقي. فإن قيل: قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [الآية 6] لم لم يقل على الأرض مع أنه أشدّ مناسبة لتفسير الدابة لغة، فإنها ما يدب على وجه الأرض؟ قلنا: «في» هنا بمعنى «على» ، كما في قوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه/ 71] ، وقوله تعالى أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ [الطور/ 38] . الثاني:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

أن لفظة «في» أعم وأشمل، لأنها تتناول كل دابة على وجه الأرض، وكل دابة في باطن الأرض، بخلاف على. فإن قيل: لم خصّ الدابة بذكر ضمان الرزق، والطير كذلك رزقه على الله تعالى، وهو غير الدابة بدليل قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام/ 38] . قلنا: إنّما خص الدابة بالذكر، لأن الدواب أكثر من الطيور عددا، وفيها ما هو أكبر جثة من كل فرد من أفراد الطير، كالفيل والحوت، فيكون أحوج الى الرزق، فلذلك خصّه بالذكر. فإن قيل: لم قال الله تعالى: إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [الآية 6] و «على» للوجوب، والله تعالى لا يجب عليه شيء وإنما يرزقها تفضّلا منه وكرما. قلنا: «على» هنا بمعنى «من» ، كما في قوله تعالى الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) [المطفّفين] . الثاني: أنه ذكره بصيغة الوجوب، ليحصل للعبد زيادة سكون وطمأنينة في حصوله. فإن قيل: لم قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك/ 2] والخطاب عامّ للمؤمنين والكافرين، فإنه امتحن الفريقين بالأمر بالطاعة والنهي عن المعصية، وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت الى أحسن وأحسن، فأما أعمال الفريقين فتفاوتها الى حسن وقبيح. قلنا: قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ عامّ، أريد به الخاص، وهم المؤمنون تشريفا لهم وتخصيصا، فصحّ قوله سبحانه: أَحْسَنُ عَمَلًا. فإن قيل: لم قال تعالى: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [الآية 12] ولم يقل و «ضيّق» ؟ قلنا: ليدل على أن ضيقه عارض غير ثابت، لأن النبي (ص) كان أفسح الناس صدرا، ونظيره قولك: زيد سائد وجائد، فإذا أردت وصفه بالسيادة والجود الثابتين المستقرين قلت زيد سيّد وجواد، كذا قال الزمخشري. فإن قيل: قال تعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [الآية 13] أمرهم بالإتيان بمثله وما يأتون به لا يكون مثله، لأن ما يأتون به مفترى، والقرآن ليس بمفترى.

قلنا: أراد به مثله في البلاغة والفصاحة، وإن كان مفترى. وقيل معناه: مفتريات، كما أن القرآن مفترى في زعمكم واعتقادكم، فيتماثلان. فإن قيل: لم قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا فأفرد في قوله قُلْ ثم جمع فقال فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا [الآية 14] . قلنا: الخطاب للنبي (ص) في الكل، ولكنه جمع في قوله عزّ وجلّ: لَكُمْ فَاعْلَمُوا تفخيما له وتعظيما. الثاني: أن الخطاب الثاني للنبي (ص) وأصحابه، لأن النبي (ص) وأصحابه كانوا يتحدّونهم بالقرآن، وقوله تعالى في موضع آخر: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ [القصص/ 50] يعضد الوجه الاول. الثالث: أن يكون الخطاب في الثاني والثالث للمشركين، والضمير في يَسْتَجِيبُوا لمن استطعتم، يعني فإن لم يستجب لكم من تدعونه المظاهرة على معارضته، لعجزهم، فاعلموا أيها المشركون أنما أنزل بعلم الله، وهذا وجه لطيف. فإن قيل: قوله تعالى: وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها [الآية 16] يدل على بطلان عملهم، فما الحكمة في قوله بعده وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الآية 16] ؟ قلنا: المراد بقوله تعالى: وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها أي بطل ثواب ما صنعوا من الطاعات في الدنيا وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) من الرياء. فإن قيل: لم قال نوح عليه السلام كما ورد في التنزيل وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا [الآية 29] بالواو، وقال هود عليه السلام، كما ورد في التنزيل أيضا يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ [الآية 51] بغير الواو؟ قلنا: لأن الضمير في عَلَيْهِ لتبليغ الرسالة المدلول عليه بأول الكلام في القصتين، ولكن في قصة نوح عليه السلام وقع الفصل بين الضمير وبين ما هو عائد عليه بكلام آخر، فجيء بواو الابتداء: وفي قصة هود عليه السلام لم يقع بينهما فصل فلم يحتج الى واو الابتداء، هذا ما وقع لي فيه، والله اعلم. فإن قيل: قوله تعالى لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الآية 43] لا يناسبه

المستثنى في الظاهر، وهو قوله سبحانه في الآية نفسها: إِلَّا مَنْ رَحِمَ لأن المرحوم معصوم، فظاهره يقتضي «1» لا معصوم إلّا من رحم: أي لا معصوم من الغرق بالطوفان إلّا من رحمه الله بالإنجاء في السفينة؟ قلنا: عاصم هنا بمعنى معصوم، كقوله تعالى: مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) [الطارق] أي مدفوق، وقوله تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) [الحاقة] أي مرضية، وقول العرب: سرّ كاتم: أي مكتوم. الثاني أن معناه: لا عاصم اليوم من أمر الله إلّا من رحم، أي إلا الراحم وهو الله تعالى، وليس معناه المرحوم، فكأنه قال: لا عاصم إلا الله. الثالث أن معناه: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا مكان من رحم الله من المؤمنين، ونجّاهم وهو السفينة، ويناسب هذا الوجه قوله تعالى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وهذا لأنّ ابن نوح عليه السلام، لمّا جعل الجبل عاصما من الماء، ردّ نوح عليه السلام، ذلك، ودلّه على العاصم وهو الله تعالى، أو المكان الذي أمر الله بالالتجاء إليه، وهو السفينة. فإن قيل: كيف صح أمر السماء والأرض بقوله تعالى وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [الآية 44] وهما لا يعقلان، والأمر والنهي إنما يكون لمن يفعل ويفهم الخطاب؟ قلنا: الخطاب لهما في الصورة، والمراد به الخطاب للملائكة الموكّلين بتدبيرهما. الثاني: أن هذا أمر إيجاب لا أمر إيجاد، وأمر الإيجاد لا يشترط فيه العقل والفهم، لأن الأشياء كلها بالنسبة الى امر الإيجاد مطيعة منقادة لله تعالى، ومنه قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس] وقوله تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصّلت/ 11] كل ذلك أمر إيجاد. فإن قيل: لم قال تعالى هنا: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ [الآية 45] بالفاء، وقال في قصة زكريا عليه الصلاة

_ (1) . قوله (فظاهره يقتضي إلخ) لا يخفى أنه على هذا الظاهر لا ورود لصورة الإشكال، إذ هو عين ما صدر به في الجواب عنه فكان المناسب في تقدير السؤال، بقاء العاصم على حقيقته، وهو الحافظ، وجعل المراد ممّن رحم، المرحوم لا الراحم، وهو الله تعالى، كما هو أحد التأويلات.

والسلام إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ [مريم] بغير فاء؟ قلنا: أراد بالنداء هنا إرادة النداء فجاء بالفاء الدالة على السببية، فإن إرادة النداء سبب للنداء، فكأنه قال: وأراد نوح نداء ربه فقال كيت وكيت، وأراد به في قصة زكريا عليه الصلاة والسلام حقيقة النداء، فلهذا جاء بغير فاء لعدم ما يقتضي السببية. فإن قيل: هود عليه الصلاة والسلام كان رسولا ولم يظهر معجزة، ولهذا قال له قومه: يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ ( [الآية 53] فبأي شيء لزمتهم رسالته؟ قلنا: إنّما يحتاج الى المعجزة، من الرسل، من يكون صاحب شريعة لتنقاد أمّته لشريعته، فإن في كل شريعة أحكاما غير معقولة فيحتاج الرسول الآتي بها، الى معجزة لتشهد بصحة صدقه، فأما الرسول الذي لا تكون له شريعة ولا يأمر إلّا بالعقليات فلا يحتاج الى معجزة، لأن الناس ينقادون الى ما يأمرهم به لموافقته للعقل، وهود (ع) كان كذلك. الثاني: أنه نقل أن معجزة هود كانت الريح الصرصر، فإنها كانت سخّرت له. فإن قيل: على الوجه الأول لو كان أمره لهم مقصورا على العقليات لما خالفوه وكذبوه ونسبوه الى الجنون، بقولهم كما ورد في التنزيل يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ إلى بِسُوءٍ. قلنا: إنما صدر ذلك القول من قاصري العقول أو المعاندين المكابرين، كما قيل ذلك لكل رسول بعد إتيانه بالمعجزات الظاهرات والآيات الباهرات. فإن قيل: هل قوله تعالى: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا [الآية 54] لتتناسب الجملتان؟ قلنا: لأن إشهاد الله تعالى على البراءة من الشرك إشهاد صحيح، مفيد تأكيد التوحيد وشده معاقده وأما إشهادهم فما هو إلا تهكّم بهم وتهاون ودلالة على قلة المبالاة، لأنهم ليسوا أهلا للشهادة فعدل به عن اللفظ الأول، وأتى به على صورة التهكّم والتهاون كما يقول الرجل لصاحبه إذا لاحاه: اشهد إني لأحبك، تهكّما به واستهانة له. فإن قيل: قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [الآية 57] جعل التولّي

شرطا والإبلاغ جزاء، والإبلاغ كان سابقا على التولّي. قلنا: ليس الإبلاغ جزاء التولّي، بل جزاؤه محذوف تقديره: فإن تولّوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ أو تقصير فيه، ودلّ على الجزاء المحذوف قوله سبحانه: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ. الثاني: قال مقاتل تقديره: فإن تولّوا فقل لهم قد أبلغتكم. فإن قيل: ما الحكمة من تكرار التنجية في قوله تعالى وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) ؟ قلنا: أراد بالتنجية الأولى تنجيتهم من عذاب الدنيا الذي نزل بقوم هود، وهو سموم أرسلها الله تعالى عليهم فقطّعتهم عضوا عضوا، وأراد بالتنجية الثانية تنجيتهم من عذاب الآخرة الذي استحقّه قوم هود بالكفر، ولا عذاب أغلظ منه ولا أشدّ. فإن قيل: بُعْداً [الآية 44] معناه عند العرب الدعاء عليهم بالهلاك بعد هلاكهم. قلنا: معناه الدلالة على أنهم مستأهلون له وحقيقون به، ونقيضه قول الشاعر: إخوتي لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا أراد بالدعاء لهم بنفي الهلاك بعد هلاكهم الإعلام بأنهم لم يكونوا مستأهلين له ولا حقيقين به. فإن قيل: قوله تعالى: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ [الآية 84] نهي عن النقص فيهما، والنهي عن النقص أمر بالإيفاء معنى، فما الحكمة في قوله تعالى في الآية التالية: وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ. قلنا: صرّح أوّلا بنهيهم عن النقص الذي كانوا يفعلونه لزيادة المبالغة في تقبيحه وتغييرهم إيّاه، ثم صرح بالأمر بالإيفاء بالعدل الذي هو حسن عقلا، لزيادة الترغيب فيه والحثّ عليه. فإن قيل: قوله تعالى: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) والعثوّ الفساد، فيصير المعنى: ولا تفسدوا في الأرض مفسدين؟ قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة. وجواب آخر معناه: ولا تعثوا في الأرض بالكفر، وأنتم مفسدون بنقص المكيال والميزان.

فإن قيل: لم قال تعالى: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الآية 86] فشرط الإيمان في كون البقيّة خيرا لهم، وهي خير لهم مطلقا لأن المراد ببقيّة الله ما يبقى لهم من الحلال، بعد إيفاء الكيل والوزن، وذلك خير لهم، وإن كانوا كفّارا، لأنهم يسلمون معه من عقاب البخس والتطفيف؟ قلنا: إنما شرط الإيمان في خيرية البقيّة، لأن خيريتها وفائدتها مع الإيمان أظهر، وهو حصول الثواب مع النجاة من العقاب، ومع فقد الإيمان أخفى لانغماس صاحبها في عذاب الكفر، الذي هو أشدّ العذاب. الثاني: أن المراد إن كنتم مصدّقين، فيما أقول لكم وأنصح. فإن قيل: لم قال تعالى: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) ولم يقل ببعيدين والقوم اسم لجماعة الرجال، وما جاء في القرآن الضمير العائد اليه إلا ضمير جماعة، قال الله تعالى أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ [نوح/ 1] وقال تعالى لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ [الحجرات/ 11] . قلنا: فيه إضمار تقديره: وما هلاك قوم لوط او مكان قوم لوط، ومكان قوم لوط كان قريبا منهم، وإهلاكهم أيضا كان قريبا من زمانهم. الثاني: أن فعيلا يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، قال الجوهري: يقال ما أنتم منا ببعيد، وقال الله تعالى وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) [التحريم] وقال سبحانه عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) [ق] . فإن قيل: قولهم، كما ورد في التنزيل: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) كلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله كما ورد في التنزيل أيضا أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ [الآية 92] ؟ قلنا: تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله، فحين عزّ رهطه عليهم دونه، كان رهطه أعزّ عليهم من الله، ألا ترى الى قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء/ 80] وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح/ 10] . فإن قيل: قد ذكر عملهم على مكانتهم وعمله على مكانته، ثم أتبعه بذكر عاقبة العاملين منه ومنهم، فكان المطابق والموافق في ظاهر الفهم أن

يقول: من يأتيه عذاب يخزيه حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إليهم، ومن هو صادق إليه. قلنا: القياس ما ذكرت، ولكنهم لما كانوا يدعونه كاذبا قال: ومن هو كاذب، يعني في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم. فإن قيل: لم قال تعالى إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [الآية 102] والقرى لا تكون ظالمة، لأن الظلم من صفات من يعقل، أو من صفات الحيوان دون الجماد؟ قلنا: هو من الإسناد المجازي، والمراد به أهلها، كما قال تعالى في موضع آخر أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [النساء/ 75] لكن لما أمن اللبس أسند الظلم الى القرية لفظا، كما في قوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف/ 82] . فإن قيل: كيف التوفيق بين قوله تعالى يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الآية 105] وقوله سبحانه: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النحل/ 111] وقوله عزّ وجل هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) [المرسلات] فإن الآية الثالثة تناقض الآية الأولى بنفي الإذن، وتناقض الآيتين جميعا بنفي النطق؟ قلنا: أمّا التوفيق بين الآيتين، الأوليين فظاهر، لأن المعنى تجادل عن نفسها بإذنه فتوافقت الآيتان، وأما الآية الثالثة فإنها لا تناقض الآية الاولى بنفي الإذن، إن قلنا إنّ الاستثناء من النفي ليس بإثبات، لأنّ الآية الاولى لا تقتضي وجود الإذن حينئذ، بل تقتضي نفي الكلام عند انتفاء الإذن فأما إن قلنا إن الاستثناء من النفي إثبات ناقضت الآية الثالثة الأولى، ولا تناقض الآيتين بنفي النطق، لأن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف ومواطن، ففي بعضها يكفّون عن الكلام فلا يؤذن لهم فيه، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلّمون، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلّم أيديهم وتشهد أرجلهم، وهذا جواب عام عن مثل هذه الآيات، ويرد على هذا أن يقال قوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) نفى النطق عنهم يوم القيامة، ما يوجب انتفاءه في جميع أجزاء ذلك الزمان عملا بعموم النفي، كما يعم النفي جميع أجزاء المكان في قولنا، لا وجود لزيد في الدار، فاندفع الجواب باختلاف المواقف والمواطن

فيكون الجواب، أن الآية الثالثة أريد بها طائفة خاصة، غير الطائفتين الأوليين فلا تناقض. فإن قيل: لم قال تعالى فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) وكلمة «من» للتبعيض، ومعلوم أن الناس كلهم إما شقي أو سعيد، فما معنى التبعيض؟ قلنا: التبعيض هنا على حقيقته، لأنّ أهل القيامة ثلاثة أقسام: قسم شقيّ، وقسم سعيد، وهم أهل النار والجنة كما ذكر في هذه الآية مفصّلا وقسم لا شقي ولا سعيد وهم أهل الأعراف. الثاني أنّ معنى الكلام: فمنهم شقيّ ومنهم سعيد، وهذا يقتضي أن يكون الشقيّ بعض الناس والسعيد بعض الناس، والأمر كذلك، ولا يقتضي أن يكون الشقي والسعيد كلاهما بعض الناس، بل كل واحد منهما بعض، وكلاهما كلّ، كما تقول من الحيوان إنسان، ومن الحيوان غير إنسان، وكل الحيوان إما إنسان أو غير إنسان. فإن قيل: لم قال تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [الآية 108] وأراد به بيان دوام الخلود، مع أنّ أهل الجنة وأهل النار مخلّدون فيهما خلودا لا نهاية له، والسموات والأرض ودوامهما منقطع، لأنهما يوم القيامة ينهدمان، قال الله تعالى: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) [الفجر] وقال تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) [الانفطار] وقال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء/ 104] ونظائره كثيرة ممّا يدل على خراب السموات والأرض؟ قلنا: للعرب في معنى الأبد ألفاظ تعبر عن إرادة الدوام دون التأقيت، منها هذا يقولون: لا أفعل كذا ما اختلف الليل والنهار، وما دامت السماء والأرض، وما أطمت الإبل، ويريدون بذلك لا أفعله أبدا مع قطع النظر عن كون المؤقّت به له نهاية أو لا نهاية له. الثاني: أنه خاطبهم على معتقدهم أن السموات والأرض لا تزول ولا تتغير. الثالث: أنه أراد به كون الفريقين في قبورهم إما منعّمين أو معذّبين، كما جاء في الحديث «إن القبر إمّا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» ومن كان في روضة من رياض الجنة فهو في الجنة، ومن كان في حفرة من حفر النار فهو في النار، فعلى هذا يكون المراد بالتأقيت بدوام السماوات والأرض مدة الخلود الى

يوم القيامة. الرابع: أن المراد بها سماوات الآخرة وأرضها، قال الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [ابراهيم/ 48] وتلك دائمة لا تزول ولا تفنى، ولأنه لا بد لأهل الجنة ممّا يقلّهم ويظلّهم، إمّا سماء يخلقها الله تعالى، أو العرش، كما جاء في الأخبار، أنّ أهل الجنة تحت ظل العرش، وكل ما أظلك فهو سماء وجاء في الأخبار أيضا في صفة الجنة، أنّ ترابها من زعفران، فدل أنّ لها أرضا والمراد تلك السموات، وتلك الأرض. فإن قيل: إذا كان المراد بهذا التأقيت دوام الخلود دواما لا آخر له، فكيف صحّ الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [الآية 107] ؟ قلنا: قال الفرّاء: «إلّا» هنا بمعنى «غير» و «سوى» ، فمعناه: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، سوى ما شاء الله تعالى من الخلود والزيادة فكأنه قال: خالدين فيها قدر مدة الدنيا، غير ما شاء الله من الزيادة عليها إلى غير نهاية، وهذا الوجه إنّما يصح إذا كان المراد سموات الدنيا وأرضها. قال ابن قتيبة: ومثله في الكلام قولك: لأسكّنك في هذه الدار حولا إلا ما شئت، يريد سوى ما شئت أن أزيدك على الحول. الثاني: أنه استثناء لا يفعله كما تقول: لأهجرنّك إلّا أن أرى غير ذلك، وعزمك على هجرانه أبدا، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما. إلا ما شاء ربّك، وقد شاء أن يخلدوا فيها. قال الزجّاج: وفائدة هذا الاستثناء، إعلامنا أنه، لو شاء سبحانه أن لا يخلّدهم لما خلّدهم، ولكنه ما شاء إلّا خلودهم. الثالث: أنه استثناء لزمان البعث والحشر والوقوف للعرض والحساب، فإنّ الأشقياء والسعداء في ذلك الزمان كلّه، ليسوا في النار ولا في الجنة. الرابع: أن «ما» بمعنى من، والمستثنى من يدخل النار من الموحّدين فيعذّب بقدر ذنوبه، ثم يخرج من النار ويدخل الجنة، وهذا الوجه يختص بالاستثناء من الأشقياء فقط. الخامس: أنّ المستثنى زمان كون أهل الأعراف على الأعراف قبل دخولهم الجنة وهذا الوجه يختص بالاستثناء من السّعداء، لأنهم لم يدخلوا النار لأنّ مصيرهم الى الخلود في الجنة. السادس: أنه استثناء من الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم الجنة الأشقياء لا يخلدون

في عذاب النار بل يعذّبون بالزمهرير وغيره من أنواع العذاب، سوى النار، وهو سخط الله عليهم فإنه أشد وكذلك السعداء لهم سوى نعم الجنة ما هو أجلّ منها، وهو الزيادة التي وعدهم الله تعالى إيّاها، بقوله سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس/ 26] ورضوان الله كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة/ 72] وقوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة/ 17] فهو المراد بالاستثناء، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى، بعد ذكر الاستثناء: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وقوله تعالى بعد ذكر السعداء: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) يعني أنّه يفعل بأهل النار ما يريد من أنواع العذاب، ويعطي أهل الجنة أنواع العطاء الذي لا انقطاع له، فاختلاف المقطعين يؤكّد صرف الاستثناء إلى ما ذكرنا، فتأمّل كيف يفسّر القرآن بعضه بعضا. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) بعد قوله سبحانه وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ [الآية 109] والتوفية والإيفاء إعطاء الشيء وافيا: أي تامّا، نقله الجوهري وغيره، والتامّ لا يكون منقوصا؟ قلنا: هو من باب التأكيد. فإن قيل: قوله تعالى وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [الآية 119] إشارة إلى ماذا؟ قلنا: هو إشارة إلى ما عليه الفريقان من حالي الاختلاف والرحمة، فمعناه أنّه خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرحمة للرحمة وقد فسّره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقال: خلقهم فريقين: فريقا رحمهم فلم يختلفوا، وفريقا لم يرحمهم فاختلفوا. وقيل: هو إشارة إلى معنى الرحمة وهو الترحّم، وعلى هذا يكون الضمير في «خلقهم» للذين رحمهم فلم يختلفوا. وقيل: هو إشارة الى الاختلاف والضمير في «خلقهم» للمختلفين، واللام على الوجه الأول والثالث لام العاقبة والصيرورة، لا لام كي، وهي التي تسمى لام الغرض والمقصود، لأن الخلق للاختلاف في الدين لا يليق بالحكمة، ونظير هذه اللام قوله تعالى:

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص/ 8] وقول أبي العتاهية: لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلّكم يصير الى التّراب وقيل: إنها لام التمكين والاقتدار، كما في قوله تعالى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس/ 67] وقوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [النحل/ 8] والتمكّن والاقتدار حاصل، وإن لم يسكن بعض الناس في الليل ولم يركب بعض هذه الدواب ومعنى التمكين والاقتدار هنا، أنه سبحانه وتعالى أقدرهم على قبول حكم الاختلاف ومكّنهم منه. وقيل: اللام هنا، بمعنى «على» كما في قوله تعالى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) [الصافات] وقوله تعالى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) [الإسراء] . فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ [الآية 120] وقوله تعالى وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) [النساء] . قلنا: معناه وكلّ نبأ نقصّه عليك من أنباء الرسل هو ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [الآية 120] ف ما في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف، فلا يقتضي اللفظ قصّ أنباء جميع الأنبياء، فلا تناقض بين الآيتين. الثاني: أنّ المراد بالكلّ هنا البعض، كما في قوله تعالى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً [البقرة/ 260] وقوله تعالى: وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ [يونس/ 22] وقوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل/ 23] وقوله تعالى وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء/ 13] وقول لبيد الشاعر: ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل ... وكلّ نعيم لا محالة زائل وكثير من الأشياء غير الله تعالى حق، كالنبي عليه الصلاة والسلام والإيمان والجنة وغير ذلك، وكذلك نعيم الجنة والآخرة ليس بزائل، ولبيد صادق في هذا البيت لقوله (ص) : أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد، ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل. فإن قيل: ما فائدة تخصيص هذه السورة بقوله تعالى وَجاءَكَ فِي هذِهِ

الْحَقُ [الآية 120] مع أن الحقّ جاء في كلّ سور القرآن؟ قلنا: قالوا فائدة تخصيص هذه السورة بذلك، زيادة تشريفها وتفضيلها مع مشاركة غيرها إيّاها في ذلك، كما في قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الجن/ 18] وقوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ بعد قوله سبحانه وَمَلائِكَتِهِ [البقرة/ 98] وقوله تعالى: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى بعد قوله الصَّلَواتِ [البقرة/ 238] ووجه المشابهة بينهما، أنه حمل قوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ على التشريف والتفضيل، عند تعذّر حمله على تعليق العداوة به، لئلّا يلزم تحصيل الحاصل وكذا في المثال الأخير تعذّر حمله على إيجاب المحافظة لما قلنا وهنا تعذر حمله على حقيقته، وهو الجنس بأن حقيقته انحصار كل حق في هذه السورة وهو منتف، أو حمل الحق على معهود سابق، وهو منتف، وحمله على بعض الحق، يلزم منه وصف هذه السورة بوصف مشترك بينها وبين كل السور، وأنه لا يحسن، كما لو قال: وجاءك في هذه الحق آيات الله أو كلام الله أو كلام معجز، فجعل مجازا عن التفضيل والتشريف. وقيل: الإشارة بهذه إلى الدنيا لا إلى السورة، والجمهور على القول الأول. ولا يقال إنّما خصّت هذه السورة بذلك لأن فيها الأمر بالاستقامة بقوله تعالى فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [الآية 112] والاستقامة من أعلى المقامات عند العارفين، لأنّا نقول الأمر بالاستقامة جاء أيضا في قوله تعالى: وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [الشورى/ 15] ولا يصلح هذا علّة للتخصيص، والله أعلم.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"هود"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «هود» «1» قوله تعالى: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) وهذه استعارة. لأن آيات القرآن لمّا ورد في بعضها ذكر الحلال والحرام، واستمرت على ذلك بين وعد مقدّم، ووعيد مؤخّر، ونذارة مبتدأ بها، وبشارة معقّب بذكرها شبّهها القرآن، لذلك، بالنظائم المفصّلة، التي توافق فيها بين الأشكال تارة، وتؤلف بين الأضداد تارة ليكون ذلك أحسن في التنضيد، وأبلغ في الترصيف. وهذه من بدائع الاستعارات. وقوله سبحانه: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ [الآية 5] وهذه استعارة. لأن حقيقة الشيء لا تتأتّى في الصدور. والمراد بذلك- والله أعلم- أنهم يثنون صدورهم على عداوة الله ورسوله (ص) . وذلك كما يقول القائل: هذا الأمر في طيّ ضميري. أي قد اشتمل عليه قلبي. فيكون قوله تعالى: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ بمنزلة قوله يطوون صدورهم. ولفظ يثنون أعذب استماعا وأحسن مجازا. وقيل أيضا: بل معنى ذلك أن المنافقين كانوا إذا اجتمعوا تخافتوا بينهم في الكلام، وحنوا ظهورهم تطامنا عند الحوار، خوفا من رمق العيون، ومراجم الظنون، لوقوع ما يتفاوضونه في أسماع المسلمين. فإذا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.

انحنت ظهورهم، انثنت صدورهم. فأعلمنا الله سبحانه أنهم، وإن أغلقوا أبوابهم، وأسدلوا ستورهم، واستغشوا ثيابهم- بمعنى اشتملوا بها، وبمعنى أدخلوا رؤوسهم فيها على ما قاله بعضهم- فإنه تعالى يعلم غيب صدورهم، ودخائل قلوبهم، ومرامز أعينهم، ومحاذف «1» ألسنتهم. وقوله سبحانه وتعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وهذه استعارة لأن إذاقة الرحمة ونزعها ليسا بحقيقة هاهنا. وإنما المراد بذلك أنّا إذا رحمنا الإنسان بعد توبته من مواقعة [في] «2» بعض الذنوب فقبلنا متابه، وأسقطنا عقابه، ثم واقع بعد ذلك ذنبا آخر، واستحق أن نعاقبه وأن نزيل رحمتنا عنه، يئس من الرحمة وقنط من المغفرة. وليس الأمر كذلك، لأنه إذا عاود الإقلاع، أمن الإيقاع. وقد أخرج هذا الكلام مخرج الذم لمن يواقع المعصية، فيقنط من قبول التوبة. فمعنى أذقنا الإنسان منّا رحمة. أي عرّفناه أنّا قد رحمناه. إذ قد أوجبنا قبول التوبة إذا أخلص العبد فيها، وأتى بها على شروطها وحدودها. ومعنى ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ أي أزلنا عنه رحمتنا لأجل اقترافه المعصية التي اقترفها في الثاني «3» . وقد يجوز أن يكون المراد بالرحمة هاهنا- والله أعلم- النعمة والسّرّاء. ويكون انتزاعها منه بمعنى إبداله بها الشّدّة والضّرّاء، إجراء له في مضمار الابتلاء والاختبار، أو مصلحة يكون معها أقرب الى الإصلاح «4» والرشاد. ومما يقوّي ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) . وقوله سبحانه: وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ [الآية 28] . وهذه استعارة. لأن الرحمة لا توصف بالعمى وإنما يوصف الناس بالعمى عن تمييز مواقعها. وإدراك مواضعها. فلما

_ (1) . هكذا بالأصل. ولعلّها مرامي الألسنة بالكلام، كما يحذف بالحجر أي يرمى به. (2) . هذه اللفظة بالأصل. ولعلّها زائدة لأن المعنى يستقيم بدونها، ولهذا وضعناها بين حاصرتين. (3) . هكذا بالأصل، ولم نهتد الى تصويب لها. (4) . في المتن: الإصلاح، وقد غيرت في الهامش الى «الصلاح» بدلا منها.

وصفوا بالعمى عنها حسن أن يوصف بذلك في القلب «1» . كما يقال: أدخلت الخاتم في إصبعي، والمغفر في رأسي. وإنما الأصبع دخلت في الخاتم، والرأس دخل في المغفر. وقد يجوز أن يكون قوله سبحانه: فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ، بمعنى خفيت عليكم، كما يقول القائل: قد عمي عليّ خبرهم. وعمي عليّ أثرهم. أي خفي عني الأثر والخبر. وقوله سبحانه: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً [الآية 31] . وهذه استعارة. كما يقول القائل: اقتحمت فلانا عيني، واحتقره طرفي. إذا قبح في منظر عينه خلقه، وصغر دمامة. ليس أن العين على الحقيقة يكون منها الاحتقار، أو يجوز عليها الاستصغار. وقوله سبحانه: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [الآية 34] وذكر الإغواء هاهنا من قبيل الاستعارة، وإن لم يكن من صريحها. وكذلك لفظ المكر، والاستهزاء، وما يجري هذا المجرى. لأن المراد بمعاني هذه الألفاظ غير المراد بظواهرها. فالمتعارف من الإغواء هو الدعاء الى الغيّ والضلال. وذلك غير جائز على الله سبحانه، لقبحه وورود أمره بضده. والمراد إذن بالإغواء هاهنا تخييبه سبحانه لهم من رحمته، لكفرهم وذهابهم عن أمره. ومن الشاهد على ذلك قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) [مريم] ، أي خيبة من الرحمة، وارتكاسا في النقمة. وقد جاء لفظ الإغواء، والمراد به التخييب في كثير من منثور كلامهم، ومنظوم أشعارهم. ويجوز أن يكون الإغواء هاهنا بمعنى الإهلاك لهم. ويجوز أن يكون بمعنى الحكم بالغواية عليهم. وقوله سبحانه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [الآية 37] . وهذه استعارة. ومعناها: واصنع الفلك بأمرنا، ونحن نرعاك ونحفظك. ليس أنّ هناك عينا تلحظ، ولا لسانا يلفظ. وذلك كما يقول القائل: أنا بعين الله. أي بمكان من حفظ الله. ومن كلامهم للظّاعن

_ (1) . ليس القلب هنا بمعنى الجارحة التي في الجسم، ولكنه القلب اللفظي والمعنوي، كما نقول: أدخلت الخاتم في الإصبع بدلا من أدخلت الإصبع في الخاتم.

المشيّع والحميم المودّع: صحبتك عين الله. أي رعاية الله وحفظه. وقوله سبحانه: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ [الآية 44] ، وهذه استعارة. لأن الأرض والسماء لا يصح أن تؤمرا وتخاطبا. لأن الأمر والخطاب لا يكونان إلا لمن يعقل، ولا يتوجّهان إلا لمن يعي ويفهم. فالمراد إذن بذلك: الإخبار عن عظيم قدرة الله سبحانه، وسرعة مضيّ أمره، ونفاذ تدبيره. نحو قوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) [النحل] . وهذا إخبار عن وقوع أوامره من غير معاناة ولا كلفة، ولا لغوب ولا مشقة. وفي هذا الكلام أيضا فائدة أخرى لطيفة. وهو أن قوله سبحانه: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ. أبلغ من قوله: يا أرض اذهبي بمائك. لأن في الابتلاع دليلا على إذهاب الماء بسرعة. ألا ترى أن قولك لغيرك: ابلع هذا الطعام، أبلغ من قولك له: كل هذا الطعام، إذا أردت منه إيصاله الى جوفه بسرعة؟ وكذلك الكلام في قوله سبحانه: وَيا سَماءُ أَقْلِعِي: لأن لفظ الإقلاع هاهنا أبلغ من لفظ الانجلاء. لأن في الإقلاع أيضا معنى الإسراع بإزالة السحاب، كما قلنا في الابتلاع. وذلك أدلّ على نفاذ القدرة، وطواعية الأمور، من غير وقفة ولا لبثة، هذا الى ما في المزاوجة بين اللفظين من البلاغة العجيبة، والفصاحة الشريفة. إذ يقول سبحانه: يا أرض ابلعي، ويا سماء أقلعي: ومثل هذا في القرآن أكثر من أن يشار إليه. وقوله سبحانه: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) . وهذه استعارة. لأن العذاب في الحقيقة لا يوصف بالغلظ، والدقة، لأنه الألم الذي يلحق الحي في قلبه أو جسمه. وإنما وصفه تعالى بالغلظ على طريقة كلام العرب، لأنهم يصفون الأمر الهيّن بالضؤولة والدقة، كما يصفون الأمر الشاق بالغلظ والشدة، حملا لذلك على عرفهم في المراعاة للشيء الغليظ الكثيف، وقلة الحفل بالشيء الدقيق الضئيل. ألا ترى إلى قولهم: عرض فلان دقيق، وقدره ضئيل؟ وإلى قولهم في مقابلة ذلك: لقي فلان فلانا بكلام غليظ، وقول ثقيل. وقد يجوز أيضا- والله أعلم- أن يكون المراد بعذاب غليظ هاهنا الصفة

لعذاب الآخرة. والعذاب إنما يقع بالآلات المستعظمة والأعيان المستفظعة، مثل مقامع الحديد، والحجارة المحماة بالجحيم. فوصف سبحانه العذاب الغليظ، لأنه واقع بالأشياء الغليظة، والآلات الثقيلة، فيكون ذلك مجازا من هذا الوجه. وممّا يقوّي أن المراد بقوله تعالى: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) عذاب الآخرة، قوله تعالى في الآية نفسها: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [الآية 58] وهذه النجاة من عذاب الدنيا. ثم قال تعالى: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فدلّ على أن النجاة من العذاب الأول غير النجاة من العذاب الآخر. وأن الأول عذاب الدنيا، والثاني عذاب الآخرة، لأن العطف بالواو يقضي بذلك، وإلّا كان وجه الكلام: فلمّا جاء أمرنا نجّينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا من عذاب غليظ، ولم يكن لقوله تعالى: وَنَجَّيْناهُمْ ثانيا معنى وهو محال. وقوله سبحانه حاكيا عن لوط عليه السلام: قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) وهذه استعارة والمراد بها: لو كنت آوي الى كثرة من قومي، وعدد من أهلي. وجعلهم ركنا له، لأن الإنسان يلجأ الى قبيلته، ويستند الى أعوانه ومنعته، كما يستند الى ركن البناء الرصين، والنضد الأمين «1» . وجاء جواب «لو» هاهنا محذوفا. والمعنى: لو أنني على هذه الصفة لحلت بينكم وبين ما هممتم به من الفساد وأردتموه من ذنوب فحشاء. والحذف هاهنا أبلغ، لأنه يوهم المتوعّد بعظيم الجزاء، وبغليظ النكال، ويصرف وهمه الى ضروب العقاب، ولا يقف به عند جنس من أجناس المخوفات المتوقّعات. وليس مخرج هذا الكلام من لوط عليه السلام، على ما ظنّه من لا معرفة له، وقدح فيه بأن قال: ألم يكن يأوي الى الله سبحانه؟ فما معنى القول الذي قاله؟ وذلك أن لوطا على ما ذكرنا إنّما أراد الأعوان من قومه، والأركان المستند إليهم من قبيلته، وهو يعلم أن له من معونة الله سبحانه أشد الأركان،

_ (1) . النّضد من الجبل: ما تراكم منه. والجمع أنضاد.

وأعز الأعوان، إلا أن من تمام إزاحة العلّة في التكليف حضور الناصر، وقرب المعاضد والمرافد. وقوله سبحانه في صفة الحجارة المرسلة على قوم لوط: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وهذه استعارة. لأن حقيقة التسويم هي العلامات التي يعلّم بها الفرسان والأفراس في الحرب، للتمييز بين الشعارات، والتفريق بين الجماعات. قال الله سبحانه: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) [آل عمران] . وقال الله سبحانه: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آل عمران/ 14] والمعنى أنه سبحانه لمّا جعل تلك الحجارة حربا لهم وأعوانا عليهم، وصفها بوصف رجال الحرب وخيولهم، فكأنها مرسلة من عند الله، أي من عند ملائكة الله الذين تولّوا الرمي بها، إرسال الخيول المسوّمة على أعدائها، وإن لم يكن هناك تسويم على الحقيقة. وقد قال بعضهم: إن تلك الحجارة كانت على الحقيقة معلّمة بعلامات تدل على أنها أعدّت للعذاب، وأفردت للعقاب. وذلك أملأ للقلوب، وأعظم في الصدور. وقوله سبحانه: وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) . وهذه استعارة من وجهين: أحدهما وصف اليوم بالإحاطة، وليس بجسم فيصح وصفه بذلك. والوجه الآخر: أن لفظ محيط هاهنا كان يجب أن يكون من نعت العذاب، فيكون منصوبا. فجعله- سبحانه- من نعت اليوم فجاء مجرورا، فأمّا وصف اليوم بالإحاطة- وان لم يتأتّ فيه ذلك- فالمراد به- والله أعلم- أن العذاب لما كان يعمّ المستحقّين له في يوم القيامة حسن وصف ذلك اليوم بأنه محيط بهم، أي أنه كالسباج المضروب بينهم وبين الخلاص من العذاب والإفلات من العقاب. وأما نقل نعت العذاب الى نعت اليوم، فالوجه فيه أن العذاب لمّا كان واقعا في ذلك اليوم، كان ذلك اليوم كالمحيط به، لأنه ظرف لحلوله، ووقت لنزوله. وقوله سبحانه: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الآية 86] وهذه استعارة. لأن حقيقة البقية تركة شيء من شيء قد مضى، ولا يجوز إطلاقه

على الله سبحانه. فإذن يجب أن يكون المراد غير هذه الحقيقة. وقد قيل في معنى ذلك وجوه: أحدها بقية الله من نعمته خير لكم. وقد قيل: بقيّة الله طاعة الله، وذلك لأنها تبقي رضاه وثوابه أبدا ما بقيت. وقيل بقيّة الله أي عفو الله عنكم ورحمته بكم بعد استحقاقكم العذاب، كما يقول العرب المتحاربون بعضهم لبعض، إذا استحرّ فيهم القتل، وأعضلهم الخطب: البقية! البقية! أي نسألكم البقية علينا والمكافأة لنا. والبقية هاهنا والإبقاء بمعنى واحد. وقوله سبحانه: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا [الآية 87] وهذه استعارة. لأن الصلاة لا يصح منها الأمر على الحقيقة، وإنما أطلق عليها ذلك، لأنها بمنزلة الآمر بالخير، والناهي عن الشر. وقيل: المراد بذلك: أدينك يأمرك بهذا؟ أي في شريعتك ودينك الأمر بهذا؟ فإذا كان ذلك في عقد الدين حسن أن يضاف الأمر به الى الدين: وفي هذه الآية أيضا مجاز آخر. وهو أنه تعالى قال: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا [الآية 87] وليس يصح على ظاهر الكلام أن يؤمر شعيب بأن يترك قومه شيئا هم عليه، وإنما المعنى- والله أعلم- أصلاتك تأمرك أن تأمرنا بترك ما يعبد آباؤنا؟ فاكتفى بذكر الأمر الأول عن ذكر الأمر الثاني، لأنه كالمعلوم من فحوى الكلام. وهذا من غوامض أسرار القرآن. وقوله سبحانه: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا [الآية 92] . فهذه استعارة. لأن الله سبحانه لا يجوز عليه أن يجعل ظهريّا على الحقيقة. فالمراد أنّكم جعلتم أمر الله سبحانه وراء ظهوركم. وهذا معروف في لسان العرب، أن يقول الرجل منهم لمن أغفل قضاء حاجته، أو ثنى عطفا على عذله وعتابه: جعلت حاجتي وراء ظهرك، وتركت مقالي دبر أذنك. أي لم تعن بحاجتي، ولم تصغ إلى معاتبتي. وقوله سبحانه وتعالى: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ [الآية 94] . وهذه استعارة، لأن حقيقة الأخذ إنما يوصف بها الأجسام. والصيحة عرض من الأعراض، لأنها بعض الأصوات، إلا أنها أقوى للأسماع صكّا وقرعا، وأبلغ

في القلوب وجلا وروعا.. والمراد أن هلاكهم لمّا كان عن الصيحة حسن أن يقال: إنها أخذتهم بمعنى ذهبت بنفوسهم، وأتت على جمعهم. وقوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) فقوله تعالى: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وبِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) استعارتان. لأنه تعالى جعل فرعون في تقدمة قومه الى النار بمنزلة الفارط «1» المتقدم للوارد الى الورد، كما كان في الدنيا متقدّمهم الى الضلالة، وقائدهم الى الغواية، وجعل النار بمنزلة الماء الذي يورد، ثم قال تعالى: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) لأنه ورد لا يجيز الغصة، ولا ينقع الغلة. وقد اختلف العلماء في [فهم] قوله تعالى: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) . وهل ذلك ذم لنار جهنم على الحقيقة أو المجاز، فقال أبو علي «2» محمد بن عبد الوهاب الجبائي: ذلك على طريق المجاز، والمعنى بئس وارد النار. وقال أبو القاسم البلخي «3» : بل ذلك على طريق الحقيقة. فأمّا قوله سبحانه: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) فإنما قلنا إنه استعارة، لأن حقيقة الرفد العطية. يقال رفده يرفده رفدا ورفدا بفتح الراء وكسرها. ولكن اللعنة لمّا جعلت بدلا من الرّفد لهم عند انتقالهم من دار الى دار، على عادة المنتجع المسترفد او الرجل المتزوّد، جاز أن يسمّى رفدا، على طريق المجاز، كما قال تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) [آل عمران] والبشارة في الأعم، الأغلب، إنما تكون بالخير لا بالشرّ. ولكن لما جعل إخبارهم باستحقاق

_ (1) . الفارط: اسم فاعل من فرط بمعنى سبق وتقدم. (2) . أبو علي محمد الجبّائي كان رأسا من رؤوس المعتزلة، وشيخ علماء الكلام في عصره. وتنسب إليه طائفة «الجبّائية» ، والجبائي نسبة الى «جبّى» من قرى البصرة. توفي سنة 303 هـ. وذكر ابن حوقل في «المسالك والممالك» أنّ جبّى مدينة ورستاق عريض مشتبك العمائر بالنخل وقصب السكر وغيرهما ومنها أبو علي الجبّائي، الشيخ الجليل، إمام المعتزلة، ورئيس المتكلّمين في عصره. (3) . أبو القاسم البلخي هو عبد الله بن أحمد الكعبي، كان رأس طائفة من المعتزلة، يقال لهم الكعبيّة. والكعبي نسبة الى بني كعب والبلخي نسبة الى بلخ، إحدى مدن خراسان. توفي سنة 317 هـ. [.....]

العذاب في موضع البشارة لغيرهم باستحقاق الثواب، جاز أن يسمّى في ذلك بشارة. وقوله سبحانه: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وهذه استعارة. والمعنى: منها قائم البناء، خال من الأهل، ومنها منقوص الأبنية، ملحق بالأرض، تشبيها بالزرع المحصود. الى هذا المعنى يومئ قوله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) . وقوله سبحانه: وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [البقرة/ 259] والعروش الأبنية. أي خالية من أهلها، على ما فيها من بواقي أبنيتها. وقد يجوز أن يكون ذلك كناية عن أهل القرى، فكأنه سبحانه شبّه الأحياء الباقين بالزرع النامي، وشبه الأموات الهالكين بالزرع الذاوي. وذلك أحسن تمثيل، وأوقع تشبيه. وقوله سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) . وهذه استعارة. والمراد هاهنا بتمام كلمة الله سبحانه صدق وعيده، الذي تقدّم الخبر به، وتمام وقوع مخبره مطابقا لخبره.

سورة يوسف 12

سورة يوسف 12

المبحث الأول أهداف سورة"يوسف"

المبحث الأول أهداف سورة «يوسف» «1» سورة يوسف سورة مكّيّة كلّها، وآياتها مائة وإحدى عشرة آية فقط، وقيل إن الآيات الثلاث الأولى مدنيّات، وهو رأي ضعيف، لأن السورة كلّها قصة واحدة. ومن العجائب أن يذكر هذا الاستثناء في المصحف المطبوع في مصر، ويزاد عليه الآية السابعة، قال السيوطي في الإتقان وهو رأي واه جدّا، فلا يلتفت إليه. وحين نستعرض سورة يوسف، نجد أنها سورة فريدة من نوعها من بين سور القرآن الكريم. فهناك قصص متعدد مبثوث في ثنايا سور القرآن، لكن القرآن كان يكتفي أحيانا بذكر حلقة أو حلقات محدودة من القصة، كحلقة قصة مولد عيسى، أو حلقة قصة نوح والطوفان، لأن هذه الحلقات تفي بالمقصود منها. أما قصة يوسف، فتقتضي أن تتلى كلها متوالية الحلقات والمشاهد، من بدئها إلى نهايتها، وصدق الله العظيم، إذ قال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) . وسورة يوسف، هي قصة يوسف مطوّعة في سردها، وطريقة أدائها،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

وخصائصها الفنية كلها، للقضية الكبرى التي جاء القرآن ليعالجها ويوضحها، ويثبتها في القلوب، وهي قضية العقيدة وما يقوم عليها في حياة الناس من روابط ونظم وصلات، تسبقها في السورة مقدمة تشير إلى الوحي بهذا القرآن، وبقصصه الذي هو أحسن القصص، والذي لم يكن محمد (ص) ، يعرف عنه شيئا من قبل. وتتلوها تعقيبات شتّى، تفيد أن القصص القرآني غيب من عند الله سبحانه يثبّت به الرسول (ص) ، ويعظ به المؤمنين، قال تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) . كذلك تضم السورة جناحيها على لفتات ولمسات أخرى في صفحة الكون، وفي أغوار النفس، وفي آثار الماضين، وفي ضمير الغيب المطوي، لا يدري البشر ما هو مخبوء خلف ستاره الرهيب وكل هذه العظات المبثوثة في حنايا السورة، تتناسب مع القصة، والقصة تتكامل معها، لتحقيق القضية الكبرى التي جاء بها هذا القرآن للبشرية، وجاءت بها رسالات الأنبياء في العصور المتلاحقة. وقد ساق القرآن دعوة صريحة إلى العقيدة السليمة، والإيمان بالله تعالى على لسان يوسف (ع) حين مكث في السجن يدعو إلى الله، ويأخذ بيد الضعفاء، ويواسي المحزونين، ويفسّر الأحلام، ويشرح لهم سر معرفته وإيمانه، فيقول كما ورد في التنزيل: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) . وبذلك نجد السورة تربط بين رسالات السماء جميعها برباط أساسي وهدف مشترك هو الدعوة إلى توحيد

قصة يوسف

الله ونبذ الشركاء والأنداد، وبيان أن الإيمان بالله هو الطريق الواضح، والدين القيّم الذي يسمو بصاحبه ويعصمه من الفتنة، ويمنعه من الرذيلة، ويجعله يقف ثابت اليقين، يقاوم الإغراء، ويردّ المنحرف إلى طريق الصواب، قال تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ 23) . قصة يوسف قصة يوسف أطول قصة في القرآن، تجتمع حلقاتها كلّها في سورة واحدة، وتلحظ فيها الخصائص الفنية البحتة للقصة، خصائص الموضوع وخصائص العرض والأداء. فالقصة غنية بالعنصر الإنساني، حافلة بالانفعال والحركة وطريقة الأداء تبرز هذه العناصر إبرازا قويا، فضلا عن خصائص التعبير القرآنية الموحية المؤثّرة. في القصة يتجلّى عنصر الحب الأبوي في صور ودرجات متنوّعة، واضحة الخطوط والمعالم، في حبّ يعقوب ليوسف وأخيه، وحبّه لبقيّة أبنائه، وفي استجاباته للأحداث حول يوسف من أول القصة إلى آخرها. وعنصر الغيرة والتحاسد بين الإخوة من أمهات مختلفات، بحسب ما يرون من تنوّع صور الحب الأبوي. وعنصر التفاوت في الاستجابات المختلفة للغيرة والحسد في نفوس الإخوة، فبعضهم يقوده هذا الشعور إلى إضمار جريمة القتل، وبعضهم يشير فقط بطرح يوسف في الجبّ تلتقطه بعض القوافل السيّارة، وفي قصة يوسف نجد عنصر المكر والخداع في صور شتّى، من مكر إخوة يوسف به، إلى مكر امرأة العزيز بيوسف وبزوجها وبالنسوة. وعنصر الشهوة ونزواتها، والاستجابة لها بالاندفاع أو بالإحجام، وبالإعجاب والتمنّي والاعتصام والتأبّي. وعنصر الندم في بعض ألوانه، والعفو في أوانه، والفرح بتجمّع المتفارقين. وذلك إلى بعض صور المجتمع المتحضّر في البيت والسجن والسوق والديوان، في مصر يومذاك، والمجتمع العبراني، وما يسود العصر من الرؤى والتنبّؤات.

يوسف بين إخوته وأبيه

وقد بدأت القصة بالرؤيا يقصّها يوسف على أبيه، فينبئه أبوه بأن سيكون له شأن عظيم، وينصحه بألّا يقصّها على إخوته، كي لا يثير حسدهم فيغريهم الشيطان به، فيكيدون له. ثم تسير القصة بعد ذلك، وكأنما هي تأويل للرؤيا، ولما توقّعه يعقوب من ورائها، حتى إذا اكتمل تأويل الرؤيا في النهاية أنهى السياق القصة، ولم يسر فيها كما سار كتاب (العهد القديم) ، بعد هذا الختام الفني الدقيق الوافي بالغرض كل الوفاء. وما يسمى بالعقدة الفنية في القصة الحديثة واضح في قصة يوسف، فهي تبدأ بالرؤيا، ويظل تأويلها مجهولا، ينكشف قليلا قليلا، حتّى تجيء الخاتمة فتحل العقدة حلا فنيّا طبيعيّا، يرضي الذوق الفنّي الخالص، ويرضي الوجدان الدينيّ، ويفي بدوره للقضية الكبرى التي سيقت القصة لها من الأساس. والقصّة مقسّمة إلى حلقات، كل حلقة تحتوي على جملة من المشاهد، والسياق يترك فجوات بين المشهد والمشهد، بحيث يترك بين كل مشهدين أو حلقتين فجوة يملأها الخيال، ويكمل فيها ما حذف من حركات وأقوال، ويستمتع بإقامة الصلات بين المشهد السابق والمشهد اللاحق، فيمنح القصة بعض خصائص التمثيلية، ويملأها بالحركة والحيوية. وهذه الطريقة متّبعة في جميع القصص القرآني- على وجه التقريب- وهي شديدة الوضوح في القصص الكبيرة، خصوصا قصّة يوسف الصديق. يوسف بين إخوته وأبيه أكرم الله عزّ وجلّ نبيّه يوسف (ع) بأصل كريم، فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وقد رزق يعقوب اثني عشر ابنا هم الأسباط. كان يوسف وبنيامين من أم تسمى راحيل، وبقية الأسباط من أمهات أخرى. وقد ماتت راحيل أم يوسف وتركته في الثامنة عشرة من عمره أشد ما يكون حاجة إلى قلب الأم وعطفها، ولهذا آثر يعقوب يوسف وبنيامين بالحب والحنان، فسرى داء الحسد بين بقية الإخوة، وقال قائل منهم: ألا ترون أن

رؤيا يوسف

يوسف وأخاه أحبّ إلى أبينا منّا، وأقرب إليه منا جميعا. وقال الثاني: إن حبّ يوسف قد تمكّن من قلب يعقوب، ولا شفاء ليعقوب من هذا المرض إلا بإبعاد يوسف عنه، فيجب أن نقتل يوسف، أو نتركه في أرض نائية مقطوعة حتى يموت. وقال يهوذا: إن القتل لا يقرّه العقل ولا الدين، فلا تقتلوا يوسف، وإنما ألقوه في البئر العميق بجوار بيت المقدس، فهذا البئر ملتقى الغادي والرائح، وسيأخذه بعض القوافل ويبعدون به عنكم، فوافقوا جميعا على رأي يهوذا، وبيّتوا أمرهم عليه. رؤيا يوسف أصبح يوسف، فأخبر أباه أنه رأى الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدين له، فعلم الأب أن ابنه سيكون له شأن عظيم، وأنّ أسرته ستأتي له خاضعة معترفة بفضله، فيسجد بين يديه يعقوب أبوه [سجود تحيّة] ، وخالته ليا وهي بمنزلة أمه، وأخوته الأحد عشر، ولكن يعقوب خشي على يوسف من حسد إخوته، فأمره أن يكتم هذه الرؤيا وألّا يخبر بها أحدا ولأمر ما تسرب خبر هذه الرؤيا إلى الإخوة فأشعل نار الغيرة بينهم، واستأذنوا أباهم في مصاحبة يوسف يوما إلى المرعى حيث الهواء الطلق والمنظر الجميل، فأذن لهم بعد تردّد، وأخذوا يوسف وألقوه في ظلام البئر بعد أن استغاث بهم فلم يغيثوه وألقى الله على يوسف السكينة، فاطمأنّ لمصيره، وجاءت قافلة تريد الماء، وألقت بدلوها إلى البئر، فتعلّق يوسف بالدلو وفرحت القافلة بمنظر الغلام الجميل، وقدموا به إلى أرض مصر، فباعوه إلى عزيز مصر بثمن بخس زهيد، ولمح العزيز في يوسف كرم الأصل وشرف العنصر وجمال الخلق وطيب المنبت، فقال العزيز لامرأته أكرمي مثوى هذا الغلام وأحسني معاملته، وحاشاك أن تزجريه زجر الخدم أو تضربيه ضرب العبيد، فإني لأرجو إذا اكتمل عوده ونضجت سنه، أن ينفعنا أو نتّخذه ولدا. وانصرف يوسف إلى العمل في بيت العزيز في جد وأمان، فمكّن الله له في الأرض وأودع محبته في قلوب الجميع، فلما وصل إلى سن الرشد

يوسف وامرأة العزيز

والقوة، وهي تقع عادة بين العشرين والثلاثين، آتاه الله حكما وعلما، وصوابا في الحكم على الأمور، ومعرفة بمصائر الأحاديث وتأويل الرؤيا. وهكذا أراد إخوة يوسف به أمرا، وأراد الله له أمرا ولكن أمر الله غالب، ومشيئته نافذة، فقد زادت ثقة العزيز في يوسف، وظهر له مكنون حزمه وعقله، وأمانته ونزاهته، فأدخله فيما بين نفسه وأهله، وبوّأه مكان الأشراف الأحرار، ووضعه من قلبه موضع الأبناء الأبرار. يوسف وامرأة العزيز نما يوسف وترعرع وبلغت سنه خمسا وعشرين سنة، وصار أمينا في بيت العزيز. وكانت امرأة العزيز في سن الأربعين، ولها سلطان الملك وقدرة الأمر والنهي، وسيطرة النفوذ والجاه ولكن سلطان الحب قد ملك قلبها، وسيطر على فؤادها. وحاولت إغراء يوسف مستغلة فنون الإغراء كلها، قال تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ [الآية 23] . فكلمة (راودته) من راد يرود بالإبل إذا ذهب بها، وجاء وهي تشير إلى فنون الأنثى مقبلة إلى فن، مدبرة عن فن، من فنون الإغراء الصامتة التي تحاول بها أن تثير يوسف، فلما يئست من الصمت (غلّقت الأبواب) بتشديد اللام، كأنها أرادت أن تجعل الأبواب حيطانا، ثم عرضت نفسها على يوسف (وقالت هيت لك) : قد تهيأت لك راغبة فيك وهنا وقد خلعت المرأة ثياب الملك والعظمة والسيادة، ولبست ثوب الإغراء والتولّه والرغبة وقف يوسف في عزّة وإباء وإيمان، يقول، كما ورد في محكم التنزيل: مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) [الآية 23] . فالمرأة في العصور كلها أكثر عاطفة من الرجل وأكثر تديّنا وإيمانا، وأكثر مراعاة لحرمة الزوجية، وأكثر نفورا من الظلم. ولهذا عمد يوسف إلى عاطفة الايمان بالله، فقال: مَعاذَ اللَّهِ أستعيذ بالله من الفحشاء والمنكر، إن زوجك أكرمني وجعلني أمينا على بيته

وعرضه، فهل جزاء الإحسان إلّا الإحسان: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ. وهناك عين الله التي ترى وتعلم السر وأخفى، وهذا ظلم وعدوان، وإنه لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) . ولكن المرأة كانت قد صمّت أذنيها عن سماع كل موعظة، وأغمضت عينيها عن رؤية الحق، ولم يبق في ذهنها إلا فكرة واحدة في مكان.. في رجل.. فهمّت به صائلة عليه لتنتقم لنفسها وكرامتها، أو لترغمه على طاعتها، وهمّ بها ليضربها أو يقتلها دفاعا عن الفضيلة والشرف، ولكن الله ألهمه أن الفرار خير من القتال، والمسالمة خير من المواثبة، وفتحت الأبواب أمامه فأسرع هاربا منها، ولكنها عدت وراءه، طمعا في تنفيذ رغبتها، أو خوفا من افتضاح أمرها. وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ [الآية 25] . ونتيجة جذبها له لترده عن الباب، وقعت مفاجأة، فقد كان العزيز يمرّ في تلك اللحظة، فرأى يوسف واقفا وقميصه ممزّقا، وكان موقفا يبعث على الرّيبة ويثير الاتهام، فاتهمت المرأة يوسف، بأنه راودها عن نفسها وهجم عليها في مخدعها، ولا بدّ من سجنه، أو إذاقته مرّ العذاب. ولم يجد يوسف بدّا من وصف الواقع وإيضاحه، فقال هي التي راودتني عن نفسي وجذبتني من ثوبي، وهذا قميصي شاهد على صدقي، وأمام تضارب الأقوال، استدعى الملك ابن عمها وكبير أسرتها، وكان فطنا لبيبا، فسمع القضية من أطرافها، وفطن لما وراء قصّتها فقال: إن كان قميصه قدّ من الأمام فذلك إذا من أثر مدافعتها له وهو يريد الاعتداء عليها، فهي صادقة وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قدّ من الخلف، فهو إذا من أثر هروبه منها، ومطاردتها له حتى الباب، فهي كاذبة وهو من الصادقين. فلما رأى الملك بعينه أن القميص قد مزّق من الخلف، وضح الحق وظهرت براءة يوسف أمامه، والتفت العزيز إلى امرأته وقال: إنّ هذا من كيد النساء ومكرهنّ، فاستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين، وأنت يا يوسف أمسك لسانك عن الخوض في هذا الحديث، واكتم أمره عن الناس أجمعين.

يوسف عزيز مصر

يوسف عزيز مصر تعرض يوسف لحلقات متتابعة من الإغراء والوعد والوعيد، وتوالت عليه حملات زليخا، ونساء من وجوه المدينة، فدعا يوسف ربه أن ينجيه من كيدهن ومكرهن، بقوله كما ورد في القرآن الكريم: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [الآية 33] . ورأى العزيز أن يضحي بهذا البريء النزيه، حتى تسكت الألسنة وتخف عن زوجته التهمة، فأدخل يوسف السجن. وكان يوسف في السجن، مثالا كريما في الدعوة إلى الإيمان وتفسير الأحلام وإرشاد الناس إلى الحق ثم رأى الملك في منامه سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف، وفسّر يوسف هذه الرؤيا بأن البلد مقبلة على سبع سنين مخصبة يجود فيها النيل بالماء، ثم تأتي بعدها سبع سنين مجدبة يجف فيها ماء النيل، ويعقب ذلك عام طيّب مثمر، فأمر الملك بالعفو عن يوسف، ولكنه أبى أن يخرج من السجن إلا بعد التثبّت من براءته ونزاهته، فاعترفت النسوة بنزاهته وفي ذلك، يقول الله تعالى: حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) . فخرج يوسف من السجن بريئا نزيها، ثم نال إعجاب الملك والحظوة عنده. وعلم يوسف أن مصر قادمة على مجاعة، فالنيل سيجود بالماء سبع سنين ثم يمتنع عن الفيضان سبع سنين أخرى، ورأى يوسف ثقة الملك فيه وإعجابه بنزاهته وأمانته فقال كما ورد في التنزيل: قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) . واستطاع يوسف بحكمته أن ينجي مصر من المجاعة، وأن يدّخر القمح في سنابلها، والذرة في كيزانها، وأن يدير التموين والأموال، وأن يحفظ لمصر مكانتها وفضلها فاستطاعت أن تساعد نفسها، وأن تمديد العون لما حولها من البلاد. ووصل خبر يوسف إلى البلاد

المجاورة، وإلى أرض كنعان حيث يقيم نبيّ الله يعقوب وأبناؤه الأسباط. فقال يعقوب لبنيه: يا بنيّ إن الجدب عمّنا والقحط يكاد يأتي علينا، فاقصدوا هذا العزيز، وأحضروا من عنده القمح والطعام، واتركوا عندي أخاكم بنيامين أتعزّى ببقائه عن فراقكم، فرحل أبناء يعقوب إلى مصر، قاصدين مقابلة العزيز. واستأذن الحاجب على يوسف، فقال إن بالباب عشرة رجال تتشابه وجوههم، وكأنهم غرباء عن هذه الديار يستأذنون في الدخول عليك، فأذن يوسف لإخوته وعرفهم، ولكنهم لم يعرفوه، فقد تركوه في الجب ذليلا فريدا، فأين منه هذا الأمير العزيز الذي يأمر فيطاع، ويقول فيمتثل الجميع أمره. وأكرم يوسف وفادتهم، وترك نقودهم داخل التموين الذي أمدّهم به، وطلب منهم أن يحضروا أخاهم بنيامين معهم في المرة الثانية، ولما حضر بنيامين مع إخوته استطاع يوسف أن يستبقيه معه، ثم ذهب الإخوة إلى أبيهم، فاشتدّ حزنه لفراق يوسف وبعده بنيامين، وجلس حزينا في محرابه يبكي أشد البكاء، ويقول كما أخبرنا القرآن الكريم يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [الآية 84] . ثم قال الأب لأبنائه، إني أحس في قرارة نفسي بوجود يوسف على قيد الحياة، فاذهبوا إلى مصر وتحسّسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من فضل الله ورحمته ودخل الإخوة على يوسف، وقد اشتدّ بهم الضرّ والحاجة، فطلبوا من يوسف أن يرفق بهم، وأن يتصدّق عليهم، وهنا فاض قلب يوسف حنانا وعطفا على إخوته، وسألهم عمّا فعلوه بيوسف في زمان جهلهم، فقالوا إنك لأنت يوسف، قال أنا يوسف وهذا أخي بنيامين: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) . لقد اتقى يوسف ربّه، وصبر عن الفحشاء، وتحمّل السجن في طاعة الله، فلم يضع أجره، وجعله الله على خزائن الأرض، عزيزا كريما، فالله يتولى الصالحين. وصفح يوسف عن إخوته وقال لهم: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) .

وعاد الإخوة إلى أبيهم، فأحسّ رائحة القميص من مسافة بعيدة، ولمّا وضع القميص على وجهه عاد بصيرا، ورحل يعقوب مع أسرته قادمين إلى مصر، ودخلوا على يوسف، وخرّوا له جميعا ساجدين [سجود تحيّة] ، الأب والأم والإخوة، فقال يوسف: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [الآية 100] . وشكر يوسف ربّه إذ أخرجه من السجن، وجاء بإخوته من البادية، وجمع شمل الأسرة، ثم مكّن الله ليوسف في الأرض، وآتاه الملك والحكمة، ليكون في قصته دليلا للعاملين ونبراسا للمخلصين وكأنه سبحانه يمهد الأسباب والمقدمات بلطفه وحكمته، لتكون العاقبة للمتّقين، ومد يوسف (ع) يده لله تعالى طالبا منه حسن الخاتمة والسير في موكب الصالحين فقال، كما ورد في التنزيل: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"يوسف"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «يوسف» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «يوسف» بعد سورة «هود» ، وقد نزلت سورة «هود» بعد «الإسراء» وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «يوسف» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لأنها نزلت في قصة يوسف مع أبيه وإخوته، وتبلغ آياتها إحدى عشرة ومائة آية. الغرض منها وترتيبها يقصد من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن، كما يقصد من سورتي «يونس» «وهود» ، ولهذا ذكرت بعدهما، وتختلف طريقة إثباته فيها عن طريقة إثباته فيهما، لأن طريقة إثباته فيهما، كانت بتحدّيهم أن يأتوا بسورة أو عشر سور مثله أما طريقة إثباته في هذه السورة، فبأنه يقصّ عليهم من تفصيل أخبار يوسف (ع) ، ما لا يمكن أميّا مثله أن يعرفه. وقد جاءت هذه السورة في هذا الغرض على ثلاثة أقسام: أولها في مقدمة، يقصد منها التمهيد لقصة يوسف، وثانيها، في قصة يوسف، وثالثها، في خاتمة تناسب ما سيقت له هذه القصة. المقدمة الآيات (1- 3) قال الله تعالى الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز. المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

قصة يوسف (ع) الآيات (4 - 101)

(1) فأقسم بهذه الحروف، أن ما أنزله هو آيات الكتاب المبين، وذكر أنه أنزله قرآنا عربيّا، ليعقلوه ويفهموه، وأنه يقصّ عليه فيه أحسن القصص، وقد كان من قبله لا يعلم شيئا منه، فلا يمكن إلا أن يكون منزّلا من عنده. قصة يوسف (ع) الآيات (4- 101) ثم قال تعالى إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) كان ليعقوب اثنا عشر ولدا: ستة من ليا بنت ليان، وأربعة من سريّتين له، واثنان من راحيل بنت ليان، وكان قد تزوجها بعد وفاة أختها، فولدت له بنيامين ويوسف. فذكر تعالى أن يوسف رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون له، فقصّ ما رآه على أبيه، فنهاه أن يقصّه على إخوته، لئلا يحملهم الشيطان على الكيد له، وكان يحبه هو وأخوه بنيامين أكثر منهم، ثم أوّله له بأن ربه يجتبيه، ويعلمه من تأويل الأحاديث، ويتمّ نعمته عليه، وعلى آل يعقوب، كما أتمها على أبويه إبراهيم وإسحاق ثم ذكر سبحانه أن في قصة يوسف آيات وعبرا للسائلين، ثمّ فصّلها، فذكر تعالى أن إخوة يوسف ذكروا فيما بينهم أن يوسف وأخاه أحبّ إلى أبيهم منهم، وحكموا بتخطئته في إيثارهما بزيادة حبّه عليهم، وتآمروا على قتله أو إبعاده في أرض عن أبيه فأشار بعضهم بإلقائه في جبّ ليلتقطه بعض السّيّارة الذين يمرون به، فاتفقوا على هذا الرأي، ثم احتالوا على أبيهم، حتى يرسله ليرتع ويلعب معهم، فذكر أنه يخاف أن يأكله الذئب وهم عنه غافلون، فتعهّدوا له ألّا يغفلوا عنه، فلمّا ذهبوا به ألقوه في ذلك الجبّ، واتفقوا على أن يرجعوا إلى أبيهم، فيخبروه بأن الذئب أكله وهم في غفلة عنه، وأوحى الله إليه لينبّئنّهم بأمرهم هذا، وهم لا يشعرون. ثم ذكر سبحانه أنهم رجعوا إلى أبيهم يبكون، وأخبروه بأنهم ذهبوا يستقون، وتركوا يوسف عند متاعهم، فأكله الذئب، وأتوه بقميصه وعليه دم لطّخوه به، فنظر إلى القميص فوجده لا تمزيق فيه. فعرف كذبهم وأخبرهم بأن أنفسهم سوّلت لهم فيه أمرا، وصبر

على فقد يوسف صبرا جميلا، واستعان الله على ما يصفون من الكذب، ليظهر أمره له، ويعلم ما فعلوه به. ثم ذكر تعالى، أن سيارة كانت ذاهبة من مدين إلى مصر، أرسلوا واردهم ليطلب لهم الماء، فسار حتى وصل إلى ذلك الجبّ، فأدلى دلوه فتعلق يوسف به، فلمّا رآه فرح به لجماله وحسنه، واتفق هو ومن معه على أن يخفوا أمره عن سيارتهم، ويخبروهم بأن أهل الماء جعلوه بضاعة عندهم، على أن يبيعوه لهم بمصر، ثم ذكر أنهم باعوه بثمن بخس لأنهم لم يغرموا فيه شيئا، وكان الذي اشتراه عزيز مصر، فأمر امرأته أن تكرم مثواه، عسى أن ينفعهم أو يتخذوه ولدا ثم ذكر جلّ شأنه أنه لما بلغ أشدّه، آتاه حكمة وعلما، وجزاه بذلك على إحسانه وطاعته، وأنّ امرأة العزيز راودته عن نفسه، فاستعاذ بالله ممّا تطلبه منه، وخرج هاربا إلى الباب فخرجت وراءه لتمنعه، وتعلّقت بقميصه فقدّته من دبر، فلما وصلا إلى الباب، وجدا بعلها عنده، فرمته بأنه كان يريد بها سوءا، وذكر له أنها راودته عن نفسه فأبى وجاء شاهد من أهلها، فذكر أن قميصه إن كان قدّ من قبل، تكون هي الصادقة، وإن كان قدّ من دبر يكون هو الصادق، فلما رآه قدّ من دبر علم أن اتهامها له من الكيد الذي عرفن به، وأمره أن يعرض عن هذا، لئلّا يظهر للناس، وأمرها أن تستغفر من ذنبها، ولا تعود إليه. ثم ذكر تعالى أن نسوة في المدينة عرفن ذلك، فلمنها عليه، فلما سمعت بما حصل منهن، دعتهنّ إليها، وأحضرت لهن طعاما، وآتت كل واحدة منهن سكينا لقطع الطعام، وأمرت يوسف أن يخرج عليهن، فلمّا رأينه أكبرنه، ودهشن، فوقعت سكين كل واحدة على يدها، فجرحتها، ثم أخبرتهن بأنه هو الذي لمنها فيه، وأنه إن لم يفعل ما تأمره به، فلا بدّ من أن تسعى في سجنه، فآثر السجن على ما دعته إليه، ولم يجبها إلى ما أرادته، فذهبت إلى بعلها، فشكته أنه فضحها في الناس، وأنه يخبرهم بأنها راودته عن نفسه، فرأى أن يحبسه، حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر ذلك الحديث. ثم ذكر سبحانه، أنه دخل معه السجن فتيان: أحدهما صاحب طعام

الملك، وثانيهما كان صاحب شرابه، فقصّ عليه صاحب الشراب، أنه رأى أنه يعصر خمرا، وقصّ عليه صاحب الطعام أنه رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه، وطلبا منه أن يؤوّل لهما رؤياهما، فأخبرهما بأنه سيؤوّل لهما ذلك قبل أن يأتيهما طعامهما، وأن علمه بتأويل الرؤيا ممّا علّمه ربّه، لأنه ترك ملّة من لا يؤمنون به ولا باليوم الآخر، واتّبع ملّة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ثم بيّن لهما بطلان ما يعبدانه من دون الله، وأوّل لصاحب الشراب رؤياه بأنه سيعود إلى عمله عند الملك، وأوّل لصاحب الطعام رؤياه، بأنه سيصلب فتأكل الطير من رأسه، وطلب من صاحب الشراب أن يذكره عند الملك، إذا عاد إلى عمله، فلما عاد إلى عمله نسي أن يذكره عند الملك، فلبث في السجن بضع سنين. ثم ذكر تعالى أن الملك رأى سبع بقرات سمان، يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخرى يابسات، وطلب من قومه أن يؤوّلوا له هذه الرؤيا، فعجزوا عن تأويلها له، فطلب منهم صاحب الشراب، أن يرسلوه إلى يوسف ليؤوّلها، فلما قصّها عليه، أخبره بأنهم يزرعون سبع سنين متوالية، وأوصاهم أن يتركوا ما يحصدونه في سنبله، لئلّا يأكله السوس، ولا يأكلوا إلا قليلا منه ثم أخبره بأنه سيأتي بعد ذلك سبع سنين مجدبات، يأكلون فيها ما ادّخروه لها، ثم يعودون إلى الخصب كما كانوا قبل الجدب، فلما عاد صاحب الشراب إلى الملك، وأخبره بهذا التأويل، طلب أن يأتوه بيوسف من السجن، فلمّا جاءه الرسول أمره أن يرجع إلى الملك، فيسأله عن حال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن، لينكشف أمرهن وتعلم براءته ممّا اتهمنه به، فسألهن الملك عن خطبهن، إذ راودن يوسف عن نفسه، فأجبن بأنهن لم يعلمن عليه من سوء، واعترفت امرأة العزيز بأنها هي التي راودته عن نفسه. ثم ذكر تعالى، أن الملك أمر أن يأتوه به ليستخلصه لنفسه، فلمّا أتاه وكلّمه، أخبره بأن قد صار عنده مكينا أمينا فطلب منه يوسف أن يجعله أميرا على خزائن أرض مصر، ليدبّر أمورها في سني الجدب، فأجابه الملك إلى ما طلب من ذلك، ثم ذكر تعالى أن إخوة

يوسف جاءوا إليه يبتاعون ميرة لأهلهم، فعرفهم ولم يعرفوه، ولمّا جهّزهم بجهازهم، سألهم أن يأتوه بأخ لهم من أبيهم، وأخبرهم بأنهم إن لم يأتوه به لم يعطهم شيئا، فأخبروه بأنهم سيراودون عنه أباه، لعلّه يرسله معهم، ثم أمر يوسف فتيانه، أن يجعلوا بضاعتهم التي ابتاعوا الميرة بها في رحالهم، ليعرفوها إذا انقلبوا الى أهلهم، فيرجعوا إليه ثانية، فلمّا رجعوا إلى أبيهم، أخبروه بأنهم لا يعطون شيئا، إذا لم يرسل معهم أخاهم بنيامين، وطلبوا منه أن يرسله معهم، وتعهدوا له بحفظه فأجابهم بأنهم قد تعهدوا قبل ذلك بحفظ يوسف، ولم يحفظوه، وذكر لهم أن الله خير حافظ وهو أرحم الراحمين، ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم، فأخبروا أباهم بذلك، وأنهم إذا ذهبوا ثانيا يميرون أهلهم ويحفظون أخاهم، ويزدادون كيل بعير له، فطلب منهم أن يؤتوه موثقا من الله ليأتنّه به، فلما آتوه موثقهم، أرسله معهم، وأشهد الله عليهم ثم ذكر سبحانه أنهم لما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه بنيامين، وعرّفه أنه أخوه، ونهاه أن يبتئس بما كانوا يفعلون فلمّا جهّزهم بجهازهم جعل صواع الملك في رحل بنيامين، ثم أمهلهم حتى انطلقوا، فأرسل وراءهم رسولا اتهمهم بأنهم سرقوا صواع الملك، فرجعوا إلى يوسف وأصحابه، وأقسموا بالله أنهم ما جاءوا ليفسدوا في الأرض، وما كانوا سارقين فسألوهم عن جزائه إن ظهر أنه منهم، فأجابوهم بأن جزاءه استرقاق من وجد في رحله، وكان هذا هو حكم السارق في شريعة ملك مصر، وقد فعل يوسف ذلك ليأخذ أخاه منهم ففتّش أوعيتهم حتى وجد الصواع في وعاء أخيه، فحكم باسترقاقه، وأخذه منهم. ثم ذكر تعالى، أنهم أخبروا يوسف بأنّ لأخيهم أبا شيخا كبيرا، وسألوه أن يأخذ أحدهم مكانه، فأبى أن يأخذ إلّا من وجد الصواع عنده، فلمّا يئسوا منه، تناجوا في أمرهم، وما يقولونه لأبيهم، فذكر كبيرهم أنه لن يبرح أرض مصر حتى يأذن له أبوه، أو يمكّنه الله من خلاص أخيه، وأمرهم أن يرجعوا إلى أبيهم، ويخبروه بما فعله، بنيامين فلما رجعوا إليه، وأخبروه بذلك لم يصدقهم، واتهمهم بأنه دبّروا له أمرا، كما دبّروا لأخيه من

الخاتمة الآيات (102 - 111)

قبل، وصبر على فقده أيضا صبرا جميلا. ورجا من الله أن يأتيه بأبنائه جميعا، ثم أعرض عنهم، وأظهر أسفه على يوسف، وصار يبكي عليه حتى ذهب بصره، فأشفق عليه أبناؤه، وأخبروه بأنه لا يفتأ يذكر يوسف حتّى يمرض أو يهلك فأجابهم بأنه إنما يشكو أمره إلى الله، ويعلم منه ما لا يعلمون، ثم أمرهم أن يذهبوا إلى مصر، فيفتشوا عن يوسف وأخيه، ولا ييأسوا من رحمة الله، فأطاعوا، وذهبوا إلى مصر يمتارون ويفتشون عن أخويهم فلما دخلوا على يوسف شكوا إليه ما مسّهم وأهلهم من الضر، وأنهم جاءوا ببضاعة رديئة يرجون أن يقبلها منهم، وأن يعطيهم بدلها كيلا وافيا، ويتصدق بذلك عليهم فلمّا شكوا إليه ذلك رقّ لهم ودمعت عيناه، وسألهم عمّا فعلوه بيوسف وأخيه، وهم في جهل الشباب، فقالوا له أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) . ثم ذكر تعالى، أنهم لما عرفوه، اعترفوا له بالمزيّة والفضل، وأقرّوا بأنهم أخطئوا فعفا عنهم، ورجا من الله أن يغفر لهم، وأمرهم أن يذهبوا بقميصه، فيلقوه على وجه أبيه ليأتي إليه بصيرا، ويأتوا بأهلهم أجمعين ثم ذكر سبحانه، أنهم رجعوا إلى أبيهم، وألقوا عليه القميص فارتدّ إليه بصره، وأنهم أتوا بأهلهم، فلما دخلوا على يوسف، ضمّ إليه أبويه، ورفعهما إلى سريره الذي يجلس عليه، وأنهم خرّوا له سجّدا سجود تكريم، وأن يوسف أخبر أباه، بأن هذا هو تأويل رؤياه من قبل، قد جعلها ربّه حقا، وقد أحسن به إذ أخرجه من السجن، وجاء بهم إليه، من بعد أن نزغ الشيطان بينه وبين إخوته، إنه لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) . الخاتمة الآيات (102- 111) ثم قال تعالى ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) فذكر سبحانه،

أن قصة يوسف (ع) من غيب الماضي الذي يوحيه إليه، وما كان يعلمه، وأن أكثر الناس لا يؤمنون بالقرآن، ولو حرص على إيمانهم لتعنّتهم، وأنه لا يسألهم عليه أجرا، حتّى يعرضوا عنه، وإنما هو تذكير للناس وعظة لهم ثم ذكر تعالى، أن هذا الإعراض شأنهم في آياته في السماوات والأرض، وأن أكثرهم لا يؤمن به إلّا وهم مشركون ثم أنكر عليهم، أنهم لا يحذرون أن يؤاخذهم على تعنّتهم، بغاشية من عذابه، أو تأتيهم الساعة بغتة، وهم لا يشعرون. ثم أمر النبي (ص) أن يذكر لهم، أن هذا سبيله يدعو إليه على بصيرة، هو ومن اتّبعه، ولا يأتيهم بما يقترحونه من الآيات على سبيل التعنّت، ثم ذكر سبحانه، أنه لم يرسل من قبله إلّا رجالا مثله، من أهل القرى، فلم يرسل ملائكة كما يقترحون، وأمرهم أن يسيروا في الأرض، لينظروا كيف كانت عاقبة المكذّبين قبلهم وذكر تعالى، أن دار الآخرة خير للمتقين، من دنياهم التي أعمتهم ثم ذكر جلّ شأنه أنه لم يهلك المكذبين قبلهم، إلا بعد أن استيأس الرسل، وظنّوا أنهم قد كذبوا فيما وعدوا به من هلاكهم، وأنّ نصره جاءهم بعد هذا، فنجّى من يشاء من المؤمنين، ولم يردّ أحد عذابه عن القوم المجرمين لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"يوسف"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «يوسف» «1» أقول: وجه وضعها بعد سورة «هود» زيادة على الأوجه الستة السابقة، أن قوله تعالى في مطلعها: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [الآية 3] مناسب لقوله سبحانه في مقطع تلك: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود/ 120] . وأيضا فلما وقع في سورة هود: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) . وقوله تعالى: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود/ 73] . ذكر هنا حال يعقوب مع أولاده، وحال ولده الذي هو من أهل البيت مع إخوته، فكان كالشرح، لإجمال ذلك. وكذلك قال تعالى في سورة «يوسف» : وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ [الآية 6] . فكان ذلك كالمقترن بقوله تعالى في هود: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [الآية 73] . وقد روينا عن ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب النزول: أن «يونس» نزلت، ثم «هود» ، ثم «يوسف» «2» . وهذا وجه آخر، من وجوه المناسبة في ترتيب هذه السور الثلاث، لترتيبها في النزول هكذا.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . الإتقان: 1/ 97، نقلا عن محمد بن الحارث بن أبيض في جزئه.

المبحث الرابع مكنونات سورة"يوسف"

المبحث الرابع مكنونات سورة «يوسف» «1» 1- أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً [الآية 4] . هي الخرثان، وطارق، والذيال، والكتفان، وقابس، ووثاب، وعمودان، والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرع، كما ورد في حديث مرفوع أخرجه الحاكم في «مستدركه» «2» . 2- لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ [الآية 8] . قال قتادة: هو بنيامين، شقيقه. أخرجه ابن أبي حاتم. 3- قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ [الآية 10] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . يبدو أن هذا الحديث سقط من مطبوعة «المستدرك» ، حتى إن الشيخ أحمد شاكر صرح في تعليقه على «تفسير الطبري» بأنه لم يجده فيه. وللعلماء كلام في هذا الحديث المرويّ عن جابر رضي الله عنه. قال الحافظ البوصيري: «رواه أبو يعلى بسند ضعيف ومنقطع، ورواه البزار بتمامه إلا أنه قال: «التمردان» بدل «العمودان» ، والحاكم قال: صحيح على شرط مسلم، وليس كما زعم» . من هامش «المطالب العالية» 3/ 344. وأورده ابن عراق الكناني في «تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة» 1/ 193، وزاد في عزوه إلى سعيد بن منصور، والعقيلي في «الضعفاء» وابن مردويه. وقد حاول ابن عراق إزالة تهمة الوضع عن الحديث. لكن تعقبه معلقا عليه الشيخ عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري، فقال: «تقتضي نكارته الحكم بوضعه جزما. وهو في الحقيقة مأخوذ عن الإسرائيليات» . وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 39: «رواه البزار، وفيه الحكم بن ظهير وهو متروك» . وهناك اختلاف بين النسخ التي روت هذا الحديث في أسماء هذه الكواكب، انظر «تفسير الطبري» 12/ 90 و «مجمع الزوائد» 7/ 39، و «كشف الأستار» 3/ 53، و «المطالب العالية» 3/ 344، و «تاريخ جرجان» لحمزة السهمي: 244، و «تنزيه الشريعة المرفوعة» لابن عراق 1/ 193، و «ميزان الاعتدال» للذهبي 1/ 572.

قال قتادة: كنا نحدّث أنه روبيل، وهو أكبر إخوته وهو ابن خالة يوسف «1» . وقال السّدّي: هو يهوذا. وقال مجاهد: هو شمعون. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. 4- غَيابَتِ الْجُبِّ [الآيتان 10 و 15] . قال قتادة: بئر بيت المقدس. وقال ابن زيد: بحذاء طبريّة «2» ، بينه وبينها أميال. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. وأخرج عن أبي بكر بن عيّاش: أنّ يوسف أقام في الجبّ ثلاثة أيّام. 5- بِدَمٍ كَذِبٍ [الآية 18] . قال ابن عباس: كان دم سخلة «3» . أخرجه ابن أبي حاتم «4» . 6- فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ [الآية 19] . هو: مالك بن ذعر «5» . 7- وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ [الآية 21] . قال ابن عبّاس: كان اسمه: قطيفير «6» . وقال ابن إسحاق: أطيفير «7» . أخرجه ابن أبي حاتم. 7- لِامْرَأَتِهِ [الآية 21] . قال ابن إسحاق: اسمها راعيل بنت رعائيل. أخرجه ابن أبي حاتم. وقيل: زليخا. 8- وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها [الآية 26] . قال ابن عباس: صبيّ في المهد. وقال مجاهد: ليس من الإنس، ولا من الجنّ، هو خلق من خلق الله. وقال الحسن: رجل له فهم وعلم. وقال زيد بن أسلم: كان ابن عمّ لها حكيما.

_ (1) . أخوه لأبيه. والأثر في «تفسير الطبري» 12/ 93. (2) . رواه الطبري 12/ 93 15/ 566 ط شاكر. (3) . السّخلة: ولد الشاة من المعز والضأن، ذكرا كان أو أنثى. (4) . والطبري في «تفسيره» 12/ 97. (5) . انظر «تفسير الطبري» 12/ 104. (6) . «تفسير الطبري» 12/ 104: «قطفير» . والمثبت موافق ل «الإتقان» 2/ 146. (7) . في «الدر المنثور» 4/ 11: «أظفير» ، وفي «تفسير الطبري» : «أطفير بن روحيب» . والمثبت موافق ل «الإتقان» .

أخرج ذلك ابن أبي حاتم. وفي «العجائب» للكرماني: قيل: هو رجل من خاصة الملك، له رأي. وقيل: هو زوجها. وقيل: هو سنّور «1» في الدار «2» . 9- وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ [الآية 36] . قال ابن عباس: أحدهما، خازن الملك على طعامه، والآخر، ساقيه على شرابه. أخرجه ابن أبي حاتم. وأخرج عن مجاهد، وابن إسحاق: أن اسم الأول، مجلث «3» ، والساقي، نبو «4» ، وفي «المسالك» لأبي عبيد البكري «5» : أن اسم الأوّل: راشان، والثاني: مرطش. وقيل: الأول: بشرهم، والثاني: شرهم. حكاه السّهيلي. 10- لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ [الآية 42] . هو السّاقي. قاله مجاهد، وغيره. أخرجه ابن أبي حاتم «6» . 11- عِنْدَ رَبِّكَ [الآية 42] . قال مجاهد: أي الملك الأعظم: الريّان بن الوليد. أخرجه ابن أبي حاتم. 12- فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) . قال أنس بن مالك: سبع سنين «7» .

_ (1) . السّنّور: الهر. [.....] (2) . قال الطبري في «جامع البيان» 12/ 116: «والصواب من القول في ذلك، قول من قال: كان صبيا في المهد. للخبر الذي ذكرناه عن رسول الله (ص) أنه ذكر من تكلّم في المهد فذكر أنّ أحدهم صاحب يوسف» . والثلاثة المتكلمون في المهد هم: عيسى، وصاحب يوسف، وصاحب جريج. (3) . «تفسير الطبري» 12/ 127 ووقع في «الدر المنثور» 4/ 18: «مجلب» بالباء الموحدة، وفي الإتقان 2/ 147: «محلت» . (4) . «انظر تفسير الطبري» 12/ 127، وفي «الإتقان» . أن اسمه: «بنوء» . (5) . أبو عبيد البكري: عبد الله بن عبد العزيز، مؤرخ جغرافي، ثقة، أديب، له مصنفات كان الملوك يتهادونها منها: «المسالك والممالك» ، مخطوط غير كامل، طبع جزء منه باسم «المغرب في ذكر أفريقية والمغرب» وقطع خاصة ببلاد الروس والصقلب ومصر، وله أيضا «معجم ما استعجم» و «شرح أمالي القالي» ، توفي سنة (487) هـ. (6) . انظر «تفسير الطبري» 12/ 131. (7) . أخرجه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وعبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» . «الدر المنثور» 4/ 20.

وقال ابن عباس: اثنتي عشرة سنة. وقال طاوس، والضّحّاك: أربع عشرة سنة. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. وفي «العجائب» للكرماني: أنه لبث بكلّ حرف من قوله: (اذكرني عند ربّك) سنة. 13- وَقالَ الْمَلِكُ [الآية 43] . هو ريّان السابق «1» . 14- ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ [الآية 59] . قال قتادة: هو بنيامين. وهو المتكرّر «2» في السورة. 15- فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [الآية 77] . وقال ابن عباس: يعنون يوسف. أخرجه ابن أبي حاتم «3» . 16- قالَ كَبِيرُهُمْ [الآية 80] . قال مجاهد: هو شمعون الذي تخلّف، أكبرهم عقلا. وقال قتادة: هو روبيل، أكبرهم في السن. أخرج ذلك ابن أبي حاتم «4» . 17- وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [الآية 82] . قال قتادة: هي مصر، أخرجه ابن أبي حاتم «5» ، وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس. 18- إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ [الآية 94] . قال ابن عبّاس: وجدها من مسيرة ستّة أيّام. وفي رواية عنه «6» : ثمانية. وفي أخرى: عشرة. وفي أخرى: من مسيرة

_ (1) . انظر الآية (42) من هذه السورة في هذا الكتاب و «تفسير الطبري» 13/ 4. (2) . المثبت موافق لما في «الإتقان» 2/ 147 وانظر «تفسير الطبري» 13/ 6. (3) . قال الحافظ البوصيري بعد ما ذكر أثرا عن ابن عباس: رواه الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» ، بتعبير يوسف عليه السلام بالسرقة: «رواه الحارث. بسند ضعيف لضعف خصيف، ولا سيما فيما رواه في حق الأنبياء، وهم معصومون قبل البعثة وبعدها. هذا هو الحق» . من هامش «المطالب العالية» 3/ 345. (4) . انظر «تفسير الطبري» 13/ 23. (5) . «تفسير الطبري» 13/ 25. (6) . انظر «تفسير الطبري» 13/ 38.

ثمانين فرسخا. أخرج ذلك ابن أبي حاتم «1» . 19- الْبَشِيرُ [الآية 96] . قال مجاهد: هو ابنه يهوذا. أخرجه ابن جرير. 20- سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [الآية 98] . قال ابن مسعود: أخّرهم إلى السّحر. أخرجه ابن أبي حاتم. وفي حديث مرفوع: إلى ليلة الجمعة. أخرجه التّرمذي من حديث ابن عباس. 21- آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ [الآية 99] . هما أبوه، وأمه: راحيل. أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة. وأخرج عن السّدّي قال: خالته، واسمها: ليّا. 22- هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ [الآية 100] . قال سلمان: كان بين رؤياه وتأويلها أربعون عاما. وقال قتادة: خمسة وثلاثون عاما. أخرجه ابن أبي حاتم. وأخرج عن الحسن: أن يوسف ألقي في الجبّ وهو ابن سبع عشرة سنة، وعاش في العبودية والملك ثمانين سنة ثم جمع الله له شمله بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة. 23- وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [الآية 100] . قال عليّ بن أبي طلحة: من فلسطين. أخرجه ابن أبي حاتم.

_ (1) . المصدر نفسه 13/ 41. قلت: وقد روى الحديث أيضا الحاكم في «المستدرك» 1/ 316 في كتاب الصلاة، وتعقّبه الذهبي فقال: «هذا حديث منكر شاذ، أخاف أن يكون موضوعا» . وقال الذهبي أيضا في «سير أعلام النبلاء» 9/ 218 في ترجمة الوليد بن مسلم، بعد أن أورد الحديث: «قلت: هذا عندي موضوع، والسلام» .

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"يوسف"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «يوسف» «1» 1- قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ [الآية 3] . قال الزمخشري: القصص على وجهين: يكون مصدرا بمعنى الاقتصاص، وتقول: قصّ الحديث يقصّه قصصا، كقولك شلّه يشلّه شللا، إذا طرده، ويكون «فعلا» بمعنى «مفعول» ، كالنّفض والحسب. ونحوه النّبأ والخبر: في معنى المنبأ به والمخبر به. ويجوز أن يكون من تسمية المفعول بالمصدر، كالخلق والصّيد. وإن أريد المصدر فمعناه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ، أي: بإيحائنا إليك هذه السورة، والمقصوص محذوف لأنّ قوله تعالى: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ مغن عنه. ويجوز أن ينتصب «هذا القرآن» ب «نقصّ» ، كأنه قيل: نحن نقصّ عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بايحائنا إليك. والمراد بأحسن الاقتصاص: أنه اقتصّ على أبدع طريقة وأعجب أسلوب. ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتصّ في كتب الأوّلين، وفي كتب التواريخ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقاربا لاقتصاصه في القرآن؟ وإن أريد بالقصص المقصوص، فمعناه: نحن نقصّ عليك أحسن ما يقصّ من الأحاديث.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

واشتقاق «القصص» من قولهم: قصّ أثره إذا أتبعه، لأن الذي يقصّ الحديث يتبع ما حفظ منه، شيئا فشيئا. والقصّة الخبر، وهو القصص، وقصّ عليّ خبره، والخبر هو المقصوص. والقصّة: الأمر والحديث، واقتصصت الحديث: رويته على وجهه. والقصّ: البيان، والقصص الاسم. والقاصّ: الذي يأتي بالقصّة على وجهها، كأنّه يتتبّع معانيها وألفاظها. والقصص: جمع القصّة، (بالكسر) التي تكتب. أقول: ولما كانت القصة الخبر، أو الأمر يقصه صاحبه أو يكتبه، توصّل المعربون في العصر العباسيّ إلى أن تكون القصّة لديهم ما يكتبه صاحب الحاجة، على رقعة يقدّمها إلى الخليفة، أو الأمير، أو صاحب المظالم وغيرهم من أولي الأمر، يطلب فيها حقا له اغتصب مثلا، أو ظلامة أخرى لحقته. وهذه الرقعة دعيت قصّة، فكان صاحب الأمر ينظر في جلسة خاصة، أو يوم مخصوص في القصص بين يديه، ويوقّع فيها الجواب. ويحسن بنا أن نقول: إن المعاصرين قد اصطلحوا على القصّة الجديدة، فاتّخذوها مقابلا ل عند الإفرنج، وهي نمط أدبيّ شاع في عصرنا الحاضر، منذ أواخر القرن الماضي، تقليدا ومحاكاة لما عند الغربيين من هذا الفن. وقد يقال: إنه كان للعرب حكايات ومقامات، فهل هي أصل هذا الفن الجديد؟ أو أن المعاصرين اتخذوها بداية يستوحون منها؟ الجواب: ليس شيئا من هذا اعتمده أهل هذا العصر، الذين يكتبون «القصة المعاصرة» . وقد نشأت لديهم القصة القصيرة، وربما أقصر منها، أي: القصرى، والقصة الطويلة، أي: الرواية. 2- وقال تعالى: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) . وقوله تعالى: يا أَبَتِ قرئ بالحركات الثلاث. ولنبسّط القول في هذه المسألة

اللغوية التاريخية، فنسرد أقوال المفسّرين، واللغويين الأقدمين، كما جاء بها الزّمخشري في «الكشاف» ، ثم نعقّب القول فيها، وما يبدو لنا من هذه المواد التاريخية. قال الزمخشري «1» : التاء في «يا أبت» ، تاء تأنيث وقعت عوضا من ياء الإضافة، والدليل على أنها تاء تأنيث قلبها هاء في الوقف. فإن قلت: كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكّر؟ قلت: كما جاز نحو قولك: حمامة ذكر، وشاة ذكر، ورجل ربعة، وغلام يفعة. فإن قلت: فلم ساغ تعويض تاء التأنيث من ياء الإضافة؟ قلت: لأن تاء التأنيث والإضافة يتناسبان، في أنّ كلّ واحد منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره. فإن قلت: فما بال الكسرة لم تسقط بالفتحة التي اقتضتها التاء، وتبقى التاء ساكنة؟ قلت: امتنع ذلك فيها، لأنّها اسم، والأسماء حقّها التحريك لأصالتها في الإعراب، وإنّما جاز تسكين الياء، وأصلها أن تحرّك تخفيفا، لأنها حرف لين. وأما التاء، فحرف صحيح نحو كاف الضمير، فلزم تحريكها. فإن قلت: يشبه الجمع بين التاء وبين هذه الكسرة، الجمع بين العوض والمعوّض منه، لأنها في حكم الياء، إذا قلت: يا غلام، فكما لا يجوز «يا أبتي» لا يجوز «يا أبت» . قلت: الياء والكسرة قبلهما شيئان، والتاء عوض من أحد الشيئين وهو الياء، والكسرة غير متعرّض لها، فلا يجمع بين العوض والمعوض منه، إلّا إذا جمع بين التاء والياء لا غير. ألا ترى إلى قولهم: «يا أبتا» مع كون الألف فيه بدلا من التاء، كيف جاز الجمع بينها وبين التاء، ولم يعدّ ذلك جمعا بين العوض والمعوّض منه، فالكسرة أبعد من ذلك. فإن قلت: فقد دلّت الكسرة في يا «غلام» على الإضافة، لأنّها قرينة الياء ولصيقتها. فإن دلّت على مثل ذلك في: «يا أبت» ، فالتاء المعوّضة لغو، وجودها كعدمها. قلت: بل حالها مع التاء

_ (1) . «الكشاف» : 2/ 442- 443.

كحالها مع الياء، إذا قلت: يا أبي. فإن قلت: فما وجه من قرأ بفتح التاء وضمّها؟ قلت: أمّا من فتح فقد حذف الألف من «يا أبتا» ، واستبقى الفتحة قبلها، كما فعل من حذف الياء في «يا غلام» ، ويجوز أن يقال: حرّكها بحركة الياء المعوّض منها في قولك: «يا أبي» . وأمّا من ضمّ، فقد رأى اسما في آخره تاء تأنيث، فأجراه مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء، فقال: «يا أبت» كما تقول: «يا تبّة» ، من غير اعتبار لكونها عوضا من ياء الإضافة. أقول: هذا النمط من المعالجة يكثر عند اللغويين، حينما يعرضون لمسائل صرفية، فيرتكبون من الشطط ما يرتكبون، ويتعسّفون تعسفا في سبيل الوصول إلى ما يريدون. قالوا: إنّ «التاء» في «يا أبت» عوض من ياء الإضافة في قولهم: «يا أبي» . أقول: ولم كانت التاء وهي صوت ساكن في علم الأصوات، عوضا من صوت مصوّت هو الياء الليّنة الممدودة وطبيعة هذه، تختلف كل الاختلاف عن طبيعة تلك؟ وإذا كانت هذه التاء، كما زعموا، عوضا من ياء الإضافة، فهلّا قالوا في التاء في «ربّت» ، و «ثمّت» أنها عوض من صوت آخر هو الياء أو غيره؟ لم يقولوا شيئا من ذلك، وإنما أشاروا إلى زيادتها في تلك المواد. وقالوا في التاء من «لات» في قوله تعالى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) [ص] . إنها تاء التأنيث، وقيل، للمبالغة، وقيل لهما جميعا «1» . أقول: إذا كانت التاء للتأنيث فكيف تلزم الكسر؟ وما رأينا تاء للتأنيث تلزم الكسر. وتاء التأنيث يوقف عليها بالهاء، وقالوا إنّ «أبت» يوقف عليها فتكون التاء هاء، فهل وقف على هذه التاء فصارت هاء؟ لم يؤثر شيء من ذلك. وماذا نقول في جواز فتحها وضمّها؟ ولم يؤثر عن بعضهم أنه قرأ بالفتح او

_ (1) . كيف تكون التاء في «لات» للتأنيث وللمبالغة؟ هذا منطق غريب. وقد أدرك ضعف هذا القول اللغويون، فنظروا إلى المسألة نظرا آخر، فقالوا: تزاد التاء في أول كلمة «حين» فتصبح «تحين» وكأن التاء أداة تعريف، وعلى هذا تكون «لات حين» هي «لا تحين» . ومثل حين «الآن» فقالوا: تلان.

الضم. وإذا كسرت أو ضمّت فهل تكون للتأنيث؟ ولم نعرف لهذا الضرب من تاء التأنيث نظائر. وإذا كان الأب مذكرا فما فائدة تاء التأنيث؟ وإذا قالوا لنا إن «أبت» مع التاء نظير: حمامة ذكر، ورجل ربعة، فالردّ عليهم أن التاء في «حمامة» هي للتأنيث، ولكنها وصفت بذكر لإبعاد التأنيث الحقيقي. أما التاء في «ربعة» ، فهي ليست تاء تأنيث وإن كان اللفظ مؤنثا، وهو كالتأنيث في «حمزة» ، و «عرفة» من أعلام الذكور، وعلى هذا فقولهم: إن «أبت» والتاء فيها مثل حمامة ذكر، ورجل ربعة، قول متهافت. وأما قولهم: إن «يا أبت» هي مثل «يا أبي» ، ولكن الياء امتنعت، لأنّ التاء عوض منها، ولا يجتمع عوض ومعوّض منه. قلت: إن التاء ليست عوضا، وأشرت إلى اختلاف الصوتين طبيعة ومخرجا وحيّزا، ولكني أقول الآن: إن الياء كأنها موجودة، اجتزئ منها بالكسرة، فلم تحذف. ومثل هذا قولنا: يا قوم ويا ربّ، فحذفنا الياء، أي: المدّ الطويل، واجتزأنا منه بالحركة القصيرة، التي هي شيء من الياء الليّنة، وهذا يعني أن «يا قوم» هي «يا قومي» وقصر المدّ يؤدّي غرضا صوتيا، هو تخفيف الطول. إذن فكيف نقول الآن في «يا أبت» ، بعد أن بينّا ضعف الأقوال الصرفية، المتكلّفة التي يرفضها العلم اللغوي من نواح عدة. أقول: إن «التاء» في «يا أبت» زيادة، وهذه الزيادة قد كانت من إحساس العربي القديم، أن الأسماء الثنائية أسماء ناقصة، فلا بد من أن تكون ثلاثية، ألا ترى أنهم في الجمع والنسب والتصغير جعلوا: «شفة» ، و «سنة» ، و «أب» ، و «أم» ، كلمات ثلاثية، فجاءوا بالواو تارة، وبالهاء تارة أخرى، فقالوا: سنوات، وسنهات، وسنويّ، وسنيّة، وشفويّ، وشفهيّ، وشفاه، وشفهية، وآباء، وأمّهات، وأبويّ، وأمويّ. وإذا زيدت التاء في «أب» على هذا النحو في اللغة القديمة، فقد زيدت في «ربّ» ، و «ثمّ» ، و «ثمّ» ، على أنها صارت ثلاثية بالتضعيف. وإلى هنا، آمل أن تكون المسألة قد اكتسبت الإيضاح الكافي.

3- وقال تعالى: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً [الآية 4] . القول في «رأيت» ، أي: رأى في نومه حلما. الفعل رأى في العربية، يكون رؤية ورأيا بالعين، ويكون رأيا بالعقل، بمعنى علم واعتقد، كقولهم: فلان يرى العقل خير سلاح، ويكون رأى رؤيا في النوم، كما في الآية. ويفرّق بينها في المصدر. كما بيّنا. 4- وقال تعالى: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [الآية 6] . ما التأويل؟ التأويل في الآية هو «تأويل الأحاديث» ، والأحاديث الرؤيا، وتأويلها عبارتها وتفسيرها، وكان يوسف (ع) أعبر للرؤيا وأصحّهم عبارة لها ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسنن الأنبياء. وفي التنزيل: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ [الآية 100] ، أي: عبارتها. وقال أهل اللغة: التأويل تفسير ما يؤول إليه الشيء، وقد أوّلته تأويلا وتأوّلته بمعنى. وأمّا قول الله- عزّ وجلّ-: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف/ 53] . فقال أبو إسحاق: معناه، هل ينظرون إلّا ما يؤول إليه أمرهم من البعث. وهذا التأويل هو قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران/ 7] ، أي: لا يعلم متى يكون أمر البعث. أقول: هذا هو التأويل في القرآن، فأين نحن منه الآن؟ التأويل في لغة عصرنا يعني التفسير والشرح بشيء خاص، وهذا الشيء الخاص قد يجعل للمسألة تفسيرين أو أكثر، وإن منها ما فيه افتئات على الحقيقة. وكأن التأويل أحيانا في استعمال المعاصرين، ضرب من التحريف والتزوير المقبول على علّاته، ولم يفطن المعاصرون إلى أن «التأويل» ، هو الرجوع إلى «الأوّل» . 5- وقال تعالى: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ [الآية 9] .

قوله تعالى: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ أي: يقبل عليكم إقبالة واحدة، لا يلتفت عنكم إلى غيركم. والمراد سلامة محبّته لهم، ممّن يشاركهم فيها وينازعهم إيّاها. أقول: وهذا من مجازات القرآن البديعة، واستعمال الوجه وخلوّه، لمعنى الإقبال من كون الرجل يقبل بوجهه، وهو كقوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن/ 27] . 6- وقال تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) . المعنى: بعض السيارة، أي: بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق. بالتاء على المعنى، لأن بعض السيّارة سيارة. وقرئ: «تلتقطه» بالتاء على المعنى، لأن بعض السيارة سيارة. أقول: وعلى هذا تكون «بعض» دالة على الجمع، وليس الواحد، كما ذهب غير واحد من أهل عصرنا. ثم إن «السيارة» اسم جمع، وبناء «فعّالة» من أبنية الجمع القديم، كالبغّالة، والجمّالة، والحمّارة لأصحاب البغال والجمال والحمير، ومنه الرجّالة، والجلّابة، والميّارة. أقول: وهذا بناء من أبنية الجمع القديم، ولا سيما لأصحاب الحرف كالطّحّانة، والدّهّانة، والصّبّاغة، وغيرهم، للعاملين في حرف الطحن للحبوب، والعاملين في بيع الدهان، والعاملين في الصباغة. وما زال هذا الجمع واسع الاستعمال في العربية السائرة، كالسّمّاكة لباعة السّمك، والسفّانة للعاملين في السفن، والحصّانة لأصحاب الخيل، وغير ذلك كثير. 7- وقال تعالى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا [الآية 17] . والمعنى: وما أنت بمصدّق لنا. أقول: وهذا غير بعيد من «المؤمن» ، وهو واحد المؤمنين، كالمؤمن بالله فهو مصدّق لله، مقرّ بحقيقته، وعدله، ووحدانيته، وسائر صفاته، جلّ شأنه. 8- وقال تعالى: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [الآية 18] . والمعنى: بدم ذي كذب. أو وصف بالمصدر مبالغة، كأنه نفس الكذب

وعينه، كما قالوا للكذّاب: هو الكذب بعينه والزّور بذاته «1» . أقول: وقولهم: شاهد عدل، هو من هذا الباب، أي شاهد ذو عدل، أو من باب الوصف بالمصدر مبالغة، كما قلنا في الآية. 9- وقال تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [الآية 22] . أي: آتيناه حكمة وعلما. ودلالة الحكم على الحكمة، ممّا أثبتته لغة التنزيل، وذلك لأن «الحكم» في غير لغة القرآن قد يفيد الحكمة، ولكنّه نادر كل النّدرة والغالب فيه مصدر الفعل «حكم» ، وهذا الفعل مشهور معروف في دلالته الكثيرة. 10- وقال تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [الآية 23] . المراودة: مفاعلة من «راد يرود» ، إذا جاء وذهب، كأنّ المعنى: خادعته عن نفسه، أي فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء، الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه، ويأخذه منه، وهي عبارة عن التحمّل، لمواقعته إيّاها. أقول: وغلبت «المراودة» على محاولة خداع المرأة، لأجل النيل من شرفها وعفّتها، وذلك لأن المعربين لم يعرفوا استعمالات راود الأخرى، التي تبتعد عن هذه المحاولة الدنيئة، وهذا الضيق في المعنى من سمات لغة العصر. ومن هذه الدلالات لهذا الفعل، قوله تعالى: قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) . والمراودة هنا هي المخادعة أيضا، ولكنها لا تتصل بالاعتداء على العفة والشرف، كما رأينا في الآية: 23. والمراودة هنا في هذه الآية الأخيرة، هي ضرب من الاجتهاد والاحتيال، لانتزاع إخوة يوسف لأخيهم، الذي سأل عنه يوسف، وهو أخو يوسف وشقيقه «بنيامين» . وقوله تعالى: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ قيل: كانت سبعة، ومن أجل كثرة الأبواب استعمل الفعل المضاعف، فالتضعيف يفيد الكثرة.

_ (1) . «الكشاف» : 2/ 451.

و «هيت» قرئ بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء، وبناؤه كبناء أين وعيط. و «هيت» كجير. وهيت كحيث. وهئت بمعنى تهيّأت، ويقال: هاء يهيء، مثل جاء يجيء: إذا تهيّأ. وهيّئت لك. وأما في الأصوات فللبيان، كأنه قيل: لك أقول هنا، كما تقول: هلمّ لك. أقول: لعلّي أميل إلى تفسير من يقول هئت بمعنى تهيّأت، فهذا تفسير يؤيد ما نعرف من معاني الفعل «هيا» ، فهو يفيد «الكون» و «الوجود» كما في مادة «هيئة» في العربية، وهي بهذا المعنى في اللغة العبرانية، ومعنى «هئت» ، أي: كنت ووجدت أي: «ها أنا ذا» . 11- وقال تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [الآية 24] . همّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه، قال: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله ومنه قولك: لا أفعل ذلك ولا كيدا ولا همّا، أي ولا أكاد أن أفعله كيدا، ولا أهمّ بفعله همّا. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ، أي: همّت بمخالطته، وَهَمَّ بِها أي وهمّ بدفعها عنه. أقول: إن فعل الهمّ بالنسبة إلى امرأة العزيز في هذه الآية يعني القصد والعزيمة على فعل الشّرّ، ولعل انصراف «الهم» إلى القصد إلى الشر في هذه الآية، قد حمل الضيم على «الهمّ» في معناه العام، وهو القصد دون أن يعيّن مسراه، أشرّ أريد به أم خير. وهذا الانصراف لم يكن إلا لدى غير العارفين بمعاني العربية. وفي اللغة المعاصرة، الكثير من هذا النوع الذي تنصرف فيه المادة اللغوية إلى شيء خاص لم يكن لها في الحقيقة، ألا ترى أن قول المعاصرين: إن هذا الشيء ممتاز، يريدون به الجيد والغاية في الجودة، وهو في الحقيقة ممتاز بصفة أو بشيء، قد يكون حسنا وقد يكون غير حسن. 12- وقال تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ [الآية 25] . والمعنى: وتسابقا إلى الباب على

حذف الجار وإيصال الفعل، كقوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف/ 155] على تضمين «استبقا» معنى «ابتدرا» . أقول: وليس لنا في العربية المعاصرة الفعل «استبق» ، أي: تسابق، والثاني هو المتداول المتعالم. 13- وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا [الآية 30] . قالوا: النّسوة اسم مفرد لجمع المرأة، وتأنيثه غير حقيقي كتأنيث اللّمّة، ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث. أقول: لا أرى أن النسوة اسم مفرد لجمع المرأة، والذي أراه أنه جمع وهو على أبنية الجمع نظير نساء سواء بسواء. وأما مسألة عدم لحوق تاء التأنيث للفعل، فهذا يتصل بلغة القرآن التي ورثت خصائص العربية. ومن خصائص العربية التاريخية، أنّ علامة التأنيث فيها لم تأخذ مكانها الثابت، ومن أجل إثبات هذه الحقيقة التاريخية، تعالوا معنا لنستقري كلمة «طائفة» في لغة التنزيل لنتبيّن لحوق تاء التأنيث وعدمه قال تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران/ 69] . وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا [آل عمران/ 72] . فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء/ 102] . وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا [النساء/ 102] . وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ [الأعراف/ 87] . فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة/ 122] . وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا [الأعراف/ 87] . وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران/ 154] . فأنت تجد أن التاء لحقت الفعل في آيات، وعرّي الفعل عنها في آيات أخرى، كما تجد آيات أخرى أسند الفعل فيها إلى ضمير الجمع المذكر وهو من غير شكّ، مراعاة للمعنى، على جهة التغليب للمذكر.

وإذا قرأنا قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات/ 9] . فالمراعاة في هذه الآية لجمع الذكور في قوله تعالى: اقْتَتَلُوا، ثم جاء قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فعاد ضمير الاثنين مراعاة للفظ المثنى، وهو «طائفتان» . أقول: هذا كله من خصائص هذه اللغة الشريفة، التي سجّلت الكثير من خصائص هذه اللغة التاريخية. 14- وقال تعالى: قَدْ شَغَفَها حُبًّا [الآية 30] . قوله تعالى: شَغَفَها، أي خرق حبّه شغاف قلبها، حتى وصل إلى الفؤاد، والشّغاف حجاب القلب، قال قيس بن الخطيم: إنّي لأهواك غير ذي كذب ... قد شفّ منّي الأحشاء والشّغف وقال النابغة: وقد حال همّ دون ذلك والج ... مكان الشّغاف تبتغيه الأصابع وقرئ: شغفها بمعنى تيّمها، وشغفه الهوى إذا بلغ منه، وفلان مشغوف بفلانة، وقراءة الحسن: شعفها، بالعين المهملة، هو من قولهم: شعفت بها، كأنه ذهب بها كلّ مذهب. وشعفه الحبّ: أحرق قلبه، وقيل: أمرضه. وقال الليث: وشعفة القلب: رأسه عند معلّق النّياط. أقول: إذا كان الفعل بالغين المعجمة، فأصله من «شغاف القلب» أي: حجابه، وإذا كان بالعين المهملة، فأصله من «شعفة القلب» أي رأسه، وفي كلا الوجهين، برعت العربية في توليد الأفعال، ذات الدلالات المعنوية العقلية، من الأصول الحسّية. 15- وقال تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) . قوله تعالى: بَدا لَهُمْ فاعله مضمر، لدلالة ما يفسّره عليه، وهو: لَيَسْجُنُنَّهُ، والمعنى: بدا لهم بداء، أي: ظهر لهم رأي فقالوا ليسجننّه، والضمير في «لهم» للعزيز وأهله. ومن هذا قولهم: وبدا لي بداء، أي: تغيّر رأيي على ما كان عليه.

أقول: وليس من هذا قول المعاصرين: وبدا لي أن أفعل كذا وكذا، ويبدو لي أنّ الأمر كذا وكذا، فالفاعل فيها ظاهر، وهو المصدر من أن والفعل، وأن واسمها وخبرها. 16- وقال تعالى: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الآية 38] . قوله تعالى: ما كانَ لَنا أي: ما صحّ لنا معشر الأنبياء، أن نشرك بالله. أقول: وهذا من معاني «كان» ، وقد مرّ بنا نظيره في آيات أخرى. 17- وقال تعالى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [الآية 40] . قوله تعالى: ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي: ما أنزل الله بتسميتها من حجّة. أقول: أساء المعاصرون استعمال هذه الآية، واقتباسها في مواطن يمتنع اقتباسها امتناعا مطلقا، فيقولون مثلا: هذه أخبار ما أنزل الله بها من سلطان، أي: محض كذب وباطل. والكذب والباطل لا يمكن بأي حال أن ينزل بها حجة من الله، وليس هذا كحال الأمم السالفة، التي أشار إليها الله في آياته، فقد كانوا يعبدون أصناما وأوثانا، ما أنزل الله بها حجّة، توجب عبادتها، فليس هذا مثل ذاك. 18- وقال تعالى: وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ [الآية 43] . القول في هذه الآية على «البقرات والسنبلات واليابسات» فكلّها جمع مؤنث بالألف والتاء، وهذا الجمع من الجموع التي تنصرف إلى القلة في الغالب. أقول في الغالب، لأنه قد يأتي من الأسماء المؤنّثة وغيرها، ما لا يجمع إلّا بالألف والتاء، فلا يمكن في هذه الحالة أن ينصرف إلى القلة إلّا بقرينة كالعدد وغيره، فإذا قلنا مثلا: حمامات، فهي جمع كثرة إلّا إذا قلنا: سبع حمامات. أمّا الجموع في الآية، فهي للقلة من غير أن تكون مقيّدة بالعدد «سبع» ، ألا ترى الى قوله تعالى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا [البقرة/ 70] . وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما [الأنعام/ 146] . ولو أريد الكثرة أيضا لقيل «سنابل» ،

إلّا أن تقيد «السنابل» بعدد كما جاء في الآية: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ [البقرة/ 261] . 19- وقال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) . و: «تعبرون» للرؤيا. قالوا: عبر الرؤيا يعبرها عبرا وعبارة، وعبرها: فسّرها، وأخبر ما يؤول إليه أمرها. وعدّي الفعل باللام في الآية، كما في: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ [النمل/ 72] . أي: ردفكم. وقال الزجّاج: هذه اللام أدخلت على المفعول للتبيين، والمعنى إن كنتم تعبرون وعابرين، وتسمّى هذه اللام لام التعقيب، لأنّها عقّبت بالإضافة. وقال الجوهري: أصل الفعل باللام، كما يقال: إن كنت للمال جامعا. أقول: وجيء بهذه اللام، لأن المفعول قد تقدّم الفعل، وهذا يحسن في كل جملة، حصل فيها هذا التقديم، ألا ترى أنك تقول: إنّي للخبز آكل، وعلى هذا يكون ما قاله الجوهري سديدا ولعل اللام قد جيء بها، لأن المفعول معرّف بالألف واللام، وهذه اللام تقوّي المفعولية. 20- وقال تعالى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [الآية 45] . قرئ: وَادَّكَرَ بالدال. قال الزمخشري، وهو الفصيح «1» . وكان ينبغي أن يكون جواب الزمخشري: أن «ادّكر» بالدال هي القراءة المشهورة، والقراءة سنّة متّبعة، فقد تخرج عن المشهور الشائع من الأبنية والأقيسة. وقال الزمخشري: إن أصل «اذّكر» هو «تذكّر» ، والصحيح أن الأصل هو «اذتكر» أي: أن الفعل «ذكر» قد بني على «افتعل» ، فيكون «اذتكر» ، فيبدل من التاء دالا، فيكون «اذدكر» ، كما تقول في «زحم» ازدحم. وقد يحصل الإدغام، أي: إدغام الذال في الدال، فيكون «اذّكر» ، كما تقول «ادّعى» ، والأصل «ادتعى» . فأما أن يدغم «الدال» الذي أصله التاء في الذال،

_ (1) . «الكشاف» 2/ 475.

ويكون «ادّكر» فهو شيء لا نعرفه إلّا في «ادّخر» ، والأصل «ذخر» . وقوله تعالى: بَعْدَ أُمَّةٍ، أي: بعد مدّة طويلة، وكما تكون الأمّة قوما وتكون زمنا، ومثله القرن والجيل، وغير ذلك. 21- وقال تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) . قوله تعالى: يُغاثُ النَّاسُ من الغوث أو من الغيث، يقال غيثت البلاد إذا مطرت. هذا هو قول الزمخشري. ولنبسط القول في هذه الكلمة المفيدة. يقال: غاث الغيث الأرض: أصابها، ويقال: غاثهم الله، وأصابهم غيث، وغاث الله البلاد يغيثها غيثا إذا أنزل بها الغيث. ومنه الحديث: فادع الله يغيثنا (بفتح الياء) . وغيثت الأرض، تغاث غيثا، فهي مغيثة ومغيوثة: أصابها الغيث. وغيث القوم: أصابهم الغيث. قال الأصمعي: أخبرني أبو عمرو بن العلاء، قال: سمعت ذا الرّمة يقول: قاتل الله أمة بني فلان، ما أفصحها! قلت لها: كيف كان المطر عندكم؟ فقالت: غثنا ما شئنا. أقول: هذا هو معنى الغيث، وهو المطر يراد به الرحمة والخير والحياة، ومن هنا صارت العربية إلى الغوث ومنه الإغاثة، والغوث بمعنى النجدة والمعونة والمساعدة. وكأنّ التحوّل من الياء إلى الواو، وسيلة، لاستحداث معنى جديد، بينه وبين الأصل القديم وشيجة رحم. ألا ترى أن من هذا بين وبون، وعين وعون، وغير هذا. أمّا قوله تعالى: يَعْصِرُونَ، فقد ذكر الزمخشري، أنهم يعصرون العنب والزيتون والسّمسم. أقول: ومن قرأ «يعصرون» بالبناء إلى المفعول كانت قراءته وجيهة، وهو من عصره إذا أنجاه، وهو مطابق للإغاثة. ويجوز أن يكون المبني للفاعل بمعنى ينجون، كأنّه قيل: يغاث الناس وفيه يغيثون أنفسهم، أي: يغيثهم الله، ويغيث بعضهم بعضا. وقيل: «يعصرون» يمطرون، من

أعصرت السّحابة. وفيه وجهان: إمّا أن يضمّن أعصرت معنى مطرت، فيعدّى تعديته، وإما أن يقال: الأصل أعصرت عليهم، فحذف الجارّ، وأوصل الفعل. أقول: وبين قوله تعالى: يُغاثُ، وقوله: يَعْصِرُونَ على الوجهين حسن مناسبة فيها إصابة للمعنى. 22- وقال تعالى: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ [الآية 51] . وقوله تعالى: حَصْحَصَ الْحَقُّ أي: ثبت واستقرّ. 23- وقال تعالى: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي [الآية 53] . قالوا في قوله تعالى: إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي، إلّا البعض الذي رحمه ربّي بالعصمة، كالملائكة. ويجوز أن يكون «ما رحم» في معنى الزمن، أي: إلّا وقت رحمة ربي، يعني أن النفس أمّارة بالسوء في كل وقت وأوان. أقول: وهذا الوجه الأخير حسن، وهو أن يثبت أنه قد يلمح إلى وجه من وجوه استعمال «ما» ، هذا الوجه المبهم الذي يفيد الزمن. 24- وقال تعالى: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) . وقوله تعالى: مَكِينٌ أي: ذو مكانة. وهذه من باب الاشتقاق من الاسم، فكلمة «مكان» هي الأصل الذي جاء منه هذا الوصف، وجاء منه جميع ما يتصل بهذه الكلمة من فعل واسم مثل: مكن، ويمكن، وأمكن، وإمكان، ومكنة، ومكّن، وتمكين وغير ذلك. أقول: إن «المكان» أصل في جميع ما يتصل بهذه المادة، لمنزلة «المكان» في العربية فكرا، وواقعا، وسلوكا. ومن المفيد أن نشير إلى أن «المكان» جاء من «الكون» ، بمعنى الوجود والهيئة، ولمنزلته التي أخذها في تفكير العرب، صار أصلا لحاجات كثيرة. 25- وقال تعالى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ [الآية 59] . أقول: أراد الجهاز عدّة السفر من الزاد، وما يحتاج إليه المسافرون من الميرة. والجهاز بهذا المعنى غير معروف في العربية الفصيحة المعاصرة، ولكن شيئا منه معروف في عامية

[بعض البلاد العربية] ، فهم يقولون: جهاز العروس لما تزوّد به من أمتعة، وأثاث، ورياش، وملبس وغير ذلك، وكأن الكلمة أوشك أن يمحي ظلّها. ولكننا في عصرنا نقول: الجهاز الإداري، والجهاز الفني في الحكومة وغير ذلك، وهذا كله من العربية الجديدة. على أن «الجهاز» بكسر الجيم من أسماء الأدوات والآلات في العصر الحديث، فالجديد من المخترعات الميكانيكية يسمى كله جهازا، وجمعه أجهزة. وهذا مولّد جديد بني على «فعال» جريا على كثير من آلاتهم وأدواتهم. 26- وقال تعالى: وَنَمِيرُ أَهْلَنا [الآية 65] . والميرة الطعام يمتاره الإنسان. وجلب الطعام للبيع. وقالوا: وهم يمتارون لأنفسهم، ويميرون غيرهم ميرا. أقول: وقد ورث العراقيون أصولا عربية في العصر الحديث، ممّ استعمله الأتراك في الشؤون العسكرية، فكان في تنظيمات الجيش العراقي مديرية الميرة. 27- وقال تعالى: قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ [الآية 66] . أقول: اجتزئ بكسرة النون عن الياء في «تؤتوني» ، وذلك أحفل في السماع في التلاوة المستجادة، من المدّ الطويل الذي يكون في الياء. لقد مرت بنا نظائر لهذا الاجتزاء بالكسرة، وكان آخرها قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) . ولكن السبب في هذا الاجتزاء بالكسرة، في هذه الآية، أنّها فاصلة، وآخر كلمة في الآية يحسن الوقف عليها، فتطوى الكسرة، ويبقى النون ساكنا. ومثل هذا كثير في الوقف. 28- وقال تعالى: فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) . قوله تعالى: فَلا تَبْتَئِسْ معناه فلا تحزن ولا تستكن.

ابتأس الرجل، إذا بلغه شيء يكرهه. وليس بعيدا أن يكون الفعل ابتأس بهذه الدلالة، إذا كان البأس هو الشدة والعذاب والحرب، والبأساء كالبؤس أيضا. 29- وقال تعالى: قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ [الآية 72] . قالوا: الصّواع هو السّقاية التي وردت في الآية التي قبلها في قوله تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ. والسّقاية، هي المشربة التي كان يشرب منها الملك، ثم جعل صاعا في السنين الشّداد القحاط، يكال به الطعام. وقرأ أبو هريرة: نفقد صاع الملك. وقرأ يحيى بن يعمر: صوغ الملك. وقرأ سعيد بن جبير: صواغ الملك. أقول: والقراءة بالعين مرة وبالغين أخرى، دليل تعاقب الصوتين في طائفة من كلمات العربية، مسايرة للّغات الخاصة، وهو ما ندعوه ب «اللهجات» في عصرنا، وسيأتي من هذا الباب قراءات في آيات أخرى سنشير إليها.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"يوسف"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «يوسف» «1» قال تعالى: إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [الآية 51] وقال بعض أهل العلم: «إنّهن راودنه لا امرأة الملك» ، وقد يجوز، وإن كانت واحدة أن تقول (راودتنّ) كما ورد في التنزيل: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران/ 173] ها هنا واحد، يعني بقوله تعالى لَكُمْ النبيّ (ص) «أبا سفيان» فيما ذكروا. وقال تعالى: وَهَمَّ بِها [الآية 24] ، فلم يكن همّ بالفاحشة، ولكن دون ذلك ممّا لا يقطع الولاية. وقال تعالى: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الآية 3] أي نَقُصُّ عَلَيْكَ [الآية 3] بوحينا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ [الآية 3] «2» بجعل (ما) اسما للفعل وجعل (أوحينا) صلة. وقال تعالى: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) [الآية 4] بتكرير الفعل وقد يستغنى بأحدهما. وهذا على لغة الذين قالوا «ضربت زيدا ضربته» ، وهو توكيد مثل قوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) [الحجر وص/ 73] . وأمّا قوله تعالى رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) فإن السياق لمّا جعلهم كمن يعقل في السجود والطواعية، جعلهم كالإنس في تذكيرهم، إذا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في إعراب القرآن 2/ 499.

جمعهم، كما في قوله تعالى عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل/ 16] . وقال الشاعر [من الخفيف، وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد المائتين] : صدّها منطق الدّجاج عن القصد ... وضرب الناقوس فاجتنبا وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النمل/ 18] إذ تكلمت نملة فصارت كمن يعقل وقال سبحانه فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) [الأنبياء/ 33 ويس/ 40] لمّا جعلهم يطيعون، شبّههم بالإنس، مثل ذلك أيضا قوله تعالى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) [فصّلت/ 11] على هذا القياس، بالتذكير، وليس مذكرا كما يذكر بعض المؤنث. وقال قوم: إنّما قال تعالى: طائِعِينَ لأنهما أتتا وما فيهما، فتوهّم بعضهم «مذكّرا» أو يكون كما قال سبحانه وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [الآية 82] وهو يريد أهلها. وكما تقول «صلى المسجد» وأنت تريد أهل المسجد، إلّا أنّك تحمل الفعل على الآخر، كما قالوا: «اجتمعت أهل اليمامة» وقال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فصّلت/ 37] لأنّ الجماعة، من غير الإنس مؤنثة. وقال بعضهم «للّذي خلق الآيات» ولا أراه قال ذلك، الا لجهله بالعربية. قال الشاعر «1» [من البسيط، وهو الشاهد الرابع والثلاثون بعد المائتين] : إذ أشرف الديك يدعو بعض أسرته ... إلى الصّياح وهم قوم معازيل» فجعل «الدجاج» قوما في جواز اللغة. وقال الآخر وهو يعني الذيب [من الطويل، وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائتين] : وأنت امرؤ تعدو على كلّ غرّة ... فتخطئ فيها مرّة وتصيب وقال الآخر [من الرجز، وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائتين] :

_ (1) . هو عبدة بن الطبيب شعر عبدة بن الطبيب 79، والاختيارين 99، والمفضليات 143، واللسان «عزل» . (2) . في الصاحبي 251 «الى الصياح» وكذلك في الصحاح «عزل» واللسان أيضا وفي الاختيارين وفي شعره أيضا: «لدى الصباح» .

فصبّحت والطّير لم تكلّم ... جابية «1» طمّت بسيل مفعم «2» وقال تعالى: فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً [الآية 5] أي: فيتّخذوا لك كيدا. وليست مثل إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) . بإيصال الفعل إليها باللام، كما يوصل ب «الى» ، كما تقول: «قدّمت له طعاما» تريد: «قدّمت إليه» . وقال تعالى يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ [الآية 48] ومثله قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ [يونس/ 35] وإن شئت كان فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً في معنى «فيكيدوك» ، بجعل اللام مثل اللام في قوله تعالى لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) [الأعراف] وقوله سبحانه لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) إنّما هو: «لمكان ربّهم يرهبون» . وقال تعالى: أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ [الآية 9] وليس الأرض هاهنا بظرف. ولكن حذف منها «في» ثم أعمل فيها الفعل، كما تقول «توجّهت مكّة» . وقال تعالى: وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [الآية 14] و «العصبة» و «العصابة» جماعة ليس لها واحد «3» ك «القوم» و «الرّهط» . وقال تعالى: بِدَمٍ كَذِبٍ [الآية 18] بجعل «الدّم» «كذبا» لأنه كذب فيه كما تقول «الليلة الهلال» فترفع، وكما قال تعالى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة/ 16] «4» . وقال تعالى: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ [الآية 19] بالتذكير بعد التأنيث لأنّ «السيّارة» في المعنى للرجال «5» . وقال تعالى: مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي [الآية 23] أي: أعوذ بالله معاذا. جعله بدلا من اللفظ بالفعل، لأنه مصدر، وإن كان غير مستعمل مثل «سبحان» ، وبعضهم يقول «معاذة الله» ، ويقول «ما

_ (1) . جاء في الهامش: الجابية: الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل. يجبى أي: يجمع، قاله الجوهري. (2) . الرجز في الصحاح «فعم» واللسان «طمم» و «فعم» و «كلم» وفي أول مواضعه من اللسان ب «خابية» وفي ثالث مواضعه منه ب «حفّت» . وهو في الصحاح 1/ 23. (3) . نقله في التهذيب 2/ 46 «عصب» . (4) . قد نقله في التهذيب 10/ 167 وزاد المسير 4/ 193. (5) . نقله في زاد المسير 4/ 193.

أحسن معناة هذا الكلام» ، يريد المعنى. وقال تعالى: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) أي «إلّا السجن أو عذاب أليم لأنّ أن» الخفيفة، وما عملت فيه، اسم بمنزلة «السّجن» . وقال تعالى: وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) [الآية 32] فالوقف عليها (وليكونا) لأن النون الخفيفة إذا انفتح ما قبلها، فوقفت عليها، جعلتها ألفا ساكنة بمنزلة قولك «رأيت زيدا» ، ومثله قوله تعالى: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) [العلق] الوقف عليها لَنَسْفَعاً (15) . وقال تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) بإدخال النون في هذا الموضع، لأن هذا موضع تقع فيه «أي» ، فلما كان حرف الاستفهام يدخل فيه، دخلته النون، لأن النون تكون في الاستفهام، تقول «بدا لهم أيّهم يأخذون» أي استبان لهم. وقال تعالى: وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) فإحدى الباءين لوصل الفعل الى الاسم، والاخرى دخلت ل «ما» وهي الأخيرة. وقال تعالى وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [الآية 45] وإنّما هي «افتعل» من «ذكر» فأصلها «اذتكر» ، ولكن اجتمعا في كلمة واحدة، ومخرجاهما متقاربان، وأرادوا ان يدغموا، والأول حرف مجهور، وإنما يدخل الاول في الآخر، والآخر مهموس، فكرهوا أن يذهب منه الجهر، فجعلوا في موضع التاء حرفا من موضعها مجهورا، وهو الدال لأن الحرف الذي قبلها مجهور. ولم يجعلوا الطاء، لأن الطاء مع الجهر مطبقة. وقد قرأ بعضهم (مذّكر) في سورة القمر «1» فأبدل التاء ذالا ثم أدخل الذال فيها. وقد قرئت هذه الآية (أن يصّلحا بينهما صلحا) [النساء/ 128] «2»

_ (1) . الآيات: 15 و 17 و 22 و 32 و 40 و 51. وبالذال المضعفة، المفتوحة هي في الطبري 27/ 96 قراءة عبد الله بن مسعود، في البحر 8/ 178 قراءة قتادة فيما نقل ابن عطية، وفي معاني القرآن 3/ 107 أنّ لغة بعض بني أسد يقولون «مذكر» . [.....] (2) . هذه القراءة هي في الطبري 9/ 278 قراءة عامة قراءة أهل المدينة، بعض أهل البصرة وفي الشواذ 29 الى الجحدري، وكذلك في المحتسب 201، وزاد في الجامع 5/ 404 عثمان البتي، وفي التيسير 97 إلى غير الكوفيين. والقراءة المثبتة في المصحف الشريف أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً.

وهي «أن يفتعلا» من «الصلح» ، فكانت التاء بعد الصاد، فلم تدخل الصاد فيها للجهر والإطباق. فأبدلوا التاء صادا، وقرأ بعضهم (يصطلحا) وهي الجيدة لما لم يقدر على إدغام الصاد في التاء، حوّل في موضع التاء حرف مطبق. وقال تعالى ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ [الآية 76] بالتأنيث، وقال تعالى وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ [الآية 72] لعودة الضمير الى «الصّواع» و «الصّواع» مذكّر، ومنهم من يؤنّث «الصّواع» «1» و «أريد» هاهنا «السّقاية» وهي مؤنثة. وهما اسمان لواحد مثل «الثّوب» و «الملحفة» ، مذكّر ومؤنث لشيء واحد. وقال تعالى خَلَصُوا نَجِيًّا [الآية 80] بجعل «النجيّ» للجماعة مثل قولك: «هم لي صديق» . وقال تعالى يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [الآية 84] فإذا سكتّ، ألحقت في آخره الهاء، لأنّها مثل ألف الندبة. وقال تعالى تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ [الآية 85] فزعموا أنّ (تفتأ) «تزال» فلذلك وقعت عليه اليمين، كأنهم قالوا: «والله لا تزال تذكر يوسف» . وقال تعالى لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [الآية 92] بعد الْيَوْمَ وقف ثم ورد الاستئناف «2» بقوله تعالى: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [الآية 92] فدعا لهم بالمغفرة مستأنفا. وقال تعالى قالَ كَبِيرُهُمْ [الآية 80] فزعموا أنه أكبرهم في العقل، لا في السّنّ. وفي قوله تعالى عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً [الآية 83] أريد الذي تخلّف عنهم، معهما، وهو كبيرهم في العقل.

_ (1) . انظر المذكر والمؤنث 96، وكتاب التذكير والتأنيث 22، والبلغة في الفرق بين المذكر والمؤنث 83. (2) . نقله في الجامع 9/ 258.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"يوسف"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «يوسف» «1» إن قيل: لم قال تعالى إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [الآية 4] ولم يقل ثلاثة عشر كوكبا وهو أوجز وأخصر، والذي رآه كان أحد عشر كوكبا غير الشمس والقمر؟ قلنا: قصد عطفهما على الكواكب تخصيصا لهما بالذكر وتفضيلا لهما على سائر الكواكب، لما لهما من المزية والرتبة على الكل، ونظيره تأخير جبريل وميكائيل عن الملائكة عليهم السلام، ثم عطفهما عليهم، إن قلنا إنهما غير مرادين بلفظ الملائكة، وكذا قوله تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة/ 238] إن قلنا إنها غير مرادة بلفظ الصلوات. فإن قيل: ما الحكمة في تكرار رأيت؟ قلنا: قال الزمخشري: ليس ذلك تكرارا، بل هو كلام مستأنف وضع جوابا لسؤال مقدر من يعقوب عليه السلام، كأنه قال له بعد قوله تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [الآية 4] كيف رأيتها سائلا عن حال رؤيتها؟ فقال مجيبا له رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) وقال الزجّاج: إنما كرر الفعل تأكيدا لما طال الكلام كما في قوله تعالى وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) [الروم] وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وقال غيره، إنما كرره تفخيما للرؤية وتعظيما لها. فإن قيل: لم أجريت مجرى العقلاء في قوله تعالى رَأَيْتُهُمْ وفي قوله

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

ساجِدِينَ (4) وأصله رأيتها ساجدة؟ قلنا: لمّا وصفها بما هو من صفات من يعقل، وهو السجود أجرى عليها حكمه، كأنها عاقلة، وهذا شائع في كلامهم أن يلابس الشيء الشيء من بعض الوجوه، فيعطى حكما من أحكامه إظهارا لأثر الملابسة المقارنة، ونظيره قوله تعالى قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا [النمل/ 18] وقوله تعالى في وصف السماء والأرض قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) [فصّلت] . فإن قيل: لم قال تعالى يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ [الآية 12] وكانوا عاقلين بالغين، وأنبياء أيضا في قول البعض، وكيف رضي يعقوب عليه السلام لهم بذلك؟ قلنا: على قراءة الياء لا إشكال، لأن يوسف عليه السلام كان يومئذ دون البلوغ فلا يحرم عليه اللعب، وعلى قراءة النون نقول كان لعبهم المسابقة والمناضلة، ليعوّدوا أنفسهم الشجاعة لقتال الأعداء لا للهو، وذلك جائز بالشرع، ويعضد هذا قولهم كما ورد في التنزيل إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ [الآية 17] وإنّما سموه لعبا لأنه في صورة اللعب. ويرد على أصل السؤال أن يقال: كيف يتورّعون عن اللعب وهم قد فعلوا ما هو أعظم حرمة من اللعب، وأشدّ، وهو إلقاء أخيهم في الجبّ على قصد القتل. فإن قيل: لم اعتذر إليهم يعقوب عليه السلام بعذرين أحدهما إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ [الآية 13] لأنه كان لا يصبر عنه ساعة واحدة، والثاني خوفه عليه من الذئب، فأجابوه عن أحد العذرين دون الآخر؟ قلنا: حبه إيّاه، وإيثاره له، وعدم صبره على مفارقته، هو الذي كان يغيظهم ويؤلمهم، فأضربوا عنه صفحا، ولم يجيبوا عنه. فإن قيل: لم قال تعالى وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ [الآية 15] وهو يومئذ لم يكن بالغا، والوحي إنما يكون بعد الأربعين؟ قلنا: المراد به وحي الإلهام، لا وحي الرسالة الذي هو مخصوص بما بعد الأربعين ونظيره قوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص/ 7] وقوله تعالى وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل/ 68] . فإن قيل: لم قال تعالى وَلَمَّا بَلَغَ

أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [الآية 22] وقال في حق موسى عليه السلام وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [القصص/ 14] . قلنا: المراد ببلوغ الأشدّ دون الأربعين سنة على اختلاف مقداره، والمراد بالاستواء بلوغ الأربعين أو الستين، وكان إيتاء كل واحد منهما، الحكم والعلم، في ذلك الزمان، فأخبر عنه كما وقع. فإن قيل: لم وحّد الباب في قوله تعالى وَاسْتَبَقَا الْبابَ [الآية 25] بعد جمعه في قوله وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ [الآية 23] . قلنا: لأن إغلاق الباب للاحتياط، لا يتم إلّا بإغلاق أبواب الدار جميعها، سواء أكانت كلها في جدار الدار أو لا، وأمّا هربه منها إلى الباب، فلا يكون إلا إلى باب واحد، إن كانت كلها في جدار الدار، ولأن خروجه في وقت هربه، لا يتصور إلا من باب واحد منها، وإن كان بعض الأبواب داخل بعض، فإنه أول ما يقصد الباب الأدنى لقربه، ولأن الخروج من الباب الأوسط والباب الأقصى، موقوف على الخروج من الباب الأدنى، فلذلك وحّد الباب. فإن قيل: لم قال تعالى وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها [الآية 26] ولم يكن قوله شهادة؟ قلنا: لمّا أدى معنى الشهادة في ثبوت قول يوسف عليه السلام، وبطلان قولها، سمي شهادة، فالمراد بقوله شَهِدَ: أعلم، وبيّن، وحكم. فإن قيل: قدّ قميصه من دبر يدلّ على أنها كاذبة، وأنها هي التي تبعته، وجذبت قميصه من خلفه فقدّته، وأما قدّه من قبل، فكيف يدل على أنها صادقة «1» ؟ قلنا: يدل من وجهين: أحدهما أنه إذا طالبها وهي تدفعه عن نفسها بيدها أو برجلها، فإنها تقد قميصه من قبل بالدفع. الثاني: أنه يسرع خلفها وهي هاربة منه، فيعثر في مقادم قميصه فيشقه. ويرد على الوجه الثاني أنه مشترك الدلالة من جهة العثار الذي هو نتيجة الإسراع، لأنه يحتمل أن يكون

_ (1) . انظر الآيتين 26 و 27 من سورة يوسف.

إسراعا في الهرب منها، وهي خلفه فيعثر، فينقدّ قميصه من قبل. فإن قيل: لم قال تعالى وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ [الآية 31] وإنما يقال خرجت إلى السوق، وطرقت عليه الباب فخرج إليّ؟ قلنا: إذا كان الخروج بقهر وغلبة، أو بجمال وزينة، أو بآية وأمر عظيم، فإنما يعدّى ب «على» ، ومنه قولهم خرج علينا في السفر قطاع الطريق، وقوله تعالى فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص/ 79] وقوله تعالى فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ [مريم/ 11] . فإن قيل: كيف شبّهن يوسف عليه السلام بالملك، فقلن كما ورد في التنزيل ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) وهنّ ما رأين الملائكة قط؟ قلنا: إن كن ما رأين الملائكة، فقد سمعن وصفها. الثاني: أن الله تعالى قد ركز في الطباع حسن الملائكة، كما ركز فيها قبح الشيطان، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن بالملك، وكل متناه في القبح بالشيطان. فإن قيل: لم ورد على لسان يوسف عليه السلام إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وترك الشيء، إنما يكون بعد ملابسته والكون فيه، يقال ترك فلان شرب الخمر، وأكل الربا، ونحو ذلك إذا كان فيه ثم أقلع عنه، ويوسف عليه السلام لم يكن على ملّة الكفّار قطّ؟ قلنا: الترك نوعان: ترك بعد الملابسة ويسمى ترك انتقال، وترك قبل الملابسة ويسمى ترك إعراض، كقوله تعالى في قصة موسى عليه السلام وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف/ 127] وموسى عليه السلام ما لابس عبادة فرعون ولا عبادة آلهته في وقت من الأوقات، وما نحن فيه من النوع الثاني، وسيأتي نظير هذا السؤال في سورة الأعراف في قوله تعالى أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) [الأعراف/ 88] . فإن قيل: لم قال تعالى أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الآية 40] فسّر الأمر بالنهي، أو بما جزء منه النهي، وهما ضدّان؟ قلنا: فيه إضمار أمر آخر، تقديره أمر اقتضى أن لا تعبدوا إلا إياه، وهو

كقوله تعالى فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) [العنكبوت] فإنه باعتبار تقديم المفعول في معنى الحصر كما قال في قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) [الفاتحة] . الثاني أن فيه إضمار نهي تقديره: أمر ونهي، ثم فسر الأمرين بقوله تعالى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الآية 40] . الثالث: أن قوله تعالى أَلَّا تَعْبُدُوا وإن كان مضادا للأمر من حيث اللفظ، فهو مرافق له من حيث المعنى، فلم قلتم إن تفسير الشيء بما يضاده صورة، ويوافقه معنى، غير جائز بيان موافقته معنى، من وجهين: أحدهما أن النهي عن الشيء أمر بضده، وعبادة الله ضد لا عبادة الله. الثاني أن معنى مجموع قوله تعالى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أعبدوه وحده، فيكون تفسيرا للأمر المطلق. فإن قيل: الأنبياء عليهم السلام، أعظم الناس زهدا في الدنيا، ورغبة في الآخرة، فلم ورد على لسان يوسف عليه السلام اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ [الآية 55] طلب أن يكون معتمدا على الخزائن، متولّيا لها، وهو من أكبر مناصب الدنيا؟ قلنا: إنما طلب ذلك ليتوصّل به إلى إمضاء أحكام الله تعالى، وإقامة الحق، وبسط العدل، ونحوه، ممّا يبعث له الأنبياء، ولعلمه أن أحدا غيره، لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء لوجه الله تعالى، وسعيا لمنافع العباد ومصالحهم لهم، لا لحبّ الملك والدنيا، ونظيره قوله تعالى وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ [الأعراف/ 188] يعني لو كنت أعلم أي وقت يكون القحط، لادّخرت لزمن القحط طعاما كثيرا، لا للحرص، لكن لأتمكّن من إعانة الضعفاء والفقراء، وقت الضرورة والمضايقة، ويحتمل أن يكون علم تعيّنه بذلك العمل، فكان طلبه واجبا عليه. فإن قيل: كيف جاز ليوسف عليه السلام كما ورد في التنزيل أن يأمر المؤذّن أن يقول أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) وذلك بهتان وتسريق بالصواع لمن لم يسرقه، وتكذيب للبريء، واتهام من لم يسرق بأنّه سرق؟ قلنا: قوله تعالى إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) تورية عمّا جرى منهم مجرى السرقة، وتصوّر بصورتها، من

فعلهم بيوسف ما فعلوه أو لا. الثاني: أن ذلك القول كان من المؤذّن بغير أمر يوسف عليه السلام، كذا قاله بعض المفسرين. الثالث: أنّ حكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية، التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية، كقوله تعالى لأيوب عليه السلام وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص/ 44] وقول إبراهيم عليه السلام في حق زوجه هي أختي لتسلم من يد الكافر، وما أشبه ذلك. فإن قيل: لم تأسّف يعقوب عليه السلام على يوسف دون أخيه بقوله يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [الآية 84] والرّزء الأحدث أشدّ على النفس وأعظم أثرا؟ قلنا: إنما يكون أشدّ إذا تساوت المصيبتان في العظم ولم يتساويا هنا، بل فقد يوسف كان أعظم عليه وأشدّ من فقدان أخيه فإنما خصّه بالذكر، ليدلّ على أنّ الرّزء فيه مع تقادم عهده، ما زال غضّا طريّا. فإن قيل: لم قال تعالى وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ [الآية 84] والحزن لا يحدث بياض العين لا طبّا ولا عرفا؟ قلنا: قال ابن عباس: أي من البكاء، لأن الحزن سبب البكاء، فأطلق اسم السبب وأراد به المسبّب، وكثرة البكاء، قد تحدث بياضا في العين يغشى السواد، وهكذا حدث ليعقوب عليه السلام، وقيل إذا كثرت الدموع محقت سواد العين، وقلبته إلى بياض كدر. فإن قيل: لم قال يعقوب عليه السلام إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) مع أن من المؤمنين من ييأس من روح الله، أي من فرجه وتنفيسه، أو من رحمته على اختلاف القولين، إمّا لشدّة مصيبته، أو لكثرة ذنوبه، كما جاء في الحديث في قصة الذي أمر أهله، إذا مات أن يحرقوه ويذروا رماده في البر والبحر، ففعلوا به ذلك، ثم إن الله غفر له، كما جاء مشروحا في الحديث المشهور، وهو من الصحاح، مع أنه يئس من رحمة الله تعالى، وضم إلى يأسه ذنبا آخر وهو اعتقاده أنه إذا أحرق وذري رماده لا يقدر الله على إحيائه وتعذيبه، ومع هذا كله يغفر له، فدلّ على أنه لم يمت كافرا؟ قلنا: إنّما ييأس من روح الله الكافر لا المسلم عملا بظاهر الآية، وكل

مؤمن يتحقّق منه اليأس من روح الله، فهو كافر في الحال، حتى يعود إلى الإسلام، بعوده إلى رجاء روح الله وأمّا الرجل المغفور له في الحديث، فلا نسلّم أنه لم يكفر، ثم إن الله تعالى لمّا أحياه في الدنيا، عاد إلى الإسلام، بعوده إلى رجاء روح الله تعالى، فلذلك غفر له، وقد يكون قد عاد إلى رجاء روح الله تعالى، قبل موتته الأولى، ولم يتسع له الزمان أن يرجع عن وصيته التي أوصى بها أهله، فمات مسلما فلذلك غفر له. فإن قيل: في قوله تعالى وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً [الآية 100] كيف جاز لهم أن يسجدوا لغير الله تعالى؟ قلنا: لعله كان السجود عندهم تحية وتكرمة كالقيام والمصافحة عندنا. وقيل: كان انحناء كالركوع، ولم يكن بوضع الجبهة على الأرض، إلا أن قوله تعالى وَخَرُّوا يأبى ذلك، لأنّ الخرور عبارة عن السقوط، ولا يرد عليه قوله تعالى وَخَرَّ راكِعاً [ص/ 24] لأنهم قالوا أراد به ساجدا، فعبّر عن السجود بالركوع، كما عبر عن الصلاة في قوله تعالى وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) [البقرة] أي صلّوا مع المصلين. وقيل له: أي لأجله، فاللام للسببية لا لتعدية السجود إلى يوسف عليه السلام، فالمعنى وخرّوا لأجل يوسف سجّدا لله تعالى، شكرا على جمع شملهم به، وقيل الضمير في له، يعود إلى الله تعالى، وهذا الوجه يدفعه قوله تعالى يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [الآية 100] . فإن قيل: لم ذكر يوسف عليه السلام نعمة الله تعالى في إخراجه من السجن، فقال كما ورد في التنزيل وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [الآية 100] ولم يذكر نعمته عليه في إخراجه من الجبّ وهو أعظم نعمة، لأن وقوعه في الجبّ كان أعظم خطرا؟ قلنا: إنما ذكر هذه النعمة دون تلك النعمة، لوجوه: أحدها: أنّ محنة السجن ومصيبته، كانت أعظم لطول مدتها، فإنه لبث فيه بضع سنين، وما لبث في الجبّ إلّا مدّة يسيرة. الثاني: أنه إنما لم يذكر الجب، كي لا يكون في ذكره توبيخ وتقريع لإخوته، عند قوله لهم كما ورد في التنزيل لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [الآية 92] . الثالث: أن خروجه من السجن،

كان مقدمة لملكه وعزه، فذلك ذكره، وخروجه من الجبّ، كان مقدمة الذل والرق والأسر، فلذلك لم يذكره. الرابع: أن مصيبة السجن، كانت أعظم عنده، لمصاحبة الأوباش والأراذل وأعداء الدين بخلاف مصيبة الجب، فإنه كان مؤنسه فيه جبريل وغيره من الملائكة عليهم السلام. فإن قيل: لم قال تعالى على لسان يوسف تَوَفَّنِي مُسْلِماً [الآية 101] وهو يعلم أنّ كلّ نبيّ لا يموت إلّا مسلما؟ قلنا: يجوز أن يكون دعا بذلك، في حالة غلبة الخوف عليه، غلبة أذهلته عن ذلك العلم، في تلك الساعة. الثاني: أنه دعا بذلك، مع علمه، إظهارا للعبودية والافتقار وشدة الرغبة، في طلب سعادة الخاتمة، وتعليما للأمّة، وطلبا للثواب. فإن قلنا: كيف يجتمع الإيمان والشرك، وهما ضدّان، حتى قال تعالى وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) ؟ قلنا: معناه وما يؤمن أكثرهم، بأن الله تعالى خالقه ورازقه وخالق السماوات والأرض، قولا إلّا وهو مشرك بعبادة الأصنام فعلا. الثاني، أن المراد بها المنافقون، يؤمنون بألسنتهم قولا، ويشركون بقلوبهم اعتقادا. الثالث أن المراد بها تلبية العرب، كانوا يقولون: لبّيك لا شريك لك، إلّا شريكا هو لك، تملكه وما ملك فكانوا يؤمنون بأوّل تلبيتهم بنفي الشريك، ويشركون بآخرها بإثباته. فإن قيل: هذه التلبية، توحيد كلها ولا شرك فيها، لأن معنى قولهم إلّا شريكا هو لك: إلا شريكا هو مملوك لك، موصوفا بأنك تملكه، وتملك ما ملك، واللام هنا للملك، لا لعلاقة الشركة وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون حقيقيّا، ويحتمل أن يكون مجازيّا بيان الأول، أنّا إن قلنا إن اللام حقيقة في المعنى العام في مواردها، وهو الاختصاص، يكون قولهم: لا شريك لك، عامّا في نفي كلّ شريك، يضاف إلى الله تعالى بجهة اختصاص ما، فيدخل في النفي من جهة لفظ الشريك المضاف بجهة المملوكية، وهو شريك زيد وعمرو ونحوهما، ثم يقع عليه الاستثناء، فيكون استثناء حقيقيا وإن قلنا إنها مشتركة بين المعاني الثلاثة الموجودة

في موارد استعمالها، وهي الملك والاستحقاق، ويقال الاختصاص، فقولهم: لا شريك لك يكون عامّا أيضا، عند من يجوّز حمل المشترك على مفهومه في حالة واحدة، فيكون الاستثناء أيضا حقيقيا كما مر وأما على قول من لا يجوّز ذلك يكون النفي واردا على أحد مفهوماته، وهو علاقة الشركة، فيكون الاستثناء بعده مجازيّا من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم، وهو نوع من أنواع البلاغة مذكور في علم البيان، وشاهده قول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب معناه: إن كان هذا عيبا ففيهم عيب، وهذا ليس بعيب فلا يكون فيهم عيب، فكذا هنا معناه: إن كان الشريك المملوك لك، يصلح شريكا فلك شريك، وهو لا يصلح شريكا لك، فلا يكون لك شريك، لأن كلّ ما يدعي أنه شريك لك، فهو مملوك لك، وهذا المعنى هو المراد بقوله تعالى ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الروم/ 28] . قلنا: على الوجه الأول إنه ليس بصحيح، لأنه لو جعلنا اللام حقيقة في المعنى العام وهو الاختصاص، يلزم منه الكفر حيث وجد نفي الشريك من غير استثناء، لأنه يلزم منه نفي ملكه تعالى، شريك زيد وعمر ونحوهما، وهو كفر، واللازم منتف، لأنه إيمان محض بلا خلاف. فإن قيل: إنّما لم يكن كفرا مع عمومه، لأن الحقيقة العرفية عند عدم الاستثناء، نفي كل شريك يضاف إلى الله تعالى بعلاقة الشريك، لا نفي كل شريك، يضاف إليه بجهة ما، فصارت الحقيقة اللغوية مهجورة بالحقيقة العرفية، عند عدم الاستثناء، والجواب عن أصل السؤال، أنه سؤال حسن محقق، وأن هذه التلبية توحيد محض على التقديرين، فإن صح النقل أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عنها، فإنما نهى عنها لأنها توهم إثبات الشريك، لمقتضى الاستثناء عند قاصري النظر، وهم عوام الناس، فلهذه المفسدة نهى عنها.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"يوسف"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «يوسف» «1» قوله تعالى: يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) . وهذه استعارة، لأنّ الكواكب والشمس والقمر ممّا لا يعقل، فكان الوجه أن يقال. ساجدة. ولكنها لما أطلق عليها فعل من يعقل، جاز أن توصف بصفة من يعقل، لأن السجود من فعل العقلاء. وهذا كقوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) [النمل] ، فلما كانت النمل في هذا القول، مأمورة أمر من يعقل، جرى الخطاب عليها جريه على من يعقل. مثل ذلك قوله تعالى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا [فصّلت/ 21] ، لأنها لمّا شهدت عليهم شهادة العقلاء المخاطبين، أجروا- كما في هذا الخطاب- مجرى العقلاء المخاطبين. ومن الشاهد على ذلك قول عبدة بن الطبيب: إذ أشرف الدّيك يدعو بعض أسرته ... لدى الصّباح وهم قوم معازيل «2»

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هذا البيت من قصائد «المفضّليات» للضّبيّ، والقصيدة كلها كاملة في ديوان المفضليات، بتحقيق الأستاذين أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون- ص 133- 143 ج 1، وترجمة عبدة بن الطبيب في اللآلي، والأغاني، والإصابة، والشعر والشعراء لابن قتيبة، وهو صاحب البيت المشهور في الرثاء: فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما

فلما جعله بمنزلة الداعي جعل الديكة بمنزلة القوم المدعوّين، وجعلهم أسرة له وأسرة الرجل قومه ورهطه. والمعازيل الذين لا سلاح معهم. فكأنه جعله مستنصرا من لا نصرة له، ولا غناء عنده. وقريب من ذلك قوله تعالى: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) [الشعراء] على أحد القولين. فكأنّ السياق، ردّ خاضعين إلى أصحاب الأعناق، لا إلى الأعناق، لأن الخضوع منهم يكون على الحقيقة. وقد يجوز أيضا أن يكون قوله تعالى في ذكر الكواكب والشمس والقمر: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) إنما حسن على تأويل تلك الرؤيا. وتأويلها يتناول من يعقل من إخوة يوسف وأبويه. فجرى الوصف على تأويل الرؤيا، ومصير العقبى. وهذا موضع حسن، ولم يمض لي كما تقدم. وقوله سبحانه: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [الآية 18] وهذه استعارة. لأن الدم لا يوصف بالكذب على الحقيقة. والمراد بذلك- والله أعلم- بدم مكذوب فيه، والتقدير بدم ذي كذب. وإنما يوصف الدم بالمصدر الذي هو (كذب) على طريق المبالغة. لأن الدعوى التي علقت بذلك الدم، كانت غاية في الكذب. وقال بعضهم: قد يجوز أيضا أن يكون «كذب» هاهنا، صفة لقول محذوف يدلّ عليه الحال. فكأنّ التقدير: وجاءوا على قميصه بدم، وجاءوا بقول كذب، إذ كانت إشارتهم إلى آثار الدم في القميص، قد صحبها قول منهم يؤكد تلك الحال، وهو قولهم: إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ [الآية 17] . والقول الأول أصوب. ومن غرائب التفسير ما روي عن أبي عمرو بن العلاء «1» أنه قال: سمعت

_ (1) . أبو عمرو بن العلاء. واسمه زبّان بن عمار كان إماما في اللغة والأدب، وكان من أعلم الناس بالأدب والقرآن والشعر، وأعراب الجاهلية. توفي سنة 154 هـ. بالكوفة. وله ترجمة موجزة في «المزهر» للسيوطي. وانظر «الأعلام» للزّركلي.

بعض الرواة يقول: بدم كذب بالإضافة، من الدال «1» . وقال: هو الجدي في كلام الكنعانيين، وأنشد لبعضهم: ظلّت دماء بني عوف كأنّهم ... عند الهياج رعاة بين أكداب وقيل: إنهم لطّخوا قميص يوسف عليه السلام، بدم ظبي ذبحوه. وقوله سبحانه: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [الآية 18] وهذه استعارة. وحقيقة التسويل تزيين الإنسان لغيره أمرا غير جميل. جعل سبحانه أنفسهم، لمّا قوي فيها الإقدام على ذلك الأمر المذموم، بمنزلة الغير الذي يحسّن لهم فعل القبيح، ويحمّلهم على ركوب العظيم. وقوله سبحانه: قَدْ شَغَفَها حُبًّا [الآية 30] وهذه استعارة. والمراد بها أن حبّه تغلغل إليها، حتى أصاب شغافها، وهو غشاء قلبها. كما تقول: بطنت الرّجل. إذا أصبت بطنه. ويقال: معنى شغفها أي سلب شغاف قلبها، على طريق المبالغة في وصف حبها له، كما تقول: سلبت الرّجل، إذا أخذت سلبه. وقوله سبحانه: قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وهذه أبلغ استعارة وأحسن عبارة، لأن أحد الأضغاث: ضغث. وهو الخليط من الحشيش المضموم بعضه إلى بعض، كالحزمة وما يجري مجراها، فشبّه سبحانه اختلاط الأحلام، ما مرّ به الإنسان من المحبوب والمكروه، والمساءة والسرور باختلاط الحشيش المجموع من أخياف «2» عدة، وأصناف كثيرة. وقوله سبحانه ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) . وهذه استعارة. والمراد بالسّبع الشداد: السّنون المجدبة. ومعنى يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي ينفد فيهن، ما ادّخرتموه لهن من السنين المخصبة.

_ (1) . وقرأ الحسن وعائشة «بدم كدب» بالوصف لا بالإضافة، وبالدال المهملة أي بدم طري. يقال للدم الطري: الكدب. (2) . الأخياف: جمع خيف، وهو كلّ هبوط وارتقاء في سفح الجبل، أو ما ارتفع عن مسيل الماء.

وجرى على ذلك عادة العرب في قولهم: أكلت آل فلان السّنة. يريدون مسّهم الضّر، في عام الجدب، وزمان الأزل «1» . حتى كأنهم ليسمون السنة المجدبة: الضّبع. فيقولون: أكلتهم الضّبع. أي نهكتهم سنة الجدب. وقال بعضهم: إنما نسب تعالى الأكل إليهنّ، لأن الناس يأكلون فيهن ما ادّخروه، ويستنفدون ما أعدّوه. كما يقال: يوم آمن. وليل خائف. أي يأمن الناس في هذا، ويخافون في هذا. وقوله سبحانه: لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) «2» . [وهذه استعارة. لأنه تعالى أقام كيد الخائنين] مقام الخابط في الطريق، ليصل إلى مضرّة المكيدة وهو غافل عنه فأعلمنا سبحانه أنه لا يهديه، بمعنى لا يوفّقه لإصابة الغرض، ولا يسدّده لبلوغ المقصد، بل يدعه يخبط في ضلاله، ويتسكّع في متاهه، لأنه كالسّاري في غير طاعة الله، فلا يستحق أن يهدى لرشد، ولا يتسدّد لقصد. وقوله سبحانه: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي [الآية 53] . وهذه استعارة. لأن النفس لا يصحّ أن تأمر على الحقيقة. ولكن الإنسان لما كان يتبع دواعيها إلى الشهوات، وينقاد بأزمّتها إلى المقبّحات، كانت بمنزلة الآمر المطاع، وكان الإنسان بمنزلة السامع المطيع. وإنما قال سبحانه: لَأَمَّارَةٌ. ولم يقل لآمرة، مبالغة في صفتها بكثرة الدفع في المهاوي، والقود إلى المغاوي. لأنّ «فعّالا» «3» من أمثلة الكثير، كما أن «فاعلا» من أمثلة القليل. وقوله سبحانه: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [الآية 76] . وهذه استعارة. لأنه ليس هناك على الحقيقة بناء يوطّد، ولا درجات تشيّد. وإنما المراد به تعلية معالم الذكر في الدنيا، ورفع منازل الثواب في الآخرة. وقوله سبحانه:

_ (1) . الأزل: الضيق، والشدّة، والداهية. (2) . أصل الآية كاملة: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) . (3) . فعّال: أي الصيغة التي على وزن فعّال. وهذه تدل على الكثرة والمبالغة، فالرجل القتّال، هو الكثير القتل.

وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها [الآية 82] . وهذه استعارة من مشاهير الاستعارات. والمراد: واسأل أهل القرية التي كنا فيها، وأصحاب العير التي أقبلنا فيها. ومما يكشف عن ذلك، قوله تعالى في السورة التي يذكر فيها الأنبياء عليهم السلام: وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) [الأنبياء] . والقرية هي الأبنية المفروشة، والخطط المسكونة لا يصحّ منها عمل الخبائث فعلم أن المراد بذلك أهلها. ومن الشاهد على ذلك أيضا، قوله سبحانه: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) [الأنبياء] . وقال بعضهم: إن القرية هي الجماعة المجتمعة، لا الأبنية المشيدة. وذلك مأخوذ من قولهم: قرى الماء في الحوض. إذا جمعه والعير: هي الإبل وفيها أصحابها. وإنما أنث السياق ضمير القرية بقوله تعالى: الَّتِي كُنَّا فِيها على اللفظ كما يقول القائل: قامت تلك الطائفة، وتفرّقت تلك الجماعة، على اللفظ. ويحسن منه أن يقول عقيب هذا الكلام: وأكلوا، وشربوا، وركبوا، وذهبوا، حملا على المعنى دون اللفظ. كما قال تعالى: مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ. ثم قال سبحانه: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ على المعنى. وكذلك القول في العير، فإنما أنّث ضميرها على اللفظ، لأنّ العير مؤنثة. قال تعالى في هذه السورة: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ [الآية 94] . وقوله سبحانه: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [الآية 87] وهذه استعارة. والمراد ولا تيأسوا من فرج الله. والرّوح هو تنسيم الريح، التي يلذّ شميمها، ويطيب نسيمها. فشبه تعالى الفرج الذي يأتي بعد الكربة، ويطرق بعد اللّزبة «1» بنسيم الريح الذي ترتاح القلوب له، وتثلج الصدور به. ومثل ذلك ما جاء في الخبر: (الريح من نفس الله) «2» أي من تنفيسه عن خلقه.

_ (1) . اللّزبة: الشّدة والقحط. يقال سنة لزبة أي شديدة. [.....] (2) . وفي «نهاية الأرب» ج 1 ص 95 روي عن رسول الله (ص) أنه قال (الريح من روح الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فلا تسبّوها، واسألوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرّها) أخرجه البيهقي في سننه.

يريد سبحانه أن القلوب تستروح إليها، كما يستروح المكروب إلى نفسه، وذو الخناق إلى تنفّسه. وقوله سبحانه: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ [الآية 107] . وهذه استعارة. والمراد بذلك المبالغة في صفة العذاب بالعموم لهم، والإطباق عليهم، كالغاشية التي تشتمل على الشيء، فتجلّله من جميع جنباته، وتستره عن العيون من كل جهاته.

سورة الرعد 13

سورة الرعد 13

المبحث الأول أهداف سورة"الرعد"

المبحث الأول أهداف سورة «الرّعد» «1» سورة الرّعد من السور التي اختلف في مكّيّتها ومدنيّتها، فقال قوم إنها مكّيّة، لأنها شبيهة بالسور المكّيّة في قصّتها وموضوعاتها، وقال آخرون إنها مدنيّة، ولكن موضوعاتها تشبه موضوعات السور المكّيّة. وفي المصحف المطبوع في القاهرة سورة الرعد مدنيّة، وآياتها 43، نزلت بعد سورة محمّد. وفي تفسير مقاتل بن سليمان، سورة «الرّعد» مكّية، ويقال مدنية. وتسمى سورة الرّعد لقوله سبحانه فيها: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الآية 13] . وسورة «الرّعد» من أعاجيب السور القرآنية التي تستولي على النفس، وتثير الوجدان، وتزحم الحس بالصور والمشاهد. ثم تأخذ النفس من أقطارها جميعا، فإذا هي في مهرجان من الصور والمشاعر. وتسلك السورة سبيلها الى القلب وترتاد به آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا، وهو مستيقظ مبصر، مدرك، شاعر بما يموج حوله من المشاهد والصور. إنّها ليست ألفاظا وعبارات، ولكنّها صور حية تستولي على الفؤاد، وتلمس الوجدان وتوحي بالإيمان. موضوع السورة موضوع سورة الرعد الرئيس هو العقيدة. وقضاياها هي التوحيد

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مشاهد الكون في سورة الرعد

والبعث، وهذا الموضوع تكرّر عرضه في سور سابقة ولاحقة. ولكنه يعرض في كل مرة بطريقة جديدة. وفي ضوء جديد. ويتناول عرضه مؤثرات وموحيات ذات إيقاع جديد وإيحاء جديد. تطوف سورة الرعد بالقلب البشري في مجالات وآفاق وآماد وأعماق، وتعرض عليه الكون كله في شتّى مجالاته الأخاذة: في السموات المرفوعة بغير عمد وفي الشمس والقمر كلّ يجري لأجل مسمّى وفي الليل يغشاه النهار وفي الأرض الممدودة وما فيها من رواس ثابتة وأنهار جارية، وجنات وزرع ونخيل مختلف الأشكال والطعوم والألوان، ينبت في قطع من الأرض متجاورات، ويسقى بماء واحد وفي البرق يخيف ويطمع والرعد يسبّح ويحمد والملائكة تخاف وتخشع والصواعق يصيب بها من يشاء والسحاب الثّقال والمطر في الوديان والزّبد الذي يذهب جفاء، ليبقى في الأرض ما ينفع الناس. وهي تلاحق ذلك القلب أينما توجّه: تلاحقه بعلم الله النافذ الكاشف الشامل، يحيط بالشارد والوارد والمستخفي والسارب، ويتعقب كلّ حي ويحصي عليه الخواطر والخوالج. والغيب المكنون الذي لا تدركه الظنون مكشوف لعلم الله، وما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار. إنها تقرّب لمدارك البشر شيئا من حقيقة القوة الكبرى، المحيطة بالكون ظاهره وخافية، جليله ودقيقه، حاضره وغيبه. وهذا القدر الذي يمكن لمدارك البشر تصوّره هائل مخيف، ترتجف له القلوب. وذلك إلى الأمثال المصوّرة، تتمثل في مشاهد حية، حافلة بالحركة والانفعال، الى مشاهد القيامة، وصور النعيم والعذاب، وخلجات الأنفس في هذا وذاك، إلى وقفات على مصارع الغابرين، وتأملات في سير الراحلين، وفي سنة الله التي مشت عليهم، فإذا هم داثرون. مشاهد الكون في سورة الرعد تبدأ سورة الرعد بقضية عامة من قضايا العقيدة: قضية الوحي بهذا

الكتاب والحق الذي اشتمل عليه فيقول سبحانه: المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) . وهذا الافتتاح يلخص موضوع السورة كله، ويشير الى جملة قضاياها، وتسترسل السورة في استعراض آيات القدرة وعجائب الكون الدالة على قدرة الله الخالق وحكمته وتدبيره وأن من مقتضيات هذه الحكمة أن يكون هناك وحي لتبصير الناس، وأن يكون هناك بعث لحساب الناس. وأنّ من مقتضيات تلك القدرة، أن تكون مستطيعة بعث الناس ورجعهم الى الخالق الذي بدأهم وبدأ الكون كله قبلهم، وسخّره لهم ليبلوهم فيما آتاهم. وتبدأ الآيات الرائعة في رسم المشاهد الكونية الضخمة نظرة الى السماوات، ونظرة الى الأرضين، ونظرة الى مشاهد الأرض وكوامن الحياة. قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) . وهذه اللفتة الأولى الى مظاهر القدرة الإلهية تحرّك الوجدان، فيقف أمام هذا المشهد الهائل يتملّاه، ويدرك أنه ما من أحد يقدر على رفع السماء بلا عمد- أو حتى بعمد- إلا الله جلّت قدرته وقصارى ما يرفعه الناس بعمد أو بغير عمد، تلك البنايات الصغيرة الهزيلة، القابعة في ركن ضيّق من الأرض لا تتعداه ثم يتحدث الناس عمّا في تلك البنايات من عظمة ومن قدرة وإتقان، غافلين عما يشملهم ويعلوهم من سماوات مرفوعة بغير عمد، وعمّا وراءها من القدرة الحق، والعظمة الحق، والإتقان الذي لا يتطاول إليه خيال إنسان. ومن هذا المنظور الهائل الذي يشاهده الناس في خلق الله، الى المغيب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك والأبصار:

أدلة الألوهية في سورة الرعد

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ. أي استولى على ملك الموجودات جميعها، وأحاطت قدرته الكائنات جميعها. ومع الاستعلاء والتسخير، الحكمة والتدبير. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى. وإلى حدود مرسومة وفق ناموس مقدّر. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ. ويمسك بالأفلاك الهائلة والأجرام السابحة في الفضاء، فتجري لأجل لا تتعدّاه. ومن قدرة الله سبحانه، أنّه مدّ الأرض وبسطها امام البصر، وأمدّها بمقومات الحياة: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. ليكمل إبداع الخلق وتناسقه، ثم تابع الله، جلّت قدرته، بين الليل والنهار في انتظام عجيب، ونظام دقيق يبعث على التأمل في ناموس هذا الكون، والتفكير في القدرة المبدعة التي تدبّره وترعاه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) . أدلة الألوهية في سورة الرعد نحن في سورة الرعد أمام عدد من أدلة الألوهية يتوارد بعضها وراء بعضها في سياق بديع، وعرض شائق. فهناك الأرض التي تزرع بألوان مختلفة من النبات فيها. وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ [الآية 4] . منه ما هو عود واحد، ومنه ما هو عودان أو أكثر، في أصل واحد، وكله: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ [الآية 4] . والتربة واحدة، ولكن الثمار مختلفات الطعوم: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الآية 4] . فمن غير الخالق المدبّر يفعل ذلك؟ إن القرآن، بمثل هذه اللفتة، يبقى جديدا أبدا، لأنه يجدّد أحاسيس البشر بالمناظر والمشاهد في الكون والنفس، وهي لا تنفد ولا يستقصيها إنسان في عمره المحدود، ولا تستقصيها البشرية في أجلها الموعود. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) .

ومن أدلة الألوهية: إحاطة علم الله بالجنين في بطن أمه، وبالسر المكنون في الصدور، وبالحركة الخفية في جنح الليل، وبكلّ مختف في الليل وظاهر في النهار، وهو سبحانه محيط بكل من تكلّم همسا، أو تكلّم جهرا، فإن كل شيء مكشوف تحت المجهر الكاشف يتبعه شعاع من علم الله، وتتعقبه حفظة تحصي الخواطر والنوايا. إلا أنها الرهبة الخاشعة التي لا تملك النفس معها إلا أن تلجأ الى الله، تطمئن في حماه، وهي تتصور علم الله المحيط بكل شيء. ونلاحظ أن بعض الآيات في سورة الرعد، يلمس آفاق الكون الهائل، مثل الآيات الأربع الأولى من السورة. وبعض الآيات، يلمس أغوار النفس ومجاهل السرائر، مثل الآيات الممتدة من 8 الى 10 حيث يقول سبحانه: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) . ثم يأخذ السياق في جولة جديدة في واد آخر، تجتمع فيه مناظر الطبيعة ومشاعر النفس، متداخلة متناسقة. حيث يقول سبحانه: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ. والبرق والرعد والسحاب مشاهد معروفة وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان، وهي بذاتها مشاهد ذات أثر في النفس، حتى اليوم، وعند الذين يعرفون مزيدا عن طبيعتها. والسورة تذكر هذه الظواهر متتابعة، وتضيف إليها الملائكة والتسبيح والسجود والخوف والطمع، لتصوير سلطان الله، المتفرّد بالقهر والنفع والضّرّ. وقد سميت السورة بسورة الرعد، لقوله سبحانه: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ. والرعد هو ذلك الصوت المقرقع المدوّي، وهو أثر من آثار الناموس الكوني الذي صنعه الله، أيّا كانت طبيعته وأسبابه، فهو رجع صنع الله في

النصف الثاني من سورة الرعد

هذا الكون، وهو يحمد ويسبّح بلسان الحال، للقدرة التي صاغت هذا النظام، كما أن كل مصنوع جميل متقن، يسبّح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه، بما يحمله من جمال وإتقان. وقد اختار التعبير أن يجعل صوت الرعد تسبيحا للحمد، اتّباعا لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق، وخلع سمات الحياة وحركاتها على مشاهد الكون الصامتة، لتشارك في المشهد بحركة من جنس حركة المشهد كلّه، وقد انضم الى تسبيح الرعد بحمد الله، تسبيح الملائكة من خوفه ومن تعظيمه، وفي آية أخرى يقول سبحانه: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى/ 5] . وفي الحديث النبوي يقول الرسول (ص) : «أطّت السماء وحق لها أن تئطّ، ما فيها موضع قدم إلّا وفيه ملك راكع أو ساجد يسبّح الله تعالى» . ثم يعبّر السياق عن خضوع الكائنات جميعها لمشيئة الله تعالى بالسجود، وهو أقصى رمز للعبودية، فتسجد الكائنات ويسجد ظلها معها عند انكسار الأشعة، وامتداد الظلال فإن شخوص الكون كله وظلاله، جاثية خاضعة من طريق الإيمان أو غير الإيمان سواء، كلّها تسجد لله. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) . النصف الثاني من سورة الرعد في النصف الاول من سورة الرعد حدثتنا السورة عن المشاهد الهائلة في آفاق الكون وأعماق الغيب وأغوار النفس. وفي النصف الثاني من السورة تسترسل الآيات في لمسات وجدانية وعقلية وتصويرية دقيقة رقيقة، حول قضية الوحي والرسالة، وقضية التوحيد والشركاء، ومسألة طلب الآيات واستعجال تأويل الوعيد. وهي جولة جديدة حول تلك القضايا في السورة. وتبدأ هذه الجولة بلمسة في طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر، فالأول علم والثاني عمّى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى [الآية 19] . وتبيّن الآيات طبيعة المؤمنين وطبيعة

الكافرين، والصفات المميزة لهؤلاء وهؤلاء، ثم يتلوها مشهد من مشاهد القيامة، وما فيها من نعيم للأولين وعذاب للآخرين. ويعقب ذلك لمسة في بسط الرزق وتقديره، وردّ ذلك الى الله سبحانه، فجولة مع القلوب المؤمنة المطمئنة بذكر الله، فوصف لهذا القرآن الذي يكاد يسير الجبال، وتقطّع به الأرض ويكلّم به الموتى فلمسة بما يصيب الكفار من قوارع تنزل بهم، أو تحل قريبا من دارهم، فجدل تهكّمي حول الآلهة المدّعاة، فلمسة عن مصارع الغابرين، ونقص أطراف الأرض منهم حينا بعد حين يختم هذا كله، بتهديد الذين يكذّبون برسالة الرسول (ص) بتركهم للمصير المعلوم. من ذلك نرى أن الإيقاعات والمطارق المتوالية في شطر السورة الأول، تحضّر المشاعر وتهيّئها لمواجهة القضايا والمسائل في شطرها الثاني وهي على استعداد وتفتّح لتلقّيها وإنّ شطري السورة متكاملان، وكلّ منهما يوقع على الحس طرقاته وإيحاءاته، لهدف واحد وقضية واحدة، هي الإيمان عن يقين كامل وأدلة مقنعة، يطمئن لها القلب وتسكن إليها النفس. قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) . فقلب الكافر في ضلال، وقلب الجاحد مضطرب هواء، وقلب المؤمن يطمئنّ لصلته بالله، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وحماه، يطمئن من قلق الوحدة وحيرة الطريق بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، ويطمئنّ بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضرّ ومن كل شرّ إلّا بما يشاء الله، مع الرّضا بالابتلاء والصبر على البلاء ويطمئنّ برحمة الله في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة. وليس أشقى على وجه الأرض ممّن يحرمون طمأنينة الأنس الى الله. ليس أشقى ممّن يعيش لا يدري لم جاء، ولم يذهب، ولم يعاني في الحياة؟ ليس أشقى في الحياة، ممّن يشقّ طريقه فريدا وحيدا شاردا في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين. وإن هناك شدائد في الحياة، لا يصمد لها بشر، إلّا أن يكون مرتكنا الى الله، مطمئنّا الى حماه، مهما أوتي

التناسق الفني في سورة الرعد

من القوة والثبات والصلابة والاعتداد. ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله، فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) . التناسق الفني في سورة الرعد ممّ نلحظه في سورة الرعد عنايتها بالمقابلة بين الإيمان والكفر، والهدى والضلال، والاطمئنان والحيرة. وحين تعرضت السورة لرسم مشاهد الكون، عنيت بإبراز المشاهد المتقابلة من سماء وأرض، وشمس وقمر، وليل ونهار، وشخوص وظلال، وجبال راسية، وأنهار جارية، وزبد ذاهب، وماء باق، وقطع من الأرض متجاورات مختلفات، ونخيل صنوان وغير صنوان ومن ثم تطّرد هذه التقابلات في كل المعاني وكل الحركات وكل المصائر في السورة، لتناسق التقابل المعنوي في السورة مع التقابلات الحسية، وتتّسق في الجو العام. ومن ثم يتقابل الاستعلاء في الاستواء على العرش، مع تسخير الشمس والقمر، ويتقابل ما تغيض الأرحام مع ما تزداد، ويتقابل من أسرّ القول مع من جهر به، ومن هو مستخف بالليل مع من هو سارب بالنهار ويتقابل الخوف مع الطمع تجاه البرق، ويتقابل تسبيح الرعد حمدا مع تسبيح الملائكة خوفا، وتتقابل دعوة الحق لله مع دعوة الباطل للشركاء، ويتقابل من يعلم مع من هو أعمى، ويتقابل الذين يفرحون من أهل الكتاب بالقرآن مع من ينكر بعضه، ويتقابل المحو مع الإثبات في الكتاب. وبالإجمال، تتقابل المعاني وتتقابل الحركات وتتقابل الاتجاهات، لتنسيق الجو العام في الأداء. وهذا التناسق الفني، من بدائع الإعجاز في القرآن الكريم، هذا القرآن العجيب الذي لو كان من شأن قرآن أن تسيّر به الجبال أو تقطّع به الأرض أو يكلّم به الموتى، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثّرات ما تتحقق معه هذه الخوارق والمعجزات، ولكنه جاء لخطاب المكلّفين الأحياء، فإذا لم يستجيبوا له فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون، وأن يدعوهم ويتركوهم، حتى يأتي وعد الله للمكذّبين، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ

الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) . ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقّته وتكيّفت به، أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى، لقد صنع في هذه النفوس، وبهذه النفوس، خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة، بل أبعد أثرا في شكل الأرض، ذاته، فكم غيّر الإسلام والمسلمون من وجه الأرض الى جانب ما غيّروا من وجه التاريخ؟ وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها، طبيعته في دعوته وفي تعبيره، طبيعته في موضوعه وفي أدائه، طبيعته في حقيقته وفي تأثيره، إنّ طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة يحسّها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام، واستعداد لإدراك ما يوجّه إليه ويوحي به. والذين تلقوه وتكيفوا به سيّروا ما هو أضخم من الجبال، وهو تاريخ الأمم والأجيال. وقطّعوا ما هو أصلب من الأرض، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد. وأحيوا ما هو أخمد من الموتى، نعني الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام والتحول الذي حصل في نفوس العرب وحياتهم أضخم بكثير من تحوّل الجبال عن رسوخها، وتحوّل الأرض عن جمودها، وتحوّل الموتى عن الموت: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً. وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال. فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم، فما كان أجدر بالمؤمنين الذين يحاولون تحريكها ان ييأسوا من القوم، وأن يدعوا الأمر لله فلو شاء سبحانه لخلق الناس باستعداد واحد للهدى، وهدى الناس جميعا على نحو خلقه الملائكة، لو كان يريد. لقد شاء الله جلّ جلاله أن يوجد الإنسان على وجه الأرض، ومعه العقل والإرادة والاختيار والكسب، حتى يتميّز المؤمن من الكافر، والمستقيم من العاصي. وبذلك تتحقّق الحكمة الإلهية في تنوّع الخلق واختلاف مشاربهم: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) [هود] .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الرعد"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الرّعد» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «الرعد» بعد سورة «محمّد» . ونزلت سورة «محمّد» بعد سورتين من سورة «النساء» ، وكان نزول سورة «النساء» فيما بين صلح الحديبيّة وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة «الرعد» في ذلك التاريخ أيضا، وعلى هذا تكون سورة «الرعد» من السّور التي نزلت بالمدينة، وقيل إنها نزلت بمكّة، لأنها تجري في أغراض السّور التي نزلت بها، وقال الأصمّ: إنّها مدنيّة بالإجماع. وكأنه لم يقم وزنا لهذا القول، ولا شيء في أن تجري بعض السور المدنية في أغراض السور المكيّة، لأن المشركين الذين نزلت فيهم السور المكية لم ينقطع أمرهم بعد الهجرة، وكان كثير منهم يحيط بالمدينة، وكانت دعوتهم لا تزال قائمة، ومما يؤيد أن هذه السورة مدنية، قوله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) . وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في الآية 13 منها: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وتبلغ آياتها ثلاثا وأربعين آية. الغرض منها وترتيبها يقصد من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن، كما يقصد من السور الثلاث المذكورة قبلها، ولهذا ذكرت هذه

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المقدمة الآيات [1 - 6]

السورة بعدها، وقد ابتدئت بمقدمة ذكر فيها أن الذي أنزل إليه من ربه هو الحقّ، وأن الذي يمنعهم من تصديقه أنه يدعو الى التوحيد وهم لا يؤمنون به، وقد استطرد فيها الى إثبات هذا التوحيد، ثم عاد السياق الى المقصود من الكلام على تنزيل القرآن، فذكر شبهتين لهما عليه وأخذ في إبطالهما، وبهذا ينحصر المقصود من هذه السورة في هذه الأمور الثلاثة. المقدمة الآيات [1- 6] قال الله تعالى: المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) فأقسم سبحانه بهذه الحروف أنّ ما أنزله هو آيات الكتاب، وأن ما أنزل إليه منه هو الحق، ولكن الذي يمنعهم من تصديقه أنه يدعو الى التوحيد وهم لا يؤمنون به ثم استطرد السياق من هذا الى إثبات توحيده جلّ وعلا، فذكر أنه سبحانه هو الذي رفع السماوات بغير عمد، وسخّر الشمس والقمر يجريان لأجل مسمّى، ودبّر أمر خلقه وفصّل آياته لهم لعلّهم بلقائه يؤمنون ثم ذكر غير هذا من الآيات الدالّة على توحيد الله تعالى، وأنه لا بد لهم من لقائه، وعجب من إنكارهم بعد هذا أن يخلقوا من جديد بعد أن يصيروا ترابا، وهدّدهم عليه بأنهم ستوضع الأغلال في أعناقهم، وأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون ثم ذكر أنهم يستعجلونه سبحانه بهذا: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) . رد شبهتهم الأولى على القرآن الآيات [7- 26] ثم قال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) فذكر شبهتهم الأولى على القرآن، وهي إنكارهم له وطلب آية غيره، وقد ردّ عليهم بأن النبي (ص) إنما هو منذر، فليس بيده إجابتهم الى تلك الآيات، وبأن كل قوم لهم هاد يبعث بالآية التي تناسبهم في علمه بأحوالهم ثم ذكر من علمه بأحوالهم أنه يعلم ما تحمل كلّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، الى غير هذا ممّا ذكره في إثبات علمه ليرضوا

بما اختاره لهم من آياته ثم انتقل السّياق من إثبات علمه تعالى إلى إثبات قدرته على ما يقترحونه من تلك الآيات، فذكر أنه جلّ شأنه هو الذي يريهم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال، وأنه يسبّح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ثم ذكر أنهم يجادلون في وحدانيته سبحانه وهو شديد المحال، وهو الذي إذا دعي أجاب لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [الآية 14] وشركاؤهم لا يستجيبون لهم بشيء، إلا كباسط كفّيه الى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، لأنه لا يمكنه أن يستجيب له ثم ذكر تعالى أن له يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها، وأمر النبي (ص) أن يسألهم قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 16] وأن يجيب عن سؤاله بأنه الله لأنه لا ربّ لها غيره، وأن ينكر منهم مع هذا أن يتّخذوا من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا، وأن يذكر لهم أنه لا يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور، ثم أمره أن يسألهم: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ [الآية 16] وأمر النبي (ص) أن يجيب عنه بأنه خالق كل شيء وهو الواحد القهّار ثم ضرب مثلا لحقّه وباطلهم بعد تلك الأمثال، شبّه فيه حالهما بحال ماء أنزله من السماء فسالت به أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا، وبحال ذهب أو قد عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع فاحتمل زبدا أيضا، فما يبقى تحت الزبد من الماء والذهب الخالص مثل للحقّ، والزبد مثل للباطل فأما الزبد فيذهب ويفنى وكذلك الباطل، وأما الماء والذهب الخالص فيبقى كل منهما لينتفع منهما الناس به، وكذلك الحقّ. ثم وعد أهل الحق الذين استجابوا له بأن لهم الحسنى، وأوعد أهل الباطل الذين لم يستجيبوا له بأن لهم سوء الحساب، ومأواهم جهنم وبئس المهاد، ثم ذكر أنه لا يمكن أن يسوّى بين الفريقين في ذلك، وانه لا يتذكّر هذا إلّا أولو الألباب، وهم الذين يوفون بعهده ولا ينقضون ميثاقهم، ويصلون ما أمر به أن يوصل، ويخشونه ويخافون سوء حسابهم، ويصبرون ابتغاء وجهه، ويقيمون الصلاة، وينفقون ممّا رزقهم سرّا وعلانية، ويدرءون بالحسنة السيئة. ثم وعدهم بأن لهم عقبى الدار، جنات

رد شبهتهم الثانية على القرآن الآيات [27 - 43]

عدن يدخلونها إلخ، وأوعد الذين ينقضون عهده من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، بأن لهم اللعنة ولهم سوء الدار اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ (26) . رد شبهتهم الثانية على القرآن الآيات [27- 43] ثم قال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) . فذكر شبهتهم الثانية على القرآن، وهي شبهتهم الأولى بعينها، وقد أجابهم أوّلا بأنه يضل من يشاء فلا يؤمن، ولو أجيب الى ما يقترحه من الآيات، ويهدي إليه من أناب فيؤمن بغير اقتراح آيات ثم وصف من أناب بأنهم الذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكره سبحانه، الى غير هذا مما وصفهم به. ثم أجابهم ثانيا بأنه أرسل النبي (ص) في أمّة هي آخر الأمم، فخصّه بمعجزة القرآن ليتلوها عليهم. فيبقى إعجازها قائما بينهم رحمة بهم، وهم مع هذا يكفرون به ولا يقدّرون رحمته ثم أمره أن يؤمن به، ويتوكّل عليه، ويتوب إليه، ولا يلتفت إليهم. ثم أجابهم ثالثا بأنه لو كان هناك قرآن سيّرت به الجبال، أو قطّعت به الأرض، أو كلّم به الموتى، لكان هذا القرآن الذي لا يؤمنون به، وذكر أنّ الأمر له في إنزال ما ينزّله من الآيات، وأنه لو شاء سبحانه لهدى الناس جميعا من غير معجزة من المعجزات، وذكر أنهم لا يزالون تصيبهم، بتعنّتهم في طلب الآيات، قارعة من سبي أو قتل، أو تحلّ قريبا من دارهم، حتى يأتي وعده تعالى بنصر المؤمنين عليهم ثم ذكر سبحانه أنه قد استهزأت قبلهم أمم باقتراح الآيات على رسلهم، فأملى لهم ثم أخذهم بما أخذهم به من العقاب، وانتقل السياق من هذا إلى إثبات قدرته جلّ شأنه، عليهم، وعجز آلهتهم عن دفع شيء عنهم، فذكر أنه لا يكون من هو قائم على كل نفس بما كسبت كمن لا يقوم على شيء، وأمرهم تعالى أمر تعجيز أن يسمّوا هؤلاء الشركاء الذين جعلوهم له وذكر أنهم يدّعون له شركاء لا يعلمهم لعدم وجودهم، وإنّما يأخذون في هذا

بظاهر من القول، وليس عندهم شيء من العلم، وقد زيّن لهم ما هم فيه، وصدّوا عن السبيل، فلا يمكن اهتداؤهم ثم أوعدهم بأن لهم عذابا في الحياة الدنيا وعذابا أشق منه في الآخرة ووعد المتقين بأن لهم جنة تجري من تحتها الأنهار، أكلها دائم وظلّها. ثم أجابهم رابعا بأن أهل الكتاب يفرحون بهذا القرآن الذين لا يؤمنون به، وإن كان من أحزابهم من ينكر بعضه لمخالفته لما عندهم وأمر النبي (ص) أن يعبده ولا يشرك به، وأن يدعو إليه وحده ثم ذكر أنه أنزل القرآن حكمة عربية لا يصح طلب آية بعدها وحذّر النبي (ص) من أن يتّبع أهواءهم فيما يطلبونه من الآيات، بعد أن جاءه من العلم ما لا يصح معه اتباع أهوائهم. ثم أجابهم خامسا بأنه أرسل رسلا من قبله، وكانوا بشرا مثله لهم أزواج وذرّيّة، فلا يمكنهم أن يأتوا بآية إلا بأذنه، ولكل أجل قدّره لآياته كتاب، لا تمكن مخالفته، وكل ما يحصل من محو أو إثبات يأتي على وفق ما فيه ثم ذكر للنبي (ص) أنه قد يريه بعض ما يعدهم من العذاب وقد يتوفّاه قبله، فليس هذا من شأنه، وإنما عليه أن يبلغهم وعليه هو حسابهم ثم نبههم إلى أن ما يعدهم به قد حصل بعضه، فذكر ما حصل من انتقاص المسلمين أطراف أرضهم، وأنه قد حكم بنصر المؤمنين عليهم، وهو حكم لا معقب له ولا تأخير فيه ثم ذكر أنه قد مكر من كان قبلهم فلم يفدهم مكرهم، لأن له المكر جميعا، يعلم ما تكسب كل نفس، وسيعلم الكفّار لمن عقبى الدار: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الرعد"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الرّعد» «1» أقول: وجه وضعها بعد سورة «يوسف» : أنه سبحانه قال في آخر تلك: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) [يوسف] . فذكر الآيات السمائية والأرضية مجملة، ثم فصّل في مطلع هذه السورة. فقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) تفصيل الآيات الأرضية. هذا مع اختتام سورة يوسف بوصف الكتاب، ووصفه بالحق، وافتتاح هذه بمثل ذلك «2» ، وهو من تشابه الأطراف.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . ختام سورة «يوسف» : لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) وافتتاح «الرعد» : المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الرعد"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الرّعد» «1» 1- وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ [الآية 13] . نزلت في أربد بن قيس، وعامر بن الطّفيل. كما أخرجه الطبراني «2» وغيره. 2- وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) . قال عكرمة: هو عبد الله بن سلام. قال سعيد بن جبير: هو جبريل. أخرجهما ابن أبي حاتم. وقال ابن عباس: هم اليهود والنّصارى. أخرجه ابن جرير «3» وأخرج عن قتادة، قال: كنّا نحدّث أنّ منهم عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميما الدّاري «4» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . في «الأوسط» و «الكبير» بنحوه، وفي إسنادهما عبد العزيز بن عمران، وهو ضعيف. قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 42. (3) . 13/ 118. (4) . والأثر في «الطبري» 13/ 119.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الرعد"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الرّعد» «1» 1- قاله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) . أقول: أراد تعالى بقوله: جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أنه سبحانه خلق فيها من أنواع الثّمرات جميعها زوجين حين مدّها، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوّعت. وقيل: أريد بالزّوجين: الأسود والأبيض، والحلو والحامض، والصغير والكبير، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة. وأمّا قوله جلّ وعلا: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فالمراد يلبسه مكانه، فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا. وقرئ: يغشّي، بالتشديد. وظاهر الحال أن الفعل «يغشي» ينصب مفعولين وحقيقة ذلك، أنه مجاوز الى مفعول واحد، وأما الثاني فبالخافض، وعرض له الحذف، ثم وصل. 2- وقال تعالى: وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [الآية 6] . والمراد بقوله سبحانه: وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ عقوبات أمثالهم من المكذّبين، فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزءوا. والمثلة: العقوبة بوزن السّمرة. والمثلة لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

أقول: وهذه من موادّ القرآن التي لا نعرفها في عربية معاصرة. 3- وقال تعالى: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) . والمعنى: سواء عنده من استخفى، أي: طلب الخفاء في مختبأ بالليل في ظلمته، ومن يضطرب في الطرقات ظاهرا بالنهار يبصره كلّ أحد. أقول: وليس لنا في العربية المعاصرة إلا المزيد «سرّب» ، و «تسرّب» ومعناهما شيء آخر ذو خصوصية أخرى، فيقال مثلا: سرّب خبرا، وتسرّب الخبر، وكلّه شي مولّد جديد. 4- وقال تعالى: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) . و (السّحاب) في الآية يفيد الجمع بدلالة الوصف (الثّقال) . ومن المفيد أن نعرض لكلمة «السحاب» في لغة التنزيل، لنرى تصاقب الجمع والإفراد فيها، قال تعالى: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [البقرة/ 164] . وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) [الطور] . حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [الأعراف/ 57] . فالسحاب في الآية الأولى مفرد بدلالة الوصف (المسخّر) ، ومثله في الآية الثانية وأما الآية الثالثة ففيها شيء آخر، فقد وصف السحاب بصفة الجمع (الثقال) ، ثم عاد الضمير عليه في (سقناه) فعدّ مفردا. وحقيقة الأمر أن «السحاب مفرد كسائر أسماء الجمع، كالنخل والشجر وغيرهما، ولكن هذه الأسماء ذات معان تؤدّي الجمع. على أن الشيء يكون مفردا مرةّ وجمعا أخرى باعتبار لفظه، وباعتبار معناه، وهذا من خصائص لغة التنزيل. 5- وقال تعالى: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) . المحال والمماحلة سواء، وهما مصدر الفعل «ماحل» ، ويعنيان شدة المماكرة والمكايدة. أقول: مصدر «فاعل» قياسي، فهو الفعال والمفاعلة، مثل سابق سباقا ومسابقة، ولكن قد يشيع بناء من هذين المصدرين ويكاد الآخر ينسى فلا يرد

في نثر المعربين وشعرهم وكلامهم. ألا ترى أنهم يقولون «نفاق» ولا يقولون: منافقة ويقولون: مجاراة ومباراة ولا يقولون: جراء وبراء، ويقولون مراسلة وملاعنة، وقلّما تجد رسالا ولعانا. وهذا كله من خصائص هذه اللغة العريقة. 6- وقال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً [الآية 17] . قالوا: معنى (جفاء) باطلا. قال الفرّاء: أصله الهمزة، والجفاء، ما نفاه السّيل. وجفأ الوادي: مسح غثاءه، وقيل: الجفاء كما يقال الغثاء. أقول: والجفاء بهذا المعنى من الكلم المفيد الذي حسن استعماله في لغة التنزيل. 7- وقال تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى [الآية 18] . والمراد ب (الحسنى) الجزاء الحسن. والحسنى ضدّ السّوأى، وهو مصدر كالنّعمى والبؤسى وغيرهما. وقد يكون أصل هذا المصدر الصفة، فهو مؤنّث أحسن، مثل أعلى وعليا، وأقصى وقصيا، ثم حوّله الاستعمال الكثير الى المصدر كتحوّل العافية والعاقبة الى المصدر، وأصلهما اسم الفاعل. وهذا كلّه من سعة هذه العربية التي تفنّن بها أهل اللّسن والفصاحة. 8- وقال تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ (26) . أقول: والمعنى: وما الحياة الدنيا في جنب نعيم الآخرة إلّا شيء يسير كعجالة الراكب، وهو ما يتعجّله من تميرات، أو شربة سويق، أو نحو ذلك «1» . وقوله تعالى: فِي الْآخِرَةِ ضرب من الإيجاز الجميل، والمعنى كما أشرنا من قول الزمخشريّ. ثم إنّ جعل الحياة الدنيا متاعا، إشارة الى أن نعيمها زائل، وأنها لا تدوم، وأنها تافهة قليلة الغناء كغلّة المتاع الذي يتزوّد به المسافر، وهو بلغة يتبلّغ بها مدة سفره. وما زال «المتاع» زاد الراكب والمسافر في عصرنا، وإن أخذ يزول بسبب من تقدّم

_ (1) . «الكشاف» 2/ 528.

الحضارة، وتهيؤ الوسائل المتقدّمة في السفر وما يتصل به. ومن عجيب، أن مواد هذه الكلمة تدل على القلة ذلك أن «المتعة» (مثلّثة الميم) هي البلغة، ويقول الرجل لصاحبه، أبغني متعة أعيش بها، أي: ابغ لي شيئا آكله، او زادا أتزوّد به، أو قوتا اقتاته. 9- وقال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) . قرئت: (طوبى لهم وحسن مآب) برفع (طوبى) ونصبها. أقول: والنّصب على معنى الدّعاء. وطوبى: مصدر كالبشرى والنّعمى ونحو ذلك، وقوله تعالى: طُوبى لَهُمْ، أي: أصبتم خيرا وطيبا على إرادة الدعاء. واستعمال اللام في لَهُمْ مؤذن بذلك كقولهم سلاما لك، كما تقول أيضا سلام لك، وكله دعاء. 10- وقال تعالى: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) . وقوله تعالى: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ، أي: أصل كل كتاب، وهو اللوح المحفوظ. أقول: واستعمال (أمّ) وإضافتها للكتاب لتوليد هذا المعنى، أو قل هذا المصطلح يؤيّده ما درج عليه العرب من النظر الى كلمة (أمّ) ، التي أضافوها الى كلمات لا حصر لها لتوليد مسمّيات كثيرة، يأخذك العجب إذا ما أردت أن تعرف طرائق إدراكهم للأشياء، واختيار الكلم لذلك. وحسبك أن تنظر في كتاب «المرصّع» لمجد الدين ابن الأثير «1» وهو في الآباء والأمهات والأبناء والذوات والذوين، لتدرك آفاق هذه اللغة البعيدة المرامي. 11- وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً [الآية 31] . قال الزمخشري «2» في وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً جوابه محذوف، كما تقول

_ (1) . انظر: «المرصّع» ، لابن الأثير، من مطبوعات وزارة الأوقاف في العراق. (2) . «الكشاف» 2/ 529.

لغلامك: لو أنّي قمت إليك، وتترك الجواب. والمعنى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ عن مقارّها، وزعزعت عن مضاجعها، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ حتّى تتصدّع وتتزايل قطعا، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف كما قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر/ 21] . أقول: وهذا الأسلوب من حذف الجواب يخدم الغرض البلاغي، وهو أن يدع السامع يتفكّر في عظم ما يريد الله سبحانه أن يفعله. أما قوله تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا فالمراد بها: أفلم يعلم. قيل: هي لغة قوم من النّخع. وقيل: إنّما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمّنه معناه، لأنّ اليائس عن الشيء عالم بأنّه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك لتضمّن ذلك، قال سحيم بن وثيل الرياحي: أقول لهم بالشّعب إذ ييسرونني ... ألم تيأسوا أنّي ابن فارس زهدم ويدل عليه أنّ عليّا وابن عبّاس وجماعة من الصحابة والتابعين قرءوا: أفلم يتبيّن، وهو تفسير أَفَلَمْ يَيْأَسِ. 12- وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) . وقوله تعالى: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، أي: لا رادّ لحكمه، والمعقّب الذي يكرّ على الشيء فيبطله، وحقيقته: الذي يعقبه أي: يقفّيه بالردّ والإبطال. ومنه قيل لصاحب الحقّ: معقّب لأنه يقفّي غريمه بالاقتضاء والطلب، قال لبيد: حتى تهجّر في الرّواح وهاجها ... طلب المعقّب حقّه المظلوم والمعنى أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس. أقول: وهذه كلمة فنّيّة هي من أوائل ما عرف من المصطلح القضائي.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الرعد"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الرّعد» «1» قال تعالى: كُلٌّ يَجْرِي [الآية 2] يعني كلّه كما تقول «كلّ منطلق» أي: كلّهم. وقال تعالى: رَواسِيَ [الآية 3] فواحدتها «راسية» . وقال تعالى: أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الآية 5] . وفي موضع آخر: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) [النمل] فالآخر هو الذي وقع عليه الاستفهام والأول حرف، كما تقول «أيوم الجمعة زيد منطلق» . ومن أوقع استفهاما آخر جعل قوله تعالى: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً [المؤمنون/ 82، والصافّات/ 16 و 53، وق/ 3، والواقعة/ 47] ظرفا لشيء مذكور قبله، ثم جعل هذا الذي استفهم عنه استفهاما آخر، وهذا بعيد. وإن شئت لم تجعل في (أإذا) استفهاما وجعلت الاستفهام في اللفظ على (أإنّا) ، كأنك قلت «يوم الجمعة أعبد الله منطلق» وأضمرت فيه. فهذا موضع قد ابتدأت فيه (إذا) وليس بكثير في الكلام. ولو قلت «اليوم إنّ عبد الله منطلق» لم يحسن وهو جائز. وقد قالت العرب «ما علمت إنّه لصالح» يريد: إنّه لصالح ما علمت. وقال تعالى: مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) فقوله سبحانه: مُسْتَخْفٍ أي: ظاهر. و (السارب) : المتواري.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

وأمّا (المعقّبات) في قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ [الآية 11] فإنما أنّثت لكثرة ذلك منها نحو «النّسابة» و «العلّامة» ، ثم ذكّر السياق لأن المعنى مذكّر، فقال تعالى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ «1» [الآية 11] . وقال تعالى: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) وبِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) [آل عمران، وغافر/ 55] «2» بجعل بِالْغُدُوِّ يدل على الغداة وإنما «الغدوّ» فعل. وكذلك (الإبكار) إنما هو من «أبكر» «إبكارا» . والذين قالوا (الأبكار) «3» احتجّوا بأنهم جمعوا «بكرا» على «أبكار» . و «بكر» لا تجمع لأنه اسم ليس بمتمكّن، وهو أيضا مصدر مثل «الإبكار» فأما الذين جمعوا فقالوا إنما جمعنا «بكرة» و «غدوة» . ومثل «البكرة» و «الغدوة» لا يجمع هكذا. لا تجيء «فعلة» و «أفعال» وانما تجيء «فعلة» و «فعل» . وقال تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ [الآية 16] فهذه (أم) التي تكون منقطعة من أول الكلام. وقال تعالى: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الآية 17] تقول: «أعطني قدر شبر» وقدر شبر» وتقول: «قدرت» و «أنا أقدر» «قدرا» فأما المثل ففيه «القدر» و «القدر» . وقال تعالى: أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ [الآية 17] أي: «ومن ذلك الذي يوقدون عليه زبد مثل هذا» . وقال تعالى: يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الآية 24] أي: يقولون «سلام عليكم» . وقال سبحانه: طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) ف طُوبى في موضع رفع يدلّك على ذلك رفع وَحُسْنُ مَآبٍ وهو يجري مجرى «ويل لزيد» لأنك قد تضيفهما بغير لام تقول «طوباك» ، ولو لم تضفها لجرت مجرى «تعسا لزيد» . وإن قلت: «لك طوبى» لم

_ (1) . نقله في التهذيب 1/ 273 عقب، وزاد المسير 4/ 412. (2) . في البحر 2/ 353 قراءة كسر الهمزة الى الجمهور. (3) . في الشواذ 20 الى بعضهم.

يحسن، كما لا تقول: «لك ويل» . وقال تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ [الآية 33] فهذا في المعنى «أفمن هو قائم على كلّ نفس مثل شركائهم» ، وحذف، فصار وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ يدلّ عليه.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الرعد"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الرّعد» «1» إن قيل: لم قال تعالى: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) ولم يقل ومن هو سارب بالنهار، ليتناول معنى الاستواء المستخفي والسّارب، وإلّا فقد تناول واحدا هو مستخف وسارب: أي ظاهر، وليتناسب لفظ الجملة الأولى والثانية، فإنه قال في الجملة الأولى مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ [الآية 10] . قلنا: قوله تعالى: وَسارِبٌ معطوف على وَمَنْ لا على مستخف، فيتناول معنى الاستواء اثنين. الثاني: أنه وإن كان معطوفا على مستخف، إلا أن (من) هنا في معنى التثنية كقوله: نكن مثل من يا ذئب يصطحبان فكأن المعنى: سواء منكم اثنان: مستخف بالليل، وسارب بالنهار. فإن قيل: لم قال تعالى: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (14) أي في ضياع وبطلان، والكفّار يدعون الله تعالى في وقت الشدائد والأهوال، ومشارفتهم الغرق في البحر، فيستجيب لهم؟ قلنا: المراد: وما عبادة الكافرين الأصنام إلّا في ضلال، ويعضده قوله تعالى قبله في الآية نفسها: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي يعبدون. فإن قيل: كيف طابق قولهم كما ورد في التنزيل لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يونس/ 20] قوله سبحانه: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

قلنا: هو كلام جرى مجرى التعجّب من قولهم، لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله (ص) لم يؤتها نبيّ قبله، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية فإذا جحدوا آياته ولم يعتدّوا بها، وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط، كان موضعا يتعجّب منه فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم وما أشدّ تصميمكم على كفركم. فإن قيل: كيف المطابقة بين قوله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الآية 33] وقوله سبحانه بعد ذلك في الآية نفسها: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ. قلنا: فيه محذوف تقديره: أفمن هو رقيب على كل نفس صالحة وطالحة، يعلم ما كسبت من خير وشر، ويعدّ لكل جزاء، كمن ليس كذلك وهو الصنم؟ ثم ابتدأ السياق بقوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ أو تقديره: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحّدوه وجعلوا له شركاء، أو التقدير: أفمن كان بهذه الصفة يغفل عن أهل مكّة وأقوالهم وأفعالهم، وجعلوا لله شركاء. فإن قيل: كيف اتصل قوله تعالى في الآية نفسها: قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ بما قبله، وهو قوله تعالى وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ [الآية 36] . قلنا: هو جواب للمنكرين، معناه: قل إنما أمرت فيما أنزل اليّ بأن أعبد الله ولا أشرك به. فإنكارهم لبعضه إنكار لعبادة الله تعالى وتوحيده، كذا أجاب به الزمخشري، وفيه نظر. فإن قيل: لم قال تعالى: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أثبت لهم مكرا، ثم نفاه عنهم، بقوله تعالى في الآية نفسها: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً [الآية 42] ؟ قلنا: معناه أن مكر الماكرين مخلوق له، ولا يصير إلا بإرادته فبهذه الجهة، صحت إضافة مكرهم إليه سبحانه. الثاني: أنه جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة الى مكره، لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون، فيعكس مكرهم عليهم، فإثباته لهم باعتبار الكسب، ونفيه عنهم باعتبار الخلق.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الرعد"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الرّعد» «1» قوله تعالى: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الآية 5] . و (جديد) استعارة. لأن أصله هاهنا مأخوذ من الجدّ، وهو القطع. يقال: قد جدّ الثوب، فهو جديد بمعنى مجدود. إذا قطع من منسجه، أو قطع لاستعمال لابسه. والمراد، والله أعلم، إنّا لفي خلق جديد، أي قد فرغ من استئنافه، وأعيد الى موضع ثوابه وعقابه، فصار كالثوب الذي قطع «2» منسجه بعد الفراغ من عمله. وقوله سبحانه وتعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [الآية 6] . وهذه استعارة. والمراد بها مضيّ المثلاث، وهي «العقوبات» للأمم السالفة من قبلهم، وتقدّمها أمامها. وقولهم: خلت الدار. أي مضى سكانها عنها. وخلوا هم. أي مضوا عن الدار وتركوها. وقولهم: القرون الخالية، أي الماضية. والعقوبات على الحقيقة لم تمض «3» ، وإنما مضى المعاقبون بها. فكأنهم ذكّروا بالعقوبات الواقعة قبلهم، ليعتبروا بها. وقوله سبحانه:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هكذا بالأصل ولعلّها. قطع من منسجه. (3) . في الأصل: لم يمض وهو تحريف من الناسخ. والعقوبات هي المثلات التي قال الله فيها إنها قد خلت من قبلهم.

اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ [الآية 8] . وهذه استعارة عجيبة. لأن حقيقة الغيض إنما يوصف بها الماء دون غيره. يقال: غاض الماء وغضته «1» ، ولكن النطفة لمّا كانت تسمّى ماء، جاز أن توصف الأرحام بأنها تغيضها في قرارتها، وتشتمل على نفاعاتها «2» . فيكون ما غاضته من ذلك الماء سببا لزيادة، بأن يصير مضغة، ثم علقة ثم خلقة مصوّرة. فذلك معنى قوله تعالى: وَما تَزْدادُ. وقيل أيضا: معنى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ. أي ما تنقص بإسقاط العلق، وإخراج الخلق. ومعنى: وَما تَزْدادُ أي ما تلده لتمام، وتؤدي خلقه على كمال. فيكون الغيض هاهنا عبارة عن النقصان، والازدياد عبارة عن التمام. وقوله سبحانه: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الآية 13] . وهذه استعارة. لأن التسبيح في الأصل تنزيه الله سبحانه عن شبه المخلوقات، وتبرئته من مدانس الأعمال، وقبائح الأفعال. وهذا لا يتأتّى من الرعد، الذي هو إصكاك أجرام السحاب بعضها ببعض. فالمراد، والله أعلم، أنّ أصوات الرعود تقوى بها الدلالة على عظيم قدرة الله سبحانه، وبعده عن شبه الخليقة المقدّرة، وصفات البرية المدبّرة. إذ كان الرعد كما قلنا إنما تغلظ أصواته، وتعظم هزّاته على حسب تعاظم صفحات السحاب الممتدّة، وتراكم الغيوم المطبقة. وهي مع هذه الأحوال، من ثقل أجرامها، وتكاثف غمامها معلّقة بمناطات الهواء الرقيق، لولا دعائم القدرة وسماكها، وعلائق الجبريّة ومساكها، لما حمل عشر معشارها، ولا استقل ببعض أجزائها. ومن عجيب أحواله أنه أيضا مع ما ذكرنا من تثاقل أردافه، وتعاظل «3» التفافه ينفشّ «4» انفشاش الهباء

_ (1) . غاض الماء: نقص. وغضته أنا أي نقصته. (2) . النفاعات: جمع نفاعة وهو الشيء الذي ينتفع به. (3) . التعاظل: هو تكاثر الشيء وركوب بعضه فوق بعض. ومنه المعاظلة في الكلام أي تعقيده وموالاة بعضه فوق بعض. (4) . انفشّ: أي سكن ولان بعد شدة.

المتداعي، والغثاء المتلاشي. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار. ومعنى تسبيح الرعد بحمده سبحانه: دلالته على أفعاله التي يستحق بها الحمد، كما يقول القائل: هذه الدار تنطق بفناء أهلها. أي تدل على ذلك بخلاء ربوعها، وتهدّم عروشها. وقد يجوز أن يكون معنى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ أن الرعد يضطر الناس الى تسبيح الله سبحانه عند سماعه، فحسن وصفه بالتسبيح لأجل ذلك، إذ كان هو السبب فيه. وهذا معروف في كلامهم. وقوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) . وهذه استعارة. لأن أصل السجود في اللغة الخضوع والتذلّل. إمّا باللسان الناطق عن الجملة أو بآثار الصنعة وعجائب الخلقة. ثم نقل فصار اسما لهذا العمل المخصوص الذي هو من أركان الصلاة، لأنه يدل على تذلّل الساجد لخالقه، بتطامن شخصه، وانحناء ظهره. وقد ذكر في بعض الأخبار أن جدنا جعفر «1» بن محمد عليهما السلام سئل عن العلّة فيما كلف الله سبحانه من أعمال الصلاة وسائر العبادات، فقال: أراد الله سبحانه بذلك إذلال الجبّارين. فإذا تمهّد ما ذكرنا، كان في ذكر «الضلال» فائدة حسنة، وهو أن الظل الذي هو في سجود الشخص وهو غير قائم بنفسه، إذا ظهرت فيه أعلام الخضوع للخالق تعالى، بما فيه من دلائل الحكمة وعجائب الصنعة، كان ذلك أعجب من ظهور هذه الحال في البنية القائمة بنفسها، والمعروفة بشخصها. وقوله سبحانه: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) . وهذه استعارة. والمراد بضرب الأمثال، والله أعلم، معنيان: أحدهما أن يكون تعالى أراد

_ (1) . جعفر بن محمد، هو أبو عبد الله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن الحسين رضي الله عنهم. وهو سادس الأئمة الاثني عشر. وكان واسع العلم، أخذ عنه أبو حنيفة ومالك وجابر بن حيّان. ولقب بالصادق لأنه لم يعهد عليه كذب قطّ. توفي سنة 148 هـ بالمدينة.

بضربها تسييرها في البلاد، وإدارتها على ألسنة الناس. من قولهم: ضرب فلان في الأرض. إذا توغّل فيها وأبعد في أقاصيها. ويقوم قوله تعالى: يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) مقام قوله ضرب بها في البلاد. والمعنى الآخر في ضرب المثل، أن يكون المراد به نصبه للنّاس بالشهرة، لتستدل عليه خواطرهم، كما تستدل على الشيء المنصوب نواظرهم. وذلك مأخوذ من قولهم: ضربت الخباء إذا نصبته، وأثبت طنبه «1» ، وأقمت عمده، ويكون قوله سبحانه: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ [الآية 17] . الى هذا الوجه. أي ينصب منارهما، ويوضح أعلامهما، ليعرف المكلّفون الحق بعلاماته فيقصدوه، ويعرفوا الباطل فيجتنبوه. وقوله سبحانه: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الآية 33] وهذه استعارة. والمراد به أنه تعالى محص على كل نفس ما كسبت، ليجازيها به. وشاهد ذلك قوله سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [آل عمران/ 75] . أي ما دمت له مطالبا، ولأمره مراعيا، لا تمهله للحيلة، ولا تنظره للغيلة «2» . وإذا لم يصح إطلاق صفة القيام على الله سبحانه حقيقة، فإن المراد بها قيام إحصائه على كل نفس بما كسبت، ليطالبها به، ويجازيها عنه بحسبه. والقيام والدوام هاهنا بمعنى واحد. والماء الدائم هو القائم الذي لا يجري. وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الآية 41] . وهذه استعارة. وقد اختلف الناس في المراد بها، فقال قوم: معنى ذلك نقصان أرض المشركين، بفتحها على المسلمين. وقال آخرون: المراد بنقصانها موت أهلها، وقيل موت علمائها. وعندي في ذلك قول آخر، وهو أن يكون المراد بنقص الأرض، والله

_ (1) . الطّنّب: حبل طويل يشد به سرادق البيت. والجمع أطناب. (2) . الغيلة بكسر الغين: الخديعة والاحتيال. [.....]

أعلم، موت كرامها. وتكون الأطراف هاهنا جمع طرف. لا جمع طرف، والطّرف هو الشيء الكريم. ومنه سمّي الفرس طرفا، إذ كان كريما. وعلى ذلك قول أبي الهندي «1» الرياحي: شربنا شربة من ذات عرق ... بأطراف الزجاج من العصير أي بكرائم الزجاج. ولم يمض في هذا القول لأحد.

_ (1) . في الأصل: أبو الهند وهو تحريف من الناسخ. واسمه عبد المؤمن بن عبد القدوس، وهو من بني زيد بن رياح. وقد ترجم له ابن قتيبة في «الشعر والشعراء» ص 663 من طبعة عيسى الحلبي، بتحقيق الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر، وذكر صاحب «العقد الفريد» خبرا له، وطرفا من أقواله ونوادر شرابه. جزء 6 ص 342.

سورة ابراهيم 14

سورة ابراهيم 14

المبحث الأول أهداف سورة"إبراهيم"

المبحث الأول أهداف سورة «إبراهيم» «1» سورة إبراهيم سورة مكّيّة. موضوعها الأساسي هو موضوع السور المكّيّة الغالب، وهو العقيدة في أصولها الكبيرة. وتشمل الرسالة والتوحيد والبعث والحساب والجزاء. ولكن السياق في هذه السورة يسلك نهجا خاصا في عرض هذا الموضوع وحقائقه الأصلية، نهجا مفردا يميزها عن غيرها من السور، يميزها بجوها، وطريقة أدائها، والحقائق الكبرى التي تتضمنها، ولون هذه الحقائق التي قد لا تفترق موضوعيا عن مثيلاتها في السور الأخرى، ولكنها تعرض من زاوية خاصة. كما تختلف مساحتها في رقعة السورة وجوّها، فتزيد أطرافا وتنقص أطرافا. فيحسبها القارئ جديدة بما وقع فيها من تجديد، وذلك من الإعجاز القرآني في طريقة الأداء. ويبدو أنه كان لأسلوب السورة من اسمها نصيب.. إبراهيم: أبو الأنبياء، المبارك، الشاكر، الأوّاب، المنيب. وكل الظلال التي تخلعها هذه الصفات ملحوظة في جوّ السورة وفي الحقائق التي تبرزها، وفي طريقة الأداء، وفي التعبير والإيقاع. ولقد تضمّنت السورة حقائق رئيسية عدّة في العقيدة، ولكن حقيقتين كبيرتين تظهران أكبر من غيرهما في سورة إبراهيم: الحقيقة الأولى: وحدة الرسالة

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

والرسل ووحدة دعوتهم. ووقفتهم أمّة واحدة في مواجهة الفرقة المكذّبة بدين الله على اختلاف الأمكنة والأزمنة. والحقيقة الثانية: بيان نعمة الله على البشر وزيادة النعمة بالشكر ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران. تبدأ السورة ببيان وظيفة الرسول وبيان هدف القرآن. وهذه الوظيفة هي هداية الناس، وإبطال عادات الجاهلية وقيمها. وإرساء معالم التوحيد والعدالة والمساواة. قال تعالى: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) . وتختم السورة بهذا المعنى وبالحقيقة الكبرى التي تتضمنها الرسالة، حقيقة التوحيد في قوله تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) . وفي أثناء السورة نجد أن موسى (ع) قد أرسل بمثل ما أرسل به محمد (ص) وللهدف نفسه، وهو إخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الآية 5] . وتذكر السورة أن وظيفة الرسل عامة، هي بيان الحق وتوضيح طريق الهداية إلى الله، قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [الآية 4] . وتبين السورة أن الرسول بشر يوحى إليه، وأن بشريته هي التي تحدد وظيفته، فهو مبلّغ ومنذر وناصح ومبيّن ولكنه لا يملك أن يأتي بخارقة أو معجزة إلّا بإذن الله، وحين يشاء الله، لا حين يشاء هو أو قومه ولا يملك الرسول أن يهدي قومه أو يضلّهم: فالهدى والضلال متعلّقان بسنّة الله التي اقتضتها مشيئته المطلقة. ولقد كانت بشرية الرسل موضع الاعتراض من الأقوام جميعهم في جاهليتهم. والسورة هنا تحكي قولهم مجتمعين: قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) . وتحكي ردّ رسلهم كذلك مجتمعين: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ

وحدة الرسالات السماوية في سورة إبراهيم

مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) . ويتضمن السياق كذلك، أن إخراج الناس من الظلمات إلى النور إنّما يكون بِإِذْنِ اللَّهِ. وكلّ رسول يبين لقومه فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) . وبهذا أو ذاك تتحدّد حقيقة الرسول، فتتحدّد وظيفته في نطاق هذه الحقيقة ولا تشتبه حقيقة الرسل البشرية وصفاتهم، بشيء من حقيقة الذات الإلهية وصفاتها. وكذلك يتجرّد توحيد الله بلا ظل من مماثلة أو مشابهة، كذلك تتضمن السورة تحقّق وعد الله للرسل والمؤمنين بهم إيمانا حقّا، ويتحقق ذلك الوعد في الدنيا بالنصر والاستخلاف، وفي الآخرة بعذاب المكذّبين ونعيم المؤمنين. ويصوّر السياق هذه الحقيقة الكبيرة في نهاية المعركة بين الرسل مجتمعين وقومهم مجتمعين. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) . وحدة الرسالات السماوية في سورة إبراهيم الظاهرة البارزة في سورة إبراهيم أنها تتحدث عن الرسل جميعا كأنهم أصحاب فكرة واحدة وهدف واحد، وكأن جواب قومهم كان جوابا موحّدا، في العصور والأحوال جميعها. وتعرض السورة هذه الفكرة بطريقة فريدة في الأداء. لقد أبرزها سياق بعض السور الماضية في صورة توحيد الدعوة التي يجيء بها كل رسول، فيقول كلمته لقومه ويمضي ثم يجيء رسول ورسول. كلهم يقولون الكلمة ذاتها، ويلقون الرد ذاته ويصيب المكذّبين ما يصيبهم في الدنيا، وينظر بعضهم ويمهل إلى أجل في الأرض أو إلى أجل في يوم الحساب. ولكن السياق هناك، كان يعرض كل رسول في مشهد، كالشريط المتحرك منذ

الرسالات الأولى، وأقرب مثل لهذا النسق سورة هود، فأما سورة إبراهيم- أبي الأنبياء- فتجمع الأنبياء كلهم في صف، وتجمع المكذّبين كلهم في صف، وتجري المعركة بينهم في الأرض، ثم لا تنتهي هنا، بل تتابع خطوتها كذلك في يوم الحساب. ونبصر مشهد أمّة الرسل، وفرقة المكذبين في صعيد واحد على تباعد الزمان والمكان. فالزمان والمكان عرضان زائلان، أمّا الحقيقة الكبرى في هذا الكون- حقيقة الإيمان والكفر- فهي أضخم وأبرز من عرضي الزمان والمكان. قال تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) . فهاهنا تتجمّع الأجيال من لدن نوح (ع) ، وتتجمع الرسل ويتلاشى الزمان والمكان وتبرز الحقيقة الكبرى: حقيقة الرسالة وهي واحدة واعتراضات المكذّبين وهي واحدة، وحقيقة نصر الله للمؤمنين وهي واحدة، وحقيقة استخلاف الله للصالحين وهي واحدة، وحقيقة الخيبة والخذلان للمتجبّرين وهي واحدة، وحقيقة العذاب الذي ينتظرهم هناك وهي واحدة. ولا تنتهي المعركة بين الكفر والإيمان هنا، بل يتابع السياق خطواته بها إلى ساحة الآخرة فتبرز معالمها في مشاهد القيامة المتنوّعة التي تتضمنها السورة وهي تشير إلى أنها معركة واحدة تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة ولا انفصال بينهما، ولكن تكمل إحداهما الأخرى. وتكمل الأمثال التي تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة إبراز معالم المعركة

المقطع الثاني من سورة إبراهيم

بين الفريقين، ونتائجها الأخيرة، مثل الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة: شجرة النبوّة وشجرة الإيمان، وشجرة التوحيد والخير، والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة: شجرة الباطل والتكذيب والشر والطغيان. فالتوحيد وكلمته: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. أصله ثابت موصول بالله وفرعه مرتفع إلى السماء ويؤتي ثماره كل حين بالصلاة والزكاة وسائر العبادات والأعمال النافعة في الدنيا والآخرة. أما شجرة الكفر فلا أصل لها تعتمد عليه، فهي تمثّل الباطل في الدنيا، والخيبة في الآخرة. قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) . المقطع الثاني من سورة إبراهيم تنقسم سورة إبراهيم الى مقطعين متماسكي الحلقات: المقطع الأول: يتضمّن بيان حقيقة الرسل، ويصور المعركة بين أمة الرسل وفرقة المكذبين في الدنيا والآخرة، ويعقب عليها بمثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، وقد تحدثنا عن هذا المقطع. والمقطع الثاني: من سورة إبراهيم يتحدث عن نعم الله على البشر، والذين كفروا بهذه النعم وبطروا، والذين آمنوا بها وشكروا، ونموذجهم الأول هو ابراهيم (ع) ويصور مصير الظالمين الكافرين بنعمة الله، في سلسلة من أعنف مشاهد القيامة وأجملها، وأحفلها بالحركة والحياة. نعم الله لقد عدّد الله سبحانه نعمه على البشر كافة، مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم، برّهم وفاجرهم، طائعهم وعاصيهم وإنها لرحمة من الله وسماحة وفضل، أن يتيح للكافر

والفاجر والعاصي نعمة في هذه الأرض كالمؤمن والبار والطائع، لعلّهم يشكرون: ويعرض هذه النعم في أضخم مجالي الكون وأبرزها، ويضعها داخل إطار من مشاهد الوجود العظيمة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) . وفي إرسال بعث الرسل نعمة تعدل تلك أو تربو عليها: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الآية 1] . والنور أجلى نعم الله في الوجود، والنور هنا هو النور الأكبر، النور الذي يشرق به كيان الإنسان، ويشرق به الوجود في قلبه وحسه. وكذلك كانت وظيفة موسى (ع) في قومه، ووظيفة الرسل كما بينتها السورة. وفي قول الرسل مجتمعين: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الآية 10] . والدعوة لأجل الغفران نعمة تعدل نعمة النور، وهي منه قريب: وفي هذا الجو يذكر وعد الله للرسل. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. وهي نعمة. ويبرز السياق حقيقة زيادة النعمة بالشكر: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) . مع بيان أن الله غني عن الشكر وعن الشاكرين: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) . ويقرر السياق، أن الإنسان في عمومه لا يشكر النعمة حق الشكر. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) . ولكن الذين يتدبّرون آيات الله،

وتتفتح لها بصائرهم، يصبرون على البأساء ويشكرون على النعماء. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) . ويتمثل الصبر والشكر في شخص إبراهيم (ع) حين يقف خاشعا، ويدعو ربه عند البيت الحرام، دعاء مخلصا، كله حمد وشكر، وصبر وإيمان: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) . ولأن النعمة والشكر عليها والكفر بها، تطبع جو السورة فإن التعبيرات والتعليقات تجيء فيها متناسقة مع هذا الجو، في قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) . وقوله سبحانه: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [الآية 6] . وفي ردّ الأنبياء على اعتراض المكذّبين بأنهم بشر، يجيء قوله سبحانه: وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [الآية 11] . فيبرز منة الله، تنسيقا للرد مع جوّ السورة كله، جو النعمة والمنّة والشكر والكفران وهكذا يتساوق التعبير اللفظي مع الفكرة العامة للسورة، على طريقة التناسق الفني في القرآن.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"إبراهيم"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «إبراهيم» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة إبراهيم بعد سورة نوح، وهي من السور التي نزلت بمكّة بعد الإسراء، فيكون نزولها مثلها بعد الإسراء وقبيل الهجرة، وعلى هذا تكون من السور المكّيّة. وقيل إنها من السور المدنيّة، وقد قال الإمام فخر الدين الرازي: اعلم أن الكلام في أن هذه السورة مكية أو مدنية طريقه الآحاد، ومتى لم يكن في السورة ما يتصل بالأحكام الشرعية فنزولها بمكة والمدينة سواء. إنما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل فيه ناسخ ومنسوخ، فيكون فيه فائدة عظيمة. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لذكر قصة إبراهيم (ع) بمكة فيها، وتبلغ آياتها اثنتين وخمسين آية. الغرض منها وترتيبها يقصد من هذه السورة بيان الغرض من نزول القرآن، وهو هداية الناس بالترغيب في الثواب والترهيب من العقاب. وقد افتتحت هذه السورة ببيان هذا الغرض، ثم انتقل من هذا إلى بيان موافقة القرآن للكتب المنزلة قبله في هذا الغرض، ثم انتقل من هذا إلى تحذير مشركي مكة من تكذيبه بما حصل للمكذّبين قبلهم وبهذا ينقسم سياق هذه السورة إلى هذه الأقسام الثلاثة. وقد جعلت بعد سورة الرّعد لأنها

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

نزول القرآن للترغيب في الإيمان والتحذير من الكفر الآيات [1 - 3]

تشبهها في غرضها، وفي افتتاحها بالحروف التي افتتحت بها. نزول القرآن للترغيب في الإيمان والتحذير من الكفر الآيات [1- 3] قال الله تعالى: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) ، فأقسم، بهذه الحروف، على أنه كتاب أنزله إليه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهذا هو طريق الترغيب. ثم حذر الذين يكفرون به من عذاب شديد. وهذا هو طريق الترهيب ثم ذكر سبحانه أن الذين يكفرون به هم الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) . اتحاد الغرض من الكتب المنزلة الآيات [4- 18] ثم قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) فذكر أنّ إنزال القرآن لأجل هداية الناس هو شأن الكتب المنزلة قبله، وفصّل هذا الإجمال بما كان من إرسال موسى (ع) إلى بني إسرائيل لإخراجهم من الظلمات إلى النور، فذكّرهم بأيام العذاب التي مرت على الأمم قبلهم، وبنعمة الله عليهم إذ أنجاهم من آل فرعون، وأخبرهم بأنهم إن شكروا الله زادهم من نعمته، وإن كفروا به عاقبهم بشديد عذابه، وبأنهم إن يكفروا هم ومن في الأرض جميعا، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) . ثم ذكر جلّ وعلا، أن هذا كان أيضا شأن قوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم، وأن رسلهم جاءتهم بالبينات فكفروا بهم، وشكّوا فيما يدعونهم إليه من الإيمان بالله وحده، وأن رسلهم ردّوا عليهم بأنه لا يصحّ الشكّ في الله سبحانه، وهو فاطر السماوات والأرض، إلى غير ذلك من الجدال الذي دار بينهم ثم ذكر أنهم لجئوا، بعد هذا الجدال، الى تهديد رسلهم بأن يخرجوهم من أرضهم أو يعودوا في ملّتهم، وأنه أوحى إلى رسلهم، أنه سيهلكهم ويسكنهم الأرض من بعدهم، ثم ذكر ما عاقبهم به في الدنيا

ترهيب المشركين وترغيبهم الآيات [19 - 52]

والآخرة، وضرب مثلا لحبوط أعمالهم في الآخرة، فقال: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) . ترهيب المشركين وترغيبهم الآيات [19- 52] ثم قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) فذكر في ترهيبهم أنه خلق السماوات والأرض بالحق، فهو قادر على أن يهلكهم كما أهلك أولئك الأقوام ويأتي بخلق غيرهم يؤمنون به، ثم ذكر ما يكون من إعادتهم بعد هلاكهم وبروزهم له، وما يكون من سؤال الضعفاء للمستكبرين أن يغنوا عنهم شيئا من عذابه، وما يجيب المستكبرون من أنه لا مفرّ منه جزعوا أو صبروا، وما يكون من تبرّؤ الشيطان منهم وإيقاعه اللوم عليهم لسماعهم لإغوائه وإعراضهم عن نصح الله لهم، ثم ذكر ما أعده للمؤمنين من جنات تجري من تحتها الأنهار، على سنّته في ذكر وعده بعد وعيده. ثم ضرب، في ترغيبهم وترهيبهم، مثلا لحال المؤمنين وحالهم، فشبّه الإيمان به جلّ شأنه، بشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمرها دائم لا ينقطع. وشبّه الكفر به بشجرة خبيثة ليس لها أصل ولا عرق ولا ثمر ورتّب على ذلك أن صاحب الحال الثابت، يثبّته الله في الدنيا وفي الآخرة، وصاحب الحال الذي لا ثبات له يضلّه الله فلا يهتدي. ثم ذكر تبديلهم نعمته عليهم بسكنى حرمه كفرا به، وجعلهم له أندادا ليضلّوا عن سبيله وأمرهم أمر تهديد أن يتمتّعوا بنعيم الدنيا فإن مصيرهم إلى النار، وأمر المؤمنين أن يخالفوهم في ذلك فيقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقهم من قبل أن يأتيهم يوم لا ينفعهم فيه إلّا ما قدمت أيديهم ثم ذكر من نعمه العامة عليهم وعلى غيرهم بعد تلك النعمة الخاصة، أن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لهم، إلى غير هذا من نعمه التي لا تحصى ولا تعدّ، ولا

يصحّ أن يقابلوها باتخاذ أنداد له، سبحانه. ثم عاد السياق إلى ذكر تلك النعمة الخاصة فشرحها وبيّن كيف بدّلوا فيها فذكر أن إبراهيم دعا ربه أن يجعل مكّة بلدا آمنا، وأن يجنّبه وبنيه عبادة الأصنام، وأنه شكا لربه أنه أسكن ذريته من ابنه إسماعيل بواد غير ذي زرع عند بيته المحرّم ليعبدوه فيه، وأنه سأله أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم بالحجّ وغيره، إلى غير هذا ممّا حكاه عنه. ثم عاد السياق إلى ترهيبهم، فذكر أنه سبحانه، ليس بغافل عمّا يفعلون، وأنه يؤخّر عذابهم ليوم تشخص فيه أبصارهم من شدته، وأنه إذا أتاهم يسألونه أن يؤخّرهم إلى أجل قريب ليجيبوا دعوته ويتّبعوا رسله، وأنه يجيبهم بتذكيرهم بأنهم كانوا يقسمون من قبل: ما لهم من زوال إلى حياة أخرى وبأنهم سكنوا في مساكن الذين كذّبوا قبلهم، وتبيّن لهم ما فعل بهم، فلم يعتبروا بما حصل لهم. ثم ذكر أنهم قد مكروا مكر أولئك الذين سكنوا في مساكنهم، وأنه ليس بغافل عن مكرهم ونهى النبي (ص) أن يظن أنه مخلف وعده بعذابهم ثم ذكر أنه سيأتي يوم تبدّل فيه الأرض غير الأرض، ويبرزون إليه مقرّنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار وأنه سبحانه يعيدهم في ذلك اليوم ليجزي كل نفس ما كسبت، إنه سريع الحساب هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"إبراهيم"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «إبراهيم» «1» أقول: وجه وضعها بعد سورة الرّعد، أن قوله تعالى في مطلعها: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ [الآية 1] مناسب لقوله: في مقطع تلك: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) [الرعد] . على أن المراد ب (من) هو: الله تعالى جل جلاله. وأيضا ففي الرعد: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ [الرعد/ 32] . وذلك مجمل في أربعة مواضع: الرسل، والمستهزئين، وصفة الاستهزاء، والأخذ. وقد فصّلت الأربعة في قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ [الآية 9] إلى قوله: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.

المبحث الرابع مكنونات سورة"إبراهيم"

المبحث الرابع مكنونات سورة «إبراهيم» «1» 1- كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [الآية 24] . هي النّخلة «2» . 2- كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ [الآية 26] . هي الحنظلة «3» . وقيل: الثوم. حكاه ابن عسكر. 3- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [الآية 28] . قال عليّ بن أبي طالب: هم كفّار قريش. أخرجه النّسائي «4» . وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن دينار قال: هم قريش ومحمد النعمة. 4- رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي [الآية 37] . هو إسماعيل.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . روى البخاري [62] في العلم و (4698) في التفسير، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «كنّا عند رسول الله (ص) فقال: أخبروني بشجرة تشبه، أو كالرجل المسلم لا يتحاتّ ورقها ولا تؤتي أكلها كل حين؟ قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلّمان، فكرهت أن أتكلّم. فلمّا لم يقولوا شيئا، قال رسول الله (ص) : هي النخلة. فلمّا قمنا قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة. فقال: ما منعك أن تتكلّم؟ قال لم أركم تتكلمون، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا. قال عمر: لأن تكون قلتها أحبّ إلي من كذا وكذا» . (3) . أخرج الحاكم من حديث أنس: «الشجرة الطيبة النخلة، والشجرة الخبيثة الحنظلة» . انظر «فتح الباري» 8/ 378 و «المستدرك» للحاكم 2/ 352. (4) . والحاكم: وقال: صحيح عال 2/ 352 وانظر «الدر المنثور» 4/ 85، و «مجمع الزوائد» 7/ 44. وفي البخاري (4700) عن ابن عباس: أنهم كفار أهل مكّة.

5- بِوادٍ [الآية 37] . هو مكّة «1» . 6- وَلِوالِدَيَّ [الآية 41] . تقدّم اسم أبيه في سورة الأنعام «2» . وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: أبو إبراهيم: آزر وأمّه اسمها: مشاني وامرأته اسمها: سارة، وأمّ إسماعيل اسمها: هاجر وقيل: اسم أمّه نوفا، وقيل: ليوثا.

_ (1) . انظر «الدر المنثور» 4/ 87. (2) . عند قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ [الأنعام/ 74] .

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"إبراهيم"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «إبراهيم» «1» 1- قال تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ [الآية 6] . قالوا: سامه الأمر سوما: كلّفه إيّاه، وقال الزجّاج: أولاه إيّاه، وأكثر ما يستعمل في العذاب والشرّ والظلم. وجاء في كتاب العين: السّوم أن تجشّم إنسانا مشقّة، أو سوءا، أو ظلما. أقول: وأصل السّوم من قولهم: سامت الناقة سوما، والسّوم عرض السلعة على البيع، والسّوم في المبايعة. غير أن ما في لغة التنزيل هو ضرب من المجاز اللطيف وهو من لطفه، كأنه يبتعد عن الأصل. 2- وقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [الآية 7] . قوله تعالى: تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ، أي: أذّن ربكم، ونظير تأذّن: توعّد وأوعد وتفضّل وأفضل. أقول: الغالب في بناء «تفعّل» مجيئه لازما، نحو تكسّر، وتحطّم، وتستّر، وغيره كثير، وهو في هذا قد يأتي مطاوعا للمتعدي، نحو: هدمه فتهدّم. غير أنه قد يأتي متعدّيا، وليس مجيئه متعدّيا من الندور، نحو تعلّم وتعجّل، وغير ذلك. 3- وقال تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) . أقول: والأصل «وعيدي» واجتزئ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

بالكسرة عن ياء المتكلم لأن «وعيدي» نهاية الآية التي يوقف عليها، فإذا وقف كان الوقف بالسكون، وطيّ الكسرة لأجل الوقف أسهل من طيّ المدّ الطويل الذي يكون بإثبات الياء. وقد مر بنا شيء من هذا في آيات أخرى. 4- وقال تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا [الآية 21] . أقول: جاء رسم «الضعفاء» في المصحف الشريف الضّعفاوء بواو قبل الهمزة، وهذا الرسم يشير إلى من يفخّم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو. ونظيره: علماؤا بنى إسرائيل (197) [الشعراء] . وفي هذا فائدة، في أنّ رسم المصحف يهدي إلى فوائد تاريخية تتصل بأصوات القرآن، وكيف أعرب عنها لدى طائفة من أهل التلاوة. 5- وقال تعالى: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) . أقول: المحيص هو المنجى والمهرب، والفعل حاص يحيص. وهو اسم مكان أو مصدر كالمغيب والمشيب. ومن المفيد أن نشير إلى أن الفعل من هذا الاسم لم يبق شيء منه في العربية المعاصرة، بل احتفظت به العاميّة في العراق ولا سيما في الحواضر، يقال: هو لا يحيص أو ما يحيص، أي: ما يتحرك وليس له أن يفلت. 6- وقال تعالى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) . قال الزمخشري «1» : أي: أن الناس يخرجون في ذلك اليوم أموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلا ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها أو خيرا منها وأما الإنفاق لوجه الله خالصا كقوله تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) [الليل] ، فلا

_ (1) . «الكشاف» 2/ 556.

يفعله إلّا المؤمنون الخلّص، فبعثوا عليه، ليأخذوا بدله، في يوم لا بيع فيه ولا خلال أي: لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالّة، ولا بما ينفقون به أموالهم من المعاوضات والمكارمات. 7- وقال تعالى: رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [الآية 37] . وقوله تعالى: تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي: تسرع إليهم، وتطير نحوهم شوقا ونزاعا، كقول أبي كبير الهذلي: وإذا رميت به الفجاج رأيته ... يهوي مخارمها هويّ الأجدل وقرئ: تهوى إليهم، على البناء للمفعول. أقول: واستعمال «تهوي» في الآية استعمال في المجاز، ذلك أنّ الأفئدة تميل وتجنح إليهم شوقا، وليس «الهويّ» على حقيقته، وهو السقوط. والذي بقي من استعمال هذا الفعل، هو المعنى الحقيقي. 8- وقال تعالى: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) . والإهطاع أن تقبل ببصرك على المرئيّ، تديم النظر إليه لا تطرف. و «مقنعي رؤوسهم» أي: رافعيها. «وأفئدتهم هواء» ، أي: خلاء لم تشغله الأجرام، فوصف به فقيل: قلب فلان هواء، إذا كان جبانا لا قوة في قلبه ولا جرأة، قال حسان يهجو أبا سفيان: ألا أبلغ أبا سفيان عنّي ... فأنت مجوّف نخب هواء فكون الأفئدة هواء أي: صفرا من الخير. 9- وقال تعالى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) . «إن» هنا في الآية نافية، واللام مؤكّدة لها. والمعنى: ومحال أن تزول الجبال بمكرهم. وهذه الآية شاهد آخر في مجيء «إن» النافية التي أشرنا إليها، وبسطنا فيها القول.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"إبراهيم"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «إبراهيم» «1» قرئ قوله تعالى: يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ [الآية 3] بوصل الفعل ب «على» كما قالوا «ضربوه في السيف» يريدون «بالسيف» . وذلك أن هذه الحروف يوصل بها كلّها، وتحذف نحو قول العرب: «نزلت زيدا» تريد «نزلت عليه» . وقال تعالى: مِنْ وَرائِهِ [الآية 16] أي: من أمامه. وإنما قال: وراء أي: أنه وراء ما هو فيه، كما تقول للرجل: «هذا من ورائك» أي: «سيأتي عليك» و «هو من وراء ما أنت فيه» لأنّ ما أنت فيه قد كان مثل ذلك، فهو وراؤه. وقال سبحانه: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف/ 79] في هذا المعنى. أي: كان وراء ما هم فيه «2» . وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 18] أي: «وممّا نقصّ عليكم مثل الذين كفروا» ثم فسّر سبحانه كما في قوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرّعد/ 35 ومحمّد/ 15] وهذا كثير. وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ [الآية 22] وهذا استثناء خارج، كما تقول: «ما ضربته إلّا أنّه أحمق» وهو الذي في معنى «لكنّ» . وقال تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [الآية 22] فتحت ياء الإضافة لأنّ قبلها ياء الجميع الساكنة التي كانت في

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . ورد في مجاز القرآن 1/ 337. [.....]

«مصرخيّ» ، فلم يكن من حركتها بدّ لأنّ الكسر من الياء. وقرأ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً [الآية 24] منصوبة على ضَرَبَ كأنّ الكلام «وضرب الله كلمة طيّبة مثلا» . وقال تعالى: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) وفي موضع آخر وَلا خُلَّةٌ [البقرة/ 254] وإنّما «الخلال» لجماعة «الخلّة» كما تقول: «جلّة» و «جلال» ، و «قلّة» و «قلال» . وقال الشاعر [من المتقارب، وهو الشاهد الخامس والعشرون] : وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب ولو شيت جعلت «الخلال» مصدرا لأنها من «خاللت» مثل «قاتلت» ومصدر هذا لا يكون إلا «الفعال» أو «المفاعلة» . وقال تعالى: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ [الآية 34] أي: آتاكم من كلّ شيء سألتموه شيئا» بإضمار الشيء، كما في قوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل/ 23] أي: «أوتيت من كلّ شيء في زمانها شيئا» » قال بعضهم: «إنما ذا على التكثير» نحو قولك: «هو يعلم كلّ شيء» و «أتاه كلّ الناس» وهو يعني بعضهم: وكذلك فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام/ 44] . وقال بعضهم: «ليس من شيء إلّا وقد سأله بعض الناس، فقال تعالى: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي: «من كلّ ما سألتموه قد آتى بعضكم منه شيئا، وآتى آخر شيئا ممّا قد سأل» . وكذلك قوله تعالى: إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ [الآية 37] أي: «أسكنت من ذرّيّتي أناسا» «2» ودخلت الباء على «واد» كما تقول: «هو بالبصرة» و «هو في البصرة» . ونوّن بعضهم مِنْ كُلِّ [الآية 34] «3» فقرأ (من كلّ) ثم قال «لم

_ (1) . نقله في زاد المسير 4/ 364، وإعراب القرآن 2/ 544، والجامع 9/ 367. (2) . نقله في إعراب القرآن المنسوب للزجاجي 2/ 475. (3) . في الطبري 13/ 226 الى الضحّاك بن مزاحم وقتادة، وفي الشواذ 68 الى ابن عباس والحسن وجعفر بن محمد وسلام بن المنذر، وفي المحتسب 1/ 363 الى ابن عباس والضحّاك والإمام محمد بن علي والإمام جعفر بن محمد وعمرو بن فائد ويعقوب، وفي الجامع 9/ 367 الى ابن عباس والضحّاك والحسن وقتادة، وفي البحر 5/ 428 الى ابن عباس والضحاك والحسن والإمام محمد بن علي والإمام جعفر بن محمد وعمر بن فائد وقتادة وسلام ويعقوب ونافع في رواية.

تسألوه إيّاه» كما تقول: «قد سألتك من كلّ» و «قد جاءني من كلّ» لأن «كلّ» قد تفرد وحدها. وقال تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها [الآية 25] ومثل ذلك أُكُلُها دائِمٌ [الرعد/ 35] و «الأكل» هو: الطعام و «الأكل» هو: «الفعل» . وقال تعالى: تَهْوِي إِلَيْهِمْ [الآية 37] منصوب، زعموا أنه في التفسير «تهواهم» . وقوله تعالى: مُهْطِعِينَ [الآية 43] على الحال وكذلك مُقْنِعِي [الآية 43] كأنّ السياق: «تشخص أبصارهم مهطعين» وجعل «الطرف» «1» للجماعة، كما في قوله سبحانه: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر] . وقرئ قوله تعالى: مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [الآية 47] بالإضافة الى الأول ونصب الآخر على الفعل، ولا يحسن أن نضيف إلى الآخر لأنه يفرق بين المضاف والمضاف إليه، وهذا لا يحسن. ولا بدّ من إضافته لأنه قد ألقى الألف، ولو كانت «مخلفا» نصبهما جميعا، وذلك جائز في الكلام. ومثله «هذا معطي زيد درهما» و «معط زيدا درهما» . وواحد الْأَصْفادِ (49) صفد.

_ (1) . من قوله تعالى في الآية نفسها لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"إبراهيم"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «إبراهيم» «1» إن قيل: قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [الآية 4] هذا في حق غير النبي (ص) من الرسل مناسب، لأن غيره لم يبعث إلى الناس كافّة بل إلى قومه فقط، فأرسل بلسانهم ليفقهوا عنه الرسالة ولا تبقى لهم الحجّة بأنا لم نفهم رسالتك. فأما النبي (ص) فإنه بعث إلى الناس كافّة، قال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف/ 158] ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ/ 28] . فإرساله بلسان قومه إن كان لقطع حجّة العرب، فالحجة باقية لغيرهم من أهل الألسن الباقية، وإن لم يكن لغير العرب حجّة، أن لو نزل القرآن بلسان غير العرب يكن للعرب الحجة. قلنا: نزوله على النبي (ص) بلسان واحد كاف، لأن الترجمة لأهل بقية الألسن تغني عن نزوله لجميع الألسن، ويكفي التطويل كما جرى في القرآن العزيز. الثاني: أن نزوله بلسان واحد أبعد عن التحريف والتبديل، وأسلم من التنازع والخلاف. الثالث: أنه لو نزل بألسنة كل الناس وكان معجزا في كلّ واحد منها، وكلّم الرسول العربي كلّ أمة بلسانها كما كلم أمته التي هو منها لكان ذلك أمرا قريبا من القسر والإلجاء وبعثة الرسل لم تبن على القسر والإلجاء، بل على التمكين من الاختيار، فلما كان نزوله بلسان واحد

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

كافيا، كان أولى الألسنة لسان قوم الرسول، لأنهم أقرب إليه وأفهم عنه. فإن قيل: لم قال تعالى في سورة البقرة يُذَبِّحُونَ [الآية 49] وفي سورة الأعراف يُقَتِّلُونَ [الآية 141] بغير واو فيهما، وقال هنا وَيُذَبِّحُونَ [الآية 6] بالواو، والقصة واحدة؟ قلنا: حيث حذف الواو جعل التذبيح والتقتيل تفسيرا للعذاب وبيانا له، وحيث أثبتها جعل التذبيح كأنه جنس آخر غير العذاب، لأنه أوفى على بقية أنواعه، وزاد عليها زيادة ظاهرة، فعلى هذا يكون إثبات الواو أبلغ. فإن قيل: ما معنى التبعيض في قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الآية 10] ؟ قلنا: ما جاء هذا إلا في خطاب الكافرين، كقوله تعالى في سورة نوح عليه السلام: لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الآية 4] وقوله تعالى في سورة الأحقاف: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الآية 31] وقال تعالى في خطاب المؤمنين في سورة الصفّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ [الآية 10] إلى قوله تعالى من الآية نفسها: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصفّ/ 12] وقال تعالى في آخر سورة الأحزاب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وكذا باقي الآيات في خطاب الفريقين إذا تتبعتها، وما ذلك إلا للتفرقة بين الخطابين لئلا يسوّى بين الفريقين في الوعد مع اختلاف رتبتهما، لا لأنه يغفر للكفّار مع بقائهم على الكفر بعض ذنوبهم والذي يؤيد ما ذكرناه من العلة، أنه في سورة نوح عليه السلام، وفي سورة الأحقاف، وعدهم مغفرة بعض الذنوب بشرط الإيمان مطلقا. وقيل معنى التبعيض أنه يغفر لهم ما بينهم وبينه، لا ما بينهم وبين العباد من المظالم ونحوها. وقيل «من» زائدة. فإن قيل: لم كرر تعالى الأمر بالتوكّل، ولم قال أوّلا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وقال ثانيا: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) ؟ قلنا: الأمر الأول لاستحداث التوكّل، والثاني لتثبيت المتوكّلين على ما استحدثوا من توكلهم فلهذا كرره،

وقال أولا «المؤمنون» وثانيا «المتوكلون» . فإن قيل: لم قالوا لرسلهم كما ورد في التنزيل: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الآية 13] والرسل لم يكونوا على ملّة الكفار قطّ والعود هو الرجوع إلى ما كان فيه الإنسان؟ قلنا: العود في كلام العرب يستعمل كثيرا بمعنى الصيرورة، يقولون: عاد فلان يكلّمني، وعاد لفلان مال وأشباه ذلك، ومنه قوله تعالى: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) [يس] . الثاني: أنهم خاطبوا الرسل بذلك بناء على زعمهم الفاسد واعتقادهم أن الرسل كانوا أوّلا على ملل قومهم ثم انتقلوا عنها. الثالث: أنهم خاطبوا كل رسول ومن آمن به فغلّبوا في الخطاب الجماعة على الواحد، ونظير هذا السؤال ما سبق في سورة الأعراف من قوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الآية 88] وفي سورة يوسف (ع) من قوله تعالى: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [الآية 37] . فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ [الآية 21] . قلنا: لما كان قول الضعفاء توبيخا وتقريعا وعتابا للذين استكبروا على استتباعهم إياهم واستغوائهم، أحالوا الذنب على الله تعالى في ضلالهم وإضلالهم، بقولهم كما ورد في التنزيل: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام/ 148] ، لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل/ 35] يقولون ذلك في الآخرة، كما كانوا يقولونه في الدنيا، كما حكى الله تعالى عن المنافقين: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة/ 18] . وقيل معنى جوابهم: لو هدانا الله في الآخرة طريق النجاة من العذاب، لهديناكم: أي لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة، كما سلكنا بكم طريق الهلكة في الدنيا. فإن قيل: كيف اتّصل وارتبط القول سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا [الآية 21] بما قبله؟ قلنا: اتصاله به من حيث إن عتاب الضعفاء للذين استكبروا كان جزعا مما هم فيه وقلقا من ألم العذاب، فقال

لهم رؤساؤهم كما ورد في التنزيل سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) يريدون أنفسهم وإياهم، لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين عليها في الدنيا، كأنهم قالوا للضعفاء: ما هذا الجزع والتوبيخ، ولا فائدة فيه كما لا فائدة في الصبر، فإن الأمر أعظم من ذلك وأعمّ. فإن قيل: لم قال تعالى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ [الآية 22] عبر عنه بلفظ الماضي، وذلك القول من الشيطان لم يقع بعد، وإنما هو مترقّب منتظر، يقوله يوم القيامة؟ قلنا: يجوز وضع المضارع موضع الماضي، ووضع الماضي موضع المضارع إذا أمن اللبس، قال الله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة/ 102] أي ما تلت، وقال تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ [البقرة/ 91] . قال الحطيئة الشاعر: شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه ... أنّ الوليد أحقّ بالغدر فقوله تعالى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ نفي للّبس، وكذا قول الحطيئة «يوم يلقى ربه» ، وقوله تعالى: لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ لأن قضاء الأمر إنما يكون يوم القيامة. فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [الآية 27] وقد رأينا كثيرا من الظالمين هداهم الله بالإسلام وبالتوبة وصاروا من الأتقياء؟ قلنا: معناه أنه لا يهديهم ماداموا مصرّين على الكفر والظلم، معرضين عن النظر والاستدلال. الثاني: أن المراد منه، الظالم الذي سبق له القضاء في الأزل، أنه يموت على الظلم فالله تعالى يثبته على الضلالة لخذلانه، كما يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت وهو كلمة التوحيد. الثالث أن معناه: أن يضل المشركين عن طريق الجنة يوم القيامة. فإن قيل: لم قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ [الآية 30] والضلال والإضلال لم يكن غرضهم في اتّخاذ الأنداد وهي الأصنام، وإنّما عبدوها لتقرّ بهم إلى الله تعالى، كما حكى الله تعالى عنهم ذلك، بقوله: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزّمر/ 3] ؟ قلنا: قد شرحنا ذلك في سورة «يونس» عليه السلام، إذ قلنا هذه لام

العاقبة والصيرورة، وليست لام الغرض، والمقصود كما في قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص/ 8] وقول الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب وقول الآخر: فللموت تغذو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدّهر تبنى المساكن والمعنى فيه أنهم لما أفضى بهم اتخاذ الأنداد إلى الضلال، أو الإضلال، صاروا كأنهم اتّخذوها لذلك وكذا الالتقاط والولادة والبناء، ونظائره كثيرة في القرآن العزيز، وفي كلام العرب. فإن قيل: كيف طابق الأمر بإقامة الصلاة وإنفاق المال، وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال؟ قلنا: معناه قل لهم يقدّموا، من الصلوات والصدقة، متجرا يجدون ربحه يوم لا تنفعهم متاجر الدنيا من المعاوضات والصدقات التي يجلبونها بالهدايا والتحف، لتحصيل المنافع الدنيوية، فجاءت المطابقة. فإن قيل: لم قال تعالى: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) أي لا صداقة، وفي يوم القيامة خلال، لقوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) [الزخرف] ولقوله (ص) «المرء مع من أحبّ» ؟ قلنا: لا خلال فيه لمن لم يقم الصلاة ولم يؤدّ الزكاة فأما المقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة فهم الأتقياء، وبينهم الخلال يوم القيامة لما تلونا من الآية. فإن قيل: لم قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) ؟ والمسخّر للإنسان هو الذي يكون في طاعته يصرفه كيف شاء في أمره ونهيه كالدابة والعبد والفلك، كما قال تعالى: وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا [الزخرف/ 13] وقال تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف/ 32] وقال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ [الآية 32] ويقال فلان مسخّر لفلان إذا كان مطيعا له، وممتثلا لأوامره ونواهيه؟ قلنا: لما كان طلوعهما وغروبهما وتعاقب الليل والنهار لمنافعنا متّصلا مستمرّا، اتّصالا لا تنقطع علينا فيه المنفعة ولا تنخرم، سواء أشاءت هذه المخلوقات أم أبت، فقد أشبهت

المسخّر المقهور في الدنيا كالعبد والفلك ونحوهما. والثاني: أن معناه أنها مسخّرة لله لأجلنا ومنافعنا: فإضافة التسخير إلى الله تعالى: بمعنى أنه فاعل التسخير، وإضافة التسخير إلينا بمعنى عود نفع التسخير إلينا فصحّت الإضافتان. فإن قيل: لم قال تعالى: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ [الآية 34] والله تعالى لم يعطنا كل ما سألناه، ولا بعضا من كلّ فرد، ممّا سألناه؟ قلنا: معناه: وآتاكم بعضا من جميع ما سألتموه لا من كل فرد. فإن قيل: لا يصح هذا المحمل لوجهين: أحدهما: أنه لا يحسن الامتنان به. الثاني: أنه لا يناسبه قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [الآية 34] ؟ قلنا: إذا كان البعض الذي أعطانا هو الأكثر من جميع ما سألناه، وهو الأصلح والأنفع لنا في معاشنا ومعادنا، بالنسبة إلى البعض الذي منعه عنا لمصلحتنا أيضا، لا يحسن الامتنان به ويكون مناسبا لما بعده. وجواب آخر: عن أصل السؤال: أنه يجوز أن يكون قد أعطى جميع السائلين بعضا من كل فرد ممّا سأله جميعهم، وبهذا المقدار يصح الإخبار في الآية، وإن لم يعط كلّ واحد من السائلين بعضا من كلّ فرد ممّا سأله وإيضاح ذلك أن يكون هذا قد أعطي شيئا ممّا سأله ذاك، وأعطي ذاك شيئا مما سأله هذا على ما اقتضته الحكمة والمصلحة في حقّهما كما أعطي النبي (ص) الرؤية ليلة المعراج، وهي مسؤول موسى عليه السلام، وما أشبه ذلك. فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها والإحصاء والعدّ بمعنى واحد، كذا نقله الجوهري فيكون المعنى وإن تعدوا نعمة الله لا تعدوها، وهو متناقض كقولك: إن تر زيدا لا تبصره، إذ الرؤية والإبصار واحد؟ قلنا: بعض المفسّرين فسّر الإحصاء بالحصر، فإن صح ذلك لغة اندفع السؤال، ويؤيّد ذلك قول الزمخشري لا تحصوها: أي لا تحصروها ولا تطيقوا عدّها وبلوغ آخرها، وعلى القول الأول فيه إضمار تقديره: وإن تريدوا عد نعمة الله لا تعدوها.

فإن قيل: لم قال تعالى: لا تُحْصُوها، وهو يوهم أن نعم الله غير متناهية، وكل نعمة ممتنّ بها علينا فهي مخلوقة، وكل مخلوق متناه؟ قلنا: لا نسلّم أنه يوهم أنها لا تتناهى، وذلك لأن المفهوم منه منحصر في أنّا لا نطيق عددها أو حصر عددها، ويجوز أن يكون الشيء متناهيا في نفسه، والإنسان لا يطيق عدده، كرمل القفار وقطر البحار وورق الأشجار، وما أشبه ذلك. فإن قيل: لم قال إبراهيم عليه السلام كما ورد في التنزيل وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) وعبادة الأصنام كفر، والأنبياء معصومون عن الكفر بإجماع الأمّة، فكيف حسن منه هذا السؤال؟ قلنا: إنّما سأل هذا السؤال في حالة خوف أذهله عن ذلك العلم. لأن الأنبياء (ع) أعلم الناس بالله تعالى، فيكونون أخوفهم منه، فيكون معذورا بسبب ذلك. وقيل إن في حكمة الله تعالى وعلمه، أن لا يبتلي نبيا من الأنبياء بالكفر، بشرط أن يكون متضرّعا إلى ربه طالبا منه ذلك فأجرى على لسانه هذا السؤال لتحقيق شرط العصمة. فإن قيل: قال تعالى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [الآية 36] فجعل الأصنام مضلة والمضلّ ضار. وقال في موضع آخر: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [يونس/ 18] ونظائره كثيرة، فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا: إضافة الإضلال إليها مجاز بطريق المشابهة. ووجهه، أنهم، لمّا ضلوا بسببها، فكأنها أضلّتهم، كما يقال فتنتهم الدنيا وغرتهم: أي افتتنوا بسببها واغترّوا، ومثله قولهم: دواء مسهّل، وسيف قاطع، وطعام مشبع، وماء مرو، وما أشبه ذلك. ومعناه: حصول هذه الآثار بسبب هذه الأشياء، وفاعل الآثار هو الله تعالى. فإن قيل: لم قال تعالى: أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ [الآية 37] ولم يقل أفئدة الناس، وقوله قلوب الناس أظهر استعمالا من قوله قلوبا من الناس؟ قلنا: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، لو قال إبراهيم عليه السلام في دعائه «أفئدة الناس» ، لحجّت جميع الملل وازدحم عليه الناس، حتى لم

يبق لمؤمن فيه موضع، مع أن حج غير الموحّدين لا يفيد، والأفئدة هنا القلوب في قول الأكثرين، وقيل الجماعة من الناس. فإن قيل: إذا كان الله تعالى قد ضمن رزق العباد، فلم سأل إبراهيم عليه السلام الرزق لذرّيّته، فقال كما ورد في التنزيل: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [الآية 37] ؟ قلنا: الله تعالى ضمن الرزق والقوت الذي لا بد للإنسان منه ما دام حيّا، ولم يضمن كونه ثمرا أو حبّا أو نوعا معينا فالسؤال كان لطلب الثمر عينا. فإن قيل: قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [الآية 39] شكر على نعمة الولد، فكيف يناسبه بعده في الآية نفسها: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) ؟ قلنا: لمّا كان قد دعا ربّه لطلب الولد بالقول: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) [الصافّات] فاستجاب له ناسب قوله بعد الشكر: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) أي لمجيبه من قولهم: سمع الملك قول فلان إذا أجابه وقبله، ومنه قولهم في الصلاة «سمع الله لمن حمده» أي أجابه وأثابه. فإن قيل: لم قال تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [نوح/ 28] استغفر إبراهيم لوالديه وكانا كافرين، والاستغفار للكافرين لا يجوز، ولا يقال إن هذا موضع الاستثناء المذكور في قوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ [التوبة/ 114] ، لأن المراد بذلك استغفاره لأبيه خاصة، بقوله وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) [الشعراء/ 86] والموعدة التي وعدها إيّاه إنما كانت له خاصة، بقوله تعالى: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف/ 98] ولهذا قال الله تعالى: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة/ 4] ؟ قلنا: هذا الاستغفار لهما كان مشروطا بإيمانهما تقديرا، كأنه قال ولوالديّ إن آمنا. الثاني: أنه أراد بهما آدم وحوّاء صلوات الله عليهما، وقرأ ابن مسعود وأبي والنخعي والزهري رضي الله عنهم (ولولديّ) يعني إسماعيل وإسحاق، ويعضد هذه القراءة سبق ذكرهما، ولا إشكال على هذه القراءة، وقيل إن هذا الدعاء على القراءة المشهورة، وإلى ذلك أشير بقوله تعالى وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) [الشعراء] .

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"إبراهيم"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «إبراهيم» «1» قوله سبحانه: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وهذه استعارة. والمراد بها- والله أعلم- التذكير بأيام نقم الله التي أوقعها بالماضين، كعاد وثمود ومن جرى مجراهم. وهذا كقولنا: أيام العرب. وإنما تريد به الأيام التي كانت فيها الوقائع المشهورة والملاحم العظيمة. وقد يجوز أن تكون الأيام هاهنا عبارة عن أيام النعم، كما قلنا إنها عبارة عن أيام النقم. فيكون المعنى: فذكّرهم بالأيام التي أنعم الله فيها عليهم وعلى الماضين من آبائهم بوقم «2» الأعداء، وكشف اللّأواء «3» ، وإسباغ النعماء. ألا ترى أن أيام العرب التي هي عبارة عن الوقائع يكون فيها لبعضهم الظهور على بعض، فذلك من النّعم، وعلى بعضهم السوء والدائرة، وتلك من النقم؟ فالأيام إذن تذكرة لمن أراد التذكرة بالإنعام والانتقام. وقوله سبحانه: جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [الآية 9] وهذا استعارة، على وجه واحد من وجوه التأويلات التي حملت عليها هذه الآية. وذلك أنّ يكون المعنى ما ذهب إليه بعضهم من أنّ الأيدي هاهنا عبارة عن حجج الرسل عليهم السلام،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . وقم العدو: قهره وأذله، ووقم الرجل: ردّه عن حاجته أقبح ردّ. (3) . اللّأواء: ضيق المعيشة، وشدّة المرض.

والبيّنات التي جاءوا بها قومهم، وأكدّوا بها شرعهم. لأن بذلك يتم لهم السلطان عليهم والتدبير لهم، وقد سمّوا السلطان يدا في كثير من المواضع، فقالوا: ما لفلان على فلان يد، أي سلطان. ويقولون: قد زالت يد فلان الأمير إذا عزل عن ولايته، بمعنى زال سلطانه عن رعيته. ويقولون: أخذت هذا الأمر باليد، أي بالسلطان. فالحجج التي جاء بها الأنبياء أممهم قد تسمّى أيديا على ما ذكرناه، فلما وصف الكفار على هذا التأويل بأنهم ردّوا أيدي الأنبياء- عليهم السلام- في أفواههم، كان المراد بذلك ردّ حججهم من حيث جاءت، وطريق مجيئها أفواههم فكأنهم ردّوا عليهم أقوالهم، وكذّبوا دعواهم. وفي هذا التأويل بعد وتعسّف، إلا أننا ذكرناه لحاجتنا إليه، لمّا ذهبنا مذهب من حمل قوله سبحانه: بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ على الاستعارة لا على الحقيقة. فإذا حملت الآية على حقيقة الأيدي التي هي الجوارح كان المراد بها مختلفا فيه. فمن العلماء من قال: المراد بذلك أنهم كانوا يعضّون أناملهم تغيظا على الرسل عليهم السلام، كما يفعل المغيظ المحنق، والواجم المفكّر. وقال بعضهم: المراد بذلك أن المشركين أومئوا إلى أفواه الأنبياء، بالتسكيت لهم، والقطع لكلامهم. وقال بعضهم: بل المراد بذلك ضرب من الهزء يفعله المجّان والسفهاء، إذا أرادوا الاستهزاء ببعض الناس، وقصدوا الوضع منه، والإزراء عليه. فيجعلون أصابعهم في أفواههم ويتبعون هذا الفعل بأصوات تشبهه وتجانسه، يستدل بها على قصد السخف، وتعمد الفحش. وهذا عندي بعيد من السداد، وغيره من الأقوال أولى منه بالاعتماد. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك أن الكفار كانوا إذا بدأ عليهم الرسل بالكلام سدّوا بأيديهم أسماعهم دفعة، وأفواههم دفعة، إظهارا منهم لقلة الرغبة في سماع كلامهم وجواب مقالهم، ليدلّوهم- بهذا الفعل- على أنهم لا يصغون لهم إلى مقال، ولا

يجيبونهم عن سؤال، إذا قد أبهموا طريقي السماع والجواب، وهما الآذان والأفواه. وشاهد ذلك قوله سبحانه حاكيا عن نوح عليه السلام، يعني قومه: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) [نوح] فيكون معنى رد أيديهم في أفواههم على القول الذي قلنا، أن يمسكوا أفواههم بأكفهم، كما يفعل المظهر الامتناع عن الكلام. ويكون إنما ذكر تعالى ردّ الأيدي هاهنا- وهو يفيد فعل الشيء ثانيا بعد أن فعل أوّلا- لأنهم كانوا يكثرون هذا الفعل عند كلام الرسل عليهم السلام. فوصفوا في هذه الآية بما قد سبق لهم مثله، وألف منهم فعله، فحسن ذكر الأيدي بالرد على الوجه الذي أومأنا إليه. وأيضا فقد يقول القائل لغيره: أردد إليك يدك. بمعنى اقبضها وكفّها. لا يريد غير ذلك. وقوله سبحانه: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) . وهذه استعارة. لأن المقام لا يضاف إلّا الى من يجوز عليه القيام. وذلك مستحيل على الله سبحانه، فإذن المراد به يوم القيامة، لأن الناس يقومون فيه للحساب، وعرض الأعمال على الثواب والعقاب، فقال سبحانه في صفة ذلك اليوم: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) [المطفّفين] . وإنما أضاف تعالى هذا المقام إلى نفسه في هذا الموضع، وفي قوله: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) [الرحمن] لأن الحكم في ذلك اليوم له خالصا، لا يشاركه فيه حكم حاكم، ولا يحادّه أمر آمر. وقد يجوز أن يكون المقام هاهنا معنى آخر، وهو أن العرب تسمي المجامع التي تجتمع فيها لتدارس مفاخرها، وتذاكر مآثرها «مقامات» و «مقاوم» . فيجوز أن يكون المراد بالمقام هاهنا الموضع الذي يقصّ فيه سبحانه على بريّته محاسن أعمالهم، ومقابح أفعالهم، لاستحقاق ثوابه وعقابه، واستيجاب رحمته وعذابه. وقد يقولون: هذا مقام فلان ومقامته، على هذا الوجه، وإن لم يكن الإنسان المذكور في ذلك المكان قائما، بل كان قاعدا أو مضطجعا. ومن الشاهد على ذلك قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ

مِنْ مَقامِكَ [النمل/ 39] أي من مجلسك. سمّاه مقاما- مع ذكره أنّ سليمان عليه السلام كان جالسا فيه- لأنه قال: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ. وإنما سمّاه مقاما، لأن القاعد إذا قام بعد قعوده ففيه يكون قيامه. وهذا من غرائب القرآن الكريم. وقوله سبحانه: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) فهذه استعارة. لأن المراد بذلك لو كان الموت الحقيقي ولم يكن «1» سبحانه ليقول: وَما هُوَ بِمَيِّتٍ، وإنما المعنى أن غواشي الكروب، وحوازب الأمور تطرقه من كل مطرق، وتطلع عليه من كل مطلع. وقد يوصف المغموم بالكرب، والمضغوط بالخطب بأنه في غمرات الموت، مبالغة في عظيم ما يغشاه، وأليم ما يلقاه. وقوله سبحانه: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ [الآية 18] في هذه الآية استعارتان إحداهما قوله تعالى: اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ «2» . ... .... وقوله سبحانه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [الآية 37] . وهذه من محاسن الاستعارة. وحقيقة الهويّ النزول من علو إلى انخفاض كالهبوط. والمراد به هاهنا المبالغة في صفة الأفئدة بالنّزوع إلى المقيمين بذلك المكان. ولو قال سبحانه: تحنّ إليهم، لم يكن فيه من الفائدة ما في قوله سبحانه: تهوي إليهم، لأن الحنين قد يوصف به من هو مقيم في مكانه، والهوي يفيد انزعاج الهاوي من مستقرّه. وقوله تعالى: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وهذه استعارة. والمراد بها صفة قلوبهم بالخلوّ من عزائم الصبر والجلد، لعظيم الإشفاق والوجل. ومن عادة العرب أن يسمّوا الجبان يراعة جوفاء، أي ليس بين جوانحه قلب. وعلى ذلك قول جرير، يهجو قوما ويصفهم بالجبن:

_ (1) . هذه العبارة غير واضحة كما هي، والمقصود أن الموت هنا مجاز لا حقيقة، ولو كان الموت هنا حقيقة لم يكن سبحانه ليقول: (وما هو بميت) . ولعل الواو زائدة في قوله «ولم يكن» . (2) . هنا ورقة ضائعة من الأصل. من الآية 18 إلى الآية 37.

قل لخفيف القصبات الجوفان ... جيئوا بمثل عامر والعلهان «1» وإنما وصف الجبان بأنه لا قلب له، لأن القلب محل الشجاعة، وإذا نفي المحل فأولى أن ينتفي الحالّ فيه. وهذا على المبالغة في صفته بالجبن. ويسمون الشيء إذا كان خاليا «هواء» ، أي ليس فيه ما يشغله إلا الهواء. وعلى هذا قول الله سبحانه: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً [القصص/ 10] أي خاليا من التجلّد، وعاطلا من التصبّر. وقيل أيضا: إن معنى ذلك أنّ أفئدتهم منحرفة لا تعي شيئا، للرعب الذي دخلها، والهول الذي استولى عليها. فهي كالهواء الرقيق في الانحراف، وبطلان الضبط والامتساك. وقوله سبحانه: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) . وهذه استعارة على إحدى القراءتين. وهما: لتزول. بكسر اللام الأولى وفتح اللام الأخرى، ولتزول، بفتح اللام الأولى وضم الأخرى. وقرأنا بهذه القراءة للكسائي «2» وحده، وقرأنا لبقية السبعة القراءة الأولى. فمعنى القراءة الأولى أن يكون موضع «إن» فيها موضع نعم، لأنها قد ترد بهذا المعنى مثقلة: كقوله: [إنّ وراكبها] «3» . ويجوز أن ترد مخففة. لأنّ «إن» على أصلها قد تأتي مخففة ومثقلة. ويكون المعنى واحدا. وكذلك «أن» المفتوحة. قال الشاعر «4» : أكاشره وأعلم أن كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص وأراد «أنّ كلانا» فخفف. فإذا تقرر ذلك صار تقدير الكلام في الآية:

_ (1) . ورد هذا البيت في ديوان جرير هكذا: ويلكموا يا قصبات الجوفان ... جيئوا بمثل قعنب والعلهان (2) . الكسائي: هو علي بن حمزة الكوفي، أحد القراء السبعة. وإمام مدرسة في النحو واللغة مشهورة. وكان مؤدّبا للرشيد العباسي وابنه الأمين. توفي سنة 189 هـ بمدينة الري. (3) . هذا هو ما ردّ به ابن الزبير رضي الله عنه لمن قال له: لعن الله ناقة حملتني إليك. فقال ابن الزبير: إنّ وراكبها. أي: نعم! ولعن راكبها. وهو من شواهد كتب معاني الحروف. انظر «مغنى اللبيب» ج 1 ص 36. (4) . قيل هو عديّ بن زيد وقيل هو عمرو بن جابر الحنفي. راجع إميل يعقوب: المعجم المفصّل في شواهد اللغة العربية 4/ 123 ففيه إحالات إلى مظانّ عدّة. [.....]

ونعم كان مكرهم لتزول منه الجبال. وقد وردت هذه اللام في موضع ليس، لأن الخفيفة فيه تحمل «1» . قال الفرّاء «2» : سمعت العرب تقول: الكراء حينئذ لرخيص. ولم يقل: إنّ الكراء لرخيص. فيكون المراد: إنّ الجبال تزول من مكرهم استعظاما واستفظاعا، لو كانت ممّا يعقل الحال، ويقدر على الزوال. وهذه اللام هاهنا تومئ إلى معنى «تكاد» «3» ...

_ (1) . هنا الكلام ناقص، ولعل الناسخ أراد أن يكتب «لأن الخفيفة فيه تحمل محمل ما، وتكون اللام للجحود» . وعبارة القرطبي في هذا المقام واضحة دالة على الغرض، حيث يقول في الجزء 9 ص 380: (إن بمعنى ما. أي ما كان مكرهم لتزول منه الجبال. لضعفه ووهنه) . ثم زاد القرطبي خمسة مواطن في القرآن جاءت فيها «إن» بمعنى «ما» وهذا هو أحدها. (2) . الفرّاء هو يحيى بن زياد أبو زكريا إمام الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة والأدب. وكان فوق علمه باللغة والنحو فقيها متكلّما مفسّرا. وقد عهد إليه الخليفة المأمون بتربية ولديه. توفي سنة 207 هـ. وهناك فرّاء آخر اسمه الحسين بن مسعود البغوي اشتهر بالفقه والحديث والتفسير، وتوفي سنة 510 هـ وليس هو المقصود هنا، فقد ولد بعد وفاة الشريف الرضي بثلاثين عاما. (3) . هنا قطعة مفقودة من الكتاب تبلغ ورقة تقريبا.

سورة الحجر 15

سورة الحجر 15

المبحث الأول أهداف سورة"الحجر"

المبحث الأول أهداف سورة «الحجر» «1» سورة الحجر سورة مكّيّة. ومحور هذه السورة الأول هو إبراز المصير المخيف الذي ينتظر الكافرين المكذّبين. وحول هذا المحور يدور السياق في عدة جولات متنوعة الموضوع والمجال، ترجع كلها إلى ذلك المحور الأصيل، سواء في ذلك القصة، ومشاهد الكون ومشاهد القيامة، والتوجيهات والتعقيبات التي تسبق القصص، وتتخلله، وتعقّب عليه. وإذا كان جوّ سورة الرعد يذكر بجوّ سورة الأنعام، فإن جوّ هذه السورة، سورة الحجر، يذكّر بجوّ سورة الأعراف. لقد كان ابتداء سورة الأعراف بالإنذار ثم ورد فيها قصة آدم وإبليس، ويلي القصة عرض لبعض مشاهد الكون في السماوات والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، والرياح والسحاب، ويلي ذلك قصص قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى. وهنا، في سورة الحجر، يجيء الإنذار كذلك في مطلعها، ولكن ملفّعا بظلّ من التهويل: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) . ثم يعرض السياق بعض مشاهد الكون: السماء وما فيها من بروج، والأرض الممدودة، والرواسي

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

الراسخة، والنبت الموزون والرياح اللواقح، والماء والسّقيا، والحياة والموت والحشر للجميع. يلي ذلك قصة آدم وإبليس، منتهية بمصير أتباعه ومصير المؤمنين. ومن ثمّ لمحات من قصص ابراهيم ولوط وشعيب وصالح عليهم السلام، منظور فيها، إلى مصائر المكذّبين. ويمكن تقسيم سياق السورة هنا إلى عدة جولات، أو عدة مقاطع يتضمن كل منها موضوعا أو مجالا: تتضمن الجولة الأولى بيان سنّة الله تعالى التي لا تتخلف في الرسالة والإيمان بها والتكذيب، مبدوءة بذلك الإنذار الضمني الملفّع بالتهويل: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) . ومنهية بأن المكذّبين إنما يكذّبون عن عناد لا عن نقص في دلائل الإيمان، وأنهم جميعا من طراز واحد: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) . وتعرض الجولة الثانية بعض آيات الله في الكون، في السماء وفي الأرض وما بينهما وقد قدرت بحكمة، وأنزلت بقدر، وإلى الله مرجع كل شيء وكل أحد في الوقت المقدر المعلوم، حيث يقول سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) . وتعرض الجولة الثالثة قصة البشرية، وأصل الهدى والغواية في تركيبها وأسبابها الأصلية، ومصير الغاوين في النهاية والمهتدين، وذلك في خلق آدم (ع) من صلصال من حمأ مسنون، والنفخ من روح الله في هذا الطين. ثم غرور إبليس واستكباره وتولّيه الغاوين دون المخلصين. والجولة الرابعة في مصارع الغابرين من قوم لوط وشعيب وصالح، مبدوءة بقول الله سبحانه: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) . ثم يتتابع القصص يجلو رحمة الله مع ابراهيم ولوط، وعذابه لأقوام لوط وشعيب وصالح. أما الجولة الخامسة والأخيرة، فتكشف عن الحق الكامن في خلق السماوات والأرض الملتبس بالساعة

الآيات الكونية في سورة الحجر

وما بعدها من ثواب وعقاب، المتّصل بدعوة الرسول (ص) فهو الحق الأكبر الشامل للكون كله، والشامل للبدء والمصير. الآيات الكونية في سورة الحجر عرضت سورة الحجر لألوان المكابرة والعناد التي يلجأ إليها الكافرون ثم انتقلت إلى معرض الآيات الكونية مبدوءا بمشهد السماء فمشهد الأرض، فمشهد الرياح اللواقح بالماء، فمشهد الحياة والموت، فمشهد البعث والحشر. كل أولئك، آيات يكابر فيها المعاندون. قال تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) . إنه الخط الأول في اللوحة العريضة، لوحة الكون العجيب الذي ينطق بآثار اليد المبدعة، ويشهد بالإعجاز، ويكشف عن دقة التنظيم والتقدير كما يكشف عن عظمة القدرة على هذا الخلق الكبير. والبروج قد تكون النجوم والكواكب بضخامتها، وقد تكون منازل النجوم والكواكب التي تنتقل فيها بمدارها. وهي في كلتا الحالتين شاهدة بالقدرة وشاهدة بالدقة، وشاهدة بالإبداع الجميل. قال تعالى: وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) . وهي لفتة إلى جمال الكون، وبخاصة أن تلك السماء تشي بأن الجمال غاية مقصودة في خلق هذا الكون، فليست الضخامة وحدها وليست الدقة وحدها، إنما هو الجمال الذي ينظم المظاهر جميعا، وينشأ من تناسقها جميعا. وإنّ نظرة مبصرة إلى السماء في الليلة الحالكة، وقد انتثرت فيها الكواكب، والنجوم توصوص بنورها ثم تبدو كأنّما تخبو، ريثما تنتقل العين لتلبّي دعوة من نجم بعيد، ونظرة مثلها في الليلة القمرية والبدر حالم، والكون من حوله مهموم كأنما يمسك أنفاسه حتى لا يوقظ الحالم السعيد. إن نظرة واحدة شاعرة، لكفيلة بإدراك الحقيقة في الجمال الكوني، وعمق هذا الجمال في تكوينه، ولإدراك معنى هذه اللفتة العجيبة: وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) .

قصة آدم في سور البقرة والأعراف والحجر

والخط الثاني في اللوحة العريضة الهائلة، هو خط الأرض الممدودة أمام النظر، المبسوطة للخطو والسير، وما فيها من رواس وما فيها من نبت وأرزاق للناس، ولغيرهم من الأحياء. قال تعالى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) . إن ظل الضخامة واضح في السياق، فالإشارة في الأرض إلى الرواسي، ويتجسّم ثقلها في التعبير بقوله سبحانه: وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ. وإلى النبات موصوفا بأنه (موزون) وهي كلمة ذات ثقل، وإن كان معناها أن كل نبت في هذه الأرض في خلقه دقة وإحكام وتقدير. والآية الكونية هنا تتجاوز الآفاق إلى الأنفس، فهذه الأرض الممدودة للنظر والخطو، وهذه الرواسي الملقاة على الأرض تصاحبها الإشارة إلى النبت الموزون، ومنه إلى المعايش التي جعلها الله للناس في هذه الأرض، وهي الأرزاق المؤهّلة للعيش والحياة فيها، وهي كثيرة شتّى. وهذه الأرزاق، ككل شيء، مقدرة في علم الله تابعة لأمره ومشيئته، يصرّفها حيث يشاء وكما يريد، في الوقت الذي يريد، وفق سنّته التي ارتضاها وأجراها في الناس والأرزاق، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) . فما من مخلوق يقدر على شيء أو يملك شيئا، ولكن خزائن كلّ شيء مصادره وموارده عند الله سبحانه، في علاه، ينزله على الخلق في عوالمهم: بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) . فليس من شيء ينزل جزافا، وليس من شيء يتمّ اعتباطا، بل كلّ شيء يتم بحكمة العليم الخبير، وتقدير السميع البصير إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) [القمر] . قصة آدم في سور البقرة والأعراف والحجر ذكرت قصة آدم في القرآن مرتين من قبل، في سورة البقرة، وفي سورة الأعراف، ولكن مساقها في كل مرة كان لأداء غرض خاص في معرض خاص وفي جو خاص ومن ثم

اختلفت الحلقات التي تعرض منها في كل موضع، واختلفت طريقة الأداء. في سورة البقرة كانت نقطة التركيز استخلاف آدم (ع) في الأرض التي خلقها الله سبحانه للناس جميعا: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة/ 30] . ومن ثم عرض الأسرار في هذا الاستخلاف، وبين قدرة الإنسان على الاستنباط والاستنتاج وتمتّعه بالإرادة والاختيار، ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس واستكباره، وسكنى آدم وزوجه الجنة وإذلال الشيطان لهما عنها وإخراجهما منها، ثم الهبوط إلى الأرض للخلافة فيها بعد تزويده بهذه التجربة القاسية، واستغفاره وتوبة الله عليه. وفي سورة «الأعراف» ، كانت نقطة التركيز في السياق هي الرحلة الطويلة من الجنة وإليها، وإبراز عداوة إبليس للإنسان منذ بدء الرحلة إلى نهايتها، حتى يعود الناس مرة أخرى إلى ساحة العرض الأولى، ففريق منهم يعود إلى الجنة التي أخرج الشيطان أبويهم منها لأنهم عادوه وخالفوه، وفريق ينتكس إلى النار لأنه اتّبع خطوات الشيطان العدوّ اللدود ... ومن ثم عرض السياق حكاية سجود الملائكة، وإباء إبليس واستكباره، ثم إسكان آدم وزوجه الجنة يأكلان من ثمرها كلّه إلا شجرة واحدة، وهي رمز المحظور الذي تبتلى به الإرادة والطاعة ثم وسوسة الشيطان لهما بتوسع وتفصيل، وأكلهما من الشجرة وظهور سوآتهما لهما، وعتاب الله لآدم وزوجه، وإهباطهما إلى الأرض جميعا للعمل في أرض المعركة الكبرى. فأما هنا في سورة الحجر، فإن نقطة التركيز في السياق هي سر التكوين في آدم وسر الهدى والضلال، وعواملهما الأصلية في كيان الإنسان. ومن ثم نص ابتداء على خلق الله آدم من صلصال من حمأ مسنون، ونفخه فيه من روحه المشرق الكريم، وخلق الشيطان من قبل من نار السموم، ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس استنكافا من السجود لبشر من صلصال من حمأ مسنون، وطرد إبليس ولعنته وطلبه الانتظار إلى يوم البعث وإجابته، وفي هذه السورة، إشارة إلى أن إبليس الملعون قرر على نفسه أن ليس له سلطان على عباد الله

خلق الإنسان

المخلصين، إنما سلطانه على من يدينون له، ولا يدينون لله وانتهى السياق بمصير هؤلاء وهؤلاء في غير حوار ولا عرض ولا تفصيل تبعا لنقطة التركيز فيه، وقد استوفيت ببيان عنصري الإنسان، وبيان مجال سلطة الشيطان. خلق الإنسان تفيد الآيات الواردة في سورة الحجر أن الإنسان قد خلق: مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) . والصلصال: هو الطين اليابس الذي يصلصل أي يصوّت إذا نقر. والحمأ: هو الطين الذي تغيّر واسودّ من طول مجاورة الماء. المسنون: هو المصوّر أو المصبوب لييبس من سنّه إذا صبه، أي أن الإنسان مخلوق من طين يابس قد اختلط بالماء وصوّر على هيئة الإنسان ثم نفخ الله فيه من روحه فصار بشرا سويا. وتفيد آيات القرآن الأخرى، أن الله سبحانه خلق آدم (ع) من تراب ومن طين، ومن حمأ مسنون، ومن طين لازب، ومن صلصال كالفخّار، ومن عجل، ومن ماء مهين. قال مقاتل بن سليمان في تفسيره الكبير: «ويجمع بين هذه الآيات على أنها دليل على تدرّج الخلقة، فقد بدأ خلق آدم من أديم الأرض وهو التراب، ثم تحوّل التراب إلى طين، وتحوّل الطين إلى سلالة، ثم تغيّرت رائحة الطين فتحوّل إلى حمأ مسنون، ثم لصق فتحول الى طين لازب، ثم صار له صوت كصوت الفخّار، ثم نفخ فيه الروح فأراد أن ينهض قبل أن تتم الروح فيه فذلك قوله خلق الإنسان من عجل، ثم جعل ذريته من النطفة التي تنسل من الإنسان ومن الماء المهين وهو الضعيف» . الربع الأخير من سورة الحجر يتضمّن الربع الأخير من سورة الحجر نماذج من رحمة الله وعذابه ممثّلة في قصص إبراهيم (ع) وبشارته على الكبر بغلام عليم، ولوط (ع) ونجاته وأهله إلا امرأته من القوم الظالمين، وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر وما حل بهم من عذاب أليم. هذا القصص يساق بعد مقدمة، هي:

الحجر

نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) . فيجيء بعضه مصداقا لنبأ الرحمة، ويجيء بعضه مصداقا لنبأ العذاب، كذلك هو يرجع إلى مطالع السورة، فيصدق ما جاء فيها من نذير: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) . فهذه نماذج من القرى المهلكة بعد النذر، حلّ بها جزاؤها بعد انقضاء الأجل. الحجر سميت هذه السورة الحجر، إشارة إلى أصحاب الحجر وهم قوم صالح (ع) . والحجر تقع بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وهي ظاهرة إلى اليوم، فقد نحتوها في الصخر، في ذلك الزمان البعيد، ممّا يدلّ على القوّة والحضارة: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) . وهم لم يكذّبوا سوى رسولهم صالح. ولكن صالحا ليس إلّا ممثّلا للرسل أجمعين، فلمّا كذّبه قومه قيل: إنّهم كذّبوا المرسلين، توحيدا للرسالة وللرسل وللمكذّبين في كل أعصار التاريخ وفي كل جوانب الأرض، على اختلاف الزمان والمكان والأشخاص والأقوام: وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) . وآية صالح (ع) كانت الناقة. ولكن الآيات في هذا الكون كثيرة، والآيات في هذه الأنفس كثيرة. وكلها معروضة للأنظار والأفكار. وليست الخارقة التي جاءهم بها صالح هي وحدها الآية التي آتاهم الله. وقد أعرضوا عن آيات الله كلها. ولم يفتحوا لها عينا ولا قلبا، ولم يستشعرها فيهم عقل ولا ضمير: وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) . لقد اتّخذ قوم صالح بيوتا حصينة أمينة في صلب الجبال فأخذتهم الصيحة في وقت الصباح، وهم في ديارهم الحصينة آمنون، فإذا كل شيء

ذاهب، وإذا كل وقاية ضائعة، وإذا كل حصين واهن، ولم يبق لهم ممّا جمعوا وكسبوا، وممّا بنوا ونحتوا شيء يغني عنهم ويدفع الهلاك الخاطف. وهكذا تنتهي الحلقات الخاطفة من القصص في سورة الحجر محققة سنة الله تعالى في أخذ المكذّبين عند انقضاء الأجل المعلوم، فتتناسق نهاية هذا الشوط مع نهايات الأشواط السابقة في تحقيق سنة الله سبحانه التي لا تتخلّف ولا تحيد. وفي ختام السورة ذكر للسنن العامة التي لا تتخلف والتي تحكم الكون والحياة، وتحكم الجماعات والرسالات، وتحكم الهدى والضلال، وتحكم المصائر والحساب والجزاء والتي انتهى كل مقطع من مقاطع السورة بتصديق سنّة منها تلك السنن شاهد على الحكمة المكنونة في كل خلق من خلق الله وعلى الحقّ الأصيل الذي تقوم عليه طبيعة هذا الخلق. ومن ثمّ يعقب السياق في ختام السورة، ببيان هذا الحق الأكبر الذي يتجلى في طبيعة خلق السماوات والأرض وما بينهما، وطبيعة الساعة الآتية لا ريب فيها، وطبيعة الدعوة التي يحملها الرسول (ص) وقد حملها الرسل قبله. ويجمع بينها كلها في نطاق الحق الأكبر الذي يربطها ويتجلى فيها، ويبين أن الله جلّ جلاله هو الخلاق لهذا الوجود ولكل ما فيه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الحجر" تاريخ نزولها ووجه تسميتها

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحجر» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الحجر بعد سورة يوسف، ونزلت سورة يوسف بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الحجر في ذلك التاريخ أيضا. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لذكر قصة أصحاب الحجر فيها، وهم ثمود قوم صالح (ع) . وتبلغ آياتها تسعا وتسعين آية. الغرض منها وترتيبها يقصد من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن مثل السور السابقة، ولكنه يأخذهم فيها بالترهيب والتحذير ممّا حصل للمكذّبين قبلهم، وقد افتتحت بهذه الدعوى ومجادلتهم فيها، ثم انتقل السياق من هذا إلى ترهيبهم بذكر أخبار المكذّبين قبلهم. ثم ختمت بما يناسب هذا الغرض المقصود منها. إثبات تنزيل القرآن الآيات [1- 27] قال الله تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) فأقسم بهذه الحروف، على أن ما أنزله من آيات الكتاب والقرآن المبين، وحذرهم من تكذيبه بأنهم سيندمون عليه، ويودون لو كانوا مسلمين. ثم أمر النبي (ص) أن يدعهم في لهوهم حتى يأتي وقت عذابهم، وأخبره بأنه لم يهلك قرية من

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

ترهيب المشركين بأخبار المكذبين قبلهم الآيات [28 - 84]

القرى إلا في أجل معلوم، لا تتقدّم عنه ولا تتأخّر. ثم ذكر استهزاءهم بالقرآن وأنهم قالوا عن النبي (ص) إنه لمجنون، لأنه يدّعي أنه آية على نبوته. ثم طلبوا منه أن يأتيهم بالملائكة إن كان من الصادقين. وقد ردّ عليهم النبي (ص) بأن الله لا ينزل الملائكة إلا بالعذاب، فإذا نزلوا به لا يمهلونهم، وبأنه سبحانه هو الذي نزّل القرآن وتولى حفظه مما حصل في الكتب المنزلة قبله، ثم ذكر تعالى للنبي (ص) أنه قد استهزئ بالرسل من قبله كما استهزئ به، ليصبر على استهزائهم به وطعنهم فيه، وأنه كذلك يسلك القرآن في قلوب المجرمين ليعاقبهم عليه كما عاقب المكذّبين الأولين، ثم رد عليهم بأنه لو فتح عليهم بابا من السماء فظلوا يعرجون فيه، لزعموا أن هذا سحر ولم يؤمنوا به. ثم انتقل السياق من هذا إلى إثبات قدرته جل جلاله على ما يقترحون من الآيات، فذكر أنه سبحانه هو الذي جعل في السماء بروجا وزيّنها للناظرين إلخ، وأنه مدّ الأرض وألقى فيها رواسي وأنبت فيها من كلّ شيء موزون إلخ، وأنه أرسل الرياح لواقح فأنزل من السماء ماء فأسقاهموه وما هم له بخازنين إلخ، وأنه يحيي ويميت، وهو الوارث الباقي، وأنه يعلم المستقدمين منهم والمستأخرين: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) . ترهيب المشركين بأخبار المكذّبين قبلهم الآيات [28- 84] ثم قال تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) ، فذكر قصة آدم (ع) حين خلقه وأمر الملائكة بالسجود له، وأنّ إبليس كذّب وعصى فعوقب بما عوقب به من الطرد واللعن وقد سبقت هذه القصة في سورتي البقرة والأعراف ولكنها، هنا، تخالف ما سبق في سياقها وأسلوبها، وما فيها من زيادة ونقص. ثم ذكر قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام، وقد سبقت قصتهما في سورة هود وغيرها، والفرق بينها في هذه المواضع كالفرق السابق في قصة آدم (ع) . ثم ذكر قصة أصحاب الأيكة وهم

الخاتمة الآيات [85 - 99]

قوم شعيب (ع) ، وقد سبقت قصتهم في سورة هود وغيرها، والفرق بينها في هذه المواضع كالفرق السابق في قصة آدم. ثم ذكر قصة أصحاب الحجر وهم قوم صالح (ع) ، وقد سبقت قصتهم في سورة هود وغيرها، والفرق بينها في هذه المواضع كالفرق السابق في قصة آدم وقد ذكر في آخرها، أنه أهلكهم بالصيحة مصبحين: فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) . الخاتمة الآيات [85- 99] ثم قال تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) فذكر أنه لا بد من أن يعاقب أولئك المشركين كما عاقب أولئك الأولين، لأنه لم يخلق ما خلقه عبثا، ثم أمر النبي (ص) أن يصفح عن استهزائهم، وأخبره بأنه سبحانه هو الخلاق العليم ليفوّض أمره إليه، ثم نوّه بشأن القرآن الذي يكذّبون به، فذكر أنه آتاه سبعا من المثاني والقرآن العظيم، ونهاه أن يمدّ عينيه إلى أموالهم أو يحزن عليهم، وأمره أن يخفض جناحه لمن آمن به، وأن يخبرهم بأنه هو النذير المبين، كما أنزل من الإنذار على المقتسمين، وهم الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عنه، وجعلوا القرآن عضين بعضه سحر، وبعضه شعر، وبعضه أساطير الأولين، ثم أقسم أنه سيسألهم أجمعين عما كانوا يعملون، وأمره أن يجهر بما أمر أن يبلّغه لهم، وأن يعرض عنهم فلا يقابل استهزاءهم بمثله، ووعده أن يكفيه المستهزئين منهم ثم ذكر له أنه يعلم أن صدره يضيق بما يقولون في حقه، وأمره بما يشرح صدره ويصبره على أذاهم، فقال: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الحجر"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحجر» «1» أقول: تقدّمت الأوجه في اقترانها بالسورة السابقة. وإنما أخرت عنها لقصرها بالنسبة إليها، وهذا القسم من سور القرآن للمئين، فناسب تقديم الأطول، مع مناسبة ما ختمت به لبراعة الختام، وهو قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) . فإنه مفسر بالموت «2» . وقد وقع ذلك في أواخر السور المقترنة. ففي آخر آل عمران: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) وفي آخر الطواسين: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) [القصص] وفي آخر ذوات (الر) : وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) [السجدة] . وفي آخر الحواميم: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الأحقاف/ 35] . ثم ظهر لي وجه اتصال أول هذه السورة بآخر سورة إبراهيم، فإنه تعالى لما قال هناك في وصف يوم القيامة: وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) . قال هنا: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) فأخبر أن المجرمين المذكورين إذا طال مكثهم في النار، ورأوا عصاة المؤمنين

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . أخرجه البخاري من سالم: 6/ 102، والمعنى ونفسه أخرجه البخاري في الجنائز، وأحمد في المسند: 6/ 436.

الموحّدين قد أخرجوا منها، تمنّوا أن لو كانوا في الدنيا مسلمين، وذلك وجه حسن في الربط، مع اختتام آخر تلك بوصف الكتاب، وافتتاح هذه به «1» ، وذلك من تشابه الأطراف.

_ (1) . ختام إبراهيم: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) وافتتاح هذه: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) فكأنهما متصلتان.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الحجر"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الحجر» «1» 1- لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ [الآية 44] . قال عبد الرزاق «2» : أخبرنا معمر «3» ، عن الأعمش «4» : أسماء أبواب جهنّم: الحطمة، والهاوية ولظى، وسقر، والجحيم، والسّعير، وجهنّم. وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن ابن عباس، وزاد في الهاوية: وهي أسفلها. 2- لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) . قال الضّحّاك: باب لليهود، وباب للنصارى، وباب للصابئين، وباب للمجوس، وباب للذين أشركوا- وهم كفّار العرب- وباب للمنافقين، وباب لأهل التوحيد. أخرجه ابن أبي حاتم. 3- وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ [الآية 67] . هي سدوم «5» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري (126- 211 هـ) : من حفّاظ الحديث، من أهل صنعاء. كان يحفظ نحو سبعة عشر ألف حديث. له «تفسير القرآن» لا يزال مخطوطا و «المصنف» . في (11) جزءا، وهو آثار مسندة، مرتّبة على الأبواب الفقهية. (3) . معمر بن راشد: ثقة ثبت فاضل، إلا أن في روايته عن الأعمش شيئا. مات سنة (154 هـ) . (4) . الأعمش: سليمان بن مهران، ثقة حافظ ورع، عارف بالقراءة، توفي سنة (147 هـ) أو (148 هـ) على قولين. (5) . سدوم: مدينة من مدائن قوم لوط. وقال أبو حاتم في كتاب «المزال والمفسد» : إنما هو سذوم، بالذال المعجمة، قال والدال خطأ. قال الأزهري: وهو الصحيح، وهو أعجمي. وذكر الميداني في كتابه «الأمثال» أن سدوم هي سرمين بلدة من أعمال حلب، معروفة عامرة عندهم، «معجم البلدان» لياقوت الحموي 3/ 200.

4- سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الآية 87] . قال الرسول (ص) : هي الفاتحة، أخرجه البخاري «1» وغيره. وقال ابن عباس: السبع الطّول «2» . أخرجه الفريابي. وقال سعيد بن جبير، ومجاهد: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف ويونس. وقال سفيان، بعد الأعراف: وبراءة، والأنفال سورة واحدة، أخرج ذلك ابن أبي حاتم. 5- الْمُقْتَسِمِينَ (90) . قال ابن عباس: اليهود والنصارى، أخرجه ابن أبي حاتم. 6- الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) . قال سعيد بن جبير: هم خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل السّهمي، وأبو زمعة، والحارث بن الطّلاطلة «3» ، والأسود بن عبد يغوث. أخرجه ابن أبي حاتم «4» وأخرج عن عكرمة مثله، وسمّى الحارث بن قيس السّهمي.

_ (1) . برقم (4474) في التفسير عن أبي سعيد بن المعلى بلفظ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) هو السبع المثاني والقرآن العظيم «الذي أوتيته» [.....] (2) . السبع الطّول: هي السور المذكورة في رواية سعيد بن جبير التالية وأثر ابن عباس أخرجه أيضا الطبراني ورجاله رجال الصحيح، «مجمع الزوائد» 7/ 46. (3) . «سيرة ابن هشام» 1/ 409. و (الطلاطلة) لغة: الداهية، وقيل: هي اسم أمه، والذي في «السيرة الشامية» : أن اسمه مالك، وأن الطلاطلة أبوه. ووقع اسمه «الحارث بن قيس» في «الإتقان» 2/ 147. (4) . والطّبراني في «الأوسط» عن ابن عباس، وفيه محمد بن عبد الحكيم النيسابوري قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 47: لم أعرفه.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الحجر"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحجر» «1» 1- قال تعالى: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) . أقول: عوملت «الأمة» في الآية على وجهين، الأول أنها مؤنث، بدلالة التاء في الفعل الذي يسبقها، والثاني جمع مذكّر، بدلالة الفعل بعدها «يستأخرون» . وهذا من باب مراعاة اللفظ أولا، ومراعاة المعنى ثانيا. ومثل هذا له نظائر في لغة القرآن. 2- وقال تعالى: لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) . «لو» ركّبت مع «لا» و «ما» لمعنيين: معنى امتناع الشيء لوجود غيره، ومعنى التحضيض، وأمّا «هل» فلم تركب إلّا مع «لا» وحدها للتحضيض، قال ابن مقبل: لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري والمعنى: هلّا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك، ويعضدونك على إنذارك، كقوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) [الفرقان] . أقول: «لولا» و «لو ما» من أدوات التحضيض من مواد العربية القديمة، التي لا نشعر بوجودها في اللغة المعاصرة، ولا سيما «لو ما» . 3- وقال تعالى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

وقوله تعالى: نَسْلُكُهُ من سلكت الخيط في الإبرة، وأسلكته إذا أدخلته فيها، ونظمته. وقرئ: نسلكه، للذكر، أي: مثل ذلك السلك، ونحو: نسلك الذكر في «قلوب المجرمين» على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذّبا مستهزئا به غير مقبول. أقول: على أننا نعرف السلك في عصرنا لضرب من الخيط المعدني، إلا أننا لا نعرف الفعل «سلك» المتعدّي بمعنى أدخل السلك «الخيط» في الإبرة، فالسلك في عصرنا غير السلك أي الخيط. فأما الفعل «سلك» في عصرنا فهو متعد وقاصر، فتقول من الأوّل سلكت السبيل المستقيم، ومن الثاني سلك الرجل سلوكا مقبولا. 4- وقال تعالى: لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا [الآية 15] . وقوله تعالى: سُكِّرَتْ أي: حيّرت أو حبست من الإبصار، من السّكر أو السّكر. وقرئ بالتخفيف «سكرت» بالتخفيف، أي حبست كما يحبس النهر من الجري، وقرئ: «سكرت» من السّكر، أي حارت كما يحار السكران. والذي قرأ بالتخفيف هو الحسن وفسرها: سحرت. وقال أبو عمرو بن العلاء: معناها غطّيت وغشّيت، وقيل: معناها سدّت بالسحر. وقال أبو عمرو بن العلاء: سكّرت أبصارنا، مأخوذ من سكر الشراب، كأنّ العين لحقها ما يلحق شارب المسكر إذا سكر. وقال أبو عبيدة: سكّرت أبصار القوم إذا دير بهم وغشيهم كالسمادير فلم يبصروا، وقال الفرّاء: معناه حبست ومنعت من النظر. أقول: وقولهم: حبست من الإبصار من السّكر كما يحبس النهر من الجري، هو المعنى الكثير في هذه المادة، وما زال يقام لحبس مجرى صغير أو كبير يدعى «سكرا» في لهجة الفلاحين في جنوبي العراق. وقوله طائفة من العرب في عصرنا بلهجتهم الدارجة «سكّر الباب» أي سدّه وأغلقه.

وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) . قالوا: «مسنون» بمعنى متغيّر. وقال الزمخشري: بمعنى مصوّر، كأنه أفرغ الحمأ، فصوّر منه تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر، صلصل. أقول: إن قول من قال: إن «المسنون» المتغيّر، كأنه أدرك أن «المسنون» جاءت عليه «السنون» فغيرته! 6- وقال تعالى: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) . الإنظار بمعنى الإمهال، وهذا يعني أن زيادة الهمزة أفادت خصوصية دلالية ليست في الأصل «نظر» . وجوابه سبحانه وتعالى على سؤال إبليس: قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) [الأعراف/ 15] . 7- وقال تعالى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) . أريد أن أشير إلى أن كلمة «ضيف» من الأسماء التي تكون مفردا وجمعا، وهي في كلام الله قد وردت جمعا في آيات عدة. على أن من المفيد أن نشير إلى أن «الضيف» في العربية المعاصرة، يدل على الإفراد، وجمعه ضيوف وأضياف. 8- وقال تعالى: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) . أريد ب «الغابرين» الباقين في المدينة، أي قضى أن يهلكها كما يهلك الآخرين من أهل المدينة. أقول والفعل غبر قد مرّ بنا، وأشرنا إليه بما فيه الكفاية، ولكننا عدنا ثانية لنشير إلى هذا المعنى وهو البقاء والمكوث. 9- وقال تعالى: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) . أصحاب الأيكة هم قوم شعيب (ع) ، «وإنهما» يعني قوم لوط (ع) والأيكة. وقيل: الضمير للأيكة ومدين، لأنّ شعيبا كان مبعوثا إليهما، فلما ذكر الأيكة دلّ بذكرها على مدين فجاء بضميرهما. وقوله تعالى: لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)

أي: لطريق واضح. والإمام اسم لما يؤتم به فسمي به الطريق، ومطمر البناء واللوح الذي يكتب فيه، لأنه ممّا يؤتمّ به. أقول: دلالة الإمام معروفة، وهو الرجل الذي يؤتمّ به في الصلاة، أو من يتّخذ قائدا، ومرشدا، ودليلا، فصاحب المذهب، الذي يتمذهب به جماعة، إمام لهم، والخليفة إمام، والرئيس إمام. وكذلك يقال: المصحف الإمام، وهو المصحف الذي انتهى إليه عثمان بن عفان، ونسخت به كل المصاحف الأخرى. و «الكتاب» الإمام وصفا ونعتا على المدح ل «كتاب» سيبويه. 10- وقال تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) . أي: لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمنّ له. والخطاب إلى الرسول (ص) أي: أنه قد أوتي النعمة العظمى، وهي القرآن العظيم فلا تمدّنّ عينيك إلى متاع الدنيا. أقول: ومدّ العين لمعنى طموح البصر من المجاز البديع، الذي قلّما يرد في نثر المعربين في عصرنا، ولعله موجود في مجازات اللهجة العامية في العراق. وأمر اللغة عجيب فقد تلقى من فرائدها ولآلئها ما هو في نثر العامة ولا تلقاه في الفصيح. وقوله تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) استعارة جميلة، يراد بها أن يتواضع الرسول لمن معه من الفقراء المؤمنين وضعفائهم، وأن يطيب نفسا عن إيمان الأغنياء والأقوياء. 11- وقال تعالى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) . المقتسمون: هم أهل الكتاب الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) ، فقد كانوا يقتسمون القرآن استهزاء فيقول بعضهم: سورة البقرة لي، ويقول الآخر: سورة آل عمران لي، ويجوز أن يراد ب «القرآن» ما يقرءونه من كتبهم، وقد اقتسموه بتحريفهم. وقوله تعالى: عِضِينَ أي: أجزاء، جمع عضة، وأصلها عضوة «فعلة» من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء، قال رؤبة:

وليس دين الله بالمعضيّ وقيل: هي فعلة، من عضهته إذا بهتّه. أقول: وقد وردت «عضة» في كتب النحو في باب ما يجمع جمع مذكر سالما، وليس منه، وذلك جملة أسماء بعضها مؤنث وبعضها غير عاقل، وهي: مائة، وسنة، وفئة، وقلة، وكرة، ورئة، وابن، ووابل، وأرض، وعالم، وذو، وغير هذا. وهي في حقيقة الأمر جموع بالواو والنون، ولعلّها تدلّ على أن هذا الجمع كان عامّا قبل أن يتقيّد بالعلم المذكّر العاقل الخالي من التاء والتركيب، وصفة العلم المذكر العاقل الخالية من التاء، ولا من باب فعلان فعلى ... وعلى هذا، فما نجده في اللغة مما ليس فيه الشروط المطلوبة، فهو من البقايا اللغوية القديمة.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الحجر"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحجر» «1» في قوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا تدخل مع «ربّ» «2» «ما» ليتكلّم بالفعل بعدها. وإن شئت جعلت (ما) بمنزلة «شيء» فكأنّك قلت: «وربّ شيء يودّ» أي «ربّ ودّ يودّه الذين كفروا» «3» وفي قوله سبحانه: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ [الآية 18] استثناء خارج كما قال «ما أشتكي إلا خيرا» يريد «أذكر خيرا» . وقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الآية 22] . كأن الرياح لقحت لأن فيها خيرا، فقد لقحت بخير أي اتّصفت بالفاعليّة. وقال بعضهم «الرّياح تلقح السّحاب» فقد يدل على ذلك المعنى، لأنها إذا أنشأته وفيها خير، وصل ذلك إليه. وقوله تعالى: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي [الآية 39] أي: «بإغوائك إيّاي» لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ [الآية 39] على القسم كما تقول: «بالله لأفعلنّ» . وقوله تعالى: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) لأنه من «جزّأته» و «منهم» يعني: من الناس. وقوله تعالى: قالُوا لا تَوْجَلْ [الآية

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . النص المثبت في المصحف الشريف ورد بباء غير مشدّدة في قوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا. (3) . نقله في المشكل 1/ 409، وزاد المسير 4/ 380، وإعراب القرآن 2/ 549، والبحر 5/ 442.

53] من «وجل» «يوجل» وما كان على «فعل» ف «هو يفعل» تظهر فيه الواو ولا تذهب كما تذهب من «يزن» لأنّ «وزن» «فعل» وأمّا بنو تميم فيقولون: «تيجل» «1» لأنّهم يقولون في فعل «تفعل» فيكسرون التاء في «تفعل» والألف من «أفعل» والنون من «تفعل» ولا يكسرون الياء لأنّ الكسر من الياء، فاستثقلوا اجتماع ذلك. وقد كسروا الياء في باب «وجل» لأنّ الواو قد تحوّلت الى الياء مع التاء والنون والألف. فلو فتحوها استنكروا الواو، ولو فتحوا الياء لجاءت الواو، فكسروا الياء فقالوا «ييجل» ليكون الذي بعدها ياء إذ كانت الياء أخف مع الياء من الواو مع الياء، لأنه يفرّ الى الياء من الواو ولا يفرّ الى الواو من الياء. قال بعضهم (ييجل) فقلبها ياء وترك التي قبلها مفتوحة كراهة اجتماع الكسرة والياءين. وفي قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ [الآية 66] «أنّ دابر» بدل من «الأمر» . وقوله سبحانه: قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ [الآية 56] من «قنط يقنط» «2» مثل «علم يعلم» وقال بعضهم «يقنط» مثل «يقتل» «3» ، وقال بعضهم «يقنط» .. مثل «ينزل» «4» . وقوله تعالى: إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ استثناء من المجرمين أي لا يدخلون في الاجرام. وفي قوله سبحانه: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي [الآية 72] يعني ب لَعَمْرُكَ- والله أعلم

_ (1) . اللهجات العربية 459. (2) . في الطبري 13/ 40 الى عامة قراء المدينة والكوفة، وفي السبعة 367 الى ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة، وفي الكشف 2/ 31 والتيسير 136 الى غير أبي عمرو والكسائي، وفي البحر 5/ 459 إلى السبعة غير النحوي والأعمش. (3) . في الشواذ 71 نسبت إلى يحيى بن يعمر والأشهب العقيلي وأبي عمرو وعيسى، وفي المحتسب 2/ 5 إلى الأشهب وحده، وفي البحر 5/ 459 زاد عليه زيد بن علي. (4) . في الطبري 14/ 40 نسبت إلى أبي عمرو بن العلاء والأعمش والكسائي، وفي السبعة 367 والكشف 2/ 31، والتيسير 136، أسقط الأعمش، وذكره في البحر 5/ 459 معهما.

- و «وعيشك» يريد به العمر «5» و «العمر» و «العمر» لغتان. وقوله تعالى: عِضِينَ (91) وهو من «الأعضاء» وواحده «العضة» مثل «العزين» واحده «العزة» . وقوله سبحانه: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) أي: عليّ دلالته. نحو قول العرب «عليّ الطريق الليلة» أي: علي دلالته.

_ (5) . نقله في التهذيب 2/ 382 «عمر» .

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الحجر"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحجر» «1» إن قيل: لم قالوا كما ورد في التنزيل: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) . اعترفوا بنبوّته، إذ الذكر هو القرآن الذي نزل عليه، ثم وصفوه بالجنون؟ قلنا: إنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية لا تصديقا واعترافا، كما روى القرآن الكريم أيضا، حكاية على لسان فرعون لقومه: قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) [الشعراء] ، وكما روى القرآن الكريم حكاية على لسان قوم شعيب (ع) : إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) [هود] ونظائره كثيرة. الثاني: أن فيه إضمارا تقديره: يا أيها الذي تدّعي أنك نزل عليك الذكر. فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) والوارث هو الذي يتجدّد له الملك بعد فناء المورث، والله تعالى إذا مات الخلائق لم يتجدد له ملك، لأنه لم يزل مالكا للعالم بجميع ما فيه ومن فيه؟ قلنا: الوارث في اللغة عبارة عن الباقي بعد فناء غيره، سواء أتجدد له من بعده ملك أو لا، ولهذا يصحّ أن يقال لمن أخبر أن زيدا مات وترك ورثة: هل ترك لهم مالا أو لا؟ فيكون معنى الآية: ونحن الباقون بعد فناء الخلائق. الثاني أن الخلائق لمّا كانوا يعتقدون أنهم مالكون يسمون بذلك أيضا، إما مجازا أو خلافة عن الله تعالى، كالعبد المأذون المكاتب،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

ويدل عليه قوله تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ [آل عمران/ 26] فإذا مات الخلائق كلّهم سلمت الأملاك كلّها لله تعالى عن ذلك القدر من التعلّق، فبهذا الاعتبار كانت الوراثة، ونظير هذا قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر/ 16] والملك له سبحانه أزلا وأبدا. فإن قيل: قوله تعالى فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) دلّ على الشمول والاحاطة وأفاد التوكيد، فما الحكمة في قوله سبحانه: كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) . قلنا: قال سيبويه والخليل: هو توكيد بعد توكيد، فيفيد زيادة تمكين المعنى وتقريره في الذهن، ولا يكون تحصيل الحاصل بل تكون نسبة «أجمعون» كنسبة «كلّهم» إلى أصل الجملة. وقال المبرد: قوله تعالى: أَجْمَعُونَ يدل على اجتماعهم في زمان السجود، وكلهم يدل على حصول السجود من الكلّ، فكأنه قال: فسجد الملائكة كلّهم معا في زمان واحد. واختار ابن الأنباري هذا القول، واختار الزجّاج وأكثر الأئمة قول سيبويه، وقالوا: لو كان الأمر كما زعم المبرّد لكان «أجمعون» حالا لوجود حدّ الحال فيه وليس بحال لأنه مرفوع، ولأنه معرفة، كسائر ألفاظ التوكيد. فإن قيل: ما وجه ارتباط قوله تعالى وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) بما قبله من قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي [الآية 49] ؟ قلنا: لمّا أنزل الله عز وجل نَبِّئْ عِبادِي ولم يعيّن أهل المغفرة وأهل العذاب، غلب الخوف على الصحابة رضي الله عنهم، فأنزل الله تعالى بعد ذلك قصّة ضيف إبراهيم (ع) ليزول خوف الصحابة وتسكن قلوبهم فإنّ ضيف إبراهيم عليه السلام جاءوا ببشارة للولي وهو ابراهيم، وبعقوبة للعدوّ، وهم قوم لوط (ع) وكذلك تنزل الآيتان المتقدّمتان على الولي والعدو لا على الولي وحده. ووجه الارتباط كذلك، أنّ العبد، وإن كان كثير الذنوب والخطايا، غير طامع في المغفرة، فانه لا يبعد أن يغفر الله تعالى له على يأسه، كما رزق إبراهيم الولد على يأسه، بعد ما شاخ وبلغ مائة سنة أو قريبا منها. فإن قيل: لم قال تعالى على لسان

الملائكة قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) أي قضينا والقضاء لله تعالى لا لهم؟ قلنا: إسناد التقدير للملائكة مجاز، كما يقول خواصّ الملك: دبّرنا كذا وأمرنا بكذا ونهينا عن كذا، ويكون الفاعل لجميع ذلك هو الملك وليس هم، وإنما يظهرون بذلك مزيد قربهم واختصاصهم بالملك. فإن قيل لم قال تعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) . وأصحاب الحجر قوم صالح، والحجر اسم واديهم أو مدينتهم على اختلاف القولين، وقوم صالح لم يرسل إليهم غير صالح فكيف يكذّبون المرسلين؟ قلنا: من كذّب رسولا واحدا فكأنما كذب الكل، لأن كل الرسل متفقون في دعوة الناس إلى توحيد الله تعالى. فإن قيل: لم قال تعالى هنا فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) ، وقال في سورة الرحمن: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) ؟ قلنا الجواب عنه من وجهين: أحدهما قد ذكرناه في مثل هذا السؤال في سورة هود. والثاني أن المراد هنا، أنّهم يسألون سؤال توبيخ وهو سؤال: لم فعلتم؟ أو المراد: أنهم لا يسألون سؤال استعلام واستخبار وهو سؤال: هل فعلتم، أو يقال: إن في يوم القيامة مواقف، ففي بعضه يسألون، وفي بعضها لا يسألون، وتقدّم نظيره.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الحجر"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحجر» «1» قوله سبحانه: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) . وهذه استعارة. والمراد بها صفتهم بالتردّد في غيهم، والتسكّع في ضلالهم. فشبّه تعالى المتلدّد «2» في غمرات الغيّ، بالمتردّد في غمرات السّكر. وقوله سبحانه: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وهذه استعارة. والمراد بها: ألن كنفك لهم، ودم على لطفك بهم. وجعل سبحانه خفض الجناح، هاهنا، في مقابلة قول العرب إذا وصفوا الرجل بالحدّة عند الغضب: قد طار طيره، وقد هفا حلمه وقد طاش وقاره فإذا قيل: قد خفض جناحه، فإنما المراد به وصف الإنسان بلين الكنف، والكظم عند الغضب. وذلك ضد وصفه بطيرة المغضب، ونزوة المتوثّب. وقوله سبحانه: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون المعنى أنهم جعلوا القرآن أقساما مجزّأة، كالأعضاء المعضّاة «3» فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض. وقيل: جعلوه أقساما، بأن قالوا هو سحر وكهانة وكذب وإحالة. وأما التأويل الآخر في معنى

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....] (2) . المتلدد في المكان: المتلبث به. أو المتحيّر المتلفّت يمينا وشمالا. (3) . المعضّاة: أي المجزّأة المقسّمة.

«عضين» فيخرج به اللفظ عن أن يكون مستعارا، وذلك أن يكون معناها على ما قاله بعض المفسّرين معنى الكذب. قال: وهو جمع عضة، كما كان في القول الأول، إلا أن العضة هاهنا معناها الكذب والزور، وفي القول الأول معناها التجزئة والتقسيم. وقد ذكر ثقات أهل اللغة في العضة وجوها. فقالوا العضة النميمة، والعضة الكذب، وجمعه عضون. مثل عزة وعزون، والعضة السّحر، والعاضه الساحر. وقد يجوز أن يكون جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) جمع عضة، من السحر. أي جعلوه سحرا وكهانة، كما قال سبحانه حاكيا عنهم إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) [المدّثّر] وإِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) ( [الأنعام، هود/ 7، سبأ/ 43، الصافات/ 15] . وقوله سبحانه: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) . وهذه استعارة. لأن الصّدع على الحقيقة إنّما يصح في الأجسام لا في الخطاب والكلام. والفرق، والصدع، والفصل، في كلامهم بمعنى واحد. ومن ذلك قولهم للمصيب في كلامه: قد طبّق المفصل. ويقولون: فلان يفصل الخطاب. أي يصيب حقائقه، ويوضح غوامضه. فكأن المعنى في قوله سبحانه: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أي أظهر القول وبيّنه في الفرق بين الحق والباطل. من قولهم صدع الرّداء، إذا شقّه شقّا بيّنا ظاهرا. ومن ذلك صدع الزجاجة. إذا استطار فيها الشق، واستبان فيها الكسر. وإنما قال سبحانه: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ولم يقل: فبلّغ ما تؤمر، لأن الصدع هاهنا أعمّ ظهورا وأشدّ تأثيرا. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك- والله أعلم- أن بالغ في إظهار أمرك، والدعاء إلى ربك، حتى يكون الدين في وضح الصبح، لا يشكّك نهجه، ولا يظلم فجه. مأخوذا ذلك من «1» «الصّديع» لشأنه ووضوح إعلانه.

_ (1) . الصديع: الصبح. سمّي بذلك، لانصداعه عن ظلمات الليل.

الفهرس

الفهرس سورة يونس المبحث الأول أهداف سورة «يونس» 3 أهدافها الإجمالية 3 الدرس الأول: مظاهر قدرة الله 4 الدرس الثاني: الأدلة على وجود الله 5 الدرس الثالث: قصص الأنبياء 7 قصة نوح 7 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «يونس» 11 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 11 الغرض منها وترتيبها 11 إبطال شبههم على القرآن 11 تحديهم بالقرآن 14 دعوتهم إلى تصديق القرآن بالترغيب والترهيب 15

سورة هود

الخاتمة 17 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «يونس» 19 المبحث الرابع مكنونات سورة «يونس» 21 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «يونس» 23 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «يونس» 33 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «يونس» 41 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «يونس» 49 سورة هود المبحث الأول أهداف سورة «هود» 55 تمهيد عن الوحدة الموضوعية للسورة 55 عناصر الدعوة الإلهية 55 1- العقيدة والإيمان بالله 57 2- إعجاز القرآن 58 3- القصص في سورة «هود» 60 قصة نوح (ع) 61 قصة هود 62

سورة يوسف

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «هود» 65 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 65 الغرض منها وترتيبها 65 إثبات تنزيل القرآن 65 تثبيت النبي بالقصص على تكذيبهم 67 الخاتمة 69 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «هود» 71 المبحث الرابع مكنونات سورة «هود» 73 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «هود» 77 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «هود» 85 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «هود» 91 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «هود» 105 سورة يوسف المبحث الأول أهداف سورة «يوسف» 117 قصة يوسف 119

يوسف بين إخوته وأبيه 120 رؤيا يوسف 121 يوسف وامرأة العزيز 122 يوسف عزيز مصر 124 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «يوسف» 127 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 127 الغرض منها وترتيبها 127 المقدمة 127 قصة يوسف (ع) 128 الخاتمة 132 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «يوسف» 135 المبحث الرابع مكنونات سورة «يوسف» 137 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «يوسف» 143 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «يوسف» 161 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «يوسف» 167 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «يوسف» 177

سورة الرعد

سورة الرعد المبحث الأول أهداف سورة «الرعد» 185 موضوع السورة 185 مشاهد الكون في سورة الرعد 186 أدلة الألوهية في سورة الرعد 188 النصف الثاني من سورة الرعد 190 التناسق الفني في سورة الرعد 192 (المبحث الثاني) ترابط الآيات في سورة «الرعد» 195 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 195 الغرض منها وترتيبها 195 المقدمة 196 رد شبهتهم الأولى على القرآن 196 رد شبهتهم الثانية على القرآن 198 (المبحث الثالث) أسرار ترتيب سورة «الرعد» 201 المبحث الرابع مكنونات سورة «الرعد» 203 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الرعد» 205 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الرعد» 211

سورة إبراهيم

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الرعد» 215 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الرعد» 217 سورة إبراهيم المبحث الأول أهداف سورة «إبراهيم» 225 وحدة الرسالات السماوية في سورة إبراهيم 227 المقطع الثاني من سورة إبراهيم 229 نعم الله 229 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «إبراهيم» 233 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 233 الغرض منها وترتيبها 233 نزول القرآن للترغيب في الإيمان والتحذير من الكفر 234 اتحاد الغرض من الكتب المنزلة 234 ترهيب المشركين وترغيبهم 235 (المبحث الثالث) أسرار ترتيب سورة «إبراهيم» 237 المبحث الرابع مكنونات سورة «إبراهيم» 239 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «إبراهيم» 241

سورة الحجر

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «إبراهيم» 245 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «إبراهيم» 249 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «إبراهيم» 257 سورة الحجر المبحث الأول أهداف سورة «الحجر» 265 الآيات الكونية في سورة الحجر 267 قصة آدم في سورة البقرة والأعراف والحجر 268 خلق الإنسان 270 الربع الأخير من سورة الحجر 270 الحجر 271 (المبحث الثاني) ترابط الآيات في سورة «الحجر» 273 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 273 الغرض منها وترتيبها 273 إثبات تنزيل القرآن 273 ترهيب المشركين بأخبار المكذبين قبلهم 274 الخاتمة 275 (المبحث الثالث) أسرار ترتيب سورة «الحجر» 277

المبحث الرابع مكنونات سورة «الحجر» 279 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحجر» 281 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحجر» 287 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحجر» 291 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحجر» 295

الجزء الخامس

الجزء الخامس سورة النحل البحث الأول أهداف سورة «النحل» «1» عرض إجمالي للسورة سورة النحل سورة مكية، وعدد آياتها «128» آية، وهي سورة هادئة الإيقاع والجرس، ولكنها مليئة حافلة، موضوعاتها الرئيسة كثيرة منوّعة، والإطار الذي تعرض فيه واسع شامل. وهي، كسائر السور المكية، تعالج موضوعات العقيدة الكبرى: الألوهية، والوحي والبعث، ولكنها تلم بموضوعات جانبية أخرى تتعلق بتلك الموضوعات الرئيسة، تلم بحقيقة الوحدانية الكبرى التي تصل بين رسالة إبراهيم (ع) ، ورسالة محمد (ص) ، وتلم بحقيقة الإرادة الإلهية والإرادة البشرية في ما يختص بالإيمان والكفر والهدى والضلال، وتلم بوظيفة الرسل، وسنة الله في المكذّبين لهم، وتلمّ بموضوع التحليل والتحريم، وأوهام الوثنية حول هذا الموضوع، وتلم بالهجرة في سبيل الله، وفتنة المسلمين في دينهم، والكفر بعد الإيمان، وجزاء هذا كله عند الله، ثم تضيف الى موضوعات العقيدة موضوعات المعاملة: العدل والإحسان، والإنفاق والوفاء بالعهد، وغيرها من موضوعات السلوك القائم على العقيدة، وهكذا هي مليئة حافلة من ناحية الموضوعات التي تعالجها. فأمّا الإطار الذي تعرض فيه هذه الموضوعات، والمجال الذي تجري فيه الأحداث، فهو فسيح شامل: هو السماوات والأرض، والماء الهاطل،

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

والشجر النامي، والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، والبحار والجبال والمعالم والسبل والأنهار، هو الدنيا بأحداثها ومصائرها، والاخرة بأقدارها ومشاهدها، هو الغيب بألوانه وأعماقه في الأنفس والآفاق. في هذا المجال الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير واستجاشة العقل والضمير، حملة هادئة الإيقاع، ولكنها متعدّدة الأوتار، ليست في جلجلة سورة الأنعام وسورة الرعد، ولكنها في هدوئها تخاطب كل حاسة وكل حاسة وكل جارحة في الكيان البشري، وتتّجه الى العقل الواعي كما تتّجه الى الوجدان الحساس. إنها تخاطب العين لترى، والأذن لتسمع، واللمس ليستشعر، والوجدان ليتأثّر والعقل ليتدبّر، وتحشد الكون كله: سماءه وأرضه، شمسه وقمره، ليله ونهاره، جباله وبحاره، فجاجه وأنهاره، ظلاله وأكنانه، نبته وثماره، حيوانه وطيوره، كما تحشد دنياه وآخرته، وأسراره وغيوبه.. كلها أدوات توقع بها على أوتار الحواس والجوارح والعقول والقلوب، مختلف الإيقاعات التي لا ينغلق أمامها إلا القلب الميت والعقل المنكوس، والحس المطموس. هذه الإيقاعات، تتناول التوجيه الى آيات الله في الكون، وآلائه على الناس، كما تتناول مشاهد القيامة، وصور الاحتضار ومصارع الغابرين، تصاحبها اللمسات الوجدانية، التي تتسرب الى أسرار الأنفس، وأحوال البشر، وهم أجنّة في البطون، وهم في الشباب والهرم والشيخوخة، وهم في حالات الضعف والقوة، وهم في أحوال النعمة والنقمة، كذلك تتّخذ السورة الأمثال، والمشاهد، والحوار، والقصص الخفيف، أدوات للعرض والإيضاح. فأمّا الظلال العميقة التي تلون جو السورة كلّه، فهي الآيات الكونية تتجلى فيها عظمة الخالق، وعظمة النعمة وعظمة العلم والتدبير. كلها متداخلة، فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير، ملحوظ فيه أن يكون نعمة على البشر، لا تلبي ضروراتهم وحدها، ولكن تلبي أشواقهم كذلك، فتسدّ الضرورة، وتتخذ للزينة، وترتاح بها أبدانهم، وتستريح لها نفوسهم، لعلهم يشكرون. ومن ثم تتراءى في

التوحيد في السورة

السورة ظلال النعمة، وظلال الشكر، والتوجيهات إليها، والتعقيب بها، في مقاطع السورة، وتضرب عليها الأمثال، وتعرض لها النماذج، وأظهرها نموذج إبراهيم: شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) . كل أولئك في تناسق ملحوظ بين الصور والأفكار، والعبارات والإيقاعات، والقضايا والموضوعات نرجو أن نشاهده في أثناء استعراضنا لأجزاء السورة. التوحيد في السورة تبدأ سورة النحل بآية مشهورة، تقال كثيرا عند ما يحين الأجل، ويقف الإنسان عاجزا أمام حوادث القدر، يقول سبحانه: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) . ومن أسباب نزول هذه الآية، أنّ أهل مكة كانوا يستعجلون الرسول (ص) أن يأتيهم بعذاب الدنيا أو عذاب الاخرة. وكلما امتدّ بهم الأجل، ولم ينزل العذاب، زادوا استعجالا، وزادوا استهزاء واستهتارا، وحسبوا ان محمدا يخوّفهم بما لا وجود له ولا حقيقة، ليؤمنوا له ويستسلموا، ولم يدركوا حكمة الله في إمهالهم، ورحمته في إنظارهم، ولم يحاولوا تدبّر آياته في الكون، وآياته في القرآن. نعم الله تسترسل الآيات في سورة النحل، تستعرض نعم الله سبحانه على الإنسان، فتذكر خلق السماوات والأرض والإنسان، والأنعام والنبات، والليل والنهار، والجبال والبحار، والشمس والقمر والنجوم، وهي ظواهر طبيعية ملموسة، ولكننا إذا قرأنا الآيات [3- 18] في سورة النحل نجد أننا أمام لوحة كونية معروضة، تنتقل بالإنسان من مشهد الى آخر، وكل مشهد يدل على وحدانية الخالق، ووحدانية المنعم. وتعرض الآيات هذه النعم فوجا فوجا، ومجموعة مجموعة. في الفوج الأول، تتحدّث الآيات عن خلق السماوات والأرض، فيقول سبحانه: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [الآية 3] . فالحق قوام خلقهما والحق قوام تدبيرهما والحق عنصر أصيل في

تصريفهما، وتصريف من فيهما وما فيهما، فما من شيء من ذلك كله عبث ولا جزاف، بل كل شيء قائم على الحق، وملتبس به، وسائر في النهاية اليه. ثم تستعرض الآيات نعمة خلق الأنعام، والأنعام المتعارف عليها في الجزيرة العربية كانت الإبل والبقر والضأن والمعز، وقد أباح الله أكلها، أما الخيل والبغال والحمير فللركوب والزينة، ولا تؤكل، ثم يجيء التعقيب على هذه النعمة، بقوله سبحانه: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) . ليظل المجال مفتوحا في التصوّر البشري لتقبّل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة. إن الإسلام عقيدة مفتوحة مرنة، قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلّها، ومقدّرات الحياة كافة، ومن ثم يهيّئ القرآن الأذهان لاستقبال كلّ ما تتمخض عنه القدرة والعلم والمستقبل، استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعدّ لتلقي كل جديد، في عجائب الخلق، والعلم والحياة. ولقد وجدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان، وستجدّ وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان، والقرآن يهيّئ القلوب والأذهان بلا جمود ولا تحجّر، حينما يقول سبحانه وتعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) . والفوج الثاني: من آيات الخلق والنعمة، إنزال الماء، وإنبات النبات والمرعى والزرع، التي يأكل منها الإنسان، مع الزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من أشجار الثمار. في الفوج الثالث تتحدث الآيات عن تسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم، وكلّها ذات أثر حاسم في حياة الإنسان، ومن شاء فليتصور نهارا بلا ليل، أو ليلا بلا نهار، ثمّ يتصوّر مع هذا حياة الإنسان والحيوان والنبات في هذه الأرض كيف تكون، كلّ أولئك طرف من حكمة التدبير، وتناسق النواميس في الكون كله. يدركه أصحاب العقول التي تتدبر وتعقل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) . وفي الفوج الرابع من أفواج النعمة فيما خلق الله للإنسان:

وحدة الألوهية

وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) . امتنّ الله سبحانه على عباده، بما خلق لهم في الأرض من ألوان المنافع. وبما أودعه فيها للبشر، من مختلف المعادن التي تقوم بها حياتهم، في بعض الجهات وفي بعض الأزمان، ولفتهم إلى هذه الذخائر المخبوءة في الأرض، المودعة للناس حتى يبلغوا رشدهم يوما بعد يوم، ويستخرجوا كنوزهم في حينها، ووقت الحاجة إليها، وكلما قيل: إن كنزا منها قد نفد، أعقبه كنز آخر أكثر غنى، من رزق الله المدّخر للعباد قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) . ثم امتنّ سبحانه على عباده بالبحر المالح، وما يشتمل عليه من صنوف النعم، «فمنها اللحم الطري من السمك وغيره للطعام، وإلى جواره الحلية من اللؤلؤ ومن المرجان، وغيرها من الأصداف والقواقع» . ومنها مرور السفن تمخر عباب البحر، وتيسّر المصالح، وتبادل المنافع بين الناس، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) . وعند ما ينتهي استعراض النعم يبيّن القرآن، أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق، وأنّ نعم الله على الإنسان لا تعدّ ولا تحصى. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [الآية 18] . وحدة الألوهية تتعرض الآيات [22- 50] لتقرير وحدة الألوهية فيقول سبحانه: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الآية 22] . وكل ما سبق في السورة، من آيات الخلق وآيات النعمة وآيات العلم، يؤدي الى هذه الحقيقة الكبيرة البارزة، وهي أن هذا الكون البديع المنظم، لا يحفظ نظامه إلا إله واحد، والذين لا يسلّمون بهذه الحقيقة، قلوبهم منكرة، فالجحود صفة كامنة فيها، والعلة أصيلة في نفوسهم المريضة، وطباعهم المعاندة المتكبرة، عن الإقرار والإذعان والتسليم.

وتختم هذه الآيات، بمشهد مؤثّر، مشهد الظلال في الأرض كلها ساجدة لله، ومعها ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة قد برئت نفوسهم من الاستكبار، وامتلأت بالخوف من الله، والطاعة لأمره بلا جدال. هذا المشهد الخاشع الطائع، يقابل صورة المستكبرين، المتكبرة قلوبهم، في مفتتح هذه المجموعة من الآيات. وبين المطلع والختام، يستعرض السياق مقولات أولئك المستكبرين المنكرين للوحي والقرآن، إذ يزعمون أنه أساطير الأوّلين ومقولاتهم، عن أسباب شركهم بالله، وتحريمهم ما لم يحرّمه الله، إذ يدّعون أنّ الله أراد منهم الشر، وارتضاه ومقولاتهم عن البعث والقيامة، إذ يقسمون جهدهم، لا يبعث الله من يموت، ويتولّى سبحانه الردّ على مقولاتهم جميعا، ويعرض في ذلك مشاهد احتضارهم، ومشاهد بعثهم، وفيها يتبرّءون من تلك المقولات الباطلة، كما يعرض بعض مصارع الغابرين من المكذّبين أمثالهم، ويخوّفهم أخذ الله لهم في ساعة من ليل أو نهار، وهم لا يشعرون، وهم في تقلّبهم في البلاد، أو يأخذهم وهم على تخوّف وتوقّع وانتظار للعذاب. إلى جوار هذا، يعرض صورا من مقولات المتّقين المؤمنين، وما ينتظرهم عند الاحتضار ويوم البعث من طيب الجزاء ... وينتهي هذا الدرس، بذلك المشهد الخاشع الطائع، للظلال والدواب والملائكة، في الأرض والسماء. والسياق القرآني، يعبّر عن خضوع الأشياء لنواميس الله، بالسجود، وهو أقصى مظاهر الخضوع، ويوجه الى حركة الظلال المتفيّئة، أي الراجعة بعد امتداد، وهي حركة لطيفة خفيفة ذات دبيب في المشاعر والأعماق، ويرسم المخلوقات داخرة أي خاضعة خاشعة، ويضم إليها ما في السماوات وما في الأرض من دابة، ويضيف الى الحشد الكوني، الملائكة، في مقام خشوع وخضوع وعبادة وسجود، قال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) .

أدلة الوحدانية

أدلة الوحدانية تستمر الآيات من 51 الى 76 في سورة النحل، في إثبات قضية الألوهية الواحدة التي لا تتعدّد، تبدأ فتقرر وحدة الإله ووحدة الملك، ووحدة المنعم، في الآيات الثلاث الأولى متواليات، وتختتم بمثلين تضربهما للسيد المالك الرازق، والعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، ولا يملك شيئا.. هل يستويان؟ فكيف يسوّى الله المالك الرازق، بمن لا يقدر ولا يملك ولا يرزق؟ فيقال: هذا إله وهذا إله؟ وفي خلال هذا الدرس، تعرض الآيات نموذجا بشريّا للناس، حين يصيبهم الضرّ، فيجأرون إلى الله وحده، وإذا كشف عنهم الضر، راحوا يشركون به غيره. وتعرض الآيات صورا من أوهام الوثنية وخرافاتهم، في تخصيص بعض ما رزقهم الله لآلهتهم المدّعاة، في حين أنهم لا يردون شيئا مما يملكونه على عبيدهم، ولا يقاسمونهم إياه وفي نسبة البنات الى الله، على حين يكرهون ولادة البنات لهم: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) . وفي الوقت الذي يجعلون لله ما يكرهون، تروح ألسنتهم تتشدّق بأنّ لهم الحسنى، وأنّهم سينالون على ما فعلوا خيرا، وهذه الأوهام التي ورثوها من المشركين قبلهم، هي التي بعث الرسول (ص) ليبيّن لهم الحقيقة فيها، وليخرجهم من ظلمات الشرك الى نور اليقين. ثم تأخذ الآيات في عرض نماذج من صنع الألوهية الحقّة، في تأملها عظة وعبرة، فالله وحده القادر عليها، الموجد لها. وهي هي دلائل الألوهية لا سواها: فالله أنزل من السماء ماء، فأحيا به الأرض بعد موتها، والله يسقي الناس- غير الماء- لبنا سائغا، يخرج من بطون الأنعام، من بين فرث ودم، والله يطلع للناس ثمرات النخيل والأعناب، يتخذون منها سكرا ورزقا حسنا، والله أوحى إلى النحل لتتخذ من الجبال بيوتا، ومن الشجر ومما يعرشون، ثم تخرج عسلا فيه شفاء للناس. اسم السورة وقد سميت هذه السورة بسورة النحل، للإشارة الى الأمر العجيب الدقيق في شأن النحل، فهي تعمل

مظاهر القدرة الإلهية

بإلهام من الفطرة التي أودعها إيّاها الخالق، وهذا الإلهام لون من الوحي تعمل النحل بمقتضاه، وهي تعمل بدقة عجيبة، يعجز عن مثلها العقل المفكّر، سواء في بناء خلاياها، أو في تقسيم العمل بينها، أو في طريقة إفرازها للعسل المصفّى. وهي تتّخذ بيوتها حسب فطرتها، في الجبال والشجر، وما يعرشون أي ما يرفعون من الكروم وغيرها، وقد ذلّل الله لها سبل الحياة، بما أودع في فطرتها، وفي طبيعة الكون حولها، من توافق، قال تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) . وقد سئل الإمام الشافعي بم عرفت الله؟ قال بالنحلة نصفها يعسل، ونصفها يلسع، وفي الحديث: المؤمن كالنحلة. أي أنه خفيف الظل مترفّع في هدفه، لا يأكل إلا طيّبا، ولا يترك إلا أثرا حسنا، وإذا وقع على شيء لم يكسره. وتستمر الآيات في عرض أدلّة القدرة الإلهية، فتذكر أن الله يخلق الناس، ويتوفّاهم، ويؤجّل بعضهم، حتى يشيخ فينسى ما تعلّمه، ويرتدّ ساذجا لا يعلم شيئا، والله فضّل بعضهم على بعض في الرزق، والله جعل لهم من أنفسهم أزواجا وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة، وهم، بعد هذا كله، يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا في السماوات والأرض، ويجعلون لله الأشباه والأمثال. هذه اللّمسات كلّها في أنفسهم وفي ما حولهم. يوجههم إليها، لعلّهم يستشعرون القدرة، وهي تعمل في ذواتهم، وفي طعامهم، وفي شرابهم، وفي كل شيء حولهم. وفي كل شيء له آية تدلّ على أنه الواحد جلّ جلاله. مظاهر القدرة الإلهية تتحدث الآيات [77- 89] في سورة النحل، عن مظاهر القدرة الإلهية، فتوضح عظمة الخالق، وفيض نعمته، وإحاطة علمه. وتركّز الآيات في هذا الشوط على قضية البعث، والساعة أحد أسرار الغيب، الذي يختص الله بعلمه، فلا يطلع عليه أحدا.

الأوامر والنواهي

وموضوعات هذا الدرس، تشمل ألوانا من أسرار غيب الله في السماوات والأرض، وفي الأنفس والآفاق: غيب الساعة التي لا يعلمها إلا الله وهو عليها قادر، وهي عليه هيّنة: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [الآية 77] ، وغيب الأرحام، والله وحده هو الذي يخرج الأجنة من هذا الغيب لا تعلم شيئا، ثم ينعم على الناس بالسمع والأبصار والأفئدة، لعلّهم يشكرون نعمته، وغيب أسرار الخلق، ويعرض منها تسخير الطير في جو السماء، ما يمسكها الا الله. يلي هذا الدرس استعراض لبعض نعم الله المادية على الناس، وهي بجانب تلك الأسرار، وفي جوّها: نعم السكن والهدوء والاستظلال، في البيوت المبنية، والبيوت المتخذة من جلود الأنعام للظعن والإقامة، والأثاث والمتاع، من الأصواف والأوبار والأشعار. وتذكر الآيات من نعم الله الظلال، والأكنان، وهي ما يستر الإنسان ويغطّيه، والسرابيل وهي ما يلبسه الإنسان من قميص يقيه الحر والبرد، أو درع تقيه بأس الحرب: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) . ثم تفصّل الآيات أمر البعث، في مشاهد يعرض فيها المشركون وشركاؤهم، والرسل شهداء عليهم، والرسول (ص) شهيد على قومه. وبذلك تكتمل هذه الجولة في جو البعث والقيامة. الأوامر والنواهي تتعرّض الآيات [90- 111] في سورة النحل، لشرح بعض أهداف القرآن الكريم، ويبدأ هذا الدرس بآية شهيرة، يردّدها الخطباء على المنابر في نهاية خطبة الجمعة، وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) . وفي هذا الدرس أمر بالوفاء بالعهد، ونهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها، وكّلها من مبادئ السلوك الأساسية التي جاء بها القرآن الكريم. وفي هذا الدرس، بيان الجزاء المقرر، لنقض العهد، واتخاذ الأيمان للخداع والتضليل، وهو العذاب

ختام سورة النحل

العظيم. والبشرى للذين صبروا، ومضاعفة الثواب لهم. ثم تذكر الآيات بعض آداب تلاوة القرآن، وهي الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، لطرد شبحه من مجلس القرآن الكريم، كما تذكر بعض تقوّلات المشركين عن القرآن، فمنهم من يرمي الرسول (ص) بافترائه على الله، ومنهم من يقول: إن غلاما أعجميّا هو الذي يعلمه هذا القرآن. وفي نهاية الدرس، يبيّن جزاء من يكفر بعد إيمانه، ومن يكره على الكفر، وقلبه مطمئنّ بالإيمان. ويبيّن جزاء من فتنوا عن دينهم، ثم هاجروا، وجاهدوا، وصبروا. وكلّ أولئك، تبيان وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وفي الآيات إباحة لمن أكره على الكفر، أن ينطق لسانه به، ما دام قلبه عامرا بالإيمان. روى ابن جرير بإسناده أن العذاب لمّا اشتد على عمار بن ياسر، نطق ببعض ما أرادوا، ثم شكا ذلك الى النبي (ص) فقال له النبي: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئنّا بالإيمان. قال النبي: «إن عادوا فعد» ، فكانت رخصة في مثل هذه الحال. وقد أبى بعض المسلمين أن يظهروا الكفر بلسانهم، مؤثرين الموت على لفظه باللسان، كذلك صنعت سميّة أم ياسر، وهي تطعن بالحربة في موضع العفّة حتى تموت، وكذلك صنع أبوها ياسر. وقد كان بلال، رضوان الله عليه، يعذّب أشدّ العذاب، حتى لتوضع الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويطلب منه أن ينطق بكلمة الشرك، فيأبى وهو يقول: أحد أحد. ولست أبالي حين أقتل مسلما على أيّ جنب كان في الله مصرعي ختام سورة النحل يتحدث الربع الأخير من سورة النحل، عن مثل ضربه الله سبحانه، لتصوير حال مكّة وقومها المشركين، الذين جحدوا نعمة الله عليهم، لينظروا المصير الذي يتهدّدهم من خلال المثل الذي يضربه لهم، حين يقول سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) .

وهي حال أشبه شيء بحال مكّة جعل الله فيها البيت، وجعلها بلدا حراما، من دخله فهو آمن مطمئن، لا تمتدّ إليه يد، ولو كان قاتلا، ولا يجرأ أحد على إيذائه، وهو في جوار بيت الله الكريم. وكان الناس يتخطّفون من حول البيت، وأهل مكّة في حراسته وحمايته كانوا آمنين مطمئنين، كذلك كان رزقهم يأتيهم هيّنا هنيئا، من كل مكان مع الحجيج ومع القوافل الآمنة، مع أنهم في واد قفر جدب غير ذي زرع، فكانت تجيء إليهم ثمرات كل شيء، فيتذوقون طعم الأمن وطعم الرغد، منذ دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام، فإذا كذّب أهل مكة بدعوة محمد (ص) ، وجحدوا رسالته، استحقوا العقاب والعذاب ولباس الجوع والخوف، جزاء كفرهم وعنادهم. ثم ينتقل السياق بهم، الى الطيّبات التي حرّمها أبناء القبائل المكية على أنفسهم، اتّباعا لأوهام الوثنية، وقد أحلّها الله لهم، وحدّد المحرّمات، وبيّنها، وليست هذه منها، وذلك لون من الكفر، بنعمة الله، وعدم القيام بشكرها، يتهدّدهم بالعذاب الأليم من أجله. وهو افتراء على الله لم تنزل به شريعة. وبمناسبة ما حرّم على المسلمين من الخبائث، يشير الى ما حرّم على اليهود من الطيّبات بسبب ظلمهم. وقد جعل هذا التحريم عقوبة لهم على عصيانهم. ولم يكن محرّما على آبائهم، في عهد إبراهيم (ع) الذي كان أمّة قانتا لله حنيفا، ولم يك من المشركين، شاكرا لأنعمه، اجتباه وهداه الى صراط مستقيم. فكانت حلالا له الطيبات، ولبنيه من بعده، حتى حرّم الله بعضها على اليهود، عقوبة لهم خاصة، ومن تاب من بعد جهالته، فإن الله غفور رحيم. ثم جاءت رسالة محمد (ص) ، امتدادا واتّباعا لرسالة ابراهيم (ع) ، فعادت الطيّبات كلّها حلالا، وكذلك السبت الذي منع فيه اليهود من الصيد، فإنما السبت على أهله الذين اختلفوا فيه، ففريق كف عن الصيد، وفريق نقض عهده، فمسخه الله، وانتكس عن مستوى الإنسانية. وتختم السورة عند هذه المناسبة بالأمر الى الرسول (ص) ، أن يدعو الى سبيل ربّه، بالحكمة والموعظة

الحسنة. وأن يجادلهم بالتي هي أحسن. وأن يلتزم قاعدة العدل، في ردّ الاعتداء بمثله دون تجاوز ... والصبر والعفو خير، والعاقبة بعد ذلك للمتّقين المحسنين، لأن الله معهم ينصرهم ويرعاهم، ويهديهم طريق الخير والفلاح. وفي أسباب نزول القرآن، أنّ الآيات الأخيرة من سورة النحل، نزلت في حمزة بن عبد المطلب، حين استشهد في غزوة أحد، وفي هذه الغزوة مثّل المشركون بالمسلمين، فبقروا بطونهم، وقطعوا مذاكيرهم، وما تركوا أحدا غير ممثّل به، سوى حنظلة بن الراهب، كان الراهب أبو عامر مع أبي سفيان، فتركوا حنظلة لذلك، ثمّ وقف رسول الله (ص) على جثّة حمزة، وقد مثّل به، فرآه مبقور البطن فقال: «أما والذي أحلف به، إن أظفرني الله بهم، لأمثّلن بسبعين مكانك» فنزل قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) . ولما نزلت هذه الآية، كفّر النبي (ص) عن يمينه، وكفّ عما أراده، ومن هذا ذهبوا الى أن خواتيم سورة النحل مدنية، ولا خلاف في تحريم المثلة، وقد وردت الأخبار بالنهي عنها، حتى بالكلب العقور.

البحث الثاني ترابط الآيات في سورة"النحل" تاريخ نزولها ووجه تسميتها

البحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النحل» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة النحل بعد سورة الكهف، وهي من السور التي نزلت بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة النحل في ذلك التاريخ أيضا، وقيل إنها من السور المدنية. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) . وتبلغ آياتها ثماني وعشرين ومائة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إنذار المشركين بالعذاب، وإبطال شركهم، وردّ شبههم على القرآن والنبوة والبعث، وهي أمور متشابكة متلازمة وقد افتتحت بآيتين، أجملت فيهما تلك الأغراض، وقصد بهما التمهيد لتفصيل الكلام فيها، ثم ختمت بذكر نعمة الله على أولئك المشركين، بسكنى حرمه، وأنهم كفروا بنعمته بهذا عليهم، فجوزوا بذلك العذاب الذي حقّ عليهم. وقد جعلت بعد سورة الحجر، لأنه أمره، في آخرها، أن يعبد ربه حتى يأتيه اليقين. وقد افتتحت هذه السورة بأن ما وعدوا به قد أتى وقته وحان حينه.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

إبطال الشرك الآيات [1 - 23]

إبطال الشرك الآيات [1- 23] قال الله تعالى أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) فافتتحها بآيتين أجمل فيهما أغراضها، فأنذرهم فيهما بأنه أتى أمره بعذابهم، ونزّه ذاته عن شركائهم وذكر أنه ينزّل الملائكة بالوحي على من يشاء من عباده، لينذروا الناس بتوحيده ويأمروهم بتقواه. ثم شرع في إبطال الشرك وإثبات التوحيد، فذكر سبحانه، أنه خلق السماوات والأرض بالحق، وأنه خلق الإنسان من نطفة. وأنه خلق الأنعام فيها دفء ومنافع لنا، وأنه خلق الخيل والبغال والحمير لنركبها ونتّخذها زينة وأنه يخلق غير هذا، مما لا يدخل في علمنا وأنّه يبين بهذا قصد السبيل إليه، ومنها جائر ينحرف عنه ولو شاء سبحانه لهداهم أجمعين. ثم ذكر أنه سبحانه هو الذي أنزل من السماء ماء، منه شراب ومنه شجر، وأنه جلّ شأنه، ينبت الزرع والزيتون والنخيل والأعناب، ومن كل الثمرات وأنه تعالى، سخّر الليل والنهار والشمس والقمر، والنجوم مسخرات بأمره، وأنه سخّر البحر لنأكل منه لحما طريا، ونستخرج منه حلية نلبسها، وأنه ألقى في الأرض رواسي: جبالا، وأنهارا وسبلا لنهتدي بها وأنه جعل علامات في هذه السبل، لنهتدي بها فيها، كما نهتدي بالنجم أيضا. ثم ذكر، أنه لا يصح أن يكون من يخلق هذا كله، كمن لا يخلق، من أصنامهم التي يتخذونها شركاء له وأنهم إن يعدّوا نعمته ممّا سبق وغيره لا يحصوها وأنه سبحانه يعلم سرّهم وعلانيتهم، وأنّ الذين يدعونهم من دونه لا يخلقون شيئا وهم يخلقون، وهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيّان يبعثون، ثم ذكر أنّه يجب بعد هذا كله أن يكون إلههم واحدا، وأنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يؤمنون به، لأن قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) . رد شبهة لهم على القرآن الآيات [24- 34] ثم قال تعالى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) فذكر أنهم إذا سئلوا عن القرآن، قالوا إنه

عود إلى إبطال شركهم الآيات [35 - 37]

أساطير الأولين، وأجاب عنه بتهديدهم، بأنهم يحملون به أوزارهم، وبعض أوزار الذين يضلّونهم بغير علم، ثم ذكر أنّ المكذّبين من الأولين، قد مكروا بمثل ما يمكرون به في القرآن، فأبطل مكرهم وأهلكهم، ثم يوم القيامة يخزيهم ويسألهم أين شركاؤهم الذين كانوا يخاصمون بالطعن في القرآن من أجلهم؟ فيجيب الذين أوتوا العلم من الملائكة، أو المؤمنين، بأنّ الخزي اليوم والسوء عليهم، فلا يمكنهم أن يجيبوا من خزيهم، ثم ذمّهم بأنهم يموتون ظالمي أنفسهم بشركهم، فلا يجدون إلا أن يلقوا السّلم، وينكروا ما عملوا من سوء، فيرد عليهم بأنه عليم بما كانوا يعملون، ويأمرهم أن يدخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها، وبئس مثواها لهم. ثم ذكر أن المؤمنين، إذا سئلوا عن القرآن، أجابوا بأنه خير للناس، وأنه سيجازيهم على هذه الحسنة بمثلها في الدنيا، وبخير منها في الاخرة، فيدخلون جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار، لهم فيها ما يشاءون ممّا تشتهيه أنفسهم. وكذلك يجزي الله المتّقين هذا الجزاء الحسن، ثم مدحهم بأنّ الملائكة يتوفّونهم طيّبين، فيتلقّونهم بالسلام، ويأمرونهم بدخول الجنة، جزاء لهم بما كانوا يعملون. ثم هدّد المكذّبين بأنهم لا ينتظرون بتكذيبهم، إلّا أن تأتيهم الملائكة، أو يأتيهم أمره بهلاكهم. كما أهلك من فعل من الأولين مثل فعلهم، وما ظلمهم بهذا، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) . عود الى إبطال شركهم الآيات [35- 37] ثم قال تعالى وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) فذكر أنهم استدلوا على شركهم، بأنه وقع بإرادته ومشيئته، وهو لا يشاء إلّا ما يرضاه وردّ عليهم بأن المشركين قبلهم فعلوا مثل فعلهم، فلم يمنع ما نزل من عذابه لهم، وليس على الرسل إلّا ان يبلغوا من أرسلوا إليهم، فإذا بلغوهم زال بهذا عذرهم ثم ذكر أن

رد شبهة لهم على البعث الآيات [38 - 42]

كل الرسل، بعثوا بإبطال الشرك، فمن أقوامهم من هداه إلى الإيمان به، ومنهم من حقت عليه الضلالة فساءت عاقبتهم ثم ذكر للنبي (ص) أن شأن قومه في هذا، مثلهم إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) . رد شبهة لهم على البعث الآيات [38- 42] ثم قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) فذكر إنكارهم للبعث، وأجاب عنه بأنه لا بدّ منه، ولكنّ أكثرهم لا يعلمون، لأنه يبيّن لهم به ما يختلفون فيه، ويعلم به الكافرون أنهم كانوا كاذبين، وهو إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، فلا يعجزه البعث، كما لم يعجزه الخلق. ثم ذكر أنه سيجازي المؤمنين، في الدنيا حسنة، وأن أجرهم بعد البعث أكبر، لو كانوا يعلمون الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) . رد شبهة لهم على النبوة الآيات [43- 50] ثم قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) فردّ على ما يزعمونه، من أنّ الرسول لا يكون بشرا، بأنّه لم يرسل سبحانه من قبله إلّا رجالا مثله، وأمرهم أن يسألوا أهل العلم عن هذا، إن كانوا لا يعلمون ثم هدّدهم على مكرهم بهذا، أن يخسف بهم الأرض، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، الى غير هذا مما هدّدهم به ثم ذكر ما يثبت قدرته على هذا، فحثّهم على النظر فيما خلق من شيء، يتفيّئون ظلاله عن اليمين والشمائل سجّدا لله سبحانه، وهم داخرون. وذكر جل جلاله، أنه يسجد له ما في السماوات وما في الأرض، من دابّة والملائكة وهم لا يستكبرون: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) . عود الى إبطال أنواع من الشرك الآيات [51- 100] ثم قال تعالى: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)

فأبطل مذهب الثنوية، الذين يقولون بإله الخير وإله الشر، لأن له سبحانه، ما في السماوات والأرض من خير وشر، ونعمة وضر ثم بيّن لهم أنهم إن كفروا بما آتاهم من النعم، وتمتّعوا، فسوف يعلمون عاقبة ذلك وقد ورد الكلام بصيغة الأمر التهديدي. ثم ذكر أنهم يجعلون لأصنامهم نصيبا ممّا رزقهم من زروعهم وأنعامهم، وهي جماد لا تحسّ نذرهم، وأنهم يجعلون له سبحانه البنات من الملائكة، ولأنفسهم ما يشتهون من البنين ثم ذكر أنّ من كرههم للبنات أنهم إذا بشّر أحدهم بالأنثى، ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم، يتوارى من قومه من سوء ما بشّر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ليتخلص من عاره بينهم ثمّ عجب من سوء حكمهم بهذا، وحكم بأن لهم صفة السوء وهي الاحتياج الى الولد، وله الصفة العليا وهي عدم الاحتياج إليه وذكر أنه لو يؤاخذهم بهذا الكفر ما ترك على الأرض من دابّة، ولكنه يؤخّرهم الى أجل مسمّى، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ثم ذكر ثانيا أنهم يجعلون له البنات ولأنفسهم البنين، ليوجب أن لهم النار، وأنهم مفرطون. ثم أقسم بنفسه أنه أرسل إلى أمم من قبله، فزيّن لهم الشيطان شركهم، فهو يزيّنه لهؤلاء المشركين، كما زيّنه لتلك الأمم ثم ذكر أنه لم ينزل عليه القرآن إلا ليبيّن لهم ما وقعوا فيه من الشرك، وليكون هدى ورحمة لمن يؤمن به. ثم ذكر، مما يدل على وحدانيته جلّ جلاله، أنه أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وأنه جعل لنا في الأنعام عبرة، يسقينا مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا وأنه سبحانه، جعلنا نتخذ من ثمرات النخيل والأعناب سكرا ورزقا حسنا، وأنه أوحى الى النحل أن تتخذ من الجبال وغيرها بيوتا، وأن تأكل من الثمرات كلّها، ليخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس إلى غير هذا ممّا ذكر من الأدلّة على وحدانيته. ثم ذكر سبحانه أنهم مع هذا يعبدون من دونه ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض ونهاهم أن يضربوا له الأمثال، بقولهم إنهم خدّامه وأقرب الخلق إليه، فهم يتخذونهم

وسيلة له، لأنه أجلّ من أن يتوجهوا إليه بأنفسهم وهم في هذا، كأصاغر الناس يخدمون حاشية الملك، وحاشيته هي التي تخدمه فهذه كلّها أمثال باطلة، والله يعلم الأمثال الصحيحة، وهم لا يعلمون. ثم ضرب لهم من أمثاله الصحيحة، مثلين له ولشركائهم: أحدهما مثل عبد مملوك، لا يقدر على شيء ورجل رزق رزقا حسنا، ينفق منه سرّا وجهرا، فلا يصحّ أن يكون أحدهما مساويا للآخر. وثانيهما مثل رجلين، أحدهما أبكم لا يقدر على شيء، وهو ثقيل على مولاه أينما يوجّهه لا يأت بخير، وثانيهما يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، فلا يصحّ أيضا أن يكون أحدهما مساويا للآخر. ثم ذكر، من صفات كماله، تأكيدا لمضمون هذين المثلين، أنّ له غيب السماوات والأرض، وأنّ أمر الساعة عنده كلمح البصر، أو هو أقرب، وأنه يخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا، ويجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة، الى غير هذا من نعمه علينا ثم ذكر أنهم إن أعرضوا بعد هذا، فليس على النبي (ص) إلا أن يبلّغهم وذمّهم بأنهم يعرفون نعمته، ثم ينكرونها، وأكثرهم الكافرون. ثم شرع في بيان حالهم وحال شركائهم في يوم بعثهم، ليذكر تكذيبهم لهم فيما يزعمونه من ألوهيتهم فذكر أنّه سبحانه، يبعث يوم القيامة مع كل أمة شهيدا منها، وهو رسولها. ثم لا يؤذن لمن كفر منها في كلام ولا استعتاب، وإذا رأوا عذابهم سيقوا إليه من غير إمهال، وإذا رأوا شركاءهم قالوا لربهم: هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ [الآية 86] فيكذبونهم، فيما ينسبونه إليهم من الألوهية، وهناك يستسلمون لما يحكم به عليهم، ولا يجدون أحدا من شركائهم يشفع لهم ثم ذكر أن من كان منهم، يضمّ الى كفره صدّ غيره عن الإيمان، يزيده عذابا فوق عذاب كفره ثم ذكر ثانيا، أنه يبعث من كل أمّة شهيدا عليهم منهم، ليذكر أنه يجيء بالنبي (ص) شهيدا على أمته، وقد قطع عليهم عذرهم، بتنزيله القرآن تبيانا لكلّ شيء، وهدى ورحمة وبشرى، لمن يؤمن به. ولما ضرب في المثل الثاني من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، فصّل

عود إلى رد شبههم على القرآن الآيات [101 - 111]

ما أجمله فيه، فذكر أنه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فجمع في ذلك ما يتّصل بالتكليف فرضا ونفلا، وما يتّصل بالأخلاق عموما وخصوصا. ثم ذكر ممّا جمعه في ذلك من المأمورات والمنهيات، الأمر بالوفاء بعهد الله، والنهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها ونهاهم أن يتّخذوها على غشّ وخديعة، كما كانوا يفعلون في الجاهلية، إذ كانوا يحالفون قوما، ثم يجدون غيرهم أقوى منهم فينقضون حلفهم، ويحالفون من وجدوهم أقوى منهم ثم ذكر أنه يختبرهم بهذا التكليف، ولو شاء لجمعهم عليه بالإلجاء، فجعلهم أمّة واحدة في الوفاء بعهده، ولكنّه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، ثم يسألهم جميعا عن عملهم. ثم أعاد النهي عن اتخاذهم أيمانهم دخلا بينهم، ليوعدهم عليه بما أوعدهم به ونهاهم أن يشتروا بعهده ثمنا قليلا من عرض الدنيا، لأنّ ما عنده هو خير لهم لبقائه، وما عندهم ينفد ولا يبقى ثم بيّن ما عنده من الجزاء الحسن، والحياة الطيبة، لمن يستحقها من المؤمنين، الذين يصبرون على الوفاء بالعهد، وأنه يجزيهم أجرهم، بأحسن ما كانوا يعملون. ثم ذكر، مما جمعه فيما سبق من المأمورات والمنهيات، الأمر بالاستعاذة من الشيطان عند قراءة القرآن، ليرشدهم الى ما تخلص به أعمالهم من وساوسه، ويستحقون به الجزاء الذي وعدهم به ثم ذكر أنه لا سلطان للشيطان على المؤمنين الذي يتوكلون على ربهم إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) . عود الى رد شبههم على القرآن الآيات [101- 111] ثم قال تعالى وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) . فذكر لهم شبهتين أخريين في القرآن: أولاهما أنهم كانوا إذا نسخ حكم آية بآية أخرى يقولون: «والله ما محمد إلّا يسخر بأصحابه. اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه، فما هذا إلّا من عنده» وقد أجابهم سبحانه عنها بأنه أعلم بحكمة ذلك، وما فيه من المصلحة للعباد وبأنه نزّل القرآن

الخاتمة الآيات [112 - 128]

ليثبّت المؤمنين بأخذهم بالأحكام على التدريج، ويكون هدّى وبشرى لهم فلا يصحّ مع هذا، أن يؤخذوا بالأحكام دفعة واحدة. والشبهة الثانية، أنهم كانوا يقولون إنه يتعلّم القرآن من بعض نصارى مكة، من الأعاجم، وقد أجابهم عنها بأن الذي يزعمون أنه يتعلّمه منه، لسانه أعجمي، والقرآن لسانه عربي في أعلى درجات البيان ثم ذكر أن الذين لا يؤمنون بالقرآن، ويزعمون ذلك فيه، لا يهديهم الى الإيمان به، مع ظهور فضله، وأنّ الذي يفتري الكذب عليه إنّما هو من لا يؤمن بآياته، لا من يؤمن بها، ثم ذكر، ممّن يفتري الكذب عليه بالطعن في القرآن، من كفر منهم بعد إيمانه، واستثنى منه من أكره على الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، وأوعد من شرح بالكفر صدرا بعد إيمانه، بأن عليهم غضبا منه ولهم عذاب أليم، لأنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الاخرة، وأنّ الله لم يشأ هدايتهم بعد اختيار الكفر على الإيمان، وطبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فهم في الاخرة هم الخاسرون أمّا الذين أكرهوا بالفتنة على الكفر، فإن الله لهم، وإنه من بعد فتنتهم لغفور رحيم: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) . الخاتمة الآيات [112- 128] ثم قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) ، فختم السورة ببيان سبب استحقاقهم، ما أنذروا به من العذاب في أوّلها، وهو أنّهم كانوا أصحاب قرية «1» آمنة مطمئنة، يأتيها رزقا رغدا من كل مكان فكفروا بأنعم الله عليهم، فأذاقهم لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون وقد جاءهم أيضا رسول منهم فكذّبوه، فأخذهم العذاب وهم ظالمون ثم أمرهم أن يأكلوا مما رزقهم حلالا طيّبا، ولا يحرّموا منه ما حرّموه في

_ (1) . هذه القرية هي مكة.

شركهم، وأن يشكروا نعمته عليهم بسكنى هذه القرية، إن كانوا إيّاه يعبدون. ثم ذكر أنه لم يحرّم عليهم إلّا الميتة والدم ونحوهما من الخبائث، ونهاهم أن يحلّلوا ويحرّموا من أنفسهم ثم ذكر أنه حرّم على اليهود ما قصّه عليه من قبل في سورة الأنعام، وأنه لم يظلمهم بهذا، ولكنّهم كانوا يظلمون أنفسهم بعملهم بخلاف علمهم، ثم ذكر أن للذين عملوا السوء بجهالة من العرب الأميين، ثم تابوا من بعد ذلك، وأصلحوا، مغفرة إنّ ربّك من بعدها، لغفور رحيم. ثم ذكر أن إبراهيم (ع) الذي أنشأ تلك القرية، وأقام فيها الكعبة، كان أمّة قانتا لله حنيفا، ولم يكن من المشركين وأنّه كان شاكرا لأنعمه، فاجتباه وهداه الى صراط مستقيم، وآتاه في الدنيا حسنة، وإنه في الاخرة لمن الصالحين ثم ذكر أنه أوحى الى النبي (ص) ، أن يتّبع ملّة إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين وأنه، إنّما جعل شريعة السبت على اليهود الذين اختلفوا فيها، وأنه سيحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون فلا يصح له أن يعمل بها، لأنهم حرّفوها حتى خرجوا بها عن أصلها، وهو ملّة إبراهيم. ثم أمر النبي (ص) ، أن يدعو الى هذه الملّة بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادل المشركين فيها بالتي هي أحسن، لأنّ الضلال والهدى بيده تعالى، ثم أمره وأتباعه إذا خرج الأمر من الجدال الى القتال، أن يعاقبوا بمثل ما عوقبوا به، فلا يبدءوهم بالقتال ولا يجاوزوا ما عوقبوا به، منهم ثم رغّبهم في الصبر والعفو عنهم، ونهى النبي (ص) أن يحزن لكفرهم أو يكون في ضيق ممّا يمكرون إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"النحل"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النحل» «1» أقول: وجه وضعها بعد سورة الحجر: أنّ آخرها شديد الالتئام بأول هذه، فإن قوله تعالى في آخر تلك: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) الذي هو مفسر بالموت، ظاهر المناسبة لقوله تعالى هنا: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [الآية 1] . وانظر كيف جاء في المقدمة بيأتيك اليقين، وفي المتأخرة بلفظ الماضي، لأن المستقبل سابق على الماضي، كما تقرر في المعقول والعربية «2» . وظهر لي أن هذه السورة شديدة الاعتلاق بسورة إبراهيم، وإنما تأخّرت عنها لمناسبة سورة «الحجر» ، في كونها من ذوات الر. وذلك: أن سورة إبراهيم وقع فيها ذكر فتنة الميت، ومن هو ميت وغيره «3» ، وذلك أيضا في هذه، بقوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [الآية 28] . فذكر الفتنة، وما يحصل عندها من الثبات والإضلال، وذكر هنا ما يحصل عقب ذلك من النعيم والعذاب «4» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . مراد المؤلّف ان المضارع سابق على الماضي في الكلام والإخبار، لا في الزمان. فقولك الآن: يقوم الناس لرب العالمين يوم القيامة، سابق في الخبر. ولا يجوز أن يقال: قام الناس لرب العالمين يوم القيامة إلا بعد تمام ذلك البعث. (3) . وذلك في قوله تعالى: يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) ( [إبراهيم] . (4) . وذلك في قوله تعالى عن العذاب: فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [الآية 29] . وفي النعيم: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ( [الآية 31] .

ووقع في سورة إبراهيم: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) . وقيل: إنها في الجبّار الذي أراد أن يصعد السماء بالنسور «1» . ووقع هنا أيضا في قوله تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الآية 26] . ووقع في سورة إبراهيم ذكر النعم، وقال عقبها: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [الآية 34] . ووقع هنا ذكر ذلك معقبا بمثل ذلك.

_ (1) . يروى أنه جوّع نسرين، وأوثق رجل كلّ منهما في تابوت، وقعد هو وآخر في التابوت، ورفع عصا عليها اللحم، فطارا يتبعان اللحم حتى غابا في الجو (تفسير الطبري: 3: 160) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"النحل"

المبحث الرابع مكنونات سورة «النحل» «1» 1- وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ [الآية 7] قال ابن عباس: يعني مكّة. أخرجه ابن أبي حاتم. 2- قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الآية 26] قال ابن عباس: هو نمرود بن كنعان، حين بنى الصّرح، أخرجه ابن أبي حاتم «2» . 3- وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا [الآية 41] . قال قتادة: هؤلاء الذين لحقوا بأرض الحبشة. أخرجه ابن أبي حاتم. وقد سقت أسماء المهاجرين إلى الحبشة في كتاب «رفع شأن الحبشان» . 4- وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الآية 76] . أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رجلين، والأبكم منهما، الكلّ على مولاه: أسيد بن أبي العيص والذي يأمر بالعدل: عثمان بن عفّان «3» . 5- كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها [الآية 92] . قال السّدّي: كانت امرأة بمكّة تسمّى خرقاء مكّة. أخرجه ابن أبي حاتم «4» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . وابن جرير 14: 76. (3) . واخرج ذلك ابن جرير 14: 101 أيضا. [.....] (4) . والطبري 14: 111.

وقال السّهيلي: اسمها ريطة بنت سعيد «1» بن زيد مناة بن تميم. 6- إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [الآية 103] . قال مجاهد: عنوا عبد بن الحضرمي. زاد قتادة: وكان يسمّى: يحنّس «2» . وقال السّدّي: يقال له: أبو اليسر. وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي: عنوا عبدين لنا، أحدهما يقال له يسار، والاخر: جبر. وقال الضّحّاك: عنوا سلمان الفارسي «3» . وقال ابن عباس: [عنوا] قينا بمكة اسمه بلعام «4» . أخرج ذلك ابن أبي حاتم. ويحنّس: ضبطه الحافظ ابن حجر في «الإصابة» بياء تحتية «5» ، وحاء وسين مهملتين، بينهما نون مشدّدة. 7- إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ [الآية 106] . قال ابن عباس: نزلت في عمّار بن ياسر. أخرجه ابن جرير «6» . وقال ابن سيرين: نزلت في عياش بن أبي ربيعة. أخرجه أبن أبي حاتم. 8- ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا [الآية 110] . قال ابن إسحاق: نزلت في عمّار بن ياسر، وعيّاش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد «7» . 9- قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً [الآية 112] . قالت حفصة أمّ المؤمنين: هي المدينة، وكذا قال ابن شهاب. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. وقال ابن عباس: هي مكّة. أخرجه ابن جرير «8» .

_ (1) . في «جمهرة أنساب العرب» . لابن حزم: 215: «سعد» . وليس فيه اسم «ريطة» . من ولده والمثبت موافق ل «الإتقان» 2: 147. (2) . في «الإتقان» 2: 147: «مقيس» . (3) . قال ابن كثير في «تفسيره» 2: 586: «وهذا القول ضعيف لأن هذه الآية مكية، وسلمان إنما أسلم بالمدينة. (4) . إسناده ضعيف، كما في «الدر المنثور» 4: 131. (5) . مضمومة كما في «تاج العروس» : «حنس» . (6) . 14: 122. (7) . أخرجه الطبري في «تفسيره» 14: 124. (8) . 14: 125. ومال ابن كثير في «تفسيره» 2: 589 الى هذا القول.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"النحل"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النحل» «1» 1- وقال تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [الآية 7] . بِشِقِّ الْأَنْفُسِ أكثر القرّاء على كسر الشين ومعناه: إلا بجهد الأنفس. وقرأ أبو جعفر وجماعة: إلّا بشقّ الأنفس. وكأن الشّق وهو المشقّة، بكسر الشين، اسم استحدث من المصدر، وهو الشّقّ «بفتح الشين» . 2- وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً [الآية 13] . قوله تعالى: وَما ذَرَأَ أي: ما خلق لكم في الأرض، من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك. أقول: بين المهموز والمضاعف والناقص المعتلّ، وشائج في المعنى، وهذا الفعل يذكّرنا بالمواد ذرّ وما يتأتّى من الذّرية، والذراري وغير ذلك. كما يذكّرنا بالذّرى والذري ونحوه، وما يراد بذلك من الزيادة والانتشار. 3- وقال تعالى: وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ [الآية 14] . كنا قد بسطنا القول في الآية 22 من سورة يونس، وعرضنا لمسألة الالتفات من الخطاب الى الغيبة. ونريد في هذه الآية أن نعرض لمسألة الفلك، وأنها جمع بدلالة الصفة «مواخر» ولكننا نجد أن «الفلك» قد جاء دالّا على الإفراد في سورة الشعراء بدلالة الصفة أيضا:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) . وجاء الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ في الآية: 41 من سورة يس، كما جاء في الآية 140 من سورة الصافات. وهذا نظير «السحاب» فهو تارة جمع بدلالة الصفة «الثقال» ، كما بيّنا في الآية 12 من سورة الرعد، وهو أخرى مفرد بدلالة الصفة «مسخّر» ، كما في الآية: 164 من سورة البقرة. وهذا كله شيء من خصائص لغة القرآن، التي ترسم لنا صفحات من تاريخ هذه اللغة. 4- وقال تعالى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [الآية 15] . والمعنى: كراهة أن تميد بكم وتضطرب. وحذف المصدر المنصوب، المبيّن للعلّة ضرب من الإيجاز البليغ، وهو ظاهر في المعنى. 5- وقال تعالى: وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ [الآية 27] . والمعنى: الذين كنتم تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم. وقرئ: تشاقّونّ، بكسر النون، بمعنى تشاقونني. وكنت عرضت للاية: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال: 13] . وأشرت إلى أن فكّ الإدغام غير كثير، والكثير في هذا المضاعف هو الإدغام، إلا أن فكّه في الآية كان بسبب صوتي. وفي هذه الآية التي نعرضها من سورة النّحل، جاء الفعل بالإدغام، وليس من ضرورة تستدعي فك الإدغام. 6- وقال تعالى: وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) . أي: أحاط بهم العذاب، الذي هو جزاء ما كانوا يستهزئون، كما نقول: أحاط بفلان عمله وأهلكه. والحيق: ما حاق بالإنسان من مكر أو سوء عمل يعمله، فينزل ذلك به. أقول: والحيق إحاطة مقيّدة بالمكر والسوء، وليست مطلقة كما تقول في «أحاط» مثلا. 7- وقال تعالى: وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [الآية 36] .

جاء «الطاغوت» في ثماني آيات، من سور مختلفة، والمعنى واحد. من غير شك أن «الطاغوت» من «الطغيان» وهو الشرّ، والكفر، وتجاوز الحدّ في البغي. غير أن «الطاغوت» ، وإن تضمن هذه الدلالات فهو بناء خاص، وهو يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وإن قيل: طواغيت. وهو نظير رغبوت، ورحموت، وجبروت، ولاهوت، وناسوت، وملكوت ونحو هذا. وهو مصدر من المصادر القديمة، التي استقرينا منها جملة من طريق السّماع. ولا أريد أن أقول إنها مقلوبة على فعلوت، والأصل «طغيوت» كما ذهب أهل اللغة فليس ذلك بمهمّ. وقالوا: الطاغوت الشيطان. وعندي أن هذا البناء الغريب القديم، يصح أن يتّخذ في وضع المصطلح الجديد، وذلك أن أهل المصطلحات من الغربيين، يلتمسون الأبنية الغريبة إذا ما جدّت لهم حاجة لمصطلح جديد، ليكون الوزن الغريب مميزا له خاصا به. 8- وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) . وقرئ: أو لم يروا، ويتفيّئوا بالياء والتاء. والتفيّؤ: الظلّ بالعشي، وتفيّؤ الظلال: رجوعها بعد انتصاف النهار، وابتعاث الأشياء ظلالها. أقول: عرفنا أن الفيء بالعشيّ، والظلّ بالغداة. وقد امّحى الفرق في العربية المعاصرة. وداخرون أي: متصاغرون منقادون، على أنّ الدخور من صفات العقلاء. 9- وقال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ [الآية 66] . ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف من الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم: ثوب أكباش. وجبّة أسناد، وثوب أفواف. وقد تعجب أن يدرج سيبوبه «الأنعام» ، مع هذه الأسماء التي جاءت مفردة في استعمالهم، وأنت تقرأ قوله تعالى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) .

وإذا كان الضمير في قوله تعالى: مِمَّا فِي بُطُونِهِ، في الآية قد حملهم على جعل «الانعام» مفردة، وإدراجها مع ثوب أكباش، وجبّة أسناد وغيرها، فماذا يقولون في قوله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) [المؤمنون] 10- وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) . قوله تعالى: يُسْتَعْتَبُونَ أي: يسترضون، أي: لا يقال لهم أرضوا ربّكم، لأن الاخرة ليست بدار عمل. 11- وقال تعالى: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) . الكلام على الذين كفروا، أي: أنهم ألقوا الاستسلام لأمر الله وحكمه، بعد الإباء والاستكبار في الدنيا. وهذا من معاني «السلم» مقيّدا بهذه الآية، وهو نظير «الإسلام» بمعنى الخضوع والانقياد والاستسلام. 12- وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ [الآية 92] . أي: ولا تكونوا في نقض الأيمان، كالمرأة التي أنحت على غزلها، بعد أن أحكمته وأبرمته، فجعلته أنكاثا، أي: ما ينكث فتله، تتخذون الأيمان دخلا بينكم، أي: مفسدة ودغلا. أقول: والدّخل والدّغل سواء. 13- وقال تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [الآية 101] . أقول: واستعمال «مكان» في فعل التبديل، ما زال معروفا حتى في العامّيّة الدارجة. 14- وقال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [الآية 112] . أقول: وضرب الأمثال في القرآن على هذا النحو، من تصوير حالة يعرض فيها جملة أمور، ليتخذ منها العباد عبرة لهم. ومن ذلك قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [إبراهيم: 24] .

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [الآية 76] . وقوله تعالى في الآية 112: بِأَنْعُمِ اللَّهِ الأنعم جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس. 15- وقال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً [الآية 120] . قوله تعالى: كانَ أُمَّةً فيه وجهان: أحدهما أنه كان وحده أمّة من الأمم، لكماله في جميع صفات الخير. والثاني: أن يكون أمّة بمعنى مأموم، أي: يؤمّه الناس ليأخذوا منه الخير، أو بمعنى مؤتمّ به كالرحلة والنّخبة، وما أشبه ذلك مما جاء من فعلة بمعنى مفعول.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"النحل"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النحل» «1» قال تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [الآية 8] بالنّصب. أي: وجعل الله الخيل والبغال والحمير زينة.. وقال تعالى: وَمِنْها جائِرٌ [الآية 9] أي: ومن السبيل لأنها مؤنثة في لغة الحجاز «2» . وقال تعالى: وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ [الآية 13] أي: خلق لكم وبثّ لكم «3» . وقال تعالى: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [الآية 30] فكانت «ماذا» بمنزلة «ما» وحدها. وقال تعالى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [الآية 21] على التوكيد «4» . وقال سبحانه: إِنْ تَحْرِصْ [الآية 37] لأنّها من «حرص» «يحرص» . وإذا وقفت على يَتَفَيَّؤُا [الآية 48] قلت «يتفيّأ» ، كما تقول بالعين «تتفّيع» جزما، وإن شئت أشممتها الرفع، ورمته، كما تفعل ذلك في «هذا حجر» . وقال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) فذكّر، وهم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . أنظر المذكّر والمؤنّث 87، وكتاب التذكير والتأنيث 16، والمذكّر والمؤنّث للمبرد 15، والّلغة في الفرق بين المذكّر والمؤنّث 67، والّلهجات العربية 502. (3) . نقله في إعراب القرآن 2: 560. (4) . نقله في زاد المسير 4: 437. [.....]

غير الإنس، لأنه لما وصفهم سبحانه بالطاعة أشبهوا ما يعقل «1» ، وجعل اليمين للجماعة مثل وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر: 45] . وقال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ [الآية 49] يريد: من الدواب، واجتزأ بالواحد، كما تقول: «ما أتاني من رجل» أي: ما أتاني من الرجال مثله. وقال تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ [الآية 53] لأنّ «ما» بمنزلة «من» ، فجعل الخبر بالفاء. وقال تعالى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ [الآية 55] . وقال تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [الآية 67] ولم يقل «منها» لأنّ السياق أضمر «الشيء» كأنه «ومنها شيء تتّخذون منه سكرا» «2» . وقال تعالى: إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي [الآية 68] على التأنيث في لغة أهل الحجاز. وغيرهم يقول «هو النّحل» وكذلك كلّ جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء، نحو «البرّ» و «الشعير» هو في لغتهم مؤنّث «3» . وقال تعالى: ذُلُلًا [الآية 69] وواحدها «الذلول» وجماعة «الذّلول» «الذلل» . وقال تعالى: بَنِينَ وَحَفَدَةً [الآية 72] وواحدهم «الحافد» . وقال تعالى: أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [الآية 76] لأنّ «أينما» من حروف المجازاة. وقال تعالى: رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً [الآية 73] بجعل «الشيء» بدلا من «الّرزق» ، وهو في معنى «لا يملكون رزقا قليلا ولا كثيرا» «4» . وقال بعضهم: «الرّزق فعل يقع بالشيء» يريد: «لا يملكون أن يرزقوا شيئا» . وقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ [الآية 91] تقول: «أوفيت بالعهد»

_ (1) . نقله في زاد المسير 4: 453. (2) . نقله في زاد المسير 4: 464. (3) . المذكّر والمؤنّث 85، والبلغة في الفرق بين المذكّر والمؤنّث 67، والّلهجات العربية 504. (4) . نقله في الجامع 10: 146.

و «وفيت بالعهد» فإذا قلت «العهد» قلت «أوفيت العهد» بالألف «1» . وقال تعالى: أَنْكاثاً [الآية 92] وواحدها «النكث» . قوله سبحانه: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ [الآية 106] خبر لقوله تعالى وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً ثم دخل معه قوله سبحانه مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فأخبر عنهم بخبر واحد، إذ كان ذلك يدل على المعنى «2» . وقال تعالى: مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً [الآية 81] وواحده: «الكنّ» . وقال جلّ شأنه: كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [الآية 111] ومعنى كلّ نفس: كلّ إنسان، وورد التأنيث لأن النفس تؤنّث وتذكّر. يقال «ما جاءتني نفس واحدة» و «ما جاءني نفس واحد» . وقال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ [الآية 116] بجعل لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اسما للفعل، كأنّ السّياق «ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الْكَذِبَ هذا حَلالٌ [الآية 116] . وقال تعالى شاكِراً لِأَنْعُمِهِ [الآية 121] وقال سبحانه فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [الآية 112] بجمع «النّعمة» على «أنعم» كما قال جلّ شأنه: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ [الأحقاف: 15] فزعموا أنّه جمع «الشدّة» .

_ (1) . يقصد الهمزة على عادة الأقدمين، من عدم تمييز إحداهما من الأخرى. (2) . نقله في الجامع 10: 180 بعبارة مغايرة وأفاده في الكشاف 2: 636.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"النحل"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النحل» «1» إن قيل: لم قدّمت الإراحة، وهي مؤخّرة في الواقع، على السروح، وهو مقدم في الواقع، في قوله تعالى: حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) . قلنا: لأنّ الأنعام، في وقت الإراحة، وهي ردها عشيّا الى المراح، تكون أجمل وأحسن، لأنها تقبل ملأى البطون، حاملة الضروع، متهادية في مشيها، يتبع بعضها بعضا، بخلاف وقت السروح، وهو إخراجها الى المرعى، فإنّ هذه الأمور كلّها تكون على ضدّ ذلك. فإن قيل: قوله تعالى: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [الآية 7] ، إن أريد به: لم تكونوا بالغيه عليها إلّا بشق الأنفس، فلا امتنان فيه وإن أريد به لم تكونوا بالغيه بدونها إلّا بشقّ الأنفس، فهم لا يبلغونه عليها أيضا إلّا بشق الأنفس، فما الحكمة في ذلك؟ قلنا: معناه وتحمل أثقالكم: أي أجسامكم وأمتعتكم معكم الى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بدونها، بأنفسكم من غير أمتعتكم إلّا بجهد ومشقة. فكيف لو حملتم أمتعتكم على ظهوركم؟ والمراد بالمشقة: المشقّة التي تنشأ من المشي، أو من المشي مع الحمل على الظهر لا مطلق مشقّة السفر، وهذا مخصوص بحال فقد الإبل، فظهرت الحكمة من ذلك. فإن قيل: قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [الآية 8] يقتضي حرمة أكل الخيل، كما

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

اقتضاه في البغال والحمير، من حيث أنه لم ينصّ على منفعة أخرى فيها، غير الركوب والزينة، ومن حيث أن التعليل بعلّة يقتضي الانحصار فيها كقولك: فعلت هذا لكذا، فإنه يناقضه أن تكون فعلته لغيره، أو له مع غيره، إلّا إذا كان أحدهما جهة في الاخر. قلنا: ينتقض بالحمل عليها والحراثة بها، فإن ذلك مباح مع أنه لم ينص عليه. فإن قيل: إنّما ثبت ذلك بالقياس على الأنعام، فإنه منصوص عليه بقوله تعالى وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ [الآية 5] ، والمراد به كل منفعة، معهودة منها عرفا، لا كلّ منفعة. فثبت مثل ذلك في الخيل والبغال والحمير. قلنا: لو كان ثبوته فيها بالقياس في الأنعام، لثبت حلّ الأكل في الخيل بالقياس على ثبوته في الأنعام أيضا ولو ثبت حلّ الأكل في الخيل بالقياس، لثبت في البغال والحمير، كما ثبت الحمل والحراثة ثبوتا شاملا للكل بالقياس على ثبوته في الأنعام. والجواب عن الجهة الثانية في أصل السؤال، أن هذه اللام ليست لام التعليل، بل لام التمكين، كقوله تعالى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس: 67، غافر: 61] ومع هذا يجوز في الليل غير السكون. فإن قيل: لم قال الله تعالى في وصف ماء السماء يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [الآية 11] ولم يقل كل الثمرات، مع أن كل الثمرات تنبت بماء السماء؟ قلنا: كل الثمرات لا تكون إلّا في الجنة، وإنما ينبت في الدينا بعض منها أنموذجا وتذكرة، فالتبعيض بهذا الاعتبار يكون المراد بالثمرات ما هو أعمّ من ثمرات الدنيا، ومن يجوّز زيادة «من» في الإثبات يحتمل أن يجعلها زائدة هنا. فإن قيل: قوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [الآية 17] ، المراد بمن لا يخلق الأصنام، بدليل قوله تعالى بعده: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) ، فكيف جيء بمن المختصة بأولي العلم والعقل؟ قلنا: خاطبهم على معتقدهم، لأنهم سموها آلهة وعبدوها، فأجروها مجرى

أولي العلم، ونظير هذا قوله تعالى في الأصنام أيضا: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الأعراف: 195] ، فأجرى عليهم ضمير أولي العلم والعقل لما قلناه ويرد على هذا الجواب أن يقال: إذا كان معتقدهم خطأ وباطلا، فالحكمة تقتضي أن ينزعوا عنه ويقلعوا، لا أن يبقوا عليه ويقرّوا في خطابهم على معتقدهم إيهاما لهم أنّ معتقدهم حقّ وصواب، وجوابه: أن الغرض من الخطاب الإفهام، ولو خاطبهم على خلاف معتقدهم ومفهومهم فقال: أفمن يخلق كما لا يخلق، لاعتقدوا أنّ المراد من الثاني غير الأصنام من الجماد. الثاني: قال ابن الأنباري: إنما جاز ذلك، لأنّها ذكرت مع العالم، فغلب عليها حكمه في اقتضاء «من» ، كما في قول العرب: اشتبه عليّ الراكب، وجمله: فما أدري من ذا، ومن ذا. فإن قيل: هذا إلزام للذين عبدوا الأصنام، وسمّوها آلهة تشبيها بالله، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فظاهر الإلزام يقتضي أن يقال لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ قلنا: لما سوّوا بين الأصنام وخالقها سبحانه وتعالى، في تسميتها باسمه، وعبادتها كعبادته، فقد سوّوا بينها وبين خالقها قطعا، فصحّ الإنكار بتقديم أيهما كان وإنما قدم في الإنكار عليهم ذكر الخالق، إمّا لأنه أشرف، أو لأنه هو المقصود الأصلي من هذا الكلام، تنزيها له وإجلالا وتعظيما. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في وصف الأصنام غَيْرُ أَحْياءٍ [الآية 21] بعد قوله تعالى: أَمُوتُ؟ قلنا: الحكمة فيه، إفادته أنها أموات لا يعقب موتها حياة، احترازا عن أموات يعقب موتها حياة. كالنطف والبيض والأجساد الميتة، وذلك أبلغ في موتها، كأنّ الكلام: أموات في الحال غير أحياء في المال. الثاني: أنه ليس وصفا لها بل لعبّادها، معناه: وعبّادها غير أحياء القلوب. الثالث: أنه إنما قال غَيْرُ أَحْياءٍ ليعلم أنه أراد أمواتا في الحال، لا أنها ستموت كما في قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزّمر] . فإن قيل: لم عاب الأصنام وعبّادها بأنهم لا يعلمون وقت البعث، فقال تعالى: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ

يُبْعَثُونَ (21) والمؤمنون الموحّدون كذلك؟ قلنا: معناه وما يشعر الأصنام متى يبعث عبّادها، فكيف تكون آلهة مع الجهل؟ أو معناه: وما يشعر عبّادها، وقت بعثهم لا مفصّلا ولا مجملا، لأنهم ينكرون البعث، بخلاف الموحّدين فإنهم يشعرون وقت بعثهم مجملا، أنه يوم القيامة، وإن لم يشعروه مفصّلا.. فإن قيل: قوله تعالى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) كيف يعترفون بأنه من عند الله تعالى، بالسؤال المعاد ضمن الجواب، ثم يقولون هو أساطير الأوّلين. قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة الحجر في قوله تعالى وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) [الحجر] . فإن قيل: لم قيل هنا لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الآية 25] وقال في موضع آخر: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] ؟ قلنا: معناه ومن أوزار إضلال الذين يضلّونهم، فيكون عليهم وزر كفرهم مباشرة، ووزر كفر من أضلّوهم تسبّبا، فقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يعني أوزار الذنوب التي باشروها. وأما قوله تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، فمعناه: وزر لا مدخل لها فيه، ولا تعلّق له بها مباشرة، ولا تسبّبا ونظير هاتين الآيتين قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] إلى قوله تعالى وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] . فإن قيل: قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ [الآية 40] ، يدل على أن المعدوم شيء، ويدل على ان خطاب المعدوم جائز والأول منتف عند أكثر العلماء، والثاني منتف بالإجماع؟ قلنا: أما تسميته شيئا، فمجاز باعتبار ما يؤول إليه، ونظيره قوله تعالى إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) [الحج] وقوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزّمر] . وأما الثاني فإن هذا الخطاب تكوين، يظهر به أثر القدرة،

فيمتنع أن يكون المخاطب به موجودا قبل الخطاب لأنه إنما يكون بالخطاب، فلا يسبقه، بخلاف خطاب الأمر والنهي. فإن قيل: قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ [الآية 49] كيف لم يغلب العقلاء من الدواب على غيرهم، كما في قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [النّور: 45] . قلنا: لأنه أراد عموم كل دابة وشمولها، فجاء ب «ما» التي تعم النوعين وتشملهما، ولو جاء ب «من» لخّص العقلاء. فإن قيل: قوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ [الآية 61] يقتضي أنه لو أخذ الظالمين بظلمهم لأهلك غير الظالمين من الناس، ولأهلك جميع الدوابّ غير الناس ومؤاخذة البريء بسبب ظلم الظالم، لا يحسن بالحكيم؟ قلنا: المراد بالظلم هنا الكفر، وبالدابّة الظالمة الكافر، كذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل معناه: لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء. الثاني: يجوز أن يهلك الجميع بشؤم ظلم الظالمين، مبالغة في إعدام الظلم ونفي وجود أثره، حتى لا يوجد بعد ذلك من بقيّة الناس ظلم موجب للإهلاك، كما وجد من الذين أهلكهم بظلمهم ودليل جواز ذلك ما وجد في زمن نوح عليه السلام، فإنه أهلك بشؤم الظلم الواقع على قوم نوح جميع دواب الأرض، وما نجا إلّا من في السفينة، ولم يبق على ظهر الأرض دابة، ولذا قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] ثم إذا فعل ذلك للحكمة والمصلحة التي اقتضت فعله، عوّض البريء في الاخرة ما هو خير وأبقى. الثالث أن كل إنسان مكلّف، فهو ظالم إما لنفسه أو لغيره، لأنه لا يخلو عن ذنب صغير أو كبير، فلو أهلك الناس بذنوبهم لأهلك الدوابّ أيضا، لأنه إنما خلق الدواب لمصالح الناس، وإذا عدم الناس وقع استغناؤهم عن الدواب كلها. فإن قيل: لم قال تعالى مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ [الآية 68] ولم يقل في الجبال وفي الشجر، والاستعمال. هو

أن يقال: اتخذ فلان بيتا في الجبل أو في الصحراء أو نحو ذلك؟ قلنا: قال الزمخشري رحمه الله: إنّما أتي بلفظة «من» ، لأنه أريد معنى البعضية، وأن لا تبني بيوتها في كل جبل وكل شجر، ولا في كل مكان من الجبل والشجر. وأنا أقول: إنما ذكر بلفظ «من» لأنه أريد كون البيت بعض الجبل وبعض الشجر، كما نشاهد ونرى من بيوت النحل، لأنه يتخذ من طين أو عيدان في الجبل والشجر، كما تتخذ الطيور. فلو أتي بلفظة «في» لم تدل على هذا المعنى، ونظيره قوله تعالى وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [الشعراء: 149] . فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [الآية 72] وأزواجنا لسن من أنفسنا، لأنهن لو كنّ من أنفسنا لكنّ حراما علينا، فإن المتفرعة من الإنسان لا يحلّ له نكاحها؟ قلنا: المراد بهذا أنه خلق آدم ثم خلق منه حواء، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء: 1] . الثاني أنّ المراد من جنسكم، كما قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] . فإن قيل: لم قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) ، فعبر بالواو والنون، وهما من خواص من يعقل؟ قلنا: كان فيمن يعبدونه من دون الله، من يعقل كالعزيز وعيسى والملائكة عليهم الصلاة والسلام، فغلّبهم. فإن قيل: لم أفرد في قوله تعالى: ما لا يَمْلِكُ ثم جمع في قوله سبحانه وَلا يَسْتَطِيعُونَ؟ قلنا: أفرد نظرا للفظ «ما» ، وجمع نظرا إلى معناها، كما قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ [الزخرف] أفرد الضمير نظرا إلى للفظ، وجمع الظهور نظرا إلى المعنى. فإن قيل: ما الحكمة في نفي استطاعة الرزق بعد نفي ملكه والمعنى واحد، لأن نفي ملك الفعل، هو نفي استطاعته، والرزق هنا اسم مصدر بدليل إعماله في «شيئا» ؟

قلنا ليس في «يستطيعون» ضمير مفعول هو الرزق، بل الاستطاعة منفية عنهم مطلقا، معناه لا يملكون أن يرزقوا، ولا استطاعة لهم أصلا في رزق أو غيره، لأنهم جماد. الثاني: أنه لو قدّر فيه ضمير مفعول على معنى ولا يستطيعونه، كان مفيدا أيضا، على اعتبار كون الرزق اسما للعين، لأن الإنسان يجوز أن يملك الشيء، ولكن يستطيع أن يملكه، بخلاف هؤلاء، فإنهم لا يملكون، ولا يستطيعون أن يملكوا. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى مَمْلُوكاً [الآية 75] بعد قوله تعالى: عَبْداً وما الحكمة في قوله سبحانه لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ بعد قوله تعالى مَمْلُوكاً؟ قلنا: لفظ العبد يصلح للحرّ والمملوك، لأن الكل عبيد الله تعالى، قال الله تعالى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ [ص: 30] فقال «مملوكا» لتمييزه من الحرّ، وقال لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ لتمييزه من المأذون والمكاتب، فإنّهما يقدران على التصرّف والاستقلال. فإن قيل: المضروب به المثل اثنان، وهما المملوك والمرزوق رزقا حسنا، فظاهره أن يقال هل يستويان، فلم قال تعالى: يَسْتَوُونَ [الآية 75] ؟ قلنا: لأنه أراد جنس المماليك وجنس المالكين، لا مملوكا ولا مالكا معيّنا. الثاني: أنه أجرى الاثنين مجرى الجمع. الثالث: أن «من» تقع على الجمع، ولقائل أن يقول على الوجه الثالث: يلزم منه أن يصير المعنى: ضرب الله مثلا عبدا مملوكا، وجماعة مالكين هل يستوون، إنه لا يحسن مقابلة الفرد بالجمع في التمثيل. فإن قيل: «أو» في الخير للشكّ، والشك على الله تعالى محال، فما معنى قوله تعالى: إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [الآية 77] ؟ قلنا: قيل «أو» هنا بمعنى «بل» كما في قوله تعالى إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) [الصافات] . وقوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: 74] وقوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) [النّجم] ويرد على هذا أن «بل» للإضراب، والإضراب رجوع عن الإخبار، وهو على الله محال. وقيل هي بمعنى الواو في هذه الآيات. وقيل «أو» للشك في الكلّ،

لكن بالنسبة إلينا لا إلى الله تعالى، وكذا في قوله تعالى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) يعني بالنسبة الى نظر النبي (ص) . وقال الزجّاج: ليس المراد، أنّ الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر، ولكنّ المراد، وصف قدرة الله على سرعة الإتيان بها، متى شاء. فإن قيل: لم قال تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [الآية 81] ، ولم يقل: و «البرد» مع أن السرابيل، هي الثياب تلبس لدفع الحر والبرد، وهي مخلوقة لهما؟ قلنا: حذف ذكر أحدهما لدلالة ضدّه عليه، كما في قوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران: 26] ولم يقل: والشر، وكما قال الشاعر: وما أدري إذا يمّمت أرضا أريد الخير أيّهما يليني أي أريد الخير لا الشر، أو أريد الخير وأحذر الشر. فإن قيل: لم كان ذكر الخير والحرّ أولى من ذكر الشرّ والبرد؟ قلنا: لأن الخير مطلوب العباد من ربّهم، ومرغوبهم إليه أو لأنه اكثر وجودا في العالم من الشرّ وأما الحرّ فلأن الخطاب بالقرآن، أول ما وقع مع أهل الحجاز، والوقاية من الحر، أهمّ عندهم، لأنّ الحرّ في بلادهم أشدّ من البرد. فإن قيل: لم قال الله تعالى يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) مع أنّهم كلّهم كافرون؟ قلنا: قال الزمخشري: الأحسن، أن المراد بالأكثر هنا الجمع، وفي هذا نظر لأنّ بعض الناس لا يجوّز اطلاق اسم البعض على الكل، لأنه ليس لازما له، بخلاف عكسه. فإن قيل: ما فائدة قول المشركين عند رؤية الأصنام كما ورد في التنزيل: رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ [الآية 86] والله تعالى عالم بذلك؟ قلنا: لما أنكروا الشرك بقولهم كما ورد في التنزيل: رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) [الأنعام] عاقبهم الله تعالى بإصمات ألسنتهم وأنطق جوارحهم، فكان جوابهم عند معاينة آلهتهم: رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا [الآية 86] أي قد أقررنا بعد الإنكار وصدّقنا بعد الكذب، طلبا للرحمة وفرارا من

الغضب، فكان هذا القول على وجه الاعتراف منهم بالذنب، لا على وجه إعلام من لا يعلم. الثاني: أنهم لمّا عاينوا عظيم غضب الله تعالى، وعقوبته قالوا كما ورد في التنزيل: رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا رجاء أن يلزم الله الأصنام ذنوبهم، لأنهم كانوا يعتقدون لها العقل والتمييز، فيخفّ عنهم العذاب. فإن قيل: لم قالت الأصنام للمشركين كما ورد في التنزيل: إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) ، وكانوا صادقين في ما قالوا؟ قلنا: إنما قالت لهم ذلك لتظهر فضيحتهم، وذلك أنّ الأصنام كانت جمادا لا تعرف من يعبدها، فلم تعلم أنهم عبدوها في الدنيا، فظهرت فضيحتهم حيث عبدوا من لا يعلم بعبادتهم، ونظير هذا قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) [مريم] . فإن قيل: قوله تعالى وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [الآية 89] ، فإذا كان القرآن تبيانا لكل شيء من أمور الدين، فمن أين وقع بين الأئمّة في أحكام الشريعة هذا الخلاف الطويل العريض؟ قلنا: إنّما وقع الخلاف بين الأئمّة، لأن كل شيء يحتاج إليه من أمور الدين ليس مبيّنا في القرآن نصّا، بل بعضه مبيّن وبعضه مستنبط بيانه منه بالنظر والاستدلال وطريق النظر والاستدلال مختلفة، فلذلك وقع الخلاف. فإن قيل: كثير من أحكام الشريعة لم تعلم من القرآن نصّا ولا استنباطا كعدد ركعات الصلاة، ومقادير باقي الأعضاء، ومدّة السفر والمسح والحيض، ومقدار حدّ الشرب، ونصاب السرقة، وما أشبه ذلك ممّا يطول ذكره. قلنا: القرآن تبيان لكل شيء من أمور الدين، لأنه نصّ على بعضها، وأحال على السّنّة في بعضها، في قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] وقوله تعالى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) وأحال على الإجماع ايضا بقوله تعالى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 115] ، وأحال على القياس أيضا بقوله تعالى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)

[الحشر] ، والاعتبار النظر والاستدلال. فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها، وكلّها مذكورة في القرآن، فصحّ كونه تبيانا لكل شيء. فإن قيل: لم وحّدت القدم، ونكّرت، في قوله تعالى فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها [الآية 94] ولم يقل القدم أو الأقدام، وهو أشدّ مناسبة لجمع الأيمان؟ قلنا: وحّدت ونكّرت في قوله تعالى، لاستعظام أن تزلّ قدم واحدة على طريق الجنة، فكيف بأقدام كثيرة؟ فإن قيل: «من» تتناول الذكر والأنثى لغة، ويؤيده قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ [الأنعام: 160] وقوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] وقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) [الزلزلة] وقوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185] ونظائره كثيرة، فلم قال تعالى هنا: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [الآية 97] ؟ قلنا: إنما صرح بذكر النوعين هنا، لسبب اقتضى ذلك وهو أن النساء قلن: «ذكر الله تعالى الرجال في القرآن بخير، ولم يذكر النساء بخير، فلو كان فينا خير لذكرنا به» . فأنزل الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الأحزاب: 35] الآية، وأنزل مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الآية 97] فذهب عن النساء وهم تخصيصهنّ عن العموميّات. فإن قيل: لم قال تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [الآية 97] وقد رأينا كثيرا من الصلحاء والأتقياء، قطعوا أعمارهم في المصائب والمحن وأنواع البلايا باعتبار الأمثل، فالأمثل، إلى الأنبياء؟ قلنا: المراد بالحياة الطيّبة الحياة في القناعة. وقيل في الرزق الحلال. وقيل في رزق يوم بيوم. وقيل التوفيق للطاعات. وقيل في حلاوة الطاعات. وقيل في الرضا بالقضاء. وقيل المراد به الحياة في القبر، كما قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) [آل عمران] وقيل المراد به الحياة في الدار الاخرة، وهي الحياة الحقيقية، لأنها حياة لا موت بعدها، دائمة في النعيم المقيم، والظاهر أنّ المراد به الحياة في الدنيا، لقوله تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ [الآية 97] فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ

الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [النساء: 134] كما قال تعالى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران: 148] . فإن قيل: لم قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) وكثير من الصحابة وغيرهم، كانوا كافرين فهداهم الله تعالى الى الإيمان؟ قلنا: المراد من هذا، الكافرون، الذين علم الله تعالى أنهم يموتون على الكفر ويؤيده ما بعد ذلك من الآيتين. فإن قيل: ما معنى إضافة النفس الى النفس في قوله تعالى يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [الآية 111] والنفس ليس لها نفس أخرى؟ قلنا: النفس اسم للروح وللجوهر القائم بذاته، المتعلّق بالجسم تعلّق التدبير. وقيل هي اسم لجملة الإنسان، لقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] وقوله تعالى وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45] . والنفس أيضا اسم لعين الشيء وذاته، كما يقال نفس الذهب والفضة محبوبة: أي عينهما وذاتهما، فالمراد بالنفس الأولى الإنسان، وبالثانية ذاته، فكأنه يوم يأتي كل إنسان يجادل عن نفسه: أي ذاته لا يهمّه شأن غيره، كلّ يقول نفسي نفسي، فاختلف معنى النفسين. فإن قيل: لم قال تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [الآية 112] والإذاقة لا تناسب اللباس، وإنّما تناسبه الكسوة؟ قلنا: الإذاقة تناسب المستعار له وهو الجوع، من حيث أنّ الجوع يقتضي الأكل فيقتضي الذوق وإن كانت لا تناسب المستعار وهو اللباس والكسوة تناسب المستعار وهو اللباس، ولا تناسب المستعار له وهو الجوع وكلاهما من دقائق علم البيان، يسمى الأول تجريد الاستعارة، والثاني ترشيح الاستعارة فجاء القرآن العزيز في هذه الآية بتجريد الاستعارة، وقد ذكرنا تمام هذا في كتابنا «روضة الفصاحة» ، ولباس الجوع والخوف، استعارة لما يظهر على أهل القرية من أثر الجوع والخوف، من الصفرة والنحول كقوله تعالى: وَلِباسُ التَّقْوى [الأعراف: 26] استعير اللباس لما يظهر على المتقي من أثر التقوى. وقيل إن فيه إضمارا تقديره: فأذاقها الله طعم الجوع وكساها لباس الخوف.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"النحل"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النحل» «1» قوله سبحانه: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [الآية 2] هذه استعارة: لأن المراد بالروح، هاهنا، الوحي الذي يتضمن إحياء الخلق، والبيان عن الحقّ. ومثل ذلك قوله سبحانه: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] ومثله قوله سبحانه في المسيح (ع) : إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171] فسمّاه تعالى روحا على هذا المعنى، لأنّ به حياة أمته، وبقاء شريعته. فأما قوله سبحانه: وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ [السّجدة: 9] فإنما أراد بذلك الروح التي خلقها ليحيي عباده بها، وأضافها الى نفسه كما أضاف الأرض الى نفسه، إذ يقول تعالى: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النساء: 97] . وكان أبو الفتح عثمان بن جنّي رحمه الله يقول: معنى قولهم في القسم: «لعمر الله ما قلت ذلك، ولأفعلن ذلك» ، إنما يريدون به القسم بحياة يحيي الله بها، لا حياة يحيى بها، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. فكان المقسم إذا أقسم بهذه الحياة، دخل ما يخصه منها في جملة قسمه، وجرى ذلك مجرى قوله: لعمري. فيصير مقسما بحياته التي أحياه الله بها. والعمر هاهنا هو العمر. ومعناه الحياة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

وقوله سبحانه: إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [الآية 7] استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون المعنى: أنّكم لا تبلغون هذا البلد إلا بأنصاف أنفسكم، من عظم المشقّة، وبعد الشّقّة، لأن الشّق أحد قسمي الشيء. ومنه قولهم: شقيق النفس أي قسيمها، فكأنه من الامتزاج بها شقّ منها. وعلى ذلك قول الشاعر: من بني عامر لها نصف قلبي قسمة مثلما يشقّ الرّداء فأمّا من حمل قوله تعالى: إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ على أنّ معناه المشقّة والنصب والكدّ والدأب، فإن الكلام، على قوله، يكون حقيقة، ويخرج عن حدّ الاستعارة. كأنه، سبحانه، قال: إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلّا بمشقة الأنفس. وقوله سبحانه: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ [الآية 9] وهذه استعارة. لأن الجائر هو الضالّ نفسه. يقال: جار عن الطريق. إذا ضلّ عن نهجه، وخرج عن سمته. ولكنهم لمّا قالوا: طريق قاصد، أي مقصد فيه، جاز أن يقولوا: طريق جائر أي يجار فيه. وقوله سبحانه: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 25] . وهذه استعارة لأنّ الأوزار على الحقيقة هي الأثقال، واحدها وزر. والمراد بها هاهنا الخطايا والآثام، لأنها تجري مجرى الأثقال التي تقطع المتون، وتنقض الظهور. وفي معنى ذلك قولهم: فلان خفيف الظهر. وصفوه بقلة العدد والعيال، أو بقلة الذنوب والآثام. وقوله سبحانه: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [الآية 26] وهذه استعارة. لأن الإتيان هاهنا ليس يراد به الحضور عن غيبة، والقرب بعد مسافة. وإنّما ذلك كقول القائل: أتيت من جهة فلان. أى جاءني المكروه من قبله. وأتي فلان من مأمنه، أي ورد عليه الخوف من طريق الأمن، والضرّ من مكان النفع. وقوله سبحانه: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [الآية 28] . وهذه استعارة. وليس هناك شيء يلقى على الحقيقة. وإنما المراد بذلك طلب المسالمة عن ذلّ واستكانة، والتماس وشفاعة. لأنّ من كلامهم أن يقول القائل: ألقى إليّ فلان بيده. أي خضع

لي، وسلّم لأمري. وقد يجوز أيضا أن يكون معنى فَأَلْقَوُا السَّلَمَ: أي استسلموا وسلّموا. فكانوا كمن طرح آلة المقارعة، ونزع شكّة المحاربة. وفي معنى ذلك قوله سبحانه: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] أي لا تستسلموا لها، وتوقعوا نفوسكم فيها. وقوله سبحانه: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) . وهذه استعارة. لأنه ليس هناك شيء على الحقيقة يؤمر، ولا قول يسمع. وإنّما هذا القول عبارة عن تحقيق الإرادة وشرعة وجود المراد، من غير معاناة ولا مشقّة، فهو إخبار عن نفاذ قدرته تعالى. فإذا أراد أمرا كان لوقته، من غير أن يبطئ إيجاده، أو يتقاعس إنفاذه. وذلك بمنزلة قول أحدنا: «كن» في خفة اللفظ به، وسرعة التعبير عنه، من غير كلفة تلحقه، ولا مشقة تعترضه. وقيل إن معنى قوله سبحانه: كُنْ، علامة للملائكة يدلّهم بها، عند سماعهم لها، على أنه سيحدث كذا، ويفعل كذا، من محكمات التقدير، ومبرمات التدبير. وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ [الآية 48] . وهذه استعارة. لأن المراد بها رجوع الظلال من موضع الى موضع. والظلال على الحقيقة لا تتفيأ ولا تنقل، وإنما ترد الشمس عليها، ثم ترجع إلى ما كانت عليه، بعد أن تزول الشمس عنها، والشمس هي المتنقلة عليها، والظلال قائمة بحالها. وقوله تعالى في صفة النحل العسّالة: فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [الآية 69] . وفي هذه الآية استعارتان: إحداهما قوله تعالى: فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا، على قول من جعل ذللا حالا للسّبل، لا حالا للنحل. والذّلل: جمع ذلول، وهي الطرق الموطّأة للقدم، السهلة على الحافر والمنسم، تشبيها لها بالإبل الذلل، وهي التي قد عوّدت الترحل، وألفت المسير. والاستعارة الأخرى قوله سبحانه: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ والمراد بذلك العسل. والعسل عند المحقّقين من العلماء غير خارج من

بطون النحل، وإنما تنقله بأفواهها من مساقطه ومواقعه من أوراق الأشجار، وأضغاث النبات. لأنه يسقط كسقوط الندى في أماكن مخصوصة، وعلى أوصاف معلومة، والنحل ملهمة تتبّع تلك المساقط، وتعهد تلك المواقع، فتنقل العسل بأفواهها إلى كوّاراتها «1» ، والمواضع المعدّة لها. فقال سبحانه: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها والمراد من جهة بطونها. وجهة بطونها: أفواهها. وهذا من غوامض هذا البيان، وشرائف هذا الكلام. وقوله سبحانه: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وهذه استعارة. والمراد بإلقاء القول- والله أعلم- إخراج الكلام مع ضرب من الخضوع والاستكانة والإسرار والخفية، كما قال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: 1] وفي هذا الكلام مفعول محذوف. فكأنه قال تعالى: «تلقون إليهم الأخبار بالمودة» . وهذا القول، نزل في قوم من المؤمنين، كانوا يجتمعون مع قوم من المنافقين، بأرحام تلفهم، وخلل «2» تولد عنهم، فيتسقّطونهم ليعرفوا منهم أخبار النبي (ص) والمؤمنين، فنهوا عن مناقشتهم والاجتماع معهم. فكأنّ المعنى: تلقون إليهم الأسرار بالمودّة التي بينكم، على سبيل الإسرار والإخفاء. وقد قيل إن المراد: تلقون إليهم المودّة، فقال تعالى: بالمودّة، كما قال سبحانه: وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) [المؤمنون] أي تنبت الدهن على أحد التأويلين، ونظير التأويل الأول قوله سبحانه في ذكر الشياطين: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) [الشعراء] أي يطلبون سماع الأخبار على وجه الاستخفاء والاستسرار، وهذا الوجه لا يصح في قوله تعالى: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) لأنّ الحال، التي أخبر سبحانه بأن هذا يجري فيها، هي حال القيامة، وتلك حال لا يجوز

_ (1) . الكوّارات بضم الكاف وتشديد الواو جمع كوّارة، وهي بيت يتخذ للنحل من القضبان أو الطين تأوي إليه. أو هي عسلها في الشمع. (2) . الخلل: جمع خلّة وهي الصداقة والصحبة.

فيها الاستسرار لقول، ولا الكتمان لسر، لأن السرائر مظهرة، والضمائر مصرحة «1» . وإنما المراد بهذا الكلام ما يقوله المعبودون لمن عبدهم من الأمة، إذ يقول سبحانه: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ [الآية 86] فقال المعبودون لهم في الجواب عن ذلك: إنكم لكاذبون، أي في أنّا دعوناكم الى العبادة، أو في قولكم إنّنا آلهة. وقد يجوز أيضا أن يكون التكذيب من العابدين للمعبودين، فكأنّهم قالوا لهم: كذبتم في ادّعائكم، أنّكم تستحقون العبادة من دون الله تعالى. فلم يبق إذن إلا الوجه الأول في معنى إلقاء القول، وهو أن يكون على وجه الخضوع والضراعة، ويكون سبب هذه الاستكانة الخوف من الله سبحانه، لا خوف بعض الشركاء من بعض. ومثل ذلك قوله سبحانه، عقب هذه الآية: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ [الآية 87] أي استسلموا له عن ضرع ذلة، وانقطاع حيلة. ومن ذلك قولهم: ألقى فلان يد العاني. أي ذلّ ذلّ الأسير، وخضع خضوع المقهور. وقوله سبحانه: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها [الآية 94] وهذه استعارة. لأن المراد بالقدم هاهنا الثبات في الدّين. ولما كان أصل الثبات في الشيء والاستقرار عليه، إنّما يكون بالقدم، حسن أن يعبر عن هذا المعنى بلفظ القدم، وكأنّ المراد بقوله تعالى: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها أي يضعف دينكم، ويضطرب يقينكم، فيكون كالقدم الزّالة، والقائمة المائدة. وقوله سبحانه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الآية 102] وهذه استعارة. لأن المراد بذلك جبريل عليه السلام، والتقديس: الطهارة، وإنما سمّي روح القدس، لأنّ حياة الدين وطهارة المؤمنين، إنّما تكون بما يحمله الى الأنبياء عليهم السلام من الأحكام والشرائع، والآداب والمصالح. وقوله سبحانه:

_ (1) . أصحر الأمر: أظهره وأعلنه في غير خفاء.

لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) وهذه استعارة. لأن المراد باللسان هاهنا جملة القرآن وطريقته، لا العضو المخصوص الذي يقع الكلام به. وذلك كما يقول العرب في القصيدة: هذه لسان فلان. أي قوله. قال شاعرهم: لسان السّوء تهديها إلينا وحنت وما حسبتك أن تحينا «1» أي مقالة السوء. ومثل ذلك قول الاخر «2» : ندمت على لسان كان منّي وددت بأنّه في جوف عكم أي على قول سبق مني، لأن الندم إنما يكون على الفعال والكلام، لا على الأعضاء والأعيان. وإنما سمّي القول لسانا، لأنه إنما يكون باللسان، ويصدر عن اللسان. وقوله سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وهذه استعارة. لأن حقيقة الذوق إنما تكون في المطاعم والمشارب، لا في الكسى والملابس. وإنما خرج هذا الكلام مخرج الخبر عن العقاب النازل بهم، والبلاء الشامل لهم. وقد عرف في لسانهم، أن يقولوا لمن عوقب على جريمة، أو أخذ بجريرة: ذق غبّ فعلك، واجن ثمرة جهلك. وإن كانت عقوبته ليست مما يحسّ بالطعم، ويدرك بالذوق. فكأنّه سبحانه لمّا شملهم بالجوع والخوف على وجه العقوبة، حسن أن يقول تعالى: فأذاقهم ذلك، أي أوجدهم مرارته، كما يجد الذائق مرارة الشيء المرير،

_ (1) . روي هذا البيت في: «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي جزء 10 ص 179 هكذا: لسان الشر تهديها إلينا ... وخنت وما حسبتك أن تخونا ولم تذكر كتب الشواهد اسم قائل هذا البيت. (2) . هو الحطيئة الشاعر، كما جاء في «لسان العرب» مادة: لسن. إلا أنه روي في اللسان هكذا: ندمت على لسان فات مني ... فليت بأنه في جوف عكم. والعكم بكسر العين: العدل الذي توضح فيه الأشياء، أو الكارة.

ووخامة الطعم الكريه. وإنّما قال سبحانه: لِباسَ الْجُوعِ ولم يقل: طعم الجوع والخوف، لأنّ المراد بذلك- والله أعلم- وصف تلك الحال بالشمول لهم، والاشتمال عليهم، كاشتمال الملابس على الجلود، لأنّ ما يظهر منهم عن مضيض الجوع، وأليم الخوف، من سوء الأحوال، وشحوب الألوان، وضؤولة الأجسام، كاللباس الشامل لهم، والظاهر عليهم.

سورة الإسراء

سورة الإسراء

المبحث الأول أهداف سورة"الإسراء"

المبحث الأول أهداف سورة «الإسراء» «1» سورة الإسراء سورة مكّية، نزلت في السنة الحادية عشرة للبعثة قبل الهجرة بسنة وشهرين. وتسمّى سورة «الإسراء» ، نظرا لذكر الإسراء في صدرها، كما تسمّى سورة «بني إسرائيل» لأنها تحدّثت عنهم، وعن إفسادهم في الأرض، وعن عقوبة الله لهم على هذا الفساد. وعدد آياتها 111 آية، وهي من أواخر ما نزل من السّور في مكّة، وقد تميّزت آياتها بالطول النسبي، وبسط الفكرة، والدعوة إلى التحلّي بالآداب ومكارم الأخلاق. فسورة الإسراء اشتملت على خصائص السورة المكّية، ومن ناحية أخرى ظهرت فيها صفات من خصائص السورة المدنية، لأنها من أواخر ما نزل في مكّة فهي ممهّدة للعهد المدني، أو هي ممّا يشبه المدني، وهو مكّي. الإسراء بدأت سورة الإسراء بقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) . وخلاصة الإسراء: أن الله تعالى، أكرم رسوله محمدا (ص) ، بمعجزة إلهية، هي الانتقال به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بالشام، ثم صعد إلى السماوات العلا، ورأى من كل سماء مقرّبيها، ورأى سدرة

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....]

المنتهى، وجنة المأوى، وآيات ربّه الكبرى، ثم فرض الله سبحانه عليه الصلاة، لتكون صلة بين المخلوق والخالق، ورباطا بين الإنسان وربّه، وعاد (ص) إلى مكة قبل طلوع الفجر. والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، رحلة مختارة من لدن اللطيف الخبير، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى، من إبراهيم وإسماعيل (ع) إلى محمد خاتم النبيين (ص) ، وتربط بين الأماكن المقدّسة لديانات التوحيد جميعا. وكأنّما أريد بهذه الرحلة العجيبة، إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدّسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعا فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان، وتتضمّن أكبر من المعاني القريبة، التي تنكشف عنها للنظرة الاولى. والإسراء آية صاحبتها آيات: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا. والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، في الوقت القصير، آية من آيات الله، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود، وتكشف عن نعم الله على الجنس البشري، الذي كرّمه الله وفضّله على كثير من خلقه، واصطفى من بينهم رسلا وأنبياء، يوحي إليهم ويخصّهم بالنبوّة والهداية، والمعجزات الباهرة. هذا الإسراء آية من آيات الله. وهو نقلة عجيبة بالقياس إلى مألوف البشر، والمسجد الأقصى، هو طرف الرحلة، وهو قلب الأرض المقدّسة التي بارك الله حولها، بركات مادية ومعنوية، فحولها الأشجار والثمار، وإليها يتحرّك الحجيج، وقد زارها الأنبياء والمرسلون. واتفق جمهور العلماء على أن الإسراء كان بالروح والجسد، يقظة لا مناما وذهب بعض العلماء إلى أن الإسراء كان بالروح فقط، وكان في النوم لا في اليقظة، لقوله تعالى في سورة الإسراء: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الآية 60] . وقد رد جمهور العلماء بأن هذه الآية، تشير إلى رؤيا رآها النبي (ص) ليلة غزوة بدر الكبرى، قال تعالى:

وعد الله لبني إسرائيل

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا [الأنفال: 43] . أو تشير إلى رؤيا رآها النبي (ص) بدخول المسجد الحرام حاجّا معتمرا قبل صلح الحديبية، قال تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) [الفتح] . واستدل الجمهور، بأن الله جعل الإسراء آية كبرى، وقال أَسْرى بِعَبْدِهِ والعبد مجموع الروح والجسد، ولو شاء لقال: «أسرى بروح عبده» . ثم إن كفار مكّة أنكروا الإسراء، وارتدّ بعض ضعاف الإيمان بسبب الإسراء، ولو كان الإسراء مناما، لما أنكره كفّار مكّة، ولما ارتدّ بسببه ضعاف الإيمان، ولما تميّز أبو بكر الصديق رضي الله عنه، بتصديقه من بين سائر الناس. وقد ركب الرسول (ص) البراق، وركوب البراق من خصائص الأجساد والإسراء في حقيقته معجزة إلهية، خاصة بالرسول الأمين ولا حرج على فضل الله، ولا حدود لقدرته، فهو سبحانه على كل شيء قدير، قال شوقي: يتساءلون وأنت أطهر هيكل ... بالرّوح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهّرا وكلاهما ... نور وروحانيّة وبهاء وعد الله لبني إسرائيل بدأت سورة الإسراء بالحديث عن الإسراء بالنبيّ الأمين والسورة في مجملها تتحدّث عن النبي (ص) وعن القرآن الذي نزل عليه، وموقف المشركين من هذا القرآن وفي خلال هذا الحديث، تستطرد إلى ذكر بني إسرائيل، والحديث عن ماضيهم وفسادهم في الأرض وعقوبة الله لهم، كأنّها تتوعّد كلّ مكذّب ومفسد بالعقاب العادل وفي هذا تهديد لكفار مكة، ولكلّ خارج على نطاق الإيمان وشريعة العدل، والنّظام الإلهي. ويلاحظ أن وعيد الله لبني إسرائيل، على إفسادهم في الأرض مرّتين، لم يذكر في القرآن إلّا في صدر سورة الإسراء.

وقد تعدّدت أقوال المفسّرين في بيان القوم الذين سلّطهم الله على اليهود، وذهب جمهور المفسرين إلى أن المسلّط عليهم في المرة الأولى هو بختنصر البابلي، وقد غزاهم سنة 606 قبل الميلاد، ثم ساعدهم قورش ملك الفرس سنة 526 قبل الميلاد، فعادوا لبلادهم وأعادوا بناء هيكلهم. والمسلّط عليهم في المرة الثانية هم الرومان بقيادة تيطس سنة 70 م، وقد كان إذلالهم في المرة الثانية أشدّ وأنكى، وقد تفرّق اليهود في البلاد بعد هزيمتهم الثانية، وأصبح تاريخهم ملحقا بتاريخ الممالك التي نزلوا فيها، ولم يرجع اليهود إلى فلسطين إلا في العصر الحديث. وينبغي أن ندرك أن آيات سورة الإسراء، لا تحدّد تاريخا معيّنا لفساد اليهود، ولا قوما بأعيانهم سلّطهم الله عليهم، فإذا أردنا معرفة ذلك فلنرجع إلى التاريخ، لا لنحكّمه في فهم القرآن، ولكن لنستأنس به فقط. وخلاصة الآيات التي تحدثت عن فساد اليهود ما يأتي: 1- أخبر الله تعالى أن بني إسرائيل سيفسدون في الأرض مرتين، وهذا الفساد معناه طغيان وعدوان منهم على عباد الله، وخروجهم على الطريق القويم. 2- أخبر الله تعالى عنهم أنهم لمّا طغوا وبغوا، سلّط الله عليهم من ينتقم منهم. 3- بعد الانتقام الأول، عادوا إلى الطريق الجادّة فانتصروا على أعدائهم، لكنّهم لم يلبثوا أن عادوا للفساد، فحقّ عليهم وعيد الله تعالى. 4- سلّط الله سبحانه، عليهم في المرة الثانية، من أذلّهم وهدم هيكلهم، وقضى عليهم وعلى ملكهم. 5- ذكر الله تعالى، أنه يشملهم برحمته إذا تابوا إليه، فإن عادوا للفساد عاد عليهم بالعقاب. وقد عنيت سورة الإسراء، بالحديث عن مكارم الأخلاق. فدعت إلى توحيد الله جلّ جلاله، وأمرت بالإحسان إلى الوالدين، وصلة الرحم، والعطف على الفقير والمساكين وابن السبيل ونهت عن التبذير، والقتل، والزنا، وتطفيف الكيل، وأكل مال اليتيم، والكبر، والبطر. وإذا قرأت الآيات 23- 39، رأيت دستورا أخلاقيا كريما، يأمر بالفضائل، ويحثّ

أوهام المشركين، وحجج القرآن الكريم

على القيم، وينهى عن الرذائل، ويحذّر من المعاصي والموبقات. وترى أن القرآن أعظم كتاب في التربية الأخلاقية والسلوكية، وهذه التربية هي التي صاغت المجتمع الإسلامي المحمّدي صياغة جديدة يسري في أوصال المجتمع العربي والإسلامي، فيهدم حطام الجاهلية وأوثانها، ويقيم على أشلائها دولة جيّدة، تؤمن بالله ورسوله، وتهتدي بكتابه الذي أنزله الله نورا وهدى. فترى المسلم إمّا عابدا في مسجده، أو ساعيا إلى رزقه، أو مجاهدا في سبيل إعلاء كلمة الله. وجمعت المسلمين راية جديدة، شعارها الإخلاص، وعمادها الحب لله ورسوله، وقوّتها في تماسك المسلمين، وأخوّتهم وترابطهم وتساندهم، حتّى أصبحوا يدا واحدة كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضا. أوهام المشركين، وحجج القرآن الكريم في الآيات 39- 58: من سورة الإسراء، حديث عن أوهام الوثنية الجاهليّة، حول نسبة البنات والشركاء إلى الله. وخلاصة ذلك، أنهم جعلوا الملائكة إناثا، ثم ادّعوا، كذبا وبهتانا، أنهنّ بنات الله ثم عبدوهنّ، فأخطأوا في الأمور الثلاثة خطأ عظيما. ثم تحدّثت السورة عن البعث، واستبعاد الكافرين لوقوعه، وعن استقبالهم للقرآن، وتقوّلاتهم على الرسول (ص) ، وأمرت المؤمنين أن يقولوا قولا آخر، ويتكلّموا بالتي هي أحسن. وفي الآيات 59- 72: بيّنت السورة، لماذا كانت معجزة محمد (ص) ، معجزة عقلية خالدة، ولم تكن معجزة مادية محدودة فقد كذّب الأوّلون بالخوارق فحقّ عليهم الهلاك اتّباعا لسنة الله كما تناولت الحديث عن الإسراء وحكمته، وأن الله جعله فتنة وامتحانا للناس، ليتميّز المؤمنون، وينكشف المنافقون ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس اللعين، وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرّية آدم. يجيء هذا الطرف من القصة، كأنه كشف لعوامل الضلال، الذي يبدو من

المشركين، ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم، في تكريم الإنسان، وتمييزه من المخلوقات جميعها، وتسخير الكون جميعه له، حتى يفكّر بعقله، ويؤمن بقلبه، فمن اهتدى، أخذ كتابه بيمينه يوم القيامة ومن عمي عن الحق في الدنيا، فهو في الاخرة أعمى وأضلّ سبيلا. وفي الآيات 73- 88: تستعرض سورة الإسراء كيد المشركين للرسول (ص) ومحاولتهم فتنته عن بعض ما أنزل إليه، ومحاولة إخراجه من مكّة ثم تأمر النبي (ص) ، بأن يمضي في طريقه، يقرأ القرآن، ويؤدّي الصلاة، ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه وتذكر رسالة القرآن بأنها شفاء لأمراض الجاهليّة، ورحمة بالجماعة الإسلامية. وفي الآيات 88- 111: نجد القسم الأخير من السورة، ويستمر الحديث في هذه الآيات عن نزول القرآن وإعجازه، بينما يطلب كفار مكّة خوارق مادية، يطلبون نزول الملائكة، ويقترحون أن يكون للرسول (ص) بيت من زخرف، أو جنّة من نخيل وعنب، تتفجّر الأنهار خلالها تفجيرا أو أن يفجّر لهم من الأرض ينبوعا من الماء، أو أن يرقى هو في السماء، ثم يأتيهم بكتاب ملموس محسوس، فيه شهادة بأنه مرسل من عند الله.. إلى آخر هذه المقترحات، التي يمليها العنت والمكابرة، لا طلب الهدى والاقتناع. ويردّ الله سبحانه على هذا كلّه، بأنّ ذلك خارج عن وظيفة الرسول، وطبيعة الرسالة. فالرسول بشر يوحى إليه، وليس إلها يتحكّم في مظاهر الكون وقد سبق أن أعطى الله تعالى موسى (ع) معجزات مادية، فكذّب بها فرعون، وجحد نبوّة موسى فكانت العاقبة، أن أغرق الله فرعون ومن معه من المكذّبين. إن طريقة القرآن الكريم، هي طريقة الدعوة الهادفة المتأنّية، وقد نزل مفرّقا ليقرأه الرسول على قومه في هدوء وتؤدة، وليجيب عن أسئلة السائلين، وليكون كتاب الحياة، يحياها مع المؤمنين، يعلّمهم دينهم، ويردّ عنهم دعاوى أعدائهم، ويلفتهم إلى الكون وما فيه، حتّى يعبدوا الله ويسجدوا له

من أسرار الإعجاز في سورة الإسراء

عن خشوع ويقين. وتختم سورة الإسراء، بحمد الله وتنزيهه عن الولد والشريك في الملك، كما بدئت بتنزيه الله وتسبيحه ففي أوّل السورة: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا. وفي آخر السورة: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) . من أسرار الإعجاز في سورة الإسراء يقول الله تعالى في سورة الإسراء: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) . لقد كانت هناك معركة فكرية ونفسية، بين القرآن والمشركين، ألصق المشركون فيها التّهم بالرسول (ص) فرموه بالسحر والجنون، وافتراء القرآن من عند نفسه، وقد نزلت سورة الإسراء في ذروة هذه المعركة واحتدامها، بعد أن مات أبو طالب عمّ الرسول، وماتت زوجته خديجة، فكان الإسراء تسرية للرسول الأمين، وكانت سورة الإسراء قلعة من حصون البيان والجدال بالحجة الدامغة والدليل الواضح. إنّك تحسّ عند قراءة السورة نبضات حيّة، تصوّر عنف المشركين وضلال عقيدتهم، وتبرز أسلوب الدعوة الجديد، الذي يملك الحجّة على قضية الألوهيّة، ويسوق الأدلّة على قضيّته من سجلات التاريخ ومن واقع الكون ومشاهده، ومن التحدي بالقرآن، وتأكيد عجزهم عن الإتيان بمثله. والقرآن في سياق حديثه، ينتقل من فن إلى فن، ومن وصف للإسراء إلى حديث عن تاريخ اليهود، إلى ردّ على دعوى المشركين، إلى ذكر قصص لآدم وإبليس، وفرعون، وموسى. ويربط القرآن بين هذه الأفكار المتناثرة في الظاهر، برباط قوي متين، يؤكّد أنه كتاب الله. وقد تعرّضت علوم السابقين للنقض والتعديل، ولم يبق كتاب منزّه عن النقض والعيب، إلّا هذا الكتاب. وفي ختام هذا الحديث، يمكننا أن نرجع أهداف سورة الإسراء إلى الأمور الآتية:

1- معجزة الإسراء من مكّة إلى بيت المقدس. 2- تاريخ بني إسرائيل، وإفسادهم في الأرض، وعقوبة الله لهم. 3- جملة من الآداب، يجب على المسلمين أن يتحلّوا بها، حتى تظلّ رابطتهم قوية متماسكة. 4- بيان أنّ كل ما في السماوات والأرض، مسبّح لله. 5- الكلام على البعث، مع إقامة الأدلّة على إمكانه. 6- الردّ على المشركين، الذين اتخذوا مع الله آلهة، من الأوثان والأصنام. 7- الحكمة في عدم إنزال المعجزات التي اقترحوها، على محمد (ص) . 8- قصص سجود الملائكة لآدم، وامتناع إبليس عن السجود. 9- تعداد بعض نعم الله سبحانه. 10- طلب المشركين من الرسول (ص) أن يوافقهم في بعض معتقداتهم، وإلحافهم في ذلك. 11- أمر النبي (ص) بإقامة الصلاة والتهجّد في الليل. 12- بيان إعجاز القرآن، وأنّ البشر يستحيل عليهم أن يأتوا بمثله. 13- قصص موسى مع فرعون. 14- الحكمة في إنزال القرآن منجّما. 15- تنزيه الله سبحانه، عن الولد والشريك والناصر والمعين.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الإسراء"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الإسراء» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الإسراء بعد سورة القصص، وقد كانت حادثة الإسراء في السنة الحادية عشرة للبعثة، فيكون نزول سورة الإسراء في هذه السنة. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لابتدائها بقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وتبلغ آياتها إحدى عشرة ومائة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة ثلاثة أمور: أولها: إثبات حادثة الإسراء، وقد كان الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فاستدعى هذا بيان فضل هذا المسجد، وذكر بعض من أخبار أهله. وثانيها: الموازنة بين كتابي المسجدين، القرآن والتوراة وقد استدعى هذا، ذكر بعض ما أتى به القرآن من الحكم والمواعظ. وثالثها: بيان حكمة الإسراء من اختبار الناس به. وقد عاد السّياق، بعد هذا، إلى بيان فضل القرآن، فانتهى به الكلام في هذه السورة. وقد ذكرت سورة الإسراء بعد سورة النحل، لأن الإسراء كان رمزا للهجرة إلى المدينة، وكان في الهجرة إليها تحقيق ما أنذروا به، من قرب عذابهم في أول سورة النحل.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

إثبات الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الآيات (1 - 8)

إثبات الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الآيات (1- 8) قال الله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) فذكر تعالى أنّه أسرى بالنبي (ص) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ليريه ما فيه من آياته ثم ذكر أنه أنزل التوراة على موسى شريعة لأهله من بني إسرائيل، وأنه قضى إليهم فيها، أنهم سيفسدون في أرضهم مرتين، ويخرجون على شريعتهم بعبادة الأوثان والأصنام، وأنه إذا جاءت المرة الأولى، بعث عليهم قوما ذوي بأس شديد، ليخرجوا ديارهم ويهدموا مسجدهم، وهم قوم بختنصّر ملك بابل، ثم ينقذهم منهم وينصرهم عليهم ويجعلهم أحسن حالا ممّا كانوا عليه قبل غزوهم فإذا جاءت المرة الثانية بعث عليهم قوما آخرين يخربون ديارهم ويهدمون مسجدهم كما هدم في المرة الأولى، وهم الروم الذين غزوهم وأخرجوهم من ديارهم، ثم التفت السياق إلى اليهود المعاصرين للنبي (ص) بقوله تعالى عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) . الموازنة بين كتابي المسجدين الآيات (9- 59) ثم قال تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) فذكر أن القرآن يهدي إلى شريعة أقوم من التوراة، وأنه يبشّر المؤمنين بأن لهم أجرا كبيرا، وينذر الكافرين بأنّ لهم عذابا أليما ثم ذكر سبحانه أنهم يستعجلون هذا العذاب، الذي ينذرهم به، استعجالهم للخير، وكان الإنسان عجولا واستدلّ على قدرته عليه، بأنه جعل الليل والنهار آيتين، فمحى آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، ليبتغوا أرزاقهم فيها، وليعلموا عدد السنين والحساب وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (12) ثم ذكر أن كلّ إنسان تحصى عليه أعماله في دنياه، ليحاسب عليها يوم القيامة، وأنّ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما

يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) . ثم ذكر أنه تعالى إذا أراد أن يهلك قرية بذلك العذاب الذي يستعجلونه، أمر مترفيها ففسقوا فيها، فحقّ عليها العذاب فدمّرها تدميرا وأنه كم أهلك من القرون، بهذا الشكل من بعد نوح (ع) ، وأنه أعلم بذنوب عباده، فيقدّر لهم وقت عذابهم كما يريد وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) . ثم ذكر أن من يريد العاجلة عجّل له فيها، ما يشاء من خير أو شر، لمن يريد. وليس لأحد أن يتعجّله في شيء، وأنّ من يريد الاخرة ويسعى لها، شكر له سعيه، وأنّه يمدّ كلّا منهما في الدنيا بعطائه، ولا يحظره عن أحد من عباده، وأنه يفضّل بعضهم على بعض في هذا العطاء، وستكون الاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا. ثم بيّن بعضا من شريعة القرآن، في الأصول والفروع والأخلاق، فنهى عن الشرك به، وأمر بالإحسان إلى الوالدين، وبإيتاء ذي القربي حقّه والمساكين وابن السبيل، ونهى عن التبذير في المال، وأمر بالاعتذار الحسن عند العجز عن الإحسان، إلى غير هذا من الأحكام التي ختمها بقوله تعالى: ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) فختمها بالنهي عن الشرك كما ابتدأها به، وأتبعه بتوبيخهم على نوع خاص من شركهم، وهو زعمهم أن الملائكة بنات الله، فذكر أنه لا يصح أن يؤثرهم بالبنين، ويتّخذ من الملائكة إناثا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً (40) . ثم ذكر تعالى أنه صرّف في القرآن هذا التصريف من الكلام في الأصول والفروع والأخلاق، ليكون فيه موعظة للناس، ولكنّه لا يزيدهم إلّا نفورا وأمر النبي (ص) ، أن يذكر لهم دليلا على بطلان الشرك لا يمكنهم أن يماروا فيه، وهو أنه لو كان معه سبحانه آلهة لابتغوا سبيلا إلى منازعته، ثم نزّه سبحانه نفسه عمّا يزعمونه من أن له شركاء في ملكه، وذكر أنه هو الذي تسبّح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وأنه ما من شيء إلّا يسبّح بحمده، ولكنهم لا يفقهون تسبيحهم. ثم ذكر أنه إذا قرأ القرآن جعل بينه وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا، وجعل على قلوبهم أكنّة أن

بيان حكمة الإسراء الآيات (60 - 81)

يفقهوه، وفي آذانهم وقرا وأنّه إذا ذكره في القرآن، ولم يذكر آلهتهم فرّوا على أدبارهم نفورا، وأنه أعلم بحالهم حين يستمعون إليه وإذ هم نجوى إذ يقولون إن تتبعون إلّا رجلا مسحورا ثم ذكر ممّا يحملهم على زعم هذا فيه، أنّه يدعي أنهم يبعثون بعد أن يصيروا عظاما، ورفاتا خلقا جديدا وردّ عليهم، بأن الذي فطرهم المرة الاولى قادر على بعثهم ثم ذكر أنهم سينغضون رؤوسهم «1» ويقولون: متى هو؟ وأجابهم بأنه عسى أن يكون قريبا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) . ثم أمر النبي (ص) بأن يأمرهم بأن يقولوا التي هي أحسن، من قولهم إنه رجل مسحور وذكر لهم أن الشيطان ينزغ بينهم ويزيّن لهم هذه الشتائم، وأنه سبحانه هو أعلم بهم، إن يشأ يرحمهم بالإيمان أو يعذبهم بالكفر، ولم يرسله وكيلا عليهم، حتى يضيقوا به ويشتموه، وأنه جلّ جلاله أعلم بمن في السماوات والأرض، وقد فضّل بعض النبيين على بعض بمقتضى علمه، وآتى داود زبورا فلا يصحّ لهم أن يقولوا في النبي (ص) وفي قرآنه، مالا علم لهم به. ثم أمرهم بأن يدعوا شركاءهم ليكشفوا عنهم ذلك الضرّ، الذي يتعجّلون به، فإنهم لا يملكون كشفه عنهم، ولا تحويله، لأنهم عبيد مثلهم، يبتغون إليه سبحانه الوسيلة، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه ثم ذكر أنه ما من قرية من قرى المكذّبين إلا هو مهلكها قبل يوم القيامة، أو معذّبها عذابا شديدا، كان ذلك في الكتاب مسطورا ثم أشار إلى أنه اختار لهم أن يعذّبهم بتسليط المؤمنين عليهم، ولا يهلكهم بآيات عذابه، فقال تعالى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً (59) . بيان حكمة الإسراء الآيات (60- 81) ثم قال تعالى: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي

_ (1) . أي سيحرّكونها.

أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً (60) فذكر سبحانه أنه وعده بالنصر عليهم، حينما أخبرهم بالإسراء فكذّبوه، وارتدّ كثير منهم، وأنه لم يجعل رؤيا الإسراء إلّا فتنة لهم فقد افتتنوا بها، كما افتتنوا بشجرة الزّقّوم الملعونة في القرآن، فقالوا: زعم محمد أن نار جهنم تحرق الحجر، ثم زعم أن في النار شجرة وهي تأكل الشجر، فكيف ينبت فيها الشجر؟ ثم ذكر أنه يخوّفهم بذلك، فما يزيدهم إلّا طغيانا كبيرا. ثم ذكر لهم قصة آدم مع الملائكة وإبليس، لأنها كانت للاختبار أيضا، ليتّعظوا في اختبارهم بالإسراء، بما حصل لإبليس حينما عصى أمر ربه من الطرد واللعن، ولا يقعوا في مثل ما وقع فيه بتكذيبها وقد ختمها بقوله لإبليس إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) . ثم شرع السياق في أخذهم بالترغيب بعد الترهيب، فذكر سبحانه، أنه هو الذي يسوق السفن في البحر، ليبتغوا من فضله، وأنهم إذا مسّهم الضرّ في البحر وخافوا الغرق لا يلجئون إلّا إليه في كشفه عنهم، فإذا نجّاهم إلى البر يعرضون عنه ويكافرون بنعمته ولا يأمنون أن يخسف بهم جانب البر أو يرسل عليهم ريحا حاصبا، أو يعيدهم في البحر مرة أخرى فيغرقهم بسبب كفرهم ثم ذكر أنه كرّم بني آدم بنعمة العقل، وحملهم في البرّ والبحر، ورزقهم من الطيّبات، وفضّلهم على كثير من خلقه، وأنه سيبعثهم ويحاسبهم على ما أنعم به عليهم، فمن أوتي كتابه بيمينه، وهم الذين قاموا بحقّ هذه النعم، فإنهم يكافئون على ذلك ولا يظلمون فتيلا ومن لم يقم بحق هذه النعم، ولم ينظر بعقله في دنياه حتى صار فيها كالأعمى، فهو في الاخرة أعمى وأضلّ سبيلا. ثم ذكر تعالى أن فتنة الإسراء، بلغ من شدّتها أنهم كادوا يفتنون النبي (ص) عمّا أوحي إليه من أمرها، ليفتري لهم غيره ولولا أن ثبّته سبحانه فيها، لقد كاد يركن إليهم شيئا قليلا ثم ذكر أنهم كادوا يحملونه على الخروج من مكّة، لشدّة استهزائهم به، ولو أنهم أخرجوه منها لأهلكهم كما أهلك من قبلهم من أخرجوا أنبياءهم من بينهم ثم أمره بأن يعرض عنهم ويقبل على

عود إلى بيان فضل القرآن الآيات (82 - 111)

عبادته، وإقامة الصلاة له في أوقاتها من فروض ونوافل، لينصره عليهم، ويبعثه مقاما محمودا يظهر فيه أمره عليهم وقد كان ذلك بالهجرة إلى المدينة، وكان الإسراء قبلها بسنة واحدة، ثم أمره أن يلجأ إليه في تهيئة ذلك المقام المحمود حتى يخرجه من مكّة مخرج صدق، ويدخله ذلك المقام المحمود مدخل صدق، وأن ينبئهم بقرب ذلك اليوم الذي يظهر فيه حقّه على باطلهم وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) . عود إلى بيان فضل القرآن الآيات (82- 111) ثم قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82) ، فعاد السياق إلى الكلام على فضل القرآن، وذكر أنه سبحانه ينزّل منه ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ويزداد به الكافرون خسارا إلى خسارهم ثم بيّن سبب ذلك فيهم، وهو استكبارهم واغترارهم بأموالهم التي أنعم الله بها عليهم فذكر سبحانه أن شأن الكافر إذا أنعم عليه استكبر، وإذا مسّه الفقر بلغ به اليأس كل مبلغ ثم ذكر أن كلّا من المؤمنين والكافرين، يعمل من ذلك على شاكلته، وأنه سبحانه أعلم بمن هو أهدى سبيلا منهم ثم ذكر تعالى أنهم يسألون النبيّ (ص) عن الروح، وهو القرآن، ما دليله على أنه من عند الله؟ وأمره أن يجيبهم بأنه من أمره، وأن ما جاءهم به من العلم قليل بالنسبة إلى واسع علمه وأنه سبحانه لو شاء أن يأخذ هذا القليل وذهب بما أوحى إليه من القرآن لفعل، لأنه لا يريد به شيئا لنفسه، وإنما يريد مصلحتهم ثم بيّن لهم الدليل على أنه من عنده، وهو عجز الإنس والجن أن يأتوا بمثله وذكر أنه تحدّاهم بذلك على وجوه كثيرة، فمن عشر سور إلى سورة واحدة، إلى التحدي به كلّه ولكنهم يأبون إلا كفورا، ويطلبون معجزات أخرى، كأن يفجّر لهم ينبوعا من الأرض، أو يكون له في واديهم جنّة من نخيل وعنب تجري فيها الأنهار، إلى غير هذا مما اقترحوه على وجه التعنّت والتحكّم، وقد أمره تعالى بأن يجيبهم بأنه ليس إلّا بشرا رسولا ثم ذكر أنهم لم يمنعهم من الايمان بالقرآن، إلّا استبعادهم أن يكون رسوله من البشر، وأمره أن يجيبهم بأنه لو

كان في الأرض ملائكة، يمشون مطمئنين لنزل عليهم من السماء ملكا رسولا وبأنه قد شهد على صدقه بمعجزة القرآن، وكفى به شهيدا بينه وبينهم ثم ذكر أن الهداية والضلال بإرادته لا بالمعجزات، فإذا أراد هداية قوم هداهم، وإذا لم يرد هداية قوم، فلن يوجد لهم أولياء من دونه يهدونهم ويحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا بكما صمّا، مأواهم جهنّم، كلّما خبت زادهم سعيرا، ذلك لأنهم كفروا بمعجزة القرآن، وأنكروا ما جاء به من بعثهم ثم ذكر أنهم لو نظروا في خلق السماوات والأرض، لعلموا أنه قادر على أن يبعثهم، وأنه جعل لبعثهم أجلا لا ريب فيه، وإن كفروا به. ثم ذكر أنهم لو ملكوا خزائن رحمته، وهي أعظم ممّا اقترحوه من تفجير الأرض وغيره لبخلوا بها، فلا فائدة من إجابتهم إلى ما اقترحوه عليه ثم ذكر أنه آتى موسى تسع آيات بيّنات مثل هذه الآيات، فلم يؤمن فرعون بها، وأراد أن يستفزّ بني إسرائيل من أرضه فأغرقه جلّت قدرته، ومن معه جميعا، وأسكن بني إسرائيل الأرض التي وعدهم بها. ثم عاد السياق إلى تعظيم شأن القرآن، فذكر سبحانه أنه لم ينزّله إلّا بالحق وبالحق نزل، وأنه لم يرسله إلّا مبشّرا ونذيرا، فمن شاء آمن ومن لم يشأ لم يؤمن ثم ذكر أنه نزّله مفرّقا ليقرأه على الناس على مكث، وأن إيمانهم به وعدمه سواء، لأن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرّون ساجدين لأذقانهم ثم ختم السورة فأمرهم بأن يدعوه باسمه أو باسم الرحمن، أو غيرهما من أسمائه الحسنى ونهاه أن يجهر بصلاته أو يخافت بها، وأمره أن يبتغي بين ذلك سبيلا وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الإسراء"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الإسراء» «1» اعلم أن هذه السورة، والسّور الأربع التي بعدها، هي من قديم ما أنزل. أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال، في بني إسرائيل، والكهف ومريم وطه والأنبياء: «من العتاق الأول، وهنّ من تلادي «2» » وهذا وجه في ترتيبها، وهو اشتراكها في قدم النزول، وكونها مكّية، وكونها مشتملة على القصص. وقد ظهر لي في وجه اتصالها بسورة النحل: أنه سبحانه، لمّا قال: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ في آخر النحل «3» فسّر في هذه شريعة أهل السبت وشأنهم فذكر فيها جميع ما شرع لهم في التوراة، كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: «التوراة كلّها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل» «4» . وذكر عصيانهم وفسادهم، وتخريب مسجدهم ثم ذكر استفزازهم للنبي (ص) ورغبتهم في إخراجه من المدينة، ثم ذكر سؤالهم إيّاه عن الروح، ثم ختم السورة بآيات موسى التسع، وخطابه مع فرعون، وأخبر أن استفزازهم للنبي (ص) ليخرجوه من المدينة هو وأصحابه، نظير ما وقع لهم مع فرعون لمّا استفزّهم، ووقع ذلك أيضا. ولما كانت هذه السورة مصدّرة بقصة تخريب المسجد الأقصى، فقد أسري بالمصطفى إليه، تشريفا له بحلول ركابه الشريف.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . أخرجه البخاري في التفسير: 6: 189 عن ابن مسعود والتلاد: القديم. (3) . الآية 124. (4) . تفسير ابن جرير: 17: 243.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الإسراء"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الإسراء» «1» 1- بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا [الآية 5] . قال ابن عبّاس وقتادة: بعث الله عليهم جالوت. أخرجه ابن أبي حاتم. وفي «العجائب» للكرماني، قيل: هم سنحاريب «2» وجنوده «3» . وقيل: العمالقة. وقيل: قوم مؤمنون، بدليل إضافتهم إليه تعالى. 2- فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ( [الآية 7] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . كذا في «تفسير ابن كثير» . (3) . عزاه الحافظ ابن كثير في تفسيره» 3: 25 إلى سعيد بن جبير، ثم قال الحافظ بعد ذلك: «وقد ذكر ابن أبي حاتم- أي في «تفسيره» له- أي سنحاريب ملك الموصل- قصّة عجيبة، في كيفية ترقيه من حال إلى حال، في أنه ملك البلاد، وأنه كان فقيرا مقعدا، ضعيفا يستعطي الناس ويستطعمهم، ثم آل به الحال إلى ما آل، وأنّه سار إلى بلاد بيت المقدس، فقتل بها خلقا كثيرا من بني إسرائيل وقد روى ابن جرير إلى هذا المكان حديثا، أسنده عن حذيفة مرفوعا مطوّلا وهو موضوع لا محالة، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث والعجب كل العجب، كيف راج عليه، مع جلالة قدره وإمامته، وقد صرح الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي رحمه الله بأنه موضوع مكذوب، وكتب ذلك على حاشية الكتاب. وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية، لم أر تطويل الكتاب بذكرها، لأن منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا، ونحن في غنية عنها ولله الحمد» . ثم ذكر ابن كثير رواية ابن جرير عن سعيد بن المسيّب، وهي قول سعيد بن المسيّب: ظهر بختنصّر على الشام، فخرب بيت المقدس، وقتلهم ثم أتى دمشق فوجد بها دما يغلي على كبا، فسألهم ما هذا الدم؟ فقالوا: أدركنا آباءنا على هذا، كلما ظهر عليه الكبا ظهر، قال: «فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين، وغيرهم فسكن» . قال ابن كثير: «وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب» . وقال أيضا: «وهذا هو المشهور» .

قال عطيّة ومجاهد: بعث عليهم في الاخرة بختنصّر. أخرجه ابن أبي حاتم. 3- ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الآية 56] . قال ابن عبّاس: عيسى وأمه، وعزيز. أخرجه ابن أبي حاتم «1» . 4- وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [الآية 60] . قال ابن عباس: هي شجرة الزّقّوم أخرجه ابن أبي حاتم «2» . 5- وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الآية 73] نزلت في رجال من قريش، منهم: أميّة بن خلف، وأبو جهل. أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس «3» . 6- وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ [الآية 76] . نزلت في اليهود كما أخرجه البيهقي في «الدلائل» ، من مرسل عبد الرحمن ابن غنم «4» . 7- مُدْخَلَ صِدْقٍ [الآية 80] . قال مطر الورّاق «5» المدينة قال: و: مُخْرَجَ صِدْقٍ [الآية 80] : مكّة. أخرجه ابن أبي حاتم «6» . 8- وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الآية 85] . أخرج الشيخان «7» وغيرهما عن ابن مسعود: أنّ السائلين اليهود. وأخرج التّرمذيّ «8» عن ابن عبّاس: أنّهم قريش.

_ (1) . وفي «تفسير الطبري» 15: 72 من طريق العوفي، عن ابن عبّاس، قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا (56) قال: كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة وعزيزا، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة والمسيح وعزيزا. (2) . والبخاري في «صحيحه» برقم (4716) في التفسير، والترمذي برقم (3133) في التفسير، والواحدي في «أسباب النزول» : 218. (3) . في «تفسير الطبري» 15: 88 عنه: أنهم من ثقيف. (4) . ضعّفه الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 3: 53، غير كونه مرسلا، فانظره. (5) . مطر بن طهمان الورّاق، أبو رجاء، السلمي مولاهم، الخراساني، سكن البصرة، كان صدوقا في حديثه، كثير الخطأ، مات سنة 125. [.....] (6) . وأخرج نحوه الترمذي (3138) وأحمد عن ابن عبّاس. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (7) . البخاري (4721) في التفسير، ومسلم في صفة القيامة (12) . (8) . برقم (3139) في التفسير في «سننه» وقال هذا حديث حسن صحيح، غريب من هذا الوجه.

9- وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا [الآية 90] . سمّى ابن عبّاس، من قائلي ذلك عبد الله بن أبي أميّة. أخرجه ابن أبي حاتم «1» . 10- تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الآية 101] . قال ابن عبّاس: هي الطّوفان، والجراد، والقمّل، والضّفادع، والدم، والعصا، واليد، والسنون «2» ، ونقص من الثّمرات. أخرجه ابن أبي حاتم «3» وأخرج عن سعيد بن جبير، قال: كان بين كلّ آيتين من هذه التسع، ثلاثون يوما. وأخرج عن زيد بن أسلم، قال: كانت في تسع سنين، في كل سنة آية.

_ (1) . انظر «تفسير ابن كثير» 3: 62. (2) . السنون: الجدب. (3) . قال ابن كثير: «وهذا القول ظاهر جليّ، حسن قويّ» .

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الإسراء"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الإسراء» «1» 1- قال تعالى: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ [الآية 5] قرئ: فحاسوا بالحاء المهملة، وليس هذا من باب الإبدال الذي يعرض لقرب مخارج الأصوات، كالعين والهمزة، والحاء، والهاء، والتاء، والثاء، والسين، والشين، وقد يكون لقرب صفة الصوت من صفة أخرى. وعلى هذا، فإن «جاسوا» كلمة برأسها، و «حاسوا» كلمة أخرى، وإن اتّفق المعنى. 2- وقال تعالى: وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) . أي ليهلكوا كلّ شيء غلبوه واستولوا عليه «2» . 3- وقال تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) يريد ب «الأوّابين» «التوّابين» . وعن سعيد بن جبير: هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه، لا يريد بذلك إلّا الخير. وعن سعيد بن المسيّب، الأوّاب: الرجل كلّما أذنب بادر بالتوبة. ويجوز أن يكون هذا عامّا لكل من فرطت منه جناية ثمّ تاب منها، ويندرج فيه الجاني على أبويه، التائب من جنايته لوروده على أثره.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . انظر الآية 139 من سورة الأعراف.

أقول: وفي هذه الدلالات كلّها على التقائها، نلمح الفعل «آب» بمعنى رجع. 4- وقال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) . الخطء: هو الإثم، وقرئ الخطأ مثل الحذر، وخطاء بالفتح والكسر مع المد، والخطا بالفتح وحذف الهمزة. أقول: والخطء: هو الاسم كالخطإ والخطاء. 5- وقال تعالى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الآية 46] . في هذه الآية، معنى المنع من الفقه، فكأنّه قيل: ومنعناهم أن يفقهوه، والتقدير كراهة أن يفقهوه. وقوله تعالى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً، فيه معنى المنع. 6- وقال تعالى: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ [الآية 51] أي يحرّكون نحوك رؤوسهم تعجّبا واستهزاء. ونغض الشيء ينغض نغضا، ونغوضا، ونغضانا، وتنغّض، وأنغض، بمعنى تحرّك واضطرب. ونغضت أسناني، أي: قلقت وتحرّكت. ونغض فلان رأسه يتعدّى، ولا يتعدّى. 7- وقال تعالى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) . وزبور والزّبور: الكتاب، وهو بمعنى مفعول، أي المزبور، والجمع زبر وزبرت الكتاب كتبته. 8- وقال تعالى: قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) . والمعنى: أخبرني عن هذا الذي كرّمته عليّ، أي فضّلته، لم كرّمته عليّ، وأنا خير منه؟ ثم قال تعالى: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ، أي لأستأصلنّهم بالإغواء. وهذا من قولهم: احتنك الجراد الأرض، إذا جرّد ما عليها أكلا، وهو من الحنك. 9- وقال تعالى: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الآية 64] وقوله تعالى: وَأَجْلِبْ من الجلبة، وهي الصياح. والمراد ب «الخيل» الخيّالة، أي الفرسان، ومنه قول النبي (ص) : «يا خيل الله اركبي» .

والرّجل: اسم جمع للرجال كالركب والصّحب، وقرئ، ورجلك. على أن فعلا بمعنى فاعل، نحو: تعب وتاعب. ومعناه: وجمعك الرّجل، وتضمّ جيمه أيضا، فيكون مثل حدث وحدث، وندس وندس، وفطن وفطن. 10- وقال تعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) . أقول: والتبيع: المطالب. ومنه قوله تعالى: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 178] أي مطالبة، قال الشمّاخ [من بحر الوافر] : يلوذ ثعالب الشرقين منها ... كما لاذ الغريم من التبيع ويقال: فلان على فلان تبيع بحقّه، أي مسيطر عليه، مطالب له بحقّه. 11- وقال تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها [الآية: 76] . وقوله تعالى لَيَسْتَفِزُّونَكَ، أي: ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم. أقول: فزّ فلانا عن موضعه فزّا: أزعجه. واستفزّه: استخفّه وأخرجه من داره «1» وأزعجه، وأفزرته: أزعجته. وللاستفزاز في العربية المعاصرة خصوصية دلالية، فهو التحريش والإيذاء، بقصد إثارة الخصم، ليقول شيئا أو يفعل يقال استفزّ القويّ الضعيف، بمعنى ظلمه واعتدى عليه من غير سبب، ليحمله على أن يفعل شيئا، فيحلّ عليه ظلمه واضطهاده. 12- وقال تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) . وقوله تعالى: وَزَهَقَ الْباطِلُ أي: كان مضمحلّا. أقول: والفعل «زهق» في الآية من قولهم، كما أشرنا: «زهقت نفسه» إذا خرجت. و «الزّهق» بمعنى خروج النفس، قد بقي شيء منه في الدارجة العراقية، يقال في هذه اللهجة العاميّة: فلان زهق (بإبدال القاف كافا ثقيلة) يريدون

_ (1) . وإلى هذا المعنى، أشارت الآية الكريمة فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ [الآية 103] .

غضب غضبا شديدا، حتى خرج عن الحدّ وتجاوز في السلوك. وهذا الاستعمال الدارج ذو صلة أكيدة بالكلمة الفصيحة القديمة التي لم يبق لها أثر في الفصيحة الحديثة، اللهم إلّا ما كان قد أخذ من لغة القرآن، واستعمل على غرار الآية. 13- وقال تعالى: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) . والقبيل: الكفيل بما تقول، شاهدا بصحّته. 14- وقال تعالى: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ... [الآية 93] . المراد ب «الزّخرف» الذّهب. أقول: كأنّ البيت مزخرف بالذهب. 15- وقال تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) . أي ضيّقا بخيلا. أقول: في اللغة المعاصرة الأصل المزيد «قتّر» وهو مقتّر، أي بخيل ضيّق.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الإسراء"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الإسراء» «1» قال تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى [الآية 1] يقال «أسريت» و «سريت» . وقال تعالى: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) أي، والله أعلم، قل يا محمّد سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ وقل: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) . وقال تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما [الآية 5] و «الأولى» مثل «الكبرى» يتكلّم بها بالألف واللام، ولا يقال «هذه أولى» . والإضافة تعاقب الألف واللام، فلذلك قال سبحانه أُولاهُما، كما تقول «هذه كبراهما» و «كبراهنّ» و «كبراهم عنده» . وقال تعالى: دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ [الآية 11] بنصب «الدعاء» على الفعل، كما تقول «إنّك منطلق انطلاقا» «2» . قال تعالى: وَلا تَنْهَرْهُما [الآية 23] ويقال: «نهره» و «انتهره» «ينتهره» . قال تعالى: إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً [الآية 31] من «خطئ» «يخطأ» تفسيره: «أذنب» وليس في معنى: «أخطأ» لأن ما أخطأت فيه ما صنعته خطأ «خطئت» فيه ما صنعته عمدا، وهو الذنب. وقد يقول ناس من العرب: «خطئت» في معنى «أخطأت» «3» قال امرؤ القيس [من الرجز وهو الشاهد التاسع والثلاثون بعد المائتين] :

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضت العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرخ. (2) . نقله في إعراب القرآن 2: 578. (3) . نقله في زاد المسير 5: 31.

يا لهف نفسي «1» إذ خطئن كاهلا ... القاتلين الملك الحلاحلا تالله لا يذهب شيخي باطلا وقال آخر «2» من الكامل وهو الشاهد [الأربعون بعد المائتين] : والنّاس يلحون الأمير إذا هم ... خطئوا الصّواب ولا يلام المرشد «3» وقال تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) أُولئِكَ هذا، وأشباهه مذكّرا كان أو مؤنثا، تقول فيه «أولئك» . قال الشاعر «4» [من الكامل وهو الشاهد الحادي والسبعون] : ذمّي المنازل بعد منزلة اللّوى ... والعيش بعد أولئك الأيّام «5» وهذا كثير. وقال تعالى: حِجاباً مَسْتُوراً (45) فالفاعل قد يكون في لفظ المفعول كما تقول: «إنك مشؤوم علينا» و «ميمون» وإنّما هو «شائم» و «يامن» ، لأنه من «شأمهم» و «يمنهم» و «الحجاب» هاهنا هو الساتر وقال سبحانه وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) (مستورا) «6» . وقال تعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) فقال عُلُوًّا ولم يقل «تعاليا» كما قال وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) [المزّمّل] . قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد الحادي والأربعون بعد المائتين] : أنت الفداء لكعبة هدّمتها ... ونقرتها بيديك كلّ منقّر

_ (1) . ورد هذا الرجز، في ديوان امرئ القيس ص 134، بلفظ «هند» بدلا من لفظ «نفسي» ومع تقديم المصراع الثالث، وبلفظ «والله» ، وتأخير المصراع الثاني، وجاء بلفظ «هند» في اللسان، مادة «خطأ» أيضا بيد أنّ اللسان لم يذكر إلّا المصراع الأوّل. (2) . هو عبيد بن الأبرص. ديوانه 42. [.....] (3) . البيت في الديوان: إذا غوى خطب الصواب، ولا شاهد فيه وورد في اللسان، مادة «أمر» كما رواه الأخفش. (4) . هو جرير بن عطية اليربوعي، التميمي (ت 110 هـ: 728 م) . (5) . ديوان جرير ص 990. وفيه «ذمّ» مكان «ذمّي» ، و «الأقوام» مكان «الأيّام» . (6) . نقله في إعراب القرآن 2: 585، والبحر 6: 42.

منع الحمام مقيله من سقفها ... ومن الحطيم فطار كلّ مطيّر «1» وقال الاخر [من الرجز وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد المائتين] : يجري عليها أيّما إجراء وقال الاخر «2» [من الوافر وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد المائتين] : وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبّعه اتّباعا وقال تعالى: وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الآية 47] «النّجوى» فعلهم كما تقول: «هم قوم رضيّ» وإنّما «الرّضى» فعلهم. وقال تعالى وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الآية 53] بجعله جوابا للأمر «3» . وقال تعالى وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها [الآية 59] يقول «بها كان ظلمهم» «4» و «المبصرة» البيّنة، كما تقول: «الموضحة» و «المبيّنة» . وقال تعالى سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ [الآية 77] أي: سننّاها سنّة «5» . كما قال رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ [الآية 87] . وقال تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الآية 78] أي، والله أعلم، وعليك قرآن الفجر «6» . وقال تعالى يَؤُساً (83) من «يئس» . وقال جلّ شأنه أَيًّا ما تَدْعُوا [الآية 110] أي- والله أعلم- «أيّا تدعوا» . وقال سبحانه وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ [الآية 64] من «أجلبت» وهو في معنى «جلب» ، والموصولة من «جلب» «يجلب» .

_ (1) . ورد في المحتسب 1: 81 و 94 و 301، و 2: 6 و 21. البيت الأوّل وحده مرويّا عن الأخفش غير معزوّ. (2) . هو القطامي. ديوانه 35، والكتاب وتحصيل عين الذهب 2: 244، والعجز في الخصائص 2: 309 وفي البيان 2: 173 ب «وخيرا الأمر» . (3) . نقله في البحر 6: 49. (4) . نقله في زاد المسير 5: 52. (5) . نقله في زاد المسير 5: 71. (6) . نقله في إعراب القرآن 2: 592 والبحر 6: 70، ونقله في الجامع 10: 305 ناسبا إيّاه الى الزّجّاج.

وقال تعالى أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الآية 110] يقول: «أيّ الدّعائين تدعوا فله الأسماء الحسنى «1» . وقال سبحانه عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ [الآية 79] وعَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ [التحريم: 8] يقال «عسى» من الله واجبة.

_ (1) . نقله في إعراب القرآن 2: 598، وأفاده في الكشاف 2: 700.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الإسراء"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الإسراء» «1» إن قيل: لم قال الله تعالى بِعَبْدِهِ [الآية 1] ولم يقل «بنبيّه» ، أو «برسوله» ، أو «بحبيبه» ، أو «بصفيّه» ، ونحو ذلك مع أن المقصود من ذلك الإسراء، تعظيمه وتبجيله؟ قلنا: إنّما سمّاه عبدا في أرفع مقاماته، وأجلّها، وهو هذا وقوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) [النجم] كي لا تغلط فيه أمّته، وتضل به كما ضلّت أمة المسيح (ع) به، فدعته إلها. وقيل كي لا يتطرّق إليه العجب والكبر. فإن قيل: الإسراء لا يكون إلّا بالليل، فما فائدة ذكر الليل؟ قلنا: فائدته أنه ذكر منكّرا ليدل على قصر الزمان الذي كان فيه الإسراء والرجوع، مع أنه كان من مكّة إلى بيت المقدس مسيرة أربعين ليلة، وذلك لأن التنكير يدل على البعضية، ويؤيده قراءة عبد الله وحذيفة، «الليل» : أي بعض الليل كقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً [الآية 79] فإنه أمر بالقيام في بعضه. فإن قيل: أي حكمة في نقله (ص) ، من مكّة إلى بيت المقدس، ثم العروج به من بيت المقدس إلى السماء ولم لم يعرج به من مكة إلى السماء دفعة واحدة؟ قلنا لأن بيت المقدس محشر الخلائق، فأراد الله تعالى أن يطأها الرسول (ص) ، ليسهل على أمته يوم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

القيامة وقفهم عليها، ببركة أثر قدمه (ص) . الثاني: أن بيت المقدس مجمع أرواح الأنبياء (ع) ، فأراد الله تعالى أن يشرّفهم بزيارته (ص) . الثالث: أنّه أسرى به إلى بيت المقدس، ليشاهد من أحواله وصفاته، ما يخبر به كفّار مكّة صبيحة تلك الليلة، فيدلّهم إخباره بذلك، مطابقا لما رأوا وشاهدوا، على صدقه في حديث الإسراء. فإن قيل: لم قال الله تعالى بارَكْنا حَوْلَهُ [الآية 1] ولم يقل باركنا عليه أو باركنا فيه، مع أن البركة في المسجد تكون أكثر من خارج المسجد، وحوله خصوصا المسجد الأقصى؟ قلنا: أراد سبحانه البركة الدنيوية، بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة، وذلك حوله لا فيه. وقيل أراد البركة الدينية، فإنه مقرّ الأنبياء (ع) ، ومتعبّدهم ومهبط الوحي والملائكة، وإنما قال جلّ وعلا: بارَكْنا حَوْلَهُ لتكون بركته أعمّ وأشمل، فإنه أراد بما حوله ما أحاط به من أرض بلاد الشام، وما قاربه منها، وذلك أوسع من مقدار بيت المقدس ولأنه إذا كان هو الأصل، وقد بارك في لواحقه وتوابعه من البقاع، كان هو مباركا فيه بالطريق الأولى، بخلاف العكس. وقيل المراد البركة الدنيوية والدينية، ووجههما ما مرّ. وقيل المراد باركنا حوله، من بركة نشأت منه، فعمّت جميع الأرض، فإن مياه الأرض كلّها، أصل انفجارها من تحت الصخرة التي في بيت المقدس. فإن قيل، ما وجه ارتباط قوله تعالى إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) بما قبله، ومناسبته له؟ قلنا: معناه لا تتّخذوا من دوني ربّا فتكونوا كافرين، ونوح كان عبدا شكورا، وأنتم ذرّية من آمن به، وحمل معه، فتأسّوا به في الشكر، كما تأسّى به آباؤكم. فإن قيل لم قال الله تعالى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الآية 7] ولم يقل: فعليها، كما قال سبحانه: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصّلت: 46] ؟ قلنا: اللام هنا بمعنى على، كما في قوله تعالى وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) [الصافات] وقوله تعالى يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ [الآية 107] وقيل معناه، فلها رجاء بالرحمة، أو فلها خلاص بالتوبة والاستغفار والصحيح، أن اللام هنا على بابها، لأنها للاختصاص وكل عامل مختص

بجزاء عمله، حسنا كان أو سيّئا وقد سبق مثل هذا مستوفى في آخر سورة البقرة، في قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. فإن قيل: لم قال الله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ [الآية 12] وقال في قصة مريم وعيسى (ع) وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) [الأنبياء] وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون: 50] مع أن عيسى (ع) كان وحده آيات شتّى، حيث كلّم الناس في المهد، وكان يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق الطير وغير ذلك وأمّه وحدها، كانت آية، حيث حملت من غير فحل؟ قلنا: إنّما أراد به الآية التي كانت مشتركة بينهما ولم تتم إلّا بهما، وهي ولادة ولد من غير فحل، بخلاف الليل والنهار والشمس والقمر. والثاني: أن فيه آية محذوفة، إيجازا واختصارا تقديره: وجعلناها آية وابنها آية، أي وجعلنا ابن مريم آية، وأمّه آية. فإن قيل: لم قال الله تعالى وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الآية 12] والإبصار من صفات ما له حياة والمراد بآية النهار، إمّا الشمس وإمّا النهار نفسه وكلاهما غير مبصر؟ قلنا: المبصرة في اللغة بمعنى المضيئة، نقله الجوهري، وقال غيره معناه بيّنة واضحة ومنه قوله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الآية 59] أي آية واضحة مضيئة، وقوله تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً [النمل: 13] الثاني، معناه، مبصرا بها إن كانت الشمس، أو فيها، إن كانت النهار، ومنه قوله تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس: 67] أي مبصرا فيه ونظيره قولهم، ليل نائم ونهار صائم: أي ينام ويصام فيه. والثالث، أنه فعل رباعي منقول بالهمزة عن الثلاثي الذي هو بصر بالشيء: أي علم به، فهو بصير، أي عالم معناه: أنه يجعلهم بصراء، فيكون أبصره بمعنى بصره، وعلى هذا حمل الأخفش قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً [النمل: 13] أي تبصّرهم، فتجعلهم بصراء. الرابع، أن بعض الناس زعم أن الشمس حيوان له حياة وبصر وقدرة، وهو متحرك بإرادته امتثال أمر الله تعالى، كما يتحرّك الإنسان. فإن قيل: ما الحكمة في ذكر عدد السنين، مع أنه لو اقتصر على القول

لتعلموا الحساب، دخل فيه عدد السنين، إذ هو من جملة الحساب؟ قلنا: العدد كله موضوع الحساب، كبدن الإنسان فإنه موضوع الطب، وأفعال المكلّفين موضوع الفقه، وموضوع كل علم مغاير له، وليس جزءا منه. كبدن الإنسان ليس جزءا من الطب، ولا أفعال المكلّفين جزءا من الفقه فكذا العدد، ليس جزءا من الحساب وإنما ذكر عدد السنين وقدّم على الحساب، لأن المقصود الأصلي من محو الليل وجعل آية النهار مبصرة، علم عدد الشهور والسنين، ثم يتفرّع من ذلك علم حساب التاريخ، وضرب المدد والآجال. فإن قيل: لم قال الله تعالى كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) وقال في موضع آخر وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) [الأنبياء] ؟ قلنا: مواقف القيامة مختلفة، ففي موقف يكل الله، سبحانه، حسابهم إلى أنفسهم، وعلمه محيط به وفي موقف يحاسبهم، هو جلّ جلاله. وقيل إنه سبحانه هو الذي يحاسبهم لا غيره، وقوله تعالى كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) ، أي يكفيك أنك شاهد على نفسك بذنوبها، عالم بذلك فهو توبيخ وتقريع، لا أنه تفويض لحساب العبد إلى نفسه. وقيل من يريد مناقشته في الحساب يحاسبه بنفسه، ومن يريد مسامحته فيه يكل حسابه إليه. فإن قيل: قال تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] ويرد ما جاء في الأخبار، أن في يوم القيامة يؤخذ من حسنات المغتاب والمديون، ويزاد في حسنات ربّ الدّين والشخص الذي اغتيب، فإن لم تكن لهما حسنات يوضع عليهما من سيئات خصميهما، وكذلك جاء هذا في سائر المظالم؟ قلنا المراد من الآية، أنها لا تحمله اختيارا ردّا على الكافرين حيث قالوا للذين آمنوا، كما ورد في التنزيل اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] ، والمراد من الخبر، أنها تحمله كرها، فلا تنافي وقد سبق هذا مرة في آخر سورة الأنعام. فإن قيل: لم قال الله تعالى أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها [الآية 16] وقال في آية أخرى قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الأعراف: 28] . قلنا: فيه إضمار تقديره أمرناهم بالطاعة ففسقوا. وقال الزّجّاج، ومثله

قولهم أمرته فعصاني، وأمرته فخالفني، لا يفهم الأمر بالمعصية ولا الأمر بالمخالفة. الثاني: أن معناه كثّرنا مترفيها، يقال أمرته وآمرته بالمد والقصر يعني كثّرته وقد قرئ بهما، ومنه الحديث «خير المال مهرة مأمورة وسكّة مأبورة» ، أي كثيرة النتاج والنسل. والثالث أن معناه أمّرنا مترفيها بالتشديد، يقال أمّرت فلانا بمعنى أمرته: أي جعلته أميرا، فمعنى الآية سلطانهم بالإمارة، ويعزّز هذا الوجه قراءة من قرأ (أمّرنا) بالتشديد. وقال الزمخشري رحمه الله: لا يجوز أن يكون معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا، لأن حذف ما لا دليل عليه في اللفظ غير جائز، فكيف يقدّر حذف ما قام الدليل في اللفظ على نقيضه، وذلك لأن قوله تعالى فَفَسَقُوا يدل على أن المأمور به المحذوف، هو الفسق، وهو كلام مستفيض، يقال أمرته فقام، وأمرته فقعد، وأمرته فقرأ لا يفهم منه، إلا أن المأمور به القيام والقعود والقراءة بخلاف قولهم أمرته فعصاني، وأمرته فخالفني حيث لا يكون المأمور به المحذوف المعصية والمخالفة لأن ذلك مناف للأمر، مناقض له ولا يكون ما يناقص الأمر وينافيه مأمورا به، فيكون المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه، ولا منويّ والمتكلم بمثل هذا، لا ينوي لأمره مأمورا به بل كأنه قال: كان منّي أمر، فلم تكن منه طاعة، أو كانت منه مخالفة كما تقول: مر زيدا يطعك، وكما تقول: فلان يأمر وينهى، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويضرّ وينفع فإنّك لا تنوي مفعولا. فإن قيل: على هذا، حقيقة أمرهم بالفسق، أن يقول لهم افسقوا وهذا لا يكون من الله، فلا يقال يقدّر الفسق محذوفا، ولا مأمورا به. قلنا: الفسق المحذوف المقدر، مجاز عن إترافهم وصب النعم عليهم صبّا، أفضى بهم إلى جعلها ذريعة إلى المعاصي، ووسيلة إلى اتّباع الشهوات فكأنهم أمروا بذلك، لمّا كان السبب في وجوده الإتراف، وفتح باب النعم. فإن قيل: لم لا يكون ثبوت العلم، بأن الله لا يأمر بالفحشاء، وإنما يأمر بالطاعة والعدل والخير، دليلا على المراد أمرناهم بالطاعة ففسقوا. قلنا: لو جاز مثل هذا الإضمار والتقدير، لكان المتكلّم مريدا من مخاطبه علم الغيب لأنه أضمر ما لا

دلالة عليه في اللفظ، بل أبلغ، لأنه أضمر في اللفظ ما يناقضه وينافيه وهو قوله تعالى فَفَسَقُوا فكأنه أظهر شيئا، وادّعى إضمار نقيضه، فكان صرف الأمر إلى ما ذكرنا من المجاز، هو الوجه هذا كله كلام الزمخشري، ولا أعلم أحدا من أئمّة التفسير صار إليه غيره ثم إنه أيّد فقال: ونظيره أمر «شاء» ، في أن مفعوله استفاض فيه الحذف، لدلالة ما بعده تقول: لو شاء فلان لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك، تريد لو شاء الإحسان الأحسن، ولو شاء الإساءة إليك لأساء، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت فتعني، ولو شاء الإساءة لأحسن إليك، ولو شاء الإحسان لأساء إليك وتقول قد دلّت حال من أسدت إليه المشيئة، أنه من أهل الإحسان دائما، ومن أهل الإساءة دائما: فيترك الظاهر المنطوق به، ويضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة، لم تكن على سداد. فإن قيل: على الوجه الأول، لو كان المضمر المحذوف الأمر بالطاعة كان مخصوصا بالمترفين، لأن أمر الله تعالى بالطاعة، عامّ للمترفين وغيرهم. قلنا: أمر الله بالطاعة وإن كان عامّا، ولكن لمّا كان صلاح الأمراء والرؤساء وفسادهم، مستلزما لصلاح الرعيّة وفسادها غالبا خصّهم بالذكر. ويؤيد هذا ما جاء في الخبر «صلاح الوالي صلاح الرعيّة، وفساد الوالي فساد الرعيّة» . فإن قيل: قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ [الآية 18] يدل على أن من لم يزهد في الدنيا ولم يتركها، كان من أهل النار، والأمر بخلافه. قلنا: المراد من كان يريد بإسلامه وطاعته وعبادته الدنيا لا غير، ومثل هذا لا يكون إلّا كافرا أو منافقا ولهذا قال ابن جرير: هذه الآية لمن لا يؤمن بالمعاد، وأما من أراد من الدنيا قدر ما يتزوّد به إلى الاخرة، فكيف يكون مذموما مع أن الاستغناء عن الدنيا بالكلّيّة وعن جميع ما فيها، لا يتصوّر في حق البشر، ولو كانوا أنبياء، فعلم أن المراد ما قلنا. فإن قيل: لم قال تعالى: وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) أي ممنوعا، ونحن نرى ونشاهد في الواقع، أن واحدا أعطاه قناطير مقنطرة، وآخر منعه العطاء حتى الحبّة؟ قلنا: المراد بالعطاء هنا الرزق، والله

تعالى ساوى في ضمان الرزق وإيصاله، بين البرّ والفاجر والمطيع والعاصي، ولم يمنع الرزق عن العاصي بسبب عصيانه، فلا تفاوت بين العباد في أصل الرزق، وإنّما التفاوت بينهم في مقادير الإملاك. فإن قيل: لم منع الله تعالى الكفّار التوفيق والهداية، ولم يمنعهم الرزق؟ قلنا: لأنه لو منعهم الرزق لهلكوا، وصار ذلك حجّة لهم يوم القيامة، بأن يقولوا لو أمهلتنا ورزقتنا، لبقينا أحياء فآمنّا. الثاني: أنه لو أهلكهم بمنع الرزق، لكان قد عاجلهم بالعقوبة، فيتعطّل معنى اسمه الحليم عن معناه لأن الحليم، هو الذي لا يعجّل بالعقوبة على من عصاه. الثالث: أنّ منع الطعام والشراب من صفات البخلاء الأخسّاء، والله تعالى منزّه عن ذلك. وقيل إعطاء الرزق لجميع العبيد عدل، وعدل الله عامّ، وهبته التوفيق والهداية فضل، وإنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى عِنْدَكَ من قوله سبحانه: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما [الآية 23] ؟ قلنا: الحكمة أنهما يكبران في بيته وكنفه، ويكونان كلّا عليه لا كافل لهما غيره، وربما تولّى منهما من المشاق، ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة. فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الآية 32] ولم يقل ولا تزنوا؟ قلنا: لو قال «ولا تزنوا» كان نهيا عن الزنى، لا عن مقدماته كاللمس والمعانقة والقبلة، ونحو ذلك ولمّا قال وَلا تَقْرَبُوا كان نهيا عنه وعن مقدّماته، لأن فعل المقدّمات قربان للزنى. فإن قيل: الإشارة بقوله تعالى كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ [الآية 38] على ماذا تعود؟ قلنا: الإشارة إلى كل ما هو منهيّ عنه، من جميع ما ذكر من قوله تعالى وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الآية 23] إلى هذه الآية لا إلى جميع ما ذكر، فإن فيه حسنا وسيئا وقال أبو علي هو إشارة إلى قوله تعالى وَلا تَقْفُ [الآية 36] وما بعده، لأنه لا حسن فيه. فإن قيل: لم قال تعالى تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [الآية 44]

فقوله جلّ شأنه وَمَنْ فِيهِنَّ يتناول أهل الأرضين كلّهم، والمراد به العموم كما هو مقتضى الصيغة، بدليل تأكيده بقوله تعالى بعده وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الآية 44] ، والتسبيح هو التنزيه عن كل ما لا يليق بصفات جلاله وكماله، والكفّار يضيفون إليه الزوج والولد والشريك وغير ذلك، فأين تسبيحهم؟ قلنا: الضمير في قوله تعالى وَمَنْ فِيهِنَّ راجع إلى السماوات فقط. الثاني: أنه راجع إلى السماوات والأرض، والمراد بقوله تعالى وَمَنْ فِيهِنَّ يعني من المؤمنين فيكون عامّا أريد به الخاصّ وعلى هذا يكون المراد بالتسبيح المسند إلى من فيهنّ، التسبيح بلسان المقال. ثالث: أن المراد به التسبيح بلسان الحال، حيث تدلّ على وجود الصانع، وعظيم قدرته، ونهاية حكمته فكأنها تنطق بذلك، وتنزّهه عمّا لا يجوز عليه، وما لا يليق به من السوء، ويؤيده قوله تعالى بعده: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الآية 44] ، والتسبيح العامّ للموجودات جميعها، إنّما هو التسبيح بلسان الحال. فإن قيل: لو كان المراد هو التسبيح بلسان الحال، لما قال سبحانه وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الآية 44] ، إلا أنّ التسبيح بلسان الحال مفقود لنا: أي مفهوم ومعلوم؟ قلنا: الخطاب بقوله تعالى وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ للكفّار، وهم مع تسبيحهم بلسان الحال، لا يفقهون تسبيح الموجودات على ما ذكرنا من التفسير لأنهم لمّا جعلوا لله شركاء وزوجا وولدا، دلّ ذلك على عدم فهمهم التسبيح والتنزيه للموجودات، وعدم إيضاح دلائل الوحدانيّة لأنّ الله تعالى طبع على قلوبهم. فإن قيل: وَمَنْ فِيهِنَّ [الآية 44] وهم الملائكة والثّقلان يسبّحون حقيقة، والسماوات والأرض والجمادات تسبّح مجازا، فكيف جمع بين إرادة الحقيقة والمجاز من لفظ واحد، وهو قوله تعالى: تُسَبِّحُ؟ قلنا التسبيح المجازي بلسان الحال، حاصل من الجميع، فيحمل عليه دفعا لما ذكرتم من المجاز. فإن قيل: لم قال تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الآية 52]

والمستعمل الشائع دعاه فاستجاب لأمره أو بأمره: أي أجاب؟ قلنا: قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بقوله تعالى بِحَمْدِهِ بأمره. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: إذا دعا الله الخلائق للبعث، يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك وقال غيره وهم يقولون: الحمد لله الذي صدقنا وعده فعلى هذا تكون الباء بمعنى مع، كما في قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] وقوله تعالى فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر: 98] . فإن قيل: لم أجمل ذكر الأنبياء كلهم بقوله تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [الآية 55] ثم خصّ داود بالذكر فقال تعالى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) . قلنا: لأنه اجتمع له ما لم يجتمع لغيره من الأنبياء، وهو: الرسالة، والكتابة والخطابة، والخلافة، والملك، والقضاء، في زمن واحد قال الله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) [ص] وقال جلّ شأنه: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص: 26] . الثاني: أنّ قوله تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [الآية 55] إشارة إلى تفضيل محمد (ص) ، وقوله سبحانه: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) دلالة على وجه تفضيله (ص) ، وهو أنه خاتم الأنبياء، وأنّ أمّته خير الأمم لأنّ ذلك مكتوب في زبور داود (ع) ، وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) [الأنبياء] يعني محمّدا (ص) وأمته. فإن قيل: لم نكّر الزّبور هنا، وعرّفه في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء: 105] ؟ قلنا: يجوز أن يكون الزّبور من الأعلام التي تستعمل بالألف واللام، وبغيرهما، كالعبّاس والفضل والحسن والحسين ونحوها الثاني: أنه نكّره هنا لأنّه أراد: وآتينا داود بعض الزبور، وهي الكتاب. الثالث: أنّه نكّره لأنه أراد به، ما ذكر فيه رسول الله (ص) من الزبور، فسمى ذلك زبورا لأنه بعض الزبور، كما سمّى بعض القرآن قرآنا، فقال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ [الآية 106] وقال تعالى: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ [يوسف: 3] وأراد به سورة

يوسف وقال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الآية 78] أي القرآن المتلوّ في صلاة الفجر. فإن قيل: قوله تعالى فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ [الآية 56] مغن عن قوله تعالى وَلا تَحْوِيلًا (56) لأنهم إذا لم يستطيعوا كشف الضرّ لا يستطيعون تحويله، لأنّ تحويل الضّر نقله من محل، وإثباته في محل آخر، ومنه تحويل الفراش والمتاع وغيرهما، وكشف الضّرّ مجرّد إزالة، ومن لا يقدر على الإزالة وحدها، فكيف يقدر على الإزالة مع الإثبات؟ والمراد بالآية كشف الضر والمرض والقحط ونحوها؟ قلنا: التحويل له معنيان: أحدهما ما ذكرتم. والثاني التبديل، ومنه قولهم: حوّلت القميص قباء، والفضة خاتما وأريد بالتبديل هنا الكشف، لأن في الكشف المنفي في الآية تبديلا فإن المرض متى كشف يبدّل بالصحة، والفقر متى كشف يبدّل بالغنى، والقحط متى كشف يبدّل بالخصب وكذا جميع الأضداد، فأطلق التبديل وأراد به الكشف، إلا أنه لم يرد به كشف الضّر لئلّا يلزم التكرار، بل أراد به مطلق الكشف الذي هو الإزالة، يعني فلا يستطيعون كشف الضّرّ عنكم، ولا كشفا ما، ولهذا لم يقل ولا تحويله. وهذا الجواب ممّا فتح الله علي به، من خزائن جوده ونظيره ما ذكرناه في سورة النحل، في قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) [النحل] . فإن قيل: قوله تعالى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الآية 59] . الآية فيها أسئلة: أوّلها أنّ الله تعالى لا يمنعه عمّا يريده مانع، فإن أراد إرسال الآيات، فكيف يمنعه تكذيب الأمم الماضية؟ وإن لم يرد إرسالها، يكن وجود تكذيبهم وعدمه سواء، ويكن عدم الإرسال لعدم الإرادة. الثاني أن الإرسال يتعدّى بنفسه، قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [نوح: 1] . فأيّ حاجة إلى الباء؟ الثالث: أن المراد بالآيات هنا، ما اقترحه أهل مكّة على رسول الله (ص) ، من جعل الصفا ذهبا، وإزالة جبال مكّة، ليتمكّنوا من الزراعة، وإنزال مكتوب من السماء، ونحو ذلك وهذه الآيات، ما أرسلت إلى الأوّلين، ولا شاهدوها فكيف

كذّبوا بها؟ الرابع: أن تكذيب الأوّلين، لا يمنع إرسالها الى الآخرين، لجواز أن لا يكذّب الآخرون. الخامس: أيّ مناسبة وأيّ ارتباط بين صدر الآية وقوله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الآية 59] ؟ السادس: ما معنى وصف الناقة بالإبصار؟ السابع: أنّ الظلم يتعدّى بنفسه، قال الله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [النساء: 110] . فأي حاجة إلى الباء فَظَلَمُوا بِها [الآية 59] ، ولم لم يقل فظلموها يعني العقر والقتل، الثامن: أن قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ [الآية 59] يدل على عدم الإرسال بها؟ قلنا: الجواب عن الأول، أن المنع مجاز عبّر به عن ترك الإرسال بالآيات، كأنه تعالى قال: وما كان سبب ترك الإرسال بالآيات، إلّا أن كذّب بها الأولون. وعن الثاني: أن الباء لتعدية الإرسال إلى المرسل به، لا إلى المرسل، لأن المرسل محذوف وهو الرسول، تقديره، وما منعنا أن نرسل الرسل بالآيات، والإرسال يتعدّى إلى المرسل بنفسه، وإلى المرسل به بالباء، وإلى المرسل إليه بإلى، قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [هود] . وعن الثالث: أنّ الضمير في قوله تعالى بِهَا [الآية 59] ، عائد إلى جنس الآيات المقترحة، لا إلى هذه الآيات المقترحة، كأنّه تعالى قال: وما منعنا أن نرسل بالآيات المقترحة، إلّا تكذيب من قبلهم بالآيات المقترحة، يريد المائدة والناقة ونحوهما، ممّا اقترحه الأوّلون على أنبيائهم. وعن الرابع: أنّ سنة الله تعالى في عباده، أنّ من اقترح على الأنبياء آية، وأتوه بها فلم يؤمن، عجّل الله هلاكه والله تعالى لم يرد هلاك مشركي مكّة، لأنّه تعالى علم أنه يولد منهم من يؤمن، أو لأنه قضى وقدّر في سابق علمه، بقاء من بعث إليهم محمّد (ص) إلى يوم القيامة، فلو أرسل بالآيات التي اقترحوها، فلم يؤمنوا، لأهلكهم وحكمته اقتضت عدم إهلاكهم، فلذلك لم يرسلها فيصير معنى الآية: وما منعنا أن نرسل بالآيات المقترحة عليك، إلا أن كذّب بالآيات المقترحة الأوّلون، فأهلكوا، فربما كذّب بها قومك، فأهلكوا. وعن الخامس: أنه تعالى لما أخبر أن الأوّلين كذّبوا بالآيات المقترحة، عيّن منها واحدة

وهي ناقة صالح عليه السلام، لأنّ آثار ديارهم المهلكة في بلاد العرب قريبة من حدودهم، يبصرها صادرهم وواردهم. وعن السادس: أنّ معنى مبصرة دالّة، كما يقال الدليل مرشدها وقيل مبصرا بها، كما يقال ليل نائم ونهار صائم أي ينام فيه ويصام فيه، وقيل معناه مبصرة، يعني أنها تبصّر الناس صحّة نبوّة صالح عليه السلام ويعزّز هذا قراءة من قرأ (مبصرة) بفتح الميم والصاد: أي تبصرة. وقيل مبصرة صفة لآية محذوفة، تقديره: آية مبصرة: أي مضيئة بيّنة. وعن السابع: أن الباء ليست لتعدية الظلم إلى الناقة، بل معناه: فظلموا أنفسهم بقتلها أو بسببها، وقيل الظلم هنا الكفر، فمعناه: فكفروا بها، فلمّا ضمن الظلم معنى الكفر عدّاه تعديته. وعن الثامن: أنّ المراد بالآيات ثانيا العبر والدلالات، لا الآيات التي اقترحها أهل مكّة. فإن قيل: لم قال تعالى وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [الآية 60] وليس في القران لعن شجرة ما؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: والشجرة الملعونة المذكورة في القرآن. الثاني: أنّ معناه: الملعون آكلوها وهم الكفرة. الثالث: أنّ الملعونة يعنى المذمومة، كذا قال ابن عبّاس رضي الله عنهما، وهي مذمومة في القرآن، بقوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) [الدخان] . وبقوله تعالى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) [الصافات] الرابع: أن العرب تقول لكل طعام مكروه أو ضار ملعون وفي القرآن الإخبار عن ضررها وكراهتها. الخامس: أن اللعن في اللغة، الطرد والإبعاد، والملعون هو المطرود عن رحمة الله تعالى المبعد، وهذه الشجرة مطرودة مبعدة، عن مكان رحمة الله تعالى وهو الجنة، لأنّها في قعر جهنّم، وهذا الإبعاد والطرد مذكوران في القرآن، بقوله تعالى: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) [الصافات] . وقال ابن الأنباري سمّيت ملعونة، لأنها مبعدة عن منازل أهل الفضل. فإن قيل: لم خصّ أصحاب اليمين بقراءة كتبهم بقوله تعالى: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ [الآية 71] ولم خصّهم بنفي الظلم عنهم، بقوله تعالى:

وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) مع أن أصحاب الشمال يقرءون كتابهم ولا يظلمون أيضا؟ قلنا: إنما خصّ أصحاب اليمين بذكر القراءة، لأن أصحاب الشمال إلا رأوا ما في كتبهم من الفضائح والقبائح، أخذهم من الحياء والخجل والخوف ما يوجب حبسة اللسان، وتتعتع الكلام، والعجز عن إقامة الحروف، فتكون قراءتهم ك «لا قراءة» فأمّا أصحاب اليمين، فأمرهم على عكس ذلك لا جرم أنهم يقرءون كتابهم أحسن قراءة وأبينها، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم، حتى يقول القارئ لأهل المحشر هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) [الحاقة] . وأمّا قوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) فهو عائد إلى كلّ الناس، لا إلى أصحاب اليمين. الثاني: أنّه عائد إلى أصحاب اليمين خاصة، وإنما خصّهم بذلك، لأنّهم يعلمون أنهم لا يظلمون، ويعتقدون ذلك بخلاف أصحاب الشمال، فإنّهم يعتقدون أو يظنون أنهم يظلمون، يعضد هذا الوجه قوله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) [طه] . فإن قيل لم قال موسى (ع) لفرعون كما ورد في التنزيل قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ يعنى الآيات إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ [الآية 102] يعني بيّنات وحججا واضحات وفرعون لم يعلم ذلك، لأنه لو علم ذلك، لم يقل لموسى عليه السلام كما ورد في التنزيل إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) أي مخدوعا، أو قد سحرت، أو ساحرا، مفعول بمعنى فاعل على اختلاف الأقوال، بل كان يؤمن به وكيف يعلم ذلك، وقد طبع الله على قلبه وأضلّه، وحال بينه وبين الهدى والرشاد، ولهذا قرأ عليّ كرم الله وجهه لَقَدْ عَلِمْتَ [الآية 102] بضم التاء، وقال: والله ما علم عدوّ الله، ولكن موسى (ع) ، هو الذي علم. واختار الكسائي وثعلب قراءة عليّ رضي الله عنه، ونصراها، بأنه لمّا نسبه إلى أنّه مسحور، أعلمه بصحّة عقله؟ قلنا: معناه لقد علمت، لو نظرت نظرا صحيحا إلى الحجّة والبرهان، ولكنّك معاند مكابر، تخشى فوات دعوى الإلهية لو صدقتني فكان فرعون ممن أضلّه الله على علم، ولهذا بلغ ابن عباس قراءة علي رضي الله عنه ويمينه، فاحتج بقوله تعالى

وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] . فإن قيل: لم قال موسى (ع) كما ورد في التنزيل وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) وموسى (ع) كان عالما بذلك، لا شكّ عنده فيه؟ قلنا: قال أكثر المفسرين الظن هنا بمعنى العلم، كما في قوله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة: 46] وإنما أتي بلفظ الظنّ ليعارض ظنّ فرعون بظنّه، كأنّه قال: إن ظننتني مسحورا، فأنا أظنّك مثبورا، والمثبور الهالك والمصروف عن الخيرات، أو الملعون والخاسر. فإن قيل: لم كرّر تعالى الإخبار بالخرور «1» ؟ قلنا: كرّره ليدل على تكرار الفعل منهم. الثاني: أنه كرّره لاختلاف الحالين، وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين، وفي حال كونهم باكين. الثالث: أنه أراد بالخرور الأول، الخرور في حالة سماع القرآن وقراءته وبالخرور الثاني، الخرور في سائر الحالات وباقيها.

_ (1) . الخرور: مصدر خرّ يقال: خرّ ساجدا، ومعنى خرّ في هذا السياق، في الأصل: سقط. فكأنّ الذي يخرّ ساجدا، يسقط، لفرط خشوعه، من عل، حيث هو واقف، إلى الأرض، ليسجد.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الإسراء"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الإسراء» «1» في قوله سبحانه وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الآية 12] استعارتان إحداهما: قوله سبحانه: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ. والآية العلامة. والمراد بمحوها- والله أعلم- على قول بعضهم أي جعلنا ظلمة الليل مشكلة، لا يفهم معناها، ولا يعلم فحواها، لما استأثر الله تعالى بعلمه من المصلحة المستسرّة في ذلك. وحقيقة المحو طمس أثر الشيء. من قولهم: محوت الكتاب. إذا طمست سطوره حتى يشكل على القارئ، ويخفى على الرائي. وقال قوم: آية الليل، القمر خاصة. ومحوه: تصيير تلك الطمسة في صفحته، حتى نقص نوره عن نور الشمس، لما يعلم الله سبحانه من المصلحة في ذلك. وآية النهار الشمس. وقال آخرون: بل آيتا الليل والنهار ضوء هذا في الجملة، وظلمة هذا في الجملة. لأن الضوء علامة النهار، والظلمة علامة الليل، على ما قدمنا ذكره. والاستعارة الأخرى قوله تعالى: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً وفي ذلك وجهان: أحدهما أن يكون المراد، أنّا جعلناها مكشوفة القناع مبيّنة الإبصار،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

على خلاف آية الليل إذ جعلناها مشرجة «1» الغلاف، بهيمة الأطراف. والوجه الاخر أن يكون معنى مبصرة، أي يبصر الناس فيها، ويهتدون بها كما تقدم قولنا في قولهم، نهار صائم، وليل نائم أي أهل هذا صيام، وأهل هذا نيام. وكما يقولون: رجل مخبث: إذا كان أهله وولده خبثاء. ورجل مضعف: إذا كانت دوابه وظهوره ضعفاء. فعلى هذا يسمى النهار مبصرا، إذا كان أهله بصراء. وقد مضى الكلام على مثل ذلك فيما تقدّم. وقوله سبحانه: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الآية 13] وهذه استعارة. والمراد بالطائر هاهنا، والله أعلم، ما يعمله الإنسان من خير وشرّ، ونفع وضرّ. وذلك مأخوذ من زجر الطير على مذاهب العرب. لأنهم يتبرّكون بالطائر المتعرّض من ذات اليمين، ويتشاءمون بالطائر المتعرّض من ذات الشمال. ومعنى ذلك أنه سبحانه يجعل عمل الإنسان من الخير والشر، كالطوق في عنقه، بإلزامه إيّاه، والحكم عليه به. وقال بعضهم: معنى ذلك أنّا جعلنا لكل إنسان دليلا من نفسه على ما بيّناه له، وهديناه إليه. والعرب تقيم العنق والرقبة، مقام الإنسان نفسه. فيقولون لي في رقبة فلان دم، ولي في رقبته دين. أي عنده. وفلان أعتق رقبة، إذا أعتق عبدا أو أمة. ويقول الداعي في دعائه، اللهم أعتق رقبتي من النار وليس يريد العنق المخصوصة، وإنّما يريد الذات والجملة. وجعل سبحانه الطائر مكان الدليل الذي يستدل به، على استحقاق الثواب والعقاب، على عادة العرب التي ذكرناها في التبرّك بالسانح، والتشاؤم بالبارح. وقوله سبحانه: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الآية 24] وهذه استعارة عجيبة، وعبارة شريفة. والمراد بذلك الإخبات «2» للوالدين، وإلانة القول لهما، والرفق واللطف بهما. وخفض الجناح في كلامهم عبارة

_ (1) . أشرج الشيء: ضمّ بعضه إلى بعض وأحكم شده. (2) . أي الخضوع.

عن الخضوع والتذلّل، وهما ضد العلوّ والتعزّز. إذ كان الطائر إنّما يخفض جناحه إذا ترك الطيران، والطيران هو العلوّ والارتفاع. وقد يستعار ذلك لفرط الغضب والاستشاطة. فيقال قد طار فلان طيرة، إذا غضب واستشاط. وقد أومأنا إلى هذا المعنى فيما تقدّم. وإنّما قال سبحانه: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الآية 24] ليبيّن تعالى أنّ سبب الذل لهما الرأفة والرحمة، لئلّا يقدّر أنه الهوان والضراعة. وهذا من الأغراض الشريفة، والأسرار اللطيفة. وقوله سبحانه: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الآية 29] وهذه استعارة. وليس المراد بها اليد التي هي الجارحة على الحقيقة، وإنّما الكلام الأول كناية عن التقتير، والكلام الاخر كناية عن التبذير وكلاهما مذموم، حتى يقف كل منهما عند حدّه، ولا يجري إلّا إلى أمده. وقد فسّر هذا قوله سبحانه: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) [الفرقان] . وقوله سبحانه: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الآية 46] . وهذه استعارة لأنه ليس هناك على الحقيقة كنان على قلب، ولا وقر في سمع. وإنّما المراد أنهم، لاستثقالهم سماع القرآن عند أمر الله سبحانه نبيّه عليه السلام بتلاوته على أسماعهم وإفراغه في آذانهم، كالذين على قلوبهم أكنّة دون علمه، وفي آذانهم وقر دون فهمه، وإن كانوا من قبل نفوسهم أتوا، وبسوء اختيارهم أخذوا ولو لم يكن الأمر كذلك، لما ذمّوا على اطّراحه، ولعذروا بالإضراب عن استماعه. وقوله سبحانه: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الآية 47] وهذه استعارة لأن النجوى مصدر كالتقوى. وإنّما وصفوا بالمصدر، لما في هذه الصفة من المبالغة في ذكر ما هم عليه، من كثرة تناجيهم، وإسرار المكايد بينهم. والصفة بالمصادر تدلّ على قوة الشيء الموصوف بذلك مثل قولهم: رجل رضا وقوم عدل. وما يجرى هذا المجرى. وقوله سبحانه: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الآية 59] . وهذه استعارة. والمعنى: جعلنا الناقة آية مبصرة، أي

مبصرة للعاشي «1» ومذكرة للنّاسي، ومظنّة لاعتبار المعتبر، وتفكّر المفكر. لأن من عجائب تلك الناقة تمخّض الصخرة بها من غير حمل بطن، ولا فرع فحل. وأنها كانت تقاسم ثمود الورد فلها يوم، ولثمود يوم. قال سبحانه: لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) [الشعراء] فإذا كان يومها شربت فيه الماء مثلما كانت ثمود تأخذ أشقاصها «2» وزروعها، وأصرامها «3» وشروبها. وهذا من صوادح العبر، وقوارع النذر. وقال بعضهم يجوز أن يكون معنى «مبصرة» هاهنا أي ذات إبصار. والتأويلان يؤولان إلى معنى واحد. وقوله سبحانه عن إبليس: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) وهذه استعارة على بعض التأويلات في هذه الآية. وهو أن يكون الاحتناك هاهنا افتعالا من الحنك. أي لأقودنّهم إلى المعاصي، كما تقاد الدابة بحنكها، غير ممتنعة على قائدها. وهي عبارة عن الاستيلاء عليهم، والامتلاك لتصرفهم، كما يمتلك الفارس تصرّف فرسه، بثني العنان تارة، وبكبح اللجام مرة. وقال يعقوب «4» في «إصلاح المنطق» يقال: حنك الدّابة يحنكها حنكا، إذا شدّ في حنكها الأسفل حبلا يقودها به. وقد احتنك الدّابة «5» مثل حنكها إذا فعل بها ذلك. وقال بعضهم عن قوله تعالى: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أي لألقينّ في أحناكهم حلاوة المعاصي، حتى يستلذّوها، ويرغبوا فيها ويطلبوها. والقول الأول أحبّ إليّ. وقال بعضهم: لأستأصلنّ ذريته

_ (1) . العاشي اسم فاعل من عشا عن الشيء، أي أعرض وصدر عنه إلى غيره. (2) . الأشقاص: جمع شقص بكسر الشين، وهو القطعة من الشيء أو من الأرض. (3) . الأصرام: جمع صرم بكسر الصاد، وهو الجماعة من الشيء أو من البيوت. (4) . هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، المعروف بابن السّكّيت، وكان أبوه من أصحاب الكسائي المشهور في اللغة والنحو. أما صاحبنا فقد شهد له المؤرخون بالعلم الغزير في اللغة والشعر والثقة في الرواية. وكتابه «إصلاح المنطق» يقول فيه المبرّد: «ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن من كتاب يعقوب بن السكّيت في المنطق» توفي سنة 244. وقد طبع «إصلاح المنطق» طبعة موثقة بتحقيق الأستاذين أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون. (5) . في «إصلاح المنطق» ص 82 (وقد احتنك دابته) .

بالغواية، ولأستقصين إهلاكهم بالضلال، لأن اتّباعهم غيّه وطاعتهم أمره، يؤولان بهم إلى موارد الهلاك، وعواقب البوار. وقال الشاعر [بحر الرجز] : نشكو إليك سنة قد أجحفت ... واحتنكت أموالنا وجلّفت «1» أي أهلكت أموالنا. ويقال احتنكه إذا استأصله. ومن ذلك قولهم: احتنك الجراد الأرض. إذا أتى على نبتها. وقيل أيضا: المراد بذلك، لأضيّقنّ عليهم مجاري الأنفاس من أحناكهم، بإيصال الوسوسة لهم، وتضاعف الإغواء عليهم. ويقال احتنك فلان فلانا إذا أخذ بمجرى النفس من حنكه. فكان كالشّبا «2» في مقلته والشّجا «3» في مسعله. وقوله سبحانه: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ [الآية 78] وهذه استعارة. لأن الدّالك، المائل في كلامهم. فكأنه سبحانه أمر بإقامة الصلاة عند ميل الشمس. فقيل عند ميلها للزوال، وقيل عند ميلها للغرب والشمس على الحقيقة لا تميل عن موضعها، ولا تزول عن مركزها، وإنّما تعلو أو تنخفض، وترتفع بارتفاع الفلك وانخفاضه، وسيره وحركاته. وقوله سبحانه وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) . وهذه استعارة. لأنهم يقولون: زهقت نفس فلان إذا خرجت. ومنه قوله تعالى وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) [التوبة] فالمراد، والله أعلم، وهلك الباطل إنّ الباطل كان هلوكا، تشبيها له بمن فاضت نفسه، وانتقضت بنيته لأنّ الباطل لا مساك لذمائه، ولا سماك لبنائه.

_ (1) . ورد هذا الرجز في «مجازات القرآن» لأبي عبيدة هكذا: نشكو إليك سنة قد أجحفت ... جهدا إلى جهد بنا فأضعفت واحتنكت أموالنا وجلفت انظر «مجازات القرآن» لأبي عبيدة. طبعة سامي الخانجي ص 384 والرجز كذلك في الجامع لأحكام القرآن» ج 10 ص 287. ولم ينسبه أبو عبيدة، ولا القرطبي، لقائله. (2) . الشّبا جمع شباة، وهي حد السيف، أو قدر ما يقطع به منه. (3) . الشّجا ما يعترض الحلق، فيشجى به.

وقوله سبحانه: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ [الآية 84] وهذه استعارة، لأن الأولى أن يكون المراد هاهنا بالشاكلة، والله أعلم، الطريقة التي تشاكل أخلاق الإنسان، وتوافق طبيعته. وذلك مأخوذ من الشاكلة، وجمعها شواكل، وهي الطرق المتّسعة المتشعّبة عن المحجّة العظمى. فكأنّ الدّنيا هاهنا مشبّهة بالطريق الأعظم، وعادات الناس فيها وطبائعهم التي جبلوا عليها مشبّهة بالطرق المختلجة من ذلك الطريق، الذي هو المعمود، وإليه الرجوع. وقال بعضهم: الشاكلة العلامة، وأنشد [بحر البسيط] : بدت شواكل حبّ كنت تضمره ... في القلب أن هتفت في الدّار ورقاء فكأنه تعالى قال: كلّ يعمل على الدلالة التي نصبت لاستدلاله، والأمارة التي رفعت لاهتدائه. وقوله سبحانه: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ [الآية 100] وهذه استعارة، والمراد بالخزائن، هاهنا، المواضع التي جعلها الله سبحانه وتعالى، جفنات لدرور الرزق ومنافع الخلق. وإلى تلك المواضع ترفع الأيدي عند السؤال، والرغبات، واستدرار الخير والبركات. وقوله سبحانه: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ [الآية 106] وهذه استعارة، ومعنى فرقناه: أي بيّناه للناس بنصوع مصباحه وشدوخ أوضاحه، حتّى صار كمفرق الفرس في وضوح مخطّه «1» أو كفرق الصبح في بيان منبلجه. وقال بعضهم: معنى فرقناه أي فصّلناه سورا وآيات. وذلك بمنزلة فرق الشعر وهو تمييز بعض من بعض، حتى يزول التباسه، ويتخلص التفافه.

_ (1) . المخطّ هو مكان الخط، أو الفرق في مفرق الحصان.

سورة الكهف 18

سورة الكهف 18

المبحث الأول أهداف سورة"الكهف"

المبحث الأول أهداف سورة «الكهف» «1» سورة مكية المشهور بين العلماء أن سورة الكهف مكّية كلها، وأنها من السور التي نزلت جملة واحدة كما جاء في الخبر الذي أخرجه الديلمي في مسند الفردوس، عن أنس، عن النبي (ص) إذ يقول: «نزلت سورة الكهف جملة» . وقد روى ذلك أيضا عن بعض الصحابة، واختاره الداني، ومشى عليه أكثر أهل التفسير والمتكلّمين في علوم القرآن. وهناك روايات أخرى تخالف هذا المشهور فتقرر أن السورة مكّية إلا بعض آياتها، فإنّه مدني. وفي المصحف الفؤادي المطبوع بمصر، سورة الكهف مكّية إلا الآية 38، ومن الآية 83 إلى الآية 101 فكلّها مدنية، وآياتها 110 نزلت بعد الغاشية. وقال الفيروزآبادي: «السورة مكية بالاتفاق، وفيها إحدى عشرة آية مختلف فيها بين مكّيتها ومدنيّتها، وهي الآيات: 13، 22، 23، 32، 35، 84، 85، 86، 89، 92، 103» . وينبغي أن يعلم أن كثيرا ممّا ذكر أنه مدني فتضمنته سورة مكية، أو مكّي فتضمنته سورة مدنية، هو موضع خلاف بين العلماء لاختلاف الرواية فيه، أو لبناء الحكم فيه على اجتهاد واستنباط من القائل به وفي ذلك يقول ابن الحصار فيما نقله عنه السيوطي في الإتقان: «كل نوع من المكّي والمدني

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

القصص في سورة الكهف

منه آيات مستثناة، إلا أن من الناس من اعتمد في الاستثناء على الاجتهاد دون النقل» . القصص في سورة الكهف القصص هو العنصر الغالب في هذه السورة، ففي أولها تجيء قصة أصحاب الكهف، وبعدها قصة أصحاب الجنّتين، ثم إشارة إلى قصة آدم وإبليس. وفي وسطها تجيء قصّة موسى مع العبد الصالح. وفي نهايتها قصة ذي القرنين. ويستغرق هذا القصص معظم آيات السورة فهو وارد في إحدى وسبعين آية من عشر ومائة آية، ومعظم ما يتبقّى من آيات السورة هو تعليق على القصص أو تعقيب عليه. ويلتقي هذا القصص حول فكرة أساسية للقرآن، وهي إثبات أن البعث حق، وأن المؤمن يكافأ بحسن الجزاء، وأن الكافر يلقى جزاء عنته وكفره في الدنيا أو الاخرة. قصة أصحاب الكهف في قصة أصحاب الكهف يتجلّى صدق الإيمان، وقوة العقيدة، والإعراض عن كل ما ينافيها إعراضا عمليّا صارما، لا تردّد فيه ولا مواربة: فتية رأوا قومهم في الضّلال يعمهون، وفي ظلمات الشرك يخبطون، لا حجّة لهم ولا سلطان على ما يزعمون، أحسوا في أنفسهم غيرة على الحق لم يستطيعوا معها أن يظلوا في هذه البيئة الضالة بأجسامهم، ولو خالفوها بقلوبهم، فتركوا أوطانهم وتركوا مصالحهم واعتزلوا قومهم وأهليهم، وخرجوا فارّين مجتنبين الشطط وأهل الشطط، وآثروا كهفا يأوون إليه في فجوة منه، لا يراهم فيه أحد، ولا يؤنسهم في وحشتهم إلّا كلبهم. ذلك هو مغزى القصة الخلقي، وفيه ما فيه من إرشاد وإيحاء، وتمجيد لأخلاق الشرف والرجولة والثبات على العقيدة والتضحية في سبيلها. أما المعنى العام الذي تتلاقى فيه القصة مع غرض السورة، فهو إثبات قدرة الله على مخالفة السنن التي ألفها الناس، وظنوا أنها مستعصية عليه جل شأنه، أن تبدّل أو تحوّل كما هي مستعصية على كلّ مخلوق وشتّان ما بين قدرة الخالق والمخلوقين، وهذا ما

قصة موسى والخضر

تشير إليه القصة في ثناياها، إذ يقول الله عزّ وجلّ: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها [الآية 21] . قصة موسى والخضر أما قصة موسى وقتاده والعبد الصالح، فلبابها ومغزاها إثبات قصور الخلق مهما سمت عقولهم، وكثرت علومهم أمام إحاطة الله سبحانه وعلمه. وهكذا، ترتبط في سياق السورة، قصة موسى والعبد الصالح، بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله الذي يدبر الأمر بحكمته، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر الواقفون وراء الأستار، لا يكشف لهم عمّا وراءها من الأسرار إلّا بمقدار. لقد وقف موسى (ع) خطيبا في بني إسرائيل فأجاد وأبدع في خطبته، فقال له أحد المستمعين: ما أفصحك يا نبيّ الله، هل في الأرض من هو أكثر علما منك؟ قال موسى: لا، فأخبره الله أن في الأرض من هو أكثر علما منه فقال موسى: يا ربّ دلّني عليه حتى أذهب إليه فأتعلّم منه. وضرب موسى لنا مثلا رائعا في الرحلة لطلب العلم وتحمّل الصعاب والمشقّات بهمّة الرجال وعزيمة الأبطال. إذا همّ ألقى همّه بين عينه ونكّب عن ذكر العواقب جانبا سار موسى مع تابع له هو يوشع بن نون ومعهما حوت في مكتل «1» ، وبلغ مجمع البحرين: بحر الروم وبحر القلزم. أي البحر الأبيض والبحر الأحمر، أو أنه مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر. وفي المكان الذي أراد الله أن يلتقي فيه نبي إسرائيل بعبده الصالح، فقد موسى حوته، وعاد ليبحث عنه فوجد رجلا نحيل الجسم، غائر العينين، عليه دلائل الصلاح والتقوى، فسلم عليه موسى، وتلطّف معه في القول، وأبدى رغبته في اتّباعه ليتعلّم منه العلم، فاشترط الخضر على موسى الصبر والتريث، فقال موسى كما ورد في التنزيل:

_ (1) . المكتل: القفّة

سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) . وانطلق موسى مع الخضر في سفينة جيّدة، وفي غفلة من أهلها أخذ الخضر لوحين من خشب السفينة فخلعهما، فذكّره موسى بأن هذا ظلم وفساد، فالتفت الخضر إليه، وقال، كما ورد في التنزيل، أيضا: قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) . فاعتذر موسى بالنسيان، ووعد أن يرافقه مع الصبر والسكوت. وسار الرجلان، ثم قتل الخضر غلاما بريئا في عمر الزهر فاحتج موسى، وذكره الخضر بالشرط فسكت. وفي الجولة الثالثة دخل الرجلان قرية، وكان الجوع قد اشتدّ بهما فطلبا من أهلها طعاما، فأبوا إطعامهما ورأى الخضر جدارا متداعيا أوشك أن يقع، فطلب من موسى مساعدته حتّى بناه وأتم بناءه واعترض موسى على هذا العمل لأن أهل القرية لا يستحقون مثل هذا المعروف، فهم بخلاء لؤماء، فينبغي أن يأخذ الخضر أجرا على بناء الجدار لهم وافترق الرجلان بعد أن سمع موسى من الخضر سبب هذه الأعمال: أمّا السفينة، فكانت ملكا لجماعة من المساكين يعتمدون عليها في كسب الرزق ووراءهم ملك ظالم يستولي «غضبا» على كلّ سفينة صالحة للعمل، فخرق الخضر السفينة ليراها الملك معيبة فيتركها ليستفيد بها أهلها، فهو عمل مؤلم في الظاهر، ولكنه مفيد في الحقيقة والواقع. وأمّا الغلام، فقد كان مفسدا وسيشبّ على الفساد والإفساد، وكان أبواه مؤمنين فأراد الله أن يقبض الغلام إلى جواره، وأن يعوّض والديه بنتا صالحة تزوجت نبيّا، وأنجبت نبيّا. وأمّا الجدار، فكان ملكا لغلامين يتيمين تحدّرا من رجل صالح كريم، وكان تحت الجدار كنز من المال، ولو سقط الجدار لتبدّد الكنز، فأراد الله أن يقام الجدار ويجدّد حتى يبلغا أشدّهما، ويستخرجا كنزهما حلالا طيّبا لهما.. ثم قال الخضر، كما ورد في التنزيل: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) .

قصة ذي القرنين

وقد يتساءل الإنسان عن عمل الخضر عليه السلام، وهل هو مشروع على الإطلاق، وهل يجوز لمن علم، في حادثة مّا، مثل ما علمه العبد الصالح من حقيقة الأمر فيها، أن يخالف الظاهر؟ وقد اهتمّ بعض المفسّرين بترديد أمثال هذه الأسئلة والمناقشات والإجابة عنها، وتخريج ما يحتاج منها إلى تخريج كأن الأمر أحكام تشريعية أو بيان لموضوعات خلافية. والواقع أنه لم يقصد بهذه القصة إلا الإقناع بأن الإنسان، مهما اتّسع عقله، وسمت مداركه، وعلا منصبه، محدود في علمه، وأن كثيرا من الأمور يخفى عليه، وأن لله عبادا قد يخصّهم بنوع من العلم لا يبذله للناس جميعهم، ولا يستقيم حال الدنيا على بذله للناس جميعهم. قصة ذي القرنين تلك قصة عبد مكّن الله له في الأرض، وسخّر له العلم والقوة والآلات والمواصلات، وآتاه من كل شيء سببا. وقد استغلّ هذه الإمكانات في عمل مثمر نافع يعمّ، ويبقى أثره. وقد تحرّك ذو القرنين إلى المغرب غازيا فاتحا، محاربا مجاهدا، وسار النصر في ركابه حتى انتهى إلى عين اختلط ماؤها وطينها فتراءى له أن الشمس تغرب فيها وتختفي وراءها وظن أن ليس وراء هذه العين مكان للغزو، ولا سبيل للجهاد، ولكنه رأى عندها قوما هاله كفرهم، وكبر عليه ظلمهم وفسادهم، فخيّره الله بين قتالهم أو إمهالهم ودعوتهم للعدل والإيمان، فاختار إمهالهم وقام فيهم مدة ضرب فيها على يد الظالم، ونصر المظلوم، وأخذ بيد الضعيف، وأقام صرح العدل، ونشر لواء الإصلاح. وقد وضع لهم دستور الحكم العادل قال تعالى: قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) . وقد عاد ذو القرنين إلى الشرق فسار غازيا مجاهدا حتى انتهى إلى غاية العمران في الأرض، وهناك وجد أقواما تطلع الشمس عليها، ولكن ليس لهم بيوت تسترهم، أو أشجار تظلّهم. ولعلّهم كانوا على حال من الفوضى

ونصيب من الجهل.. فبسط حكمه عليهم ونفّذ فيهم دستور العدل، ومكافأة المحسن، ومعاقبة المسيء الذي سبق ذكره، ثم تركهم إلى الشمال غازيا مجاهدا مظفّرا منصورا، حتى انتهى إلى بلاد بين جبلين يسكنها أقوام لا تكاد تعرف لغاتهم، أو يفهم في الحديث مرماهم، ولكنهم قد جاوروا يأجوج ومأجوج، وهم قوم مفسدون في الأرض، وأوزاع «1» من الخلق ضالّون مضلّون. وقد لجأ الأقوام إلى ذي القرنين ليحول بينهم وبين المفسدين، وشرطوا على أنفسهم نولا يدفعونه إليه، وأموالا يضعونها بين يديه. ولكنّ ذا القرنين أجابهم إلى طلبهم، وردّ عطاءهم وقال لهم، كما روى القرآن ذلك، حكاية عنه: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الآية 95] . ثم طلب إليهم أن يعينوه على ما يفعل، فحشدوا له الحديد والنحاس، والخشب والفحم، فوضع بين الجبلين قطع الحديد وحاطها بالفحم والخشب، ثمّ أوقد النار، وأفرغ عليه ذائب النحاس، واستوى ذلك كله بين الجبلين سدّا منيعا قائما، ما استطاعت يأجوج ومأجوج أن تظهره لملاسته، أو تنقبه لمتانته وأراح الله منهم شعبا كان يشكو من أذاهم، ويألم من عدوانهم. ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به، فلم يأخذه البطر والغرور، ولكنه ذكر الله فشكره، وردّ إليه العمل الصالح الذي وفّقه إليه، وتبرّأ من قوته إلى قوة الله، وأعلن عقيدته في البعث والحشر، وإيمانه بأنّ الجبال والحواجز والسدود ستدكّ قبل يوم القيامة، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا وهكذا تختم هذه القصة، بتأكيد قدرة الله سبحانه، على البعث قال تعالى: قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) . «وبذلك تنتهي قصة ذي القرنين، النموذج الطيّب للحاكم الصالح، يمكنه الله في الأرض، وييسّر له الأسباب، فيجتاح الأرض شرقا وغربا، ولكنه لا يتجبّر ولا يتكبّر، ولا يطغى ولا يتبطّر ولا يتّخذ من الفتوح وسيلة للغنم

_ (1) . الأوزاع: الجمادات، ولا واحد لها. [.....]

أهداف سورة الكهف

المادي، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق، ولا يسخّر أهلها في أغراضه وأطماعه وإنّما ينشر العدل في كل مكان يحلّ به، ويساعد المتخلّفين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل، ويستخدم القوة التي يسّرها الله له في التعمير والإصلاح ودفع العدوان، وإحقاق الحق. ثم يرجع كلّ خير يحقّه الله على يديه إلى رحمة الله وفضله، ولا ينسى، وهو في إبّان سطوته، قدرة الله وجبروته، وأنه راجع إلى الله» . أهداف سورة الكهف نزلت سورة الكهف بمكّة في وقت اشتدت فيه حملة القرآن على المنكرين المكذّبين بيوم الدين. وقد نزلت قبلها سورة الغاشية، وهي سورة تبدأ وتنتهي بحديث الساعة، وإياب الناس جميعا إلى الله، ليحاسبهم على ما قدّموا. ونزلت، بعد سورة الكهف، سورة النحل وعدّة سور تحدّثت عن البعث والجزاء، وأثبتت وحدانيّة الله وقدرته، وذكرت عقوبته للمكذّبين، وأخذه على يد الظالمين. لقد كان كفّار مكّة ينكرون البعث، ويستبعدون وقوعه بعناد وإصرار، فتكفّل القرآن بمناقشتهم وتفنيد آرائهم، وأثبت قدرة الله على البعث والجزاء، وقدّم الأدلة على هذه القضية وساق في سورة الكهف عددا من الحجج والبراهين على حقيقتها، مبرزا ذلك بصورة واضحة قد اكتملت فيها عناصر القوة والروعة والإفحام. فالمحور الموضوعي لسورة الكهف هو تصحيح العقيدة، وتأكيد قدرة الله على البعث والجزاء، وتصحيح المفاهيم الخاطئة. ونستطيع أن نجمل مظاهر ذلك فيما يأتي: 1- بدأت السورة بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) . وهي تتحدّث في هذا البدء عن الدار الاخرة وما فيها من بأس شديد يصيب أقواما، وأجر حسن يفوز به أقوام آخرون. وختمت بقوله تعالى:

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) . وهي تتحدّث في هذا الختام، عن الدار الاخرة أيضا، وعمّن يرجو لقاء ربه، وما يجب عليه، أثرا لهذا الرجاء والإيمان، من عمل صالح، وتوحيد لله لا يخالطه إشراك. وهكذا يتلاقى أول السورة وآخرها: أولها يتحدث عن الاخرة بطريق التقرير لها، وبيان مهمة القرآن في إثبات ما يكون فيها من الجزاء إنذارا وتبشيرا، وآخرها يتحدث عن هذه الحقيقة التي تركزت وتقررت، ويحاكم الناس إليها في الإيمان والعمل الصالح. وممّا يلاحظ أن آيات البدء، قد ذكر فيها أمر الذين قالوا اتّخذ الله ولدا، من إنذارهم وبيان كذبهم وتخليطهم وجهلهم على الله، وذلك هو قول الذين يشركون بالله، ويعتقدون ما ينافي وحدانيته وتنزيهه وأن آية الختام قررت أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وأنّ على من يؤمن به، ويرجو لقاءه ألّا يشرك بعبادته أحدا، فتطابق الأول والاخر في إثبات الوحدانية والتنزيه لله جلّ وعلا، كما تطابقا في أمر البعث والدار الاخرة. 2- أمّا في أثناء السورة، وما بين بدئها وختامها، فقد جاء أمر البعث عدة مرات: أ- جاء في مقدمة قصة أصحاب الكهف التي ساقها الله حقيقة من حقائق التاريخ الواقعية، ودليلا على قدرته، وتنظيرا لما ينكره الكافرون من أمر البعث والنشور: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) ، وفي ثنايا هذه القصة: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها [الآية 21] . فهي تقرر أن أصحاب الكهف آية من آيات الله، وأنهم، مع غرابة أمرهم، لا يعدّون في جانب القدرة الإلهية عجبا، فإنما هم فتية آمنوا بربّهم، وأووا إلى الكهف فرارا بعقيدتهم، فضرب الله على آذانهم فيه مدة من الزمن، ثم بعثهم. فالله، إذن، قادر على أن يضرب على آذان الناس جميعا في هذه الدار بالموت، كما يضرب على آذانهم

بالنوم، ثم يبعثهم إلى الدار الاخرة كما بعث هؤلاء الفتية، وما ذلك على الله بعزيز، ولا هو في قدرته بعجيب. وتقرر هذه المقدمة أنّ العبرة من بعثهم والإعثار عليهم: أن يعلم الناس، أنّ وعد الله حقّ، وأنّ الساعة لا ريب فيها. ب- وجاء أمر البعث مرة ثانية في هذه السورة حينما قررت أن الحق من الله، وأن كل امرئ مخيّر في الإيمان أو الكفر: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الآية 29] فهناك دار أخرى غير هذه الدار، يحاسب فيها كل امرئ، ويجزى بما يستحقه: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الآية 29] وللذين آمنوا وعملوا الصالحات جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ [الآية 31] . ج- وجاء أمر البعث في المثل الذي ضربه الله للناس عن صاحب الجنّتين وزميله، وما كان من إنكاره قدرة الله، وشكّه في الساعة، ونصح صاحبه له وتبرّئه منه، وأن الله قد أحال الجنتين صعيدا زلقا وحينئذ، تنبه الكافر فقال، كما ورد في التنزيل: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) . د- وجاء أمر البعث، بعد هذا، في المثل الذي ضربه الله بالحياة الدنيا، يكون فيها نبات وزينة، ثمّ يصبح ذلك كلّه هشيما تذوره الرياح، وتنتهي الدنيا وما فيها. وقد عقّب الله سبحانه على هذا المثل بذكر الجبال وسيرها، والأرض وبروزها، والحشر وشموله، والعرض على الله، ووضع الكتاب، وإشفاق المجرمين ممّا فيه قال تعالى، حكاية عنهم: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) . هـ- وجاء في السورة أيضا إشارة إلى قصّة آدم وإبليس، حيث طلب الله من إبليس أن يسجد لآدم فأبى، فتقررت بينهما العداوة منذ ذلك اليوم إلى أبد الدهر. وحذر الله أبناء آدم من أن يتخذوا الشيطان وذريته أولياء من دونه، مع هذه العداوة المتأصّلة. ثم ذكر لهم أمرا من أمور الاخرة بعد هذا التحذير من اتّخاذ الأولياء أو الشّركاء، حيث ينادى الشركاء فلا يجيبون،

ويستجار بهم فلا يجيرون وتبرز الجحيم فيراها المجرمون ويظنون أنّهم مواقعوها، ولا يجدون عنها مصرفا. في هذا الأسلوب، جمع بين المبدأ والمعاد، ووضع لقضية الخلق والبعث، مقترنتين بين يدي العقل، ليدرك الإنسان أنه، منذ أوّل نشأته، هدف لعدوّ مبين يحاول إضلاله ولفته عن الطريق المستقيم حسدا له وانتقاما منه وأن أخطر هذا الإضلال هو الوصول إلى حد الثقة بالعدوّ المبين، واتّخاذه وليّا من دون الله يتّبع أمره وينصر هواه وأن هذا العدوّ المخاتل، سيكون أمره يوم الجزاء كسائر الشركاء، يزيّنون الكفر والعصيان ما داموا في الدنيا. حتّى إذا جاء أمر الله، أعلنوا براءتهم ممّن اتّبعوهم وضلّوا بسببهم: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) [الحشر] . ووجاء في هذه السورة أيضا، مما يتصل ببراهين البعث، قصة موسى (ع) وفتاه والعبد الصالح. وهي قصة عظيمة حافلة بالفوائد والمعاني الجليلة. وفيها يساق الحديث على نحو يشعر معه كل سامع شعورا قويا، بأن لله سبحانه علما فوق علم الناس، وتصريفا للكون على سنن، منها ما هو معروف ومنها ما هو خفيّ. وإذا آمن الناس بهذا واطمأنّوا إليه، لم يعد هناك مجال للعجب من أمر الساعة. فما هي إلا تغيير يحدثه خالق الكون ومالك ناصيته. فإذا السنن المعروفة تحلّ محلّها سنن أخرى، ومن قدر على إنشاء السنن قدر على تغييرها. وبهذا يؤمن كل عاقل، بصدق ما أخبر به المعصوم من كل أمر يبدو أمام العقول عجيبا. وهو في قدرة الله غير عجيب. ز- جاءت السورة أيضا، بعد هذه القصة، بقصة أخرى عن عبد مكّن الله له في الأرض وآتاه من كلّ شيء سببا، وسخّر له العلم والقوة وأسبابا أخرى كثيرة، ذلك هو «ذو القرنين» . وقد لجأ إليه قوم ليحول بينهم وبين المفسدين، فأنجدهم وأعانهم وجعل الله عمله في ذلك رحمة للناس، يبقى ما بقيت هذه الحياة فإذا جاء وعد الله ضاعت السدود والحوائل وأصبحت دكّا، وترك الناس مضطربين يموج بعضهم في

بعض، ثم ينفخ في الصور فيجمعون كلّهم، وتعرض يومئذ للكافرين جهنّم عرضا، فيبصرون، وقد كانت أعينهم من قبل في غطاء، ويسمعون وقد كانت آذانهم من قبل في صمم. وهكذا نجد القصة قد انتهت إلى أمر البعث والدار الاخرة وما فيها، وتخلّصت إليه في براعة وقوة، مذكّرة به، منذرة بما هنا لك من الأهوال والشدائد. ح- ثم تأخذ السورة بعد ذلك في تهديد الكافرين الذين اتّخذوا من دون الله أولياء، وتبيّن ما أعدّ لهم، وتوازن هؤلاء جميعا بالذين آمنوا وعملوا الصالحات وما أعدّ لهم ويأتي ختامها بعد إثبات القدرة والعظمة لله، وأنّ كلماته سبحانه لا تنفد ولو كانت مياه البحار كلها مدادا لها. والمراد آياته في الكون وتصريفه وآثار قدرته، فتذكر رسالة الرسول، وأنها عن وحي من هذا الخالق القادر الواحد وتتوجّه بعد ذلك إلى الناس جميعهم بصيغة من صيغ العموم، هي لفظ «من» فتقول: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) . بهذا، يتجلّى للناظر في السورة أنها منتظمة النسق، مطّردة السياق، واضحة الغرض، قويّة الأسلوب، متماسكة في أوّلها وآخرها وفي ثناياها، يجول فيها معنى واحد، تلتقي عليه الآيات والأمثال والقصص والوعد والوعيد والتذكير والبيان. ولذلك يقول الله عز وجل في آية من آياتها: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الكهف"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الكهف» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الكهف بعد سورة الغاشية، وهي من السور التي نزلت بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الكهف في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لذكر قصة أصحاب الكهف فيها، وتبلغ آياتها عشرا ومائة آية. الغرض منها وترتيبها قيل إن قريشا بعثت إلى أحبار اليهود بالمدينة يخبرونهم بأمر النبي (ص) ، ويسألونهم عنه، فقالوا: سلوه عن ثلاثة فتية ذهبوا في الدهر الأوّل: ما كان من أمرهم؟ وعن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها: ما كان نبأه؟ فسألوا النبي (ص) عن ذلك، فقال: أخبركم بما سألتم عنه غدا. ولم يقل: «إن شاء الله» . فمكث خمس عشرة ليلة لا يأتيه الوحي، حتّى أرجف أهل مكّة به، وقالوا: وعدنا محمّد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة. فشقّ هذا عليه، ثم نزل عليه جبريل بسورة الكهف، وفيها معاتبة له على حزنه لعدم إيمانهم بما أنزل إليه، وخبر أولئك الفتية، وذلك الرجل الطوّاف. وقد افتتحت هذه السورة بمقدّمة في بيان الغرض من تنزيل القرآن، وهو

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المقدمة الآيات [1 - 8]

إنذار الكافرين وتبشير المؤمنين فليس على النبي (ص) إلا أن ينذرهم ويبشّرهم، ولا يصحّ له أن يحزن لعدم إيمان قومه ورؤسائهم به، لأنه لا قيمة لما عندهم من أمر الدنيا. وقد مهّد بهذا لذكر قصة أصحاب الكهف، لأنهم آثروا دينهم على دنيا قومهم، واعتزلوهم في الكهف حينما خافوا منهم على دينهم، ثم ذيّل قصة أصحاب الكهف بما يناسب الغرض من ذكرها ثم ذكر قصة الرجل الطوّاف وهو ذو القرنين، وذيّلها بما ذيّلها به إلى آخر السورة. وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة الإسراء لأنها، مثلها، تنوّه بشأن القرآن، ولأنّ سورة الإسراء جاء في ختامها تنزيه الله عن الولد، وقد جاء في أوّل سورة الكهف إنذار للذين قالوا اتّخذ الله ولدا. المقدمة الآيات [1- 8] قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) ، فذكر أنه أنزل عليه القرآن كاملا في ذاته، مكمّلا لغيره، لينذر الكافرين عامّة بأسا شديدا من لدنه، ويبشّر المؤمنين بأنّ لهم أجرا حسنا، وينذر الذين قالوا إنّ الله اتّخذ ولدا ثم ذكر للنبي (ص) أنه لعلّه باخع نفسه أسفا، لأنّ قومه لم يؤمنوا بما أنزل عليه، وأنه جعل ما على الأرض زينة لها ليبلوهم أيّهم أحسن عملا: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) . قصة أصحاب الكهف الآيات [9- 82] ثم قال تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) فذكر للنبي (ص) أنه حسب أنّ أصحاب الكهف والرقيم (اسم كلبهم) كانوا عجبا من آياته وأمره أن يذكر إذ أووا إلى الكهف طالبين منه أن يرحمهم ويرشدهم إلى رضاه، فضرب على آذانهم في الكهف سنين عددا، ثم بعثهم ليظهر أيّ الحزبين المختلفين في

مدّة لبثهم بالكهف أحصى لها أمدا ثم فصّل هذا الإجمال، فذكر أنهم فتية آمنوا به سبحانه، وزادهم هدى، وأنه ربط على قلوبهم، إذ قاموا بين يدي ملكهم فصرّحوا له بإيمانهم وخالفوه وقومه في عبادة آلهتهم ثم ذكر أنهم اتفقوا حينما اعتزلوا قومهم، أن يأووا إلى كهف بجبل قريب من مدينتهم. فلمّا ذهبوا إليه، وضرب على آذانهم فناموا، كانت الشمس، إذا طلعت، تميل عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تميل عنه ذات الشّمال، ليصون أجسامهم من الفساد بضوء الشمس ثم ذكر أنه كان يقلّبهم ذات اليمين وذات الشّمال لئلا تبلى أجسامهم، وأنّ كلبهم وقع في النوم معهم وهو باسط ذراعيه بباب الكهف ليحرسهم ثم ذكر أنه، جلّ جلاله، بعثهم من نومهم ليتساءلوا بينهم عن مدة لبثهم، وأنهم بعثوا أحدهم بورقهم ليشتري لهم طعاما من مدينتهم، وأمروه أن يتلطّف في أمره حتى لا يشعر أحد بهم فيرجموهم أو يعيدوهم في ملّتهم ثم ذكر أنه أعثر قومهم عليهم، ليعلموا أنّ وعده سبحانه، بالبعث حقّ، لأنّ قيام أصحاب الكهف بعد ذلك النوم الطويل يشبه البعث من الموت. ثم ذكر أن قومهم تنازعوا في أمرهم، لأنه أماتهم بعد إعثارهم عليهم، فقال بعضهم: الأولى أن نسدّ باب الكهف فلا يدخل عليهم أحد، ولا يقف على أحوالهم إنسان. وقال آخرون: بل الاولى أن نبني على باب الكهف مسجدا نعبد الله فيه، ونستبقي آثار أصحاب الكهف به. ثم ذكر ما كان من اختلافهم في عددهم، وأمر النبي (ص) أن يذكر لهم أنّ الله أعلم به، وأنه لا يعلمه إلّا قليل ممّن آثره بعلمه، ونهاه أن يجادلهم في أمرهم إلّا جدالا ظاهرا، فلا يكذّبهم فيما يعيّنونه من عدد، بل يذكر لهم أنّ هذا التعيين لا دليل عليه، فيجب التوقف في أمره وترك القطع به. ثم نهاه أن يستفتي أحدا منهم فيهم لأنهم لا علم عندهم بهم، وألّا يقدم على شيء من ذلك وغيره إلّا بإذنه ومشيئته، فلا يرجم بالغيب كما يرجمون في أمر أصحاب الكهف. ثم ذكر اختلافهم

أيضا في مدّة لبثهم، وأنّ بعضهم يذهب إلى أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين، وبعضهم يزيد على ذلك تسع سنين، وأمره أن يذكر لهم أن الله أعلم بمدة لبثهم: لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) . وذيّلت نهاية هذه القصة بما يناسبها، فأمر سبحانه رسوله (ص) أن يتلو ما أوحي إليه فيها، لأنه هو الحق الذي لا تبديل فيه، ولن يجد من دونه ملتحدا يلجأ في علم شيء إليه ثم أمره أن يصبر نفسه مع الذين آمنوا به، ونهاه أن تعدو عيناه عنهم إلى أهل الدنيا من رؤساء قومه وأغنيائهم، وأن يطيع هؤلاء الرؤساء والأغنياء في طرد من آمن به ليؤمنوا هم به، فيكون له بهذا أسوة بأصحاب الكهف ثم أمره أن يذكر لهم أنّ الحق منه وهو غنيّ عنهم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، فمن كفر فله عذابه الذي أعدّ له، ومن آمن فلن يضيع عليه عمله: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [الآية 31] . ثم أمره أن يضرب لهم أربعة أمثال تبيّن لهم خطأهم في تعاليهم بغناهم على فقراء المؤمنين، لأن الافتخار يجب أن يكون بالعمل الصالح لا بالمال: الأول: مثل رجلين جعل الله لأحدهما جنّتين من أعناب محفوفتين بنخل، وجعل بينهما زرعا، وقد آتى كلّ منهما ثمره كاملا غير منقوص، فافتخر بذلك على صاحبه، وظنّ أنه باق له لا يفنى، وأنه ليس هناك معاد يخاف حسابه. ولئن كان هناك معاد، ليكوننّ فيه أحسن حالا ممّا هو عليه في الدنيا، فأنكر عليه صاحبه أن يكفر بالله ولا يقابل نعمته بشكره عليها. وذكر له أنه إذا كان يفخر عليه بذلك، فعسى أن يؤتيه الله خيرا منه، ويرسل على جنّته صواعق من السماء فتبيدها وكان أنّ الله أرسل عليها ذلك، فأبادها وأصبح يقلّب كفيه على ما أنفق فيها، ويتمنّى أن لو كان آمن بربه، ولم يجد من ينصره من دون الله، وما

كان منتصرا: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) . والثاني: مثل الحياة الدنيا في حقارتها وقلّة بقائها، فهي كماء أنزله الله من السماء فاختلط به نبات والأرض، ولم يلبث أن جفّ وتكسّر وأصبح هشيما تذوره الرياح. وما يفتخر به أولئك المشركون على فقراء المؤمنين من المال والبنين، هو من زينة الحياة الدنيا، فهو سريع الزوال مثلها والأعمال الصالحة الباقية، خير منه ثوابا ثم ذكر لهم يوم يسيّر الجبال وتبرز الأرض ويحشرهم جميعا، وأنهم يعرضون عليه وليس معهم شيء من أموالهم وأولادهم ويوضع أمامهم كتاب أعمالهم، فيشفقون مما فيه: وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) . والثالث: مثل آدم وإبليس، لأنّ إبليس لعنه الله، إنما تكبّر على آدم، لأنه افتخر بأصله ونسبه، وكان من الجن ففسق عن أمر ربه وقد نهاهم عن الاقتداء به في ذلك، واتخاذه وذرّيّته أولياء من دونه، وهم لهم عدوّ، والعاقل لا يتّخذ عدوّه وليّا له، ومثلهم لا يصح أن يكون شريكا بالله، وهو لم يشهدهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم، وهم مضلّون لا يمكن أن يتّخذ الله له عضدا منهم. ثم ذكر أنه إذا جاء يوم القيامة أمرهم أن ينادوا أولئك الشركاء الذين اتخذوهم أولياء، فيدعونهم فلا يستجيبون لهم، ولا ينفعونهم بشيء ممّا كانوا يزعمونه فيهم. ثم ذكر أنه جلّت قدرته، ضرب تلك الأمثال لهم ليعتبروا بها، ويرتدعوا عن افتخارهم بكثرة أتباعهم وأموالهم على فقراء المسلمين ولكنّ هذه الأمثال لا تؤثّر فيهم، بل يمضون فيما جبلوا عليه من الجدال والشغب، ويطلبون أن تأتيهم سنّة الأوّلين من عذاب الاستئصال، أو تتوالى عليهم ضروب العذاب وهم أحياء والله جل جلاله لم يرسل المرسلين إلا مبشّرين ومنذرين ليؤمن الناس طوعا لا كرها ولكنهم يجادلون

بالباطل، ليدحضوا به الحق، ولا يريدون الإيمان إلّا بما يقترحونه من تلك الآيات وإنّما يتّخذون ما جاءهم من الآيات، وما أنذروا به منها لعبا وهزوا وليس أظلم ممّن ذكّر بآيات ربه فأعرض عنها، ونسي ما قدّمت يداه. ثم ذكر أن سبب إعراضهم، أنه جعل في قلوبهم أكنّة تمنعهم من فهمها، وأنه جعل في آذانهم وقرا يمنعهم من سماعها ثم ذكر أنه لو يؤاخذهم بذلك لعجّل لهم ما طلبوه من العذاب، ولكنّ عذابهم له موعد لن يجدوا من دونه موئلا: وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) . والرابع مثل موسى وبعض علماء عصره، فقد بلغ موسى من علوّ المنصب ما بلغ ولكنه تواضع لذلك العالم الذي آثره الله بعلم لم يعلمه موسى، وسافر إليه لطلب ذلك العلم، وكان أن ذكر لفتاه أنّه لا يبرح عن السّير حتّى يبلغ مجمع البحرين، فيجد عنده هذا العالم فلمّا بلغ ذلك المكان، نسي فتاه حوتا كان معهما، فانساب في البحر وكان هذا علامة مكان العالم الذي يطلبه، ولكن فتاه لم يخبره بذلك، حتّى جاوزا ذلك المكان، وطلب منه غداءهما، فأخبره بأنه نسي حوتهما إذ أويا إلى الصخرة فانساب في البحر، فذكر له أنّ هذا هو ما كان يطلبه فارتدّا إلى ذلك المكان، فوجدا عنده ذلك العالم، فطلب منه موسى أن يتبعه على أن يعلّمه ممّا آثره به ربّه، فأخبر موسى بأنه لن يستطيع الصبر على تعلّم ذلك العلم الذي لا يحيط به، وتخفى عليه أسراره فأخبره موسى بأنه سيجده صابرا على ذلك إن شاء الله تعالى، فطلب منه ألّا يسأله عن شيء حتى يحدّثه عنه ويعرّفه حقيقته. فانطلقا، حتّى ركبا في سفينة، فعمد ذلك العالم إليها فخرقها، فأنكر موسى عليه أن يخرقها ليغرق أهلها، فذكّره بما أخبره به، من أنه لن يستطيع الصبر معه، فاعتذر له موسى بأنه نسي وطلب منه ألّا يؤاخذه على ذلك النسيان فانطلقا، حتّى وجدا غلاما، فعمد ذلك العالم إليه فقتله، فأنكر موسى عليه

قصة ذي القرنين الآيات [83 - 108]

ذلك أيضا، فعاد إلى تذكيره بما أخبره به من أنه لن يستطيع الصبر معه، فذكر له موسى أنه إن سأله عن شيء بعد ذلك فلا يصاحبه، لأنه قد بلغ منه العذر فانطلقا حتى أتيا أهل قرية، فطلبا من أهلها طعاما فأبوا أن يطعموهما، فوجد ذلك العالم فيها جدارا يوشك أن يسقط فأقامه، فأنكر عليه موسى أن يقيمه من غير أجر لقوم أبوا أن يطعموهما، فذكر له أنه لا يمكنه أن يصاحبه بعد هذا، وأنه سيخبره بتأويل ما أنكره عليه من هذه الأمور الثلاثة فذكر له أن السفينة كانت لمساكين يعملون في البحر، وكان هناك ملك يغصب كلّ سفينة صحيحة، فخرقها ليعيبها فلا يغصبها وأنّ الغلام كان أبواه مؤمنين ولو بقي لشبّ على الطغيان والكفر، وفتن به أبواه فكفرا مثله وأن الجدار كان لغلامين يتيمين، وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا، فأقامه لهما، حتّى يبلغا أشدّهما، ويستخرجا كنزهما: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) . قصة ذي القرنين الآيات [83- 108] ثم قال تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) فذكر، سبحانه، أنهم سألوا الرسول (ص) عن ذي القرنين وأن الرسول (ص) أجابهم بأنه سيتلو عليهم بعض أخباره وفصّل السياق ذلك بأنه جلّ جلاله مكّن له في الأرض، وأعطاه من العلم والقدرة والعدّة ما يتوصّل به إلى مقصوده. فلما أراد أن يوسّع ملكه جهة الغرب، سار حتى بلغ أوائل بلاد المغرب، فوجد هناك عينا حمئة، ووجد عندها قوما لا يكادون يفقهون قولا، فدعاهم إلى الدخول في طاعته، فمن أبى عذّبه عذابا شديدا في الدنيا، إلى ما سيناله من عذاب الله في الاخرة، ومن دخل في طاعته جازاه بالحسنى، ويسّر عليه زكاته وخراجه وغيرهما ثم أراد أن يوسّع ملكه جهة الشرق فسار حتى بلغ أوائل بلاد الشرق الأقصى، فوجد هناك قوما كالأوّلين، لا يسترون أجسامهم

الخاتمة الآيات [109 - 110]

من الشمس، فقضى فيهم ما قضاه سابقا من تعذيب من لم يدخل في طاعته، والإحسان إلى من دخل فيها ثم سار من هناك حتى بلغ بين السّدّين، فوجد هناك قوما كالأوّلين أيضا، وهم قوم يأجوج ومأجوج من قبائل التّرك وكانوا مفسدين في الأرض، فشكاهم إليه من دخل في طاعته من أهل تلك البلاد، وطلبوا منه أن يقيم سدّا يمنع غاراتهم عليهم، فأجابهم إلى ما طلبوه من ذلك السدّ، وأمرهم أن يأتوه بقطع الحديد فوضع بعضها على بعض حتى سدّت ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافخ عليها حتّى إذا صارت كالنار صبّ النحاس المذاب عليها، فالتصق بعضها ببعض حتى صارت جبلا صلدا، فلم يقدروا أن يظهروه «1» أو ينقبوه ولما تمّ له ذلك، ذكر أنه رحمة من الله بعباده، وأنه إذا جاء وعد الله بخروجهم سّواه بالأرض، فيخرجون منه، يموج بعضهم في بعض، ويعيثون فسادا في الناس، وذلك من أمارات يوم القيامة وبعد هذا ينفخ في الصور فيجمعون وسائر الناس للحساب، وتعرض جهنّم للكافرين الذين عموا وصمّوا عما يذكّرهم بذلك اليوم. ثم وبّخهم على ظنّهم أن ينتفعوا بمن اتخذوهم أولياء من دونه، مع إعراضهم عن تدبّر ما ذكّروا به وذكر سبحانه، أنه أعدّ لهم جهنّم نزلا فلا يصرفهم أحد عنها ثم ذكر من قبيح صفاتهم، أنهم قد ضلّ سعيهم في الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، إلى غير ذلك مما ذكره من وعيدهم ثمّ أتبع وعيدهم بوعد المؤمنين على عادته في الجمع بين الترهيب والترغيب، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا (108) . الخاتمة الآيات [109- 110] ثمّ قال تعالى:

_ (1) . ظهر الحائط يظهره ظهورا: فعل متعدّ، معناه: علاه.

قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) . فختم السورة بالتنويه بشأن ما جاء فيها من ذلك القصص العجيب، وذكر جلّ جلاله أن كلماته في هذا الشأن العجيب لا تنفد، وأنه لو كان البحر مدادا لها لنفد قبل نفادها ثمّ أمر الرسول (ص) أن يذكر لهم أنّ مثله لا يقدر على مثل هذا، فقال: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الكهف"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الكهف» «1» قال بعضهم: مناسبة وضعها بعد سورة الإسراء: افتتاح تلك بالتسبيح، وهذه بالتحميد «2» ، وهما مقترنان في القرآن وسائر الكلام بحيث يسبق التسبيح التحميد، نحو: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر: 98] ونحو وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [غافر: 55 ق: 39 الطور: 48] . وسبحان الله وبحمده. قلت: مع اختتام ما قبلها بالتحميد أيضا «3» ، وذلك من وجوه المناسبة بتشابه الأطراف. ثم ظهر لي وجه آخر أحسن في الاتصال. وذلك: أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا النبي (ص) عن ثلاثة أشياء: عن الروح، وعن قصّة أصحاب الكهف، وعن قصّة ذي القرنين «4» . وقد ذكر جواب السؤال الأول في آخر «الإسراء» ، فناسب اتصالها بالسورة التي اشتملت على جواب السؤالين الآخرين. فإن قلت: لماذا لم يجمع الثلاثة في سورة واحدة؟

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وسبب آخر ذكره ابن الزّملكاني هو: أن «سورة الإسراء» اشتملت على الإسراء الذي كذّب به المشركون وكذّبوا الرسول (ص) من أجله. وتكذيبه تكذيب لله، فأتى ب «سبحن» تنزيها لله عما نسب الى نبيه من الكذب. وسورة الكهف، لمّا نزلت بعد سؤال المشركين عن قصة اصحاب الكهف، وتأخر الوحي، نزلت مبيّة أن الله لم يقطع نعمته عن رسوله ولا عن المؤمنين فناسب افتتاحها بالحمد (الإتقان: 3: 387) . (3) . ختام الإسراء: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء: 111] . (4) . انظر تفسير ابن كثير: 5: 137.

قلت: لمّا لم يقع الجواب عن الأول بالبيان «1» ، ناسب فصله في سورة. ثم ظهر لي وجه آخر: وهو أنه لما قال سبحانه فيها: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، والخطاب لليهود، واستظهر على ذلك بقصة موسى (ع) في بني إسرائيل مع الخضر (ع) ، التي كان سببها ذكر العالم والأعلم «2» ، وما دلت عليه معلومات الله عز وجل التي لا تحصى من الإحاطة، فكانت هذه السورة كإقامة الدليل على ما ذكر من الحكم. وقد ورد في الحديث أنه لما نزل في سورة الإسراء: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) ، قال اليهود: قد أوتينا التوراة، فيها علم كل شيء، فنزل في هذه السورة «3» : قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) . فهذا وجه آخر في المناسبة. وتكون السورة من هذه الجهة جوابا عن شبهة الخصوم، فيما قدّر بتلك. وأيضا، فلما قيل هناك: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) [الإسراء] شرح ذلك هنا، وبسط، بقوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ [الآية 98] إلى قوله جلّ وعلا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) . وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) فهذه وجوه عديدة في الاتصال.

_ (1) . لم يقع الجواب بالبيان، وإنما وقع بإسناد علم الروح الى الله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) [الإسراء] . (2) . أخرجه الامام أحمد في المسند: 1: 255، وفيه أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا. (3) . وفي رواية لابن جرير في التفسير: 15: 104: فنزلت: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان: 27] .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الكهف"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الكهف» «1» 1- أَصْحابَ الْكَهْفِ [الآية 9] . قال أبو جعفر: كان أصحاب الكهف صيارفة. قال مجاهد: كانوا أبناء عظماء أهل مدينتهم. وقال ابن إسحاق: الكهف في جبل يقال له: بنجلوس. وقال مجاهد: بين جبلين. أخرج ذلك كلّه ابن أبي حاتم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن الرّقيم واد [بين عسفان وأيلة وهو] «2» قريب من أيلة. وأخرج عن شعيب الجبائي أن اسم جبل الكهف: «بنجلوس» «3» واسم الكهف: «حرم» «4» . 2- وَكَلْبُهُمْ [الآية 18] . قال الحسن: اسمه قطمير. وقال مجاهد: قطمورا. وقال شعيب الجبائي: حمران «5» . وقال كثير النّوّاء «6» : كان أصفر.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . زيادة من «تفسير الطبري» 15: 131. وعسفان: قرية بين الجحفة ومكّة. انظر «معجم البلدان» 4: 122. (3) . كذا في «تفسير الطبري» 15: 132. (4) . كذا في الأصول، وفي «تفسير الطبري» و «تفسير ابن كثير» 3: 73: «حيزم» . وانظر مادة «الرقيم» في «معجم البلدان» . (5) . وهو خطأ، ومخالف للطبري 15: 132. [.....] (6) . هو كثير بن إسماعيل، أو ابن نافع، أبو إسماعيل التميمي، الكوفي ضعّفه حفّاظ الحديث، كأبي حاتم والنسائي. و «النّوّاء» نسبة الى بيع النّوى.

وقال رجل يقال له عبيد: أحمر. أخرج ذلك كلّه ابن أبي حاتم، إلّا قول شعيب فابن جرير. وفي «العجائب» للكرماني: قيل: إن الرّقيم: اسم كلبهم. قلت: أخرجه ابن أبي حاتم عن أنس. 3- فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ [الآية 19] . هو تمليخا. قاله ابن إسحاق. 4- إِلَى الْمَدِينَةِ [الآية 19] . قال مقاتل «1» : هي منبج. أخرجه ابن جرير. 5- سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ [الآية 22] . قاله اليهود. 6- وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ [الآية 22] . قاله النّصارى، قاله السّدّيّ وغيره. 7- ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ. قال ابن عبّاس: أنا من أولئك القليل وهم سبعة «2» . وفي رواية عنه: وهم ثمانية. أخرجهما ابن أبي حاتم. وأخرج عن ابن مسعود أيضا قال: أنا من القليل كانوا سبعة. وسمّاهم ابن إسحاق: تمليخا، ومكسميلينا، ومحسملينا ومرطونس، وكسوطونس، وبيورس، وبكرنوس، ونطسوس، وقالوس «3» . فائدة: أكثر العلماء على أنّ أصحاب الكهف كانوا بعد عيسى (ع) . وذهب ابن قتيبة «4» إلى أنّهم كانوا قبله، وأنه أخبر قومه خبرهم، وأن يقظتهم بعد رفعه زمن الفترة. وحكى ابن أبي

_ (1) . لم نجد هذا الأثر في تفسير ابن جرير. (2) . وأخرجه الطبراني في «الأوسط» وفيه يحيى بن أبي روق، وهو ضعيف. قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7: 53. (3) . هناك بعض الاختلاف في النسخ وابن كثير 3: 78 أهملنا ضبطها لقول ابن كثير: «وفي تسميتهم بهذه الأسماء، واسم كلبهم، نظر في صحته، والله أعلم. فإن غالب ذلك متلقّى من أهل الكتاب. وقال الله تعالى فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً [الآية 22] أي سهلا هينا، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة» . (4) . ابن قتيبة (213- 276) هـ: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، من أئمّة الأدب والدين، ومن المصنّفين المكثرين، سمّوه فقيه الأدباء وأديب الفقهاء، ولد ببغداد وسكن الكوفة، صنّف: «تأويل مختلف الحديث» و «أدب الكاتب» و «المعارف» و «عيون الأخبار» و «غريب الحديث» ، وغيرها كثير.

خيثمة «1» أنهم يبعثون «2» في أيام عيسى (ع) إذا نزل، ويحجّون البيت. 8- مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الآية 28] . تقدّم بيانهم في سورة الأنعام. 9- مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ [الآية 28] . قال خبّاب «3» : يعني عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس «4» . وقال ابن بريدة «5» : هو عيينة. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. وأخرج عن الرّبيع أنه أميّة بن خلف. وكذا أخرجه ابن مردويه «6» عن ابن عبّاس. 10- وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الآية 32] . قال الكرماني في «العجائب» : قيل: كانا من أهل مكة، أحدهما مؤمن وهو: أبو سلمة، زوج أم سلمة. وقيل: كانا أخوين في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن اسمه: تمليخا. وقيل: يهوّذا والاخر كافر اسمه: فطروس وهما المذكوران في سورة الصافات «7» . 11- وَذُرِّيَّتَهُ [الآية 50] . أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: ولد إبليس خمسة: ثبر، والأعور، وزلنبور، ومسوط «8» ،

_ (1) . ابن أبي خيثمة (185- 279) هـ: أحمد بن زهير، أبو بكر، مؤرخ ومن حفاظ الحديث، كان ثقة، راوية للأدب. صنّف «التاريخ الكبير» وهو كتاب مخطوط، يكثر المصنفون من النقل عنه. قال الدارقطني: لا أعرف أغزر فوائد من تاريخه. (2) . عند قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] . (3) . يعني خبّاب بن الأرت الصحابي، رضي الله عنه. (4) . أثر خبّاب هذا، أخرجه الحافظ بن حجر في «المطالب العالية» برقم: (3618) وعزاه لأبي يعلى وابن أبي شيبة، وأفاد الحافظ البوصيري، كما في هامش «المطالب العالية» ، أن سند أبي يعلى صحيح، وعزاه أيضا الى ابن ماجة مختصرا. أقول: وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» : 224 عن سلمان الفارسي. (5) . كما في «الدر المنثور» 4: 220. (6) . والواحدي في «أسباب النزول» : 225. (7) . في قوله تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) [الصافات] . (8) . كذا في «الطبري» 15: 171 و «الدر المنثور» 4: 227 و «تاج العروس» مادة (سوط) .

وداسم «1» . فمسوط: صاحب الصّخب. والأعور وداسم لا أدري ما يعملان. وثبر: صاحب المصائب. وزلنبور: الذي يفرّق بين الناس، ويبصّر الرجل عيوب أهله «2» . وأخرج ابن جرير «3» عنه قال: زلنبور: صاحب الأسواق، يضع رايته في كل سوق [ما بين السماء والأرض] «4» وثبر: صاحب المصائب. والأعور: صاحب الزنا. ومسوط: صاحب الأخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس، ولا يجدون لها أصلا. وداسم: الذي إذا دخل الرجل بيته، ولم يسلم، ولم يذكر الله بصّره من المتاع ما لم يرفع. وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. 12- وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الآية 60] . قال ابن عبّاس وغيره: هو يوشع بن نون. أخرجه ابن أبي حاتم «5» . وفي «العجائب» للكرماني: كان أخا ليوشع. 13- مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ [الآية 60] . قال قتادة: هما بحرا المشرق والمغرب بحرا فارس والروم. وكذا قال الرّبيع. وقال السّدّي: هما الكرّ والرّس «6» حيث يصبّان في البحر. وقال محمد بن كعب: مجمع البحرين بطنجة «7» . وقال أبيّ بن كعب: بإفريقية. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. 14- فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا [الآية 65] .

_ (1) . كما ورد في «تفسير الطبري» و «تاج العروس» . [.....] (2) . كذا في «تاج العروس» . (3) . 15: 171. (4) . زيادة من «الطبري» . (5) . رواية ابن عبّاس هذه، جاءت مرفوعة في «صحيح البخاري» برقم (4726) في التفسير. وجاء في «الإتقان» 2: 147: «وقيل: أخوه يثربي» . (6) . كذا في «فتح الباري» 8: 410، و «معجم البلدان» 3: 44، وفيه أنهما يصبّان في بحر جرجان. (7) . «طنجة» مدينة معروفة في المغرب تطلّ على البحر.

هو الخضر، كما في «الصحيح» «1» وغيره. واسمه: بليا. وقيل: اليسع. وقيل: إلياس. حكاه الكرماني في «عجائبه» . 15- لَقِيا غُلاماً [الآية 74] . قال شعيب الجبائي: اسمه: جيسورا «2» أخرجه ابن أبي حاتم. 16- أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ [الآية 77] . قال ابن سيرين: هي الأبلّة «3» . وقال السّدّيّ: باجروان «4» . أخرجه ابن أبي حاتم. وأخرج من طريق قتادة عن ابن عبّاس، قال: هي أبرقة. قال: وحدّثني رجل أنّها: أنطاكية. وقيل: هي قرطبة. حكاه ابن عسكر. 17- وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الآية 79] . اسمه هدد بن بدد. كما في «البخاري» «5» . وقيل: الجلندا «6» . حكاه ابن عسكر. 18- أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ [الآية 80] . اسم الأب: كازبرا، والأم: سهوي «7» . 19- فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ [الآية 81] . قال ابن عبّاس: أبدلا جارية ولدت نبيّا. أخرجه ابن أبي حاتم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّيّ، قال: ولدت جارية، ولدت نبيّا وهو الذي كان بعد موسى، الذي قالت له

_ (1) . البخاري برقم (4725) في التفسير، ومسلم في الفضائل (162) ، والترمذي (3148) في التفسير، والحميدي، في «مسنده» برقم (371) ، والخطيب البغدادي في «الرحلة في طلب الحديث» برقم (29) . (2) . في «تفسير ابن كثير» 3: 98: «حيثور» ، وفي «الإتقان» 2: 147: «جيسون» ، بالجيم وقيل بالحاء» . (3) . الأبلّة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى في زاوية الخليج، الذي يدخل إلى مدينة البصرة، وهي أقدم من البصرة. قال الأصمعي: جنّات الدنيا ثلاث: غوطة دمشق، ونهر بلخ، ونهر الأبلّة. «معجم البلدان» . (4) . باجزوان: مدينة في نواحي الأبواب قرب شروان. «معجم البلدان» 1: 313. (5) . برقم (4726) في التفسير. (6) . ما ذكره المصنّف أعلاه منسوبا الى ابن عسكر، أسنده الحافظ في «فتح الباري» 8: 420 الى «تفسير مقاتل» وزاد: «وكان بجزيرة الأندلس» قال: «وقيل: منولة بن الجلندي بن سعيد الأزدي» . (7) . في «فتح الباري» 7: 421: «وفي المبتدأ» لوهب بن منبّه: «كان اسم أبيه: ملامس، واسم أمه: رحما وقيل: اسم أبيه: كادري، واسم أمه: سهوي» .

بنو إسرائيل: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 246] وكان اسمه: شمعون، وكان اسمها: حنّة. 20- لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ [الآية 82] . هما صريم، وأصرم، ابنا كاشح وأمّهما دنيا. 21- وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً [الآية 86] كافرين. 22- وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ [الآية 90] . قال قتادة: يقال إنهم الزنج. أخرجه عبد الرزاق. 23- بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ [الآية 96] . قال الضّحّاك: هما من قبل أرمينية وأذربيجان «1» . أخرجه ابن أبي حاتم «2» .

_ (1) . يجوز فيها فتح الراء، وسكون الذال وفتح الذال وسكون الراء. كما في «معجم البلدان» 1: 128. [.....] (2) . والطبري: 16: 21.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الكهف"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الكهف» «1» 1- وقال تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) . الباخع: القاتل المهلك، يقال: بخع نفسه يبخعها بخعا وبخوعا، قال ذو الرمّة: ألا أيّهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر أقول: والبخع من الكلم القديم الذي افتقدناه منذ عصور. 2- وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) . قالوا: الرّقيم اسم كلبهم، قال أمية بن أبي الصّلت: وليس بها إلّا الرّقيم مجاورا وصيدهم والقوم في الكهف همد وقيل: هو لوح من رصاص، رقمت فيه أسماؤهم، جعل في باب الكهف. وقيل: إنّ الناس رقموا حديثهم نقرا في الجبل. وقيل: هو الوادي الذي فيه الكهف، وقيل: الجبل، وقيل: مكانهم بين غضبان وأيلة دون فلسطين. أقول: الذي أراه أن «الرّقيم» هو «المرقوم» ، ولعله كتابهم أو كتابتهم، وما سطروه ونقشوه. وما زال «الرّقم» في العربية يشير إلى الكتابة والنقش والإشارة. 3- وقال تعالى: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 14] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

وقوله: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ، أي: قوّيناها بالصبر على هجر الأوطان والنعيم، والفرار بالدّين إلى بعض الغيران «1» ، وجسّرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام. أقول: والربط على القلوب، كناية جميلة عن تقويتها بالصبر والجلد على الصعاب. 4- وقال تعالى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ [الآية 17] . قوله تعالى: تَتَزاوَرُ أي: تتمايل، والأصل تتزاور. وقرئ: تزورّ وتزوارّ بوزن تحمر وتحمارّ، وكلّها من الزّور وهو الميل، ومنه زاره إذا مال إليه. وهذا يدلنا على أن «الزيارة» من الزّور، وهو الميل الحسّي الذي تحوّل إلى زيارة، وذهاب فيهما ميل جسدي، وآخر معنويّ عاطفيّ. 5- وقال تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الآية 18] . انظر: [آل عمران: 9] . 6- وقال تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ [الآية 19] . «الورق» : الفضّة مضروبة كانت أو غير مضروبة، وقرئ بسكون الراء والواو مكسورة أو مفتوحة، وكذلك الرّقة، وقالوا: إنها الدراهم. أقول: وهذا من الكلم القديم الذي بقي في النصوص القديمة. 7- وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الآية 21] . أي: وكذلك أعثرنا عليهم (أي: أهل الكهف) أهل المدينة. و «أعثر» في الآية فعل متعد، حذف مفعوله، تقديره: أهل المدينة. وقد جاء هذا الفعل في الآية: 107 من المائدة، ببناء الثلاثي وهو قوله تعالى: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما. أقول: وعلى هذا، يكون استعمال المعاصرين صحيحا حين يقولون: عثرنا على هذه المسألة، مثلا.

_ (1) . الغيران، جمع الغار.

وجاء في معجمات العربية: وعثر على الأمر: اطّلع عليه. ولا حجّة لمن ذهب إلى خطأ هذا القول من المعاصرين. 8- وقال تعالى: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي [الآية 24] . أقول: إن الاكتفاء بالحركة القصيرة بعد النون، يهيّئ مناسبة أن يجيء بعدها حركة طويلة في قوله تعالى: رَبِّي، ولو أنك أطلت في الأولى وقرأت «يهديني» لما حسن الأداء من الناحية الصوتية، ألا ترى إلى قوله سبحانه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ [الآية 17] . فإن الْمُهْتَدِ جاء بالكسر، والأصل «المهتدي» ، ولكن لمّا حسن الوقف عليه اجتزئ بالكسر، توقّعا للسكون، الذي يتطلبه الوقف. 9- وقال تعالى: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) . «الملتحد» بزنة اسم المفعول: الملتجأ. أقول: وليس لنا في عربيتنا المعاصرة إلّا الثلاثي، ومنه «اللّحد» . 10- وقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) . وقوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ، أي: احبسها معهم وثبّتها، قال أبو ذؤيب: فصبرت عارفة لذلك حسرة ترسو إذا نفس الجبان تطلّع أقول: وهذا من معاني «الصبر» القديمة، التي عفا أثرها بسبب شيوع معنى «الصبر» المعروف، وهو الصبر على المحن والشدائد، وبهذا المعنى أصبح الفعل «صبر» من الأفعال اللازمة، وأصله التعدّي لأن المعنى هو الحبس في الأصل، فكأن «الصابر» على الشدّة من يحبس نفسه، فيحملها على الاحتمال. قلت: لم يبق من هذا المعنى شيء إلّا ما اصطلح عليه أهل الشمال الإفريقي، الذين أخذوا المضاعف، وأطلقوه على ما يحبس من الفواكه والخضر واللحوم في الصفيح، وهو ما

ندعوه في المشرق «المعلّبات» وعندهم يقال: «المصبّرات» . أقول: وأهل إفريقية في هذه اللفظة، أفصح منا نحن عرب المشرق ذلك أن «المعلّبات» و «التعليب» قد جاء من «العلبة» ، وهي قدح ضخم من جلود الإبل، وقيل: العلبة من خشب، كالقدح الضخم يحلب فيها، وقيل: إنها كهيئة القصعة من جلد، ولها طوق من خشب. وهذه «العلبة» القديمة كان لنا في العراق شيء منها، ولا سيّما في بغداد، فهي وعاء من خشب، تضع فيه القرويات اللبن الخاثر، ويأتين به ليباع. وجاء في الآية أيضا قوله تعالى: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ. والمعنى: ولا تتجاوزهم عيناك وتتعدّياهم، أي: لا تتجاوز عيناك الفقراء، وتزوّرا عنهم. أقول: وهذا استعمال جميل للفعل «عدا يعدو» . وجاء في الآية نفسها: وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) . والمعنى: كان أمره مجاوزا الحدّ. وهذا من الكلم الجميل الذي لا نعرفه الآن، وإن كنا نستعمل الإفراط والتفريط. 11- وقال تعالى: بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) . وقال أيضا: نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) . والمعنى: المرتفق هو المتّكأ من المرفق، وهذا لمشاكلة قوله سبحانه: وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) ، وإلّا فلا ارتفاق لأهل النار، ولا اتّكاء. 12- وقال تعالى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الآية 33] . أي: كلّ واحدة من الجنّتين آتت غلّتها، وأخرجت ثمرتها. أقول: جاء الفعل مختوما بتاء التأنيث آتت، ولم يأت «آتتا» كما وردت في بعض القراآت. فماذا يقال في هذه المسألة؟ قالوا: إنّ «كلتا» مفرد، ولذلك حمل الفعل بعدها على اللفظ، ولو حمل على المعنى لقيل: آتتا. كأن «كلتا» اسم مقصود مفرد، ولذلك فإنّ مراعاة لفظها أكثر وأفصح

من مراعاة معناها، مثلها مثل «كلّ» فلفظها مفرد، وهو المحمول عليه أكثر مما يحمل على معناها ومثل هذا «من» و «ما» الموصوليّتان أو الشرطيّتان. وقوله تعالى: وَلَمْ تَظْلِمْ، أي: لم تنقص. وإفادة «الظلم» لمعنى النقص معروف في العربية وهو كقول الشاعر: أيظلمني مالي كذا ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه أي: ينقصني مالي. أقول: ولشيوع «الظلم» في دلالته المعروفة في عصرنا، أنسيت هذه الدلالة الأخرى التي وردت في الآية. 13- وقال تعالى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الآية 43] . أقول: كنّا قد أشرنا إلى أن العربية قد تحمل على اللفظ كثيرا، فأشرنا إلى أن كلمة «كلّ» لفظها لفظ المفرد، وكذلك «ركب» ، و «وفد» ، و «قوم» ، و «شجر» ، و «طفل» وغير ذلك كثير. وقد تحمل على المعنى في الكلمات التي أشرنا إليها، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ [الحجرات: 11] . وفي غير هذه الكلمات. وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نقول: إنّ هذا أفصح من ذاك. وقد كنا عرضنا لكلمة «طائفة» ، وكيف وردت في الآيات الكريمة يراعى لفظها مرّة، كما يراعى معناها أخرى. ومثل «طائفة» كلمة «فئة» ، ولنعرض الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة: قال تعالى: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: 249] . فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ [آل عمران: 13] . وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ [الأنفال: 19] . فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ [القصص: 81] . قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا [آل عمران: 13] . أقول: ومجيء كلمة «فئة» في جملة هذه الآيات نظير ما ورد في كلمة

«طائفة» وغيرها في لغة التنزيل. 14- وقال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الآية 53] . قوله تعالى: مُواقِعُوها أي: مخالطوها واقعون فيها. أقول: وهذا استعمال للفعل «واقع» يحقّ لنا أن نقف عليه. 15- وقال تعالى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) . أي: لقد جئت شيئا عظيما، وهو من أمر الأمر إذا عظم، قال داهية دهياء إدّا إمرا. أقول: ما كان أحوجنا إلى أن تحتفظ عربيّتنا المعاصرة بهذا النوع من الكلم الثلاثي الجميل، وهو قريب منّا، ولا سيما أن مادة «أمر» كثيرة التداول. 16- وقال تعالى: فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ [الآية 77] . قوله تعالى: اسْتَطْعَما أَهْلَها، أي: طلبا الطعام. وقوله سبحانه: أَنْ يُضَيِّفُوهُما وقرئ يضيفوهما. ويقال: ضافه إذا كان ضيفا. وحقيقته: مال إليه، من ضاف السهم عن الغرض، ونظيره: زاره من الازورار. وأضافه وضيّفه: أنزله وجعله ضيفه. وفي قوله تعالى: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة. أقول: كأن القول: يوشك أن ينقضّ. واستعارة الإرادة للمداناة والمشارفة لا نعرفها في العربية المعاصرة، ولكننا نجدها في العامّية الدارجة في العراق، فنقول في المناسبة نفسها في الحديث عن جدار آيل للسقوط: «يريد يسقط» .

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الكهف"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الكهف» «1» قال تعالى عِوَجاً (1) قَيِّماً [الآية 2] أي: أنزل على عبده الكتاب قيّما، ولم يجعل له عوجا. وقال سبحانه ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) بالنصب على الحال، على أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) [الآية 2] . وقوله تعالى كَبُرَتْ كَلِمَةً [الآية 5] في معنى: أكبر بها كلمة. وقال تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الآية 50] أي: «عن ردّ أمر ربّه» نحو قول العرب: «أتخم عن الطّعام» أي: عن مأكله أتخم، ولما ردّ هذا الأمر فسق «2» . وقال تعالى: مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) أي: شيئا يرتفقون به. وفي قوله تعالى تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ [الآية 17] «ذات الشّمال» نصب على الظرف. وفي قوله تعالى فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً [الآية 19] فلم يوصل «فلينظر» الى «أيّ» لأنه من الفعل الذي يقع بعده حرف الاستفهام تقول: «انظر أزيد أكرم أم عمرو» . وقال تعالى إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الآية 24] أي: إلّا أن تقول: «إن شاء الله» فأجزأ من ذلك هذا وكذلك إذا طال الكلام أجزأ فيه، وصار شبيها بالإيماء، لأنّ بعضه يدلّ على بعض.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في التهذيب 8: 414 فسق، والصحاح فسق، ونسبه في الجامع 10: 420 الى محمد بن مطرب.

وقال سبحانه أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [الآية 26] أي: ما أبصره وأسمعه، كما تقول: «أكرم به» أي: ما أكرمه. وذلك أن العرب تقول: «يا أمة الله أكرم بزيد» فهذا معنى ما أكرمه، ولو كان يأمرها أن تفعل، لقال «أكرمي زيدا» . وقال تعالى: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الآية 22] أي: ما يعلمهم من الناس إلّا قليل. والقليل يعلمونهم. وقال سبحانه: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [الآية 29] أي: قل هو الحقّ. وقوله من الآية نفسها: وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) أي: وساءت الدار مرتفقا. وقال تعالى وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الآية 32] ثم قال في الآية نفسها: وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ [الآية 34] وإنّما ذكر الرّجلين في المعنى وكان لأحدهما ثمر، فأجزأ ذلك من هذا «1» . وقال تعالى كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها [الآية 33] بجعل الفعل واحدا، على اللفظ، لا على المعنى. وقال تعالى وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الآية 59] يعني: أهلها كما قال وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] أجري اللفظ على القوم وأجري اللفظ في «القرية» عليها، الى قوله تعالى الَّتِي كُنَّا فِيها [يوسف: 82] وقال سبحانه أَهْلَكْناهُمْ [الآية 59] ولم يقل «أهلكناها» حمله على القوم، كما قال «وجاءت تميم» وجعل الفعل ل «بني تميم» ولم يجعله ل «تميم» ولو فعل ذلك لقال: «جاء تميم» وهذا لا يحسن في نحو هذا، لأنه قد أراد غير تميم في نحو هذا الموضوع، فجعله اسما، ولم يحتمل إذا اعتل ان يحذف ما قبله كله، يعني التاء من «جاءت» مع «بني» وترك الفعل على ما كان، ليدل على أنه قد حذف شيئا قبل «تميم» . وقال لا أَبْرَحُ [الآية 60] أي: لا أزال. قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الخامس والأربعون بعد المائتين] : وما برحوا حتّى تهادت نساؤهم ... ببطحاء ذي قار عياب اللّطائم

_ (1) . نقله في إعراب القرآن 2: 606.

أي: ما زالوا. وأمّا قوله تعالى فَخَشِينا [الآية 80] فمعناه: كرهنا، لأنّ الله جلّ جلاله لا يخشى «1» . وفي قوله تعالى يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ [الآية 94] جعل الألف من الأصل، وجعل «يأجوج» من «يفعول» و «مأجوج» من «مفعول» » . وفي قوله تعالى ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الآية 95] رفع خَيْرٌ لأن ما مَكَّنِّي اسم مستأنف. وقوله تعالى فَمَا اسْطاعُوا [الآية 97] من «اسطاع» «يسطيع» أي «استطاع» «يستطيع» وهي لغة عند العرب «3» . وفي قوله تعالى أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي [الآية 102] جعلت «أن» التي تعمل في الأفعال، فاستغني بها، كما في قوله سبحانه إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما [البقرة: 230] أو ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ [الآية 35] استغني هاهنا بمفعول واحد، لأنّ معنى ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ: ما أظنها أن تبيد. وقال تعالى: جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) ف «النزل» من نزول بعض الناس على بعض «4» . أمّا «النزل» ف «الريع» تقول: «ما لطعامهم نزل» و «ما وجدنا عندهم نزلا» . وقال تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي [الآية 109] أي «مداد يكتب به» لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) كأن المعنى: «مدد لكم» وقال بعضهم أي: جئنا بمثله مدادا تكتب به. ويعني بالمداد، أنه مدد للمداد يمدّ به ليكون معه.

_ (1) . نقله في الصحاح «خشي» ، وزاد المسير 5: 179، وفيه أن الزّجّاج أفاده. (2) . في معاني القرآن 2: 159 والسبعة 399 والكشف 2: 76 والتيسير 145 الى عاصم، وفي الطبري 16: 16 زا الأعرج، أما في البحر 6: 163 فزاد الأعمش ويعقوب في رواية، وكذلك في الأنبياء، وقال إنها لغة بني أسد وقد نقل ذلك في الصحاح «أجج» والبحر 6: 163 والجامع 11: 55. (3) . نقله في الصحاح «طوع» و «هرق» . ونقله في إعراب القرآن 2: 620. (4) . نقله في الصحاح «نزل» .

وقال تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) وذلك نحو قولهم: «بئس في الدّار رجلا» . وفي قوله تعالى حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ [الآية 74] قيل فَقَتَلَهُ لأن اللّقاء كان علّة للقتل. وفي قوله تعالى: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الآية 98] أي: هذا الرّدم رحمة من ربي.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الكهف"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الكهف» «1» إن قيل: قوله تعالى: قَيِّماً [الآية 2] يعني مستقيما، وقوله وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) مغن عن قوله قَيِّماً لأنه متى انتفى العوج ثبتت الاستقامة، لأنّ العوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد به هنا نفي الاختلاف والتناقض في معانيه، وأنه لا يخرج منه شيء عن الصواب والحكمة. وقيل في الآية تقديم وتأخير، تقديره: «الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجا» . قلنا: قال الفراء: معنى قوله تعالى قَيِّماً قائما على الكتاب السماوية كلها، مصدّقا لها، شاهدا بصحّتها، ناسخا لبعض شرائعها. فعلى هذا لا تكرار فيه. وعلى القول المشهور، يكون الجمع بينهما للتأكيد سواء أقدّر «قيّما» مقدّما أو أقر في مرتبته، ونصب بفعل مضمر تقديره: ولكن جعله قيّما. ولا بد من هذا الإضمار، أو من التقديم والتأخير، وإلّا صار المعنى: ولم يجعل له عوجا مستقيما، والعوج لا يكون مستقيما. فإن قيل: اتّخاذ الله تعالى ولدا محال، فلم قال سبحانه: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ [الآية 5] ؟ وإنما يستقيم أن يقال فلان ماله علم بكذا، إذا كان ذلك الشيء ممّا يعلمه غيره أو ممّا يصحّ أن يعلم، كقولنا زيد ما له علم بالعربية أو بالحساب أو بالشعر، ونحو ذلك. قلنا: معناه ما لهم به من علم، لأنه ليس ممّا يعلم لاستحالته، وهذا لأنّ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

انتفاء العلم بالشيء تارة يكون للجهل بالطريق الموصل إليه، وتارة يكون لاستحالة العلم به، لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلّق العلم به. وما نحن فيه من هذا القبيل. فإن قيل: لم قال تعالى ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) وهو أعلم بذلك في الأزل؟ قلنا: معناه لنعلم ذلك علم المشاهدة، كما علمناه علم الغيب. فإن قيل: لم قال تعالى فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ [الآية 19] ولم يقل «واحدكم» ؟ قلنا: لأنه أراد فردا منهم أيّهم كان، ولو قال «واحدكم» لدلّ على بعث رئيسهم ومقدّمهم، فإن العرب تقول: رأيت أحد القوم: أي فردا منهم، ولا تقول: رأيت واحدا لقوم إلا إذا أرادت المقدّم المعظّم. فإن قيل: لم جيء بسين الاستقبال في الفعل الأول دون الآخرين في قوله تعالى سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ [الآية 22] . قلنا: أريد دخول الفعلين الآخرين في حكم الأوّل بمقتضى العطف، فاقتصر على ذكر السين في الأول إيجازا، كما يقال: زيد قد يخرج ويركب، أي وقد يركب. فإن قيل: لم دخلت الواو في الجملة الثالثة دون الأوليين، وفي قوله تعالى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الآية 22] . قلنا: قال بعض المفسّرين: هي واو الثمانية، وقد ذكرنا مثلها في آخر سورة التوبة. وقال الزجّاج: دخول هذه الواو وخروجها سواء في صفة النكرة، وجاء القرآن بهما. وقال غيره: الواو مرادة في الجملتين الأوليين، وإنما حذفت فيهما تخفيفا، وأتي بها في الجملة الثالثة دلالة على إرادتها فيهما ويردّ على هذا القول: أنه لو كان كذلك لكانت مذكورة في الجملة الأولى، محذوفة في الجملة الثانية والثالثة، ليدل ذكرها أوّلا على حذفها بعد ذلك كما سبق في سين الاستقبال. وقال الزمخشري وغيره: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الصفة الواقعة حالا من المعرفة، تقول: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف، ومنه قوله تعالى وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) [الحجر] ، وفائدتها توكيد اتصال الصفة بالموصوف، والدلالة على أنّ اتّصافه

بها أمر ثابت مستقر وهذه الواو هي التي أذنت بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم، قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم، والدليل عليه أن الله تعالى أتبع القولين الأولين قوله رَجْماً بِالْغَيْبِ [الآية 22] وأتبع القول الثالث قوله سبحانه ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الآية 22] . وقال ابن عباس: وقعت الواو لقطع العدد: أي لم يبق بعدها عدد يلتفت إليه، ويثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبتات. وقال الثعلبي: هذه واو الحكم والتحقيق، كأنّ الله تعالى حكى اختلافهم، فتمّ الكلام عند قوله سبعة، ثم حكى بأنّ ثامنهم كلبهم باستئنافه الكلام، فحقّق ثبوت العدد الأخير لأن الثامن لا يكون إلا بعد السبعة، فعلى هذا يكون قوله وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الآية 22] من كلام الله تعالى حقيقة أو تقديرا. ويردّ على هذا، أن قوله تعالى بعد هذه الواو: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ [الآية 22] وقوله تعالى: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الآية 22] يدل على بقاء الإبهام وعدم زوال اللبس بهذه الواو. فإن قيل: لم قال تعالى: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ [الآية 27] وقال في موضع آخر وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [النحل: 101] ويلزم من تبديل الآية بالآية، تبديل الكلمات فكيف الجمع بينهما؟ قلنا: معنى الأول لا مغيّر للقرآن من البشر، وهو جواب لقولهم للنبي (ص) : ائت بقرآن غير هذا أو بدّله. الثاني: أنّ معناه لا خلف لمواعيده ولا مغيّر لحكمه، ومعنى الثاني النسخ والتبديل من الله تعالى فلا تنافي بينهما. فإن قيل: قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الآية 29] إباحة وإطلاق للكفر؟ قلنا: قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: معناه: فمن شاء ربكم فليؤمن ومن شاء ربكم فليكفر، يعني لا إيمان ولا كفر إلّا بمشيئته. الثاني: أنّه تهديد ووعيد. الثالث: أنّ معناه لا تنفعون الله بإيمانكم ولا تضرّونه بكفركم، فهو إظهار للغنى، لا إطلاق للكفر. فإن قيل: لبس الأساور في الدنيا عيب للرجال، ولهذا لا يلبسها من يلبس الذهب والحرير من الرجال، فكيف وعدها الله سبحانه المؤمنين في

الجنة، في قوله تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الآية 31] ؟ قلنا: كانت عادة ملوك الفرس والروم لبس الأساور والتيجان مخصوصين بها دون من عداهم، فلذلك وعدها الله تعالى المؤمنين لأنهم ملوك الاخرة. فإن قيل: لم أفرد لفظ الجنة بعد التثنية، في قوله تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ [الآية 35] ؟ قلنا: أفردها ليدل على الحصر، معناه: ودخل ما هو جنته، لا جنة له غيرها ولا نصيب له في الجنة التي وعد المتقون، بل ما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد جنّة معينة منهما، بل جنس ما كان له. فإن قيل: لم قال الأخ المؤمن لأخيه، كما ورد في التنزيل لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وهذا تعريض بأنّ أخاه مشرك، وليس في كلام أخيه ما يقتضي الشّرك، بل الكفر، وهو قوله، كما ورد في القرآن ذلك حكاية عنه وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً [الآية 36] ؟ قلنا: إشراك أخيه الذي عرض له به، هو اعتقاده أنّ زكاة جنّته ونماءها بحوله وقوّته، ولهذا قال له، كما ورد في التنزيل: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الآية 39] ولهذا قال هو أيضا لمّا أصبح يقلّب كفيه على ما أنفق فيها، وهي خاوية على عروشها، كما ورد في القرآن: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) فاعترف بالشرك. فإن قيل: ما الحكمة في إيراد «أنا» في قوله تعالى: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ [الآية 39] ؟ قلنا: «أنا» في مثل هذا الموضع تفيد حصر الخبر في المخبر عنه، ومنه قوله تعالى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه: 12] وقوله جلّ جلاله إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ [طه: 14] ونظائره كثيرة. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الآية 43] وكذلك ما أشبهه مما جاء في القرآن العزيز وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) [مريم] ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) [العنكبوت] الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ [العنكبوت: 41] ، وكيف تحقيق معناه؟

قلنا: «دون» يستعمل في كلام العرب بمعنى «غير» كقولهم لفلان: مال دون هذا، ومن دون هذا: أي غير هذا. ونظيره قوله تعالى وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ [المؤمنون: 63] أي من غيره، وتستعمل أيضا بمعنى «قبل» كقولهم: المدينة دون مكّة: أي قبلها، ومن دونه خرط القتاد. ولا أقوم من مجلسي دون أن تجيء، ولا أفارقك دون أن تعطيني حقي، وما أعلم أنها جاءت في القرآن العزيز بمعنى «قبل» بل بمعنى «غير» فقط؟ فإن قيل: لم قال تعالى هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [الآية 44] يعني في يوم الاخرة أو في يوم القيامة، والولاية بكسر الواو السلطان والملك، وبفتح الواو التولّي والنصرة، وكل ذلك لله تعالى في الدنيا والاخرة يعزّ من يشاء ويخذل من يشاء، وينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، وبتولّى من يشاء بحراسته وحفظه، فما الحكمة في تخصيص يوم القيامة؟ قلنا: الحكمة فيه أن الدعاوى المجازية كثيرة في الدنيا ويوم القيامة تنقطع كلّها، ويسلم الملك لله تعالى عن كل منازع، وقد سبق نظير هذا السؤال في سورة الأنعام في قوله تعالى قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام: 73] . فإن قيل: لم قال تعالى هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) أي عاقبة، وغير الله تعالى لا يثيب ليكون الله خيرا منه ثوابا؟ قلنا: هذا على الفرض والتقدير، معناه: لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل، ولكانت طاعته أحمد عاقبة وخيرا من طاعة غيره. فإن قيل: لم قال الله تعالى وَحَشَرْناهُمْ [الآية 47] بلفظ الماضي وما قبله مضارعان، وهو قوله تعالى وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الآية 47] أي لا شيء عليها يسترها كما كان في الدنيا؟ قلنا: للدلالة على أن حشرهم كان قبل التسيير، وقبل البروز، ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم كأنّ المعنى: وحشرناهم قبل ذلك. فإن قيل: لم قال تعالى مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الآية 49] مع أنه أخبر أن الصغائر تكفّر باجتناب الكبائر، بقوله

تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ( [النساء: 31] . قلنا: الآية الأولى في حق الكافرين، بدليل قوله تعالى: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ [الآية 49] والمراد بهم هنا الكافرون، كذا قال مجاهد، وقال غيره: كل مجرم في القرآن. فالمراد به الكافر والآية الثانية، المراد بها المؤمنون لأن اجتناب الكبائر لا يكون متحقّقا مع وجود الكفر. الثاني: لو ثبت أن المراد بالمجرم مطلق المذنب، لم يلزم التناقض، لجواز أن تكتب الصغائر ليشاهدها العبد يوم القيامة، ثم تكفّر عنه، فيعلم قدر نعمة العفو، فإن أكثر ذنوب العبد ينساها، خصوصا الصغائر. فإن قيل: قوله تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الآية 50] يدلّ على أنه من الجن، وقوله تعالى في موضع آخر وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [الآية 50] يدلّ على أنه من الملائكة، فكيف الجمع بينهما؟ قلنا: فيه قولان: أحدهما أنه من الجنّ حقيقة، عملا بظاهر هذه الآية، ولأن له ذرية قال تعالى أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [الآية 50] والملائكة لا ذرّيّة لهم، ولأنه أكفر الكفرة وأفسق الفسقة، والملائكة معصومون عن الكبائر لأنهم رسل الله، وعن المعاصي مطلقا، لأنهم عقول مجردة بغير شهوة، ولا معصية إلّا عن شهوة ويؤيّده قوله تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) [التحريم] . وقال تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) [الأنبياء] ، وفي قوله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة فكيف يكون إبليس منهم ويؤمر بالسجود فيمتنع، فعلى هذا يكون استثناؤه من الملائكة استثناء من غير الجنس أو يكون استثناء من جنس المأمورين بالسجود، لا من جنس الملائكة، ويكون التقدير: وإذ قلنا للملائكة وإبليس اسجدوا لآدم فسجدوا إلّا إبليس كما تقول: أمرت إخوتي وعبدي بكذا، فأطاعوني إلا عبدي، والعبد ليس من الإخوة ولا داخلا فيهم إلّا من حيث شمله الأمر بالفعل معهم، فهذا كذلك. القول الثاني: أنه كان من الملائكة قبل أن

يعصي الله تعالى، فلمّا عصاه مسخه شيطانا. روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، فيكون معنى قوله تعالى كانَ مِنَ الْجِنِّ [الآية 50] لمخالفته، فتكون «كان» بمعنى صار. وقيل معناه: أنه كان من الجن في سابق علم الله تعالى وهذان القولان يدلّان على أنه كان من الملائكة قبل المعصية. وروي عنه أيضا أنه كان من خزّان الجنة، وهم جماعة من الملائكة يسمّون الجن فعلى هذا يكون قوله تعالى مِنَ الْجِنِّ أي من الملائكة الذين هم خزّان الجنة فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الآية 50] بمخالفته فيكون استثناء من الجنس. وقال الزمخشري في سورة البقرة في قوله تعالى فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة: 34] : وهو استثناء متصل، لأنه كان جنّيّا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم، فغلّبوا عليه في قوله فَسَجَدُوا. قلت: وفي هذا التعليل نظر، ثم قال بعده: ويجوز أن يجعل منقطعا. فإن قيل: لم قال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [الآية 50] والأولياء: الأصدقاء والأحباب وهم ضد الأعداء، ويؤيّده قوله تعالى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الآية 50] وليس من الناس أحد يحب إبليس وذريته ويصادقهم؟ قلنا: المراد بالموالاة هنا، إجابة الناس لهم فيما يأمرونهم به من المعاصي، ويوسوسون في صدورهم وطاعتهم إيّاهم فالموالاة مجاز عن هذا، لأنه من لوازمها. فإن قيل: قال تعالى هنا: وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [الآية 52] : أي فلم يجب الأصنام المشركين، فنفى عن الأصنام النطق، وقال تعالى في سورة النحل: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) [النحل] يعني فكذّبتهم الأصنام فيما قالوا، فأثبت لهم النطق فكيف الجمع بينهما؟ قلنا: المراد بقوله تعالى نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [الآية 52] أي نادوهم للشفاعة لكم أو لدفع العذاب عنكم، فدعوهم فلم يجيبوهم لذلك، فنفى عنهم النطق بالإجابة إلى الشفاعة ودفع العذاب عنهم. وفي سورة

النحل، أثبت لهم النطق بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم، فلا تناقض بين المنفي والمثبت. فإن قيل: لم قال تعالى: شُرَكائِيَ وقال في سورة النحل شُرَكاءَهُمْ؟ قلنا: قوله تعالى شُرَكائِيَ معناه: في زعمكم واعتقادكم، ولهذا قال شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ وأخرجه مخرج التهكّم بهم، كما قال المشركون للنبي (ص) وفاقا، لما ورد في التنزيل يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) [الحجر] ، وقوله تعالى شُرَكاءَهُمْ يعني آلهتهم التي جعلوها شركاء، فإضافتها إلى الله تعالى لجعلهم إيّاها شركاء والإضافة تصحّ بأدنى ملابسة لفظية أو معنوية، فصحّت الإضافتان. فإن قيل: لم قال تعالى نَسِيا حُوتَهُما [الآية 61] والناسي إنّما كان يوشع وحده، بدليل قوله تعالى فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ [الآية 63] أي قصّة الحوت وخبره وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الآية 63] ؟ قلنا: أضيف النسيان إليهما مجازا، والمراد أحدهما. قال الفرّاء: نظيره قوله تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) [الرحمن] وإنما يخرج من الملح لا من العذب وقيل نسي موسى عليه السلام تفقّد الحوت ونسي يوشع أن يخبره خبره، وذلك أنه كان حوتا مملوحا في مكتل «1» قد تزوّداه فلما أصابه من ماء عين الحياة رشاش حيي وانسلّ وكان قد ذهب القضاء حاجة، فعزم يوشع أن يخبره بما رأى من أمر الحوت، فلما جاء موسى نسي أن يخبره، ونسي موسى تفقّد الحوت، والسؤال عنه. فإن قيل: هذا التفسير يدلّ على أن النسيان من يوشع، أو منهما، كان بعد حياة الحوت وذهابه في البحر، وظاهر الآية يدل على أن النسيان كان سابقا على ذهابه في البحر، متّصلا ببلوغ مجمع البحرين، لقوله تعالى فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) . قلنا: في الآية تقديم وتأخير تقديره:

_ (1) . المكتل: القفّة.

فلما بلغا مجمع بينهما اتخذ الحوت سبيله في البحر سربا، فنسيا حوتهما. فإن قيل: كيف نسي يوشع مثل هذه الأعجوبة العظيمة قي مدة يسيرة بل في لحظة، واستمر به النسيان يومه ذلك وليلته إلى وقت الغداء من اليوم الثاني، ومثل ذلك لا ينسى مع تطاول الزمان كيف كان ذلك، وقد كان الله تعالى جعل فقدان الحوت علامة لهما على وجدان الخضر (ع) ، على ما نقل أن موسى (ع) سأل الله تعالى علامة على موضع وجدانه، فأوحى إليه أن خذ معك حوتا في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ؟ قلنا: سبب نسيانه أنه كان قد اعتاد مشاهدة المعجزات من موسى (ع) واستأنس بها فكان إلفه لمثلها من خوارق العادات، سببا لقلة اهتمامه بتلك الأعجوبة، وعدم اكتراثه بها. فإن قيل: لم قال تعالى حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها [الآية 71] بغير فاء وحَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ [الآية 74] بالفاء؟ قلنا: جعل خرقها جزاء للشرط فلم يحتج إلى الفاء كقولك إذا ركب زيد الفرس عقره، وجعل قتل الغلام من جملة الشرط فعطفه عليه بالفاء. فإن قيل: لم خولف بين القصّتين؟ قلنا: لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب، وقتل الغلام تعقّب لقاءه. فإن قيل: لم قال الله تعالى في قصّة الغلام لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) وفي قصة السفينة لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) ؟ قلنا: قيل «إمرا» معناه «نكرا» ، فعلى هذا لا فرق في المعنى. لأن الإمر والنّكر بمعنى واحد. وقيل الإمر العجب أو الداهية وخرق السفينة كان أعظم من قتل نفس واحدة، لأن في الأول هلاك كثيرين. وقيل النّكر أعظم من الإمر فمعناه: جئت شيئا أنكر من الأول، لأن ذلك كان يمكن تداركه بالسدّ، وهذا لا يمكن تداركه. فإن قيل: لم قال تعالى في قصة السفينة أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ [الآية 72] وفي قصة الغلام أَلَمْ أَقُلْ لَكَ [الآية 75] ؟ قلنا: لقصد زيادة المواجهة بالعتاب على رفض الوصيّة مرّة ثانية، والتنبيه على تكرّر ترك الصبر والثبات. فإن قيل: ما الحكمة في إعادة ذكر

الأهل، في قوله تعالى اسْتَطْعَما أَهْلَها [الآية 77] بعد أن سبق ذكر الأهل مرّة؟ قلنا: الحكمة فيه، فائدته في إعادة التأكيد. فإن قيل: لم قال تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الآية 77] نسب الإرادة إلى الجماد وهي من صفات من يعقل؟ قلنا: هذا مجاز بطريق المشاهدة، لأنّ الجدار بعد مشارفته ومداناته للانقضاض والسقوط شابه من يعقل، وفي تهيّئه للسقوط فظهر منه هيئة السقوط كما تظهر ممّن يعقل ويريد، فنسبت إليه الإرادة مجازا بطريق المشابهة في الصورة، وقد أضافت العرب أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل مجازا قال الشاعر: يريد الرّمح صدر أبي براء ويعدل عن دماء بني عقيل وقال حسّان: إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل لزمان يهمّ بالإحسان ومن أمثالهم «تمرّد مارد وعزّ الأبلق» ومنه قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الأعراف: 154] وقوله جلّ شأنه فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ [محمد: 21] وقوله جلّ شأنه قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) [فصلت] ونظائره كثيرة. فإن قيل: لأي سبب لم يفارقه الخضر (ع) عند الاعتراض الأوّل والثاني، وفارقه عند الثالث؟ قلنا لوجهين: أحدهما أن موسى (ع) شرط على الخضر (ع) ترك مصاحبته على تقدير وجود الاعتراض الثالث، وقد وجد، فكان راضيا به. الثاني، أنّ اعتراض موسى (ع) في المرة الأولى والثانية كان تورّعا وصلابة في الدين واعتراضه في المرة الثالثة لم يكن كذلك. فإن قيل: قوله تعالى فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الآية 79] علّته خوف الغصب، فكان حقّه أن يتأخّر عن علّته، فلم قدّم عليها؟ قلنا: هو متأخّر عنه، لأن علة تعييبها أو علّة إرادته تعييبها خوف الغصب وخوف الغصب سابق، لأنه الحامل للخضر (ع) على ما فعله. فإن قيل: الشمس في السماء

الرابعة، وهي بقدر كرة الأرض مائة وستين مرة، وقيل مائة وخمسين، وقيل مائة وعشرين، فكيف تسعها عين في الأرض، حتى أخبر الله تعالى عن ذي القرنين، أنه وجدها تغرب في عين حمئة؟ قلنا: المراد بقوله تعالى وجدها: أي في زعمه وظنّه كما يرى راكب البحر إذا لجّج فيه، وغابت عنه الأطراف والسواحل، أن الشمس تطلع من البحر، وتغرب فيه فذو القرنين انتهى إلى آخر البنيان في جهة المغرب فوجد عينا حمئة واسعة، عظيمة فظنّ أنّ الشمس تغرب فيها. فإن قيل: ذو القرنين كان نبيّا أو تقيّا حكيما على اختلاف القولين، فكيف خفي عليه هذا، حتى وقع في الظنّ المستحيل الذي لا يقبله العقل؟ قلنا: الأنبياء والأولياء والحكماء ليسوا معصومين عن ظنّ الغلط أو الخطأ، وإن كانوا معصومين عن الكبائر. ألا ترى إلى ظن موسى (ع) فيما أنكره على الخضر (ع) في القضايا الثلاث وظنّه أنه يرى الله تعالى في الدنيا وهو من كبار الأنبياء، وكذلك يونس (ع) على ما أخبر الله تعالى عنه، بقوله: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء: 87] وكان الواقع بخلاف ظنّه. الثاني: أن الله تعالى قادر على تصغير جرم الشمس، وتوسيع العين الحمئة وكرة الأرض، بحيث تسع عين الماء عين الشمس فلم لا يجوز أن يكون قد وقع ذلك ولم نعلم به لقصور علمنا عن الإحاطة بذلك؟ فإن قيل: قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) يدل على أنه كان نبيّا، لأن الله تعالى خاطبه. قلنا: من قال إنه ليس نبيّا يقول هذا الخطاب له كان بواسطة النبيّ الموجود في زمانه، كما في قوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ وما أشبه. فإن قيل: لم قال الله تعالى في حقّ الكفّار: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) أي فلا ننصب لهم ميزانا، لأنّ الميزان إنّما ينصب لتوزن به الحسنات بمقابلة السيّئات، والكافر لا حسنة له، ولا طاعة، لقوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ

هَباءً مَنْثُوراً (23) [الفرقان] وقوله في موضع آخر وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) [القارعة] أي فمسكنه النار، فأثبت له ميزانا. قلنا: معنى قوله تعالى فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) أي لا يكون لهم عندنا قدر ولا خطر لخسّتهم وحقارتهم ولو كان معناه ما ذكر، ثم يكون المراد بقوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) من غلبت سيئاته على حسناته من المؤمنين، فإنه يستكين في النار، ولكن لا يخلد فيها، بل بقدر ما يمحّص عنه ذنوبه فلا تنافي بينهما.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الكهف"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الكهف» «1» قوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ. وهذه استعارة. لأن حقيقة العوج، أن يكون فيما يصحّ عليه أن ينصاب أو يميل ويضطرب ويستقيم. وهذه من صفات الأجسام، لا من صفات الكلام. فنقول: إنّما وصف القرآن- والله أعلم- بأنه قيّم لا عوج فيه، ذهابا إلى نفي الاختلاف عن معانيه، والتناقض في أوضاعه ومبانيه. وأنه غير ناكب عن المنهاج، ولا مستمرّ على الاعوجاج. وقوله سبحانه: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (5) . ووصف الكلمة هاهنا بالكبر استعارة. والمراد أنّ معناها فظيع، وفحواها عظيم. وتقدير الكلام: كبرت الكلمة كلمة. وللنصب هاهنا وجهان: أحدهما أن يكون على تفسير المضمر. مثل قولهم: نعم رجلا زيد، وبئس صاحبا عمرو. والوجه الاخر أن يكون على التمييز في الفعل المنقول، نحو: وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) [الآية 29] ، وتصبّب عرقا. وقوله سبحانه: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) . وهذه استعارة. لأن المراد بالجرز هاهنا الأرض التي لا نبات فيها، وذلك مأخوذ من قولهم:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

ناقة جروز، إذا كانت كثيرة الأكل، لا يكاد لحياها يسكنان من قضم الأعلاف، ونشط «1» الأعشاب. ومن ذلك قولهم: سيف جراز، إذا كان يبري المفاصل، ويقطّ الضرائب. وإنما سمّيت تلك الأرض جرزا، إذ كانت كأنّها تأكل نبتها، فلا تدع منه نابغة، ولا تترك طالعة. ونظير ذلك قولهم: أرض جدّاء: لا ماء فيها. تشبيها بالناقة التي لا لبن فيها، وهي الجدّاء «2» . وقوله سبحانه: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) . وهذه استعارة. لأن المراد بها منع آذانهم من استماع الأصوات، وهمس الحركات. قال بعضهم: وذلك كالضّرب على الكتاب لتشكّل حروفه، فتمتنع على القارئ قراءته. وإنما دلّ تعالى على عدم الإحساس بالضّرب على الآذان، دون الضرب على الأبصار، لأن ذلك أبلغ في الغرض المقصود، من حيث كانت الأبصار قد يضرب عليها من غير عمى، ولا يبطل إدراك بقية الحواس جملة، وذلك عند تغميض الإنسان عينيه. وليس كذلك منع الاستماع من غير صمم، لأنه إذا ضرب عليها من غير صمم، بالنوم الذي هو السهو على صفة، دل ذلك على عدم الإحساس من كل جارحة يصحّ بها الإدراك. ولأنّ الأذن، لمّا كانت طريقا إلى الأنباء ثم ضرب عليها، لم يكن سبيل إلى الانتباه، فبطل استماعهم. وفي هذا القول بعض التخليط. والذي أذهب اليه في ذلك، هو أن يكون المراد بقوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ والله أعلم، أي أخذنا أسماعهم. ويكون ذلك من قول القائل: قد ضرب فلان على مالي. أي أخذه وحال بيني وبينه، فأما تشبيه ذلك بالضرب على الكتاب حتى تشكل حروفه على المتأمّل، ففيه بعد وتعسّف. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك: وضربناهم على آذانهم، من الضرب الحقيقي، تشبيها بمن ضرب

_ (1) . نشطت الدابة العشب: إذا أكلته بسرعة وخفة. وقد نشطت الدابة: أي سمنت. [.....] (2) . الناقة الجدّاء: هي الصغيرة الثدي، أو المقطوعة الأذن، أو التي ذهب لبنها. انظر الفيروزآبادي مادة «جدد» .

على سماخه «1» ، فهو موقوذ «2» مأموم «3» ، ومشدوه «4» مغمور. وقوله سبحانه: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 14] . وهذه استعارة: لأنّ الربط هو الشدّ. يقال: ربطت الأسير. إذا شددته بالحبل والقدّ «5» . والمراد بذلك: شددنا على قلوبهم كما تشدّ الأوعية بالأوكية «6» ، فتنضمّ على مكنونها، ويؤمن التبدّد على ما استودع فيها. أي فشددنا على قلوبهم لئلا تنحلّ معاقد صبرها وتهفو عزائم جلدها. ومن ذلك قول القائل لصاحبه: ربط الله على قلبك بالصبر. وقوله سبحانه: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) . وفي هذه الآية استعارتان: إحداهما قوله تعالى: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ والرحمة هاهنا بمعنى النعمة. ولم يكن هناك مطويّ فينشر، ولا مكنون فيظهر. وإنّما المراد بذلك: يسبغ الله عليكم نعمته، على وجه الظهور والشّيوع، دون الإخفاء والإسرار. فيكون ذلك كنشر الثوب المطويّ وإظهار الشيء الخفي، في شيوع الأمر، وانتشار الذكر. والاستعارة الأخرى قوله تعالى: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) . وأصل المرفق ما ارتفق به. وهو مأخوذ من المرفقة. وهي التي يرتفق عليها، أي يعتمد عليها بالمرفق. ويقال مرفق، ومرفق بمعنى واحد. وقد قرئ بهما جميعا بمعنى واحد. فكأنّ السّياق: يهيئ لكم من أمركم ما تعتمدون عليه وتستندون إليه، ويكون لظهوركم عمادا، ولأعضادكم سنادا. وقوله سبحانه: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ [الآية 17] . وفي هذه الآية

_ (1) . السماخ والصماخ واحد. وهو خرق الأذن الباطن الماضي إلى تجويف الرأس. (2) . الموقوذ: المضروب ضربا شديدا حتى أشرف على الموت. (3) . أمّه: شجّه، فهو مأموم. (4) . المشدوه: المشدوخ الرأس. (5) . القدّ: السّير من الجلد. (6) . الأوكية: جمع وكاء، وهو رباط القربة أو ما تشدّ به.

استعارتان: أولاهما قوله تعالى في ذكر الشمس: تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ لأنّ التزاور أصله الميل، وهو مأخوذ من الزّور، وهو الصدر. فكأنه سبحانه قال: إن الشمس تميل عن هذا الموضع، كما يميل المتزاور عن الشيء بصدره ووجهه. والاستعارة الأخرى قوله تعالى: وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ. وفي ذلك قولان: أحدهما أن يكون المراد أنها تقرضهم في ذات الشمال، أي أنها تجوزهم عادلة بمطرح شعاعها عنهم. من قولهم: قرضت الشيء بالمقراض إذا قطعته به. والمقراض متجاوز لأجزائه أوّلا حتى ينتهي إلى آخره. والقول الثاني: أن يكون المراد أنها تعطيهم القليل من شعاعها عند مرّها بهم، ثم تسترجعه عند انصرافها عنهم تشبيها بقرض المال الذي يعطيه المعطي ليستردّه، ويقدمه ليرتجعه. ومعنى قرض المال أيضا مأخوذ من القطع، لأن المقرض يعطي للمقترض شقة من ماله، وقطعة من حاله. وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الآية 21] . وهذه استعارة. والمراد- والله أعلم- وكذلك أطلعنا عليهم. إلا أن في لفظ الإعثار فائدة، وهي مصادفة الشيء عن غير طلب له، ولا إحساس به، وهو «أفعلنا» من الإعثار. وأصله أن الساعي في طريقه إذا صدّ قدمه، أو نكب إصبعه شيء، ففي الأغلب أنه يقف عليه متأمّلا له، وناظرا إليه. فكأنّه استفاد علم ذلك من غير أن تتقدم معرفته به. ومن ذلك قول القائل لغيره: لأعثرنّ عليك بخطيئة فأعاقبك. أي لأقفنّ على ذلك منك. وعلى هذا قوله سبحانه: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً [المائدة: 107] . أي اطّلع على ذلك منهما، واستفيد العلم به من باطن أمرهما. وقوله سبحانه: وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ [الآية 22] . وهذه استعارة لأنّ الرّجم هاهنا هو القذف بالظّنّ، والقول بغير علم. ومن عادة العرب أن تسمي القائل بالظّنّ راجما وقاذفا، و. تسمي السّابّ الشاتم، راميا راجما. ويقولون: هذا الأمر غيب مرجّم. أي يرمي الناس بظنونهم، ويقدرونه بحسابهم.

ومرجّم إنما جاء لتكثير العمل، كأنه يرمي من هاهنا، ومن هاهنا. وإنما سمّي الظّانّ راجما، لأنه يوجّه الظّنّ إلى غير جهة مطلوبة، بل يظنّ هذا، ويظنّ هذا، كالراجم الذي لا يعلم مواقع أحجاره إذا رمى بها في الجهات. فتارة تقع يمينا، وتارة تقع شمالا. وقوله سبحانه: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وهذه استعارة. على أحد التأويلات في هذه الآية. وهو أن يكون المراد بذلك: أننا تركنا قلبه غفلا من السّمات التي تتّسم بها قلوب المؤمنين، فتدلّ على زكاء أعمالهم، وصلاح أحوالهم. كقوله سبحانه: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22] وذلك تشبيه بالبعير إذا أغفل فترك بلا سمة يعرف بها، على عادة العرب في إقامة السّمات مقام العلامات المميّزة بين أموالهم، في الموارد والمراعي، وتعريف الضوالّ. وفي هذه الآية أقوال أخر، والقول الذي قدمناه أدخلها في باب الاستعارة. منها أن معنى أَغْفَلْنا قَلْبَهُ أي نسبناه الى الغفلة كقول القائل: أكفرت فلانا، إذا نسبته إلى الكفر، وأبخلته إذا نسبته إلى البخل. ومنها أن يكون المراد: سمّيناه غافلا، بتعرّضه للغفلة، فكأن المعنى: حكمنا عليه بأنه غافل. كما يقول القائل: قد حكمت على فلان بأنه جاهل. أي لمّا ظهر الجهل منه، وجب هذا القول فيه. ومنها أن يكون ذلك من باب المصادفة. فيكون المعنى: صادفنا قلبه غافلا. كقول القائل أحمدت فلانا، أي وجدته محمودا. وذلك يؤول إلى معنى العلم. فكأنّه تعالى قال: علمناه غافلا. وعلى هذا قول عمرو بن معد يكرب «1»

_ (1) . عمرو بن معديكرب الزبيدي، كان فارسا من فرسان اليمن، وصاحب غارات مشهورة. وقد على النبي عليه السلام سنة 9 هـ فأسلم وقومه، ولما توفي النبي ارتدّ عن الإسلام، ثم رجع إليه فحسن إسلامه، وشهد واقعة القادسية وسائر الفتوح. ومن شعره قصيدته التي يقول فيها: إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع وتوفي سنة 21 هـ على مقربة من مدينة الرّيّ.

لبني سليم: (لله درّكم يا بني سليم! والله لقد قاتلناكم فما أجبنّاكم، وهاجيناكم فما أفحمناكم، وسألناكم فما أبخلناكم) أي لم نصادفكم على هذه الصفات، من الجبن عند النزال، والبخل عند السؤال، والعيّ عند المقال «1» . وعلى ذلك قول نافع «2» بن خليفة الغنويّ: سألنا فأحمدنا ابن كلّ مرزّأ جواد وأبخلنا ابن كلّ بخيل أي وجدنا هذا محمودا، ووجدنا هذا بخيلا مذموما. وفيما علقته عن قاضي القضاة أبي الحسين عبد الجبّار «3» بن أحمد- أدام الله توفيقه- عند قراءتي عليه كتابه الموسوم «بتقريب الأصول» في أخريات من الكلام في التعديل والتحوير، أنه لو لم يكن الأمر على ما قلناه في إغفال القلب، من أنّ المراد بذلك مصادفته غافلا وكان على ما قاله الخصوم، من أنه تعالى صدف به عن أمره، وصرفه عن ذكره، لوجب أن يقول سبحانه: «فاتّبع هواه» . لقول القائل: أعطيته فأخذ، وبسطته فانبسط، وأكرهته فأذلّ. أي كانت هذه الأفعال منه مسببة عن أفعالي به. لأن هذا وجه الكلام في الأغلب الأعرف. فلما جاء بالواو صار كأنه قال: ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا، واتّبع هواه. لأنه إذا وجد غافلا فهو الذي غفل، والفعل حينئذ له، ومنسوب إليه. وقوله سبحانه: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) .

_ (1) . كان مقتضى الترتيب هنا أن يقول: من الجبن عند النزال، والعيّ عند المقال، والبخل عند السؤال، ليصح التقسيم. (2) . نافع بن خليفة الغنوي شاعر روى القالي قطعة من شعره في «ذيل الأمالي» ص 116، كما ذكر الجاحظ في «البيان والتبيين» أبياتا من شعره ج 1 ص 176، وقد جهدت- بعد جهد العلامة عبد العزيز الميمني- في معرفة شيء عنه فلم أوفق. ويقول عنه في «سمط اللئالي» : (ونافع لم أعرفه، ولا ذكره الآمدي) ج 3 من السمط ص 55. (3) . هو أبو الحسين الشافعي المعتزلي. وكان أحد شيوخ المؤلف. قرأ عليه في مجازات القرآن، وفي المجازات النبوية. وكان شيخ الاعتزال في عصره. ويلقب بقاضي القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على غيره. توفي بالرّيّ سنة 415. انظر الأعلام للزّركلي، والغدير ج 4 للأميني ص 163.

وفي هذه الآية استعارتان: أولاهما قوله تعالى: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها والسرداق هو الفسطاط المحيط به. فوصف- سبحانه- النار بالإحاطة والاشتمال فلا ينجو منها ناج، ولا يطلق منها عان. وذلك كقوله تعالى: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) [الإسراء] أي حبسا تحصرهم، وطولا تقصرهم، ومثل قوله سبحانه أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها قوله: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) [الهمزة] والمؤصدة: المغلقة المطبقة. من قولهم أوصدت الباب وأصّدته «1» . إذا أغلقته وأطبقته. وقرئ: عمد وعمد. والمراد بقوله سبحانه: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) مثل المراد في قوله: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها تشبيها بتمديد الأخبية والسرادقات بالأطناب، وإقامتها على الأعماد. والاستعارة الأخرى قوله تعالى: وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) والمرفق: المتّكأ، وهو ما يعتمد عليه بالمرفق، ومنه المرفقة وهي المخدّة. وذلك نظير قوله سبحانه: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) [الرعد: 18] «2» فلما جاء سبحانه بذكر السرادق جاء بذكر المرافق، ليتشابه الكلام. وروي عن بعضهم أنه قال: معنى مرتفقا، أي مجتمعا، كأنه ذهب إلى معنى: وساءت مرافقه. والمرافقة لا تكون إلا بالاجتماع جماعة. وهذا القول يخرج الكلام عن حدّ الاستعارة، فيدخله في باب الحقيقة. والوجه الأول أقوى. ويشهد له قوله سبحانه: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) فجاء بذكر الارتفاق لمّا قدّم ذكر الاتكاء. وهذا أوضح مشاهد. وقوله سبحانه: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الآية 33] . وهذه استعارة. لأن الظلم هاهنا ليس على أصله في اللغة، ولا على عرفه في الشريعة. لأنه في اللغة اسم لوضع

_ (1) . ويقال أيضا آصد الباب على وزن أفعل مثل أصّد بالتضعيف. (2) . في سورة آل عمران، قوله تعالى ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) فالآيتان متشابهتان إلا في «ثم» بدلا من الواو.

الشيء في غير موضعه. وفي الشريعة اسم للضرر المفعول، لا على وجه الاستحقاق، ولا فيه استجلاب نفع، ولا دفع ضرر. والمراد بقوله تعالى: وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي لم تمنع منه شيئا. وإنما حسن أن يعبّر عن هذا المعنى باسم الظلم، من حيث كان ثمر تلك الجنة التي هي البستان كالمستحقّ لمالكها. فإذا أخذ حقه على كماله وتمامه حسن أن يقال: إنها لم تظلم منه شيئا. أي لم تمنع منه مستحقّا، فتكون في حكم الظالم إذ أضرّت بمالكها في نقصان زروعها، وإخلاف ثمارها. ومما يقوّي ذلك قوله سبحانه: آتَتْ أُكُلَها. أي أعطت أكلها. فلما جاء بلفظ الإعطاء حسن أن يجيء بلفظ الظلم. ومعناه هاهنا المنع. فكأنه تعالى قال: أعطت ما استحقّ عليها، ولم تمنع منه شيئا. وقوله تعالى: وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [الآية 56] وهذه استعارة. وأصل الدّحض الزّلق. ومكان دحض: أي مزلق. فكأنه سبحانه قال: ليزلّوا الحقّ بعد ثباته، ويزيلوه عن مستقرّاته. فيكون كالكسير بعد قوته، والمائل بعد استقامته. وقوله سبحانه وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ [الآية 57] . وهذه استعارة. لأنّ المراد بذكر اليدين هاهنا ما كسبه الإنسان من العمل الذي يجرّ العقاب، ويوجب النّكال. ومثله في القرآن كثير. كقوله سبحانه: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران: 182] . وذلك على طريقة للعرب معروفة. وهو أن يقولوا للجاني المعاقب: هذا ما جنت يداك. وهذا ما كسبت يداك. وإن لم تكن جنايته عملا بيد، بل كانت قولا بفم. لأن الغالب على أفعال الفاعلين أن يفعلوها بأيديهم، فحمل الأمر على الأعرف، وخرج على الأكثر وعلى هذا المعنى تسمّى النعمة يدا، لأن المنعم في الأغلب يعطي بيده ما ينعم به، وإن لم يقع ذلك في كل حال، وإنما الحكم للأظهر، والقول على الأكثر. وقوله سبحانه: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ [الآية 77] وهذه استعارة. لأن الإرادة على حقيقتها لا تصح على الجماد. والمعنى: يكاد أن ينقضّ، أي يقارب أن ينقضّ. على

التشبيه بحال من يريد أن يفعل في الباني، لأنه لما ظهرت فيه أمارات الانقضاض، من ميل بعد انتصاب، واضطراب بعد ثبات، حسن أن يطلق عليه إرادة الوقوع، على طريق الاتساع. وترد في كلامهم «كاد» بمعنى «أراد» ، «وأراد» بمعنى «كاد» . وجاء في القرآن العظيم قوله تعالى: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يوسف: 76] أي أردنا ليوسف. وقوله سبحانه. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طه: 15] معناه- على أحد الأقوال- أريد أخفيها. ومما ورد في أشعارهم شاهدا على ذلك، قول عمر بن أبي ربيعة: كادت وكدت، وتلك خيرا إرادة لو عاد من لهو الصّبابة ما مضى «1» فقال: وتلك خير إرادة، والإشارة إلى كادت، وكدت. وأوضح من هذا قول الأفوه الأودي «2» : فإن تجمّع أوتاد وأعمدة وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا أي الذي أرادوا. فأمّا قول الشاعر «3» : يريد الرّمح صدر أبي براء ... ويرغب عن دماء بني عقيل.

_ (1) . هذا البيت لم ينسب لقائله في «شرح شواهد الكشاف» المسمى «تنزيل الآيات، على الشواهد من الأبيات» للعلامة محب الدين أفندي، ولم ينسبه القرطبي لأحد وإنما نقل عن الأنباري قوله: وشاهد هذا قول الفصيح من الشعر. انظر «جامع أحكام القرآن» ج 11 ص 184. [.....] (2) . هو صلاءة بن عمرو بن مالك. وهو شاعر يماني جاهلي اشتهر بالسيادة والقيادة. وهذا البيت من قصيدة مشهورة يقول فيها: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهّالهم سادوا وقبل بيت الشاهد هذا البيت: والبيت لا يبتنى إلّا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد وقد نسبه صاحب «شواهد الكشّاف» للراقدة الأودي، وهو تحريف مطبعي، لأن مثل هذا لا يخفى على العلامة محبّ الدين. (3) . لم ينسب هذا البيت لقائله في «جامع أحكام القرآن» ج 11 ص 26، وكذلك لم ينسبه ابن مطرف الكناني في كتابه «القرطين» طبع الخانجي ص 269، واكتفى بما أنشده السجستاني عن أبي عبيدة. وكذلك لم ينسبه ابن قتيبة في «تأويل مشكل القرآن» ولا «لسان العرب» . وأبو براء هو عامر بن مالك، ولقبه ملاعب الأسنّة. وترى أخباره في «الشعر والشعراء» لابن قتيبة صفحات 231، 235، 295، 340، 341.

فليس يصح حمله على مقاربة الفعل، كما قلنا في قوله سبحانه: جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ لأنه لا يستقيم على الكلام أن يقول: يكاد الرمح صدر أبي براء. وإنما ذلك على سبيل الاستعارة، لأن صاحب الرمح إذا أراد ذلك كان الرّمح كأنه مريد له. فأما قول الراعي يصف الإبل: في مهمه فلقت به هاماتها ... فلق الفؤوس إذا أردن نصولا «1» فإنه بمعنى مقاربة الفعل، لأنّ الفؤوس إذا فلقت في نصبها قاربت أن تسقط، فجعل ذلك كالإرادة منها. والنّصول هاهنا مصدر نصل نصولا، مثل وقع وقوعا. وهذا البيت من أقوى الشواهد على الآية. وقوله سبحانه: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الآية 99] وهذه استعارة. لأنّ أصل الموجان من صفات الماء الكثير وإنما عبّر سبحانه بذلك عن شدة اختلافهم، ودخول بعضهم، في بعض لكثرة أضدادهم، تشبيها بموج البحر المتلاطم، والتفاف الدّبا «2» المتعاظل. وقوله سبحانه: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي [الآية 101] . وهذه استعارة. وليس المراد، أن عيونهم على الحقيقة كانت في غطاء يسترها، وحجاز يحجزها. وإنما المعنى: أنّهم كانوا ينظرون فلا يعتبرون، أو تعرض لهم العبر فلا ينظرون. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: عَنْ ذِكْرِي لأن الأعين لا توصف بأنها في غطاء عن ذكر الله تعالى، لأن ذلك من صفات ذوي العيون. وإنما المراد، أنّ أعينهم كانت تذهب صفحا عن مواقع العبر، فلا يفكّرون فيها، ولا يعتبرون بها، فيذكرون الله سبحانه عند إجالة أفكارهم، وتصريف خواطرهم. وهذا من غرائب القرآن وعجائبه، وغوامض هذا الكلام ومناسبه. وقوله سبحانه:

_ (1) . لم ينسب هذا البيت لقائله في القرطبي ج 11 ص 26. (2) . الدّبا: الجراد الصغير، أو النمل. والمتعاظل: المتراكب بعضه في بعض وفي المعجم الوسيط: الدّبى بالألف المقصورة.

الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) وهذه استعارة. أصل الضّلال ذهاب القاصد عن سنن طريقه. فكأنّ سعيهم لمّا كان في غير الطريق المؤدّية إلى رضا الله سبحانه، حسن أن يوصف بالضّلال، والعدول عن سنن الرشاد. وقوله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) . وفي هذه الآية استعارتان إحداهما قوله سبحانه: بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ وتأويل لقائه هاهنا على وجهين: أحدهما أن يكون فيه مضاف محذوف. فكأنه تعالى قال: ولقاء ثوابه وعقابه، أو جنّته وناره. والوجه الاخر أن يكون معنى ذلك رجوعهم إلى دار لا أمر فيها لغير الله سبحانه. فيصيرون إليها، من غير أن يكون لهم عنها محيص، أو دونها محيد. وذلك مأخوذ من مقابلتك الشيء من غير أن تصرف عنه وجهك يمينا ولا شمالا. يقول القائل: لقيت فلانا. أي قابلته بجملتي. وتقول: داري تلقاء دار فلان. أي مقابلتها. فكانت كل واحدة منهما كالمقبلة على الأخرى. فلمّا كان لا أحد يوم القيامة يستطيع انصرافا عن الوجهة التي أمر الله سبحانه بجمع الناس إليها، وحشرهم نحوها، سمّي ذلك لقاء الله سبحانه على السّعة والمجاز. والاستعارة الأخرى قوله سبحانه: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) والمراد بذلك- والله أعلم- أنّا لا نجد لهم أعمالا صالحة تثقل بها موازينهم يوم القيامة. والميزان إذا كان ثقيلا سمّي مستقيما، وقائما. وإذا كان خفيفا سمّي عادلا، ومائلا. وقد يجوز أن يكون معنى ذلك أنهم لا اعتداد بهم، ولا نباهة لذكرهم في يوم القيامة. كما يقال في التحقير للشيء: هذا لا وزن له ولا قيمة. وكما تقول: فلان عندي بالميزان الراجح، إذا كان كريما عليك، أو حبيبا إليك.

سورة مريم 19

سورة مريم 19

المبحث الأول أهداف سورة"مريم"

المبحث الأول أهداف سورة «مريم» «1» سورة مريم سورة مكية نزلت بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة وقبل الإسراء. وكانت الهجرة إلى الحبشة في السنة السابعة من البعثة، وكان الإسراء في السنة الحادية عشرة للبعثة، قبل الهجرة إلى المدينة بسنة وشهرين. أي أن سورة مريم نزلت بعد السنة السابعة من البعثة، وقبل السنة الحادية عشرة. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لذكر قصة مريم فيها، وعدد آياتها: 98 آية، وعدد كلماتها: 1192 كلمة. أهداف السورة الأهداف الأساسية لسورة مريم: تنزيه الله عن الولد والشريك، وإثبات وحدانية الله، والإلمام بقضية البعث القائمة على التوحيد. هذه هي الأهداف الأساسية للسورة. كالشأن في السور المكّية غالبا، والقصص هو مادة هذه السورة. فهي تبدأ بقصّة زكريا ويحيى (ع) ، فقصّة مريم ومولد عيسى (ع) ، فطرف من قصة إبراهيم (ع) مع أبيه.. ثم تعقبها بإشارات إلى النبيّين: إسحاق ويعقوب، وموسى، وهارون، وإسماعيل، وإدريس، وآدم، ونوح ويستغرق هذا القصص حوالى ثلثي السورة، ويستهدف إثبات الوحدانيّة والبعث، ونفي الولد والشريك وبيان منهج المهتدين ومنهج الضالين من أتباع النبيين.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

القصص في سورة مريم

ومن ثم بعض مشاهد القيامة، وبعض الجدل مع المنكرين للبعث، واستنكار للشّرك ودعوى الولد، وعرض لمصارع المشركين والمكذّبين في الدنيا وفي الاخرة، وكلّه يتناسق مع اتجاه القصص في السورة، ويتجمّع حول محورها الأصيل. «وللسورة كلّها جوّ خاصّ يظلّلها ويشيع فيها ويتمشّى في موضوعاتها» . إنّ سياق هذه السّورة معرض للانفعالات والمشاعر القوية، الانفعالات والمشاعر القوية، الانفعالات في النفس البشرية، وفي «نفس» الكون من حولها. فهذا الكون الذي نتصوّره جمادا لا حسّ له، يعرض في السياق ذا نفس وحسّ ومشاعر وانفعالات، تشارك في رسم الجوّ العامّ للسورة، حيث نرى السماوات والأرض والجبال تغضب وتنفعل، حتى لتكاد تنفطر وتنشقّ وتنهدّ، استنكارا: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) . «أما الانفعالات في النفس البشرية، فتبدأ مع مفتتح السورة وتنتهي مع ختامها. والقصص الرئيس فيها حافل بهذه الانفعالات في مواقفه العنيفة العميقة، وبخاصة في قصة مريم وميلاد عيسى» (ع) . القصص في سورة مريم القصص في سورة مريم امتداد للقصص في سورة الكهف. فهناك ظهرت قدرة الله البالغة في حفظ أصحاب الكهف وإحيائهم بعد موتهم، وفي إعطاء الرحمة والعلم للخضر عليه السلام، وفي منح ذي القرنين أسباب الملك والسلطان والسيادة وهنا تظهر رحمة الله وفضله على زكريّا، إذ يمنحه يحيى على كبر وشيخوخة، وتظهر قدرة الله البالغة في خلق عيسى من أم دون أب، ثم نعمته السابغة على الأنبياء والرسل ورعاية الله لهم حتّى يؤدوا رسالتهم. ويظهر ذلك في قصة إبراهيم مع أبيه، وقصة موسى مع قومه، وقصة إسماعيل الصادق الوعد، وقصة إدريس الصّدّيق النبيّ. ذكرت حلقة من هذه القصة في سورة آل عمران، ولكنها في سورة مريم تخالف ما سبق منها في أسلوبها وسياقها، وما فيها من زيادة ونقص. إنّ السّمة الغالبة هنا، سمة الرحمة والرّضا والاتصال، فهي تبدأ بذكر

رحمة الله لعبده زكريّا، وهو يناجي ربه نجاء خفيا. فتصوّر أحاسيس ذلك الشيخ الهرم ورغبته في الذّرّيّة والولد ودعاءه لله خفية، بعيدا عن زوجته وعن الناس. ثم ترسم لحظة الاستجابة في رعاية وعطف ورضيّ. فالله ينادي عبده من الملأ الأعلى يا زَكَرِيَّا، ويعجّل له البشرى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ. ويغمره بالعطف فيختار له اسم الغلام الذي بشّره به اسْمُهُ يَحْيى [الآية 7] . وهو اسم فذّ غير مسبوق: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) . وكأنما أفاق زكريّا، من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء، فإذا هو يواجه الواقع: إنه رجل شيخ، بلغ من الكبر عتيّا، ووهن عظمه واشتعل شيبه، وامرأته عاقر لم تلد في فتوّته وصباه: فكيف سيكون له غلام؟ قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) . ثم يأتيه الجواب عن سؤاله: بأنّ هذا أمر هيّن يسير أمام قدرة الله، فهو سبحانه الخالق الفعّال لما يريد. وهو سبحانه الذي جعل العاقر لا تلد. وجعل الشيخ الفاني لا ينسل. وهو قادر على إصلاح العاقر، وإزالة سبب العقم، وتجديد قوّة الإخصاب في الرجل، وهو على كلّ شيء قدير. وتمّت ولادة يحيى، وكبر وترعرع، وأحكم الله عقله، وهيّأه لرعاية ميراث أبيه في حزم وعزم ولم يكن هذا الميراث مالا أو عقارا، وإنما كان رسالة الهدى، ودعوة الإيمان وناداه الله سبحانه: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [الآية 12] . والكتاب هو التوراة كتاب بني إسرائيل من بعد موسى (ع) ، وعليه كان يقوم أنبياؤهم، يعملون به ويحكمون. وقد نودي يحيى (ع) ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم. لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة. وقد زود الله يحيى بالحكمة في صباه، ووهبه الحنان والعطف لتأليف القلوب واجتذابها إلى الخير، وآتاه الطهارة والتقوى فكان موصولا بالله،

حكمة خلق عيسى (ع)

عابدا له، مجاهدا في سبيله، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ولا يخشى في الله لومة لائم. حكمة خلق عيسى (ع) انتقلت السورة من قصّة ميلاد يحيى (ع) إلى قصّة ميلاد عيسى (ع) وقد تدرّج السياق من القصة الأولى، ووجه العجب فيها ولادة العاقر من بعلها الشيخ، إلى الثانية، ووجه العجب فيها ولادة العذراء من غير بعل، وهي أعجب وأغرب. وإذا نحن تجاوزنا حادث خلق الإنسان أصلا، وإنشائه على هذه الصورة فإن حادث ولادة عيسى بن مريم يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كله، ويكون حادثا فذّا لا نظير له من قبله ولا من بعده. والبشرية لم تشهد خلق نفسها. وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها. إنها لم تشهد خلق الإنسان الأول من غير أب ولا أم. وقد مضت القرون بعد ذلك الحادث، فشاءت الحكمة الإلهية أن تبرز العجيبة الثانية، في مولد عيسى من غير أب، على غير السّنّة التي جرت منذ وجد الإنسان على هذه الأرض، ليشهدها البشر، ثمّ تظلّ في سجل الحياة الإنسانية بارزة فذّة، تتلفّت إليها الأجيال، إن عزّ عليها أن تتلفّت إلى العجيبة الأولى، التي لم يشهدها إنسان! لقد جرت سنّة الله في امتداد الحياة، بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل بلا استثناء. حتى المخلوقات التي لا ذكر منها وأنثى، تتجمّع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث. جرت هذه السّنّة أحقابا طويلة حتى استقرّ في تصوّر البشر أن هذه هي الطريقة الوحيدة، ونسوا الحادث الأوّل. حادث وجود الإنسان، لأنه خارج عن القياس. فأراد الله سبحانه أن يضرب لهم مثل عيسى بن مريم (ع) ليذكّرهم بحرّيّة القدرة وطلاقة الإرادة، وأنها لا تحتبس داخل النواميس التي تختارها ولم يتكرر حادث عيسى (ع) ، لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها الله، وأن ينفذ الناموس الذي اختاره. وهذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلما بارزا على حرّيّة المشيئة، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس:

قصة ميلاد عيسى (ع)

وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [الآية 21] . ونظرا لغرابة الحادث وضخامته، فقد عزّ على فرق من الناس أن تتصوّره على طبيعته، وأن تدرك الحكمة في إبرازه. فجعلت تضفي على عيسى بن مريم (ع) ، صفات الألوهية، وتعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب، وهي إثبات القدرة الإلهية المطلقة، تعكسها فتشوّه عقيدة التوحيد. والقرآن في هذه السورة، يقصّ كيف وقعت هذه العجيبة ويبرز دلالتها الحقيقية، وينفي تلك الخرافات والأساطير. قصة ميلاد عيسى (ع) وهب الله مريم التقوى واليقين، ورزقها من فضله بغير حساب. وفي يوم مّا اعتكفت مريم كعادتها. وتوارت من أهلها، واحتجبت عن أنظارهم. وبينما هي في خلوتها، مطمئنّة إلى انفرادها، ظهر أمامها رجل مكتمل سويّ الخلقة، فانتفضت انتفاضة العذراء المذعورة يفجأها رجل في خلوتها، فتلجأ إلى الله تستعيذ به، وتستنجد، وتستشير مشاعر التقوى في نفس الرجل، والخوف من الله، والتحرّج من رقابته في هذا المكان الخالي. ولكنّ الرجل السّويّ هدّأ من روعها، وأعاد إليها طمأنينتها، وأخبرها أنه ملاك أرسله الله إليها، لحكمة إلهية، وفضل ربّاني: قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) . وتدرك مريم شجاعة الأنثى المهدّدة في عرضها! فتسأل في صراحة وحجّة: قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) . فهي لم تخالط رجلا في نكاح ولا في سفاح. فأخبرها الملاك، أنّ هذا الحمل سيكون بقدرة الله وحده، وهو أمر هيّن أمام هذه القدرة التي تقول للشيء كن فيكون. وقد أراد الله سبحانه أن يجعل هذا الحادث آية للناس، وعلامة على وجوده وقدرته وحرّيّة إرادته. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) . ثم مضى الملاك واختفى. وت الحمل بقدرة الله، وجلست مريم حائر

تفكّر في أمر نفسها، وتخيّلت ما سيقوله الناس عن عذراء تحمل وتلد من غير أن يكون لها بعل وفي حدّة الألم ومرارة الخوف نظرت إلى الطفل في حسرة واكتئاب، وجعلت تتمنّى لو ضمّها القبر وفارقت العالم، قبل أن تصير أمّا من غير أن تتزوّج، فقالت كما ورد في التنزيل: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) . ولكنها ما لبثت أن سمعت صوت وليدها، فبدّد مخاوفها، وكفكف دموعها، وناداها من تحتها كما روى القرآن ذلك، حكاية عنه: أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) . أي جدولا يجري ماؤه في تلك البقعة الجرداء، والأرجح أنه جرى للحظته من ينبوع، أو تدفّق من مسيل ماء في الجبل. وهذه النخلة التي تستندين إليها هزّيها فتتساقط عليك رطبا. فهذا طعام وذاك شراب، والطعام الحلو مناسب للنّفساء. والرّطب والتّمر من أجود طعام النّفساء: فَكُلِي وَاشْرَبِي [الآية 26] هنيئا وَقَرِّي عَيْناً [الآية 26] . واطمأني قلبا، لما ترين من قدرة الله التي اخضرّ بها جذع النخلة اليابسة. وطيبي نفسا بما حباك الله من جريان الماء في تلك البقعة المقفرة. واطمأنت مريم إلى فضل الله، وأنّه لن يتركها وحدها، أنّ حجّتها معها، هذا الطفل الذي ينطق في المهد. ورجعت مريم إلى قومها وعشيرتها تحمل ولدها على كتفها، وسرعان ما شاع أمرها، وعرف خبرها. وجاء أقاربها يؤنّبونها بألسنة التقريع والتأنيب، ويلومونها على هذه الفعلة المنكرة، ويذكّرونها بشرف أسرتها وكرم أصلها. والتزمت مريم الصمت، وأشارت إليهم أن كلّموا هذا الوليد، إن أردتم الوقوف على حقيقة الأمر: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) ؟ كيف نكلم وليدا، لم تكتمل أدوات نطقه. ولم تتحرّك شفته إلى ثدي أمّه؟ فانطلق الوليد يجيبهم في بيان وحجّة وبرهان:

أسلوب القرآن

قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) . وهكذا يعلن عيسى (ع) عبوديّته لله سبحانه. فليس هو ابنه كما تقول فرقة، وليس هو إلها كما تقول فرقة، وليس هو ثالث ثلاثة كما تقول فرقة ثالثة ويعلن أن الله جعله نبيّا لا ولدا ولا شريكا، وأن الله أوصاه بالصلاة والزكاة مدّة حياته. أسلوب القرآن نحسّ في كلمات هذه السورة السهولة واليسر، والرضا واللطف، فهي كلمات معبّرة عن معانيها فمعاني السورة تدور حول فضل الله على زكريّا ومريم، وغيرهما من الأصفياء. ويتمثّل الرّضا والسلاسة واليسر في معاني السورة، كما يتمثّل في ألفاظها وفواصلها، وهي: رضيّا، سريّا، حفيّا، نجيّا ... فأمّا المواضع التي تقتضي الشدّة والعنف، فتجيء فيها الفاصلة مشدّدة على حرف الدال في الغالب: مدّا، ضدّا، إدّا، هدّا، أو زايا: عزّا، أزّا، ركزا. ويتنوّع الإيقاع والفاصلة بتنوّع الجو والموضوع في هذه السورة، فهي تبدأ بقصّة زكريّا ويحيى، فتسير الفاصلة والقافية هكذا: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) وتليها قصّة مريم وعيسى فتسير الفاصلة على النظام نفسه: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) وتليها قصّة مريم وعيسى فتسير الفاصلة على النظام نفسه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) . إلى أن ينتهي القصص، ويجيء التعقيب، لتقرير حقيقة عيسى بن مريم، وللفصل في قضية بنوّته، فيختلف نظام الفواصل. تطول الفاصلة وتنتهي بحرف الميم أو النون المستقرّ الساكن، وكأنّما الآيات تعبّر عن حكم بعد نهاية القصّة، مستمدّ منها ولهجة الحكم تقتضي أسلوبا تعبيريّا غير أسلوب الاستعراض، وتقتضي ايقاعا قويّا رصينا، بدل إيقاع القصّة الرضيّ المسترسل، فيقول سبحانه:

المعالم الرئيسة في السورة

ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) . حتى إذا انتهى التقرير والفصل وعاد السياق إلى القصص، عاد الإيقاع الرّضي المديد: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) . حتّى إذا جاء ذكر المكذّبين، وما ينتظرهم من عذاب وانتقام، تغيّر الإيقاع والجرس: قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) . وفي موضع الاستنكار، يشتدّ الجرس والنّغم بتشديد الدّال: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) . وهكذا يسير الإيقاع في السورة وفق المعنى والجو، ويشارك في إبقاء الأسلوب الذي يتناسق مع المعنى في ثنايا السورة، وفق انتقالات السياق من فكرة إلى فكرة، ومن معنى إلى معنى. المعالم الرئيسة في السورة يمكننا أن نلمح ثلاث مجموعات رئيسة في سورة مريم: المجموعة الأولى: تتضمّن قصّة زكريّا ويحيى، وقصّة مريم وعيسى، والتعقيب على هذه القصّة بالفصل في قضيّة عيسى التي كثر فيها الجدل، واختلفت فيها أحزاب اليهود والنصارى. المجموعة الثانية: تتضمّن حلقة من قصّة إبراهيم مع أبيه وقومه، واعتزاله لملّة الشّرك، وما عوّضه الله من ذرية نسلت بعد ذلك أمّة. ثمّ أشارت إلى قصص النبيّين، ومن اهتدى بهم ومن خلفهم من الغواة، ومصير هؤلاء وهؤلاء وتنتهي بإعلان الربوبية الواحدة التي تعبد بلا شريك: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) . والمجموعة الثالثة والأخيرة: تبدأ بالجدل حول قضية البعث، وتستعرض

بعض مشاهد القيامة، وتعرض صورة من استنكار الكون كلّه لدعوى الشرك. وتنتهي بمشهد مؤثّر عميق، من مصارع القرون: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ [الآية 74] . أي أمة من الأمم الماضية، بتكذيبهم الرسل. هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) . وقد جاء تفسير الطبري لهذه الآية الأخيرة من سورة مريم بما معناه: يقول تعالى ذكره: وكثيرا أهلكنا يا محمّد، قبل قومك من مشركي قريش مِنْ قَرْنٍ يعني من جماعة من الناس، إذ سلكوا سبيل المعاصي والشرك: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ. يقول فهل تحس أنت منهم أحدا يا محمّد، فتراه وتعاينه أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) . يقول أو تسمع لهم صوتا، بل بادوا وهلكوا وخلت منهم دورهم، وأوحشت منهم منازلهم، وصاروا إلى دار لا ينفعهم فيها إلّا صالح من عمل قدّموه فكذلك قومك هؤلاء صائرون إلى ما صار إليه أولئك، إن لم يعاجلوا التوبة قبل الهلاك. وهكذا تنتهي سورة مريم، بعد تقرير قدرة الله الفائقة، وحكمته البالغة في خلق يحيى وخلق عيسى (ع) ، وتقرير قدرته سبحانه على البعث والحشر والحساب والجزاء، ومكافأة المؤمنين ومعاقبة المعتدين.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"مريم"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «مريم» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة مريم بعد سورة فاطر. ونزلت سورة فاطر بعد تسع عشرة سورة من سورة النجم، وسيأتي أنّ سورة النجم نزلت عقب الهجرة الأولى للحبشة، وقد كانت الهجرة إلى الحبشة في السنة السابعة من البعثة، فتكون سورة مريم من السور التي نزلت بين هذه الهجرة وحادثة الإسراء. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لذكر قصة مريم فيها، وتبلغ آياتها ثماني وتسعين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة، ذكر نتف من قصص بعض الرسل للعظة والقدوة، تتميما لما ورد من ذلك القصص العجيب في سورة الكهف، وتقريرا لما ورد في ختامها من أن كلمات الله في ذلك لا نفاد لها، ولهذا ذكرت سورة مريم بعد سورة الكهف. وقد ذيّلت قصص أولئك الرسل ببيان انحراف أتباعهم عن سنّتهم، وما يستحقون من الجزاء على انحرافهم. نتف من قصص بعض الرسل الآيات [1- 58] قال الله تعالى: كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) فذكر ست قصص من قصص الرسل:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

انحراف خلفهم عن سننهم الآيات [59 - 98]

الأولى قصّة زكريّا وابنه يحيى، وقد سبق ورودها في سورة آل عمران، وهي تخالف ما سبق منها في أسلوبها وسياقها وما فيها من زيادة ونقص، وقد ختمت بقوله تعالى في يحيى: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) . والثانية قصّة مريم وابنها عيسى، وقد سبقت أيضا في سورة آل عمران، وهي تخالف ما سبق منها في أسلوبها وسياقها، وما فيها من زيادة ونقص وقد ذكر سبحانه أن ما قصّه فيها من أنّ عيسى عبده لا ابنه، هو الحقّ وأمرهم تعالى أن يعبدوه وحده ولا يتّخذوا له شريكا من ولد أو غيره، ثم أوعدهم على ذلك بما أوعدهم به، وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) . والثالثة قصة إبراهيم مع أبيه، وقد سبقت في سورة الأنعام، وهي تخالف ما سبق من جهة أسلوبها وسياقها وما فيها من زيادة ونقص، وقد ذكر في آخرها أنه حين اعتزل قومه وما يعبدون من دونه وهب له سبحانه، إسحاق ويعقوب، وكلّا جعله نبيّا: وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) . والرابعة قصّة موسى، وقد ذكر فيها أنه كان مخلصا وكان رسولا نبيّا، وأنه ناداه من جانب الطور الأيمن، وقرّبه نجيّا: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) . والخامسة قصّة إسماعيل، وقد ذكر فيها أنه كان صادق الوعد، وكان رسولا نبيّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) . والسادسة قصّة إدريس، وقد ذكر فيها أنه كان صديقا نبيّا، وأنّه رفعه مكانا عليّا. ثم أثنى عليهم عموما، بعد أن أثنى على كل واحد بخصوصه، فقال جلّ وعلا أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) . انحراف خلفهم عن سننهم الآيات [59- 98] ثم قال تعالى:

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) فذكر سبحانه، أنّه خلف من بعد هؤلاء الرسل خلف انحرفوا عن سننهم فأضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات، وأنّهم سوف يلقون جزاء غيهم، واستثنى من ثاب منهم وآمن بالنبي (ص) ووعدهم بأنهم يدخلون الجنة إلخ ثم ذكر جلّ جلاله أنهم لا يتنزّلون فيها إلّا بأمره، لأنه مالك كلّ شيء ممّا بين أيديهم وما خلفهم وما بين ذلك، وما كان لينسى إحسان المحسن وإساءة المسيء فلا يجازيهما عليهما ثم ذكر بمناسبة هذا إنكارهم للمعاد الذي يكون فيه الثواب والعقاب، لاستبعادهم إحياء الإنسان بعد موته. وأجابهم بأنه خلق الإنسان من قبل موته ولم يك شيئا، فهو قادر على إعادته بعد موته من باب أولى ثم أقسم ليحشرنّهم والشياطين، وليحضرنّهم حول جهنّم باركين على ركبهم ولينزعنّ من بينهم من كان منهم أشدّ تمرّدا، ليذيقه عذابا أعظم من غيره، وهو أعلم بمن هو أولى بذلك من غيره، ولا بدّ من ورودهم لها جميعا على تفاوت عذابهم فيها ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) . ثم ذكر السبب في عدم إيمانهم بذلك، وهو اغترارهم بدنياهم، فذكر سبحانه أنهم إذا تتلى عليهم آياته في ذلك واضحات، ذكروا أنهم أحسن حالا من المؤمنين، ولو كانوا على الباطل لكانوا أسوأ حالا منهم ورد عليهم بأنه كم أهلك من قبلهم من قوم كانوا أحسن حالا منهم، وبأنه إنّما ينعم عليهم بذلك ليمدّ لهم في الضلالة ويقطع عنهم العذر، حتى إذا رأوا ما يوعدون في الدنيا أو الاخرة علموا أنهم شرّ مكانا وأضعف جندا وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) . ثم خصّ شخصا منهم بلغ به الغرور مبلغه حتى قال استهزاء: لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً (77) في المعاد كما أوتيت ذلك في الدنيا، وردّ عليه بأنه لم يطّلع على الغيب، ولم يتّخذ عنده بذلك عهدا ثم أوعده بأنه سيكتب ما قاله ويرث ماله وولده، حتى يأتيه يوم القيامة فردا. ثم ذكر أنهم يعتمدون في ذلك على أنّ آلهتهم ستشفع لهم يوم القيامة، وردّ عليهم بأنهم سيكافرون فيه بعبادتهم

ويكونون عليهم ضدّا ثم ذكر أن الشياطين استولت عليهم، فلا فائدة في نصحهم، ونهى النبي (ص) أن يعجّل عليهم العذاب، لأنه يعدّه لهم عدّا ثم ذكر أنه إذا أتى وقته يحشر المتّقين وفدا، ويسوق المجرمين إلى جهنّم، كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء، ولا يكون هناك شفاعة إلّا للمؤمنين الذين اتّخذوا عند الرحمن بذلك عهدا. ثمّ ذكر أنّ فريقا يزعمون أنّ الملائكة بنات الله، فيعبدها ويزعمون أنها تشفع لهم يوم القيامة وردّ عليهم بأنهم قد جاءوا بهذا شيئا إدّا، وبأنه ما ينبغي له سبحانه أن يتّخذ ولدا ثم ذكر أن كل من في السماوات والأرض يأتيه يوم القيامة عبدا وأن كل واحد منهم يأتيه فردا، لا شفيع له من الملائكة، وغيرهم. ثم ختمت السورة بإثبات الشفاعة للمؤمنين بعد أن نفيت عن غيرهم، فذكر سبحانه أنه سيجعل لهم يوم القيامة ودّا يشفع به بعضهم لبعض، ولا يقطع ما بينهم من تواصل كما قطع بين الكفّار ومن اتّخذوه من شريك وولد ثم ذكر سبحانه أنه إنما يسّر القرآن بلسان الرسول (ص) ، لأجل هذا التبشير والإنذار فقال جلّ وعلا: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"مريم"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «مريم» «1» أقول: ظهر لي في وجه مناسبتها لما قبلها: أنّ سورة الكهف اشتملت على عدة أعاجيب: قصّة أصحاب الكهف، وطول لبثهم هذه المدة الطويلة بلا أكل ولا شرب، وقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، وما فيها من الخارقات، وقصّة ذي القرنين. وهذه السورة فيها أعجوبتان: قصّة ولادة يحيى بن زكريّا (ع) «2» ، وقصّة ولادة عيسى (ع) ، فناسب تتاليهما. وأيضا قيل: إن أصحاب الكهف يبعثون قبل قيام الساعة، ويحجّون مع عيسى بن مريم حين ينزل «3» . ففي ذكر سورة مريم بعد سورة أصحاب الكهف مع ذلك، إن ثبت، ما لا يخفى من المناسبة. وقد قيل أيضا: إنهم من قوم عيسى، وإنّ قصتهم كانت في الفترة، فناسب توالي قصتهم وقصة نبيّهم «4» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . ولادة يحيى كانت عجيبة، لأنّ أمه كانت قد بلغت سنّ اليأس، وأباه بلغ من الكبر عتيّا، فليس لمثلهما أن ينجب أبدا. (3) . لم نعثر على هذا الرأي فيما بين أيدينا من مصادر. (4) . قال ابن كثير: الظاهر أنهم كانوا قبل ملّة النصرانية، لأن اليهود أشاروا على قريش بسؤال النبي (ص) عنهم. (تفسير ابن كثير: 5: 137) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"مريم"

المبحث الرابع مكنونات سورة «مريم» » 1- فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا [الآية 17] . قال قتادة، وعطاء، والضّحّاك: جبريل أخرجه ابن أبي حاتم «2» . 2- فَناداها مِنْ تَحْتِها [الآية 24] . قال البراء: ملك. وقال ابن عبّاس وسعيد بن جبير، والضّحّاك: جبريل، وقال مجاهد والحسن: عيسى «3» . أخرج ذلك ابن أبي حاتم. 3- وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) . المكان العليّ، هو السماء الرابعة، كما في «الصحيح» «4» 4- وَيَقُولُ الْإِنْسانُ [الآية 66] . هو: أبيّ بن خلف «5» . وقيل: الوليد بن المغيرة. وقيل: أميّة بن خلف. 5- أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً (77) . نزلت في العاصي بن وائل السّهمي كما أخرجه البخاري عن خبّاب بن الأرتّ «6» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . انظر «تفسير الطبري» 16: 49. (3) . هذا القول اختاره ابن زيد، كما في «تفسير ابن كثير» 3: 177، والطبري أيضا في «تفسيره» 16: 52. (4) . «صحيح البخاري» في بدء الخلق برقم (3207) . [.....] (5) . حكاه الواحدي في «أسباب النزول» 227، عن الكلبي وانظر «سيرة ابن هشام» 1: 361. (6) . برقم (4732) في التفسير.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"مريم"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «مريم» «1» قال تعالى: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) . قوله تعالى عِتِيًّا (8) أي: اليبس والجساوة في المفاصل والعظام، كالعود القاحل يقال: عتا العود وعسا من أجل الكبر والطّعن في السن العالية. والفعل «عتا يعتو» مصدره عتوّ وعتيّ بمعنى استكبر وجاوز الحدّ وقرئ «عتيّا» بضم العين. ومنه أيضا قوله تعالى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) . أقول: وكأنّ بين اليبس والجساوة في المفاصل والعظام، وبين الاستكبار وتجاوز الحد قرابة وبشيء من اللطف، يصار من هذه الى تلك. 2- وقال تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) . قوله تعالى (ولم تك) حذف النون للتخفيف، وذلك إذا وليها حرف ذو حركة، فإن كان ساكنا امتنع الحذف وقد ورد في الشعر ضرورة، ومنه قول الشاعر: إذا لم تك المرآة أبدت محاسنا فقد أبدت المرأة جبهة ضيغم ومثل الآية قوله تعالى أيضا: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) . 3- وقال تعالى: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ [الآية 23] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السّامرّائي، مؤسسة الرسالة العربية، بيروت، غير مؤرخ.

وقوله تعالى: فَأَجاءَهَا فعل مزيد بالهمزة، والثلاثي «جاء» إلّا أنّ استعمال المزيد قد تغيّر بعد الزيادة إلى معنى الإلجاء، تقول: جئت المكان، وأجاءنيه زيد، كما تقول: بلغته وأبلغنيه. ونظيره «آتي» ، حيث لم يستعمل إلّا في الإعطاء. ولم تقل: أتيت المكان وآتانيه فلان. أقول: وليس لنا في العربية المعاصرة الفعل المزيد «أجاء» . 4- وقال تعالى: وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) . وقرئ «نسيا» بكسر النون وفتحها، فمن قرأ بالكسر فمعناه: حيضة ملقاة، أي، خرقة الحيض، ومن قرأ بالفتح فمعناه شيئا منسيا. والنّسي أيضا: ما نسي وما سقط في منازل المرتحلين من رذال أمتعتهم. وتقول العرب إذا ارتحلوا من المنزل: انظروا أنساءكم، جمع نسي وفي حديث عائشة- رضي الله عنها- «وددت أني كنت نسيا منسيا» أي شيئا حقيرا مطّرحا ولا يلتفت إليه. وقال تعالى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) . السّريّ: النهر، عن ثعلب، وهو الجدول الصغير يجري إلى النخل، والجمع أسرية وسريان. وكذلك قال ابن عبّاس، وهو قول أهل اللغة. وروي عن الحسن، أنّه كان يقول كان والله سريّا من الرجال، ويعني عيسى (ع) . 6- وقال تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) . قال الفرّاء: الفريّ الأمر العظيم، أي: جئت شيئا عظيما. وقيل: جئت شيئا فريّا، أي مصنوعا مختلقا. وفلان يفري الفريّ، إذا كان يأتي بالعجب في عمله. وقال النبي (ص) في عمر، رضي الله عنه، ورآه في منامه ينزع عن قليب «1» بغرب «2» : فلم أر عبقريّا يفري فريّه.

_ (1) . القليب: البئر. (2) . الغرب: الدّلو العظيمة.

وأقول: وهذا من الكلم الجميل الذي أضعناه، وليس لنا منه شيء. 7- وقال تعالى: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) . قال الفرّاء: أي: طويلا. والمليّ: الهويّ من الدهر، يقال أقام مليا من الدّهر، ومضى مليّ من النهار، أي ساعة طويلة. ومرّ مليّ من الليل، أي من أوّله إلى ثلثه. 8- وقال تعالى: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) . الحفيّ: البليغ في البرّ والإلطاف، يقال حفي به وتحفّى به. أقول: وليس لنا في هذا المعنى إلا الفعل «احتفى» يقال احتفى به، أي برّ وتلطّف وكرم. 9- وقال تعالى: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) . قوله تعالى: وَبُكِيًّا (58) أي: باكين، وهو جمع باك مثل قاعد وقعود، وساجد وسجود. وفي بعض القراآت «بكيّا» بكسر الباء، وهي قراءة من آثر كسرة الكاف لمكان الياء بعدها، وهذا كقوله تعالى: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) . وقوله جلّ وعلا: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) . وقوله تعالى: جِثِيًّا جمع جاث، وكان يمكن أن تقرأ «جثيّا» بضم الجيم على قراءة من قرأ (بكيّا) ، وهي القراءة المشهورة ولكن جِثِيًّا بالكسر هي القراءة الغالبة. 10- وقال تعالى: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) . والمعنى ثمّ لنحن أعلم بتصلية هؤلاء، وهم أولى بالصليّ من بين سائر الصالين. والصّليّ: مصدر صلي. وصلي بالنار وصليها صليا وصليّا وصليّا وصلىّ وصلاء واصطلى بها وتصلّاها. وقرئ: «صليّا» . 11- وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) . الأثاث: متاع البيت، وما جدّ من الفرش، وليس منه الخرثيّ «1» .

_ (1) . الخرثيّ: أردأ المتاع.

أقول: والأثاث مفرد بخلاف ما يرد جمعا في لغة المعاصرين. إن مادة «أثاث» تشير إلى ما يقابلها في اللغات السامية، وهي «ايث» كما في العبرانية، «ايت» في الآرامية، و «ايش» كما في العربية، ومنه أيضا «ايس» ، وكلها تشير إلى «شيء» المعروفة في العربية. و «ايث» تعني الشيء والوجود والكينونة، ومن هنا كان من الحسن أن ننظر إلى «لات» التي قد تكون «لا أيت» أي لا شيء، ثم ركّبت على طريقة النحت فصارت «لات» النافية. وقد أشرنا في غير هذا المختصر إلى مادة «ليس» وإنها «لا أيس» في الأصل، ضد الوجود وهو العدم. ومن هنا كان «أيس» هو مادة «إنسان» كما في قولهم «إيسان» ثم إذا عرفنا أن «إيش» هو الرجل في العبرانية أدركنا القيم التاريخية لهذه الأصول العتيقة. و (الرئي) : المنظر والهيئة، وهو على وزن «فعل» بمعنى مفعول نظير «ذبح» ، أي مذبوح أو كما أشرنا إلى هذا البناء الثلاثي في غير هذا المكان. 12- وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) . الأزّ والاستفزاز متقاربان، والمعنى التهييج وشدّة الإزعاج. أقول: ليس شيئا من ذلك في اللغة المعاصرة، بل إن الفعل «أزّ» يفيد ضربا من الصوت، كأزيز القدر والمرجل ونحوهما. 13- وقال تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) . أي: يوم نحشرهم وافدين، والوفد في الآية الركبان المكرّمون. وكما يكون «الوفد» اسم جمع للوافد، فهو مصدر أيضا. والوفد، في لغتنا المعاصرة جماعة يوفدون إلى أمر من الأمور، ولكثرة استعماله في الحياة المعاصرة جمع على «وفود» . 14- وقال تعالى: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) . الإدّ بالكسر والفتح: العجب، وقيل: العظيم المنكر، والإدّة: الشّدّة، وأدّني الأمر وآدني: أثقلني وعظم عليّ.

15- وقال تعالى: أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) . الرّكز: الصّوت الخفي. وكأنّ أصل المعنى في «الرّكز» هو الخفاء، ومنه ركز الرّمح إذا غيّب طرفه في الأرض، والرّكاز: المال المدفون.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"مريم"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «مريم» «1» قال تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) أي: «ممّا نقصّ عليك ذكر رحمة ربّك» «2» فانتصب العبد بالرحمة. وقد يقول الرجل «هذا ذكر ضرب زيد عمرا» «3» . وقال سبحانه: نِداءً خَفِيًّا (3) بجعله من الإخفاء. وقال: شَيْباً [الآية 4] لأنه مصدر في المعنى ناب عن فعله «4» . وليس هو مثل «امتلأت ماء» لأن ذلك ليس بمصدر. وقوله تعالى: سَوِيًّا (10) على الحال «5» ، كأنه أمر في الكفّ عن الكلام سويّا. وقال: يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ [الآية 44] فإذا وقفت قلت: «يا آبه» وهي هاء زيدت كنحو قولك «يا أمّه» ثم تقول «يا أمّ» إذا وصلت، ولكنّه لما كان «الأب» على حرفين كان كأنه قد أخلّ به، فصارت الهاء لازمة وصارت الياء كأنها بعدها، فلذلك قيل «يا أبت أقبل» وجعلت التاء للتأنيث. ويجوز الترخيم لأنه يجوز أن تدعو ما تضيف الى نفسك في المعنى

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرخ. (2) . نقله في المشكل 2: 49، والجامع 11: 75. (3) . نقله في إعراب القرآن 2: 624، ونقله في الجامع 11: 75. (4) . نقله في الصحاح «شيب» ، وإعراب القرآن 2: 624، والجامع 11: 77. (5) . نقله في إعراب القرآن 2: 627.

مضموما، نحو قول العرب «يا ربّ اغفر لي» وتقف في القرآن يا أَبَتِ للكتاب وقد يقف بعض العرب على هاء التأنيث «1» . وقال تعالى: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) نحو قولك «ملحفة جديد» «2» . وقال تعالى: لِسانَ صِدْقٍ [الآية 50] نحو قولهم: «لساننا غير لسانكم» أي: لغتنا غير لغتكم. وإن شئت جعلت اللسان مقالهم كما تقول «فلان لساننا» . وقال تعالى إِلَّا سَلاماً [الآية 62] فهذا كالاستثناء الذي ليس من أوّل الكلام «3» . وهذا على البدل، إن شئت كأنّه «لا يسمعون فيها إلّا سلاما» . وقال تعالى: وَرِءْياً (74) فالرّئي من الرؤية، وفسّروه من المنظر، فذاك يدلّ على أنه من «رأيت» . وقال تعالى: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ [الآية 64] أي، والله أعلم، ما بَيْنَ أَيْدِينا قبل أن نخلق وَما خَلْفَنا بعد الفناء وَما بَيْنَ ذلِكَ حين كنّا «4» . وفي قوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [الآية 25] زيدت الباء، وهي تزاد في كثير من الكلام، نحو قوله سبحانه: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] أي: تنبت الدهن. وقال الشاعر «5» [من الطويل وهو الشاهد السادس والأربعون بعد المائتين] : بواد يمان ينبت السّدر صدره ... وأسفله بالمرخ والشّبهان «6»

_ (1) . هي لغة قوم طيّئ. شرح المفصل 5: 89، وقيل بل لغة تميمية. اللهجات العربية 393 وما بعدها، والخصائص 1: 304، والمخصص 9: 7، والخزانة 2: 148، واللسان: «جحف» و «بلل» و «ما» . (2) . نقله في الصحاح «بغي» (3) . نقله في إعراب القرآن 2: 637. [.....] (4) . نقله في زاد المسير 5: 250، والجامع 11: 129، والبحر 6: 203. (5) . هو امرؤ القيس: الجمهرة 1: 45 وقيل رجل من عبد القيس اللسان «شبه» وقيل يعلى الأحول، الجمهرة 1: 45. (6) . في أدب الكاتب 416، والجمهرة كما سبق و 3: 414، واللسان «شئث» ، وشبه مجاز القرآن 2: 48 ب «الشث» بدل «السدر» ، وفي الجمهرة كما سبق، وفي اللسان مادة «شثث» «فرعه» بدل «صدره» .

يقول: «وأسفله ينبت المرخ والشبهان» ومثله: «زوجتك بفلانة» يريدون: «زوّجتكها» ويجوز أن يكون على معنى «هزّي رطبا بجذع النخلة» . وفي قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ [الآية 90] فالمعنى يردن «1» لأنهنّ لا يكون منهنّ أن يتفطّرن، ولا يدنون من ذلك، ولكنهنّ هممن به إعظاما لقول المشركين ولا يكون على من همّ بالشيء أن يدنو منه، ألا ترى أنّ رجلا لو أراد أن ينال السماء لم يدن من ذلك، وقد كانت منه إرادة. وفي قوله تعالى: كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) «العصيّ» : العاصي، كما تقول: «عليم» و «عالم» و «عريف» و «عارف» قال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد السابع والأربعون بعد المائتين] : أو كلّما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم «3» يقول: «عارفهم» وقال تعالى: أَطَّلَعَ [الآية 78] فهذه ألف الاستفهام، وذهبت ألف الوصل لمّا دخلت ألف الاستفهام. وقال تعالى وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) لأنّ «الضدّ» يكون واحدا وجماعة، مثل «الرصد» و «الأرصاد» ، ويكون الرّصد أيضا اسما للجماعة «4» .

_ (1) . نقله في البحر 6: 218. (2) . هو طريف بن تميم العنبري: الكتاب وتحصيل عين الذهب 2: 215، والفاخر 258، والأصمعيات 127 والبيت أيضا في المنصف 3: 66. (3) . في الأصمعيات: رسولهم بدل عريفهم. (4) . نقله في التهذيب 11: 455 «ضد» .

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"مريم"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «مريم» «1» إن قيل: النداء هو الصوت والصياح، يقال ناداه نداء: أي صاح به، فلم وصف النداء بكونه خفيّا، كما جاء في الآية 3؟ قلنا: النداء هنا عبارة عن الدعاء، وإنما أخفاه ليكون أقرب إلى الإخلاص، أو لئلا يلام على طلبه الولد بعد الشيوخة، أو لئلا يعاديه بنو عمه، ويقولوا: كره أن نقوم مقامه بعده، فسأل ربّه الولد لذلك. فإن قيل: لم قال تعالى: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [الآية 6] ، والنبي لا يورث لقوله (ص) : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركناه صدقة» ؟ قلنا: المراد بقوله تعالى يَرِثُنِي: أي يرثني العلم والنبوّة، ويرث من آل يعقوب الملك، وقيل الأخلاق فأجابه الله تعالى إلى وراثته العلم والنبوّة والأخلاق، دون الملك، والمراد بقوله (ص) «لا نورث» المال ويؤيده قوله (ص) «ما تركناه صدقة» . ويعقوب هنا والد يوسف عليهما السلام، وقيل لا بل هو أخو زكريا، وقيل لا بل هو أخو عمران الذي هو أبو مريم. فإن قيل لم قال تعالى: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ بتعدية الفعل في الأول بنفسه والثاني بحرف الجر، وهو واحد؟ قلنا: يقال ورثه وورث منه، فجمع السياق بين اللغتين. وقيل «من» هنا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

للتبعيض لا للتعدية، لأن آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء. فإن قيل: كيف طلب الولد بقوله، كما ورد في التنزيل فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) . أي ولدا صالحا، فلمّا بشره الله تعالى بقوله: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ [الآية 7] استبعد ذلك وتعجّب منه، وأنكره كما ذكر القرآن، بقوله: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ [الآية 8] . قلنا: لم يقل ذلك على طريق الإنكار والاستبعاد، بل ليجاب بما أجيب به عن طلبه الولد، وهو قوله تعالى: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى، فيزداد الموقنون إيقانا ويرتدع المبطلون، وإلّا فمعتقد زكريّا أولا وآخرا، كان على منهاج واحد في أنّ الله تعالى غنيّ عن الأسباب. الثاني: أنه قال ذلك تعجّب فرح وسرور، لا تعجّب إنكار واستبعاد. الثالث: قيل إنه قال ذلك استفهاما عن الحالة التي يهبه الله تعالى فيها الولد: هل يهبه في حال الشيخوخة أم يردّه إلى حالة الشباب ثم يهبه، ولكن هذا الجواب لا يناسبه ما أجيب به زكريا (ع) بعد استفهامه. فإن قيل: لم قيل: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [الآية 10] والآية العلامة، فعلام طلب العلامة على وجود الولد بعد ما بشّره الله تعالى به أكان عنده شكّ بعد بشارة الله تعالى في وجوده حتى طلب العلامة؟ قلنا: إنّما طلب العلامة على وجود الحمل ليبادر إلى الشكر ويتعجّل السرور فإن الحمل لا يظهر في أوّل العلوق بل بعد مدة، فأراد معرفته أوّل ما يوجد، فجعل الله آية وجود الحمل عجزه عن الكلام، وهو سويّ الجوارح ما به خرس ولا بكم. فإن قيل: لم قالت مريم، كما ورد في التنزيل: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) . وإنما يتعوّذ من الفاسق لا من التقيّ. قلنا: معناه إن كنت ممّن يتقي الله ويخشاه فانته عنّي بتعوّذي به منك فمعنى أعوذ أحصل على ثمره التعوّذ. وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما، أنه كان في زمانها رجل اسمه تقيّ، ولم يكن تقيّا بل كان فاجرا، فظنّته إيّاه فتعوّذت منه والقول الأول هو الذي عليه المحقّقون وقيل هو على المبالغة، معناه: إني أعوذ منك إن

كنت تقيّا فكيف يكون حالي في القرب منك إلى الله تعالى إذا لم تكن تقيّا؟ قالوا: ونظير هذا ما جاء في الخبر «نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه» معناه: أنه إذا كان بحال لو لم يخف الله تعالى لا يوجد منه عصيان، فكيف يكون حاله إذا خاف الله تعالى. وفي قراءة أبي رجاء وابن مسعود (إلا أن تكون تقيّا) . فإن قيل: اتّفق العلماء على أن الوحي لم ينزل على امرأة ولم يرسل جبريل (ع) برسالة إلى امرأة قطّ، ولهذا قالوا في قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: 7] أنه كان وحي إلهام، وقيل وحي منام فلم قال تعالى فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا [الآية 17] وقال تعالى: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [الآية 19] ؟ قلنا: لا نسلّم أنّ الوحي لم ينزل على امرأة قط، فإنّ مقاتلا قال في قوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: 7] أنّه كان وحيا بواسطة جبريل (ع) ، وإنّما المتفق عليه بين العلماء أنّ جبريل (ع) لم ينزل بوحي الرسالة على امرأة لا بمطلق الوحي. وهنا لم ينزل على مريم بوحي الرسالة بل بالبشارة بالولد، ولهذا جاء على صورة البشر فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) . فإن قيل: ما وجه قراءة الجمهور: لِأَهَبَ لَكِ [الآية 19] والواهب للولد الله تعالى لا جبريل (ع) ؟ قلنا: قال ابن الأنباري: معناه إنّما أنا رسول ربّك، بقوله لك أرسلت رسولي إليك لأهب لك، فيكون حكاية عن الله تعالى لا عن قول جبريل (ع) ، فيكون فعل الهبة مسندا إلى الله تعالى لا إليه. الثاني: أنّ معناه لأكون سببا في هبة الولد بواسطة النفخ في الدرع، فالإضافة إليه بواسطة السببيّة. فإن قيل: لم قالت كما ورد في القرآن: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) . ولم تقل بغيّة، مع أنه وصف مؤنث؟ قلنا: قال ابن الأنباري: لما كان هذا الوصف غالبا على النساء، وقلّما تقول العرب رجل بغي، لم يلحقوا به علامة التأنيث إجراء له مجرى حائض وعاقر وقال الأزهري: لا يقال رجل بغيّ، بل هو مختصّ بالمؤنّث، ولام الكلم ياء، يقال بغت تبغي وهو فعول عند المبرّد أصلها بغوي، قلبت الواو ياء وأدغمت، وكسرت الغين اتباعا، فهو

كصبور وشكور في عدم دخول التاء وقال ابن جنّي في كتابه التمام: هي فعيل، ولو كان فعولا لقيل بغو، كما قيل هو نهو عن المنكر، ثم قيل هي فعيل بمعنى فاعل، فهي كقوله تعالى إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) [الأعراف] وقال الأخفش: هي مثل «ملحفة جديد» ، فجعلها بمعنى مفعول. وقيل إنما لم يقل بغيّة مراعاة لبقية رؤوس الآيات. فإن قيل: ما كان حزن مريم في قوله تعالى: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) ألفقد الطعام والشراب حتى تسلّت بالسّريّ والرّطب، أم كان لخوف أن يتهمها قومها بفعل الفاحشة؟ قلنا: كان حزنها لمجموع الأمرين، وهو ما ذكرتم، وجدب مكانها الذي ولدت فيه، فإنه لم يكن فيه طعام ولا شراب ولا ماء تتطهّر به وكان إجراء النهر في المكان اليابس الذي لم يعهد فيه ماء، وإخراج الرطب من الشجرة اليابسة دافع لجهتي الحزن. أما دفع الجدب فظاهر، وأما دفع حزن التهمة، فمن حيث أنهما معجزتان تدلان قومها على عصمتها وبراءتها من السوء، وأن الله تعالى قد خصّها بأمور إلهية خارجة عن العادة، خارقة لها فتبيّن لهم أنّ ولادتها من غير فحل ليس ببدع من شأنها، ولا بعيد في قدرة الله تعالى، المخرج في لحظة واحدة، الرّطب الجني من النخلة اليابسة، والمجري للماء بغتة، في مكان لم يعهد فيه. فإن قيل: لم أمرها جبريل (ع) إذا رأت إنسانا أن تكلمه بعد النذر بالسكوت، في قوله تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) وذلك خلف في النذر؟ قلنا: إنّما أمرها بذلك لأنه تمام نذرها، فإنها لم تكن مأمورة بنذر مطلق السكوت حتى يتدرّج فيه الكفّ عن الذكر والتسبيح والدعاء ونحوها، بل بنذر السكوت عن تكليم الإنس، وإذا كان تمام نذرها كما ورد في قوله تعالى: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) لا تكون مكلمة لإنسي بعد تمام النذر. فإن قيل: لم قال تعالى فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) وكل أحد كان في المهد صبيا؟ قلنا: كان هنا زائدة، وصبيا منصوب

على الحال لا على أنه خبر كان، تقديره: كيف نكلم من في المهد في حال صباه. وقيل كان بمعنى وقع ووجد وصبيّا منصوب على الوجه الذي مرّ. فإن قيل، خطاب التكليف في جميع الشرائع إنّما يكون بعد البلوغ أو بعد التمييز والقدرة على فعل المأمور به، وعيسى عليه السلام كان رضيعا في المهد، فكيف خوطب بالصّلاة والزّكاة، في قوله تعالى: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) . قلنا: تأخير الخطاب إلى غاية البلوغ وغيرها، إنما كان ليحصل العقل والتمييز، وعيسى (ع) كان واحد العقل والتمييز التام في تلك الحالة، فتوجه نحوه الخطاب أن يفعلهما إذا قدر على ذلك، ولهذا قيل إنه أعطي النبوة في صباه أيضا. فإن قيل الزّكاة إنّما تجب على الأغنياء، وعيسى عليه السلام لم يزل فقيرا لابس كساء مدة مقامه في الأرض، وعلم الله تعالى ذلك من حاله، فلم أوصاه بالزّكاة؟ قلنا: المراد بالزكاة هنا تزكية النفس وتطهيرها من المعاصي، لا زكاة المال. فإن قيل: لم جاء السلام في قصّة يحيى عليه السلام منكّرا، وفي قصة عيسى عليه السلام معرّفا؟ قلنا: قد قيل إنّ النكرة والمعرفة في مثل هذا سواء لا فرق، بينهما في المعنى. الثاني: أنه سبق ذكره في قصة يحيى عليه السلام مرّة، فلما أعيد ذكره أعيد معرفة، كقوله تعالى كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزّمّل] كأنّ ذلك السلام الموجّه إلى يحيى عليه السلام، في المواطن الثلاثة، موجّه إلى عيسى عليه الصلاة والسلام. فإن قيل: كيف تكون الألف واللام في السلام للعهد، والأول سلام من الله تعالى على يحيى (ع) ، والثاني سلام من عيسى على نفسه؟ قلنا التعريف راجع إلى ماهيّة السلام ومواطنه، لا إلى كونه واردا من عند الله تعالى. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى وَاذْكُرْ

فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ [الآية 41] وما أشبهه. ومثل هذا، إنّما يستعمل إذا كان المأمور مختارا في الذكر وعدمه كما تقول لصاحبك وهو يكتب كتابا: اذكرني في الكتاب، أو اذكر فلانا في الكتاب والنبيّ (ص) ما كان على سبيل من الزيادة والنقصان في الكتابة، ليوصي بمثل ذلك؟ قلنا: هذا على طريق التأكيد في الأمر بالإبلاغ، كتأكيد الملك على رسوله بإعادة بعض فصول الرسالة وتخصيصها بالأمر بالإبلاغ. فإن قيل: الاستغفار للكافر لا يجوز، فلم وعد إبراهيم أباه بالاستغفار له، في قوله تعالى: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [الآية 47] مع أنه كافر؟ قلنا معناه: سأسأل الله تعالى لك توبة تنال بها مغفرته، يعني الإسلام والاستغفار للكافر بهذا الطريق جائز، وهو أن يقال: اللهم وفّقه للإسلام، أو: اللهم تب عليه واهده وأرشده، وما أشبه ذلك. الثاني: أنه وعده ذلك، بناء على أنه يسلم فيستغفر له بعد الإسلام. الثالث: أنه وعده ذلك قبل تحريم الاستغفار للكافر فإنّ تحريم ذلك قضيّة شرعيّة، إنّما تعرف بالسمع، لا عقلية، فإن العقل لا يمنع ذلك. فإن قيل: الطّور، وهو الجبل ليس له يمين ولا شمال، فلم قال تعالى: مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [الآية 52] . قلنا: خاطب الله تعالى العرب، بما هو معروف في استعمالهم، فإنهم يقولون عن يمين القبلة وشمالها، يعنون ما يلي يمين المستقبل لها وشماله، لأنّ القبلة لا يد لها لتكون لها يمين وشمال. وهذا اتساع منهم في الكلام لعدم اللّبس، فالمراد بالأيمن هنا، ما عن يمين موسى (ع) من الطّور. لأنّ النداء جاءه من قبل يمينه، هذا إن كان الأيمن ضد الأيسر من اليمين. وإن كان من اليمن، وهو البركة، من قولهم: يمن فلان قومه فهو يامن: أي كان مباركا عليهم، فلا إشكال، لأنه يصير معناه: من جانب الطّور المبارك. فإن قيل: لم قال تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وهارون كان أكبر من موسى (ع) فما معنى هبته له؟

قلنا: معناه أن الله سبحانه أنعم على موسى عليه الصلاة والسلام، بإجابة دعوته فيه، كما ورد في قوله تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) [طه] فكان الجواب: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص: 35] فالمراد إذا، بالهبة أنه سبحانه جعله عضدا له وناصرا ومعينا كذا فسّره ابن عبّاس رضي الله عنهما. فإن قيل: لم وصف الله تعالى النبيّين المذكورين في قوله أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ [الآية 58] بقوله تعالى إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) والمراد بآيات الرحمن القرآن، والقرآن لم يتل على أحد من الأنبياء المذكورين؟ قلنا آيات الرحمن غير مخصوصة بالقرآن، بل كل كتاب أنزله الله تعالى ففيه آياته ولو سلمنا أنّ المراد بها القرآن، فنقول: إن المراد بقوله تعالى: وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا [الآية 58] محمد (ص) وأمّته. فإن قيل: قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ يدل على أن ترك الصلاة وإضاعتها كفر، والإيمان شرط في توبة مضيعها؟ قلنا: قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: المراد بهؤلاء الخلف هنا اليهود تركوا الصلاة المفروضة، وشربوا الخمر، واستحلّوا نكاح الأخت من الأب. فان قيل: لم قال تعالى: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) ولم يقل آتيا، كما قال جلّ شأنه إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ [الأنعام: 134] . قلنا المراد بوعده تعالى، هنا، موعده وهو الجنة، وهي مأتية يأتيها أولياؤه. الثاني: أن مفعولا هنا بمعنى فاعل، كما في قوله تعالى: حِجاباً مَسْتُوراً (45) [الإسراء] أي ساترا. فإن قيل: قوله تعالى تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) ، وقوله تعالى وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) [آل عمران] يدلّان من حيث المفهوم، على أنّ غير المتقين لا يدخلون الجنة؟ قلنا: المراد بالتقوى هنا التقوى من

الشرك، وكل المؤمنين في ذلك سواء. فإن قيل: ما معنى انفطار السماوات، وانشقاق الأرض، وخرور الجبال، من دعوتهم الولد لله تعالى ومن أين تؤثّر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلنا: معناه أنّ الله تعالى يقول، كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض والجبال، عند وجود هذه الكلمة غضبا على قائلها، لولا حلمي وإمهالي، وأن لا أعجّل العقوبة، كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: 41] يعني أن تخر على المشركين وتنشقّ الأرض بهم، ويدلّ على هذا، قوله تعالى في آخر الآية إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) [فاطر] . الثاني: أن يكون استعظاما لقبح هذه الكلمة، وتصويرا لأثرها في الدّين، من حيث هدم أركانه وقواعده وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات، أن يصيب هذه الأجسام العظيمة التي هي قوام العالم، ما تنفطر منه، وتنشق، وتخرّ. فإن قيل: لم قال تعالى، هنا في صفة الشرك: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) . وهذا يدل على قوّة كلمة الشرك وشدّتها، وقال تعالى في سورة إبراهيم، صلوات الله عليه في صفة كلمة الشرك وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) [ابراهيم] والمراد بالكلمة الخبيثة كلمة الشرك، كذا قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما وبالشجرة الخبيثة شجرة الحنظل، كذا قاله رسول الله (ص) وهذا يدل على ضعف كلمة الشرك وتلاشيها واضمحلالها، فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا: وصفت كلمة الشرك في سورة إبراهيم (ع) بالضّعف، وهنا بالقبح، فهي في غاية الضّعف وفي غاية القبح والفظاعة، فلا تنافي بينهما. فإن قيل: لم قال تعالى لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) والإحصاء العدّ على ما نقله الجوهري، أو الحصر على ما نقله بعض أئمة التفسير، كما سبق ذكره في سورة إبراهيم، صلوات الله عليه، في قوله تعالى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [ابراهيم: 34] فإن كان الإحصاء العدّ فهو تكرار، وإن كان الحصر، فذكره مغن عن ذكر العدّ

لأنّ الحصر لا يكون إلّا بعد معرفة العدد؟ قلنا: الإحصاء قد جاء بمعنى العلم أيضا، ومنه قوله تعالى وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) [الجن] أي علم عدد كلّ شيء قال الشاعر: وكن للّذي لم تحصه متعلّما وأمّا الذي أحصيت منه فعلّم وهو المراد هنا فيصير المعنى لقد علمهم، أي علم أفعالهم وأقوالهم، وكل ما يتعلّق بذواتهم وصفاتهم وعددهم فلا تكرار، ولا استغناء عن ذكر العدّ.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"مريم"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «مريم» «1» قوله سبحانه: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [الآية 4] . وهذه من الاستعارات العجيبة. والمراد بذلك، التعبير عن تكاثر الشّيب في الرأس حتى يقهر بياضه، ويفصل سواده. وفي هذا الكلام دليل على سرعة تضاعف الشيب وتزيّده وتلاحق مدده، حتى يصير في الإسراع والانتشار كاشتعال النار، يعجز مطفيه، ويغلب متلافيه. وقوله سبحانه: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ [الآية 23] . وهذه استعارة، والمعنى: فجاء بها المخاض، إلى جذع النخلة، لتجعله سنادا لها، أو عمادا لظهرها. وهي التي لجأت إلى النخلة ولكن ضرب المخاض، لمّا كان سببا لذلك، حسن أن ينسب الفعل إليه في إلجائها، والمجيء بها. وقوله سبحانه: وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) . وهذه استعارة. والمراد بذكر اللسان هاهنا، والله أعلم، الثناء الجميل الباقي في أعقابهم، والخالف في آبائهم «2» والعرب تقول: جاءني لسان فلان،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق: محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . الباقي في آبائهم.

يريد مدحه أو ذمه. ولمّا كان مصدر المدح والذم عن اللّسان، عبروا عنهما باسم اللسان. وإنمّا قال سبحانه: لِسانَ صِدْقٍ (50) ، بإضافة اللّسان إلى أفضل حالاته، وأشرف متصرّفاته لأن أفضل أحوال اللّسان أن يخبر صدقا، أو يقول حقّا.

سورة طه 20

سورة طه 20

المبحث الأول أهداف سورة"طه"

المبحث الأول أهداف سورة «طه» «1» نزلت سورة طه بعد سورة مريم، ونزلت سورة مريم فيما بين الهجرة إلى الحبشة وحادثة الإسراء، فيكون نزول سورة طه في ذلك التاريخ أيضا. أي بعد السنة السابعة من البعثة وقبل السنة الحادية عشرة من البعثة. وفي المصاحف المطبوعة بالقاهرة، سورة طه مكّيّة إلّا الآيتين 130 و 131، فهما مدنيّتان وآياتها 135 آية نزلت بعد مريم. وقال الفيروزآبادي «السورة مكّيّة إجماعا، وكلماتها 1341 كلمة، ولها اسمان «طه» لافتتاح السورة بها، و «سورة موسى» لاشتمالها على قصّته مفصّلة. معنى طه قيل معناها يا رجل، وقيل معناها يا إنسان، وقال آخرون هي اسم من أسماء الله تعالى وقد أقسم سبحانه به، وقال آخرون هي حروف مقطّعة مكوّنة من الطاء والهاء يدل كلّ حرف منها على معنى. واختلفوا في ذلك المعنى اختلافهم في المص. وقد ذكرنا ذلك في التعريف بسورة الأعراف، قال ابن جرير الطبري «والذي هو أولى بالصواب عندي من الأقوال فيه قول من قال: معناها: يا رجل، لأنها كلمة معروفة في عك، فيما بلغني، وأنّ معناها يا رجل» . «وقيل أصله طأها، على أنه أمر لرسول الله (ص) بأن يطأ الأرض

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

أهداف السورة من أهداف سورة طه:

بقدميه، فإنه كان يقوم الليل، حتّى ورمت قدماه من طول القيام. وقد أبدلت الألف من الهمزة، والهاء كناية عن الأرض» . والمعنى طأ الأرض بقدميك يا محمد، وهوّن على نفسك في القيام، وارأف بنفسك ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به تعبا، بل لتسعد به، وتذكّر به الناس. أهداف السورة من أهداف سورة طه: تيسير الأمر على رسول الله (ص) وبيان فضل الله الواسع على رسله وأصفيائه وبيان وظيفة الرسول، وحصرها في الدعوة والتذكرة والتبشير والإنذار تم ترك أمر الخلق بعد ذلك الى الله الواحد الذي لا إله غيره، المهيمن على ظاهر الكون وباطنه، الخبير بظواهر القلوب وخوافيها، الذي تعنو له الجباه، ويرجع إليه الناس: طائعهم وعاصيهم. ثم تعرض السورة قصة موسى (ع) ، من حلقة الرسالة إلى حلقة اتّخاذ بني إسرائيل للعجل بعد خروجهم من مصر مفصّلة مطوّلة، وبخاصة موقف المناجاة بين الله سبحانه وكليمه موسى، وموقف الجدل بين موسى وفرعون وموقف المباراة بين موسى والسحرة. وتتجلّى في غضون القصّة، رعاية الله لموسى، الذي صنعه على عينه واصطنعه لنفسه وقال له ولأخيه: قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) . ثم تعرض السورة قصة آدم (ع) سريعة قصيرة تبرز فيها رحمة الله لآدم بعد خطيئته، وهدايته له، وترك البشر من أبنائه لما يختارون من هدى أو ضلال بعد التذكير والإنذار. وتحيط بقصة آدم مشاهد القيامة، وإنما هي تكملة لما كان أول الأمر في الملأ الأعلى من خلق آدم حيث يعود الطائعون من ذريته إلى الجنّة، ويذهب العصاة من ذريته إلى النار، تصديقا لما قيل لأبيهم آدم، وهو يهبط إلى الأرض بعد خروجه من الجنة. ونلحظ أن السياق يمضي في هذه السورة في شوطين اثنين:

قصة موسى (ع) في القرآن

الشوط الأول: يتضمّن مطلع السورة بالخطاب إلى الرسول (ص) . طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) . ثم تتبعه قصّة موسى نموذجا كاملا لرعاية الله سبحانه لمن يختارهم لإبلاغ دعوته، فلا يشقون بها وهم في رعايته. والشوط الثاني: يتضمّن مشاهد القيامة، وقصّة آدم، وهما يسيران في اتجاه مطلع السورة، وقصّة موسى. ثم ختام السورة بما يشبه مطلعها، ويتناسق معه ومع جو السّورة. وللسّورة ظلّ خاصّ، يغمر جوّها كلّه. ظلّ علويّ جليل تخشع له القلوب، وتسكن له النفوس، وتعنو له الجباه. إنّه الظلّ الذي يخلعه تجلّي الرحمن على عبده موسى بالوادي المقدّس، في تلك المناجاة الطويلة، والليل ساكن وموسى وحيد، والوجود كلّه يتجاوب بذلك النّجاء الطويل. وهو الظلّ الذي يخلعه تجلّي القيّوم في موقف الحشر العظيم: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (108) . وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [الآية 111] . وإيقاع السورة كلّها يستطرد في مثل هذا الجو من مطلعها إلى ختامها، رخيّا شجيّا نديّا، بذلك المدّ الذاهب مع الألف المقصورة، في أواخر الفواصل كلّها تقريبا. قصة موسى (ع) في القرآن بدأت سورة طه بمقدّمة مؤثّرة عن القرآن، وعن صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى. ثم قصّ الله على رسوله حديث موسى، نموذجا لرعايته للمختارين لحمل دعوته. وقصّة موسى، هي أكثر القصص ورودا في القرآن. وهي تعرض في حلقات تناسب السّورة التي تعرض فيها وجوّها وظلّها. وقد وردت حلقات منها حتى الآن في سورة البقرة، وسورة المائدة، وسورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة الإسراء، وسورة الكهف، وذلك غير الإشارات إليها في سور أخرى. وما جاء منها في المائدة كان حلقة واحدة: حلقة وقوف بني إسرائيل أمام

قصة موسى في سورة طه

الأرض المقدّسة، لا يدخلون فيها لأنّ فيها قوما جبّارين. وفي سورة الكهف كانت كذلك حلقة واحدة: حلقة لقاء موسى للعبد الصالح، وصحبته فترة. وقد سبق الحديث عنها في سورة الكهف، بعنوان قصّة موسى والخضر. فأمّا في «البقرة» و «الأعراف» و «يونس» ، وفي هذه السورة، سورة طه، فقد وردت منها حلقات كثيرة، ولكن هذه الحلقات تختلف في سورة عنها في الأخرى. تختلف الحلقات المعروضة، كما يختلف الجانب الذي تعرض منه، تنسيقا له مع اتجاه السورة التي يعرض فيها. في «البقرة» ، سبقتها قصّة آدم (ع) وخلقه وتكريمه في الملأ الأعلى. فجاءت قصّة موسى وبني إسرائيل تذكيرا لبني إسرائيل بنعمة الله عليهم وعهده إليهم وإنجائهم من فرعون وملئه، واستسقائهم وتفجير الينابيع لهم، وإطعامهم المن والسلوى. وذكرت عدوانهم في السبت، وقصّة البقرة، وفي «الأعراف» سبقها الإنذار وعواقب المكذّبين بالآيات قبل موسى عليه السلام، فجاءت قصّة موسى تعرض ابتداء من حلقة الرسالة، وتعرض فيها آيات العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع، وتعرض حلقة السحرة بالتفصيل، وخاتمة فرعون وملئه المكذّبين وفي يونس، سبقها عرض مصارع المكذبين ثم عرض منها حلقات ثلاث: حلقة الرسالة وحلقة السحرة وحلقة غرق فرعون. أما هنا، في سورة طه، فقد كان مطلع السورة يشفّ عن رحمة الله ورعايته لمن يصطفيهم لحمل رسالته وتبليغ دعوته فجاءت القصّة مظلّلة بهذا الظلّ، تبدأ بمشهد المناجاة، وتتضمّن نماذج من رعاية الله لموسى في طفولته وشبابه ورجولته وتثبيته وتأييده وحراسته وتعهده. قصة موسى في سورة طه ولد موسى في مصر، ونما وترعرع في بيت فرعون، ثم قتل رجلا من طريق الخطأ، فخرج هاربا إلى أرض مدين وهناك تزوج بنت نبيّ الله شعيب (ع) ، ومكث في أرض مدين عشر سنين، ثمّ عاد بأهله إلى مصر.

وفي الطريق أدركته عناية الله ومنّ الله عليه بالرسالة والعناية. وناداه: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) . وهذا الوحي يتعلّق بثلاثة أمور مترابطة: الاعتقاد بالوحدانيّة والتوجّه بالعبادة والإيمان بالسّاعة وهي أسس رسالة الله الواحدة. ومن نداء الله لموسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) . وخص الله موسى بمعجزات ظاهرة، وآيات باهرة. أمره أن يلقي عصاه فألقاها، فإذا هي حية تسعى ثم نمّت وعظمت حتّى غدت في جلادة الثّعبان، وضخامة الجانّ. لمحها موسى، فاشتد خوفه، فناداه الله: قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) ثم أدخل موسى يده تحت إبطه، فخرجت بيضاء بياضا يغلب نور الشمس، ليس فيها بهاق «1» أو برص «2» أو مرض وتمّت لموسى معجزتان هما اليد والعصا، فرأى آيات الله الكبرى. واطمأنّ للنهوض بالتّبعة العظمى. أمر الله موسى، أن يذهب إلى فرعون رسولا وداعيا إلى الهدى، ومبشّرا بالجنة، لمن أطاع الله، وبالنار لمن عصاه. فطلب موسى من ربه أن يشرح له صدره، وأن ييسّر له أمره، وأن يحلّ حبسة في لسانه ليفقه الناس قوله، وأن يمنّ الله عليه بمعين من أهله، هو أخوه هارون. واستجاب الله دعاء موسى وحباه بفضل زائد، وذكّره بإفضاله عليه صغيرا وناشئا، حيث نجّاه عند ما قتل قتيلا خطأ، وألقى عليه المحبّة، وربّاه برعايته، وصنعه بعين عنايته. قال سبحانه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) .

_ (1) . البهاق: مرض يذهب بلون الجلد، فتقع فيه بقع بيض. (2) . البرص: بياض يقع في الجسد، لعلّة.

أدلة موسى (ع) على وجود الله تعالى

وكانت عناية الله معه في شبابه حين نجّاه من كيد أتباع فرعون، وكانت عناية الله معه في رحلته إلى أرض مدين، ثم في عودته إلى أرض مصر، على موعد وتدبير إلهي. قال تعالى: وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) . وكلّف الله موسى أن يذهب مع أخيه هارون إلى فرعون، بعد أن طغى فرعون وتجبّر، ليقولا له قولا ليّنا، لا يهيّج الكبرياء الزائف ولا يثير العزّة بالإثم لعلّ قلبه، أن يتّعظ أو يتذكّر. أدلّة موسى (ع) على وجود الله تعالى توجه موسى وهارون إلى فرعون ليبلغاه رسالة الله رب العالمين، فقال فرعون، كما ورد في التنزيل: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) . فأجاب موسى، كما ورد في التنزيل أيضا: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) . وهي إجابة تلخّص أكمل آثار الألوهيّة الخالقة المدبّرة لهذا الوجود: هبة الوجود لكل موجود، وهبة خلقه على الصورة التي خلق بها، وهبة هدايته للوظيفة التي خلق لها. وثنّى قرون بسؤال آخر: قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) . ما شأن القرون التي مضت من النّاس؟ أين ذهبت؟ ومن كان ربّها؟ وما يكون شأنها، وقد هلكت لا تعرف إلهها هذا؟ وأجاب موسى: إنّ علمها عند الله الذي لا تخفى عليه خافية، وقد سجل عملها في كتاب، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها. وقد تفضّل الله على الناس بالنعم المتعدّدة فمهّد لهم الأرض، وذلّل سبلها، وأنزل الماء من السماء، فأجرى به نهر النيل وغيره من الأنهار، ليخرج الماء أزواجا متعدّدة من النباتات، يستفيد منها الإنسان والحيوان. وقد خلق الإنسان من الأرض، ثم رزق من نباتها ومائها، ثم يعود إليها، ثم يبعث منها يوم القيامة.

موسى والسحرة

عرض موسى هذه الآيات الكونية أمام فرعون، وأراه المعجزات الظاهرة الملموسة، من اليد والعصا. ولكنّ فرعون قابل هذه المعجزات الواضحة، والحجج البالغة، بالجحود والكنود «1» وأخذ فرعون يكيل التهم لموسى، ويسفّه دعوته، ويصفه بالطمع في الملك، ويصف معجزاته بأنها سحر ظاهر مبين. موسى والسحرة توعّد فرعون موسى بأن يجمع له السحرة من كلّ مكان، ليبطلوا سحره ويظهروا عجزه. وقبل موسى التحدّي، وحدّد يوم العيد واجتماع الناس في زينتها الجديدة موعدا للمبارزة، حتّى يشيع الحق ويظهر ظهور الشمس. وجمع السحرة في يوم العيد، ولم يتخلّف واحد منهم فإذا بهم آلاف، مع كل واحد منهم حبل وعصا، وخيّروا موسى: قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) . فترك لهم موسى فرصة البدء، واستبقى لنفسه الكلمة الأخيرة. فتقدّم السحرة وألقوا ما في أيديهم من حبال فتحركت الحبال وماجت بها الساحة، وسحرت عيون المشاهدين، وملأتهم بالرهبة والإجلال لهذا العمل العظيم. وخشي موسى أن يخدع الناس عن الحق، وأدركه خوف الداعية على دعوته، فذكّره الله سبحانه، بأنه معه، وبأنه على الحق وعدوّه على الباطل، وبأنه رسول مؤيّد بالمعجزة وعدوّه ساحر، مضلّل مخادع: قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) . وألقى موسى عصاه، فابتلعت أعمال السحرة في سرعة مذهلة، وأدرك السّحرة أنّ عمل موسى ليس سحرا، ولكنه معجزة وبرهان من الله على صدق رسالته فإذا بهم يخرّون لله ساجدين توبة عما صنعوا، وخشوعا لهيبة الحقّ، وإكبارا لذلك الأمر الخطير، وإيمانا بالله ربّ العالمين. وعندئذ غلت مراجل الحقد

_ (1) . الكنود: كفر النغمة وجحدها. [.....]

غرق فرعون ونجاة موسى

والحفيظة في صدر فرعون، ولام السحرة على إيمانهم بموسى، قبل أن يأذن لهم. وقال: إنه أستاذكم وكبيركم الذي علّمكم السحر، فاتّفقتم معه على فعلكم ومؤامرتكم: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) . ولكن ذلك جاء بعد فوات الأوان. بعد أن تخلل صدورهم نور الإيمان، فوصلهم بخالقهم فزهدوا في عرض الدنيا وسلطانها، وتطلّعت قلوبهم إلى مرضاة الله، وفضّلوا ثواب الاخرة على كل ما عداه: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) . غرق فرعون ونجاة موسى استمرّ موسى في أداء رسالته وقيامه بواجب دعوته، وقد اشتد إيذاء فرعون وأتباعه للمؤمنين، فاستغاثوا بموسى، فخرج موسى بهم ليلا إلى الأرض المقدّسة، وقد سهّل الله إليها طريقهم، واعترض البحر سبيلهم، فاستغاثوا بموسى قائلين: البحر أمامنا وفرعون وراءنا. فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضربه بعصاه، فتولّت قدرة الله أن تيسّر لهم في البحر اثني عشر طريقا يابسا ممهّدا للسير، فسار كل فريق في طريق، وحفظتهم عناية الله من فرعون وحينما حاول فرعون اللحاق بهم، أطبقت عليه وعلى جنوده مياه البحر، وأدركهم الغرق والهلاك. ونجّى الله المؤمنين، وأذلّ الكافرين. وجعل من ذلك عظة وعبرة لمن اعتبر، فمن آمن بالله وجاهد في سبيله كان في كنف الله ورعايته، ومن كفر بآيات الله وخرج عن طريق هدايته أعد الله له العذاب والنّكال. ونظر بنو إسرائيل في دهشة إلى مصرع الجبابرة العتاة، ثم نجّى الله فرعون ببدنه، ليكون آية لمن خلفه، ودليلا على أنّ الله يملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته. موسى والسامري ترك موسى قومه وذهب لميعاد ربّه عجلا مشتاقا لمناجاته، وانتهز السامريّ الفرصة، فصنع لبني إسرائيل عجلا من

مشاهد القيامة وختام السورة

الذهب، بطريقة فنية، تجعل الريح تمرّ فيه، فتحدث صوتا وخوارا. وقال لهم: إنّ موسى لن يعود إليكم. لقد ذهب لمقابلة ربّه فضلّ الطريق إليه، وهذا هو إلهكم وإله موسى. وفتن بنو إسرائيل بعبادة العجل، فقد ألفوا الذل وطاعة فرعون. وعاد موسى غضبان أسفا يلوم هارون على تباطئه عن إخماد هذه الفتنة، فاعتذر له بأنه صبر حتّى يعود، فيلتئم الشمل وتعود الوحدة إلى الجماعة. وتوعّد موسى السامريّ بالعذاب والنّكال، وأمر بطرده من محلّة بني إسرائيل. فخرج طريدا هو وأهله إلى البراري، ثم أتى موسى بالعجل فحرقه بالنار، ونسف رماده في اليمّ، ليبيّن لقومه أنّ مثل هذا لا يصح أن يتّخذ إلها: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) . مشاهد القيامة وختام السورة بدأت سورة طه بمقدّمة في بيان جلال الله وقدرته وعلمه الواسع في الآيات 1- 8. ثمّ تحدّثت عن رسالة موسى وجهاده في مصر، وجهوده مع بني إسرائيل في الآيات 9- 98. وبعد قصة موسى تجيء الآيات 99- 114 تعقيبا على هذه القصّة ببيان فضل القرآن، وعاقبة من يعرض عنه وترسم الآيات هذه العاقبة في مشهد من مشاهد القيامة، تتضاءل فيه أيام الحياة الدنيا، وتتكشّف الأرض من جبالها وتعرى، وتخشع الأصوات للرحمن، وتعنو الوجوه للحيّ القيّوم لعلّ هذا المشهد وما في القرآن من وعيد يثير مشاعر التقوى في النفوس، ويذكّرها بالله ويصلها به. وينتهي هذا المقطع، بإراحة بال الرسول (ص) من القلق من ناحية القرآن الذي ينزل عليه، فلا يعجل في ترديده خوف أن ينساه، ولا يشقى بذلك فالله ميسّره وحافظه، وإنّما يطلب من ربّه أن يزيده علما. وفي مناسبة حرص الرسول (ص) على أن يردّد ما يوحى إليه قبل انتهاء الوحي خشية النسيان، تعرض الآيات 115- 123 نسيان آدم لعهد الله وتنتهي بإعلان العداوة بينه وبين

إبليس، وعاقبة من يتذكّرون عهد الله ومن يعرضون عنه من ولد آدم. وترسم الآيات هذه العاقبة في مشهد من مشاهد القيامة، كأنّما هو نهاية الرحلة التي بدأت في الملأ الأعلى، ثم تنتهي إلى هناك مرّة أخرى ... وفي ختام السورة تسلية للرسول (ص) عن إعراض المعرضين وتكذيب المكذّبين فلا يشقى بهم، فلهم أجل معلوم. ولا يحفل بما أوتوه من متاع في الحياة الدنيا فهو فتنة لهم، وينصرف إلى عبادة الله وذكره فترضى نفسه وتطمئنّ، ولقد هلكت القرون من قبلهم، وشاء الله سبحانه أن يعذر إليهم بالرسول الأخير، ليعلن إليهم: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) . وبذلك تختم السورة التي حددت وظيفة القرآن في بدايتها: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) . وأكّدت هذه الوظيفة في نهايتها، فهي التذكرة الأخيرة لمن تنفعه التذكرة وليس بعد البلاغ إلّا انتظار العاقبة، والعاقبة بيد الله. وقد كانت قصة موسى ونهاية فرعون، خلال السورة، تحقيقا لهذا المعنى وتأكيدا لفوز المؤمنين ومصرع المكذّبين وبذلك يتناسق المطلع والختام، وتكون السورة أشبه بموضوع، له مقدّمة، ثمّ قصّة تؤيّد المقدّمة، ثم خاتمة تؤكّد الموضوع. وظهر أنّ بين أجزاء السورة وحدة فكرية خلاصتها: شمول فضل الله ورحمته وعطفه، لأحبابه المؤمنين، وإيقاع نقمته وعذابه بالكافرين والمكذّبين.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"طه"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «طه» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة طه بعد سورة مريم، ونزلت سورة مريم فيما بين الهجرة إلى الحبشة وحادثة الإسراء فيكون نزول سورة طه في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لابتدائها به، وتبلغ آياتها خمسا وثلاثين ومائة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة، حثّ النبي (ص) على الصبر على ما يلقاه من إعراض قومه عن دعوته ولهذا افتتحت بأنه لم ينزل عليه القرآن ليشقى إذا لم يؤمنوا به، لأنه ليس عليه إلا أن يذكّر به من يخشى، فإذا لم يؤمنوا به فلا شيء عليه من عدم إيمانهم ثم قصّ عليه بعد هذا قصّة موسى من أوّلها إلى آخرها، ليتأسّى بما كان من ثباته أمام فرعون، ومن صبره على عناد بني إسرائيل ثمّ قصّ عليه بعدها قصّة آدم، ليحذّره ممّا وقع فيه بسبب التعجّل، وعدم الصبر على الابتلاء والاختبار ثم ختمت السورة بحثّ النبيّ (ص) على الصبر كما افتتحت به. وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة مريم، لأنّها تشبهها في غلبة الأسلوب القصصي عليها. فهي تعدّ من هذه الناحية كأنها تكميل لها ولسورة الكهف، وتقرير لما ورد في آخر سورة

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

الحث على الصبر [الآيات 1 - 8]

الكهف، من أن كلمات الله في ذلك لا نفاد لها. الحث على الصبر [الآيات 1- 8] قال الله تعالى: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) فذكر سبحانه أنه لم ينزل عليه القرآن ليشقى إذا كفروا به أسفا على كفرهم، لأنه لم ينزله عليه إلّا ليذكّر به من يخشى عقابه، فهو الذي يرجى إيمانه به ثم نوّه بشأن هذا القرآن الذي يعرضون عنه، فذكر أنه تنزيل ممّن خلق السماوات والأرض، إلى غير هذا من صفات العظمة التي ذكرها، وختمها تعالى بقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) . قصة موسى الآيات [9- 114] ثم قال تعالى وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) فذكر قصّة موسى حين رجع من مدين إلى مصر، وأنه رأى نارا فذهب إليها، وهناك ناداه ربّه أنه اختاره لرسالته، وأنه أعطاه آيتين: آية عصاه يلقيها فتكون حيّة تسعى، وآية يده يضمّها إلى جناحه فتخرج بيضاء من غير سوء. ثم أمره أن يذهب إلى فرعون، لأنه طغى وادّعى الألوهية فقبل الرسالة، ودعا الله أن يشرح له صدره حتى لا يضيق بما يلاقيه في تلك الدعوة، وأن يشرك معه أخاه هارون، فأجابه سبحانه إلى طلبه ثم أمرهما أن يذهبا إلى فرعون، وأن يقولا لا قولا ليّنا، لعلّه يتذكّر أو يخشى. فلمّا أتياه، قالا له إنّا رسولا ربّك إليك، وطلبا منه أن يرسل معهما بني إسرائيل، ويكفّ عن عذابهم، وأخبراه بأنّهما قد جاءاه بآية من ربّه، تدلّ على صدقهما. ثم ذكر سبحانه أن فرعون سأل موسى عن ربّه، فأجابه بأنّه جلّ جلاله هو الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى، وأنه سأله عن حال القرون الأولى كيف يحيط بها علمه مع تمادي كثرتها، فأجابه بأن كل ما سلف مثبت عنده في كتاب فلا يضل عنه ولا ينساه. ثم ذكر تعالى أن موسى أرى فرعون الآيتين السابقتين فكذّب وأبى، وزعم أنهما سحر يريد موسى أن يخرج به فرعون وقومه من أرضهم، وأخبره بأنهم سيأتونه بسحر مثله وطلب منه أن يجعل بينهم وبينه موعدا يجتمعون فيه، فضرب لهم موسى يوم

الزينة موعدا، وهو يوم عيد لهم فجمع فرعون سحرته في هذا اليوم، وكانوا قد أتوا بحبال وعصيّ لطّخوها بالزّئبق، فألقوها في الشمس، فاضطربت واهتزّت، وخيّل إلى الناس أنها حيّات تسعى، فألقى موسى عصاه، فإذا هي أعظم من حيّاتهم، ثم أخذت تزداد عظما حتّى ملأت الوادي، وذهبت إلى حيّاتهم فأكلتها فعرف السّحرة أنّ هذا ليس بسحر، وآمنوا بربّ موسى وهارون وقد هدّدهم فرعون بما تهدّدهم به، فلم يرجعوا عن إيمانهم. ثم ذكر سبحانه أنه أوحى الى موسى أن يسير ببني إسرائيل ليلا، وأنّ فرعون تبعهم بجنوده حينما علم بهربهم، وأنه جلّ وعلا، شق البحر لبني إسرائيل فاجتازوه، وأنّ فرعون أدركهم وهم يجتازونه، فتبعهم بجنوده فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) . ثم انتقل الكلام إلى ما كان بعد ذلك من بني إسرائيل، فذكر أنه أنجاهم من فرعون عدوّهم، إلى غير هذا ممّا ذكره من نعمه عليهم ثم أمرهم أن يأكلوا من طيّبات ما رزقهم، ونهاهم أن يطغوا فيه لئلا يحلّ غضبه عليهم، ثم ذكر ما كان من فتنتهم بعبادة العجل بعد ذهاب موسى لميعاد ربه، وأنّ موسى حينما رجع إليهم لامهم على ما كان منهم، فذكروا له أن السامريّ هو الذي أغواهم بعبادة العجل، إذ صنع لهم من حليّهم عجلا جسدا له خوار، وزعم لهم أنه إلههم وإله موسى، فافتتنوا بذلك وصدّقوه في زعمه ثم ذكر أن هارون نهاهم عن ذلك، فذكروا له أنهم سيقيمون عليه إلى أن يرجع موسى إليهم. وأن موسى لام هارون على أنه لم يقاتلهم هو ومن لم يعبد العجل، فأجابه بأنه خشي أن يفرّق بينهم بالقتال، فاكتفى بنصحهم ووعظهم ثم ذكر أن موسى سأل السامري بعد ذلك عمّا دعاه إلى فتنة قومه، فأخبره بأنه كان قد أخذ بعضا من سنّته ودينه، ثم بدا له فنبذها ودعا إلى تلك العبادة، فأمر موسى بطرده من خلّة بني إسرائيل، فخرج طريدا هو وأهله إلى البراري. ثم أتى بالعجل فحرقه بالنار ونسف رماده في اليمّ، ليبيّن لهم أن مثل هذا لا يصح أن يتّخذ إلها إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) .

قصة آدم الآيات [115 - 127]

ثم ذكر أنه يقصّ عليه ذلك ليكون عظة له ولقومه وأنه أنزل القرآن بمثل ذلك ليذكّرهم به، وانتقل السياق من ذلك إلى تهديد من يعرض عن سبيله تعالى بما هدّده به من العقاب الذي يثقل حمله عليهم، ومن حشرهم زرقا يوم ينفخ في الصّور، فيقومون من قبورهم، ويتساءلون بينهم عن مدة لبثهم قبل قيامهم، فيذكر بعضهم أنهم لم يلبثوا إلّا عشرة أيام ويذكر بعضهم أنهم لم يلبثوا إلّا يوما لأنّ شدة الأهوال، تنسيهم مدة لبثهم ثم ذكر أن الجبال تنسف بعد النفخ في الصّور، وأنّ الأرض تكون ملساء مستوية لا نبات فيها، وأنهم يدعون إلى الحشر فيسير الداعي بهم لا يعرّج هنا أو هناك، فإذا وقفوا للحساب خشعت الأصوات للرحمن، فلا يشفع عنده إلّا من أذن له ورضي قوله. ثم ذكر سبحانه أن وجوههم تعنو له جلّ جلاله وتخضع لحكمه، فيحرم من الثواب من حمل ظلما في الدنيا، وينال من عمل صالحا ثوابه، ولا يخاف ظلما ولا هضما، ثم ذكر أنه أنزل القرآن، وكرّر فيه هذا الوعيد، لعلهم يتّقون، أو يحدث لهم ذكرا: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) . قصة آدم الآيات [115- 127] ثم قال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) فذكر سبحانه أنه عهد إلى آدم في الجنّة ألا يأكل من الشجرة فضاق صدره بذلك التكليف، وضعف عن تحمّله، فعوقب على ذلك بالخروج من الجنّة، وقد أتى السياق بذلك من أول الأمر، ليدل على موضع العبرة من ذكر قصة آدم ثم ذكر تفصيل ذلك من أمر الملائكة بالسجود له جلّ جلاله، وأنهم أطاعوه فسجدوا إلّا إبليس أبى، إلى أن ذكر ما كان من أمر آدم وحوّاء بالهبوط من الجنّة، وعهده إليهما وإلى ذرّيتهما، أنه إذا أتاهم منه هدّى فمن اتّبعه فلا يضلّ ولا يشقى، ومن أعرض عنه فإنّه يقضي دنياه في ضنك وشدّة لأنّ الكفر لا اطمئنان معه، ثم يكون حاله في الاخرة أسوأ من الدنيا، ويحشر فيها أعمى فإذا سأل ربّه لم حشره أعمى وقد كان بصيرا، أجابه بأنه كذلك أتته آياته فنسيها وكذلك

الخاتمة الآيات (128 - 135)

اليوم ينسى: وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) . الخاتمة الآيات (128- 135) ثم قال تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) ، فحذّر كفار قريش أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم من الأمم الذين يمشون في مساكنهم، وذكر أنه لولا قضاء الله بأنه لا يهلكهم كما أهلك من كان قبلهم، لكان عذابه لزاما لهم، ثم أمر النبي (ص) بأن يصبر على تعنّتهم، وأن يستعين على هذا بالمثابرة على الصلوات في أوقاتها ونهاه أن يمدّ عينيه إلى ما متّع به بعضهم من زينة الدنيا، لأنّ ما عنده من الثواب خير وأبقى ثم ذكر أنّ من تعنّتهم، أنهم اقترحوا على النبيّ (ص) آية تدل على نبوّته، وأجابهم بأنهم قد أتاهم أخبار الأمم السابقة في الصحف الأولى، إذ طلبوا من الآيات مثل طلبهم ولم يؤمنوا بها، فأهلكهم الله وعجّل لهم عذابهم ولو أنه جلّ وعلا أهلكهم قبل أن يرسل إليهم رسلهم، ويجيبهم إلى ما اقترحوا من الآيات، لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"طه"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «طه» «1» أقول: روينا عن ابن عبّاس وجابر بن زيد، في ترتيب النزول: أن «طه» نزلت بعد سورة مريم، بعد ذكر سورة أصحاب الكهف. وذلك وحده كاف في مناسبة الوضع، مع التاخي بالافتتاح بالحروف المقطّعة. وظهر لي وجه آخر، وهو: أنه لمّا ذكرت في سورة مريم قصص الأنبياء، زكريا، ويحيى، وعيسى، مبسوطة، وقصّة ابراهيم، وهي بين البسط والإيجاز، وقصّة موسى، وهي موجزة بجملة «2» ، فقد أشير إلى بقية النبيّين إجمالا «3» . وذكر في هذه السورة شرح قصّة موسى، التي أجملت هناك، فاستوعبت غاية الاستيعاب وبسّطت أبلغ بسط «4» ثم أشير إلى تفصيل قصّة آدم، الذي وقع مجرد اسمه هناك، «5» ثم ورد في سورة «الأنبياء» بقيّة قصص من لم يذكر في مريم، كنوح، ولوط، وداود، وسليمان وأيوب وذي الكفل،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وردت قصّة موسى في ثلاث آيات قصار من «مريم» [51 و 52 و 53] . (3) . وذلك في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا [مريم: 58] . (4) . وذلك في قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إلى ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) (5) . وقع مجرد ذكر اسم آدم في «مريم» في قوله تعالى: مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ [مريم: 58] . وذكرت قصّته مفصّلة في «طه» من قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الآية 116] إلى قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الآية 123] .

وذي النون، وأشير إلى قصّة من ذكرت قصّته إشارة وجيزة، كموسى، وهارون، وإسماعيل، وزكريا، ومريم، لتكون السورتان كالمتقابلتين. وبسطت في سورة «الأنبياء» قصّة إبراهيم البسط التام فيما يتعلق به مع قومه، ولم تذكر حاله مع أبيه إلّا إشارة «1» . كما أنّه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة، ومع أبيه مبسوطا «2» . فانظر إلى عجيب هذا الأسلوب، وبديع هذا الترتيب.

_ (1) . قصة ابراهيم (ع) في الأنبياء وردت في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الأنبياء: 51] . الى: وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) [الأنبياء] . وكلّها في إبراهيم وقومه. أما عن إبراهيم وأبيه، فأشير إليها في قوله إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ [الأنبياء: 52] . (2) . وردت قصّة إبراهيم وأبيه في «مريم» من قوله تعالى: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ [مريم: 42] . الى سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) [مريم] . وجاءت الإشارة اليه مع قومه في قوله تعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم: 48] .

المبحث الرابع مكنونات سورة"طه"

المبحث الرابع مكنونات سورة «طه» «1» 1- فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ [الآية 40] قال قتادة: عشرا. أخرجه ابن أبي حاتم. 2- يَوْمُ الزِّينَةِ [الآية 59] . قال ابن عبّاس: هو يوم عاشوراء. أخرجه ابن أبي حاتم. 3- السَّامِرِيُّ [الآية 85] . اسمه: موسى بن ظفر. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. وأخرج عنه: أنه كان من أهل كرمان. ومن وجه آخر عنه: من أهل باجرقا «2» . وعن قتادة: كان من قرية اسمها سامرة. 4- مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [الآية 96] . هو جبريل، كما أخرجه ابن أبي حاتم، عن عليّ، وابن عبّاس، وغيرهما.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . ولعلها «باجرما» وهي قرية من أعمال البليخ قرب الرقة من أرض الجزيرة في شمال الشام، كما في «معجم البلدان» 1: 313. قال ابن كثير عن ابن عباس: وكان من قوم يعبدون البقر.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"طه"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «طه» «1» 1- وقال تعالى: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) . ووصف السماوات ب (العلى) دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها، في علوّها وبعد مرتقاها. أقول: وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) ، أي: العالية وهو من باب الوصف بالمصدر، ومعناه اسم الفاعل، كقولهم: شاهد عدل، والمعنى عادل أو ذو عدل. 2- وقال تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) . (الحسنى) : تأنيث الأحسن. أقول: وقد تحوّلت «الحسنى» إلى مصدر، كالتّقوى والبقيا والبلوى ونحو ذلك ومنه قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] . وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى [النحل: 62] . وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصّلت: 50] . وآيات أخرى، وكنا عرضنا إلى شيء من هذا في آية سابقة. 3- وقال تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) . وقوله تعالى: طُوىً (12) بالضم والكسر منصرف وغير منصرف بتأويل المكان والبقعة، وقيل: مرّتين نحو ثنّى، أي: نداءين، أو قدّس الوادي كرّة بعد كرّة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

4- وقال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [الآية 15] . أي: أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفائها، ولولا ما في الإخبار بإتيانها، مع تعمية وقتها من اللطف، لما أخبرت به. وقيل: معناه أكاد أخفيها من نفسي. 5- وقال تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) . وقوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) أي: لتربّى وتغذّى بمرأى منّي، أي يجري أمرك على ما أريد بك من الرفاهة في غذائك. والكلام على موسى (ع) . 6- وقال تعالى: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) . قرئ (سوى) بالكسر أيضا، وهو منوّن وغير منوّن ومعناه: منصفا بيننا وبينك عن مجاهد. وهو من الاستواء، لأنّ المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية، لا تفاوت فيها. وقيل معناه مكان عدل بيننا وبينك عن قتادة. وهذا من الكلم الذي لولا القرآن لكان من الضائع من مادة العربية القديمة. 7- وقال تعالى: قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [الآية 61] . وقوله تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ، أي: يستأصلكم بعذاب، عن قتادة والسدّيّ. وقيل: «يهلككم» عن ابن عبّاس، وغيره. أقول: وأصل السّحت: استقصاء الحلق، يقال سحت شعره إذا استأصله. وسحته الله وأسحته إذا استأصله وأهلكه. أقول أيضا: ومنه قول الفرزدق: وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلّا مسحتا أو مجلّف قال الزمخشري: والبيت لا تزال الرّكب تصطك في تسوية إعرابه. أقول: وليس من هذا كلمة «السّحت» التي وردت في القرآن في سورة المائدة في قوله تعالى:

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة: 42] . 8- وقال تعالى: فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) . وقوله تعالى: فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ، أي: أنّهم تشاوروا في السّرّ، وتجاذبوا أهداب القول. وهذا معنى جميل لكلمة «التنازع» . 9- وقال تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) . أقول: في الآية الكريمة ضرب من الإيجاز البليغ في قوله تعالى: ما غَشِيَهُمْ من باب الاختصار، وهذا من جوامع الكلم التي تستقلّ مع قلّتها بالمعاني الكثيرة. أي غشيهم ما لا يعلم كنهه إلّا الله. وإذا كانت البلاغة بالإيجاز، فإن ذلك واضح، كل الوضوح، في هذه الآية، التي جاء الإيجاز فيها مؤذنا بالكثير من المعاني، التي ينصرف إليها الذهن تصوّرا وتحقّقا. 10- وقال تعالى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [الآية 88] . وقوله تعالى: عِجْلًا جَسَداً أي: عجلا جسما. أقول: وهذا من باب الوصف بالاسم الجامد، على التأويل والمعنى: عجلا ذا جسد أو جسم، أو مجسّدا مجسّما كما نقول بلغة هذا العصر. 11- وقال تعالى: قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) . أقول: هذا شاهد في أنّ (لن) النافية الناصبة لا تقتضي التأبيد، ذلك أن عدم البراح موقوت بالمدة التي هي قبل رجوع موسى. وقد أردت التنبيه على هذه المسألة التي أشار إليها النّحاة، وأنكروا على الزمخشري في «مفصّله» أنها تفيد التأبيد، أقول: أردت التنبيه على هذه المسألة، لأوكّد ما درج عليه المعاصرون من استعمال هذه الأداة إرادة التأبيد، كقولهم: لم أقل هذا ولن أقوله. 12- وقال تعالى: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها [الآية 96] . قرأ الحسن: (قبضة) بضم القاف، وهي اسم المقبوض كالغرفة والمضغة. وأما (القبضة) بفتح القاف فهي المرّة من القبض، وإطلاقها على المقبوض من باب تسمية المفعول بالمصدر.

وقرئ أيضا: فقبصت قبصة بالصّاد المهملة. وقيل: من قرأ بالضاد فهو بجميع الكفّ، ومن قرأ بالصّاد فبأطراف الأصابع. أقول: ليس هذا التفريق وجيها، وذلك لأنه لم يؤيد في كلام العرب، وأرى أن الفعل بالضاد كالفعل بالصاد، وتلك مسألة تتصل ب «اللهجات» . ويؤيّد هذا ما ورد في الآية الكريمة: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] . وقرئت حضب بالضاد المعجمة، كما قرئت: حطب بالطاء. 13- وقال تعالى: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) . قوله تعالى: ظَلْتَ، والأصل «ظللت» ، فحذفت اللام الأولى، ونقلت حركتها إلى الظاء. أقول: أرى أن اللام قد حذفت، وليس من نقل للحركة، والحذف للتخفيف ليس غير. ولم نجد نظير هذا الحذف، في نظائر الفعل من المضاعف. وقوله تعالى: لَنَنْسِفَنَّهُ بمعنى لنذرّينّه. وفي عربيتنا المعاصرة، يقال: نسف البناء، أي أزاله وأفناه. 14- وقال تعالى: قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) . وقوله تعالى: أَلَّا تَتَّبِعَنِ بالنون المكسورة، وحقّها أن تكون «تتّبعني» بالياء. أقول: وحذف الياء، يعني قصر المدّ قليلا والاجتزاء عنه بالكسرة القصيرة، ليس مسألة من مسائل رسم المصحف، بل إنّ هذا الرسم الذي يباح فيه حذف ما لا يحذف، يؤدّي غرضا صوتيا يتّصل بحسن الأداء وذاك أن المدّ القصير، أي: الكسرة أنسب إلى المدّ القصير بعدها، أي: الفتحة في قوله تعالى: أَفَعَصَيْتَ، وهذا عند الوصل، الذي هو أولى في هذا الموضع الذي يباح فيه الوقف الجائز.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"طه"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «طه» «1» قال تعالى: طه (1) منهم من يزعم أنها حرفان مثل حم (1) ومنهم من يقول طه (1) يعني: يا رجل في بعض لغات العرب. وقوله تعالى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) بدل من قوله لِتَشْقى (2) أي «ما أنزلنا القرآن عليك إلّا تذكرة» «2» . وقال تعالى: تَنْزِيلًا [الآية 4] أي: أنزل الله ذلك تنزيلا. وقال تعالى: الرَّحْمنُ [الآية 5] أي: هو الرّحمن «3» . وقال سبحانه مَآرِبُ أُخْرى (18) [الآية 18] وواحدتها: «مأربة» . وقال: آيَةً أُخْرى (22) [الآية 22] أي: أخرج آية أخرى بجعله بدلا من قوله بَيْضاءَ «4» [الآية 22] . وقوله تعالى: وَلا تَنِيا [الآية 42] من «ونى» و «يني» «ونيا» و «ونيّا» . وفي قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [الآية 63] «إن» خفيفة في معنى ثقيلة، وهي لغة لقوم يرفعون ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التي تكون في معنى «ما» «5» ، ونقرأها ثقيلة،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في زاد المسير 5: 270. (3) . نقله في الجامع 11: 226. [.....] (4) . نقله في إعراب القرآن 2: 647 والجامع 11: 191. (5) . هي في السبعة 419 قراءة عاصم في رواية، وفي حجّة ابن خالويه 217 الى ابن كثير وحفص عن عاصم وفي الكشف 2: 99، والتيسير 151 الى ابن كثير وحفص، وفي الجامع 11: 126 زاد الزهري والخليل بن أحمد والمفضّل وأبان وابن محيصن، وزاد في البحر 6: 255 ابن سعيدان وأبا حياة، وأبا الحرية وحميد وابن سعدان.

وهي لغة لبني الحارث بن كعب «1» . وقوله تعالى الْمُثْلى (63) [الآية 63] تأنيث «الأمثل» «2» مثل: «القصوى» و «الأقصى» . وقال تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) [الآية 69] وتقول العرب: «جئتك من أين لا تعلم» و «من حيث لا تعلم» . وقال تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ [الآية 111] من: «عنت» «تعنو» «عنوّا» . وقال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً [الآية 129] كأنه يريد: ولولا أَجَلٌ مُسَمًّى [الآية 129] لكان لزاما. وقال تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) أي: والعاقبة لأهل التقوى. وقال تعالى: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) أي قدر. ولم يزل قادرا، ولكن أخبر بقدرته. وقال تعالى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ [الآية 44] نحو قول الرجل لصاحبه: «افرع لعلّنا نتغدّى» والمعنى: «لنتغدّى» و «حتّى نتغدّى» وتقول للرجل: «اعمل عملك لعلّك تأخذ أجرك» أي: لتأخذه «3» . وقال تعالى: أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) يريد: «أزواجا شتّى من نبات» أو يكون النبات هو شتى. كلّ ذلك مستقيم «4» . وقال تعالى: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا [الآية 72] يقول: «لن نؤثرك على الّذي فطرنا» . وقال تعالى: لا تَخافُ دَرَكاً [الآية 77] أي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً [الآية 77]

_ (1) . في الطبري 16: 180 الى عامة قراء الأمصار، وفي السبعة 419 الى نافع وابن عامر وحمزة والكسائي، الى عاصم في رواية، وفي حجة ابن خالويه 217 الى غير ابن كثير وحفص، وكذلك في التيسير 151، وفي الجامع 11: 216 الى المدنيين والكوفيين، وفي البحر 6: 255 الى أبي جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف في اختياره وأبي عبيد وأبي حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكي والأخوين والصاحبين من السبعة. (2) . نقله في التهذيب 15: 98 «مثل» . (3) . نقله في الأشموني 1: 280. (4) . نقله في الجامع 1: 209.

لا تَخافُ فيه دَرَكاً وحذف «فيه» كما تقول: «زيد أكرمت» تريد: «أكرمته» وكما قال وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: 48 و 123] أي لا تجزي فيه.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"طه"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «طه» «1» إن قيل: قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً. لم حكى الله تعالى قول موسى (ع) لأهله عند رؤية النار في هذه السورة، وفي سورة النمل وفي سورة القصص، بعبارات مختلفة، وهذه القضية لم تقع إلّا مرّة واحدة؟ قلنا: قد سبق في سورة الأعراف، في قصّة موسى (ع) مثل هذا السؤال والجواب المذكور، ثمّ هو الجواب هنا. فإن قيل: قوله تعالى: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها [الآية 16] ظاهر اللفظ نهي من لا يؤمن بالسّاعة عن صدّ موسى عن الإيمان بها. والمقصود هو نهي موسى عن التكذيب بها. فهل بوسعكم شرح ذلك؟. قلنا: معناه كن شديد الشكيمة في الدين، صليب المعجم «2» لئلّا يطمع في صدّك عن الايمان بها من لا يؤمن بها، وهذا كقولهم: لا أرينّك هاهنا معناه لا تدن مني ولا تقرب من حضرتي لئلّا أراك ففي الصورتين النهي متوجه إلى المسبّب، والمراد به النهي عن السبب، وهو القرب منه والجلوس بحضرته، فإنه سبب رؤيته، وكذلك لين موسى (ع) في الدين وسلاسة قياده سبب لصدّهم إيّاه. فإن قيل: ما الحكمة من السؤال في قوله تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. (2) . صليب المعجم والمعجمة: عزيز النفس إذا امتحن وجد عزيزا صلبا.

وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) ، وهو أعلم بما في يده جملة وتفصيلا؟ قلنا: الحكمة فيه، تأنيسه وتخفيف ما حصل عنده من دهشة الخطاب وهيبة الإجلال وقت التكلّم معه كما يرى أحدنا طفلا قد داخلته هيبة وإجلال وخوف، وفي يده فاكهة أو غيرها، فيلاطفه ويؤانسه، بقوله ما هذا الذي في يدك؟ مع أنه عالم به. الثاني: أنه تعالى أراد بذلك أن يقرّ موسى عليه السلام، ويعترف بكونها عصا، ويزداد علمه بكونها عصا رسوخا في قلبه، فلا يحوم حوله شكّ إذا قلبها ثعبانا أنها كانت عصا، ثمّ انقلبت ثعبانا، بقدرة الله تعالى. وأن يقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه فيتنبه على القدرة الباهرة. ونظيره أن يريك الحدّاد قطعة من حديد ويقول لك ما هذه؟ فتقول زبرة من حديد، ثم يريك بعد أيام درعا واسعة مسرودة ويقول: هذه تلك القطعة صيّرتها إلى ما تراه من عجيب الصنعة، وأنيق السرد. فإن قيل: قد ذكر الله تعالى عصا موسى (ع) بلفظ الحيّة والثعبان والجانّ وبين الثعبان والجانّ تناف، لأنّ الجانّ الحيّة الصغيرة كذا قاله ابن عرفة، والثعبان الحيّة العظيمة، كذا نقله الأزهري عن الزجّاج وقطرب. قلنا: أراد سبحانه أنها في صورة الثعبان العظيم، وخفّة الحيّة الصغيرة وحركتها ويؤيّد ذلك قوله جلّ وعلا: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ [النمل: 10] . الثاني أنها كانت في أوّل انقلابها تنقلب حيّة صغيرة صفراء دقيقة، ثمّ تتورّم ويتزايد جرمها حتّى تصير ثعبانا فأريد بالجانّ أوّل حالها، وبالثعبان مالها. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) وهذا لا بيان فيه، لأنّه مجمل؟ قلنا: الحكمة هي الإشارة إلى أنه ليس كل الأمور ممّا يوحى إلى النساء، كالنبوّة ونحوها، بل بعضها. الثاني: أنه للتأكيد، كقوله تعالى: فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) [النجم] كأنّه قال: إذ أوحينا إلى أمك إيحاء. الثالث: أنه أبهمه أوّلا للتفخيم والتعظيم، ثمّ بيّنه وأوضحه، بقوله تعالى: أَنِ اقْذِفِيهِ [الآية 39] . فإن قيل: لم قدّم هارون على موسى عليهما السلام، في قوله تعالى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70)

وهارون كان وزيرا لموسى (ع) وتبعا له قال الله تعالى: وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) [الفرقان] ؟ قلنا: إنّما قدّمه ليقع موسى مؤخّرا في اللفظ فيناسب الفواصل، أعني رؤوس الآيات. فإن قيل: ما المراد في قوله تعالى: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) ؟ قلنا: المراد: لا يموت فيها موتا يستريح به، ولا يحيا حياة تنفعه ويستلذّ بها. الثاني: أنّ المراد لا يموت فيها موتا متّصلا، ولا يحيا حياة متصلة بل كلّما مات من شدّة العذاب، أعيد حيّا ليذوق العذاب، هكذا سبعين مرة في مقدار كلّ يوم من أيام الدنيا. فإن قيل: الخوف والخشية واحد في اللغة، فلم قال تعالى: لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) . قلنا: معناه لا تخاف دركا: أي لحاقا من فرعون، ولا تخشى غرقا في البحر. كما تقول: لا تخاف زيدا ولا تخشى عمرا، ولو قلت ولا عمرا صحّ وكان أوجز ولكن إذا أعدت الفعل، كان آكد وأما في الآية فلما لم يكن مفعول الخشية مذكورا، وذكر الفعل ثانيا ليكون دليلا عليه، وخولف بين اللفظين رعاية للبلاغة. وقيل معناه لا تخاف دركا على نفسك، ولا تخشى دركا على قومك والأوّل عندي أرجح. فإن قيل: قوله تعالى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ [الآية 79] يغني عن قوله تعالى: وَما هَدى (79) ومفيد فوق فائدته فلم ذكر معه؟ قلنا: معناه: وما هداهم بعد ما أضلّهم، فإنّ المضلّ قد يهدي بعد إضلاله. الثاني: أنّ معناه: وأضلّ قومه وما هدى نفسه. الثالث: أن معناه: وأضلّ فرعون قومه عن الدّين، وما هداهم طريقا في البحر. الرابع: أنّ قوله تعالى: وَما هَدى (79) تهكّم به في قوله لقومه، كما ورد في التنزيل: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ (29) [غافر] . فإن قيل: لم قال الله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [الآية 80] أضاف المواعدة إليهم والمواعدة، إنّما كانت

لموسى (ع) ، واعده الله تعالى جانب الطّور الأيمن لإتيانه التوراة؟ قلنا: المواعدة، وإن كانت لموسى (ع) ، ولكنّها، لمّا كانت لإنزال كتاب بسبب بني إسرائيل، وفيه بيان شريعتهم وأحكامهم وصلاح معاشهم ومعادهم، أضيفت إليهم المواعدة بهذه الملابسة والاتصال. فإن قيل: قوله تعالى: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) سؤال عن سبب العجلة، فإن موسى (ع) لمّا واعده الله تعالى بإنزال التوراة عليه بجانب الطور الأيمن، وأراد الخروج إلى ميعاد ربّه اختار من قومه سبعين رجلا يصحبونه إلى ذلك المكان، ثمّ سبقهم شوقا إلى ربّه وأمرهم بلحاقه، فعوتب على ذلك، وكان الجواب المطابق أن يقول: طلبت زيادة رضاك أو الشوق إلى لقائك وتنجيز وعدك، فلم قدّم ما لا يطابق السؤال، وهو قوله تعالى: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي [الآية 84] ؟ قلنا: ما واجهه ربّه به تضمّن شيئين: إنكار العجلة في نفسها، والسؤال عن سببها فبدأ موسى (ع) بالاعتذار عمّا أنكره تعالى عليه، بأنه لم يوجد منه إلّا تقدّم يسير لا يعتدّ به في العادة، كما يتقدّم المقدّم جماعته وأتباعه ثم عقّب العذر بجواب السؤال عن السبب، بقوله كما ورد في التنزيل: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) . فإن قيل: أليس أنّ أئمّة اللغة قالوا: العوج بالكسر في المعاني، وبالفتح في الأعيان، ولهذا قال ثعلب: ونقول في الأمر والدين عوج، وفي العصا ونحوها عوج، كالجبال والأرض، فكيف صحّ فيها المكسور، في قوله تعالى: لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) ؟ قلنا: قال ابن السّكّيت: كل ما كان ممّا ينتصب كالحائط والعود، قيل فيه عوج بالفتح، والعوج بالكسر ما كان في أرض أو دين أو معاش، فعلى هذا لا إشكال. الثاني: أنه أريد به نفي الاعوجاج الذي يدرك بالقياس الهندسي ولا يدرك بحاسّة البصر، وذلك اعوجاج لاحق بالمعاني، فلذلك قال فيه عوج بالكسر ومما يوضح هذا أنك لو سوّيت قطعة أرض غاية التسوية، بمقتضى نظر العين، بموافقة جماعة من البصراء، واتفقتم على أنه لم يبق فيها عوج قط، ثم أمرت المهندس أن يعتبرها بالمقاييس

الهندسية، وجد فيها عوجا في غير موضع، ولكنه عوج لا يدرك بحاسة البصر، فنفى الله تعالى ذلك العوج لما لطف ودقّ عن الإدراك، فكان لدقّته وخفائه ملحقا بالمعاني. فإن قيل: إنّ الله تعالى أخبر أن آدم (ع) نسي عهد الله ووصيّته، وأكل من الشجرة، بقوله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ [الآية 115] وإذا كان فعل ذلك ناسيا، فكيف وصف بالعصيان والغواية، بقوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) فعاقبه عليه بأعظم أنواع العقوبة، وهو الإخراج من الجنّة؟ قلنا: النسيان هنا بمعنى الترك، كما في قوله تعالى: إِنَّا نَسِيناكُمْ [السجدة: 14] أي تركناكم في العذاب، وقوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] فمعناه أنه ترك عهد الله ووصيته، فكيف يكون من النسيان الذي هو ضد الذّكر وقد جرى بينه وبين إبليس من المجادلة والمناظرة في أكل الشجرة، فصول كثيرة ما ذكره تعالى في قوله: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) فكيف يبقى مع هذا نسيان؟ فإن قيل: لم قال الله تعالى: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) ولم يقل فتشقيا، والخطاب لآدم وحواء (ع) ؟ قلنا: لوجوه: أحدها أن الرجل قيّم أهله وأميرهم، فشقاؤه يتضمّن شقاءهم، كما أن معاداته تتضمن معاداتهم فاختصر الكلام بإسناد الشقاء إليه دونها، لمّا كان متضمّنا له. الثاني: أنه إنما أسند إليه دونها للمحافظة على الفاصلة. الثالث: أنه أريد بالشقاء: الشقاء في طلب القوت وإصلاح المعاش، وذلك وظيفة الرجل دون المرأة، قال سعيد بن جبير: أهبط إلى آدم (ع) ثور أحمر، فكان يحرث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فذلك شقاؤه. فإن قيل: هل يجوز أن يقال: كان آدم عاصيا غاويا، أخذا من قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ؟ قلنا: يجوز أن يقال: عصى آدم، كما قال الله تعالى، ولا يجوز أن يقال كان آدم عاصيا، لأنه لا يلزم من جواز إطلاق الفعل جواز اطلاق اسم الفاعل ألا ترى أنه يجوز أن يقال تبارك الله ولا يجوز أن يقال الله تبارك،

ويجوز أن يقال تاب الله على آدم، ولا يجوز أن يقال الله تائب ونظائره كثيرة. فإن قيل: أسماء الله تعالى وصفاته توفيقيّة لا مدخل للقياس فيها ولهذا يقال الله عالم، ولا يقال علّامة، وإن كان هذا اللفظ أبلغ في الدلالة على معنى العلم فأما أسماء البشر وصفاتهم، فقياسية فلم لا يجرى فيها على القياس المطّرد؟ قلنا: هذا القياس ليس بمطّرد في صفات البشر أيضا، ألا ترى أنهم قالوا ذره ودعه بمعنى اتركه، وفلان يذر ويدع، ولم يقولوا منهما وذر ولا واذر، ولا ودع ولا وادع، فاستعملوا منهما الأمر والمضارع فقط. ولقائل أن يقول: هذا شاذّ في كلام العرب ونادر، فلا يترك لأجله القياس المطّرد، بل يجري على مقتضى القياس. فإن قيل: لم قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي [الآية 124] أي عن موعظتي، أو عن القرآن، فلم يؤمن به ولم يتبعه فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [الآية 124] أي حياة في ضيق وشدّة، ونحن نرى المعرضين عن الإيمان والقرآن، في أخصب معيشة وأرغدها؟ قلنا: قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: المراد بالمعيشة الضّنك الحياة في المعصية، وإن كان في رخاء ونعمة. وروي عن النبي (ص) أنّها عذاب القبر. الثاني: أنّ المراد بها عيشته في جهنّم في الاخرة. الثالث: أن المراد بها عيشه مع الحرص الشديد على الدنيا وأسبابها وهذه الآية في مقابلة قوله تعالى مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل: 97] . فكلّ ما ذكرناه في تفسير الحياة الطيّبة، فضدّه وارد في المعيشة الضّنك. فإن قيل: أيّ كلمة سبقت من الله سبحانه، فكانت مانعة من تعذيب هذه الأمة في الدنيا عذاب الاستئصال، حتى قال جلّ شأنه: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً [الآية 129] ؟ لا اختصاص لهذه الأمّة بهذه الكلمة، وقيل هي قوله تعالى للنبي (ص) : وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] وقيل هي قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء] يعني لعالمي أمّته بتأخير العذاب عنهم وقيل في الآية تقديم وتأخير تقديره: ولولا

كلمة سبقت من ربّك وأجل مسمّى، وهو الأجل الذي قدّر الله تعالى بقاء العالم وأهله إلى انقضائه، لكان العذاب لزاما: أي لازما لهم كما لزم الأمم التي قبلهم. فإن قيل: أصحاب الصراط السويّ والمهتدون واحد، فما الحكمة من التكرار في قوله تعالى: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) ؟ قلنا: المراد بأصحاب الصراط السويّ، السالكون الصراط المستقيم، السائرون عليه والمراد بالمهتدين الواصلون إلى المنزل. وقيل أصحاب الصراط السويّ، هم الذين ما زالوا على الصراط المستقيم والمهتدون هم الذين لم يكونوا على الطريق المستقيم، ثمّ صاروا عليه. وقيل المراد بأصحاب الصراط السّويّ، أهل دين الحقّ في الدنيا والمراد بمن اهتدى، المهتدون إلى طريق الجنة في العقبي فكأنه سبحانه قال: فستعلمون من المحقّ في الدنيا، والفائز في الاخرة.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"طه"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «طه» «1» قوله سبحانه: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [الآية 15] وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو مما سمعته من شيخنا أبي الفتح النحوي «2» ، عفا الله عنه. قال: الذي عليه حذّاق أصحابنا: أنّ «كاد» هاهنا على بابها من معنى المقاربة. إلا أن قوله تعالى: أُخْفِيها يؤول إلى معنى الإظهار. لأن المراد به: أكاد أسلبها خفاءها. والخفاء الغشاء والغطاء مأخوذ من خفاء «3» القربة، وهو الغشاء الذي يكون عليها. فإذا سلب عن الساعة غطاؤها المانع من تجلّيها، ظهرت للناس، فرأوها فكأنه تعالى قال: أكاد أظهرها. قال لي: وأنشدني أبو علي «4» منذ أيام بيتا هو من أنطق الشواهد على الغرض الذي رمينا. وكان سماعي ذلك من أبي الفتح رحمه الله، وأبو علي حينئذ باق لم يمت، وهو قول الشاعر «5» :

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هو أبو الفتح عثمان بن جنّي، إمام النحو المشهور، وأستاذ المؤلّف، وقد سبق تعريفنا به في هوامش مجازات سورة التوبة. (3) . الخفاء: الغطاء وجمعه أخفية. (4) . أبو علي، هو أبو علي الفارسي، واسمه الحسن بن أحمد بن عبد الغفّار، كان إماما في العربيّة. وكان يسأل في كل بلد يحلّ فيه عن مسائل من اللغة والنحو والصرف، فيجيب إجابات سديدة. وصنّف في أسئلة كلّ بلد كتابا. وقد تعاصر المؤلف وابن جنّي وأبو علي الفارسي. وكان المؤلّف شابّا ناشئا، حين تقدّمت السن بأبي علي الفارسي، الذي توفي سنة 377 هـ، على حين أن الشريف الرضي ولد سنة 359 هـ. (5) . هذا البيت لم يذكر له قائل. وهو من أبيات الشواهد في «لسان العرب» ولم ينسب لقائله.

لقد علم الأيقاظ أخفية الكرى تزجّجها من حالك واكتحالها ومعناه لقد علم الأيقاظ عيونا. فجعل العين للنوم في أنها مشتملة عليه، كالخفاء للقربة في أنه مشتمل عليها. وقول الشاعر: «أخفية الكرى» من الاستعارات العجيبة، والبدائع الغريبة. وقوله: «تزجّجها من حالك واكتحالها» ، يعود على العيون، كأنه قال تزجّج العيون واكتحالها من سواد الليل. وهذا لا يكون إلّا مع السهر وامتناع النوم، لأن العيون حينئذ بانفتاحها تكون كالمباشرة لسواد الظلماء، فيكون كالكحل لها. والتزجّج: اسوداد العينين من الكحل. يقال زجّجت «1» المرأة عينها وحاجبها. إذا سودتهما بالإثمد. وعلى التأويل الاخر يبعد الكلام عن طريق الاستعارة، وهو أن يكون أكاد هاهنا بمعنى أريد، كما قلنا فيما مضى «2» . ومن الشواهد على ذلك قول الشاعر: أمنخرم شعبان لم تقض حاجة من الحاج كنّا في الأصمّ «3» نكيدها أي كنا نريدها في رجب، ويكون أُخْفِيها على موضوعه، من غير أن يعكس عن وجهه. ويكون المعنى: إن الساعة آتية أريد أستر وقت مجيئها، لما في ذلك من المصلحة. لأنه إذا كان المراد بإقامتها المجازاة على الأفعال، والمؤاخذة بالأعمال، كانت الحكمة في إخفاء وقتها ليكون الخلق في كلّ حين وزمان على حذر من مجيئها، ووجل من بغتتها، فيستعدّوا قبل حلولها، ويمهّدوا قبل نزولها. ويقوّي ذلك قوله سبحانه: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) .

_ (1) . ومنه قول الشاعر الراعي النميري: إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزجّجن الحواجب والعيونا وهذا البيت من شواهد النحو في باب المفعول معه. انظر «أوضح المسالك، إلى ألفية ابن مالك» الشاهد 259. [.....] (2) . في الآية رقم 77 من سورة الكهف. (3) . الأصمّ: شهر رجب، وسمي بذلك لأنه كان لا يسمع فيه صوت السلاح، لكونه شهرا حراما. انظر لسان العرب. وقال الخليل: إنّما سمّي بذلك، لأنه كان لا يسمع فيه صوت مستغيث، ولا حركة قتال ولا قعقعة سلاح، لأنه من الأشهر الحرم.

وقوله سبحانه: قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وهذه استعارة. لأن المراد بالسيرة هاهنا الطريقة والعادة. وأصل السيرة مضيّ الإنسان في تدبير بعض الأمور، على طريقة حسنة أو قبيحة. يقال: سار فلان الأمير فينا سيرة جميلة. وسار بنا سيرة قبيحة. ولكن موسى (ع) لمّا كان يصرف عصاه- قبل أن تنقلب حيّة- في أشياء من مصالحه، كما حكى سبحانه عنه، بقوله: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) ثمّ قلبت حيّة، جاز أن يقال سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) أي إلى الحال التي كنت تصرفها معها في المصالح المذكورة، لأن تصرّفها في تلك الوجوه كالسيرة لها، والطريقة المعروفة منها والمراد سنعيدها إلى سيرتها الأولى، فانتصبت السيرة بإسقاط الجار. وقوله سبحانه: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [الآية 22] . وهذه استعارة، المراد بها، والله أعلم، وأدخل يدك في قميصك ممّا يلي إحدى جهتي يديك. وسميت تلك الجهتان جناحين، لأنهما في موضع الجناحين من الطائر. ويوضح ما ذكرنا قوله سبحانه في مكان آخر: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل: 12] ، والجيب في جهة إحدى اليدين. قوله سبحانه: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وهذه استعارة. والمراد بها إزالة لفف «1» كان في لسانه، فعبّر عنه بالعقدة. وعبّر عن مسألة إزالته بحلّ العقدة للملاءمة بين النظام، والمناسبة بين الكلام. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك، إزالة التقيّة عن لسانه، وكفايته سطوة فرعون وغواته، حتى يؤدي عن الله سبحانه آمنا، ويقول متمكّنا، فلا يكون معقود اللسان بالتقيّة، معكوم الفم بالخوف والمراقبة. وذلك كقول القائل: لسان فلان معقود، إذا كان خائفا من الكلام ولسان فلان منطلق، إذا كان مقداما على المقال. وقوله سبحانه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) . وفي هذه الآية استعارتان. إحداهما قوله

_ (1) . اللّفف: التواء عصب في اللسان، يعطّله عن الكلام.

سبحانه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وليس المراد أن هناك شيئا يلقى عليه في الحقيقة، ولكنّ المعنى أنني جعلتك بحيث لا يراك أحد إلّا أحبّك، ومال قلبه نحوك، حتّى أحبّك فرعون وامرأته، فتبنّياك وربّياك، واسترضعا لك، وكفلاك. وهذا كقول القائل: على وجه فلان قبول. وليس هناك على الحقيقة شيء يومأ إليه. إلا أن كل ناظر ينظر إليه يقبله قلبه وتسرّ به نفسه. والاستعارة الأخرى، قوله سبحانه: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) والمراد بذلك، والله أعلم، أن تتربّى بحيث أرعاك وأراك. وليس أنّ هاهنا شيئا يغيب عن رؤية الله سبحانه، ولكنّ هذا الكلام يفيد الاختصاص بشدة الرعاية، وفرط الحفظ والكلاءة ولمّا كان الحافظ للشيء في الأغلب يديم مراعاته بعينه، جاء تعالى باسم العين بدلا من ذكر الحفظ والحراسة، على طريق المجاز والاستعارة. ويقول العربي لغيره: أنت مني بمرأى ومسمع. يريد بذلك أنه متوفّر عليه برعايته، ومنصرف إليه بمراعاته. وقوله سبحانه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) وهذه استعارة. والمراد بها: واصطنعتك لتبلّغ رسالتي، وتنصرف على إرادتي ومحبّتي وقال بعضهم: معنى لنفسي هاهنا، أي لمحبّتي وإنّما جاز أن يوقع النفس موقع المحبة، لأنّ المحبّة أخصّ شيء بالنفس، فحسن أن تسمّى بالنفس. وقد يجوز أن يكون ذلك على معنى قول القائل: اتّخذت هذا الغلام لنفسي، أي جعلته خاصّا لخدمتي، لا يشاركني في استخدامه أحد غيري. وسواء قال اتّخذته، أو اتّخذته لنفسي، في فائدة الاختصاص، ليس أن هناك شيئا يتعلّق بالنفس على الحقيقة. وقوله سبحانه: قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) وهذه استعارة على أحد التأويلين. والمراد بها، والله أعلم، أنه أكمل لكلّ شيء صورته، وأتقن خلقته، وهذا يعمّ كلّ مصوّر من حيوان وجماد وغير ذلك. فلا معنى لحمل من حمله على الحيوان فقط. وعندي في ذلك وجه آخر، وإن كان الكلام يخرج به من باب الاستعارة وهو أن يكون في الكلام تقدير وتأخير. فكأنه سبحانه قال: ربّنا الذي أعطى خلقه كلّ شيء، ثمّ هداهم إلى

مطاعمهم ومشاربهم، ومناكحهم، ومساكنهم، وغير ذلك من مصالحهم. ويكون ذلك نظير قوله تعالى: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ [إبراهيم: 34] ويكون المراد أنه سبحانه أعطى خلقه في أوّل خلقهم كل ما تزاح به عللهم، ويتكامل معه خلقهم، من سلامة الأعضاء، واعتدال الأجزاء، وترتيب المشاعر والحواسّ، ومواقع الأسماع والأبصار، ثمّ هداهم من بعد لمصالحهم، ودلّهم على مناكحهم، وأجراهم في مضمار التكليف إلى غاياتهم. وقوله سبحانه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [الآية 53] . وهذه استعارة. والمراد بها تشبيه الأرض بالمهاد المفترش، ليمكن الاستقرار عليها، والتقلّب فيها. وقد مضى نظير هذه الاستعارة فيما تقدم. ومعنى المهد والمهاد واحد. وهو مثل الفرش والفراش. إلّا أنّ المهد ربّما استعمل في رسم الآلة التي يجعل فيها الصبيّ الصغير ليحفظه، وهو يؤول إلى معنى الفراش. والمهد أيضا: مصدر مهد، يمهد، مهدا. إذا مكّن موضعا لقدمه، ومضجعا لجنبه. وقوله سبحانه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وهذه استعارة. والمراد بها ما يظهر في الوجوه يوم القيامة من آثار الضّرع، وأعلام الجزع. وذلك مأخوذ من تسميتهم الأسير «العاني» ومنه ما جاء في بعض الكلام: النساء عوان عند أزواجهنّ، أي أسيرات في أيدي الأزواج. وعلى ذلك قول القائل: هذه المرأة في حبال فلان، لأنه بما عقده من نكاحها كالأسر لها، والمالك لرقّها. فكأنّ الوجوه خضعت من خشية الله تعالى، خضوع الأسير الذليل في يد الاسر العزيز.

سورة الأنبياء 21

سورة الأنبياء 21

المبحث الأول أهداف سورة"الأنبياء"

المبحث الأول أهداف سورة «الأنبياء» «1» سورة الأنبياء سورة مكّية بالاتّفاق وآياتها 112 آية، وقد نزلت قبيل الهجرة إلى المدينة، أي حوالي السنة الثانية عشرة من البعثة وسمّيت بسورة الأنبياء، لأنه اجتمع فيها، على قصرها، كثير من قصص الأنبياء، فسمّيت السّورة باسمهم. الغرض منها وترتيبها هي سورة مكّية، نزلت في آخر العهد المكّيّ، أي في ذروة تجبّر أهل مكّة، وعنتهم، وانصرافهم عن الإسلام. فنزلت تنذر هؤلاء الكفّار باقتراب العذاب ففي بدايتها: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) . ثمّ ساقت السورة الأدلّة، على الألوهية والتوحيد والرسالة والبعث. وهي الموضوعات التي عنيت بها السور المكية، من أجل تقرير العقيدة والدفاع عنها. ونلحظ، هنا، أنّ السورة قد عالجت الموضوعات، بعرض النواميس الكونية الكبرى، وربط العقيدة بها. فالعقيدة، في سورة الأنبياء، جزء من بناء هذا الكون ونواميسه الكبرى. وهذه العقيدة، تقوم على الحقّ الذي قامت عليه السماوات والأرض، وليست لعبا ولا باطلا كما أنّ هذا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

الكون لم يخلق عبثا، ولن يترك سدّى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) . ويلفت السياق الناس إلى مظاهر الكون الكبرى، في السماء والأرض، والرواسي والفجاج، والليل والنهار، والشمس والقمر، موجّها الأنظار إلى وحدة النواميس التي تحكمها وتصرّفها، وإلى دلالة هذه الوحدة على وحدة الخالق المدبّر المالك، الذي لا شريك له في الملك كما أنه سبحانه، لا شريك له في الخلق: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الآية 22] . ثم تتحدّث السورة عن وحدة النواميس، التي تحكم الحياة في هذه الأرض، وعن وحدة مصدر الحياة: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الآية 30] . وعن وحدة النهاية التي ينتهى إليها الأحياء: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [الآية 35] . والعقيدة وثيقة الارتباط بتلك النواميس الكونية، فهي واحدة كذلك، وإن تعدّد الرّسل على مدار الزمان: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) . وكما أن العقيدة وثيقة الارتباط بنواميس الكون الكبرى، فكذلك ملابسات هذه العقيدة في الأرض. فالسنّة التي لا تتخلّف: أن يغلب الحقّ في النهاية، وأن يزهق الباطل، لأنّ الحقّ قاعدة كونية، وغلبته سنّة إلهية: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الآية 18] . وأن يحلّ الهلاك بالظالمين المكذّبين، وينجي الله الرسل والمؤمنين: ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) . وأن يرث الأرض عباد الله الصالحون: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) . ومن ثمّ يستعرض السياق أمّة الرّسل الواحدة، في سلسلة طويلة، استعراضا سريعا، يطول بعض الشيء، عند

نظم السورة

عرض حلقة من قصّة إبراهيم (ع) وعند الإشارة إلى داود وسليمان (ع) . ويقصر عند الإشارة إلى قصص نوح، وموسى، وهارون، ولوط، وإسماعيل، وإدريس، وذي الكفل، وذي النون، وزكريا، ويحيى وعيسى (ع) . وفي هذا الاستعراض تتجّلى المعاني التي سبقت في سياق السورة، تتجلّى في صورة وقائع في حياة الرسل والدعوات، بعد ما تجلّت في صورة قواعد عامة ونواميس. كذلك يتضمّن سياق السورة بعض مشاهد القيامة، وتتمثّل فيها تلك المعاني نفسها في صورة واقع يوم القيامة. وهكذا تتجمّع الأساليب المنوّعة في السورة على هدف واحد، هو استجاشة القلب البشريّ لإدراك الحق الأصيل في العقيدة، التي جاء بها خاتم الرّسل (ص) فلا يتلقّاها الناس غافلين، معرضين لاهين، كما تصفهم السورة في مطلعها. إنّ هذه الرسالة حقّ، كما أن هذا الكون حقّ وجدّ. فلا مجال للهو في استقبال الرسالة، ولا مجال لطلب الآيات الخارقة، وإنّ آيات الله في الكون، وسنن الكون كلّها توحي بأنه سبحانه الخالق القادر الواحد، والرسالة من لدن ذلك الخالق القادر الواحد. نظم السورة النّظم في سورة الأنبياء، يختلف عن النظم في سورتي مريم وطه. هناك كان النظم سهلا، والختام رخيّا، يختم في الغالب بالألف اللينة. أمّا في سورة الأنبياء، فالنّظم نظم التقرير، الذي يتناسق مع موضوعها، ومع جوّ السياق في عرض هذا الموضوع، ولذلك ختمت آياتها بالميم أو بالنون. وإذا نظرنا الى الجانب الذي عرض من قصّة إبراهيم (ع) في سورة مريم، وجدنا أن الحلقة التي عرضت هناك، حلقة الحوار الرّخي بين إبراهيم وأبيه. وقد ختمت آيات الحوار هناك، بالألف الليّنة مثل نبيّا، صفيّا، عليّا. أمّا هنا، فجاءت حلقة تحطيم الأصنام، وإلقاء إبراهيم في النار. ولكي يتحقّق التناسق في الموضوع،

أشواط أربعة

والجوّ والنظم، والإيقاع، فقد ختمت قصّة إبراهيم هنا، بالنون أو الميم، التي تفيد التقرير والتأكيد، أو ما يشبه أحكام القضاء بعد تفكّر وتأمّل وترتيب. أشواط أربعة يمكن أن نقسم سورة الأنبياء إلى أربعة أقسام، يمضي السياق خلالها من قسم إلى آخر، ويمهّد كلّ شوط للّذي يليه. الشوط الأول يبدأ الشوط الأول بمطلع قويّ الضربات، يهزّ القلوب هزّا وهو يلفتها إلى الخطر القريب المحدق، وهي عنه غافلة لاهية: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) . ثمّ يهزّها هزة أخرى، بمشهد من مصارع الغابرين، الذين كانوا عن آيات ربّهم غافلين: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) . ثمّ يربط بين الحقّ والجدّ في الدّعوة، نظام الكون، عقيدة التوحيد ونواميس الوجود، ووحدانيّة الخالق المدبّر ووحدة الرسالة والعقيدة، ووحدة مصدر الحياة ونهايتها ومصيرها، على النحو الذي أسلفناه، ويمتدّ هذا الشوط من أول السورة إلى الآية 35. الشوط الثاني أما الشوط الثاني، فيرجع السياق بالحديث إلى الكفّار، الذين يواجهون الرسول (ص) بالسخرية والاستهزاء، والأمر جدّ وحق، وكل ما حولهم يوحي باليقظة والاهتمام، وهم يستعجلون العذاب، والعذاب منهم قريب. وهنا يعرض مشهدا من مشاهد القيامة، ويلفتهم إلى ما أصاب المستهزئين بالرّسل قبلهم ويقرّر أن ليس لهم من الله من عاصم، ويوجّه قلوبهم إلى تأمّل يد القدرة، وهي تنقص الأرض من أطرافها، وتزوي رقعتها وتطويها، فلعلّ هذا أن يوقظهم من غفلتهم، التي جاءتهم من طول النعمة وامتداد الرخاء. وينتهي السياق في هذا الشوط بتوجيه الرسول (ص) إلى بيان وظيفته: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الآية 45] .

الشوط الثالث

وإلى الخطر الذي يتهددهم في غفلتهم: وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) . حتى تنصب الموازين القسط، وهم في غفلتهم سادرون. ويمتدّ هذا الشوط من الآية 36 إلى الآية 47. الشوط الثالث ويتضمّن الشوط الثالث استعراض أمّة النبيّين، وجهاد الرّسل، وبلاءهم في سبيل الحق. ويبدأ الشوط بموسى وهارون (ع) وقد أنعم الله عليهما بالفرقان، وهو التوراة، لأنّها تفرق بين الحق والباطل ثم ذكر إبراهيم (ع) وقد أعطاه الله الرشد والهداية، فأنكر على قومه عبادة الأصنام، ثمّ حطّمها، فألقي في النار، فجعلها الله بردا وسلاما عليه ثم ذكر نجاة لوط (ع) من قومه المعتدين، ونجاة نوح (ع) وأتباعه من الطوفان ثم ذكر حكم سليمان (ع) ودعاء يونس (ع) وسؤال زكريّا (ع) وصلاح مريم (ع) . ويعقب الشوط بأنّ هناك وحدة بين هذه الرسالات، في العقيدة والإيمان والهدف والقيم والسلوك: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) . وتتجلّى في رسالة الأنبياء عناية الله بهم، ورعايته لأهل رسالته وتولّيهم بالعناية والرعاية، وأخذ المكذّبين والظالمين، أخذ عزيز مقتدر، ويمتدّ هذا الشوط من الآية 48 إلى الآية 95. الشوط الرابع أما الشوط الرابع والأخير، فيعرض النهاية والمصير، في مشهد من مشاهد القيامة المثيرة، حينما يفتح سدّ يأجوج ومأجوج، ويعرض ذلّ الكفار في عذاب جهنّم، ونعيم المؤمنين في الجنّة، ثمّ طيّ السماوات في ساعة القيامة. ثم توجّه السياق إلى الرسول (ص) بالخطاب، فذكر أن الله سبحانه أرسله بالرحمة والإحسان، لتبليغ رسالته إلى الناس. ثم ختمت السورة بمثل ما بدأت: إيقاعا قويا، وإنذارا صريحا. ويمتدّ هذا الشوط من الآية 96 إلى 112. وفي آخر آية من السورة رنين يتحدّى الكفّار، ويتوعّدهم بحكم الله العادل: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الأنبياء"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأنبياء» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الأنبياء بعد سورة إبراهيم، وقد نزلت سورة إبراهيم بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الأنبياء في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لأنه اجتمع فيها على قصرها، كثير من قصص الأنبياء، فسمّيت سورة الأنبياء باسمهم، وتبلغ آياتها اثنتي عشرة ومائة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة، إثبات قرب ما أمروا بتربّصه من العذاب في آخر السورة السابقة، وبيان ما جاء فيه من ذلك الصراط السّويّ. ولهذا ذكرت هذه السورة بعد السورة السابقة، وتصدّرها إنذارهم باقتراب حسابهم، فجاء أوّلها في هذا الإنذار، وجاء آخرها في ذكر قصص أولئك الأنبياء، وبيان اجتماعهم على دين التوحيد، وهو ذلك الصراط السويّ. إنذارهم باقتراب حسابهم الآيات (1- 47) قال الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) . فأنذرهم بأنّ حسابهم قد اقترب بتسليط المسلمين عليهم وذكر أنهم، مع هذا، في غفلة معرضون، وأنهم ما يأتيهم من عظة جديدة من عظات

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

القرآن، إلّا استمعوا إليها وهم يلعبون. وتناجوا بالطّعن فيمن ينذرهم ويعظهم هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) وهدّدهم بأنه سبحانه يعلم القول في السماء والأرض، فلا يخفى عليه ما يتناجون به ثم ذكر أنهم عدلوا عن رمي القرآن بأنه سحر، وقالوا إنّه أضغاث أحلام، بل افتراه، بل هو شاعر، وأنهم طلبوا أن يأتيهم الرسول (ص) بآية مثل آيات الأنبياء الأولين، وأجاب عن هذا بأنه ما آمنت قبلهم من قرية أهلكها بتلك الآيات، فلا يؤمنون مثلهم إذا أجيبوا إلى طلبهم ثم أجاب عن اعتراضهم الأوّل، بأنّه جلّ جلاله، لم يرسل قبل الرسول (ص) إلّا رجالا من البشر، وبأنه لم يجعلهم ذوي جسد لا يأكلون الطّعام ولا يموتون، بل كانوا كغيرهم من بني الإنسان ثم ذكر أنّه صدقهم ما أنذروا به، فأنجاهم ومن شاء ممّن آمن بهم، وأهلك المسرفين وأنّه أنزل إليهم كتابا فيه ذكر وموعظة لهم، فهو خير ممّا يقترحونه من تلك الآيات ثم ذكر سبحانه أنه كم أهلك من تلك القرى التي أسرفت في تكذيب رسلها، وأنهم كانوا إذا أحسوا العذاب، يركضون منها، فيقال لهم لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه، لتسألوا عن أعمالكم، فيقولون يا ويلنا ويعترفون بظلمهم، ويأخذهم الله بعذابه، وهم يشهدون على أنفسهم. ثم ذكر تعالى أنّه عاقبهم بذلك عدلا لا ظلما، لأنّه لم يخلق السماء والأرض وما بينهما عبثا، بل خلق من فيهما ليطيعوه ويدينوا بتوحيده، فإذا اتّبعوا الباطل قذف بالحق عليه فيدمغه ويبطله ثم ذكر أن كلّ من في السماوات والأرض مملوك له، وأنّ من عنده من الملائكة لا يستكبرون عن عبادته، فإذا خرج هؤلاء الكفّار عن طاعته، أحلّ عليهم نقمته. ثم ذكر أنّ من باطلهم، أنهم اتّخذوا آلهة من الأرض وأبطله، بأنّه لو كان في السماء والأرض آلهة إلا الله لفسدتا، إلى غير هذا مما ذكره في إبطال تعدّد الالهة ثم ذكر، أنّ من باطلهم، أنهم قالوا إنّ الملائكة بنات الله وأبطله، بأنّهم عباد خاضعون له كغيرهم، ولو كانوا بنات له لكانوا آلهة مثله، إلى غير هذا ممّا ذكره في إبطال أنهم بنات له ثم ذكر لهم، من الأدلّة على وحدانيّته، أنّ السماوات والأرض

قصص الأنبياء الآيات (48 - 91)

كانتا رتقا ففتقهما، إلى غير هذا مما ذكره من الأدلة على هذه الوحدانيّة. ثمّ رجع السياق إلى ما ذكروه، من أنه بشر مثلهم، فذكر سبحانه أنه لم يجعل لبشر من قبله الخلد حتّى يجعله بشرا لا يأكل الطعام ولا يموت فهو يموت كما يموتون، وكلّ نفس لا بدّ أن تذوق الموت. ثم ذكر ممّا يفعلونه في غفلتهم عن يوم حسابهم، أنهم كانوا حينما يرون النبيّ (ص) يقولون مستهزئين كما ورد في التنزيل: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الآية 36] ، ماضين في غفلتهم عمّا ينزّل عليهم من الذّكر، مغترّين بإمهال الله لهم، مستعجلين ما اقترب من يوم حسابهم ثمّ ذكر أنّ هذا الاستعجال شأن الإنسان، لأنه خلق من عجل، وأنه سيريهم آيات عذابه في وقت لا تتقدّم عليه ثم ذكر هذا الاستعجال المذموم، وهو قولهم على سبيل الاستهزاء كما ورد في التنزيل: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) . ولو يعلمون أنّهم في ذلك اليوم، تحيط بهم النار من كلّ ناحية، لكفّوا عن استعجالهم ثم ذكر أنّه إنّما ينذرهم بالوحي الذي لا يكذّب، وأنّهم إذا مسّتهم نفحة من العذاب الذي ينذرون به ينادون بالويل، ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين ثم ذكر أنّ ما ينزل بهم من ذلك يكون عدلا، لأنّه لا يكون إلّا بعد حساب توزن فيه الأعمال فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) . قصص الأنبياء الآيات (48- 91) ثم قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) فذكر من أولئك الأنبياء موسى وهارون (ع) وأنّه آتاهما الفرقان، وهو التّوراة لأنّها تفرق بين الحق والباطل وأنّه سبحانه أنزل القرآن، يزيد عليها في ذلك، فلا يصحّ أن ينكروه. ثم ذكر أنه آتى إبراهيم (ع) الرّشد إلى الحق، قبل موسى وهارون (ع) فأنكر على قومه عبادة الأصنام، وبيّن لهم أنّ ربهم ربّ السماوات والأرض، لأنّه هو الذي خلقها ثم بيّن، بالعمل، أن هذه الأصنام ليست بالهة، فذهب في خفية إليها فكسّرها وترك صنما كبيرا لهم فلم يكسره. فلمّا ذهبوا

إليها سأل بعضهم بعضا عمّن فعل هذا بها، واتّهموا إبراهيم فأحضروه وسألوه، كما ورد في التنزيل: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا [الآية 62] فقال لهم: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) ، فكادوا يصدّقونه، لأنّه كان قد وضع فأسا بين يديه ولكنّهم عادوا فذكروا له أنّها لا تنطق، فكيف يسألونها عمّن كسّرها؟ وهنالك قامت له الحجّة عليهم بإقرارهم، فوبّخهم على أنهم يعبدون ما لا ينفعهم شيئا، ولا يضرّهم فعلموا أنه الذي كسّرها، وأوقدوا له نارا ليحرقوه فيها، فلمّا ألقوه فيها، جعلها الله بردا وسلاما عليه، ونجّاه ولوطا ابن أخيه إلى أرض فلسطين، ووهب الله جلّ جلاله له إسحاق ويعقوب نافلة، وجعلهم صالحين فكانوا أئمة يهدون بأمره تعالى، ويخلصون العبادة له. ثم ذكر أنه آتى لوطا (ع) علما، ونجّاه من القرية التي كانت تعمل الخبائث، وأدخله في رحمته لصلاحه واستقامته. ثمّ ذكر سبحانه أنه استجاب لنوح (ع) حينما نجّاه وأهله من الغرق، ونصره على كفّار قومه فأغرقهم أجمعين. ثم ذكر أنه آتى داود وسليمان (ع) العلم والفهم، وأنّ غنما دخلت كرما فأتلفته، فشكا صاحب الكرم صاحب الغنم إلى داود، فقضى بالغنم لصاحب الكرم، لأنه لم يكن هناك تفاوت بين ثمنهما وقضى سليمان بتسليم الغنم لصاحب الكرم، لينتفع بها إلى أن يصلح صاحبها كرمه وكان هذا الحكم هو الأرفق بهما ثم ذكر أنه سخّر لداود الجبال والطير، وعلّمه صنعة الدروع، وسخّر لسليمان الريح والشياطين. ثمّ ذكر أنه استجاب لأيّوب (ع) حين ناداه أنّه قد مسّه الضرّ، فكشف عنه ضرّه، وآتاه أهله ومثلهم معهم. ثمّ ذكر إسماعيل وإدريس وذا الكفل (ع) وأنهم كانوا من الصّابرين، وذكر ذا النون (ع) وأنّه ناداه وهو في بطن الحوت، فاستجاب له، ونجّاه من الغمّ الذي كان فيه. ثم ذكر زكريّا (ع) حينما شكا إليه، أنه لا ولد له، فوهب له يحيى (ع) ، وأصلح له زوجه، لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعونه رغبا ورهبا. ثمّ ذكر مريم التي أحصنت فرجها، فنفخ فيها من روحه، وجعلها وابنها آية للعالمين.

الخاتمة الآيات (92 - 112)

الخاتمة الآيات (92- 112) ثم قال تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) . فذكر لهم سبحانه، أنّ ملّتهم التي يدعوهم إليها، ملّة واحدة تتابع أولئك الأنبياء عليها، وأنّ ربّهم واحد يجب أن يعبدوه، وأنهم انحرفوا عن تلك الملّة، فتفرّقوا فرقا كثيرة، وأنه لا بدّ من يوم يرجعون فيه إليه سبحانه، فلا ينجو منهم إلّا من آمن به وعمل صالحا. وأمّا من أهلكهم من أهل القرى، فلا يمكن أن يرجعوا إلى دنياهم، ليستدركوا ما فاتهم وإذا فتحت يأجوج ومأجوج، يكونون أوّل الناس حضورا في محفل القيامة. وهنالك ينادون بالويل، ويشهدون على أنفسهم، أنهم كانوا في غفلة عن هذا اليوم، فيقال لهم: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) ولو كانوا آلهة ما وردوها، لأنّ الالهة لا يصحّ تعذيبها. ثم ذكر سبحانه أن الذين سبقت لهم منه الحسنى، لا يردون جهنّم، وأنّهم يدخلون الجنّة فيدخلدون فيها، إلى غير هذا ممّا ذكره في أحوال هذا اليوم. ثمّ ذكر تعالى أنه كتب في الزّبور من بعد التوراة، أنّ الأرض يرثها عباده الصالحون، لينذر المشركين بتسليط المؤمنين عليهم في الدنيا، بعد أن أنذرهم بسوء حالهم في الاخرة، فيكون ما اقترب من حسابهم في الاخرة والدنيا معا ثمّ ذكر أن في هذا الإنذار كفاية لقوم عابدين، وأنه سبحانه لم يرسل النبي (ص) إلّا رحمة للعالمين، فلا بد من أن يظهر أمره ليكون فيه رحمتهم وصلاحهم ثمّ ختم السورة بإجمال ما ذكره فيها، فأمر النبي (ص) أن يذكر لهم أنّ إلههم إله واحد لا شريك له، فيجب أن يؤمنوا به، وأمره أن يؤذنهم بيوم عذابهم، إن أعرضوا عنه، وأن يخبرهم بأنّه لا يدري أقريب أم بعيد ما يوعدون، لأنّه سبحانه هو الذي يعلم كلّ شيء من جهر القول وما يكتمون ثمّ ذكر أنّ تأخير ما يوعدهم به، إنّما هو فتنة لهم ومتاع إلى حين قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الأنبياء"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأنبياء» «1» ظهر لي من اتصالها باخر «طه» ، أنه سبحانه، لمّا قال في هذه: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا [طه: 135] . وقال قبله: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) [طه] . وقال في مطلع هذه، أي في سورة الأنبياء: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) إشارة إلى قرب الأجل، ودنوّ الأمل المنتظر. وفيه أيضا مناسبة لقوله تعالى هناك: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ [طه: 131] . فإنّ قرب الساعة يقتضي الإعراض عن هذه الحياة الدنيا، لدنوّها من الزّوال والفناء ولهذا ورد في الحديث: أنّها لما نزلت قيل لبعض الصحابة: هلّا سألت النبي (ص) عنها؟ فقال «نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا» «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . لم نعثر على هذا الحديث في ما بين أيدينا من مصادر.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الأنبياء"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الأنبياء» «1» 1- وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ [الآية 29] . قال قتادة، والضّحّاك: هو إبليس. أخرجه ابن أبي حاتم «2» . 2- وَنَضَعُ الْمَوازِينَ [الآية 47] . أخرج ابن جرير عن حذيفة اليماني «3» قال: صاحب الميزان يوم القيامة: جبريل. 3- قالُوا حَرِّقُوهُ [الآية 68] . قيل: المقصود به: نمرود وقيل: رجل من أكراد فارس، يسمى هيزن. أخرجه ابن أبي حاتم عن شعيب الجبائي. 4- إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها [الآية 71] . قال السّدّيّ: هي الشام أخرجه ابن أبي حاتم «4» وقيل: مكّة حكاه ابن عسكر «5»

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . انظر «تفسير الطبري» 17: 13. (3) . لم نجد هذا الأثر في «تفسير الطبري» في هذا الموضع. (4) . ورد في أحاديث مرفوعة صحيحة، مخرجة في السنن وغيرها، دعاء النبي (ص) للشام بالبركة، وأفرد في فضائلها الحافظ أبو الحسن الربعي المتوفّى سنة 444 هـ، وسمّاه «فضائل الشام ودمشق» وطبعه مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1370 هـ 1950 م، بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد مع ملاحق له وللشيخ ناصر الدين الألباني: «تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق للربعي» ، طبعه في دمشق المكتب الإسلامي سنة 1379 هـ. (5) . روى الحافظ ضياء الدين المقدسي في «فضائل بيت المقدس» برقم (28) عن أبي العالية: في قوله تعالى: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) قال: من بركتها: أنّ كلّ ماء عذب يخرج من أصل صخرة بيت المقدس.

5- إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) . قال (ص) : هم عيسى، وعزير، والملائكة. أخرجه، هكذا مختصرا، ابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة. وأخرج عن ابن عبّاس، قال: نزلت في عيسى، ومريم، وعزير «1» . 6- أَنَّ الْأَرْضَ [الآية 105] . قال ابن عباس أرض الجنة. أخرجه ابن أبي حاتم.

_ (1) . وأخرجه البزار، كما في «كشف الأستار» (2234) بلفظ: «يعني عيسى بن مريم (ع) ومن كان معه» . وفيه شرحبيل بن سعد مولى الأنصار وثّقه ابن حبّان، وضعّفه الجمهور، وبقيّة رجاله ثقاة. قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7: 68.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الأنبياء"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأنبياء» «1» 1- وقال تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الآية 3] . أقول: أكثر النحويون في الكلام على هذه الآية فقالوا: «الواو» فاعل، و «الذين» بدل. وقالوا: «الذين» فاعل، «والواو» ليس ضميرا. وقالوا: هي لغة. أقول: القول إنّها لغة مقبول، ولكنّي أقول أيضا: إنّ هذه المسألة ليست «لغة» ومعنى ذلك أنها شيء خاصّ، بل ربّما اتّجه القول اتّجاها حسنا، لو قلنا إنّ مجيء الفاعل اسما ظاهرا، مع تحمّل الفعل «إشارة» أو «علامة» لهذا الفاعل في أنه مثنّى أو جمع، أسلوب من أساليب العرب، أخذ في الزوال والنقص في عصر القرآن، فجاء منه شيء قليل، والآية شاهد على ذلك. 2- وقال تعالى: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ [الآية 5] . والمعنى: أنّ الكافرين قالوا: إنّ القرآن تخاليط أحلام، رآها النبيّ (ص) في المنام. وأريد أن أقف وقفة قصيرة على قوله تعالى: أَضْغاثُ أَحْلامٍ فأقول: «الضّغث» : قبضة حشيش مختلطة الرّطب باليابس، وهذا يعني أنّ «أضغاث الأحلام» رؤيا لا يصح تأويلها، لاختلاطها. والقول البديع في هذا التركيب، إضافة المادي إلى المحسوس. وهو

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

«الأضغاث» إلى المعنويّ، وهو «الأحلام» بمعنى الرؤيا للشبه بينهما وهو الاختلاط. 3- وقال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) . أريد ب «قرية» أهل القرية، ومن أجل ذلك وصفت بأنها «ظالمة» ، ثم قال تعالى: وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) . أقول: ودلالة «القرية» على «أهلها» كثير في القرآن، ومنه: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) [الأعراف] . وقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [يوسف: 82] . وأمّا دلالة القرية على المكان فكثير أيضا، وقد ورد في آيات كثيرة. 4- وقال تعالى: لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ [الآية 13] . والمراد: وارجعوا إلى ما نعمتم فيه من العيش الرّافه، أي إلى نعمكم التي أترفتكم. 5- وقال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الآية 18] . أي: أنّنا ندحض الباطل بالحق، واستعار القذف والدمغ تصويرا لإبطاله، وإهداره، ومحقه. وأصل الدّمغ الشّجّ، يقال دمغه حتى بلغت الشّجّة الدّماغ. أقول: واستعارة «الدمغ» في هذا الخصوص استعارة جميلة، لإحكام تصوير حقيقة محق الباطل بالحقّ. 6- وقال تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) . وقوله تعالى: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) . أي لا يعيون، عن قتادة والسّدّيّ. وقيل: لا يملّون، وقيل: لا ينقطعون، مأخوذ من البعير الحسير، المنقطع بالإعياء. 7- وقال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الآية 22] . أقول: الضمير في قوله تعالى: فِيهِما ضمير الاثنين يعود إلى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في الآية 19: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. فقد عدّت «السماوات» أحد جزأي المثنّى نظير «الأرض» فجاء الضمير

كناية عنهما، ولم يلتفت إلى أن «السماوات» جمع. ومثل هذه المسألة ما ورد في الآية 30: من السورة نفسها، وهي: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما. 8- وقال تعالى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الآية 31] . أي: كراهة «أن تميد بهم» . أقول: وحذف المصدر المبيّن للسبب، وهو المفعول له، ورد في لغة القرآن التماسا للإيجاز، وهو مطلب من مطالب البلاغة، وأنه يلمح في المعنى، ومن ذلك قوله تعالى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل: 15 ولقمان: 10] . أي: كراهة أن تميد بكم. وقوله تعالى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الإسراء: 46] . والتقدير كراهة أن يفقهوه. 9- وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) . وفي قوله تعالى: يَسْبَحُونَ (33) . إضافة فعل العقلاء إليها، سوّغ مجيء الواو والنون، كما قال سبحانه: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) [يوسف] . 10- وقال تعالى: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الآية 57] . أي لأدبّرنّ في بابهم تدبيرا خفيّا يسوؤكم ذلك. والفعل «كاد يكيد» فعل متعدّ، كما في الآية وقد يطوى المفعول به، كما في قوله تعالى: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يوسف: 76] . إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) [الطارق] . والكيد التدبير بباطل أو حقّ. والكيد الخبث والمكر. 1- وقال تعالى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ [الآية 77] . «السّوء» : بفتح السّين هو المصدر، أمّا الاسم فهو السّوء بالضّمّ. 12- وقال تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ

إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ [الآية 78] . وقوله تعالى: نَفَشَتْ، أي: تفرّقت ليلا. ونفشت الغنم والإبل: رعت ليلا بلا راع وهذا معنى نادر للفعل «نفش» ، لأنّ النفش تشعيث الشيء بأصابعك حتّى ينتشر. والنّفش، بالتحريك، الصوف والخصب. 13- وقال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [الآية 87] . أي: أنّه «مغاضب» لقومه، فقد أغضبهم بمفارقته، لخوفهم حلول العقاب عليهم. أقول: والمزيد «غاضب» ممّا لم يتيسّر لي أن اقف عليه في غير لغة التنزيل. 14- وقال تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) . الحدب: النشز من الأرض، أي: المرتفع. وقوله تعالى: يَنْسِلُونَ (96) ، أي: يظهرون ويسرعون. أقول: وفي لغة المعاصرين يقال: جاءوا من كل حدب وصوب، أي: جاءوا من كلّ جهة، وكثيرا ما يخطئون فيسكنون الدال من «حدب» . وكأنّ أصل العبارة، أنّها قابلت بين «الحدب» وهو النشز المرتفع قليلا، وبين «الصّوب» الذي يدل على الانصباب والانحدار، وهو ضدّ التصعيد، وهو الإصابة والتصوّب أيضا. 15- وقال تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) . قلنا: قرأ ابن عبّاس: حضب جهنم بمعنى الحصب. وهو ما يحصب به، أي يرمى كالحصى، وهو المحصوب من باب فعل بمعنى مفعول مثل السّلب، والحلب ونحو هما. وقرئ: «الحصب» بإسكان الصّاد، وهو من باب الوصف بالمصدر. وقرئ: حطب بالطاء. ومن المفيد أن نقول: إن «حضب» بالضاد المعجمة، هو الحطب في لغة اليمن.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الأنبياء"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الأنبياء» «1» قال تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [الآية 3] كأنّه قال وَأَسَرُّوا ثم فسّره بعد فقال: هم الَّذِينَ ظَلَمُوا. وقال تعالى: فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) بتذكير الأصنام، وهي من الموات، لأنّها كانت عندهم ممّن يعقل أو ينطق. وقال تعالى: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ [الآية 82] بتذكير الشياطين، الذين ليسوا من الإنس، إلّا أنهم مثلهم في الطّاعة والمعصية. ألا ترى أنك تقول «الشياطين يعصون» ولا تقول: «يعصين» وإنّما جمع يَغُوصُونَ ومِنَ في لفظ واحد لأن مِنَ في المعنى لجماعة. قال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد الثامن والأربعون بعد المائتين] : لسنا كمن جعلت إياد دارها ... تكريت تنظر حبّها أن يحصدا «3» وقال «4» [من المتقارب، وهو الشاهد التاسع والأربعون بعد المائتين] :

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هو الأعشى ميمون. ديوانه «الصبح المنير 154» واللسان «منن» . وقيل هو المتلمّس «الصحاح» «منن» . (3) . في الصحاح واللسان، ومعاني القرآن 1: 428 و 403 و 3: 256 ب «حلّت» بدل «جعلت» وفي الخصائص 2: 402 و 3: 256 ب «ترقب» بدل «تنظر» وفي المخصّص 13: 189 ب «تمنع» بدل «تنظر» ، وفي الديوان «إياد» و «تمنع» . (4) . نقله في البحر 6: 313، والجامع 11: 289.

أطوف بها لا أرى غيرها ... كما طاف بالبيعة الرّاهب فجعل «الراهب» بدلا من «ما» ، كأنّه قال «كالذي طاف» وتقول العرب: «إنّ الحقّ من صدّق الله» أي: «الحقّ حقّ من صدّق الله» . وقال تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) يقول: «من تعجيل من الأمر، لأنّه سبحانه قال: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] فهذا العجل كقوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل/ الآية الأولى] وقوله سبحانه فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) فإنّني سَأُرِيكُمْ آياتِي [الآية 37] . وقال تعالى: أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً [الآية 30] باعتبار أن السماوات والأرض صنفان، كنحو قول العرب «1» «هما لقاحان سودان» وفي كتاب الله عز وجل إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: 41] وقال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الخمسون بعد المائتين] : رأوا جبلا فوق الجبال إذا التقت ... رؤوس كبيريهنّ ينتطحان «2» فقال «رؤوس» ثم قال «ينتطحان» وذا نحو قول العرب «الجزرات» و «الطرقات» فيجوز في ذا، أن تقول: «طرقان» للاثنين «وجزران» للاثنين. وقال الشاعر «3» [من الكامل وهو الشاهد الحادي والخمسون بعد المائتين] : وإذا الرّجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرّقاب نواكسي الأبصار والعرب تقول: «مواليات» و «صواحبات يوسف» فهؤلاء قد كسروا فجمعوا «صواحب» ، وهذا المذهب يكون فيه المذكّر «صواحبون» ونظيره «نواكسي» . وقال بعضهم «نواكس» في موضع جرّ، كما تقول «جحر ضبّ خرب» . وقال تعالى:

_ (1) . نقله في إعراب القرآن 2: 671، والجامع 11: 282. (2) . ورد عجزه في الخصائص 2: 421، والخزانة 2: 201 وورد بتمامه في 202 بلفظ «رأت» بدل «رأوا» . (3) . هو الفرزدق همّام بن غالب. ديوانه 1: 376، والخزانة 1: 99، والكتاب، وتحصيل عين الذهب 2: 207.

إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الآية 87] أي: لن نقدر عليه العقوبة، لأنه قد أذنب بتركه قومه، وإنّما غاضب بعض الملوك، ولم يغاضب ربّه، كان بالله عزّ وجلّ، أعلم من ذلك «1» .

_ (1) . نقله في إعراب القرآن 2: 677، والجامع 11: 330.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الأنبياء"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأنبياء» «1» إن قيل: لم قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الآية الأولى] ، وصفه بالقرب، وقد مضى من وقت هذا الإخبار زمن طويل، ولم يأزف يوم الحساب بعد؟ قلنا: معناه الأوّل: أنه قريب عند الله تعالى، وإن كان بعيدا عند الناس، كما قال تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) [المعارج] وقال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) [الحج] . الثاني: معناه أنه قريب بالنسبة إلى ما مضى من الزمان. كما قال (ص) «إن مثل ما بقي من الدنيا في جنب ما مضى، كمثل خيط في ثوب» . الثالث: أنّ المراد به قرب حساب كلّ واحد في قبره إذا مات، ويؤيّده قوله (ص) «من مات فقد قامت قيامته» . الرابع: أنّ كلّ آت قريب، وإن طالت أوقات استقباله وترقّبه، وإنّما البعيد الذي وجد وانقرض ولهذا يقول الناس إذا سافروا من بلد إلى بلد، بعد ما جعلوا البلد الأول وراء ظهورهم: البلد الثاني أقرب، وإن كان أبعد مسافة. فإن قيل: لم قال تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الآية 2] والذكر الآتي من الله تعالى هو القرآن، وهو قديم لا محدث؟ قلنا: المراد أوّلا محدث إنزاله. ثانيا: أنّ المراد به ذكر يكون غير القرآن، من مواعظ الرسول (ص)

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

وغيره ونسب إلى الله تعالى لأن موعظة كلّ واعظ بإلهامه وهدايته. ثالثا: أنّ المراد بالذكر الذاكر، وهو الرسول (ص) ، ويؤيّده قوله تعالى في سياق الآية هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الآية 3] . وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ [الآية 2] أي إلّا استمعوا ذكره وموعظته. فإن قيل: النّجوى المسارّة، فما معنى قوله تعالى وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [الآية 3] ؟ قلنا: معناه بالغوا في إخفاء المسارّة، بحيث لم يفطن أحد لتناجيهم ومسارّتهم، تفصيلا ولا إجمالا فإنّ الإنسان قد يرى اثنين يتسارّان، فيعلم من حيث الإجمال أنّهما يتسارّان، وإن لم يعلم تفصيل ما يتسارّان به، وقد يتسارّان في مكان لا يراهما أحد. فإن قيل: لم قال تعال لمشركي مكّة: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [الآية 7] يعني فاسألوا أهل الكتاب عمّن مضى من الرسل، أكانوا بشرا أم ملائكة؟ مع أنّ المشركين قالوا، كما ورد في التنزيل: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: 31] . قلنا: هم وإن لم يؤمنوا بكتاب أهل الكتاب، ولكن النقل المتواتر من أهل الكتاب في القضيّة العقلية، يفيد العلم لمن يؤمن بكتابهم، ولمن لا يؤمن به. فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) ، والاستحسار مبالغة في الحسور وهو الإعياء فكان الأبلغ في وصفهم، أن ينفي عنهم أدنى الحسور أو مطلقه، لا أقصاه؟ قلنا: إنما ذكر الاستحسار، إشارة إلى أنّ ما هم فيه، من التسبيح الدائم، والعبادة المتّصلة، يوجب غاية الحسور وأقصاه. فإن قيل: قوله تعالى: في وصف الملائكة بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) . إلى قوله تعالى: مُشْفِقُونَ (28) يدلّ على أنهم لا يعصون الله ما أمرهم، فإذا كانوا لا يعصون الله تعالى، فلم يخافون حتّى قال سبحانه: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) ؟ قلنا: أولا: لمّا رأوا ما جرى على إبليس وعلى هاروت وماروت من القضاء والقدر، خافوا من مثل ذلك. ثانيا: أنّ زيادة معرفتهم بالله، وقربهم في محلّ كرامته، يوجب مزيد خوفهم، ولهذا قال أهل التحقيق: من كان بالله أعرف، كان من الله أخوف ومن كان

إلى الله أقرب، كان من الله أرهب. وقال بعضهم يا عجبا من مطيع آمن، ومن عاص خائف. فإن قيل: لم قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الآية 30] وهم لم يروا ذلك؟ قلنا: معناه: أو لم يعلموا ذلك بأخبار من قبلهم، أو بوروده في القرآن الذي هو معجزة في نفسه، ونظيره قوله تعالى للنبي (ص) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 41] وقوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً [النور: 43] ، ونظائره كثيرة. فإن قيل: لم قال تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الآية 30] مع أن الملائكة أحياء والجنّ أحياء، وليسوا مخلوقين من الماء، بل من النور والنار، كما قال تعالى وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) [الرحمن] وكذا آدم مخلوق من التراب، وناقة صالح مخلوقة من الحجر؟ قلنا: المراد به البعض، وهو الحيوان، كما في قوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] وقوله تعالى: وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ [يونس: 22] ونظائره كثيرة. الثاني: أنّ الكلّ مخلوقون من الماء، ولكن البعض بواسطة، والبعض بغير واسطة. ولهذا قيل إنه تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، وخلق الجنّ من نار خلقها من الماء، وخلق آدم من تراب خلقه من الماء. فإن قيل: لم قال تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) بعد قوله سبحانه: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الآية 37] وكأنه تكليف بما لا يطاق؟ قلنا: هذا، لما ركب فيه الشهوة، وأمره أن يغلبها لأنه أعطاه القدرة، التي يستطيع بها قمع الشهوة، وترك العجلة. فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) مع أن الصمّ لا يسمعون الدعاء إذا ما يبشّرون أيضا؟ قلنا: اللام في الصّمّ إشارة للمنذرين السابق ذكرهم، بقوله تعالى: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الآية 45] فهي لام العهد، لا لام الجنس. فإن قيل: لم قال إبراهيم صلوات الله عليه، كما ورد في التنزيل: بَلْ فَعَلَهُ

كَبِيرُهُمْ هذا [الآية 63] أحال كسر الأصنام على الصنم الكبير، وكان إبراهيم هو الكاسر لها؟ قلنا: أوّلا: قاله على طريق الاستهزاء والتهكّم بهم، لا على طريق الجدّ. ثانيا: أنه لما كان الحامل له على كسرها، اغتياظه من رؤيتها مصفوفة مرتّبة للعبادة، مبجّلة معظّمة، وكان اغتياظه من كبيرها أعظم، لمزيد تعظيمهم له، أسند الفعل إليه، كما أسند إلى سببه، وإلى الحامل عليه. ثالثا: أنه أسند إليه معلّقا بشرط منتف، لا مطلقا، تقديره: فعله كبيرهم هذا، إن كانوا ينطقون. فإن قيل: لم خاطب تعالى النار، بقوله: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) والخطاب، إنّما يكون لمن يعقل؟ قلنا: خطاب التحويل والتكوين لا يختصّ بمن يعقل، قال الله تعالى يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: 10] وقال تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصلت: 11] وقال تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [هود: 44] . فإن قيل: لم وصف الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بكونهم من الصالحين، بقوله تعالى وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ [الآية 85] ، مع أنّ أكثر المؤمنين صالحون، خصوصا في الزمن الأول؟ قلنا: معناه أنهم من الصالحين للإدخال في الرحمة، التي أريد بها النبوّة على ما فسّره مقاتل، أو الجنّة على ما فسّره ابن عبّاس رضي الله عنهما ويؤيّد ذلك قول سليمان صلوات الله عليه، كما ورد في التنزيل: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) [النمل] أي الصالحين للعمل المرضيّ، الذي سبق سؤاله. فإن قيل: لم قال تعالى هنا وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الآية 91] وقال في سورة التحريم وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التحريم: 12] . قلنا: حيث أنّث أراد النفخ في ذاتها، وإن كان مبدأ النفخ من الفرج الذي هو مخرج الولد، أو جيب درعها على اختلاف القولين، لأنه فرجة، وكل فرجة بين شيئين تسمى فرجا في اللغة، وهذا أبلغ في الثناء عليها لأنها إذا منعت جيب درعها ممّا لا يحل،

كانت لنفسها أمنع، وحيث ذكّر فظاهر. فإن قيل: قوله تعالى وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) يدل على أنه يجب أن يرجعوا، لأنّ كل ما حرّم أن لا يوجد، وجب أن يوجد، فما معنى الآية؟ قلنا: معناه: واجب على أهل قرية، عزمنا على إهلاكهم، أو قدّرنا إهلاكهم، أنهم لا يرجعون على الكفر إلى الإيمان، أو أنهم لا يرجعون بعد إهلاكهم إلى الدنيا، فالحرام هنا بمعنى الواجب، كذا قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما، ويؤيّده قول الشاعر: فإنّ حراما لا أرى الدّهر باكيا ... على شجوة إلّا بكيت على عمرو وقيل لفظ الحرام على ظاهره، و «لا» زائدة، والمعنى ما سبق ذكره، والحرمة هنا بمعنى المنع، كما في قوله تعالى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص: 12] وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) [الأعراف] . فإن قيل: قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) وقال في موضع آخر: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] وواردها ليكون قريبا منها لا بعيدا. قلنا معناه مبعدون عن ألمها وعذابها، مع كونهم وارديها، أو معناه مبعدون عنها بعد ورودها، بالإنجاء المذكور بعد الورود، فلا تنافي بينهما. فإن قيل: لم قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) مع أن النبي (ص) لم يكن رحمة للكافرين، الذين ماتوا على كفرهم، لأنّه لولا إرساله إليهم، لمّا عذّبوا بكفرهم، لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) [الإسراء] . قلنا: أوّلا: بل كان رحمة للكافرين أيضا، من حيث أنّ عذاب الاستئصال أخّر عنهم بسببه. ثانيا: أنّه كان رحمة عامّة، من حيث أنه جاء بما يسعدهم إن اتّبعوه، ومن لم يتّبعه فهو الذي قصّر في حق نفسه، وضيّع نصيبه من الرحمة ومثله (ص) كمثل عين ماء عذبة، فجّرها الله تعالى، فسقى ناس زروعهم ومواشيهم منها فأفلحوا وفرّط ناس في السقي منمها، فضيّعوا فالعين في نفسها نعمة من الله تعالى للفريقين ورحمة، وإن قصّر البعض وفرّطوا. ثالثا: أن المراد بالرحمة

الرحيم، وهو (ص) كان رحيما للفريقين، ألا ترى أنهم لما شجّوه يوم أحد، وكسروا رباعيّته حتّى خرّ مغشيّا عليه، فلمّا أفاق قال اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون؟ فإن قيل لم قال تعالى: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) مع إخباره تعالى إيّاهم بقرب الساعة، بقوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل/ الآية الأولى] وقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر/ الآية الأولى] ونحو هما. قلنا: معناه ما أدري أنّ العذاب الذي توعدونه وتهدّدون به، ينزل بكم عاجلا أو آجلا، وليس المراد به قيام الساعة. ويردّ على هذا الجواب، أنّه قريب على كل تقدير لأنّه إن كان قبل قيام الساعة، فظاهر، وإن كان بعد قيام الساعة، فهو كالمتّصل بها، لسرعة زمن الحساب، فيكون قريبا أيضا. فإن قيل: إذا كان المؤمنون يعتقدون أنّ الله تعالى لا يحكم إلّا بالحقّ، فما فائدة الأمر والإخبار المتعلّق بهما، بقوله تعالى: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الآية 112] ؟ قلنا: أوّلا ليس المراد بالحق هنا ما هو نقيض الباطل بل المراد به ما وعده الله تعالى إيّاه، من نصر المؤمنين وخذلان الكافرين، ووعده لا يكون إلا حقّا. فكأنّ السّياق: عجّل لنا وعدك وأنجزه. ونظيره قوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) [الأعراف] . الثاني: أنّه تأكيد لما في التصريح بالصفة من المبالغة، وإن كانت لازمة للفعل، ونظيره في عكسه من صفة الذّمّ، قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران: 112] .

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الأنبياء"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأنبياء» «1» قوله سبحانه: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ [الآية 11] وحقيقة القصم، كسر الشيء الصّلب. وجعل هاهنا مستعارا، للتعبير عن إهلاك الجبّارين من أهل القرى، أصلب ما كانوا عيدانا، وأمنع أركانا. وقوله سبحانه: فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) . وفي هذه الآية استعارتان: لأنّه سبحانه جعل القوم الذين أهلكهم بعذابه، بمنزلة النبات المحصود، الذي أنيم بعد قيامه، وأهمد بعد اشتطاطه واهتزازه. والاستعارة الأخرى قوله تعالى: خامِدِينَ (15) . والخمود من صفات النار، كما كان الحصيد من صفات النبات. فكأنه سبحانه، شبّه همود أجسامهم بعد حراكها، بخمود النار بعد اشتعالها. وقد يجوز أيضا، والله أعلم، أن يكون المراد تشبيههم بالنبات، الذي حصد، ثم أحرق. فيكون ذلك أبلغ في صفتهم بالهلاك والبوار، وامّحاء المعالم والآثار، لاجتماع صفتي الحصد والإحراق. وقال سبحانه: حَصِيداً خامِدِينَ (15) ، ولم يقل خامدا، كما قال تعالى: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) [الشعراء] ولم يقل خاضعة. لأنّه، سبحانه، ردّ معنى خاضعين على أصحاب الأعناق. وكذلك يجوز ردّ معنى خامدين على القوم الذين

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

أهلكوا، لا على النبات الذي به شبّهوا. وقيل معنى قوله تعالى: حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أي سلّطنا عليهم السيف يختليهم، كما تختلى الزروع بالمنجل. وقد جاء في الكلام: جعله الله حصيد سيفك، وأسير خوفك. وقوله سبحانه: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) . وهذه استعارة. لأنّ حقيقة القذف من صفات الأشياء الثقيلة، التي يرجم بها، كالحجارة وغيرها. فجعل سبحانه، إيراد الحق على الباطل، بمنزلة الحجر الثقيل، الذي يرضّ ما صكّه، ويدمغ ما مسّه. ولما بدأ تعالى بذكر قذف الحق على الباطل، وفّى الاستعارة حقّها، وأعطاها واجبها، فقال سبحانه: فَيَدْمَغُهُ ولم يقل فيذهبه ويبطله. لأن الدّمغ إنّما يكون عن وقوع الأشياء الثقال، وعلى طريق الغلبة والاستعلاء. فكأنّ الحقّ أصاب دماغ الباطل فأهلكه. والدماغ مقتل. ولذلك قال سبحانه من بعد: فَإِذا هُوَ زاهِقٌ والزاهق: الهالك. وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الآية 30] . وهذه استعارة. لأن الرّتق هو سدّ خصاصة الشيء. ويقال: رتق فلان الفتق، إذا سدّه. ومنه قيل للمرأة: رتقاء، إذا كان موضع مرّها من الذّكر ملتحما. وأصل ذلك مأخوذ من قولهم: رتق فتق الخباء والفسطاط وما يجري مجراهما، إذا خاطه. فكأنّ السماوات والأرض كانتا كالشّيء المخيط الملتصق بعضه ببعض، ففتقهما سبحانه، بأن صدع ما بينهما بالهواء الرقيق، والجوّ الفسيح. وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، معنى أن السماوات كانت لا تمطر، والأرض لا تنبت، ففتق الله سبحانه السماء بالأمطار، والأرض بالنبات «1» . وقوله سبحانه: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الآية 32] وهذه استعارة. لأن حقيقة السّقف ما أظلّ الإنسان، من علوّ بيت أو خباء، أو ما

_ (1) . نسب الشريف الرضي الكلام للإمام علي بن أبي طالب. وهذا التفسير منسوب لا بن عباس رضي الله عنهما انظر «مناهل العرفان في علوم القرآن» للزّرقاني ج 1 ص 483. ورواية الإمام السّيوطي في «الإتقان» تؤيّد قولنا، انظر ص 187 ج 2 من كتاب «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي.

يجري مجرى ذلك. فلما كانت السماء تظلّ من تحتها، وتعلو على أرضها، حسن أن تسمّى سقفا لذلك. ومعنى «محفوظا» : أي تحفظ، مما لا يمكن أن تحفظ من مثله سائر السقوف، من الانفراج والانهدام والتشعّث والاسترمام. وقد قيل: معنى ذلك، حفظ السماء من مسارق السمع، وتحصينها بمقاذف الشهب. وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) . وهذه استعارة، لأنّ أصل السّبح هو التقلّب والانتشار في الأرض. ومنه السّباحة في الماء. ولا يكون ذلك إلّا من حيوان يتصرّف. ولكنّ الله سبحانه، لمّا جعل الليل والنهار والقمر والشمس مسخّرة للتقلّب في هذا الفلك الدائر والصفيح السائر، تتعاقب فيه وتتغاير، تتقارب وتتباعد، حسن أن يعبّر عنها بما يعبّر به عن الحيوان المتصرّف، وزيدت على ذلك شيئا، فعبّر عنها بما يعبّر به عن الحيوان المميّز. فقيل: «يسبحون» ، ولم يقل: تسبح، لأنها، في الجري على الترتيب المتقن والتقدير المحكم، أقوى تصرّفا من الحيوان غير المميّز. ولأن الله سبحانه أضاف إليها الفعل على تدبير ما يعقل، فحسن أن يعبّر عنها بما يعقل، مثل قوله تعالى: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) [يوسف] . ومثل قوله سبحانه: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النمل: 18] فقال سبحانه: ادْخُلُوا ولم يقل ادخلي. لأن خطابها لمّا خرج على مخرج خطاب من يعقل، كان الأمر لها على مثال أمر من يعقل. وقد مضى الكلام على ذلك فيما تقدّم. وقوله سبحانه: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الآية 37] . وهذه استعارة. والمراد أنّ الإنسان خلق مستعجلا بطلب ما يؤثره، واستطراف ما يحذره. والله سبحانه إنّما يعطيه ما طلب، ويصرف عنه ما رهب، على حسب ما يعلمه من مصالحه، لا على حسب ما يسنح من ماربه. وقيل ذلك على طريق المبالغة في وصف الإنسان بالعجلة، كما يقال في الرجل الذكيّ: إنّما هو نار تتوقّد، وللإنسان البليد: إنّما هو حجر جامد. فأمّا من قال من أصحاب التفسير: إن العجل هاهنا اسم من أسماء الطين،

وأورد عليه شاهدا من الشعر، فلا اعتبار بقوله، ولا التفات إلى شاهده، فإنه شعر مولّد وقول فاسد «1» . وقوله سبحانه: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) . ولفظ النفحة هاهنا مستعار. والمراد بها، إصابة الشيء اليسير من العذاب. يقال: نفح فلان فلانا بيده. ونفح الفرس فلانا بحافره. إذا أصابه إصابة خفيفة، ولم يبلغ في إيلامه الغاية. فكأنّ النّفحة هاهنا قدر يسير من العذاب، يدلّ واقعه على عظيم متوقعه، وشاهده على فظيع غائبه. وقوله سبحانه: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) وهذه استعارة. والمراد بها وصف ما لحقهم من الخضوع والاستكانة والإطراق، عند لزوم الحجّة، فكأنّهم شبّهوا بالمتردّي على رأسه، تدويخا بنصوع البيان، وإبلاسا عند وضوح البرهان. وقوله سبحانه: وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) . ولفظ القرية هاهنا مستعار. والمراد به، الجماعة التي كانت تعمل الخبائث، من أهل القرية. وكشف سبحانه عن ذلك بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) . وفي هذا الكلام خبر عجيب، لأنه تعالى جعل ما يلي لفظ القرية مؤنّثا، إذ كانت مؤنّثة، فقال: الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ. وجعل بقية الكلام مذكّرا، فقال: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) لأنّ المراد به مذكّر، فصار الكلام في الآية على قسمين، قسم عائد إلى اللفظ، وقسم عائد على المعنى، وهذا من عجائب القرآن. وقوله سبحانه: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) ويسبّح هاهنا استعارة. وقد مضى من الكلام في «الرّعد» على قوله تعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ [الرّعد: 13] ما هو بعينه تأويل تسبيح

_ (1) . أمّا الشعر الذي أنشدوه، ليثبتوا به أن العجل هو الطين، فهو قول الشاعر: والنبع في الصّخرة الصمّاء منبته ... والنّخل ينبت بين الماء والعجل انظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ج 11 ص 289.

الجبال هاهنا. وقد قيل في ذلك وجه آخر، يخرج به الكلام من حدّ الاستعارة. وهو أن يكون قوله تعالى: يُسَبِّحْنَ هاهنا مأخوذا من التسبيح، وهو الإبعاد في السير، والتصرّف في الأرض. لا من التسبيح المعروف. فكأنه تعالى قال: وسخّرنا مع داود الجبال يسرن في الأرض معه، ويتصرّفن على أمره، طاعة له. ونظير ذلك قوله سبحانه في «سبأ» : يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ: 10] أي سيري معه. والتأويب السير. وإنما قال تعالى: يُسَبِّحْنَ عبارة عنها، بتكثير الفعل من السّبح. وقال سبحانه: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7) [المزّمّل] أي تصرّفا ومتّسعا، ومجالا ومنفسحا. وقوله سبحانه: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الآية 91] . وهذه استعارة. والمراد هاهنا بالرّوح: إجراء روح المسيح (ع) ، في مريم (ع) ، كما يجري الهواء بالنّفخ. لأنه حصل معها من غير علوق من ذكر، ولا انتقال من طبق الى طبق. وأضاف تعالى الروح إلى نفسه، لمزيّة الاختصاص بالتعظيم، والاصطفاء بالتكريم. إذ كان خلقه المسيح (ع) ، من غير توسّط مناكحة، ولا تقدّم ملامسة. وقوله سبحانه: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) . وهذه استعارة. والمراد بها: أنهم تفرّقوا في الأهواء، واختلفوا في الآراء، وتقسّمتهم المذاهب، وتشعّبت بهم الولائج «1» . ومع ذلك فجميعهم راجعون إلى الله سبحانه، على أحد وجهين: إمّا أن يكون ذلك رجوعا في الدنيا، فيكون المعنى: أنهم، وإن اختلفوا في الاعتقادات، صائرون إلى الإقرار بأنّ الله سبحانه خالقهم ورازقهم، ومصرّفهم ومدبّرهم. أو يكون ذلك رجوعا في الاخرة، فيكون المعنى: أنّهم راجعون إلى الدار التي جعلها الله تعالى مكان الجزاء على الأعمال، وموفى الثواب والعقاب وإلى حيث لا يحكم فيهم، ولا يملك أمرهم، إلا الله سبحانه. وشبّه تخالفهم في المذاهب،

_ (1) . الولائج: جمع وليجة، وهي بطانة الإنسان، ومن يتّخذه معتمدا عليه من غير أهله.

وتفرّقهم في الطرائق، مع أنّ أصلهم واحد، وخالقهم واحد، بقوم كانت بينهم وصائل متناسجة، وعلائق متشابكة، ثمّ تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق، وشذّب تلك الوصائل، فصاروا أخيافا «1» مختلفين، وأوزاعا «2» مفترقين. وقوله سبحانه: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) هذه استعارة، لأنّ الحصب هو ما يرمى به من الحصباء، وهي الحصى الصّغار. يقال: حصب فلان فلانا، إذا قذفه بالحصى. ويقولون: حصبنا الجمار، أي قذفنا فيها بالحصبات، فشبّه، سبحانه، قذفهم في نار جهنم، بالحصباء التي يرمى بها من ذلّ مقاذفهم، وهوان مطارحهم. وفي ذلك أيضا معنى لطيف، وهو أنّه سبحانه لما قال: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ والمراد هاهنا، والله أعلم، ب وَما تَعْبُدُونَ: الأصنام، والأغلب عليها أن تكون من الحجارة، حسن أن يسمّى الرمي بها في نار جهنم حصبا وتسميتها حصبا إذ كانت حجارة، ومن جنس الحصباء، وجاز أن يسمّى قذف العابدين لها في النار أيضا بذلك، حملا على حكمها، وإدخالا في جملتها. والفائدة في قذف الأصنام مع عابديها في نار جهنّم، أن يكون من زيادات عقابهم، ورجحانات عذابهم، لأنّهم إذا كثرت مشاهدتهم لها في أحوال العذاب، كان ذلك أعظم لحسرتهم على عبادتها، وندمهم على الدّعاء إليها. وقد قيل أيضا: إنّها إذا حميت بوقود النار، نعوذ بالله منها، لصقت بأجسامهم، فكانت من أقوى أسباب الإيلام لهم. وعلى هذا التأويل، حمل جماعة من المفسّرين، قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) [البقرة] . وقوله سبحانه: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الآية 104] . وهذه استعارة والمراد بها على أحد

_ (1) . الأخياف: المختلفون: يقال: هم إخوة أخياف، أي أمّهم واحدة والآباء شتّى. [.....] (2) . الأوزاع: الجماعات. ولا واحد لها.

القولين: إبطال السماء ونقض بنيتها، وإعدام جملتها. من قولهم: طوى الدهر آل فلان، إذا أهلكهم وعفّى آثارهم. وعلى القول الاخر، يكون الطيّ هاهنا على حقيقته فيكون المعنى: إنّ عرض السماوات يطوى حتى يجتمع بعد انتثاره، ويتقارب بعد تباعد أقطاره. فيصير كالسّجلّ المطويّ وهو ما يكتب فيه من جلد أو قرطاس، أو ثوب، أو ما يجري مجرى ذلك. والكتاب، هاهنا، مصدر، نقول: كتبت كتابة، وكتابا، وكتبا، فيكون المعنى يوم نطوي السماء كطيّ السّجلّ ليكتب فيه، فكأنه تعالى قال: كطيّ السجل للكتابة، لأنّ الأغلب في هذه الأشياء التي أومأنا إليها أن تطوى، قبل أن تقع الكتابة فيها لأنّ ذلك الطيّ أبلغ في التمكّن منها.

الجزء السادس

الجزء السادس سورة الحج المبحث الأول أهداف سورة «الحج» «1» سورة الحج سورة مدنية، نزلت بعد سورة النور. وقيل إن سورة الحج من السور المكية، وقد استثنى من ذهب إلى هذا الرأي الآيات [19- 24] . وكان الأولى أن يستثني من قال إنها مكية آيات الإذن بالقتال من 38 إلى 41، ومنها قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) . وعند التأمل في سورة الحج، نجد أن أسلوبها وموضوعاتها وطريقتها أقرب إلى السور المكية. فموضوعات التوحيد والتخويف من الساعة، وإثبات البعث وإنكار الشّرك، ومشاهد القيامة، وآيات الله المبثوثة في صفحات الكون، بارزة في السورة. ويمكن أن يقال إن هذه السورة مشتركة بين مكة والمدينة كما يبدو من دلالة آياتها، وعلى الأخص آيات الإذن بالقتال، وآيات العقاب بالمثل في قوله تعالى: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) فهذه الآيات مدنيّة لأن المسلمين لم يؤذن لهم في القتال والقصاص إلا بعد الهجرة، وبعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة. أما قبل ذلك، فقد قال رسول الله (ص) حين بايعه أهل يثرب،

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

سمات القوة

وعرضوا عليه أن يميلوا على أهل منى من الكفار فيقتلوهم: «إني لم أومر بهذا» . حتى إذا صارت المدينة دار إسلام، شرّع الله القتال لردّ أذى المشركين عن المسلمين، والدفاع عن حرية العقيدة، وحرية العبادة للمؤمنين. ومن الموضوعات المدنية في سورة الحج: حماية الشعائر، والوعد بنصر الله لمن يقع عليه البغي، وهو يردّ العدوان، والأمر بالجهاد في سبيل الله. وفي السورة موضوعات أخرى عولجت بطريقة القرآن المكّي، وتغلب عليها السّمات المكية. وهذه السمات تجعل سورة الحج مما يشبه المكّيّ وهو مدني. سمات القوة تتضح في سورة الحج سمات القوة والعنف، وأساليب الرهبة والتحذير، واستجاشة مشاعر التقوى والوجل والخوف من بأس الله. وتبدو هذه المعاني في المشاهد والأمثال. فمشهد البعث مزلزل عنيف رهيب، تذهل فيه الأم عن وليدها وهو بين يديها، وكذلك مشهد العذاب: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) . ومشهد القرى المدمّرة بظلمها: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) . تجتمع هذه المشاهد العنيفة المرهوبة إلى قوة الأوامر والتكاليف، وتبرير الدفع بالقوة، وتأكيد الوعد بالنصر والتمكين إلى عرض الحديث عن قوة الله وضعف الشركاء المزعومين. ووراء ذلك كلّه الدعوة إلى التقوى والوجل، واستجاشة مشاهد الرهبة والامتثال لأمر الله، تبدأ بها السورة وتتناثر في ثناياها: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) . ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) .

أقسام السورة وأفكارها

فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الآيات 34- 35] . لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ [الآية 37] . ذلك إلى استعراض مشاهد الكون، ومشاهد القيامة، ومصارع الغابرين والأمثلة والعبر، والصور والتأملات، لاستجاشة مشاعر الإيمان والتقوى والإخبات والاستسلام. هذا هو الروح الساري في جو السورة كلها، والذي يطبعها ويميزها. أقسام السورة وأفكارها تشتمل سورة الحج على أربع مجموعات، أو أقسام رئيسية، يجري السياق فيها كالآتي: القسم الأول: يبدأ القسم الأول بالنداء العام: نداء الناس جميعا إلى تقوى الله، وتخويفهم من زلزلة الساعة، ووصف الهول المصاحب لها، وهو هول عنيف مرهوب. في ظل هذا الهول باستنكار الجدل في الله بغير علم، واتّباع كل شيطان محتوم على من يتّبعه الضلال، ثم يعرض دلائل البعث من أطوار في حياة الإنسان وحياة النبات، مسجلا تلك القربى بين أبناء الحياة، ويربط بين تلك الأطوار المطّردة الثابتة، وبين كون الله هو الحق، وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وكلها سنن مطّردة، وحقائق ثابتة متصلة بناموس الوجود. ثم يعود إلى استنكار الجدل في الله بغير علم، ولا هدى ولا كتاب منير. بعد هذه الدلائل المستقرة في صلب الكون وفي نظام الوجود، إلى استنكار بناء العقيدة على حساب الربح والخسارة، والانحراف عن الاتجاه إلى الله عند وقوع الضّرّاء، والالتجاء إلى غير حماه، واليأس من نصرة الله وعقباه ... وينتهي هذا الشوط بتقرير أن الهدى والضلال بيد الله، وأنه سيحكم بين أصحاب العقائد المختلفة يوم الحساب. وهنا يعرض ذلك المشهد العنيف من مشاهد العذاب للكافرين، وإلى جواره مشهد النعيم للمؤمنين. ويمتد هذا القسم من أول السورة إلى الآية 24.

القسم الثاني:

القسم الثاني: يبدأ القسم الثاني بالحديث عن الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام، ويستنكر هذا الصّدّ عن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس جميعا، يستوي في ذلك المقيمون به والطارئون عليه. وبهذه المناسبة يذكر طرفا من قصة بناء البيت، وتكليف إبراهيم (ع) أن يقيمه على التوحيد، وأن يطهّره من رجس الشرك، ويستطرد إلى بعض شعائر الحج وما وراءها من استجاشة مشاعر التقوى في القلوب، وهو الهدف المقصود، وينتهي هذا القسم بالإذن للمؤمنين في القتال، لحماية الشعائر والعبادات من العدوان الذي يقع على المؤمنين ولا جريرة لهم إلا أن يقولوا: ربّنا الله. ويستغرق هذا القسم الآيات: [25- 41] . القسم الثالث: يبدأ القسم الثالث بعرض نماذج من تكذيب المكذبين من قبل، ومن مصارع المكذبين ومشاهد القرى المدمرة على الظالمين. وذلك لبيان سنة الله في الدّعوات، وتسلية الرسول (ص) عما يلقاه من صدّ وإعراض، وتطمين المسلمين بالعاقبة التي لا بد من أن تكون، كذلك يتضمن عرض طرف من كيد الشيطان للرسل والنبيين في دعوتهم، وتثبيت الله لدعوته، وإحكامه لآياته، حتى يستيقن بها المؤمنون، ويفتن بها الضّعاف والمستكبرون ويستغرق هذا القسم الآيات: [42- 59] . القسم الرابع: يتضمن القسم الرابع وعد الله بنصرة من وقع عليه البغي فقام يدفع عن نفسه العدوان، ويتبع هذا الوعد بعرض دلائل القدرة في صفحات الكون، وإلى جوارها يعرض صورة زرية لضعف الالهة التي يركن إليها المشركون، وينتهي هذا القسم وتنتهي السورة معه بنداء الذين آمنوا ليعبدوا ربهم، ويجاهدوا في الله حق جهاده، ويعتصموا بالله وحده، وهم ينهضون بتكاليف عقيدتهم العريقة منذ أيام إبراهيم الخليل (ع) ، ويستغرق هذا القسم الآيات: [60- 78] . ومن هذا العرض نجد تعاقب موضوعات السورة وتناسقها في حلقات متساوية، تسلم كل حلقة للتي تليها،

حكمة التسمية

ليكون في مجموعها سورة كاملة هي سورة الحج. حكمة التسمية سمّيت هذه السورة بسورة الحج لأنها اشتملت على الدعوة إلى الحج على لسان إبراهيم الخليل (ع) ، وفي الحج منافع دينية وعلمية وتجارية وسياحية. قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ. في الحج يتجمع المسلمون من كل بلد، للتعارف والتالف والتشاور والتعاون، وبذلك يصبحون يدا واحدة وقوة متالفة كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا. في الحج يشاهد الإنسان الأماكن المقدسة، التي شهدت ميلاد الإسلام، وولادة الرسول (ص) ورسالته وجهاده وهديه. في الحج يتعرف المسلمون، من كل قطر، على إخوانهم، ويتدارسون شئونهم ويعرفون آلامهم وآمالهم. وربما تعاقدوا على شراء ما يلزمهم أو على عمل ما ينفعهم. في الحج سياحة في أرض الله، وأداء لمناسك مقدسة في موطن إبراهيم الخليل وهاجر وإسماعيل، ورؤية الكعبة المقدسة وزمزم والصفا والمروة ومنى وعرفات. وبعد الحج زيارة للمسجد النبوي وصلاة بالروضة ووقوف أمام قبر النبي (ص) وزيارته، وزيارة قبور الصحابة والشهداء، ورؤية أمجاد الإسلام ومواقع المعارك. وبذلك يستقر الايمان في القلب والشعور، ويصبح الحج عبادة ذات منافع متعددة، إذا فهم المسلمون حكمته ورسالته. مقصود السورة اجمالا إذا أردنا التعرف على الأفكار المنثورة في سورة الحج وجدناها تدور حول الأمور الآتية: الوصية بالتقوى والطاعة، وبيان هول الساعة وزلزلة القيامة، والدليل على إثبات الحشر والنشر، وجدال أهل الباطل مع أهل الحق، وذمّ أهل النفاق وعبادة الأوثان، ومدح المؤمنين وبيان رعاية الله لرسوله، ونصره رغم أنف

الكافرين، وسجود الكائنات لله، وقيام إبراهيم بالدعوة إلى الحج وبيان تعظيم الحرمات والشعائر، والمنّة على العباد بدفع فساد أهل الفساد، وإهلاك القرى بسبب ظلم أهلها، وذكر نسيان رسول الله (ص) ، وسهوه حال تلاوة القرآن، وتثبيت المؤمنين، وشقاق الكافرين حتى تفاجئهم الساعة، وبيان قدرة الله سبحانه، وعجز الأصنام وعبّادها، واصطفاء الرسل من الملائكة كجبريل (ع) ، ومن الإنس كمحمد (ص) ، وتكليف المؤمنين أنواعا من العبادة كالصلاة والجهاد والإحسان، وترغيبهم في الوحدة والجماعة والتمسك بحبل الله في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الآية 78] .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الحج"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحج» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الحج بعد سورة النّور، ونزلت سورة النور بعد سورة الحشر، وكان نزول سورة الحشر فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك: فيكون نزول سورة الحج في ذلك التاريخ أيضا، وعلى هذا تكون من السور المدنية، وهو المشهور في تاريخ نزولها. وقيل إن سورة الحج من السّور المكية، وقد استثنى من ذهب إلى ذلك، الآيات [19- 24] ، فذهب إلى أنها نزلت بالمدينة. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لما ورد فيها من الكلام على الحج، وتبلغ آياتها ثماني وسبعين آية. الغرض منها وترتيبها غرض هذه السورة بيان أهوال يوم القيامة، والإذن في قتال من يؤذي المسلمين من المشركين وغيرهم، ولهذا ذكرت بعد سورة الأنبياء، لأن في أواخر الأنبياء تهديدا للمشركين بالفزع الأكبر في القيامة، وبتسليط المسلمين عليهم في الدنيا، فجاءت هذه السورة بعدها، وفي أولها بيان ذلك الفزع الأكبر، وفي آخرها الإذن بقتال المشركين، ليكون به تسليط المسلمين عليهم في الدنيا.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

بيان أهوال يوم القيامة الآيات [1 - 24]

بيان أهوال يوم القيامة الآيات [1- 24] قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) ، فأمر الناس بتقواه، وحذّرهم من أهوال الساعة التي يبلغ من شدتها أن تذهل بها كل مرضعة عمّا أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، ويرى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنّ عذاب الله شديد. ثم ذكر سبحانه، أن من الناس من يجادل في دين الله تقليدا من غير علم، فينكرون تلك الأهوال، ويرتابون في بعثهم بعد موتهم، وردّ عليهم بأنه خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلّقة وغير مخلقة، إلى غير هذا مما ذكره في سلسلة خلقهم، ومن يقدر على هذا، يقدر على أن يبعثهم كما خلقهم، ولا يصح لهم معه أن يرتابوا في الساعة وأهوالها. ثم ذكر، جلّ وعلا، أن من الناس من يجادل في ذلك عنادا وكبرا، وهم رؤساء الذين أنكروه فيما سبق تقليدا، وأن منهم منافقين لا يجادلون في ذلك، ولكنهم لا يعتقدون في الثواب والعقاب، فيعبدون الله على حرف، أي على قلق واضطراب. فإن أصابوا خيرا دنيويّا من الغنائم ونحوها اطمأنوا به، وإن أصابهم شر أظهروا ما عندهم من النفاق، فيخسرون دنياهم وآخرتهم، ويدعون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ثم ذكر سبحانه أنه يدخل الذين آمنوا بذلك جنات تجري من تحتها الأنهار، وأنه ينصرهم في الاخرة والدنيا. وإذا كان أعداؤهم يظنون أنه لا ينصرهم فليفعلوا ما في وسعهم لمنع ذلك النصر، فإن كيدهم لا يذهب ما يغيظهم. ثم انتقل السّياق إلى طريق آخر في إثبات ما ينكرونه من ذلك، فذكر اختلاف الناس في الدنيا إلى مؤمنين ويهود وصابئين ونصارى ومشركين، وأنه لا بد من أن يفصل الله سبحانه، بينهم في ذلك الخلاف، لأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، فيفصل بواسع علمه فصلا عادلا بينهم، ولأنه يسجد له من في السماوات ومن في الأرض، وكثير من الناس وكثير حقّ عليه العذاب، فلا بد من الفصل في هذا بينهم. ثم ذكر ما يحكم به على فريقي المؤمنين والكافرين من الذين اختلفوا

الإذن في القتال الآيات [25 - 78]

ذلك الاختلاف في دينهم، فالذين كفروا تقطّع لهم ثياب من نار إلى غير هذا مما ذكره في عقابهم، والذين آمنوا يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ... وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) . الإذن في القتال الآيات [25- 78] ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) ، فمهّد للإذن في القتال بذكر ما يفعله المشركون من صدّ المسلمين عن المسجد الحرام، وقد جعله للناس سواء، فليس لهم أن يمنعوا أحدا منه، وهذا إلى أنهم يلحدون فيه بشركهم، وقد أمر إبراهيم ببنائه ليعبد الله فيه وحده، وليكون بيتا طاهرا للطائفين والقائمين والمصلّين، ويحجّ الناس إليه من كل فجّ ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله، ويطعموا البائس الفقير، إلى غير هذا مما ذكره من أمور الحج. ثم ذكر جلّت قدرته، أنه لهذا يدافع عن المؤمنين ويأذن لهم أن يقاتلوا من ظلمهم وأخرجهم من ديارهم بغير حق، وأنه لو لم يأذن لهم في القتال لتسلط المشركون عليهم، وهدّموا بيوت عبادته من المساجد وغيرها، ثم وعدهم بالنصر والتمكين في الأرض، ليقوموا فيها بما أتى به الإسلام من صلاة وغيرها مما فيه صلاحها. ثم ذكر سبحانه، أنهم إن يكذّبوا الرسول (ص) فيما وعده من النصر عليهم، فقد كذّب قبلهم قوم نوح وغيرهم، فأمل لهم ثم أخذهم فأهلك قراهم، وإنهم ليسيرون في الأرض فيرونها ولا يتّعظون بها، ولكنهم عمي القلوب فلا تؤثر فيهم تلك العظة ثم ذكر أنهم يستعجلون الرسول (ص) بذلك العذاب على سبيل الاستهزاء، وأنه تعالى لن يخلف وعده وإن أملى لهم، لأن اليوم عنده كألف سنة عندنا، وكثير من القرى قبلهم أملى لهم ثم أخذهم فأهلكهم، ثم أمر الرسول (ص) أن ينذرهم بذلك العذاب فيعد الذين يؤمنون بأن لهم مغفرة ورزقا كريما، ويوعد الذين يسعون في إبطال آيات الله بأنهم أصحاب الجحيم. ثم انتقل السياق من ذلك إلى الكلام

فيما لم يسلم منه نبي من الأنبياء من تمنّي التعجيل بالنصر على الأعداء، فذكر تعالى أن مثل هذا مما يلقيه الشيطان في أمنيّته، وأنه ينسخ ما يلقيه من هذا فلا يظهر أثره خارج القلب، ثم يحكم آياته، وينزل سبحانه نصره في الوقت الذي قدّره له ثم ذكر أنه لا يعجّل العذاب ليجعل ما يلقي الشيطان من طلب تعجيله أو تمنّيه فتنة لمرضى القلوب، فيمشوا وراء ما يلقي الشيطان. أما الذين أوتوا العلم، فيعلمون أنه الحق من ربهم، ولا يخرج بهم تمنّيه إلى طلب تعجيله، ثم ذكر أن هؤلاء الكافرين لا يزالون في شك من ذلك حتى تأتيهم الساعة فجأة، أو يأتيهم عذاب في يوم حرب. وهنالك يحكم الله بينهم، فالذين آمنوا يدخلهم جناته، والذين كفروا لهم عذاب مهين والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنّهم الله رزقا حسنا، وليدخلنّهم مدخلا يرضونه، ولينصرنّهم على من بغوا عليهم وأخرجوهم من ديارهم، وهو العفوّ الغفور، الذي يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، إلى غير هذا مما ذكره في تأييد قدرته على تحقيق وعده لهم. ثم انتقل السّياق من ذلك إلى تحريض الله سبحانه، لرسوله (ص) على الثبات في دعوته ليمضي في قتال المشركين، ويقطع أطماعهم في عدوله عنها، فذكر جلّ وعلا أن لكل أمة شريعة من الشرائع، فللمسلمين شريعتهم التي بعث بها، فليثبت عليها ولا يمكّن المشركين من أن يخدعوه عنها، وليثابر على الدعوة إليها، فإن جادلوه فيها بعد وضوح أدلتها فلينذرهم بأن الله يعلم ما لا يعلمون، وسيحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، وهو الذي يعلم ما في السماء والأرض فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم. ثم انتقل السّياق من ذلك إلى بيان فساد طريقة المشركين بعد بيان استقامة الدعوة إلى الله، فذكر تعالى أنهم يعبدون من دونه ما لا دليل لهم عليه من نقل أو عقل، وينكرون ما يتلى عليهم من الأدلة الواضحة على أنه سبحانه لا شريك له، ثم ذكر من ذلك مثلا ضربه لهم، وهو أن الذين يدعونهم من دونه لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ومن يكون أضعف من الذباب لا يمكن أن يكون إلها، ثم

بيّن السياق أنّ المشركين لم يقدّروا الله حق قدره حين سوّوا به أولئك الذين يدعونهم آلهة، وأنه جلّ وعلا يصطفي من الملائكة رسلا، ومن الناس على أنهم عباد له، فلا يمكن أن يصطفي أندادا له من تلك الالهة العاجزة، وهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهذه الالهة لا تعلم شيئا. ثم ختمت السورة بأمر المسلمين بما يضمن لهم الفلاح في جهادهم، وهو أن يحافظوا على ما كلّفوا من الصلاة وغيرها، وأن يخلصوا في الجهاد الذي أذن الله لهم فيه، وأن يذكروا أنه سبحانه اختارهم لتلك الشريعة السّمحة التي هي ملة أبيهم إبراهيم وأنه سماهم المسلمين في الكتاب المنزلة قبل القرآن وفي القرآن لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الحج"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحج» «1» أقول: وجه اتصالها بسورة الأنبياء: أنه سبحانه ختم الأنبياء بوصف الساعة في قوله: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء: 97] . وافتتح الحج بذلك، فقال تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الحج"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الحج» «1» 1- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ [الآيتان 3 و 8] . قال أبو مالك «2» : نزلت في النّضر بن الحارث. أخرجه ابن أبي حاتم. 2- مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ [الآية 15] . أي: محمّدا (ص) . أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس. 3- هذانِ خَصْمانِ [الآية 19] . أخرج الشيخان «3» عن أبي ذرّ قال: نزلت هذه الآية في حمزة، وعبيدة بن الحارث، وعلي بن أبي طالب، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. وأخرج الحاكم «4» عن علي قال: نزلت في الذين بارزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. 4- وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ [الآية 25] . قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن أنيس «5» . أخرجه ابن أبي حاتم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . أبو مالك الأشجعي: سعد بن طارق الكوفي، ثقة عالم، مات في حدود (140) هـ. (3) . البخاري (4743) في التفسير، ومسلم (33) في آخر صحيحه. (4) . في «المستدرك» 2: 386، وصححه الذهبي. (5) . وذلك لما بعثه رسول الله (ص) مع رجلين أحدهما مهاجري، والاخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاري، ثم ارتدّ عن الإسلام. انظر الرواية في «الدر المنثور» 4: 351.

5- فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ [الآية 28] . قال ابن عباس: أيام العشر. وقال زيد بن أسلم: يوم عرفة، ويوم النّحر، وأيام التشريق. وقال ابن عمر: يوم النّحر، ويومان بعده. أخرجهما ابن أبي حاتم. 6- عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الآية 55] . قال أبيّ بن كعب، وسعيد بن جبير، وعكرمة: يوم بدر. وقال الحسن، ومجاهد، والضّحّاك: يوم القيامة لا ليلة له. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الحج"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحج» «1» 1- قال تعالى: وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) . أي: كل شيطان عات. ومرد على الأمر، بالضم، يمرد مرودا ومرادة: أقبل وعتا وكذلك مرد بالفتح، ومنه قوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [التوبة: 101] قال الفراء: يريد مرنوا عليه. وشيطان مارد ومريد، أي: خبيث عات. ومنه قولهم: تمرّد علينا، أي: عتا. والتمرّد في لغة العصر: العصيان والعتوّ. 2- وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ [الآية 5] . وقوله: مِنْ نُطْفَةٍ، أي: من ماء قليل. والعلقة: قطعة الدم الجامد، والمضغة: اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ. والمخلّقة: المسوّاة الملساء من النقصان والعيب. ويقال: «خلّق السواك» أو العود إذا سوّاه وملّسه، وذلك من قولهم: «صخرة خلقاء» . وكأنّ الله سبحانه يخلّق المضغ متفاوتة: منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

في خلقهم، وصورهم، وطولهم، وقصرهم، وتمامهم، ونقصانهم. 3- وقال تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الآية 5] . قوله: طِفْلًا، أي: أطفالا، وقالوا: الطفل واحد وجمع. وهذا مما سجّلته لغة التنزيل، فليس لنا أن نتأوّل فنقول كما قالوا: أي نخرج كل واحد منكم طفلا. 4- وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الآية 11] . وقوله: عَلى حَرْفٍ، أي: على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه. وهذا يدل على قلق واضطراب في دينهم. أقول: والحرف طرف من كل شيء، وهذا الطرف قد يكون قطعة صغيرة. وعلى هذا يكون قول العامة «حرف من خبز» مقبول وصحيح. 5- وقال تعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الآية 19] . الخصم مفرد ويدل على جمع، كالجمع، والفريق، والفوج، ونحو ذلك، فكأن المعنى هذان جمعان اختصموا ... والفعل «اختصموا» ، روعي فيه المعنى، كما روعي اللفظ في كلمة «خصمان» بدلالة تثنيتها. 5- وقال تعالى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ [الآية 25] . أي: «العاكف» المقيم فيه، «والباد» الذي ينتابه من غير أهله، مستويان في سكناه والنزول فيه، فليس أحدهما أحقّ بالمنزل يكون فيه من الاخر. أقول: ورسم «الباد» في المصحف بالدال مع الكسرة، ووجهها أن تكون بالياء لأنها اسم فاعل محلّى بالألف واللام، وقد اجتزئ بالكسرة عن المد (أي الياء) لمكان الوقف الجائز، بعد هذه الكلمة على أن وصلها أولى، فإذا وصلت فالكسرة تؤذن بذلك الوصل أيضا كالياء. 6- وقال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) .

قوله تعالى: «رجالا» ، جمع راجل، مثل قيام جمع قائم. وهو مقابل لقوله: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ، أي: «الرجال» يقابلون «الركبان» كقوله أيضا: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [البقرة: 239] . والراجل بهذا المعنى، أي: الماشي، أخذ من «الرجل» ، عضو المشي في الإنسان، وهذا من باب الاشتقاق من أسماء الذات. وقوله: يَأْتِينَ، وهو وصف لقوله كُلِّ ضامِرٍ وكأنه بمعنى الجمع وقرئ: «يأتون» صفة للرجال والركبان. 7- وقال تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الآية 29] . «التّفث» : نتف الشعر، وقصّ الأظفار، وتنكّب كلّ ما يحرم على المحرم، وكأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال. وقال الزجّاج: لا يعرف أهل اللغة التّفث إلّا من التفسير. 8- وقال تعالى: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) . قوله: مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) . أي: وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت، وهذا شيء من مناسك الحج. أما قوله: مَحِلُّها، بكسر الحاء فهو اسم مكان من حلّ يحلّ. 9- وقال تعالى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) . «المخبتون» المتواضعون الخاشعون، وهو من الخبت، أي: المطمئنّ من الأرض. أقول: وقد توسعت العربية، فأخذت الكثير من أسماء المعاني من أسماء الذات، أي: من المحسوسات، ومن الكلم الذي يتصل بالبيئة البدوية، ألا ترى أن الفعل «بدا» ذو صلة ب «البدو» ، وأن «الجمال» ، بمعنى الحسن، ذو صلة ب «الجمل» الحيوان، ومثل هذا لا يمكن أن يبلغه الحصر. 10- وقال تعالى: وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الآية 36] . أما قوله: الْقانِعَ، فهو السائل من قولك: قنعت إليه وكنعت: إذا خضعت له وسألته قنوعا.

وَالْمُعْتَرَّ: الذي يتعرّض بغير سؤال. وقيل: القانع السائل أو المتعفف. أقول: وهذا كله من الكلم الذي نفتقده كل الافتقاد في العربية المعاصرة. 11- وقال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ [الآية 40] . الصوامع للرهبان وكذلك البيع، والمفرد بيعة. ويذهب أهل عصرنا هذا، وأعني أهل العلم من المختصين باللغات القديمة، أن «البيعة» فيها من آثار الآرامية شيء، وهو صوت العين الذي يقابله في العربية الضاد، وكان حقها أن تكون «بيضة» ، لأنها قبّة بيضاء، وعلى هذا فالعين إشارة للأصل. وأما الصلوات فهي متعبّدات اليهود، وسميت كنيسة اليهود صلاة لأنه يصلّى فيها. 12- وقال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ [الآية 42] . وقوله: كَذَّبَتْ، إشارة إلى أن الفاعل مؤنث، والفاعل هنا كلمة «قوم» ، وهي ألصق بالتذكير ومعناها الجمع، ولكن في الآية مراعاة للمعنى، فالمراد ب «قوم» «الأمّة» . ولو روعي اللفظ، لكان الفعل «كذّب» ، ويعضد هذا أن الفصل موجود في الآية بين الفعل والفاعل بالظرف «قبلهم» . ومجيء «القوم» مذكّرا متحقق في عشرات الآيات بل المئات. 13- وقال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ [الآية 48] . والإملاء: الإمهال والتأخير وإطالة العمر، والله يملي للظالم أي يمهله. أما الكلام على «كأيّن» ، فهي لفظ من كنايات العدد مثل: «كم» و «كذا» ، وهي نظيرة «كم» في الاستفهام والخبر. وفيها لغة أخرى هي «كائن» ، قال زهير: وكائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلّم وقد جاءت «كايّن» في آيات عدة منها:

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران: 146] . والمعنى: وكم من نبيّ...... أقول: إن «كأيّن» هذه من الكلم الذي لم يبق له استعمال منذ عصور عدة. 14- وقال تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) . وقولنا: عاجزه بمعنى سابقه، والمعاجز من يسعى في طلب إعجاز الاخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل: أعجزه. أقول: وهذا من الكلم الذي يفتقده أصحاب ما يتصل بكل أنواع المسابقات في عصرنا.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الحج"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحج» «1» قال تعالى: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الآية 2] وذلك أنه أراد، والله أعلم، الفعل، ولو أراد الصفة فيما نرى لقال «مرضع» . وكذلك كلّ «مفعل» و «فاعل» يكون للأنثى ولا يكون للذكر فهو بغير هاء نحو «مقرب» و «موقر» : نخلة موقر، و «مشدن» : معها شادن و «حامل» و «حائض» و «فادك» و «طامث» و «طالق» «2» وقال تعالى: هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) [الآية 15] بحذف الهاء من (يغيظ) لأنها صلة «ما» لأنه إذا صار جميعا اسما واحدا كان الحذف أخف «3» . وقال تعالى: يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [الآية 13] ف (يدعو) بمنزلة «يقول» . و (من) رفع وأضمر الخبر كأنّ السياق يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه إلهه. يقول: لمن ضرّه أقرب من نفعه إلهه «4» . وقوله تعالى وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ [الآية 25] معناه: ومن يرد إلحادا. وزيدت الباء كما زيدت في قوله سبحانه تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون/]

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في التهذيب 1: 472 «رضع» وزاد المسير 5: 404. (3) . نقله في الجامع 12: 22. (4) . نقله في إيضاح الوقف، والابتداء 2: 781 والمشكل 2: 487 و 488، وإعراب القرآن 2: 687، والبحر 6: 356. [.....]

[20] وقال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد الثاني والخمسون بعد المائتين] : أليس أميري في الأمور بأنتما ... بما لستما أهل الخيانة والغدر «2» وقال تعالى: صَوافَّ [الآية 36] وواحدتها: «الصافّة» . وقال تعالى: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ [الآية 40] فالصّلوات لا تهدّم، ولكن ينبغي حمله على فعل آخر كأنّ السياق «وتركت صلوات» ، وقال بعضهم: «إنّما يعني مواضع الصلوات» . وفي قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الآية 40] بَعْضَهُمْ بدل من النَّاسَ. وقوله تعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الآية 45] حمل على (كأيّن) والمشيد هو المفعول من «شدته» ف «أنا أشيده» مثل «عنته» ف «أنا أعينه» ف «هو معين» . وقال تعالى: ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الآية 73] فإن قيل: «فأين المثل» قلت: «ليس هاهنا مثل، لأنّ معنى قوله تبارك وتعالى: «ضرب لي مثل فجعل مثلا عندهم لي فاستمعوا لهذا المثل الذي جعلوه مثلي في قولهم واتخاذهم الالهة، وإنهم لن يقدروا على خلق ذباب ولو اجتمعوا له وهم أضعف، لو سلبهم الذباب شيئا فاجتمعوا كلهم ليستنقذوه منه، لم يقدروا على ذلك. فكيف تضرب هذه الالهة مثلا لربّها وهو ربّ كلّ شيء، الواحد الذي ليس كمثله شيء وهو مع كل شيء، وأقرب من كل شيء، وليس له شبه ولا مثل ولا كفؤ، وهو العلي العظيم، الواحد الرب، الذي لم يزل ولا يزال» «3» . وقال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الآية 30] وكلّها رجس، والمعنى: فاجتنبوا الرجس الذي يكون منها أي: عبادتها «4» .

_ (1) . لم تفد المراجع شيئا في القائل. (2) . ورد الشاهد في المغني 1: 306، وشرح شواهده للسيوطي 344، والمقاصد النحوية 1: 422 على أنه من شواهد ابن أم قاسم، وقيّد بلفظ «فما» بدل «بما» . (3) . نقله في زاد المسير 5: 451، والجامع 12: 96 والبحر 6: 390. (4) . نقله في إعراب القرآن 2: 692.

وقال تعالى: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) أي: «هو في الثقل ومما يخاف منه كألف سنة» . وقوله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الآية 78] نصب على الأمر. وقال: بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ [الآية 72] رفع على التفسير، أي: هي النار. ولو جرّ على البدل كان جيدا «1» . وقال تعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا [الآية 19] لأنهما كانا حيّين. و «الخصم» يكون واحدا وجماعة.

_ (1) . الجر في البحر 6: 389 قراءة ابن أبي إسحاق، وإبراهيم بن نوح عن قتيبة. والرفع قراءة الجمهور.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الحج"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحج» «1» إن قيل: قوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الآية 1] يدل على أن المعدوم شيء. قلنا: لا نسلّم، ومستنده أن المراد أنها إذا وجدت كانت شيئا لا أنها شيء الآن، ويؤيد هذا قوله تعالى: عَظِيمٌ مع أن المعدوم لا يوصف بالعظم. فإن قيل: لم قال تعالى أوّلا: يَوْمَ تَرَوْنَها [الآية 2] بلفظ الجمع، ثم أفرد فقال في الآية نفسها: وَتَرَى النَّاسَ ؟ قلنا: لأن الرؤية أولا علّقت بالزّلزلة، فجعل الناس كلهم رائين لها، وعلقت آخرا بكون الناس على هيئة السكارى، فلا بد من أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم. فإن قيل: لم قال تعالى في حق النضر بن الحارث: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ [الآية 3] إلى أن قال لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 9] وهو ما كان غرضه في جداله الضلال عن سبيل الله، فكيف علل جداله به وما كان أيضا مهتديا حتى إذا جادل خرج بالجدال من الهدى إلى الضلال؟ قلنا: هذه لام العاقبة والصيرورة، وقد سبق ذكرها غير مرة، ولما كان الهدى معرضا له، فتركه وأعرض عنه وأقبل على الجدال بالباطل، جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال. فإن قيل: النفع والضر منفيان عن

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

الأصنام مثبتان لها في الآيتين، فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا: معناه يعبد من دون الله ما لا يضره بنفسه إن لم يعبده، ولا ينفعه بنفسه إن عبده، ثم قال: يعبد من يضره الله بسبب عبادته، وإنما أضاف الضرر إليه لحصوله بسببه. فإن قيل: قوله تعالى: أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [الآية 13] يدل على أن في عبادة الصنم نفعا، وإن كان فيها ضرر؟ قلنا: معناه أقرب من النفع المنسوب إليه في زعمهم، وهو اعتقادهم أنه يشفع لهم. فإن قيل: لم قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الآية 39] أي بسبب كونهم مظلومين، ولم يبين ما الشيء الذي أذن لهم فيه؟ قلنا: تقديره: أذن للذين يقاتلون في القتال، وإنما حذف لدلالة «يقاتلون» عليه ولدلالة الحال أيضا، فإن كفار مكة يؤذون المؤمنين بأنواع الأذى وهم يستأذنون النبي (ص) في قتالهم، فيقول: «لم يؤذن لي في ذلك» . حتى هاجر إلى المدينة فنزلت هذه الآية، وهي أول آية نزلت في الإذن في القتال، فنسخت سبعين آية ناهية عن القتال، كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما، فكان المأذون فيه ظاهرا لكونه مترقّبا منتظرا. فإن قيل: ما وجه الاستثناء في قوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الآية 40] ؟ قلنا: هو استثناء منقطع تقديره: لكن أخرجوا بقولهم: ربنا الله. الثاني أنه بمنزلة قول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب تقديره: إن كان فيهم عيب فهو هذا، وليس بعيب فلا يكون فيهم عيب. فإن قيل: أي منّة على المؤمنين في حفظ الصوامع والبيع والصلوات: أي الكنائس عن الهدم حتى امتن عليهم بذلك في قوله تعالى وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الآية 40] ؟ قلنا: المنّة في ذلك أن الصوامع والبيع والكنائس في حرم المسلمين وحراستهم وحفظهم، لأن أهلها ذمة للمسلمين. الثاني أن المراد به لهدّمت صوامع وبيع في زمن عيسى (ع) ،

وصلوات: أي كنائس في زمن موسى (ع) ، ومساجد في زمن النبي (ص) ، فالامتنان على أهل الرسالات الثلاث. فإن قيل: لم قال تعالى: وَكُذِّبَ مُوسى [الآية 44] ولم يقل و «كذّب قوم موسى» ، كما قال الله تعالى فيما قبله؟ قلنا: لأن موسى (ع) ما كذّبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط. الثاني: أن يكون التنكير والإبهام للتفخيم والتعظيم كأنه قال تعالى: بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم: وكذّب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته، فما ظنك بغيره. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) ؟ قلنا: الحكمة فيه المبالغة في التأكيد كما في قوله تعالى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] وقوله تعالى يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ [الفتح: 11] وما أشبه ذلك: أن القلب هنا يستعمل بمعنى العقل، ومنه قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37] أي عقل في أحد القولين، فكان التقييد احترازا على قول من زعم أن العقل في الرأس. فإن قيل: المغفرة إنما تكون لمن يعمل السيئات، لا لمن يعمل الصالحات والحسنات، فلم قال تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ [الآية 50] ؟ قلنا: المراد بالعمل الصالح هنا الإخلاص في الإيمان فيصير المعنى: فالذين آمنوا عن إخلاص نغفر لهم سيئاتهم. فإن قيل: ما الفرق بين الرسول والنبي، مع أن كليهما مرسل بدليل قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الآية 52] . قلنا: الفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من جمع له بين المعجزة وأنزل الكتاب عليه. والنبي فقط: من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو أمته إلى شريعة من قبله. وقيل الرسول من كانت له معجزة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والنبي من لم تكن له منهم معجزة، وفي هذا نظر. وقيل الرسول من كان مبعوثا إلى أمّة، والنبي فقط من لم يكن مبعوثا إلى أحد مع كونه نبيّا، والجواب

عمّا في الآية من هذا القول أن فيه إضمارا تقديره: وما أرسلنا من رسول ولا نبأنا من نبيّ، أو ولا كان من نبيّ ويقول الشاعر: ورأيت زوجك في الوغى متقلّدا سيفا ورمحا أي ومتعلقا رمحا أو حاملا رمحا. فإن قيل: أين المثل المضروب في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الآية 73] والمذكور بعده، وهو قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الآية 73] إلى آخره ليس بمثل، بل هو كلام مبتدأ مستقل بنفسه؟ قلنا: الصفة والقصة الغريبة أو المستحسنة تسمى مثلا، ومنه قوله تعالى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً [البقرة: 17] فالمعنى يثبت بصفة، وهي عجز الصنم عن خلق الذباب واستنقاذ ما يسلبه، وقيل هو إشارة إلى قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: 41] وإنما أبهم هنا. فإن قيل: لم قال تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الآية 78] مع أن قطع اليد بسبب سرقة عشرة دراهم حرج في الدين وكذا رجم المحصن بسبب الوطء مرة واحدة، ووجوب صوم شهرين متتابعين بسبب إفطار يوم واحد من رمضان بوطء، والمخاطرة بالنفس والمال في الحجّ والعمرة كل ذلك حرج بيّن؟ قلنا: المراد بالدين كلمة التوحيد، فإنها تكفّر شرك سبعين سنة، ولا يتوقف تأثيرها على الإيمان والإخلاص سبعين سنة، ولا على أن يكون الإثبات بها في بيت الله تعالى أو في زمان أو مكان معين. وقيل المراد به أن كل ما يقع فيه الإنسان من الذنوب والمعاصي يجد له مخرجا في الشرع بتوبة أو كفّارة أو رخصة. وقيل المراد به فتح باب التوبة للمذنبين، وفتح أبواب الرّخص للمعذورين، وشروع الكفارات والديات وقيل المراد به نفي الحرج الذي كان على بني إسرائيل من الإصر والتشديد. فإن قيل: لم قال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الآية 78] وإبراهيم صلوات الله عليه لم يكن أبا للأمة كلها؟ قلنا: هو أبو رسول الله (ص) ، فكان

أبا لأمته، لأن أمّة الرسول بمنزلة أولاده من جهة العطف والشفقة، هذا إذا كان الخطاب لعامة المسلمين، وإن كان للعرب خاصة فإبراهيم أبو العرب قاطبة. فإن قيل: متى سمّانا إبراهيم صلوات الله عليه المسلمين من قبل، كما ورد في قوله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الآية 78] ؟ قلنا: وقت دعائه عند بناء الكعبة حيث قال، كما ورد في التنزيل رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128] فكل من أسلم من هذه الأمة فهو ببركة دعوة إبراهيم (ع) .

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الحج"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحج» «1» قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) . وهذه استعارة. لأن حقيقة الزلزلة هي حركة الأرض على الحال المفزعة. ومثل ذلك قولهم: زلزل الله قدمه. وكان الأصل: أزلّ الله قدمه. بمعنى أزالها عن ثباتها واستقامتها، وأسرع تعثرها وتهافتها. ثم ضوعف «2» ذلك، فقيل: زلزل الله قدمه. كما قيل: دكّه الله، ودكدكه. فالمراد بزلزلة الساعة- والله أعلم- رجفان القلوب من الخوف ... وزلات الأقدام من روعة موقعها. ويشهد بذلك قوله سبحانه: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى [الآية 2] يريد تعالى من شدة الخوف والوجل، والذهول والوهل. وفي قوله سبحانه: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) استعارة. لأن المراد هاهنا باهتزاز الأرض، والله أعلم، تشبيهها بالحيوان الذي همد بعد حراكه، وخشع بعد إشرافه، لعلّة طرأت عليه، فأصارته إلى ذلك، ثم أفاق من تلك الغمرة، وصحا من تلك السّكرة، فتحرك بعد هموده وركوده. وكذلك حال الأرض إذا أماتها الجدب،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . التضعيف في تصريف الأفعال معروف مثل: زلزل في زل، وصلصل في صل.

وأهمدها المحل ثم حالها إذا نضحها الغيث بسجاله، وبلّها القطر ببلاله، واهتزت بالنبات ناضرة، ورطبت بعد الجفوف متزيّنة «1» . ذلك تقدير العزيز العليم. وقوله سبحانه: ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 9] استعارة. والمراد بها، والله أعلم، الصفة بالإعراض عن سماع الرشد، وليّ العنق عن اتباع الحق. لأن المستقبل لسماع الشيء الذي لا يلائمه في الأكثر يصرف دونه بصره، ويثني عنه عنقه. والعطف: جانب القميص، وبه سمّي شق الإنسان عطفا، لأن منه يكون ابتداء انعطافه، وأول انحرافه. ومثل ذلك قوله سبحانه: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ [الإسراء: 83 وفصّلت: 51] . وفي قوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ [الآية 11] استعارة. والمراد بها، والله أعلم، صفة الإنسان المضطرب الدين، الضعيف اليقين، الذي لم تثبت في الحق قدمه، ولا استمرت عليه مريرته، فأوهى شبهة تعرض له ينقاد معها، ويفارق دينه لها، تشبيها بالقائم على حرف مهواة. فأدنى عارض يزلقه، وأضعف دافع يطرحه. وفي قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ [الآية 18] استعارة. والمراد، والله أعلم، بسجود الشمس والقمر والنجوم والشجر، وما ليس بحيوان مميز، ما يظهر فيه من آثار الخضوع لله سبحانه، وعلامات التدبير، ودلائل التصريف والتسخير، فيحسن لذلك أن يسمّى ساجدا على أصل السجود في اللغة، لأنه الخضوع والاستكانة. أو يكون ذلك على معنى آخر، وهو أن الذي يظهر في الأشياء التي عدّدها، من دلائل الصنعة، وأعلام القدرة، يدعو العارفين الموقنين إلى السجود، ويبعثهم على الخضوع، اعترافا له سبحانه بالاقتدار، وإخباتا له بالإقرار. وذلك كما تقدّم من قولنا في تسبيح الطير والجبال.

_ (1) . في الأصل «متزيّلة» .

وفي قوله سبحانه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ [الآية 19] استعارة. والمراد بها أن النار، نعوذ بالله منها، تشتمل عليهم اشتمال الملابس على الأبدان، حتى لا يسلم منها عضو من أعضائهم، ولا يغيب عنها شيء من أجسادهم. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك، والله أعلم، أن سرابيل القطران التي ذكرها سبحانه، فقال: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [ابراهيم: 50] إذا لبسوها واشتعلت النار فيها صارت كأنها ثياب من نار، لإحاطتها بهم واشتمالها عليهم. وفي قوله سبحانه: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) استعارة. لأن المراد بها ذهول القلب عن التفكّر في الأدلّة التي تؤدي إلى العلم. وذلك في مقابلة قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) [النجم] فإذا وصف القلب عند تبيين الأشياء بالرؤية والإبصار، جاز أن يوصف عند الغفلة والذهول بالعمى والضلال. وإنما جعلت القلوب هاهنا بمنزلة العيون، لأن بالقلوب يكون تحصيل المعلومات، كما أن بالعيون يكون إدراك المرئيات. ولأن الرؤية ترد في كلامهم بمعنى العلم. ألا تراهم يقولون: هذا الشيء مني بمرأى ومسمع. أي بحيث أعرفه وأعلمه، ولا يريدون بذلك نظر العين، ولا سمع الأذن. وفي قوله سبحانه: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ معنى عجيب، وسر لطيف. وذلك أنه سبحانه لم يرد نفي العمى عن الأبصار جملة. وكيف يكون ذلك وما يعرض من عمى كثير منها أشهر من أن نؤمي إليه، وندل عليه؟ وإنما المراد، والله أعلم، أن الأبصار إذا كانت معها آلة الرؤية من سلامة الأحداق، واتصال الشعاعات لم يجز أن لا ترى ما لا مانع لها من رؤيته. والقلوب بخلاف هذه الصفة بها، قد يكون فيها آلة التفكر والنظر من سلامة البنية، وصحة الروية وزوال الموانع العارضة، ثم هي مع ذلك لاهية عن النظر، ومتشاغلة عن التفكر. فلذلك أفردها الله سبحانه بصفة العمى عن الأبصار على الوجه الذي بيّناه مع الفائدة. فأما الفائدة في قوله سبحانه: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) ،

والقلب لا يكون إلا في الصدور، فإن هذا الاسم الذي هو القلب لما كان فيه اشتراك بين مسمّيات كقلب الإنسان، وقلب النخلة، والقلب الذي هو الصميم والصريح. من قولهم هو عربيّ قلبا «1» ، والقلب الذي هو مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا، حسن أن يزال اللّبس بقوله تعالى: الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) ، احترازا من تجويز الاشتراك. وقوله سبحانه: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) من أحسن الاستعارات. لأن العقيم المرأة التي لا تلد، فكأنه سبحانه وصف ذلك اليوم بأنه لا ليل بعده ولا نهار، لأن الزمان قد مضى، والتكليف قد انقضى. فجعلت الأيام بمنزلة الولدان للّيالي، وجعل ذلك اليوم من بينها عقيما، لأنه لا ينتج ليلا بعده، ولا يستخلف بدلا له. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد، والله أعلم، أن ذلك اليوم لا خير بعده، لمستحقّي العقاب، الذين قال الله سبحانه في ذكرهم: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [الآية 55] فوصفه بالعقم لأنه لا ينتج لهم خيرا، ولا ينتج لهم فرحا. وفي قوله سبحانه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ [الآية 72] استعارة، والمراد بها، والله أعلم، أن الكفار عند مرور الآيات بأسماعهم يظهر في وجوههم من الإنكار لسماعها والإعراض عن تأملها، ما لا يخفى على المخالط لهم، والناظر إليهم. وذلك كقول القائل: عرفت في وجه فلان الشّرّ. أي استدللت منه على اعتقاد المكروه، وإرادة فعل القبيح. ويحتمل قوله تعالى: الْمُنْكَرَ هاهنا وجهين: أحدهما أن يكون المنكر ما ينكره الغير من أمرهم. والاخر أن يكون ما ينكرونه هم من الهجوم عليهم، بتلاوة القرآن، وصوادع البيان.

_ (1) . في «الأساس» للزمخشري: هو أعرابي قلب، أي محض واسط في قومه.

سورة المؤمنون 23

سورة المؤمنون 23

المبحث الأول أهداف سورة"المؤمنون"

المبحث الأول أهداف سورة «المؤمنون» «1» سورة «المؤمنون» سورة مكية، آياتها 118 آية، نزلت بعد الأنبياء، وسميت سورة «المؤمنون» ، لافتتاحها بفلاح المؤمنين: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) . المؤمنون والايمان تبدأ السورة بذكر صفات المؤمنين، ويستطرد السياق منها إلى دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق ثم إلى حقيقة الإيمان كما عرضها رسل الله، صلوات الله عليهم، من نوح (ع) ، الى محمد (ص) ، خاتم الرسل والنبيين، وشبهات المكذّبين حول هذه الحقيقة واعتراضاتهم عليها ووقوفهم في وجهها حتى يستنصر الرسل ربّهم، فيهلك المكذّبين وينجي المؤمنين. ثم يستطرد السياق إلى اختلاف الناس بعد الرسل، في تلك الحقيقة الواحدة التي لا تتعدد. ومن هنا يتحدّث عن موقف المشركين من الرسول (ص) ، ويستنكر هذا الموقف، الذي ليس له مبرر، وتنتهي السورة بمشهد من مشاهد القيامة، يلقون فيه عاقبة التكذيب، ويؤنّبون على ذلك الموقف المريب. وتختم السورة بتعقيب يقرر التوحيد المطلق، والتوجّه إلى الله تعالى بطلب الرحمة والغفران ... ، فهي سورة المؤمنين، أو هي سورة الإيمان بكل قضاياه ودلائله وصفاته، والإيمان موضوع السورة ومحورها الأصيل.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

الأقسام الرئيسية في السورة

الأقسام الرئيسية في السورة يمضي سياق سورة «المؤمنون» في أربعة أقسام رئيسية، تتناول تاريخ الدعوة، وحاضرها، وتسوق الأدلة الحسية، والنفسية، على الإيمان بالله. القسم الأول: يبدأ القسم الأول بتقرير الفلاح للمؤمنين: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) . ويبين السّياق صفات المؤمنين هؤلاء، الذين كتب لهم الفلاح، ويثنّي بدلائل الإيمان في الأنفس والآفاق، فيعرض أطوار الحياة البشرية منذ نشأتها الأولى، إلى نهايتها في الحياة الدنيا، متوسّعا في عرض أطوار الجنين، مجملا في عرض المراحل الأخرى ... ثم يتابع خط الحياة البشرية، إلى البعث يوم القيامة، وبعد ذلك ينتقل من الحياة البشرية إلى الدلائل الكونية: في إنزال الماء، وفي إنبات الزرع والثمار، ثم إلى الأنعام المسخّرة للإنسان، والفلك التي يحمل عليها، وعلى الحيوان، ويمتدّ هذا القسم من أول السورة إلى الآية 22. القسم الثاني: يشير القسم الثاني الى قصة نوح (ع) ، وهلاك الكافرين، ثم يتبع ذلك بيان سنّة الله في إرسال الرسل، لهداية الناس، وإبلاغهم كلمة الحق والإيمان، ودعوتهم الى الله، فيقول نوح لقومه كما ورد في التنزيل: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الآية 23] . ويقول هذه الحقيقة كلّ نبي ورسول: يقولها موسى (ع) ، ويقولها عيسى (ع) ، ويقولها محمد (ص) . ويكون اعتراض المكذّبين دائما: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الآية 33] . ويقدّم الكفار عددا من الحجج والأدلة على تكذيبهم. فيلجأ الرسل الى ربّهم يطلبون نصره، فيستجيب سبحانه، وينجي المؤمنين، ويهلك الكافرين قال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) . وينتهي هذا القسم، ببيان وحدة الرسالات، ووحدة الأمم المؤمنة، فالربّ واحد، والإيمان بالله وملائكته

القسم الثالث:

وكتبه ورسله واليوم الاخر إيمان واحد، قال تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) . ويستغرق هذا القسم الآيات [23- 52] . القسم الثالث: يتحدّث القسم الثالث، عن تفرّق الناس بعد وصول الرسل إليهم، وتنازعهم حول تلك الحقيقة الواحدة التي جاء بها الرسل: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) . ثم يتحدّث عن غفلتهم عن ابتلاء الله لهم بالنعمة، واغترارهم بما هم فيه من متاع، بينما المؤمنون مشفقون من خشية ربهم، يعبدونه ولا يشركون به، ويخشون غضبه، ويرجون رحمته. وهنا يرسم مشهدا لأولئك الغافلين المغرورين، يوم يأخذهم العذاب، فإذا بهم يجأرون، فيأخذهم التوبيخ والتأنيب: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) . ويستنكر السياق، موقفهم العجيب من رسولهم الأمين، وهم يعرفونه ولا ينكرونه، وقد جاءهم بالحق لا يسألهم عليه أجرا، فماذا ينكرون منه، ومن الحق الذي جاءهم به؟ وهم يسلّمون بملكية الله لمن في السماوات والأرض، وربوبيته سبحانه للسماوات والأرض، وسيطرته على كل شيء في السماوات والأرض وبعد هذا التسليم، هم ينكرون البعث، ويزعمون لله ولدا سبحانه! ويشركون به آلهة أخرى: عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) . ويستغرق هذا القسم الآيات [53- 92] . القسم الرابع: في القسم الرابع والأخير، حثّ للرسول (ص) أن يدعهم وشركهم وزعمهم، وأن يدفع السّيئة بالتي هي أحسن، وأن يستعيذ بالله من الشياطين، فلا يغضب ولا يضيق صدره بما

مظاهر عامة للسورة

يقولون. ثم يرسم السياق مشهدا من مشاهد القيامة، يصوّر ما ينتظرهم هناك، من عذاب ومهانة وتأنيب. ويختم السورة بتنزيه الله سبحانه: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) . وينفي الفلاح عن الكافرين، ليناسب ابتداءها بإثباته للمؤمنين. وفي آخر آية أمر للنبي (ص) أن يتوجّه إلى الله سبحانه بطلب المغفرة والرحمة: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) . ويستغرق هذا القسم الآيات [93- 118] .. مظاهر عامة للسورة جو السورة كلّها جو البيان والتقرير، وجو الجدل الهادئ، والمنطق الوجداني واللّمسات الموحية للفكر والضمير. والروح الساري في السورة روح الإيمان. ففي مطلعها مشهد الخشوع في الصلاة، وفي وسطها مدح للإيمان والإحسان: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) . وفي اللمسات الوجدانية، تجد قوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (78) . وكلّها، مظلّلة بذلك الظل الإيماني اللطيف.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"المؤمنون"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المؤمنون» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «المؤمنون» بعد سورة الأنبياء، ونزلت سورة الأنبياء بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «المؤمنون» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أوّلها قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وتبلغ آياتها ثماني عشرة ومائة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة بيان الشروط التي يفلح المؤمنون بها، وينصرون على أعدائهم، كما نصر الرسل وأتباعهم على أعدائهم من قبلهم. وقد اقتضى هذا ذكر أخبار بعض الرسل السابقين، وتذييلها بما يناسب الغرض من ذكرها. وقد جاء في سورة الحجّ الإذن في القتال للمؤمنين، ووعدهم بالنصر والفلاح في دنياهم وأخراهم، فجاءت هذه السورة بعدها، لبيان الشروط التي يتوقف عليها نصرهم وفلاحهم. بيان شروط فلاح المؤمنين الآيات [1- 22] قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

أخبار بعض الرسل الآيات [23 - 118]

فوعد بفلاح المؤمنين على سبيل التحقيق والتأكيد، وذكر، من الصفات التي يتوقف عليها فلاحهم، أنهم في صلاتهم خاشعون، إلى غير هذا مما ذكره من صفاتهم ثم ذكر سبحانه أنهم، بهذه الصفات، إنما يرثون جنّة الفردوس التي أعدّت لهم، فيفوزون بها في الدنيا والاخرة ثم ذكر من أدلة ألوهيّته، عز وجلّ، ما يثبت قدرته على تحقيق وعده بذلك في الدنيا، وقدرته على بعثهم بعد موتهم ليحقّ لهم ما وعدهم به في الاخرة فذكر سبحانه أنه خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة فعلقة، فمضغة، إلى أن أنشأه خلقا آخر يتكلّم ويعقل ثم ذكر أنه خلق فوقنا سبع سماوات، وأنزل من السماء ماء بقدر، إلى أن ذكر خلق الأنعام وقال فيها: عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) . أخبار بعض الرسل الآيات [23- 118] ثم قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) ، فذكر، من أخبار بعض الرسل، ما يثبت أيضا وعده بفلاح المؤمنين، فذكر خبر نوح مع قومه، وأنهم كذّبوه، وقالوا مرّة كما ورد في التنزيل: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ [الآية 24] . ومرة أخرى إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ [الآية 25] ، فطلب منه أن ينصره عليهم، فأمره أن يصنع فلكا، ويحمل فيها أهله إلّا من سبق عليه القول منهم، ونهاه أن يخاطبه فيمن سيغرقه بالطوفان من أعدائه ثم ذكر أن في ذلك لآيات على نصره للمؤمنين، وأن من شأنه أن يعاقب المكذّبين. ثم ذكر سبحانه أنه أنشأ من بعد قوم نوح قرنا آخرين، قيل هم عاد قوم هود، وقيل هم ثمود قوم صالح وأنه أرسل فيهم رسولا، ليأمرهم بعبادته وحده، فكذّبوه لأنه بشر مثلهم، وأنكروا ما أخبرهم به من بعثهم بعد موتهم ثم ذكر أنه طلب منه أن ينصره عليهم، فأخذهم بالصيحة فأهلكهم. ثم ذكر، جلّ شأنه، أنه أنشأ من بعدهم قرونا آخرين، وأنه أرسل رسله تترى، رسولا بعد رسول، فكذّبت كلّ أمة رسولها، فأهلكهم أمّة بعد أمة. ثم ذكر سبحانه أنه أرسل موسى وهارون (ع) إلى فرعون وقومه، وأنهم

كذّبوهما لأنهما بشر مثلهم، ومن قوم عابدين لهم، فأهلكهم كما أهلك من قبلهم من الأمم. ثم آتى موسى التوراة ليهتدي قومه بها، بعد أن نجّاهم من استعباد فرعون ثم ذكر أنه جعل منهم عيسى بن مريم وأمّه آية في ولادته منها بغير أب وأن آياته كانت خاتمة آياتهم. ثم ذكر تعالى ما كان من أمر هؤلاء الرسل، بعد أن نصرهم على أعدائهم، وأنّه أمرهم أن يتمتعوا بما رزقهم من الطيبات في دنياهم، وأن يعملوا صالحا ينفعهم في آخرتهم، وأن يعبدوه وحده، لأنّ شرائعهم واحدة، قائمة على أساس التوحيد ثم ذكر أن أتباعهم لم يعملوا بهذا بعدهم، بل اختلفوا فيه اختلافا شديدا، واغتبط كلّ فريق منهم بما اتّخذه دينا له، وأمر النبيّ (ص) أن يتركهم في غفلتهم عما بعث به أولئك الرسل، إلى أن يحين عذابهم ثم ذكر أنهم إذا كانوا في نعم عظيمة، فإنها ليست ثوابا معجّلا لهم على أديانهم، وإنما هي استدراج لهم في المعاصي ليبلغوا ما يبلغون من زيادة الإثم ثم ذكر أنّ ما هم فيه من تلك النّعم والخيرات، ليس بخيرات على الحقيقة، وإنما الخيرات ما يسارع فيه المؤمنون من خشية ربّهم، إلى غير هذا مما ذكر من أعمالهم ثم ذكر سبحانه أنه لا يكلّف أحدا إلّا وسعه من تلك الأعمال، وأنّ لديه كتابا يسجّل تلك الأعمال، وينطق بالحق فيها، وأنّ المشركين في غفلة عنها، بما هم فيه من الكفر والضلال ثم ذكر أنه إذا أخذ أصحاب تلك النّعم منهم بالعذاب، جأروا من هوله، وأنه ينهاهم عن الجؤار، لأنّه أنذرهم بذلك، فيما يتلى عليهم من آياته، فكانوا ينكصون على أعقابهم، ويسمرون بالطّعن في القرآن الذي يتلو ذلك عليهم، ثم قطع عذرهم، بأنه قد مكّن لهم من التدبّر في القرآن، وما أنذرهم به فلم يتدبّروا، إلى غير ذلك مما ذكره في قطع عذرهم ثم ذكر أنه جاءهم بالحق، وأنه لا يحملهم على تكذيبه إلا كراهتهم له، وأنه لم يأت على أهوائهم، ولو اتّبع الحقّ أهواءهم، لفسدت السماوات والأرض ومن فيهما ثم ذكر أنه قد أتاهم من ذلك بما فيه ذكرهم وشرفهم، وأن النبي (ص) لا يسألهم عليه أجرا، وأنّه يدعوهم إلى صراط مستقيم، وأنهم عن ذلك الصراط ناكبون، وأنّه لو سمع لجؤارهم، وكشف ما بهم من ضرّ،

لاستمروا في طغيانهم. ولقد أخذهم بعذاب قبل هذا العذاب، ثم كشفه عنهم فما استكانوا له. فلما أخذهم بهذا العذاب يئسوا من كشفه عنهم ثم ذكر ما كان يكفي لصرفهم عن تلك المبالغة في الإعراض فذكر سبحانه أنه هو الذي أنشأ لهم السمع والأبصار والأفئدة، وأنه هو الذي جعلهم يتناسلون في الأرض، ثم يحشرهم إليه وحده، وأنه، جلّ جلاله، هو الذي يحيي ويميت، ويخالف بين الليل والنهار ثم ذكر أنهم مع هذا مضوا في إعراضهم، وتقليد آبائهم في إنكار بعثهم بعد موتهم، وزعمهم أنهم قد وعدوا بذلك هم وآباؤهم، فلم يحصل شيء منه ثم ردّ عليهم بأنهم لا يستطيعون أن ينكروا أن الله هو خالق الأرض ومن فيها، وهو ربّ السماوات السبع والعرش، وأنه سبحانه بيده ملكوت كل شيء، ومن يكون هذا شأنه يكون قادرا على بعثهم ثم ذكر أنه أتاهم بالحق حين أثبت لهم أنه هو الذي خلقهم وحده، وأنهم إليه يحشرون، لا إلى غيره من ولد أو شريك، لأنه لم يتّخذ له ولدا ولا شريكا، ولو كان معه إله غيره، لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض، سبحانه عما يصفون، وتعالى عما يشركون. ثم أمر (ص) ، إذا أراه ما يوعدون من العذاب، أن يدعوه بأن ينجيه منه وذكر أنه قادر على أن يريه ما يعدهم من ذلك، ثم أمره أن يحتمل ما يكون منهم، قبل ذلك من ضروب الأذى، وأن يستعيذ به، مما يهمز به الشيطان، من دفعهم إلى إيذائه ثم ذكر تعالى أنه إذا جاء أحدهم الموت ندم على ذلك، وطلب من ربه أن يرجعه إلى الدنيا ليعمل صالحا، وأنه يجاب بزجره عن هذا الطلب، لأنه لا سبيل إلى رجوعه، إلى أن يبعث من قبره ثم ذكر أحوال يوم البعث وأنه ينفخ فيه في الصّور، فيبعثون من قبورهم، لا يعرف قريب قريبا، ولا يسأل شخص شخصا ثم يحاسبون، فمن ثقلت موازينه فهو من المفلحين، ومن خفّت موازينه فهو من الخالدين في جهنم. ثم ذكر أنهم ينادونه فيها، ويعتذرون بأن شقوتهم غلبت عليهم، ويطلبون أن يخرجهم منها، فإن عادوا إلى العصيان فهم ظالمون، فيأمرهم بأن يخسئوا فيها، ولا يكلّموه في الخروج منها، ويذكّرهم ما كان من سخريتهم بعباده

المؤمنين ويخبرهم بأنه جزاهم بصبرهم على سخريتهم، وجعلهم من الفائزين ثم يسألهم، على سبيل التوبيخ، عن عدد السنين التي لبثوها في الأرض، لأنهم كانوا يعتقدون أنه لا لبث إلّا في الدنيا، فيجيبون بأنّهم لم يلبثوا فيها إلّا يوما أو بعض يوم، فيقرّهم على استقصارهم لمدة لبثهم فيها، لأنّها قليلة بالنسبة لما يلبثونه في الاخرة ثم يوبّخهم على ظنّهم أنه خلقهم عبثا، وأنهم لا يرجعون إليه، لأنه سبحانه الملك الحقّ الذي يتعالى عن العبث. ثم ختمت السورة بنفي الفلاح عن الكافرين، ليناسب ابتداءها بإثباته للمؤمنين وأمر النبي (ص) أن يتوجّه إليه بطلب المغفرة والرحمة، بعد تفصيل ذلك العذاب للكافرين، فقال سبحانه وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"المؤمنون"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المؤمنون» «1» أقول: وجه اتصالها بسورة الحج: أنه تعالى، لما ختمها بقوله: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وكان ذلك مجملا، فصّله في فاتحة هذه السورة، فذكر سبحانه خصال الخير التي من فعلها قد أفلح، فقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) . ولما قال سبحانه في أول الحج: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [الآية 5] ، زاده هنا بيانا في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) . فكل جملة أوجزت هناك في القصد، أطنب فيها هنا.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.

المبحث الرابع مكنونات سورة"المؤمنون"

المبحث الرابع مكنونات سورة «المؤمنون» «1» 1- وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ [الآية 20] . قال الرّبيع: هي الزيتون، أخرجه ابن أبي حاتم. 2- إِلى رَبْوَةٍ [الآية 50] . قال أبو هريرة: هي الرملة من فلسطين «2» . وقال الضّحّاك: هي بيت المقدس «3» . وقال سعيد بن المسيّب: هي دمشق. وقال ابن زيد: هي مصر. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....] (2) . وأخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» عن مرة الزهري. قال الهيثمي في «معجم الزوائد» 7: 72: «وفيه من لم أعرفهم» . واستبعد الطبري في «تفسيره» 18: 21 هذا التفسير لأن الرملة لا معين بها والله تعالى ذكره، وصف هذه الربوة بأنها ذات قرار ومعين. (3) . هذا القول هو الأظهر عند ابن كثير في «تفسيره» 3: 346.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"المؤمنون"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المؤمنون» «1» 1- وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) . والسلالة: الخلاصة لأنّها تسلّ من بين الكدر، و «فعالة» : بناء للقلّة، ولبقايا الأشياء كالقلامة، والقمامة، والصّبابة، والخشارة، وغير ذلك. 2- وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) . والقرار المكين، أي: المستقر، ذو المكانة، والمراد به الرّحم. والمكين فعيل اشتق من «المكان» ، وهذا يفيد أن العربية اشتقت الكثير من الأسماء الدالة على المعاني، أو على الذوات من الاسم، وهو «المكان» . 3- وقال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها [الآية 21] . أقول: أنظر: الآية: 66، من سورة النحل. 4- وقال تعالى: فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [الآية 27] . وقوله تعالى: «بأعيننا» ، أي بحفظنا وكلاءتنا. أقول: وما زال شيء من هذا التعبير في اللغة السائرة في العراق. والذي أراه أن «العين» ، في هذا الاستعمال تفيد الحفظ والمساعدة. ولعلّ من «العين» ، وهي عضو البصر في الأصل، أخذت العربية «العون» بمعنى المساعدة، ولمّا كان لكلمة «العين» معنى مجازي، وهو

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

الحفظ والرعاية، فقد حوّلت هذه اللفظة من الياء إلى الواو لهذا الغرض. وكنا قد أشرنا إلى شيء من هذا في مادة «غيث» ، وكيف صارت «غوثا» . وقوله تعالى: وَوَحْيِنا، أي: نأمرك كيف تصنع ونعلمك. 5- وقال تعالى: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الآية 27] . قالوا: التنوّر: وجه الأرض. 6- وقال تعالى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) . أقول: ذكر النحاة أن بعد هيهات اسم يرتفع بها هو الفاعل، ومن شواهدهم: فهيهات هيهات العقيق وأهله وهيهات خلّ بالعقيق نواصله وقال الزجاج في الآية: البعد لما توعدون. وهذا التفسير في قول الزجّاج، يشعرنا أنهم حاروا في اللام، لأن الآية لم ترفع الاسم الظاهر، بل وليها الاسم مجرورا باللام. 7- وقال تعالى: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) . أقول: باعتبار الفعل الأول، تسبق، كانت الكلمة مؤنثة، وهي مؤنثة لفظا، وباعتبار الفعل اللاحق لها، كانت الكلمة جمعا مذكّرا، وذلك مراعاة للمعنى. 8- وقال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [الآية 44] . «تترى» على «فعلى» ، والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة. وقرئ: (تترّى) بالتنوين. أقول: والتاء بدل من الواو، والأصل وترى. ولعلّ الكلمة من الجموع التي أميت واحدها، فهو «وتير» ، مثل جريح وجرحى. ولكنّ «وتير» لم يرد في العربية، فهو مما أهمل وأنسي. 9- وقال تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ [الآية 46] . والمراد ب «عالين» أنهم متكبّرون. أقول: والذي رشّح هذا المعنى المراد: أن في الآية الكريمة قوله تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا. والذي يقال في عربيتنا المعاصرة: «أنهم متعالون» ، أي: متكبّرون.

10- وقال تعالى: فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [الآية 47] . أقول: البشر واحد وجمع، فكونه مفردا هو في قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران: 47] . وفي آيات أخرى. وأما كونه جمعا، فكما في قوله تعالى: قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا [إبراهيم: 10] . وفي آيات أخرى. فأما الآية التي وقفنا عليها من هذه السورة، الآية 47، فدلالتها على المفرد، ومن أجل ذلك بني الكلام على التثنية. ولا بد من الوقوف، من معنى كلمة «بشر» ، على شيء يدلّ في ظاهره على الإنسان، رجلا كان أو امرأة، فأقول: لو استقرينا قدرا من الآيات التي وردت فيها كلمة «بشر» ، ومنها: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [إبراهيم: 11] . قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ [الحجر: 33] . وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) [الأنبياء] . وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) . أقول: لو استقرينا هذا القدر من آيات أخرى، لوقفنا على ما يحملنا على أن نقول: إن دلالة كلمة «بشر» على الكائن الهالك، الذي من شأنه أن يفنى ويموت. ألا يحق لنا أن نقف على شيء من مادة «بشر» ، فنجد «البشرة» وهي ظاهر جلد الإنسان التي مصيرها الفناء، وهي قبل أن تفنى يصيبها التلف، وهي تتفسّخ بعد الموت! أليس هذا هو الفناء والهلاك؟ أقول: ومن هنا كان لي أن أذهب إلى أن «البشر» هو الفاني. 11- وقال تعالى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) . والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض. وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته فوجه من جعله مفعولا، أنه مدرك بالعين لظهوره، من عانه: إذا أدركه بعينه، ووجه من جعله

فعيلا أنه نفّاع بظهوره وجريه، من الماعون، وهو المنفعة. وأرى: أن «معين» من «العين» ، والميم زائدة على نحو المبيع والمدين وغيرهما، وذلك لأن دلالة «العين» على الماء معروفة، فالعين عين الماء في إحدى دلالاتها الكثيرة، ومنها قالوا: عانت البئر عينا، أي: كدر ماؤها. وعان الماء والدمع يعين عينا وعينانا: جرى وسال. 12- وقال تعالى: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) . و «الغمرة» : الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا، لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم. أقول: والغمر: الماء الكثير. والغمرة أيضا: الشدّة، وغمرات الهمّ والموت أي شدّتهما. والمغمور من الرجال: الذي ليس بمشهور. والغامر من الأرض خلاف العامر. وهكذا يذهب المعنى في مادة «غمر» . 13- وقال تعالى: فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) . أي: تدبرون، وتستأخرون، وترجعون القهقرى مكذّبين. أقول: وهذه الآية أورثت العربية قول القائل: فلان نكص على عقبيه، بهذا المعنى، والعبارة ما زالت جارية في عربية العصر. 14- وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ [الآية 70] . الجنّة: الجنون وهو المصدر. وتأتي «الجنّة» بمعنى «الجنون» في آيات أخرى منها: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ [الأعراف: 184] . كما تأتي بمعنى «الجن» كقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) [هود] . وقوله سبحانه: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) [الناس] . أقول: الجنّ أصل المادة اللغوية، والجنّ عالم خفيّ، جاء ذكره وشيء من أمره في آيات كثيرة وعلى رأس الجنّ إبليس اللعين الذي يغوي الناس، كما جاء في التنزيل العزيز.

ولما كان «الجن» ، وهو جمهرة هذه المخلوقات قد خفي عن النظر، ولا يبصره الناس، أفادت العربية من هذه المادة، مواد كثيرة، تدلّ جميعها على الخفاء والتستّر، فجاء الفعل «جن» بمعنى أخفى وستر، ومن أجل ذلك قيل: جنّ عليه الليل، أي: أخفاه وستره. ومن هذا الأمر، قيل للمخلوق بعد النطفة والمضغة والعلقة في بطن الأم، «جنينا» ، وذلك لخفائه أيضا. ومن هذا قيل للقلب «جنان» بفتح الجيم، لأنه مستور. وقيل: للدّرع، يستر به المحارب صدره، جنّة ومجنّ. ثم اتسع الأمر أكثر من ذلك، فقيل لفاقد العقل «مجنون» ، أو به جنون أو جنّة، وذلك من تصوّر العرب أن «الجنّ» أغوته وأفقدته العقل. والفعل مبنيّ للمفعول «جنّ» . وبعد، فهذه المادة وجدت في غير العربية من اللغات السامية ولكن تلك اللغات، لم تتصرف في هذه المادة على النحو البديع، الذي ورد في العربية، وهذا شيء من عبقرية هذه اللغة. 15- وقال تعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ [الآية 72] . وقرئ: خراجا فخراج، وخرجا فخرج ... والخرج ما يخرجه الرجل إلى الإمام من زكاة الأرض، وإلى كلّ عامل من أجرته وجعله. وقيل: الخرج ما تبرّعت به، والخراج ما لزمك أداؤه. والوجه أن الخرج أخصّ من الخراج، كقولك: خراج القرية، وخرج الكردة، وزيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءة من قرأ: «خرجا فخراج ربك» «1» . أقول: وهذا شيء من تصرّف المعربين بمادة هذه اللغة فقد أفادوا من مادة «خرج» الدالة على الخروج ضد الدخول، في وضع هذه المصطلحات الفنية. 16- وقال تعالى:

_ (1) . الزمخشري: الكشّاف 3: 196.

حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) . وقوله تعالى: مُبْلِسُونَ (77) أي: متحّيرون يائسون. أقول: لعل الفعل «أبلس» ، ومادة «بلس» أيضا ذات علاقة ب «إبليس» ! 17- وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [الآية 78] . أقول: لم يرد السمع إلّا مفردا، وهو مقترن ب «الأبصار» جمعا، في جميع آي القرآن، ما عدا قوله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) . وهذا ما لاحظناه وليس لنا أن نتكلم فيه، ولكلام الله أسرار وفوائد كثيرة. 18- وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [الآية 96] . وقوله تعالى: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أي: الحسنى إرادة التفضيل، ومن أجل ذلك لا يتحقّق إحكام المعنى، لو يقال: ادفع بالحسنة السيئة. 19- وقال تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ. أريد ب «الموازين» الأعمال الصالحات، والاستعارة جميلة، فثقل الموازين يدل على سعة العمل الصالح، ووزنه وقيمته. وبعكسه من كان خفيف الموزون من العمل الصالح، وقد كنا عرضنا لشيء من هذا في آية سابقة.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"المؤمنون"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المؤمنون» «1» قال تعالى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [الآية 52] بنصب أُمَّةً واحِدَةً على الحال. وقرأ بعضهم (أمّتكم أمّة واحدة) على البدل ورفع (أمّة واحدة) على الخبر «2» . وقال تعالى إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ [الآية 64] من «جأر» «يجأر» «جؤارا» و «جأرا» . وقال سبحانه: عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ [الآية 66] و (تنكصون) «3» وقال تعالى: اخْسَؤُا فِيها [الآية 108] من «خسأ» «يخسأ» تقول: «خسأته» ف «خسأ» . وقال سبحانه: وَهُمْ لَها سابِقُونَ [الآية 61] أي: من أجلها. وقال تعالى: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الآية 14] والخالقون هم الصانعون «4» . وقال الشاعر «5» [من الكامل الأحذّ، وهو

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . القراءة برفع أُمَّتُكُمْ ونصب أُمَّةً واحِدَةً هي في معاني القرآن، إلى اهل الحجاز والحسن، وفي الطبري 18: 29، الى عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة، وفي التيسير 159 الى غير الكوفيين وفي السبعة 446 الى ابن كثير، ونافع وأبي عمرو. أمّا القراءة بنصب أُمَّتُكُمْ، ورفع أُمَّةً واحِدَةً، فهي في معاني القرآن 2: 237 الى عاصم، والأعمش وفي الطبري 18: 29، الى عامة قراء الكوفيين وفي السبعة 446 الى عاصم، وحمزة، والكسائي وفي التيسير 159 الى الكوفيين. (3) . في الجامع 12: 136، والبحر 412، الى الامام علي (ع) . (4) . نقله في زاد المسير 5: 464. (5) . هو زهير بن أبي سلمى المزني. ديوانه 94، والكتاب وتحصيل عين الذهب 2: 289.

الشاهد الثالث والخمسون بعد المائتين] : وأراك تغري ما خلقت وبعد ... ض القوم يخلق ثم لا يغري «1» وقال تعالى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ [الآية 20] على فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ» وَشَجَرَةً. وقال سبحانه إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الآية 114] أي: ما لبثتم إلّا قليلا. وفي حرف ابن مسعود (إن لبثتم لقليلا) . وقال الشاعر «3» : [من الكامل وهو الشاهد الرابع والخمسون بعد المائتين] : هبلتك أمّك إن قتلت لمسلما ... وجبت عليك عقوبة المتعمد «4»

_ (1) . في الديوان: «ولأنت» بدل «وأراك» . (2) . في الآية التاسعة عشرة وهي فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) . (3) . البيت لعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل العدوية، والبيت في رثاء زوجها الزبير بن العوام. الخزانة 4: 348، وشرح شواهد المغني 26، والدرر اللوامع 1: 119، والمقاصد النحوية 278. (4) . في شرح المفصّل لابن يعيش 8: 71 ب «الله ربك» بدل «هبلتك أمك» ، وكذلك في 72. وفي الخزانة 4: 348 ب «تالله ربك» ، وفي الإنصاف 2: 336، والمقرب 1: 112 ومغني اللبيب 1: 24، والدرر 1: 199، والمقاصد النحوية 2: 278، وشرح شواهد المغني 26، وفي شرح المفصّل لابن يعيش 8: 76 ب «شلت يمينك» ، وفي الإنصاف 2: 336 ب «كتبت» بدل «وجدت» وفي سائر المصادر ب «حلت» .

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"المؤمنون"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المؤمنون» «1» إن قيل: لم قال تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ. وحفظ الفرج إنما يعدى بعن لا بعلى، يقال فلان يحفظ فرجه عن الحرام، ولا يقال على الحرام؟ قلنا: «على» هنا بمعنى عن، كما في قول الشاعر: إذا رضيت عليّ بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها الثاني: أنه متعلق بمحذوف تقديره: فلا يرسلونها إلا على أزواجهم. فإن قيل: قوله تعالى ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) لم خصّ الإخبار عن الموت، الذي لم ينكره الكفار، بلام التأكيد دون الإخبار عن البعث الذي أنكروه، والظاهر يقتضي عكس ذلك؟ قلنا: لمّا كان العطف يقتضي الاشتراك في الحكم، استغني به عن إعادة لفظ اللام، الموجبة لزيادة التأكيد، فإنها ثابتة معنى بالعطف، ولا يلزم على هذا عدم إعادة إنّ، لأنها الأصل في التأكيد، ولأنها أقوى والحاجة إليها أمسّ. فإن قيل: لم قال تعالى وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ [الآية 20] والمراد بها شجرة الزيتون، وهي تخرج من الجبل الذي يسمى طور سيناء ومن غيره؟ قلنا: قيل إن أصل شجرة الزيتون من طور سيناء ثم نقلت إلى سائر

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....]

المواضع. وقيل إنما أضيفت إلى ذلك الجبل، لأنّ خروجها في غيره من المواضع. فإن قيل: قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ [الآية 70] ، خبر عن كفّار مكة، فلم قال تعالى في الآية نفسها: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ، أي بالتوحيد، أو بالقرآن وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ولم يقل وكلّهم، مع أنّهم كلّهم كانوا للتوحيد كارهين، بدليل قولهم، كما ورد في التنزيل بِهِ جِنَّةٌ؟ قلنا: كان فيهم من ترك الإيمان به أنفة واستنكافا، من توبيخ قومه، لئلّا يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق. فإن قيل: لم جمع سبحانه فقال رَبِّ ارْجِعُونِ (99) ولم يقل «ارجعني» ، والمخاطب واحد، وهو الله تعالى؟ قلنا: هو جمع للتفخيم والتعظيم، كقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى [يس: 12] وأشباهه. فإن قيل: لم قال تعالى: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) وقال سبحانه في موضع آخر: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) [الصافات] ؟ قلنا: يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، ففيه أحوال مختلفة، ففي بعضها يتساءلون، وفي بعضها لا ينطقون لشدة الهول والفزع.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"المؤمنون"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المؤمنون» «1» في قوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) استعارة. لأن حقيقة السلالة هي أن تسلّ الشيء من الشيء. فكأن آدم (ع) ، لمّا خلق من أديم الأرض، كان كأنّه انسلّ منها، واستخرج من سرّها. وقد صار ذلك عبارة عن محصن الشيء ومصاصه «2» ، وصفوته ولبابه. ليس أن هناك شيئا، استلّ من شيء على الحقيقة. وقد تسمّى النطفة سلالة على هذا المعنى. ويسمى ولد الرّجل سلالة أيضا، على مثل ذلك. وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) استعارة. لأن المراد بالطرائق هاهنا السماوات السبع، مشبّهة بطرائق النّعل، وواحدتها: طريقة. وقد يجمع أيضا على طريق. فهي قطع الجلود يجعل بعضها فوق بعض وينتظم بالخرز. ويقال: طارقت النعل. من ذلك. وفي قوله سبحانه: اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [الآية 27] استعارة. والقول فيها كالقول في: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: 39] «3» ، على حدّ سواء. فكأنه سبحانه قال: واصنع الفلك

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . المصاص من الشيء: خالصه. يقال: فلان مصاص قومه. إذا كان أخلصهم نسبا. انظر القاموس المحيط واللسان. (3) . قد تقدّم الكلام عن هذه الآية في سورة طه.

بحيث نرعاك ونحفظك، ونمنع منك من يريدك. أو يكون المعنى: واصنع الفلك بأعين أوليائنا من الملائكة، والمؤمنين، فإنّا نمنعك بهم، ونشدّك بمعاضدتهم، فلا يصل إليك من أرادك، ولا تبلغك مرامي من كادك. وفي قوله سبحانه: فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) استعارة. والمراد بها، والله أعلم، أنه عاجلهم بالاستئصال والهلاك، فطاحوا كما يطيح الغثاء، إذا سال به السيل. والغثاء: ما حملت السيول في ممرّها من أضغاث النبات، وهشيم الأوراق، وما يجري مجرى ذلك. فكأنّ أولئك القوم هلكوا، ولم يحسّ لهم أثر، كما لا يحسّ أثر ما طاح به السيل، من هذه الأشياء المذكورة. والعرب يعبّرون عن هلاك القوم بقولهم: قد سال بهم السيل. فيجوز أن يكون قوله سبحانه: فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً، كناية عن الهلاك، كما كنوا بقولهم: سال بهم السيل عن الهلاك. والمعنى: فجعلناهم كالغثاء الطافح في سرعة انجفاله «1» ، وهو ان فقدانه. وفي قوله سبحانه: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) استعارة. والنطق لا يوصف به، إلّا من يتكلم بالة. وكان قاضي القضاة «2» أبو الحسن يجيب بذلك من يسأله: هل يجوز أن يوصف القديم تعالى بأنه ناطق، كما يوصف بأنه يتكلّم؟ فمنع من ذلك، وقال: ما قدّمت ذكره. فوصف سبحانه القرآن بالنطق، مبالغة في وصفه بإظهار البيان. وإعلان البرهان، وتشبيها باللسان الناطق، في الإبانة عن ضميره، والكشف عن مستوره. وفي قوله سبحانه: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا [الآية 63] استعارة. والمراد بها، أنّ القوم الذين قال سبحانه فيهم، أمام هذه الآية، هم الموصوفون بقوله تعالى: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا أي في حيرة تغمرها، وغمّة تسترها. والغمر جمع غمرة. وهو ما وقع الإنسان فيه من أمر

_ (1) . الانجفال: الهرب في إسراع. (2) . تقدمت ترجمتنا له عند الكلام في مجازات سورة الكهف.

مذهل، وخطب جلل، مشبه بغمرات الماء التي تغمر الواقع فيها، وتأخذ بكظم «1» المغمور بها. وفي قوله سبحانه: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [الآية 71] استعارة. والمراد بها: ولو كان الحق موافقا لأهوائهم، لعاد كلّ إلى ضلاله، وأوقع كلّ في بطله، لأن الحق يدعو إلى المصالح والمحاسن والأهواء تدعو إلى المفاسد والمقابح. فلو اتبع الحقّ قائد الهوى لشمل الفساد، وعمّ الاختلاط، وخفضت أعلام الهداية، ورفع منار الغواية. وفي قوله سبحانه: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) استعارة على أحد التأويلين، وهو أن يكون معنى الموازين هاهنا المعادلة بين الأعمال بالحق.

_ (1) . الكظم بفتح الكاف والظاء: مخرج النفس. جمعه أكظام وكظام.

سورة النور 24

سورة النّور 24

المبحث الأول أهداف سورة"النور"

المبحث الأول أهداف سورة «النور» «1» سورة النور سورة مدنية، وآياتها 64 آية، نزلت بعد سورة الحشر، وسمّيت بهذا الاسم لكثرة ذكر النور فيها: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [الآية 35] . نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [الآية 35] . وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [الآية 40] . روح السورة هذه سورة الآداب والأخلاق والتربية الإسلامية الهادفة، إنها الأخلاق والقيم المنبعثة عن إيمان المؤمن بالله، فإذا دخل نور الإيمان في القلب، اتّسع له الصدر، وانشرح له الفؤاد: وإذا حلّت الهداية قلبا نشطت في العبادة الأعضاء وقد ذكر النور في هذه السورة بلفظه، كما ذكر بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح، ممثّلة هذه الآثار في بيان الفرائض والأحكام، التي يقوم عليها بناء السورة، وهي أحكام وآداب نفسية وعائلية وجماعية، تؤدي إلى طهارة الفرد وسلامة المجتمع. تبدأ سورة النور بإعلان قويّ حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها، بكل ما فيها من حدود وتكاليف، من آداب وأخلاق:

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

فقرات السورة

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) . فيدلّ هذا البدء الفريد، على مدى اهتمام القرآن، بالعنصر الأخلاقي في الحياة، ومدى عمق هذا العنصر، وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية ... والمحور الذي تدور عليه السورة كلّها: محور التربية، التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود، وترقّ إلى درجة اللمسات الوجدانية الرقيقة، التي تصل القلب بنور الله. والهدف واحد في الشدّة واللين: تربية الضمائر، واستجاشة المشاعر، ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة، حتى تشف وتتّصل بنور الله. وتتداخل الآداب النفسية الفردية، وآداب البيت والأسرة، وآداب الجماعة والقيادة، بوصفها نابعة كلّها من معين واحد، هو العقيدة في الله، متّصلة كلّها بنور واحد، هو نور الله. فقرات السورة يجري سياق سورة النور في خمس فقرات: الفقرة الأولى: تتضمّن الفقرة الأولى الإعلان الحاسم الذي تبدأ به، ويليه بيان حدّ الزنا، وتفظيع هذه الفعلة، وتقطيع ما بين الزّناة والجماعة المسلمة، فلا هي منهم ولا هم منها، ثم بيان حدّ القذف وعلّة التشديد فيه، واستثناء الأزواج من هذا الحدّ، مع التفريق بين الزوجين بالملاعنة، ثم حديث الإفك وقصّته، وتنتهي هذه الفقرة، بتقرير مشاكلة الخبيثين للخبيثات، ومشاكلة الطيّبين للطيّبات، وبالعلاقة التي تربط هؤلاء بهؤلاء وتستغرق هذه الفقرة من أول السورة إلى الآية 26. الفقرة الثانية: تتناول الفقرة الثانية وسائل الوقاية من الجريمة، وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية. فتبدأ بآداب البيوت، والاستئذان على أهلها، والأمر بغض البصر، والنهي عن إبداء الزّينة لغير المحارم، والحضّ على إنكاح الأيامى، والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء وكلها أسباب وقائية، لضمانة الطهر والتعفف في عالم الضمير والشعور، ودفع المؤثرات،

الفقرة الثالثة:

التي تهيج الميول الحيوانية، وترهق أعصاب المتحرّجين المتطهّرين، وهم يقاومون عوامل الإغراء والغواية وتستغرق هذه الفقرة الآيات [27- 34] . الفقرة الثالثة: تتوسط هذه الفقرة، مجموعة الآداب التي تضمنتها السورة، فتربطها بنور الله، وتتحدث عن أطهر البيوت، عن الرجال المؤمنين الذين يعمرون بيوت الله. وفي الجانب المقابل: الذين كفروا، وأعمالهم الشبيهة بسراب من اللّمعان الكاذب، أو بظلمات بعضها فوق بعض ثم تكشف الآيات عن فيوض من نور الله في الآفاق: في تسبيح الخلائق كلّها لله، وفي إزجاء السحاب، وفي تقليب الليل والنهار، وفي خلق كلّ دابة من ماء، ثم اختلاف أشكالها، ووظائفها، وأنواعها وأجناسها، ممّا هو معروض في صفحة الكون، للبصائر والأبصار وتستغرق هذه الفقرة الآيات [35- 46] . الفقرة الرابعة: تتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع رسول الله (ص) ، في الطاعة والتحاكم، وتصوّر أدب المؤمنين الخالص، وطاعتهم وتعدهم، على هذا، الاستخلاف في الأرض، والتمكين في الدين، والنصر على الكافرين وتستغرق هذه الفقرة الآيات [47- 57] . الفقرة الخامسة: تستأنف هذه الفقرة الحديث عن آداب الاستئذان والضيافة، في محيط البيوت بين الأقارب والأصدقاء، وتتحدّث عن آداب الجماعة المسلمة كلّها، كأسرة واحدة، مع رئيسها ومربيها، رسول الله (ص) . وتكتمل السورة، بإعلان ملكية الله سبحانه لما في السماوات والأرض، وعلمه بواقع الناس، وما تنطوي عليه حناياهم، ورجعتهم إليه، وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم، وهو بكل شيء عليم. وتستغرق هذه الفقرة الآيات [58- 64] . أثر السورة في حفظ المجتمع نلحظ أن سورة النور دعوة هادفة إلى إضاءة القلب بنور الله وذكره، وتذكّر

جلاله وعظمته. وهي سياج للفرد والمجتمع، من الانحلال والتردي في الخطيئة، فقد أمرت بغضّ البصر، وحفظ الفرج، ونهت عن دخول البيوت بغير إذن وإيذان، ونهت عن قذف المحصنات، وبيّنت عقوبة البهتان، وإلصاق التهم الكاذبة بالمستقيمين، وذمّت إشاعة الفاحشة، وأظهرت عجائب صنع الله في إرسال المطر، وتفصيل أصناف الحيوان، وحثّت على التوبة والإنابة، وبذلك أخذت بيد الإنسان، إلى الطريق الصحيح، ورفعت عنه عوامل الإحباط والانتكاس، وبيّنت أن الله مطّلع على كل شيء فقد ختمت بهذه الآية أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"النور"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النور» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة النور بعد سورة الحشر، ونزلت سورة الحشر بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة النور في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في الآية 35 منها: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وتبلغ آياتها أربعا وستين آية. الغرض منها وترتيبها غرض هذه السورة بيان بعض الأحكام العملية، التي تتعلق بحفظ الفروج والأعراض، كحكم الزنا والقذف والنظر، وغيره من الأحكام الآتية فيها، وقد جاء فيها، من الاستطراد، ما قصد به تنويع أسلوبها، على عادة القرآن، إذا أخذ في بيان هذه الأحكام. وقد ذكرت هذه السورة بعد السورة السابقة، لأنها ابتدئت بذكر بعض أحكام الإيمان العملية، على سبيل الإجمال، وكان من ضمنها حفظ الفروج إلا على الأزواج أو نحوهم فجاءت هذه السورة بعدها، لتفصيل الأحكام المتعلّقة بحفظ الفروج والأعراض. حكم الزّنا الآيات [1- 3] قال الله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

حكم القذف الآيات [4 - 26]

وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) فبيّن أنه أنزل هذه السورة وقدّر فيها ما قدر من الحدود والأحكام. وهذه الآية فيها براعة مطلع للغرض من السورة ثم ذكر تعالى حدّ الزنا، من جلد كل من الزاني والزانية مائة جلدة، وحرّم زواج الزاني على المؤمنة العفيفة، وزواج الزانية على المؤمن العفيف. حكم القذف الآيات [4- 26] ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) فذكر حدّ القذف، وهو ثمانون جلدة، ثم ذكر أن من يقذفون أزواجهم بالزنا، وليس لديهم أربعة شهداء على زناهنّ، يلاعن كلّ منهم الاخر، فيدرأ لعانه حدّ القذف عنه، ويدرأ لعانها حدّ الزنا عنها، وهذا من فضله تعالى ورحمته بهما. ثم ذكر، سبحانه، أنّ حديث الإفك كان شرا كبيرا، وأوعد الذي تولّى كبره بعذاب عظيم يوم القيامة، ولام من استمعه من المؤمنين ولم يزجر من قاله، ثم وعظهم ألّا يعودوا إلى مثله إن كانوا مؤمنين، وأنذر الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين، بعذاب أليم في الدنيا والاخرة، ونهاهم عن اتّباع خطوات الشيطان، لأنه يأمر بالفحشاء والمنكر وذكر لهم سبحانه، أنه، لولا فضله عليهم، لأوقعهم الشيطان في هتك أعراضهم، فلا يزكو أحد منهم أبدا ثم أمرهم أن يعاملوا القاذفين بعد إقامة الحدّ عليهم بالعفو والصفح، فمن كان منهم فقيرا أو كانت له قرابة بالمقذوف وأهله، فليمضوا في الإحسان إليه، ولا يقطعوه عنه ثم عاد إلى إنذار من يقذف المحصنات الغافلات، باللعن في الدنيا والاخرة، وبعذاب عظيم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، بما كانوا يعملون، ثم ختم ذلك بدليل قاطع في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو أن الخبيثات يكنّ أزواجا للخبيثين والعكس أيضا يكون، والطيبات يكن أزواجا للطيبين والعكس أيضا يكون، ولو كانت عائشة خبيثة ما اختيرت زوجا للنبي (ص) .

حكم دخول البيوت الآيات [27 - 29]

حكم دخول البيوت الآيات [27- 29] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فنهاهم عن دخول بيوت غير بيوتهم، إلّا بعد الاستعلام والسلام على أهلها، وأباح لهم أن يدخلوا البيوت التي لا تتّخذ للسكنى، من غير استئذان، إذا كان فيها متاع لهم. حكم النظر الآيتان [30- 31] ثم قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) ، فأمر الرجال بغضّ البصر عن النساء، وحفظ فروجهم وأمر النساء بغض البصر عن الرجال، وحفظ فروجهن ونهاهنّ أن يظهرن زينتهن إلا ما ظهر منها وأمرهنّ أن يضربن بخمرهن على جيوبهنّ ونهاهنّ أن يظهرن زينتهنّ إلا لبعولتهنّ، أو غيرهم ممن ذكرهم سبحانه، وأن يضربن بأرجلهنّ ليعلم ما يخفين من زينتهنّ. أحكام أخرى الآيات [32- 57] ثم قال تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) فأمرهم بإنكاح من تأيّم منهم من الأحرار والحرائر، ومن كان فيه صلاح للنكاح من الغلمان والجواري وأمر من لا يجد مهرا، أن يصون نفسه حتى يغنيه وأمر بمكاتبة الأرقاء إن علموا فيهم خيرا ونهاهم عمّا كانوا يفعلونه من إكراه فتياتهم على البغاء. ثم التفت السياق إلى التنويه بشأن القرآن، الذي نزل بمثل تلك الأحكام، بجعله نورا من الله تعالى أضاء به السماوات والأرض وذكر جلّ وعلا أنّ مثل نوره كمشكاة فيها مصباح موضوع في زجاجة، كأنها كوكب درّيّ، يوقد من زيتونة، يكاد زيتها يضيء، ولو لم تمسسه نار وذكر أنه يهدي لهذا النور من يشاء، من رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكره ثم ضرب مثلا لظلمة الكفر به، فذكر أنه كسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، أو

حكم دخول البيوت للغلمان ونحوهم الآيات [58 - 61]

كظلمات في بحر لجّي، يغشاه موج من فوقه موج، من فوقه سحاب إلخ. ثم أتبع ذلك، بذكر بعض الآيات الكونية، التي تدلّ على صدق ما يدعو إليه من الإيمان به، فذكر سبحانه أنه يخضع له من في السماوات والأرض وما بينهما، إلى غير هذا ممّا ذكره من تلك الآيات. ثم ذكر من ذلك الكفر أشدّه ظلمة، وهو النفاق الذي يصير بأهله إلى إظهار الإيمان والطاعة، فإذا دعوا إلى الله ورسوله، ليحكم بينهم أعرضوا عنه، إن لم يكن لهم الحق، وإن كان لهم الحق أتوا إليه مذعنين ثم ذكر أنهم يقسمون به، لئن أمرهم بالخروج إلى القتال ليخرجنّ إليه ونهاهم عن ذلك، لأن المطلوب منهم طاعة معروفة، لا أيمان كاذبة ثم أمر الرسول (ص) أن يأمرهم بتلك الطاعة، فإن أعرضوا بعد ذلك، فقد أدّى رسالته، وليس عليه إلا أن يؤدّيها لهم ثم وعد من يطيعه، أن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الطائعين قبلهم وأمرهم أن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويطيعوا الرسول (ص) في كل ما يأمرهم به ونهاه أن يظنّ أن أولئك الكفار يعجزونه عن إدراكهم، ليحقّق وعده لمن آمن به: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) . حكم دخول البيوت للغلمان ونحوهم الآيات [58- 61] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ [الآية 58] فأباح لمن ملكت أيمانهم، ومن لم يبلغ منهم أن يدخلوا عليهم بغير إذن إلا في ثلاثة أوقات: الوقت الذي يكون قبل صلاة الفجر، ووقت الظهيرة الذي يضعون فيه ثيابهم، والوقت الذي يكون بعد صلاة العشاء، فلا يدخلون عليهم فيها إلّا بإذن ثم ذكر سبحانه، أنه لا حرج على من انقطعت الرغبة في نكاحهن، لكبرهنّ، أن يضعن خمرهنّ عن رؤوسهن، ولكنّ التستّر خير لهن وذكر جلّ شأنه، أنه لا حرج على الأعمى، والأعرج، والمريض، في دخول البيوت، والأكل منها لحاجتهم، ولا حرج عليهم أن يأكلوا من بيوت أزواجهم، أو بيوت آبائهم، أو نحوهم

حكم الاجتماع في بيوت الندوة الآيات [62 - 64]

ممّن ذكرهم ثم أمرهم إذا دخلوا بيوتا أن يسلّموا على أهلها: تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) حكم الاجتماع في بيوت الندوة الآيات [62- 64] ثم قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [الآية 62] . فذكر أنه، إذا اجتمع النبيّ (ص) والمؤمنون، للتشاور في أمر يهمهم، لم يجز لهم أن يخرجوا حتى يستأذنوه، وأمره إذا استأذنوه في الخروج لبعض شأنهم، أن يأذن لمن يرى له عذرا منهم، ثم نهاهم أن يتخلّفوا عن دعوته إذا دعاهم للتشاور في أمر من الأمور، وحذّر الذين لا يجيبون دعوته أن تصيبهم فتنة، أو يصيبهم عذاب أليم: أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"النور"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النّور» «1» أقول: وجه اتصالها بسورة «قد أفلح» ، أي سورة «المؤمنون» : أنه لما قال تعالى في الآية الخامسة منها: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) ، ذكر في هذه أحكام من لم يحفظ فرجه، من الزانية والزاني، وما اتّصل بذلك من شأن القذف، وقصّة الإفك، والأمر بغضّ البصر «2» ، وأمر فيها بالنكاح حفظا للفروج، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف، وحفظ فرجه، ونهى عن إكراه الفتيات على الزنا «3» . ولا ارتباط أحسن من هذا الارتباط، ولا تناسق أبدع من هذا النسق.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . الزانية والزاني في قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [الآية 2] . إلى وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) . وجاء القذف في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [الآية 4] الى وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) . وهو شامل لأحكام اللّعان. وقصة الإفك هي التي أرجف بها المنافقون في حقّ أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حتى برّأها الله تعالى، بقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [الآية 11] الى وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (19) . وجاء غضّ البصر في قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ [الآية 30] إلى وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) . (3) . جاء الأمر بالنكاح، والاستعفاف لغير القادر، وعدم إكراه الفتيات على البغاء في الآيتين [32- 33] .

المبحث الرابع مكنونات سورة"النور"

المبحث الرابع مكنونات سورة «النور» «1» 1- الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ [الآية 11] . حسّان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، وعبد الله بن أبيّ وهو الذي تولى كبره. كما أخرجه الشيخان «2» وغير هما.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . البخاري (4141) في المغازي من «صحيحه» ، ومسلم في التوبة باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، رقم (2770) .

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"النور"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النور» «1» 1- وقال تعالى: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) . «كبره» قرئ بضم الكاف وكسرها، وكبر الشيء عظمه، أي: والذي تحمّل معظم الشر في حديث الإفك هو عبد الله بن أبيّ، رأس النفاق مع جماعته أقول: والكبر بالكسر على أنه العظم والمعظم من باب ما جاء على «فعل» بكسر الفاء من الأسماء الثلاثية، كالذّبح والنّقض والمسخ وغير ذلك. 2- وقال تعالى: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) . وقوله تعالى: سُبْحانَكَ للتعجب من عظم الأمر. أقول: إن «سبحان» ، مصدر أفاد التعجب في هذه الآية، كما أفاد معاني أخرى في غيرها. وقولنا: «سبحان الله» معناه: تنزيها لله من الصحابة والولد، وقيل: تنزيه الله تعالى عن كل مالا ينبغي له أن يوصف به. وقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء/ الآية الأولى] . معناه: أسبّح الله تسبيحا. أقول: فما معنى قول بعض النحويين إنه اسم فعل مضارع؟ لعلهم لم يذهبوا إلى هذا إلّا بسبب تفسير هم له، أي: أنه بمعنى أسبّح. ولعل تفسير هم بالمصدر جرّأهم على ذلك. 3- وقال تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ [الآية 17] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

والمعنى: كراهة أن تعودوا لمثله. وحذف المصدر هذا المبيّن للسبب والعلة كثير في القرآن، وقد مرّ بنا شيء منه. 4- وقال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [الآية 21] . أقول: قوله تعالى أَبَداً، أي: إلى الأبد، وهو الزمن الدائم المتصل، ونصبه على الظرفية. وذكر الظرف هنا أفاد تأبيد النفي ب «ما» . وقد ورثنا هذا الأسلوب في النفي في عربيتنا المعاصرة حتى كأن (أبدا) في استعمال المعاصرين شيء من حواشي النفي وضروراته. وكما ترد «أبدا» في حشو النفي لإرادة التأبيد، ترد أيضا في الإثبات فيقال مثلا: أشتاقه أبدا. 5- وقال تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ [الآية 31] . الجيوب: جمع جيب، والجيب جيب القميص والدرع. وجيّبت القميص: قوّرت جيبه. أقول: والجيب له دلالة جديدة في عصرنا، واستعماله، بهذا المعنى الجديد، ربّما عرف قبل عصرنا هذا. 6- وقال تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [الآية 31] . الطفل: اسم جمع ويكون للواحد. وانظر [الحج: 5] . 7- وقال تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [الآية 32] . أقول: الأيامى: جمع أيّم، رجلا كان أو امرأة، وقد آم الرجل وآمت المرأة: إذا لم يتزوّجا، بكرين كانا أو ثيّبين. والمراد أنكحوا من تأيّم منكم من الأحرار والحرائر، والخطاب للمذكر على وجه التغليب. 8- وقال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً [الآية 33] . وقوله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ أي: وليجتهد في العفّة وظلف النفس، كأن المستعفف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه. وهذا من فوائد زيادة الهمزة والسين والتاء في الفعل.

9- وقال تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [الآية 35] . أقول: وينبغي أن ننظر إلى هذا الاستعمال البليغ في معناه الرشيق في خفة لفظه، ألا ترى أننا نقول في مثل هذا في العربية المعاصرة: ... حتى ولو لم يكن له حاجة، أو نقول: حتى وإن لم تكن له حاجة ... 10- وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [الآية 39] . والقيعة: بمعنى القاع، ولعلها جمع القاع، وهو المنبسط المستوي من الأرض وهي مثل جيرة في جار. أقول: وهذا الجمع في «قاع» من الجموع العزيزة: ذلك أن المشهور المعروف في جمعها: «قيعان» . 11- وقال تعالى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الآية 43] . وقوله تعالى: مِنْ خِلالِهِ الخلال: جمع خلل مثل جبال وجبل. وقرئ: من خلله. وقد جرّت «خلال» ب «من» لبيان الخروج وبدايته. ولتضمن «الخلل» ، و «الخلال» معنى المكانية، قربت «خلال» من الظرفية التي تقوّى بالحرف «في» فيقال: ومرّ في خلال أو من خلال ذلك، مثلا. وقد شاع هذا الاستعمال الذي يومئ إلى الظرفية فاستغني عن الخافض، فصار المعربون يقولون: «حدث خلال ذلك» ، أي: «في خلال» . وقد جدّ في هذا الاستعمال المعاصر، شيء آخر، وهو أن الكلمة قد اتّسع فيها، فدلّت على الظرفية الزمانية، بعد أن كانت تفيد المكان، على أن المعاصرين ربما استعملوها للمكان أيضا، فقالوا مثلا: يجري الماء في خلال الشجر، أو من خلاله. ومثل «خلال» هذه، كلمة «أثناء» ، وهي جمع «ثني» ، وهو اسم يعني ما يثنى من أشياء مختلفة. وليس في «ثني» ولا في «أثناء» ما يفيد الظرفية الزمانية، ولكن هذه الظرفية استفيدت من استعمال الأداة «في» كقولنا: حدث في أثناء ذلك كيت وكيت. وعلى عادة المعربين في كل العصور، يميلون إلى الإيجاز والتخفيف ممّا هو قد عرف واشتهر، فيقولون: حدث أثناء ذلك كيت وكيت، فهم يسقطون الأداة «في» إيجازا لمعرفتها. ومثل هاتين الكلمتين في إفادة

الظرفية «خلال، أثناء» قولهم: «غضون» والغضون: جمع «غضن» ، وهو ما تغضّن، أي: تكسّر في الجلد والثوب ونحوهما. وكما قلنا: في كلمة «أثناء» ، نقول: في هذه الكلمة، أي: أنها لا تدل على الظرفية الزمانية، إلا بعد استعمال الأداة «في» ، فنقول: وحدث في غضون ذلك، والمراد: وحدث في أثناء ذلك أو في خلال ذلك. وقد نبّه أهل التصحيح، للخطأ اللغوي، فقالوا بخطإ قولهم: حدث خلال أو أثناء، والصحيح عندهم استعمال الأداة «في» قبلهما للدلالة على الظرفية. والذي أراه: أن الكلمة أو التركيب «في خلال» ، «وفي أثناء» ، لما شاع فيها الدلالة على الظرف، وعرف حتى غلب على الدلالة في الأصل، جاز أن يستعمل ظرفين من غير أن يسبقا ب «في» ، التماسا للإيجاز. وبعد، ألم نقل: دخل فلان الدار، والأصل: دخل فيها؟ «1» . 12- وقال تعالى: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) . أقول: في قوله تعالى: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) ، جاءت «إذا» التي تفيد الفجاءة، ويتلوها جملة اسمية وهذا هو الأسلوب، الذي جرت عليه لغة التنزيل، فأمّا قول المعربين في عصرنا وقبله، بعدة قرون مثلا: خرجت فإذا بي أمام حادثة مروّعة، فهو أسلوب آخر غير ما جاء في فصيح العربية، وأولها لغة التنزيل فقد جرّ الاسم بعدها بالباء، وقالوا في هذه الباء انها زائدة، والتقدير: فإذا أنا أمام ... ومثل هذه الآية قوله تعالى:

_ (1) . والردّ على من يقول إن «أثناء» لا يمكن أن تكون ظرفا إلا مع الخافض «في» : قوله تعالى: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ [الإسراء: 5] . وقوله سبحانه: وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً [النّمل: 61] . و «خلال» هذه مثل «أثناء» ، في كونها جمعا لاسم، ولكنها رشّحت للظرفية بالخافض، ثم حذف هذا الخافض لشيوع الظرفية فيها. ومما تجب ملاحظته، أن المعاصرين يستعملون «من خلال» بمعنى بوساطة كقولهم مثلا: نحن نتبيّن هذه المسألة من خلال دراستنا لنتائجها، وهذا القول ترجمة لشيء من الانكليزية.

إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس] . 13- وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ [الآية 53] . وقد مرّ بنا مثل هذه الآية في [المائدة 53] ، وفي [الأنعام: 109] . وفي [النحل: 38] . وهي مفيدة أنهم بالغوا في اليمين وبلغوا الغاية.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"النور"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النور» «1» قال تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً [الآية 17] فهذه ممّا يوصل باللام تقول: «إن عدت لمثله فإنّك ظالم» . وقال سبحانه: مِنْ عِبادِكُمْ [الآية 32] أي «من عبيدكم» ، كما تقول: «هم عباد الله» و «عبيد الله» . وقال تعالى: كَمِشْكاةٍ [الآية 35] أي: كمثل مشكاة. قال سبحانه: كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [الآية 35] ، بجعله من «الدّر» و (دريء) من «درأ» بالهمز وبجعلها «فعّيل» ، وذلك من تلألئه. وأمّا مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [الآية 35] ، فالمصباح، في المعنى، أن مثل ما أنار من الحق في بيانه، كمثل المشكاة. ليس لله مثل تبارك وتعالى. وقال تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا [الآية 31] بجعل (الطفل) جماعة، كما قال سبحانه: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 45] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النور» «1» فإن قيل: لم قدّمت المرأة في آية حد الزنا، وقدّم الرجل في حدّ السرقة؟ قلنا: لأن الزنا، إنما يتولّد من شهوة الوقاع، وشهوة المرأة أقوى وأكثر والسّرقة إنما تتولد من الجسارة والجراءة والقوة، وذلك في الرجل أكثر وأقوى. فإن قيل: لم قدّم الرجل في قوله تعالى الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [الآية 3] ؟ قلنا: لأن الآية الأولى سبقت لعقوبتهما على ما جنيا والمرأة هي الأصل في تلك الجناية، لما ذكرنا. والآية الثانية سبقت لذكر النكاح، والرجل هو الأصل فيه عرفا، لأنه هو الراغب والخاطب والبادئ بالطلب بخلاف الزنا، فإن الأمر فيه بالعكس غالبا. فإن قيل: لم قال تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [الآية 3] أي لا يتزوج وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [الآية 3] ونحن نرى الزاني ينكح العفيفة والمسلمة، والزانية ينكحها العفيف والمسلم؟ قلنا: قال عكرمة نزلت هذه الآية في بغايا موسرات كنّ بمكة، وكان لا يدخل عليهن إلا زان من أهل القبلة، أو مشرك من أهل الأوثان، فأراد جماعة من فقراء المهاجرين أن ينكحوهن، فنزلت هذه الآية زجرا لهم عن ذلك.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"النور"

فإن قيل: ما الحكمة في دخول «من» في غض البصر، دون حفظ الفرج في قوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [الآية 30] ؟ قلنا: الحكمة فيه الدلالة على أن أمر النظر أوسع من أمر الفرج، ولهذا يحل النظر في ذوات المحارم، والإماء المستعرضات، إلى عدّة من أعضائهن، ولا يحل شيء من فروجهن. فإن قيل: ما حكمة ترك الله تعالى ذكر الأعمام والأخوال في قوله سبحانه وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [الآية 31] يعني الزينة الخفيّة إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ [الآية 31] ، وهم من المحارم، وحكمهم حكم من استثني في الآية؟ قلنا: سئل الشعبي عن ذلك فقال: لئلا يصفها العمّ لابنه، وهو ليس بمحرم لها، وكذا الخال فيفضي إلى الفتنة والمعنى فيه أنّ كلّ من استثني يشترك، هو وابنه في المحرمية، إلا العم والخال، وهذا من الدّلالة البليغة على وجوب الاحتياط في سترهن. ولقائل أن يقول: هذه المفسدة محتملة في آباء بعولتهن، لاحتمال أن يذكرها أبو البعل عند ابنه الاخر، وهو ليس بمحرم لها وأبو البعل أيضا نقض على قولهم: إن كل من استثني يشترك هو وابنه في المحرمية. فإن قيل: لم قال تعالى وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [الآية 33] مع أن إكراههن على الزنا حرام في كل حال؟ قلنا: لأن سبب نزول الآية، أنهم في الجاهلية كانوا يكرهون إماءهم على الزنا، مع إرادتهن التحصّن، فورد النهي على السبب، وإن لم يكن شرطا فيه. الثاني أنه تعالى إنما شرط إرادة التحصّن، لأنّ الإكراه لا يتصوّر إلا عند إرادة التحصّن، لأنّ الأمة، إذا لم ترد التحصّن، فإنها تزني بالطبع، لأن رغبتها في الجماع مستمرة في جميع الأحوال طبعا، ولا بدّ له من أحد الطريقين. الثالث أن «إن» ، بمعنى «إذ» ، كما في قوله تعالى: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (78) [البقرة] وقوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (149) [آل عمران] . الرابع: أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره: وأنكحوا الأيامى منكم، الصالحين من عبادكم وإمائكم، إن أردن تحصّنا،

ويبقى قوله تعالى وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ [الآية 33] مطلقا غير معلق. فإن قيل: لم مثّل الله تعالى نوره، أي معرفته وهداه في قلب المؤمن، بنور المصباح، في قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [الآية 35] ولم يمثّله بنور الشمس، مع أن نورها أتم وأكمل؟ قلنا: المراد تمثيل النور في القلب، والقلب في الصدر، والصدر في البدن بالمصباح: وهو الضوء أو الفتيلة في الزجاجة، والزجاجة في الكوّة التي لا منفذ لها، وهذا التمثيل لا يستقيم إلا في ما ذكر. الثاني: أن نور المعرفة له آلات، يتوقّف على اجتماعها، كالذهن والفهم والعقل واليقظة وانشراح القلب، وغير ذلك من الخصال الحميدة كما أن نور القنديل يتوقف على اجتماع القنديل والزيت والفتيلة، وغير ذلك. الثالث: أنّ نور الشمس يشرق متوجها إلى العالم السفلي، لا إلى العالم العلوي ونور المعرفة يشرق متوجها إلى العالم العلوي، كنور المصباح. الرابع: أن نور الشمس لا يشرق إلا بالنهار، ونور المعرفة يشرق بالليل والنهار، كنور المصباح. الخامس: أن نور الشمس يعمّ جميع الخلائق، ونور المعرفة لا يصل إليه إلا بعضهم، كنور المصباح الموصوف. فإن قيل: إنه تعالى لم يمثله بنور الشمس لما ذكرتم، فكيف لم يمثله بنور الشمع، مع أنّه أتم وأكمل وأشرق، من نور المصباح؟ قلنا: إنما لم يمثله بنور الشمع، لأن في الشمع غشا لا محالة، بخلاف الزيت الموصوف، ولو مثله تعالى بنور الشمع، لتطاول المنافق المغشوش، إلى استحقاق نصيب في المعرفة. الثاني: أنه تعالى، إنما لم يمثله بنور الشمع، لأنه مخصوص بالأغنياء، بخلاف نور المعرفة فإنه في الفقراء أغلب. فإن قيل: التجارة تشمل الشراء والبيع، فما الحكمة في عطف البيع عليها في قوله تعالى: لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الآية 37] ؟ قلنا: التجارة هي الشراء والبيع، الذي يكون صناعة للإنسان مقصودا به الربح، وهو حرفة الشخص الذي يسمّى تاجرا، والبيع أعمّ من ذلك وقيل: المراد بالتجارة هنا، مبادلة الاخرة بالدنيا، كما في قوله تعالى:

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16] والمراد بالبيع مبادلة الدين بالدنيا، كما في قوله تعالى فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة 9] . وقيل إنما عطف سبحانه البيع على التجارة، لأنه أراد بالتجارة الشراء، إطلاقا لاسم الجنس على النوع. وقيل: إنما عطف عليها للتخصيص والتمييز، من حيث أنه أبلغ في الإلهاء لأن البيع الرابح يعقبه حصول الربح، بخلاف الشراء الرابح، فإن الربح فيه مظنون، مع كونه مترقّبا منتظرا. وقيل: التجارة مخصوصة بأهل الجلب، بخلاف البيع. فإن قيل: لم قال الله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [الآية 45] ، وبعض الدواب ليس مخلوقا من الماء، كآدم عليه السلام، وناقة صالح وغير هما؟ قلنا: المراد بهذا الماء: الماء الذي هو أصل جميع المخلوقات، وذلك أن الله تعالى- على حدّ قول بعضهم- خلق قبل خلق الإنسان جوهرة، ونظر إليها نظر هيبة، فاستحالت ماء، فخلق من ذلك الماء جميع الموجودات وقد سبق مثل هذا السؤال في قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 30] . فإن قيل: إذا كان الجواب هذا، فما الحكمة في تخصيص الدّابة بالذكر، أو تخصيص الشيء الحيّ؟ قلنا: إنّما خصّت الدّابة بالذكر، لأنّ القدرة فيها أظهر وأعجب منها في الجماد وغيره. فإن قيل: لم قال تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [الآية 45] وقال أيضا: وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [الآية 45] وهي مما لا يعقل؟ قلنا: لمّا كان اسم الدابة، يتناول المميّز وغيره، غلب المميّز على غيره، وأجري عليه لفظه. فإن قيل: لم قال تعالى: مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [الآية 45] وذلك إنّما يسمى زحفا لا مشيا، فلا يسمّى مشيا إلّا ما كان بالقوائم؟ قلنا: هو مجاز بطريق المشابهة، كما يقال: مشى هذا الأمر، وفلان لا يتمشّى له أمر، وفلان ما مشي له الحال. فإن قيل: لم أمر الله تعالى

بالاستئذان، للأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، بقوله تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [الآية 58] أي من الأحرار؟ قلنا: هو في المعنى، أمر للآباء والأمهات، بتأديب الأطفال وتهذيبهم، وليس أمر للأطفال. فإن قيل: لم أباح تعالى، للقواعد من النساء، وهن العجائز، التجرّد من الثياب، بحضرة الرجال، بقوله تعالى: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ [الآية 60] . قلنا: المراد بالثياب هنا، الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار، لا جميع الثياب، وقوله تعالى غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ [الآية 60] أي غير قاصدات بوضع الثياب، الثياب الظاهرة، إظهار زينتهن ومحاسنهن، بل التخفيف ثم أعقبه بأن التعفّف بترك الوضع خير لهن. فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ [الآية 61] مع أن انتفاء الحرج عن أكل الإنسان من بيته معلوم، لا شك فيه ولا شبهة؟ قلنا: المراد بقوله تعالى مِنْ بُيُوتِكُمْ أي من بيوت أولادكم، لأنّ ولد الرجل بعضه، وحكمه حكم نفسه، فلهذا عبّر عنه به، وفي الحديث: «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» ويؤيد ذلك أنه تعالى قد ذكر بيوت جميع الأقارب، ولم يذكر بيوت الأولاد. وقيل المراد بقوله تعالى: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي من مال أولادكم، وأزواجكم الذين هم في بيوتكم، ومن جملة عيالكم. وقيل المراد بقوله تعالى: مِنْ بُيُوتِكُمْ البيوت التي يسكنونها، وهم فيها عيال لغيرهم، كبيت ولد الرجل وزوجته وخادمه، ونحو ذلك. فإن قيل: معنى السلام هو السلامة والأمن، فإذا قال الرجل لغيره: السلام عليك، كان معناه سلمت مني وأمنت، فما معنى قوله تعالى فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [الآية 61] ؟ قلنا: المراد به فإذا دخلتم بيوتكم، فسلّموا على أهلكم وعيالكم. وقيل معناه إذا دخلتم المساجد، أو بيوتا ليس فيها أحد، فقولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، يعني من ربّنا. فإن قيل: لم قال الله تعالى

فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [الآية 63] ، وإنّما يقال خالف أمره؟ قلنا: «عن» زائدة كذا قاله الأخفش. الثاني: أن فيه إضمار تقديره: فليحذر الذين يخالفون الله تعالى، ويعرضون عن أمره أو ضمن المخالفة، معنى الأعراض، فعدّي تعديته.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"النور"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النور» «1» ... وقوله سبحانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) . وهذه استعارة على أحد التأويلات الثلاثة، وهو أنه سبحانه يجعل في الأيدي التي بسطت إلى المحظورات، والأرجل التي سعت إلى المحرمات، علامة تقوم مقام النطق المصرّح، واللسان المفصح، في الشهادة على أصحابها، والاعتراف بذنوبها. فأما شهادة الألسنة، فقد قيل إن المراد بها إقرارهم على نفوسهم بما واقعوه من المعاصي، إذ علموا أن الكذب لا ينفعهم، والجحود لا يغني عنهم. وليس ذلك بمناقض لقوله سبحانه: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) [يس] ، لأنّه قد قيل في ذلك: إنه جائز أن تخرج ألسنتهم من أفواههم، فتنطق بمجرّدها، من غير اتصال بجوزاتها ولهواتها. فيكون ذلك أعجب لها، وأبلغ في معنى شهادتها. ويختم في تلك الحال على أفواههم. وقيل: يجوز أن يكون الختم على الأفواه، إنما هو في حال شهادة الأيدي والأرجل، بعد ما تقدّم من شهادة الألسن. وأمّا التأويلان الآخران، في معنى شهادة الأيدي والأرجل، فالكلام

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

يخرج بهما عن حدّ الاستعارة إلى الحقيقة. وذلك أنهم قالوا: إن الله سبحانه يبني الأيدي والأرجل، بنية تكون هي الناطقة بما تشهد به عليهم، من غير أن يكون النطق منسوبا إليهم. وقوله سبحانه: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ [الآية 31] وهذه استعارة. والمراد بها: إسبال الخمر، التي هي المقانع على فرجات الجيوب، لأنها خصاصات «1» إلى الترائب والصدور، والثدي والشعور. وأصل الضرب من قولهم: ضربت الفسطاط إذا أقمته بإقامة أعماده، وضرب أوتاده. فاستعير هاهنا كناية عن التناهي في إسبال الخمر، وإضفاء الأزر. وقوله سبحانه: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 35] وهذه استعارة. والمراد بذلك، عند بعض العلماء، أنه هادي أهل السماوات والأرض بصوادع برهانه، ونواصع بيانه، كما يهتدى بالأنوار الثاقبة، والشّهب اللامعة. وقال بعضهم: المراد بذلك، والله أعلم، الله منوّر السماوات والأرض بمطالع نجومها، ومشارق أقمارها وشموسها. وقوله سبحانه: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [الآية 35] وهذه مبالغة في وصف الزيت بالصفاء والخلاصة، على طريق المجاز والاستعارة، حتى يقارب أن يضيء، من غير أن يتصل بنار، ويناط بذلك. وقوله سبحانه: يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ [الآية 37] وهذه استعارة. والمراد بتقلّب القلوب هاهنا: تغيّر الأحوال عليها، من الخوف والرجاء، والسرور والغمّ، إشفاقا من العقاب، ورجاء للثواب. والأولى صفة أعداء الله، والأخرى صفة أولياء الله. وأمّا تقلّب الأبصار، فالمراد به تكرير لحظ المؤمنين إلى مطالع الثواب، وتكرير لحظ الكافرين إلى مطالع العقاب. وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) .

_ (1) . الخصاصات: جمع خصاصة وخصاص بفتح الخاء، وهو الخرق في الباب أو البرقع وغير هما.

قوله تعالى: وَوَجَدَ اللَّهَ استعارة ومجاز. والمعنى: فوجد وعيد الله سبحانه، عند انتهائه إلى منقطع عمله السيّئ، فكاله بصواعه، وجازاه بجزائه. وذلك يكون يوم المعاد، وعند انقطاع تكليف العباد. وقد قيل أيضا: إنّ الضمير في قوله تعالى: عِنْدَهُ يعود إلى الكافر لا إلى عمله، فكأنّه تعالى قال: فوجد الله قريبا منه، أي وجد عقابه مرصدا له، فأخذه من كثب، وجازاه بما اكتسب. وذلك كقول القائل: الله عند لسان كل قائل. أي يجازيه على قول الحق بالثواب، وعلى قول الباطل بالعقاب. والقولان جميعا يؤولان إلى معنى واحد. وقوله سبحانه: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ [الآية 43] . وهذه استعارة على بعض التأويلات. لأنّ الجبال هاهنا، يراد بها السحاب الثّقال، تشبيها لها بكثائف أطوادها، ومشارف هضابها. ويكون الضمير في قوله سبحانه: مِنْ جِبالٍ فِيها عائدا على السماء، لا على الجبال. فكأنّ التقدير: وينزّل من جبال من السماء من برد، يريد من السحاب المشبّهة بالجبال. وتكون الفائدة في قوله تعالى: مِنْ جِبالٍ في السماء، تخصيص تلك الجبال من جبال الأرض لأنّا لو جعلنا الضمير الذي فيها عائدا على الجبال، أوهم أنها جبال تنزل إلى الأرض من السماء. فإذا جعلنا الضمير عائدا إلى السماء أمن الالتباس، وكان في ذلك أيضا تعجّب لنا، من وصف جبال في السماء على طريق التشبيه لأنّ الجبال على الحقيقة لا تكون إلا في قرارات الأرض، وصفحات التّرب. وقوله سبحانه: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [الآية 44] وهذه استعارة. والمراد بها طرد النهار بالليل، وطرد الليل بالنهار. فكنى عن ذلك سبحانه باسم التقليب. وليس المراد تقليب الأعيان «2» ، بل تغاير الأزمان.

_ (2) . أي ليس المراد التقليب المادي للأشياء العينية الذاتية.

سورة الفرقان

سورة الفرقان (25)

المبحث الأول أهداف سورة"الفرقان"

المبحث الأول أهداف سورة «الفرقان» «1» سورة الفرقان سورة مكية نزلت بعد سورة يس، ونزلت سورة يس بعد سورة الجن. وكان نزول سورة الجن عند رجوع النبي (ص) من الطائف، وكان قد ذهب إليها سنة عشر من بعثته، فيكون نزول سورة الفرقان في السنة العاشرة من البعثة، وتكون من السور التي نزلت بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء. وهي فترة تميزت بقسوة مشركي مكة وعنفهم ورغبتهم في القضاء على الدعوة بكل سبيل، ولذلك تبدو سورة الفرقان وكأنها إيناس لرسول الله (ص) ، وتسرية له وتطمين وهو يواجه مشركي قريش، وعنادهم وتعنّتهم معه، وجدالهم بالباطل، ووقوفهم في وجه الهدى، وصدّهم عنه. سورة تشد أزر الرسول تنوّعت جوانب هذه السورة وتعددت لكنها، في جملتها، كانت مؤازرة لرسول الله، تمنحه الثقة والاطمئنان، وتفضح شبهات المشركين، وتدافع عن الدعوة والداعية بالعديد من السبل. فهي، في لمحة منها، تصور الإيناس اللطيف الذي يحيط به الله عبده ورسوله، وكأنّما يمسح على آلامه ومتاعبه مسحا رفيقا، ويفيض عليه بالرعاية واللطف والمودة.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

وهي، في لمحة، تصوّر المعركة العنيفة مع البشرية الضالّة الجاحدة، المشاقّة لله ورسوله، وتجادل في عنف، وتتعنت في عناد، وتجنح عن الهدى الواضح المبين. إنها البشرية الضالّة التي تقول عن هذا القرآن العظيم، كما ورد في التنزيل: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الآية 4] . أو تقول: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) . والتي تقول عن محمد رسول الله: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) . أو تقول باستهزاء: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) . وهذا التكذيب كان سمة الناس من عهد نوح (ص) إلى عهد محمد (ص) . لقد اعترض القوم على بشرية الرسول (ص) ، واعترضوا على حظه من المال، فقالوا، كما ورد في التنزيل: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [الآية 8] . واعترضوا على طريقة تنزيل القرآن، فقالوا، كما ورد في التنزيل: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الآية 32] . وذلك فوق التكذيب والاستهزاء، والافتراء والإيذاء. وعند ما يئس النبي (ص) من أهل مكة توجه إلى الطائف وفيها قبائل ثقيف، وفيها نعمة وغنى وزراعة وأعناب حتى كان العرب يعتقدون أن طائفة من الجن نقلتها من اليمن السعيد إلى جنوب الحجاز. ولمّا ذهب إلى الطائف، دعا أهلها للإسلام فردوه أسوأ رد، وأغروا به السفهاء والعبيد يرجمونه بالحجارة، حتى دميت قدماه الشريفتان وأغمي عليه، فلما أفاق مد يده لله داعيا متضرعا يقول: «اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا ربّ العالمين أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو بعيد ملّكته أمري؟ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات

وصلح عليه أمر الدنيا والاخرة أن ينزل بي سخطك، أو يحلّ عليّ غضبك، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، عافيتك هي أوسع لي، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» . وقد نزلت سورة الفرقان في أعقاب رحلة الطائف، فكانت حنانا ورحمة من الله لنبيه، تمسح آلامه وتسرّي عنه، وتهوّن عليه مشقة ما يلقى من عنت القوم، وسوء أدبهم وتطاولهم على من اختاره الله سبحانه، ليحمل رسالة الله إلى الناس وتعزّيه عن استهزائهم بتصوير المستوي الهابط الذي يتمرغون فيه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) . ويتكفل القرآن بالعون والمساعدة في معركة الجدل والمحاجّة: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) . ثم تعرض السورة أهوال القيامة ومشاهد المجرمين تهديدا ووعيدا: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) . وتصف ندم هؤلاء الكفار يوم القيامة فتقول: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28) . ثم تقدّم السورة مسيرة الأنبياء وجهادهم وبلاءهم، تسلية للرسول الأمين، ثم تحثّه على الصبر والمصابرة، وعلى جهاد الكفار بالحجة والبرهان: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) . وهكذا تمضي السورة: في جانب منها إيناس وتسرية وعطف وإيواء من الله لرسوله، وفي جانب آخر مشاقّة وعنت من المشركين لرسول الله وتقدّم السورة جوانب القدرة الإلهية، وتصف عجائب صنع الله في مد الظلّ، وتسخير الشمس، وخلق الليل والنهار، والظلام والنور، وإنزال المطر وإنبات النبات، وخلق الإنسان والكواكب

موضوعات السورة

والبروج والأفلاك، وتتوعد المشركين بالعذاب والعقاب. فإذا اقتربت السورة من نهايتها، وصفت عباد الرحمن بالتواضع، وقيام الليل، والاقتصاد في النفقة، والاحتراز من الشرك والزّنى، وقتل النفس وتذكر فضل التوبة ومنزلة التائبين عند الله، وتختم السورة بتصوير هوان البشرية على الله لولا تلك القلوب المؤمنة التي تلتجئ إليه وتدعوه: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) . موضوعات السورة رغم أن الخط الأساسي لسورة الفرقان هو العناية بالرسول (ص) ، ومسح آلام الحزن عنه، وتثبيت قلبه، إلا انه يمكن أن نقسم هذه السورة إلى أربع فقرات أو أربعة موضوعات متمايزة: الموضوع الأول: بدأ الموضوع الأول من سورة الفرقان بتسبيح الله سبحانه وحمده على تنزيل هذا القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا، وبتوحيد الله المالك لما في السماوات والأرض، المدبّر للكون بحكمة وتقدير، ونفي الولد والشريك. ثم شرع في ذكر ما أورده الكفار من شبه، فذكر شبهتهم الأولى: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الآية 4] . وردّ عليهم بأن ادّعاءهم ظلم وزور، لأنه تحداهم به فلم يمكنهم أن يأتوا بمثله. ثم ذكر شبهتهم الثانية وهي زعمهم أن القرآن أساطير الأولين اكتتبها. ورد عليهم بأن الذي أنزله هو خالق الإنسان، وهو العليم بأسراره وما يناسبه. ثم ذكر اعتراضهم على بشرية الرسول (ص) ، وحاجته للطعام والمشي في الأسواق، واقتراحهم أن ينزّل عليه ملك، أو يلقى اليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها. ورد عليهم بأن الله لو شاء لجعل لنبيه في الاخرة جنّات وقصورا، خيرا مما ذكروه من نعم الدنيا. وكان الرسل جميعهم قبل محمد (ص) يأكلون الطعام ويمشون

الموضوع الثاني:

في الأسواق، لأنهم بشر وذلك شأن البشر. ويستغرق الموضوع الأول من أول السورة إلى الآية 20 منها. الموضوع الثاني: بدأ الموضوع الثاني بذكر تطاول المشركين، وزعمهم بذكر تطاول المشركين، وزعمهم أنه كان يجب أن ينزل عليهم ملائكة تؤيد محمدا (ص) في دعواه، أو يروا ربّهم. ثم عاجلهم بمشهد اليوم الذي يرون فيه الملائكة لا تحمل البشرى، وإنما تحمل الإنذار والوعيد. وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) . ليكون في ذلك تسلية للرسول (ص) ، وهم يهجرون القرآن وهو يشكو لربه هذا الهجران. ثم ذكر اعتراضهم على عدم نزول القرآن جملة واحدة، وردّ عليهم بأنه نزل مفرّقا لتثبيت قلب الرسول وللإجابة عن استفهام المستفهمين، وتوضيح الحق أمام السائلين. ثم ذكر أنهم في الاخرة يمشون مقلوبين، وجوههم إلى تحت، وأرجلهم إلى فوق، فيضلّون في أخراهم كما ضلّوا في دنياهم. ثم شرع في تأييد ذلك بتصوير عاقبة المكذّبين من قبلهم من قوم موسى وقوم نوح، وعاد وثمود، وأصحاب الرّسّ والقرون الكثيرة بين ذلك، ويعجب من أمرهم وهم يمرّون على قرية لوط المدمّرة، ولا يعتبرون. فيهوّن، بذلك كله، من وقع تطاولهم على الرسول (ص) ، وقولهم كما ذكر القرآن الكريم حكاية على لسانهم: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) . ثم عقّب على هذا الاستهزاء بتحقيرهم ووضعهم في صف الأنعام بل دون ذلك: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) . ويستغرق هذا الموضوع الآيات [21- 44] . الموضوع الثالث: يبدأ الموضوع الثالث بعرض مظاهر القدرة الإلهية في نظام هذا الكون وإبداع صنعته ودقّة ناموسه، فيعرض مشهد الظل، ويستطرد إلى تعاقب الليل والنهار، والرياح المبشّرة بالماء المحيي، وخلقه البشر من الماء، ومع

الموضوع الرابع:

هذا فهم يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم، ويتظاهرون على ربهم وخالقهم، فينصرون الشيطان على ربهم الذي يريد أن يربّيهم ويهديهم، ويتطاولون في قحة إذا دعوا إلى عبادة الرحمن، وقد جعل الله الليل والنهار خلفة يخلف أحدهما الاخر، ويتعاقبان ليرى الإنسان الصباح المشرق والليل المظلم، فيتذكّر عظمة الله ويشكره، لكنهم لا يتذكّرون ولا يشكرون. ويستغرق هذا الموضوع الآيات [45- 62] . الموضوع الرابع: يصف الموضوع الرابع عباد الرحمن الذين يسجدون له ويعبدونه ويسجل مقوّماتهم التي استحقوا بها هذه الصفة الرفيعة، ويفتح باب التوبة على مصراعيه لمن يريد الإقبال على الله، ويصوّر جزاء المؤمنين الصابرين على تكاليف الإيمان والعبادة: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) . ويستغرق هذا الموضوع الآيات [63- 77] فتختم السورة ببيان هوان البشرية على الله سبحانه لولا دعاء المؤمنين، وعبادة المتقين. وفي هذا الهوان تهوين لما يلقاه الرسول (ص) من عنت المشركين، فهو يتفق مع ظل السورة وجوّها، ويتفق مع موضوعها وأهدافها.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الفرقان"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفرقان» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الفرقان بعد سورة يس، ونزلت سورة يس بعد سورة الجن، وكان نزول سورة الجن في رجوع النبي (ص) من الطائف، وكان قد سافر إليها في السنة العاشرة من بعثته، فيكون نزول سورة الفرقان في السنة نفسها، وتكون من السّور التي نزلت بين الهجرة إلى الحبشة وبين الإسراء. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) . الغرض منها وترتيبها ترمي هذه السورة إلى بيان الغرض من نزول القرآن، وهو أن يكون نذيرا للعالمين، والكلام فيها على هذا الغرض ينقسم إلى قسمين: أوّلهما في دفع ما أوردوه عليه من شبه وتأييده بما وقع قبله من النّذر الأولى، وثانيهما في بيان عدم تأثّرهم بذلك لتكبّرهم وجهلهم. وقد ختمت السورة السابقة بتحذير المخالفين أن يصيبهم فتنة أو عذاب أليم، وهذا يناسب ما ابتدئت به هذه السورة من الإنذار والتحذير.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

تنزيل القرآن للإنذار الآيات [1 - 40]

تنزيل القرآن للإنذار الآيات [1- 40] قال الله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) ، فذكر أنه نزّل القرآن ليكون نذيرا للناس كافة، ووصف نفسه بأربعة أنواع من صفات الكبرياء، ليدل على قدرته على تحقيق إنذاره، فذكر ملكه للسماوات والأرض، وتنزّهه عن الولد والشريك، وخلقه كلّ شيء وتقديره له. ثم شرع في ذكر ما أوردوه على ذلك من شبه، فذكر شبهتهم الأولى وهي قولهم كما ورد في التنزيل: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الآية 4] ، وردّ عليه بأنه ظلم وزور، لأنه تحدّاهم به فلم يمكنهم أن يأتوا بمثله، ولو كان من عنده لأمكنهم أن يأتوا به. ثم ذكر شبهتهم الثانية وهي زعمهم بأنّه أساطير الأولين اكتتبها. ورد عليها بأن الذي أنزله هو الذي يعلم السر في السماوات والأرض، ومثله ينزل الحقائق لا الأساطير. ثم ذكر شبهتهم الثالثة وهي زعمهم بأن من يرسل للإنذار لا يكون بشرا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وأنه كان يجب أن ينزل إليه ملك ينذر معه، أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها ودعواه الرسالة، من غير ذلك، تدلّ على أنه رجل مسحور لا يصحّ اتّباعه، وردّ سبحانه، على هذا بأنه إن شاء جعل له في الاخرة جنّات وقصورا خيرا مما ذكروه من نعم الدنيا، ولكنهم يكذّبون بالساعة فلا يرجون ثوابا ولا عقابا ثم ذكر ما أعد لهم فيها من العذاب، وما وعد المتقين فيها من نعيم وثواب، وما يكون من تبرّؤ آلهتهم منهم فيها، وعاد السياق بعد هذا إلى الرد على هذه الشبهة بأن الله سبحانه، لم يرسل قبل هذا إلا رسلا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. ثم ذكر شبهتهم الرابعة وهي زعمهم أنه كان يجب أن ينزل عليهم ملائكة تشهد بصدقه فيما ينذر به، أو يروا ربّهم فيخبرهم بأنه أرسله لإنذارهم. ورد على هذا بأنه تعنّت ظاهر وعتوّ كبير، وبأن ما طلبوه من ذلك سيرونه يوم القيامة، ولكنهم يلقون منه ما يكرهون، ويلقى المؤمنون فيه ما يحبّون ثم ذكر ما يكون من ندمهم على كفرهم، ومن تمنّيهم أن لو كانوا اتّخذوا مع الرسول سبيلا، ولم يسمعوا

عماية الكفار عن الإنذار الآيات [41 - 77]

لمن أضلّهم من خلّانهم، وذكر ما يكون من شكوى الرسول مما كان من طعنهم في القرآن، بأنه سحر وشعر وكذب وهذيان، ومن إجابته له بأن شأنهم في ذلك كشأن المجرمين قبلهم مع رسلهم. ثم ذكر شبهتهم الخامسة وهي قولهم كما ورد في التنزيل لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الآية 32] . وردّ على هذا بأنه نزّله مفرّقا ليثبّت به فؤاده، ويرتله على تؤدة وتمهّل. ثم عقّب على ذلك كله بأنهم لا يأتونه بمثل من جنس تلك الشبهات، إلا أتاهم بالحق الذي يدفعها ويبين وجه فسادها، وذكر أنهم في الاخرة يمشون مقلوبين وجوههم إلى تحت، وأرجلهم إلى فوق، فيضلّون في آخرتهم كما ضلّوا في دنياهم. ثم شرع في تأييد ذلك بما حصل من النذر قبله، فذكر أنه آتى موسى التوراة وجعل معه أخاه هارون وزيرا له، وأنه أمرهما أن يذهبا إلى القوم الذين كذّبوا بآياته فدمرهم تدميرا، ثم ذكر أنه أغرق قوم نوح لمّا كذّبوا رسله وأعدّ لهم عذابا أليما، إلى أن ذكر ما حصل لقرية سدوم التي يمرّون عليها في متاجرهم إلى الشام، وهي من قرى قوم لوط وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) . عماية الكفار عن الإنذار الآيات [41- 77] ثم قال تعالى: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) ، فذكر أنهم قابلوا ما أنذرهم به، وما ذكره في رد شبهاتهم بالسفاهة والاستهزاء بالنبي (ص) ، لأنهم عجزوا عن رد ما ذكره في دفع شبههم. وقد بلغ من قوته أن اعترفوا بأنه كاد يضلّهم عن آلهتهم لولا أن صبروا عليها، ثم ذكر له أنهم اتخذوا هواهم إلههم، وأنهم لا يسمعون ولا يعقلون، ومن كان هذا شأنه لا يؤثّر دليل فيه. ثم ذكر له أن يرى كيف مدّ الظّلّ ولو شاء لجعله ساكنا، إلى غير هذا مما لا تخفى دلالته على من يسمع ويعقل، ليثبت له أنهم ليس لهم سمع ولا عقل. ثم ذكر أنه صرّف هذه الدلائل بينهم ليذّكّروا ولكنهم ينفرون من سماعها، وأنه لو شاء لبعث بها نذيرا في كل قرية، ولكنه اختاره وحده

لذلك، فيجب أن يقابل هذا بالاجتهاد في الدعوة، ليقوم بأعبائها وحده ثم عاد إلى تلك الدلائل فذكر أنه هو الذي أجرى البحرين في مجاريهما بحيث يلتقيان، وأنه فصل بينهما بقدرته فبقي هذا عذبا وذلك ملحا، إلى غير هذا مما ذكره من دلائل عظمته وقدرته. ثم أشار إلى أنهم لا يتأثّرون أيضا بهذه الأدلة الظاهرة على توحيده، فيعبدون من دونه ما لا ينفعهم ولا يضرّهم، ثم ذكر أنه لا شيء عليه من إعراضهم عنها، لأنه لم يرسله إلا مبشّرا ونذيرا، ولا يسألهم على ذلك من أجر، إلا من شاء أن يتقرّب بالإنفاق إلى ربه، ثم أمره أن يتوكل عليه في مجاهدتهم ودعوتهم، وذكر ما ذكر من عظمته وقدرته ليدل على أن من توكل عليه يكفيه عن غيره. ثم ذكر أنهم مع عبادتهم ما لا ينفعهم ولا يضرّهم، إذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن، قالوا وما الرحمن، عتوّا وتكبّرا، واستعظموا أن يسجدوا لما يأمرهم مثله بالسجود له، ثم ذكر سبحانه، من أدلة عظمته وقدرته، أنه جعل في السماء بروجا وهي منازل السيارات، إلى غير هذا مما لا يصح معه أن يتكبّروا عن السجود له، ثم ذكر أن للرحمن عبادا غيرهم لا يتكبّرون مثلهم، بل يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، إلى غير هذا من صفاتهم. ثمّ ختمت السورة بتحقير المتكبّرين وتهديدهم على تكذبيهم، فقال تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الفرقان"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفرقان» «1» ظهر لي بفضل الله تعالى، أن نسبة هذه السورة الى سورة النور، كنسبة سورة الأنعام إلى «المائدة» . من حيث أن «النور» قد ختمت بقوله سبحانه: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 64] ، كما ختمت «المائدة» بقوله جلّ وعلا: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ [الآية 120] . وكانت جملة «النور» أوجز من جملة «المائدة» ، ثم فصّلت هذه الجملة في سورة الفرقان، فافتتحت بقوله تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 2] ، إلى قوله سبحانه من الآية نفسها: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) . كما افتتحت «الأنعام» بمثل ذلك «2» . وكان قوله تعالى عقبه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [الآية 3] إلى آخره، نظير قوله هناك: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) [الأنعام] . ثم ذكر في هذه السورة جملة من المخلوقات، كمدّ الظل، والليل، والنوم، والنهار، والرياح، والماء، والأنعام، والأناسي، ومرج البحرين، والإنسان، والنسب، والصّهر، وخلق السماوات والأرض في ستة أيام، والاستواء على العرش، وبروج السماء، والسّراج، والقمر، إلى غير ذلك، مما هو تفصيل لجملة: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «3» . كما فصّل

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . افتتاح الأنعام قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ. (3) . جميع هذه المعاني جاءت في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ الى قوله جلّ وعلا: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) .

آخر «المائدة» في «الأنعام» بمثل ذلك «1» . وكان البسط في «الأنعام» أكثر لطولها. ثم أشار في هذه السورة إلى القرون المكذّبة وإهلاكهم، كما أشار في «الأنعام» إلى ذلك «2» . ثم أفصح عن هذه الإشارة في السورة التي تليها وهي «الشعراء» بالبسط التام، والتفصيل البالغ «3» . كما أوضح تلك الإشارة التي في «الأنعام» ، وفصّلها في سورة الأعراف التي تليها «4» . فكانت هاتان السورتان، الفرقان والشعراء، في المثاني، نظير تينك السورتين، الأنعام والأعراف، في الطوال، واتصالهما باخر النور، نظير اتصال تلك باخر المائدة، المشتملة على فصل القضاء «5» . ثم ظهر لي لطيفة أخرى، وهي: أنه إذا وقعت سورة مكية بعد سورة مدنية، افتتح أولها بالثناء على الله، ك «الأنعام» بعد «المائدة» ، و «الإسراء» بعد «النحل» ، وهذه بعد «النور» ، و «سبأ» بعد «الأحزاب» ، و «الحديد» بعد «الواقعة» ، و «تبارك» بعد «التحريم» «6» ، لما في ذلك من الإشارة إلى نوع من الاستقلال، وإلى الانتقال من نوع إلى نوع.

_ (1) . هذا التفصيل جاء في الأنعام مفرقا في الآيات: 13، 18، 59، 60، 61، 65، 73، 95، 96، 97، 98، 99. (2) . تفصيل أحوال القرون المكذبة وإهلاكهم في «الفرقان» في قوله تعالى: فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا [الآية 36] الى وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً (29) . وفي الأنعام في قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) . (3) . جاء ذلك في الآيات 64- 189 حيث جاء عن قوم كل رسول تكذيبهم إياه، ووسيلة إهلاكهم. [.....] (4) . تفصيل أحوال القرون المكذبة، جاء في «الأعراف» من قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً [الآية 59] الى فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) . (5) . آخر المائدة لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) وهو يشتمل على فضل القضاء ضمنا. وأول الانعام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الآية الأولى] . (6) . قول المؤلف: و «الإسراء» بعد «النحل» ، لا يتفق مع قاعدته، فكلاهما مكّيّ، وقوله: و «الحديد» بعد «الواقعة» ، عكس قاعدته، فالواقعة مكية، والحديد مدنية، وهناك سور مكية جاءت بعد المدنية وافتتحت بالثناء على القرآن، ك «يونس» بعد «التوبة» ، و «إبراهيم» بعد «الرعد» ، و «النحل» بعد «الشعراء» ، و «ق» بعد «الرحمن» ، والثناء على القرآن ثناء على الله ضمنا. وهناك مكيات بعد مدنيات لم تفتح بالثناء على الله، كالواقعة بعد الرحمن.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الفرقان"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الفرقان» «1» 1- وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الآية 4] . عنوا: يهود فيما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد. وقيل: جبرا مولى الحضرمي. حكاه السّهيلي. 2- وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28) . أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس، وسعيد بن المسيّب ومجاهد، وقتادة، والسّدّي، وغيرهم أن المراد بالظالم: عقبة بن أبي معيط وبفلان: أمية بن خلف «2» . وقال عمرو بن ميمون «3» : أبيّ بن خلف. 3- الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [الآية 40] . أخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: هي قرية لوط «4» . وعن الحسن قال: هي بين الشام والمدينة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . انظر «تفسير الطبري» 19: 6. (3) . عمرو بن ميمون الأودي أبو عبد الله، مخضرم مشهور، وثقة عابد، نزل الكوفة، ومات سنة أربع وسبعين. (4) . انظر «تفسير الطبري» 19: 11.

4- وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ [الآية 53] . قال الحسن: بحر فارس والروم. وقال سعيد بن المسيب: بحر السماء، وبحر الأرض. أخرجها ابن أبي حاتم. 5- وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً [الآية 55] . قال الشّعبي: هو أبو جهل. أخرجه ابن أبي حاتم.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الفرقان"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفرقان» «1» 1- وقال تعالى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) . وقوله تعالى: اكْتَتَبَها، أي: كتبها لنفسه وأخذها كما تقول: استكب الماء واصطبّه، إذا سكبه وصبّه لنفسه. أقول: والاكتتاب في عصرنا شيء آخر، يقال: اكتتبوا في بناء مدرسة، أي: جمعوا الأموال تبرّعا وكتبوها مخصصة لبناء المدرسة. 2- وقال تعالى: وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) . البور: الهلاك يوصف به الواحد والجمع، ويجوز أن يكون جمع بائر كعائذ وعوذ، وحائل وحول، وهو مصدر كالبور بالفتح والبوار أيضا. 3- وقال تعالى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (33) . أقول: وقوله تعالى: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، أي: بيّناه وحقّقناه، وأرسلنا بعضه إثر بعض. وقالوا: الترتيل: هو الترسّل والتأنّي في القراءة، وإعطاء الأصوات حقها من البيان والصناعة. ومن حديث عائشة رضي الله عنها في صفة قراءته (ص) «لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه يعدّها» . 4- وقال تعالى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [الآية 40] . مما تجب ملاحظته أن مادة «مطر» ،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

قد استعملت في آي القرآن فعلا فريدا «أمطر» في سبع آيات، كما استعملت اسما في ثماني آيات، وفي هذه الآيات جميعها كان «المطر» شرّا وعذابا وحجارة من سجيل. فإذا أريد الرحمة والحياة، جاءت كلمة «الغيث» ، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى: 28] . 5- وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الآية 48] . قرئ: الريح والرياح. وقرئ: نشرا، أي: إحياء، ونشرا جمع نشور وهي المحيية. ونشرا تخفيف نشر. و «بشرا» تخفيف بشر جمع بشور وبشرى. وأرى أن «بشرى» تلائم بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، أي: أن الرياح قدام المطر الذي عبر عنه ب «الرحمة» . 6- وقال تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) . أقول ويحسن بنا أن نعود قليلا لنرى مسألة قوله تعالى: حِجْراً مَحْجُوراً، في الآية الكريمة لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) . ذكر سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها، نحو: معاذ الله، وقعدك الله، وعمرك الله. وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ موتور أو هجوم نازلة، أو نحو ذلك، يضعونها موضع الاستعاذة. قال سيبويه: أتفعل كذا وكذا، فيقول: حجرا، وهي من حجره إذا منعه، لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه، فكأن المعنى: أسأل الله أن يمنع ذلك منعا، ويحجره حجرا. وقوله تعالى: مَحْجُوراً صفة لتأكيد الحجر، أي: المنع. وأما في الآية: 53، فالمراد من قوله جلّ وعلا حِجْراً مَحْجُوراً، أي: أن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) . 7- وقال تعالى: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) .

الظهير: بمعنى المظاهر، وهو من باب فعيل بمعنى مفاعل، كالعوين والمعاون، ويجوز أن يراد ب «ظهيرا» الجماعة، كقوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) [التحريم] . 8- وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) . قوله تعالى: ساءَتْ فعل بمعنى أصبحت سيئة. وقالوا: إنها في حكم «بئست» ، وفيها ضمير مبهم يفسره مُسْتَقَرًّا والمخصوص بالذم محذوف. أقول: أرادوا أن يلحقوا هذا الفعل بما أسموه أفعال المدح والذم، فيكون إعرابها ما يقتضيه إعراب تلك الأفعال. وأرى أنّ الفعل «ساء» ليس، مثل «نعم» و «بئس» ، وإن كان معناه الذم. وقوله تعالى: ساءَتْ مُسْتَقَرًّا، أي ساءت جهنّم مستقرّا، كقولك: حسن البيت مقاما، وذمّ السرداب سكنا، فهل نحمل هذين الفعلين على أفعال المدح والذم؟ والفاعل في الآية ساءَتْ مُسْتَقَرًّا يعود على «جهنّم» في الآية السابقة.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الفرقان"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفرقان» «1» قال تعالى: قَوْماً بُوراً [الآية 18] أي جماعة «البائر» مثل «اليهود» وواحدهم «الهائد» وقال بعضهم: «هي لغة على غير واحد، كما يقال «أنت بشر» و «أنتم بشر» . وقال تعالى: فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً [الآية 19] فحذف «عن الكفّار» وقد يكون ذلك عن الملائكة، والدليل على وجه مخاطبة الكفار، أنه جلّ وعلا قال: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ [الآية 19] وقال بعضهم «يعني الملائكة» . وقال تعالى: الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [الآية 40] يقال «مطرنا» و «أمطرنا» . وقال سبحانه: إِلَّا مَنْ شاءَ [الآية 57] استثناء خارج من الكلام بمعنى «لكن» . وقال تعالى: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الآية 62] أي: «يختلفان» . وقال سبحانه وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ [الآية 63] . فهذا ليس له خبر «2» إلّا في المعنى، والله أعلم. وقال تعالى: لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) ف «الإمام» هاهنا جماعة «3» كما في فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء: 77] ويكون على الحكاية كما يقول الرجل إذا قيل له: «من أميركم» : «هؤلاء أميرنا» وقال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في إعراب القرآن 2: 744 والمشكل 2: 524 والجامع 13: 68. (3) . نقله في المحتسب 2: 317 والجامع 13: 83.

الخامس والخمسون بعد المائتين] : يا عاذلاتي لا تردن ملامتي ... إنّ العواذل ليس لي بأمير «1» وقال تعالى: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ [الآية 77] لأنّها من «عبأت به» ف «أنا أعبأ به» «عبئا» . وقال تعالى: وَأَناسِيَّ كَثِيراً [الآية 49] مثقّلة لأنها جماعة «الإنسيّ» .

_ (1) . البيت في الخصائص 3: 174 ب «لسن» بدل «ليس» ، وهو كذلك في الصحاح «ظهر» وعجزه كذلك في مختار الصحاح «ظهر» ، والبيت كذلك في مغني اللبيب 1: 211 والبيت بعد، في شرح شواهد المغني.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الفرقان"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفرقان» «1» إن قيل: الخلق هو التقدير ومنه قوله تعالى وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ [المائدة: 110] أي تقدّر، فما معنى قوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) فكأنه تعالى قال: «وقدّر كل شيء فقدره تقديرا» ؟ قلنا: الخلق من الله تعالى بمعنى الإيجاد والإحداث، فمعناه: وأوجد كل شيء مقدّرا مسوّى مهيّأ لما يصلح له، لا زائدا على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ولا ناقصا عن ذلك. الثاني أن معناه: وقدّر له ما يقيمه ويصلحه أو قدّر رزقا وأجلا وأحوالا تجري عليه. فإن قيل: لم قال تعالى في وصف الجنّة: كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) ، وهي ما كانت بعد، وإنما تكون كذلك بعد الحشر والنشر؟ قلنا: إنما قال: «كانت» : لأن ما وعده الله تعالى، فهو في تحققه كأنه قد كان، أو معناه: كانت في علم الله مكتوبة في اللوح المحفوظ أنها جزاؤهم ومصيرهم. فإن قيل: ما الحكمة من تأخير الهوى، في قوله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الآية 43] والأصل اتّخذ الهوى إلها، كما تقول: «اتّخذ الصنم معبودا» ؟ قلنا: هو من باب تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية به، كما تقول علمت منطلقا زيدا لتظهر عنايتك بانطلاقه.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

فإن قيل: لم قال تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ [الآية 44] ؟ قلنا: قد مر مثل هذا السؤال وجوابه في قوله تعالى: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) [المؤمنون] . فإن قيل: لم شبّههم سبحانه وتعالى بالأنعام في الضلال، بقوله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ [الآية 44] مع أن الأنعام تعرف الله سبحانه وتعالى وتسبّحه بدليل قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء/ الآية 44] وقوله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 1] ؟ قلنا: المراد أولا تشبيههم بالأنعام في الضلال، عن فهم الحق ومعرفة الله تعالى، بواسطة دعوة الرسول (ص) . ثانيا: أن المراد تشبيههم، في الضلال والعمى عن أمر الدين، بالأنعام في ضلالها وعماها عن أمر الدين. فإن قيل: إن كانوا كالأنعام في الضلال، فلم قال تعالى: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) ؟ وإن كانوا أضلّ من الأنعام، فلم قال تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ؟ وإن كانوا كالأنعام في الضلال، وأضل منها أيضا، فكيف يجتمع الوصفان؟ قلنا: المراد بقوله تعالى في الموضع الأول: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ التشبيه في أصل الضلال لا مقداره. والثاني: بيان لمقداره. وقيل: المراد بالأول التشبيه في المقدار أيضا، ولكن المراد بالأول طائفة، وبالثاني طائفة أخرى، ووجه كونهم أضلّ من الأنعام، أنّ الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهّدها، وتعرف من يحسن إليها ممّن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرّها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم، من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتّقون العذاب الذي هو أشد المضارّ والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهنيّ والعذاب الروي «1» . فإن قيل: في قوله تعالى وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً

_ (1) . انظر الكشاف ج 2 ص 410. [.....]

لم ذكّرت الصفة والموصوف مؤنث، ولم تؤنث الصفة كما أنّثت في قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ [يس: 33] ؟ قلنا: إنما التذكير نظرا إلى معنى البلدة، وهو البلد والمكان لا إلى اللفظ. فإن قيل: قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) فإنزاله موصوفا بالطهورية، وتعليل ذلك بالإحياء والسقي، يشعر بأن الطهورية شرط في حصول تلك المصلحة، كما تقول: حملني الأمير على فرس سابق، لأصيد عليه الوحش، وليس كذلك. قلنا: وصف الطهورية ذكر إكراما للأناسيّ الذين شربهم من جملة المصالح التي أنزل لها الماء، وإتماما للمنّة والنعمة عليهم، لا لكونه شرطا في تحقيق تلك المصالح والمنافع، بخلاف النظير فإنه قصد بكونه سابقا الشرطية لأن صيد الوحش على الفرس لا يكون إلّا بها. فإن قيل: لم خصّ تعالى الأنعام بذكر السقي دون غيرها من الحيوان الصامت؟ قلنا: أولا لأن الوحش والطير تبعد في طلب الماء ولا يعوزها الشرب، بخلاف الأنعام. ثانيا: أن الأنعام قنية الأناسيّ وعامة منافعهم متعلّقة بها. فإن قيل: لم قدّم تعالى إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي؟ قلنا: أولا لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وأنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم. ثانيا: أن سقي الأرض بماء المطر سابق في الوجود على سقي الأناسي به. فإن قيل: ما وجه الاستثناء في قوله تعالى: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) ؟ قلنا: هو استثناء منقطع تقديره: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا، فأنا أدله على ذلك وأهديه إليه. وقيل تقديره: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا، بإنفاق ماله في مرضاته تعالى، فليفعل ذلك. فإن قيل: لم قال تعالى هنا: قُلْ ما

أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي أجرا، لأن «من» لتأكيد النفي وعمومه. وقال في آية أخرى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] فأثبت سؤال الأجر عليه؟ قلنا: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سبأ: 47] رواه مقاتل والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما. والصحيح الذي عليه المحققون أنها غير منسوخة، بل هو استثناء من غير الجنس، تقديره: لكن أذكركم المودة في القربى. فإن قيل: لم قال تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) ولم يقل أئمة؟ قلنا: مراعاة لفواصل الآيات، وقيل تقديره: واجعل كل واحد منا إماما. فإن قيل: لم قال تعالى: وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) وهما بمعنى واحد، ويؤيده قوله تعالى تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وقوله (ص) «تحيّة أهل الجنة في الجنة سلام» . قلنا: قال مقاتل: المراد بالتحية سلام بعضهم على بعض، أو سلام الملائكة عليهم، والمراد بالسلام أن الله تعالى سلّمهم ممّا يخافون وسلّم إليهم أمرهم. وقيل: التحية من الملائكة أو من أهل الجنة، والسلام من الله تعالى عليهم، لقوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) [يس] . وقيل التحية من الله تعالى لهم بالهدايا والتحف والسلام بالقول. وقيل: التحية الدعاء بالتعمير، والسلام الدعاء بالسلامة، فمعناه أنهم يلقون ذلك من الملائكة أو بعضهم من بعض، أو يلقون ذلك من الله تعالى، فيعطون البقاء والخلود مع السلامة من كل آفة.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الفرقان"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفرقان» «1» في قوله تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) استعارتان. إحداهما قوله سبحانه: إِذا رَأَتْهُمْ وهو في صفة نار جهنّم، نعوذ بالله منها، ولا تصحّ صفة الرّؤية عليها. وإنما المراد، والله أعلم، إذا كانت منهم بمقدار مسافة لو كان بها من يوصف بالرؤية لرءاهم. وهذا من لطائف التأويل، وغرائب التفسير. وقد يجوز أيضا أن يكون معنى ذلك: إذا قربت منهم، وظهرت لهم. من قولهم: دور بني فلان تتراءى. أي تتقارب. وفي الحديث: (لا تتراءى ناراهما) «2» أي لا تتدانى. والاستعارة الأخرى قوله سبحانه:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . الحديث بأكمله في «صحيح أبي داود» الجزء الأول، باب على ما يقاتل المشركون، كتاب الجهاد، ص 261، ونصه: «حدثنا هناد بن السرى ثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله. قال: بعث رسول الله (ص) سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل قال: فبلغ ذلك النبي (ص) ، فأمر لهم بنصف العقل، وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا يا رسول الله لم؟ قال: لا تتراءى ناراهما» وفي سنن النسائي ج 2 ص 245، جاء هذا الحديث في باب القود بغير حديدة، كتاب القسامة. وقد أورد المؤلف هذا الحديث في كتابه «المجازات النبوية» ، وتحدث عما فيه من مجاز حديثا رائعا. صفحة 200 من المجازات النبوية، طبعة القاهرة سنة 1356 سنة 1937، وجاء هذا الحديث في «لسان العرب» وفسره صاحب اللسان ثم قال: وقال أبو عبيد: معنى الحديث أن المسلم لا يحل له أن يسكن بلاد المشركين، فيكون معهم بقدر ما يرى كل واحد منهم نار صاحبه.

سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وهاتان الصفات من صفات الحيوان، ويختص التغيظ بالإنسان، لأن الغيظ من أعلى منازل الغضب، والغضب لا يوصف بحقيقته إلا الناس. والزفير قد يشترك الإنسان وغير الإنسان في الصفة به. وإنما المراد بهاتين الصفتين المبالغة في وصف النار بالاهتياج والاضطرام، على عادة المغيظ والغضبان. وفي قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) استعارة، لأن صفة القدوم لا تصح إلّا على من تجوز عليه الغيبة، فتجوز منه الأوبة. والله سبحانه شاهد غير غائب، وقائم غير زائل. فالمعنى: وقصدنا إلى ما عملوا، أو عمدنا إلى ما عملوا. وذلك كقول القائل: قام فلان بفلان في الناس، إذا أظهر ذمّه وعيبه، وليس يريد أنه نهض عن قعود، وتحفّز بعد استقرار وسكون، وإنما يريد أنه قصد إلى سبّه، وتظاهر بثلبه. وقال الشاعر «1» : فإنّ أباكم تارك ما سألتم فمهما أتيتم فاقدموه على علم يقال: قدمت هذا الأمر، وأنا أقدمه: إذا أتيته وقصدته. وقد ذكر بعض العلماء في ذلك وجها آخر. قال: إنما قال سبحانه: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ: لأنه عاملهم معاملة القادم من غيبة. أو كان، بطول إمهاله لهم، كالغائب عنهم ثم قدم، فرآهم على خلاف ما أمرهم به، واستعملهم فيه، فأحبط أعمالهم الفاسدة، وعاقبهم عقاب العاند عن الطاعة، المرتكس في الضّلالة. والمعتمد القول الأول. وفي قوله تعالى: فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) مجاز آخر. وذلك أنه لم يجعل عملهم على الحقيقة هباء منثورا، وهو الغبار الدقيق هاهنا. ومنه الهابي. وإنما أراد سبحانه أنه أبطل ذلك العلم فعفا رسمه، وسقط حكمه، وبطل بطلان الغبار الممحق، والغثاء المتفرق. وفي قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) استعارة. لأن المقيل من صفات المواضع التي ينام فيها، ولا نوم في

_ (1) . لم نعثر على اسم صاحب هذا البيت.

الجنة. وتقدير الكلام: وأحسن موضع للقائلة. فكأن ذلك المكان من وثارة مهاده، وبرد أفيائه، يصلح أن ينام فيه لو كان ذلك جائزا. وهذا كقوله سبحانه في ذكر أصحاب الجنة: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) [مريم] أي مثل أوقات البكرة والعشيّ المعهودين في حال الدنيا. لأن الجنة لا يوصف زمانها بالأيام والليالي، لأن ذلك من صفات الزمان الذي تتعاقب عليه الشمس طالعة وغاربة، فيسمّى نهارا بطلوعها، ويسمّى ليلا بقبوعها «1» . وفي قوله سبحانه: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) استعارة. والمراد بها، والله أعلم، على أحد القولين، صفة السماء في ذلك اليوم بتعاظم الغمام فيها، وانتشاره في نواحيها. كما يقول القائل: قد تشققت الغمائم بالبرق، وتشققت السّحائب بالرعد، إذا كثر ذلك فيها، ليس أن هناك تشققا على الحقيقة، في قول أهل الشرع. وقيل أيضا: إن المراد بذلك انتقاض بنية السماء وتغيّرها إلى غير ما هي عليه الآن، كما تظهر في البناء آثار التداعي، وأعلام التهافت، من تثلّم أطراف، وتفطّر أقطار، فيكون ذلك مؤذنا بانقضاضه، ومنذرا بانتقاضه. وقال سبحانه: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [ابراهيم: 48] . وقال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ «2» [الأنبياء: 104] . ويكون انتقاض بنية السماء عن ظهور الغمام الذي آذننا سبحانه بمجيئه يوم القيامة، إذ يقول عزّ من قائل: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) [البقرة] . ومعنى تشقّق السماء بالغمام: أي عن الغمام، كما يقول القائل: رميت بالقوس، وعن القوس، بمعنى واحد. وفي قوله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) استعارة على أحد التأويلين: وهو أن يكون في الكلام تقديم وتأخير. فكأنه تعالى قال: أرأيت من اتّخذ هواه إلهه. معنى ذلك أنه جعل هواه آمرا يطيعه، وقائدا

_ (1) . القبوع: الاختفاء ومنه: قبع النجم أي ظهر ثم خفي. (2) . وقد سبق الحديث عن قراءة «للكتب» و «للكتب» بالمفرد والجمع، في سورة الأنبياء.

يتبعه، فكأنه قد عبده لفرط تعظيمه له. ومن أمثالهم: الهوى إله معبود، على المعنى الذي ذكرنا. وذكر أحمد بن يحيى البلاذري «1» في كتاب (الأشراف) أن هذه الآية نزلت في الحارث بن قيس بن عديّ السّهمي، وهو من عبدة الأوثان لأنه كان كلما رأى حجرا أحسن من الذي اقتناه لعبادته، أخذه واطّرح ما عبده. وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) . في الآية الأولى استعارتان، إحداهما قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ [الآية 45] ، أي ألم تر إلى فعل ربك، أو إلى حكمة ربك في مدّ الظل، فحذف هذه اللفظة لدلالة الكلام عليها، إذ كان الله سبحانه لا يدرك بالمشاعر، ولا يرى بالنواظر. وقد يجوز أن يكون معنى الرؤية هاهنا معنى العلم. فكأنه سبحانه قال: ألم تعلم حكمة ربّك في مدّ الظل؟ وإنما أقام سبحانه، الرؤية هاهنا مقام العلم، لتحقّق المخاطب الذي هو النبي (ص) وجهة الله تعالى في ذلك الفعل، فقامت معرفة قلبه مقام رؤية عينه، قطعا باليقين، وبعدا عن الظنون. والاستعارة الأخرى قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا وهي استعارة على القلب. لأن الظل في الشاهد يدل على الشمس، وذلك أن الظل لا يكون إلا وهناك شمس طالعة، فيوصف ما لم تطلع عليه لحاجز يحجز، أو مانع يمنع، بأنه ظل. وقد قيل: إن الظل ما كان بالغداة، والفيء ما كان بالعشيّ. وقيل: إن الظل ما نسخته الشمس، والفيء ما نسخ الشمس، فعلى هذا القول يجوز أن يكون معنى قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي دائما لا ترد الشمس عليه فتزيله وتذهب به، ثم جعلنا الشمس عليه دليلا. أي دللناها عليه، فهي تتحيّف من أقطاره، وتنتقص من أطرافه، حتى تستوفي أجمعه، وتكون

_ (1) . هو المؤرّخ الجغرافي النسابة: جالس الخليفة المتوكل العباسي، ومدح المأمون، ومات في أيام المعتمد، سنة 279 هـ. ومن كتبه «فتوح البلدان» وهو مصدر وثيق للفتوحات الإسلامية: وقد طبع في أوروبا والقاهرة. وكتاب «الأشراف» .

بدلا منه. فهذا معنى قوله تعالى: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) . ويجوز أن يكون معنى دلالة الشمس على الظل، أنه لولا الشمس لم يعرف الظل. ويجوز أن نقول: لولا الظل لم تعرف الشمس. وفي قوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) استعارتان. فإحداهما قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً. والمراد باللباس هاهنا، والله أعلم، تغطية ظلام الليل النّشوز والقيعان، وأشخاص الحيوان كما تغطّي الملابس الضّافية، وتستر الجنن الواقية. وهذه العبارة من أفصح العبارات عن هذا المعنى. ومعنى السّبات: قطع الأعمال، والرّاحة من الأشغال. والسّبت في كلامهم: القطع. والاستعارة الأخرى قوله تعالى: وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً. والنشور في الحقيقة: الحياة بعد الموت. وهو هاهنا مستعار الاسم لتصرّف الحي وانبساطه، تشبيها للنوم بالممات، واليقظة بالحياة. وذلك من أوقع التشبيه، وأحسن التمثيل. وفي قوله سبحانه: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [الآية 49] استعارة. وقد مضت الإشارة إلى نظيرها في سورة «الأعراف» . ووصف البلدة بالموت هاهنا محمول على أحد وجهين: إما أن تكون إنما شبّهت بالميت من فرط يبسها، لتسلّط المحل عليها، وتأخّر الغيث عنها. أو يكون فيها من النبات والشجر، لمّا مات لانقطاع الماء عنه، حسن أن توصف هي بالموت لموت بنيها، لأنها كالأم التي تكلفه، والظّئر التي ترضعه. وفي قوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [الآية 53] استعارة. والمراد بذلك، والله أعلم، أنه خلّاهما من مذاهبهما، وأرسلهما في مجاريهما، كما تمرج الخيل أي تخلّى في المروج مع مراعيها. فكان وجه الأعجوبة من ذلك، أنه سبحانه، مع التخلية بينهما في تقاطعهما، والتقائهما في مناقعهما، لا يختلط الملح بالعذب، ولا يلتبس العذب بالملح.

ولغة أهل تهامة «مرجه» ، ولغة أهل نجد «أمرجه» . وقال أبو عبيدة «1» : إذا تركت الشيء وخلّيته فقد مرجته. ومنه قولهم: مرج الأمير الناس: إذا خلّاهم بعضهم على بعض. والأمر المريج: المختلط الملتبس. وقوله سبحانه: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) ، وقد قرئ: سرجا، على الجمع. وهي قراءة حمزة والكسائي من السبعة. والباقون يقرءون: سراجا على التوحيد. فمن قرأ «سراجا» أراد النجوم، ومن قرأ «سراجا» أراد الشمس، ويقوّي ذلك قوله سبحانه في موضع آخر: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) [نوح] . ويقوّي قراءة من قرأ «سراجا» أن النجوم من شعائر الليل، والسّرج بأحوال الليل أشبه منها بأحوال النهار. وإنما شبهت النجوم بالسّرج لاهتداء الناس بها في الظّلماء، كما تهتدي بالمصابيح الموضوعة، والنيران المرفوعة. وفي قوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) استعارة، ومعنى خلفة، في بعض الأقوال، أي جعل الليل والنهار يتخالفان، فإذا أتى هذا ذهب هذا، وإذا أدبر هذا أقبل هذا. وقيل: خلفة، أي يخلف أحدهما الاخر، فيكون ذلك من الخلافة لا من المخالفة. وقيل: خلفة، أي أحدهما أسود، والاخر أبيض. وهو أيضا راجع إلى معنى المخالفة. وفي قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) استعارة. والمراد، والله أعلم، لا يصمّون عن قوارع النّذر، ولا يعشون عن مواقع العبر.

_ (1) . هو معمر بن المثنّى النحوي البصري، كان إماما في اللغة والأدب. وقال فيه الجاحظ: لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه. واشتهر بحفظ حديث رسول الله. وقد استقدمه الرشيد إلى بغداد سنة 188 هـ- وقرأ عليه أشياء من كتبه. وتوفي سنة 209 هـ.

سورة الشعراء

سورة الشعراء (26)

المبحث الأول أهداف سورة"الشعراء"

المبحث الأول أهداف سورة «الشعراء» «1» سورة الشعراء سورة مكية وآياتها 227، نزلت بعد سورة الواقعة، وسميت بهذا الاسم لذكر الشعراء فيها، في قوله تعالى. وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) . موضوع السورة موضوع سورة «الشعراء» هو موضوع السور المكية جميعا، وهو تثبيت العقيدة وتلخيص عناصرها الأساسية ويتوافق ذلك مع دعوة السورة إلى توحيد الله: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) . وبيان قدرة الله الفائقة ونعمه السابغة على لسان إبراهيم الخليل (ع) حين يقول، كما ورد في التنزيل: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) . وتتطرّق السورة إلى وعيد المكذّبين بعذاب الدنيا، أو بعذاب الاخرة. حيث تقول: فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) وتقول: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) . ذلك إلى تسلية الرسول (ص)

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

القصص في سورة الشعراء

وتعزيته عن تكذيب المشركين له وللقرآن: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) . وإلى طمأنينة قلوب المؤمنين وتصبيرهم على ما يلقون من عنت المشركين، وتثبيتهم على العقيدة مهما أوذوا في سبيلها من الظالمين، كما ثبّت من قبلهم من المؤمنين. القصص في سورة الشعراء القصص غالب على سورة الشعراء، يشغل معظم السورة: فمجموع آياتها 227 آية، منها 180 آية تحتوي على قصص هادف يمسّ شغاف القلوب، ويبين رعاية الله للأنبياء والمرسلين. ذكرت قصة موسى وفرعون في الآيات [10- 68] . وفيها سبعة مشاهد، أولها: مشهد النداء والبعثة والوحي والمناجاة بين موسى وربه وثانيها: مواجهة موسى لفرعون وملئه، وتأييد موسى بآيتي العصا واليد البيضاء وثالثها: مشهد التامر وجمع السّحرة وحشد الناس للمباراة الكبرى ورابعها: مشهد إيمان السّحرة وتهديد فرعون ووعيده وخامسها: مشهد إيحاء الله لموسى أن يسري بعباده ليلا وسادسها: مشهد إرسال فرعون في المدائن حاشرين يجمعون الجنود لملاحقة بني إسرائيل وسابعها مشهد المواجهة أمام البحر، ونهاية القصّة بانفلاق البحر وغرق الظالمين ونجاة المؤمنين. قصة ابراهيم تستغرق قصة إبراهيم الآيات: [69- 104] ، والحلقة التي تعرض هنا من قصة إبراهيم (ع) هي حلقة الرسالة إلى قومه، وحواره معهم حول العقيدة، وإنكار الالهة المدّعاة، والاتّجاه بالعبادة إلى الله، وبيان صفات الله وفضله وعظيم نعمائه، فهو الذي يخلق ويطعم ويسقي، ويشفي ويحيي ويميت، ويغفر الذنب ويحاسب الناس، ويكافئ المؤمنين ويعاقب الغاوين. وفي أعقاب قصة إبراهيم، مشهد كامل من مشاهد القيامة، يتنكّر فيه المشركون لآلهتهم، ويندمون على الشّرك الذي انتهى بهم إلى ما هم فيه، وكأنهم قد صاروا فعل في موقف الحساب والجزاء، وهنا عبرة القصة للمشركين.

قصة نوح

ومن ثمّ يتوسع السياق في الحديث عن مقومات عقيدة التوحيد، وفساد عقيدة الشرك، ومصير المشركين في يوم الدين، لأن التركيز متجه إليه، وتختصر السورة ما عدا ذلك مما يفصّل في سور أخرى. قصة نوح تستغرق قصة نوح (ع) الآيات [105- 122] ونلحظ أن القصص في سورة الشعراء لا يتّبع التسلسل التاريخي، فقد عرضت قصة موسى (ع) ، ثم قصة إبراهيم (ع) ، ثم قصة نوح (ع) . ولو أراد أن يتّبع التسلسل التاريخي لعرض قصة نوح أولا، ثم قصة إبراهيم، ثم قصة موسى. لكنه، أي القصص، في هذه السورة، كان يذكر الأحدث ثم يرجع في الزمن من قصة إبراهيم إلى قصة نوح. لأن الخط التاريخي ليس هو المقصود هنا، بل المقصود هو العبرة من نهاية الشرك والتكذيب. وقصة نوح، ومن قبلها قصة موسى وقصة إبراهيم، قد عرضت في سور شتى سابقة. لكن الجانب الذي يعرضه من القصة يأتي مناسبا لسياق السورة، وللعظة والعبرة المقصودة منها. وتعرض قصة نوح، غالبا في سلسلة من قصص عاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين. وأظهر ما في الحلقة المعروضة في سورة الشعراء هنا: دعوة نوح قومه إلى تقوى الله، وإعلانه أنه لا يطلب منهم أجرا على الهدى، وإباؤه أن يطرد المؤمنين الفقراء الذين يستنكف منهم الكبراء، وهذا ما كان يواجهه رسول الله (ص) في مكة سواء بسواء، ثم دعاؤه لربه أن يفتح بينه وبين قومه، واستجابة الله له بإغراق المكذّبين وإنجاء المؤمنين. قصة هود تستغرق قصة النبيّ هود (ع) الآيات [123- 140] وقبيلة عاد، وهم قوم هود، كانوا يسكنون الأحقاف وهي جبال رملية قرب حضرموت من ناحية اليمن. وقد جاءوا بعد قوم نوح، وكانوا ممن زاغت قلوبهم بعد فترة الطوفان، الذي طهّر الأرض من العصاة. واتخذت عاد المساكن المرتفعة،

قصة ثمود

والمصانع المشيدة، وبلغت شأوا بعيدا من الحضارة الصناعية، وزادتها القوة بطرا وقسوة، فكفرت بنعم الله وتطاولت وتجبّرت ونسيت الخالق الرزاق، وكذّبوا نبيّ الله هودا فأهلكهم الله ودمر مصانعهم ودورهم، وصبّ عليهم العذاب من فوقهم ومن تحتهم، وتركهم عبرة لكل طاغية: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (149) . قصة ثمود تستغرق قصة ثمود الآيات [141- 159] وقد دعاهم صالح (ع) إلى عبادة الله وذكرهم بما فيه من نعمة، وكانوا يسكنون بالحجر بين الشام والحجاز، وقد مر النبي (ص) بدورهم المدمرة مع صحابته في غزوة تبوك، فاستحث راحلته وحنى ظهره، وجلا وخشوعا لله، وقال للمسلمين: (لا تمروا على قرى القوم الذين ظلموا أنفسهم إلّا وأنتم مشفقون، خشية أن يصيبكم ما أصابهم) . لقد كانت ثمود في نعمة، فكفروا بنعمة الله عليهم، وذكّرهم صالح بقدرة الله، فطلبوا منه معجزة، فأعطاه الله الناقة على شرط أن يكون الماء الذي يستقون منه يوما للناقة ويوما لهم، وحذّرهم صالح أن ينالوا الناقة بسوء على الإطلاق، وإلّا أخذهم عذاب يوم عظيم. ولكنّهم استمروا في عنادهم وظلمهم، فنحروا الناقة، وكذّبوا صالحا، وأحسّوا الندم بعد فوات الأوان، فأخذهم عذاب الله العادل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) . قصة لوط تستغرق قصة لوط (ع) الآيات [160- 175] وقد كان قوم لوط يسكنون عدة قرى في وادي الأردن، واشتهر بينهم الشذوذ الجنسي بإتيان الذكور وترك النساء، وهو انحراف شنيع مناف للفطرة. فقد برأ الله الذكر والأنثى، وفطر كلّا منهما على الميل الى صاحبه، لتحقيق حكمته ومشيئته في امتداد الحياة، من طريق النسل الذي يتحقق باجتماع الذكر والأنثى، فكان هذا الميل طرفا من الناموس الكوني العام. ولكنّ قوم لوط خرجوا على الفطرة،

أصحاب الأيكة

واستباحوا الفاحشة، وهدّدوا لوطا بالطّرد والنفي، فخسف الله قراهم وغطّاها الماء، ومنها قرية سدوم، ويظن أنها ثاوية تحت البحر الميّت في الأردن. أصحاب الأيكة تستغرق قصة أصحاب الأيكة الآيات [176- 191] . والأيكة: الشجر الكثيف الملتف، وهم أهل مدين ونبيّهم شعيب (ع) . وكان شأنهم تطفيف الكيل والميزان. وقد أمرهم رسولهم بالعدل والقسط وحسن المعاملة، فكذّبوا نبيهم فأخذهم عذاب يوم عظيم في يوم حار خانق، يكتم الأنفاس ويثقل الصدور، ثم تراءت لهم سحابة فاستظلّوا بها، فوجدوا لها بردا، ثم إذا هي الصاعقة المجلجلة المدوية تفزعهم وتدمّرهم تدميرا، وكان ذلك يوم الظلّة، فالظّلّة كانت سمة اليوم المعلوم. فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) . في أعقاب القصص الآيات الأخيرة من سورة الشعراء تعقيب على قصص المرسلين فيها، وتأكيد على بعض أهداف الرسالة السماوية فقد ذكر الله في هذا القصص قضية الرسل والرسالات، وقصة التكذيب والإعراض، وقصة التحدي والعقاب. وتمثلت هذه المعاني في قصة موسى مع فرعون، وقصة ابراهيم مع أبيه وقومه، وقصة نوح مع قومه، وقصة هود مع عاد، وقصة صالح مع ثمود، وقصة لوط مع قومه، وقصة شعيب مع أصحاب الأيكة. فلما انتهى القصص عاد السياق إلى موضوع السورة، وهو العقيدة والإيمان بالله ورسله واليوم الاخر. وقد جاء التعقيب الأخير في السورة يتحدّث عن القرآن، فيؤكد أنه تنزيل من رب العالمين. ويشير إلى أن علماء بني إسرائيل يعرفون خبر هذا الرسول وما معه من القرآن: لأنه مذكور في كتب الأوّلين، ولكن المشركين يعاندون الدلائل الظاهرة، ويزعمون أنه سحر أو شعر، ولو أن أعجميا لا يتكلّم العربية نزل عليه هذا القرآن فتلاه عليهم بلغتهم ما كانوا به مؤمنين، لأن العناد هو الذي يقعد بهم عن الإيمان، لا ضعف الدليل، وما تنزلت الشياطين بهذا

القرآن على محمد (ص) ، كما تتنزل بالأخبار على الكهّان وما هو كذلك بشعر، فإن له منهجا ثابتا، والشعراء يهيمون في كل واد وفق الانفعالات والأهواء. إنما هو القرآن المنزل من عند الله تذكيرا للمشركين قبل أن يأخذهم الله بالعذاب، وقبل أن يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) . وقد استغرق هذا التعقيب الأخير على القصص الآيات [192- 227] ، وختم هذا التعقيب بهذا التهديد المخيف الذي يلخص موضوع السورة. اشتملت تلك السورة على تصوير عناد المشركين ومكابرتهم، واستهتارهم بالوعيد، واستعجالهم بالعذاب، كما شملت مصارع المكذبين على مدار الرسالات والقرون.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الشعراء"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الشعراء» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الشعراء بعد سورة الواقعة، ونزلت سورة الواقعة بعد سورة طه، وكان نزول سورة طه فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة الشعراء في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لذكر الشعراء في قوله تعالى في الآية 224 منها: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) . وتبلغ آياتها سبعا وعشرين ومائتي آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة التنويه بشأن القرآن، وقد جاء أولها في تهديدهم على التكذيب به، وجاء آخرها في إثبات تنزيله، والتمييز بينه وبين ما تلقي الشياطين على الكهّان والشعراء. وقد ختمت السورة السابقة بإنذارهم بأن عذابهم سيكون لزاما. فجاءت هذه السورة بعدها، وفي أولها أنه سبحانه، إن يشأ ينزل عليهم آية عذاب تخضع لها أعناقهم. التنويه بشأن القرآن الآيات [1- 191] قال الله تعالى: طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) فنوّه بشأن القرآن وحسن بيانه، ونهى الرسول (ص) أن

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

إثبات تنزيل القرآن الآيات [192 - 227]

يبالغ في الحزن على تكذيبهم به، وذكر أنه إن يشأ ينزل عليهم آية عذاب تخضع لها أعناقهم، وأنه سوف يأتيهم أنباء ما يستهزئون به من إنذارهم بوقوع العذاب عليهم، ثم أثبت ذلك بأمرين: أولهما ما يرونه من إنباته في الأرض كلّ زوج كريم، ففي ذلك آية من آيات القدرة الإلهية على تحقيق إنذاره لهم، ثم ذكر أنه عزيز لا يعجز عن تعذيبهم، وأنه رحيم يملي برحمته لهم. وثانيهما ما حصل من ذلك، للأمم قبلهم، وقد ذكر في هذا السياق موسى مع فرعون، وقصة إبراهيم مع أبيه وقومه، وقصة نوح مع قومه، وقصة هود مع عاد، وقصة صالح مع ثمود، وقصة لوط مع قومه، وقصة شعيب مع أصحاب الأيكة، وقد ذكرت هذه القصص قبل هذه السورة، ولكنها هنا تخالف ما سبق منها في سياقها، وفي بعض زيادات فيها وتغييرات في أسلوبها، ومن هذا تذييل كل قصة منها بما يبيّن الغرض من ذكرها، وهو قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) . إثبات تنزيل القرآن الآيات [192- 227] ثم قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) فذكر بعد تهديدهم على تكذيبه أنه تنزيله، وأن جبريل روحه الأمين نزل به على رجل منهم لينذرهم بلسانهم، ثم أثبت ذلك بما جاء من البشارة به في كتب الأولين، وبشهادة علماء بني إسرائيل بصدقه، وذكر أنه لو نزّله على بعض الأعجمين فقرأه عليهم لم يؤمن به أحد منهم، لنزوله بغير لسانهم. ثم ذكر تمكّن التكذيب به في قلوب المجرمين من المشركين، وأنهم لا يؤمنون به حتى يأتيهم ما ينذرهم به من العذاب الأليم، ثم وبّخهم على استعجالهم ذلك العذاب الأليم، وذكر أنه سيمتّعهم سنين قليلة، ثم يأخذهم به فما يغني عنهم شيئا ما تمتّعوا به، وأنه لا يهلك قرية إلا بعد إنذارهم، ليكون إهلاكها تذكرة وعبرة لغيرها. ثم أبطل ما يذكرونه من أنه من إلقاء الشياطين كسائر ما يلقونه على الكهّان والشعراء، فذكر أنه لم تتنزّل به الشياطين، لأن مثله مما لا يستطيعه مثلهم، ولأنهم معزولون عن السمع فلا

يمكنهم أن يتلقوه كما تتلقاه الملائكة، ثم ذيّل ذلك بنهي الرسول (ص) عن أن يدعو معه إلها آخر لئلّا يقع فيما ينذرون به من العذاب، ويأمره أن يكتفي بإنذار عشيرته الأقربين، وأن يخفض جناحه لمن اتّبعه من المؤمنين، فإن عصوه فليتبرّأ مما يعملون، وليتوكل على العزيز الرحيم، فإنه يرى قيامه وصلاته، ويسمع دعاءه ويعلم حاله. ثم عاد السياق إلى إبطال زعمهم أنه من إلقاء الشياطين، فذكر أن الشياطين لا تتنزّل إلّا على كلّ كذّاب أثيم، فيلقون على الكهّان ما يزعمون أنهم سمعوه من السماء من أكاذيبهم. وذكر أن أمر أكثر الشعراء كأمر الكهان، فهم ضالون يهيمون في كل واد، ولا يتورعون عن الكذب في المدح والهجاء وغير هما من فنون الشعر، ولا يستحون أن يقولوا ما لا يفعلون: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الشعراء"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الشعراء» «1» أقول: وجه اتصالها بسورة «الفرقان» أنه تعالى لما أشار فيها إلى قصص مجملة بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) [الفرقان] . شرح هذه القصص، وفصّلها أبلغ تفصيل في الشعراء التي تلي «الفرقان» ، ولذلك رتبت على ترتيب ذكرها في الآيات المذكورة، فبدئ بقصة موسى (ع) «2» ، ولو رتبت على الواقع لأخرت قصة موسى كما في «الأعراف» . فانظر إلى هذا السر اللطيف الذي منّ الله بإلهامه. ولما كان في الآيات المذكورة قوله تعالى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الآية 38] ، زاد في «الشعراء» تفصيلا لذلك قصة قوم إبراهيم (ع) ، وقوم لوط (ع) ، وقوم شعيب (ع) . ولما قال سبحانه في «الفرقان» :

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . بدئ بقصة موسى من قوله تعالى: وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى [الآية 10] وما بعدها. ثم نوح (ع) في قوله سبحانه: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) وما بعد هذه الآية. ثم قبيلة عاد في قوله جلّ وعلا: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) . وهكذا على ترتيب آيات الفرقان.

وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) ، ثم قال: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) [الفرقان] ، فختم هذه السورة بذكر الشعراء الذين هم بخلاف ذلك، واستثنى منهم من سلك سبيل أولئك، وبيّن ما يمدح من الشعر، ويدخل في قوله تعالى: سَلاماً. وما يذم منه، ويدخل في اللغو «1» .

_ (1) . وذلك من قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) الى آخر السورة [الآية 227] .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الشعراء"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الشعراء» «1» 1- فَجُمِعَ السَّحَرَةُ [الآية 38] . أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان السّحرة سبعين رجلا. وعن كعب قال: كانوا اثني عشر ألفا. وعن أبي ثمامة قال: كانوا سبعة عشر ألفا. وعن محمد بن كعب القرظي: كانوا ثمانين ألفا. وعن السّدّي قال: كانوا بضعة وثلاثين ألفا. وعن ابن جرير قال: ابن زيد «2» إن اجتماعهم كان في الإسكندرية. وسمّى ابن إسحاق رؤساءهم: سابور، وعازور، وخطخط، ومصفي، وشمعون. 2- فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ [الآية 45] . أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: عصا موسى اسمها: ماشا. وقيل: نبعة. حكاه في «الكشاف» . 3- لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الآية 54] . أخرج ابن أبي حاتم، عن طريق مجاهد عن ابن عباس قال: كان أصحاب موسى ستمائة ألف. وأخرج مثله عن ابن مسعود وغيره. وأخرج، من طريق آخر، عن ابن مسعود: أنهم ستّمائة ألف وسبعون ألفا.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . زيادة من «تفسير الطبري» . [.....]

وعن قتادة: أنهم خمسمائة وثلاثة آلاف وخمسمائة. وعن السّدّي: ستمائة ألف وعشرون ألفا. 4- أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 197] . أخرج ابن أبي حاتم، وابن سعد، عن عطية في هذه الآية قال: كانوا خمسة: أسد، وأسيد، وابن يامين، وثعلبة، وعبد الله بن سلام.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الشعراء"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الشعراء» «1» 1- وقال تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) . فقالوا: كيف صح مجيء «خاضعين» خبرا عن «الأعناق» ؟ الجواب: أصل الكلام: فظلّوا لها خاضعين فأقحمت «الأعناق» لبيان موضع الخضوع. وقرئ: (فظلّت أعناقهم لها خاضعة) . أقول: والقراءة الصحيحة التي توافق العربية القراءة الأخيرة، غير أني أرى أن في القراءة المثبتة في المصحف، وهي موضع درسنا، مراعاة للتناسب في فواصل الآيات، فقد بنيت هذه الفواصل على أن تنتهي بالنون في كلمات موزونة على بناء واحد أو متشابه وهي: مؤمنين، خاضعين، معرضين، يستهزئون، كريم، رحيم، مؤمنين، ظالمين. أقول أيضا: إن مراعاة التناسب في الأصوات والأوزان متطلّبة في آي القرآن، ألا ترى أن قوله تعالى: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) [البقرة] ، قد جاء في هذا السياق؟. فتقديم المفعول على (تقتلون) ، يخدم ما أشرنا إليه لإحكام النظم وحسن الأداء، وإحداث الأثر في النفوس. 2- وقال تعالى: قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا [الآية 24] . أقول: إن احتساب السماوات

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

والأرض مثنّى بدلالة الضمير في «بينهما» مثل قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء: 30] . وقد كنا قلنا في هذه المسألة ما فيه الكفاية في الآية التي أشرنا إليها من سورة الأنبياء. 3- وقال تعالى: قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) . وقرئ: أرجئه وأرجه: بالهمز والتخفيف، وهما لغتان. يقال: أرجأته وأرجيته إذا أخّرته. ومنه المرجئة أصحاب المقولة المعروفة. وقوله تعالى: حاشِرِينَ، أي: شرطا، جمع حاشر. 4- وقال تعالى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) . أي: أن السّحرة حين رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين. والمعنى خرّوا أو سقطوا وإنما عبّر بالإلقاء عن هذا المعنى، لأنه ذكر مع الإلقاءات التي وردت في الآيتين اللتين سبقتا: قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ. 5- وقال تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) . وقوله تعالى: لَشِرْذِمَةٌ أي: لجماعة قليلة، ومن ذلك قولهم، ثوب شراذم، أي: بلي وتقطّع قطعا. أقول: لقد وصفت «الشرذمة» ، وهي الجماعة القليلة، بقوله تعالى قَلِيلُونَ مراعاة للمعنى، أي: أن الجماعة جماعة ذكور. 6- وقال تعالى: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) . وقوله سبحانه: حاذِرُونَ: جمع حاذر وهو اليقظ والذي يجدّد حذره. أقول: وقرئ: حادرون، بالدال المهملة، والحادر السمين القوي. أي: أنهم أقوياء أشدّاء. 7- وقال تعالى: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) . أقول: ومن المفيد أن نلاحظ أن «عين الماء» لم تجمع في القرآن إلا على «عيون» ، في حين أن العين الباصرة جمعت على «أعين» .

8- وقال تعالى: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الآية 63] . الفرق: هو الجزء المتفرّق منه، وقرئ: «فلق» . أقول: ومجيء «فرق» بالكسر فالسكون لكونه اسما، والمصدر على «فعل» بالفتح فالسكون، وكنا قد عرضنا لهذه المسألة غير مرة. 9- وقال تعالى: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) . ومثل هذه الآية: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) . وقوله سبحانه: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) . وقوله جلّ وعلا: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) . ومثله قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ. أقول: لقد لحقت تاء التأنيث الفعل على أن الفاعل مؤنث، وعلى هذا تكون «عاد» ، بمعنى أمّة، وكذلك ثمود. أما «قوم» فمعناها قبيلة أو جماعة. ولو روعي اللفظ لعدّت مذكرة، كما ورد في آيات كثيرة، وكنا عرضنا لشيء من هذا. 10- وقال تعالى: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) . وقرئ: الجبلة بوزن الخلقة، والجبلّة بوزن الأبلّة، والمعنى واحد. أقول: ووصف الجبلّة، وهي مؤنث بالأولين، جاء لمراعاة المعنى، كما في قوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) . 11- وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) [الآية 196] . وقوله تعالى: وَإِنَّهُ، أي: القرآن في زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أي: في سائر الكتاب السماوية. والزبر جمع زبور وهو الكتاب المكتوب. وكنا قد مررنا على هذه الكلمة في آية سابقة. 12- وقال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) . أقول: وقوله سبحانه: عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ أي، واحد من الأعجمين، وهنا أفادت كلمة (بعض) الواحد بدلالة قوله جلّ وعلا: فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ. 13- وقال تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) .

أقول: قرأ الحسن: «الشياطون» ، ووجهه أنه رأى آخره كآخر يبرين وفلسطين، فتخيّر بين أن يجري الإعراب على النون، وبين أن يجريه على ما قبله فيقول: الشياطين والشياطون، كما تخيّرت العرب بين أن يقولوا: هذه يبرون ويبرين، وفلسطون وفلسطين. وحمل الفرّاء قراءة الحسن على الغلط.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الشعراء"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الشعراء» «1» قال تعالى: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الآية 4] . يزعمون انها على الجماعات نحو «هذا عنق من الناس» يعنون «الكثير» أو ذكّر كما يذكّر بعض المؤنث لمّا أضافه الى مذكّر. وقال الشاعر «2» [من الطويل وهو الشاهد السادس والخمسون بعد المائتين] : باكرتها والدّيك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا «3» فجماعات هذا «أعناق» ، أو يكون ذكّره لإضافته إلى المذكّر كما يؤنّث لإضافته الى المؤنث نحو قوله «4» [من الطويل وهو الشاهد السابع والخمسون بعد المائتين] : وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدّم وقال آخر [من الرجز وهو الشاهد الثامن والخمسون بعد المائتين] : لما رأى متن السّماء انقدّت ... وقال «5» [من الطويل وهو الشاهد

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هو النابغة الجعدي. شعر النابغة الجعدي 4، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 240، وشرح المغني للسيوطي 265، واللسان «نعش» ، والصاحبي 250. (3) . في الديوان «شربت بها» بدل «باكرتها» ، وكذلك في شرح شواهد المغني للسيوطي والمغني 2: 365، وفي مجاز القرآن 2: 83 و 93 ب «شربت» إذا ما الديك، وفي مجاز القرآن 1: 276 و 2: 38، و «اللسان» الصحاح» «نعش» ب «تمززتها» بدل «شربت بها» . (4) . هو الأعشى ميمون. الصبح المنير 94، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 25. (5) . هو الفرزدق. ديوانه 2: 552، والصحاح واللسان «قبض» .

التاسع والخمسون بعد المائتين] : إذا القنبضات السّود طوّفن بالضّحى ... رقدن عليهنّ الحجال المسجّف و (القنبض) : القصير. وقال آخر «1» [من الطويل وهو الشاهد الستون بعد المائتين] : وإنّ امرأ أهدى إليك ودونه ... من الأرض موماة وبيداء خيفق «2» لمحقوقة أن تستجيبي لصوته وأن تعلمي أنّ المعان موفّق «3» فأنّث. والمحقوق هو المرء. وانما أنث لقوله «أن تستجيبي لصوته» ويقولون: «بنات عرس» و «بنات نعش» و «بنو نعش» وقالت امرأة من العرب «أنا امرؤ لا أحبّ الشرّ» . وذكر لرؤبة رجل فقال «كان أحد بنات مساجد الله» كأنه جعله حصاة. وقال تعالى: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الآية 16] وهذا يشبه ان يكون مثل «العدوّ» وتقول «هما عدوّ لي» . وقال تعالى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ [الآية 22] فيقال هذا استفهام كأنّه قال «أو تلك نعمة» ، ثم جاء التفسير بقوله تعالى: أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 22] وجعله بدلا من النعمة. وقال: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ [الآية 72] أي: «هل يسمعون منكم» أو «هل يسمعون دعاءكم» . فحذف «الدعاء» كما قال الشاعر «4» [من البسيط وهو الشاهد الحادي والستون بعد المائتين] : القائد الخيل منكوبا دوابرها ... قد أحكمت حكمات القدّ والأبقا «5» يريد: أحكمت حكمات الأبق. فحذف «حكمات» وأقام «الأبق»

_ (1) . هو الأعشى ميمون. الصبح المنير 149 ومجاز القرآن 1: 244 و 2: 39 و 47. (2) . في الديوان «أسرى» بدل «أهدى» و «فياف تنوفات» بدل من «الأرض موماة» وفي الإنصاف 1: 43 «أسرى» أيضا. وفي مجاز القرآن 1: 244 «بهماء» بدل «بيداء» . وفي مجاز القرآن 2: 47 «سملق» بدل «خيفق» . (3) . في الإنصاف 1: 42 «دعاءه» بدل «لصوته» . (4) . هو زهير بن ابي سلمى المزني. ديوانه 49، والتهذيب 9: 355 «ابق» ، والصحاح واللسان «أبق» و «حكم» . «وزهم» . (5) . البيت بهذه الصيغة في المصادر السابقة، وهناك بيت آخر لزهير أيضا في ديوانه 44 و 153، والكامل 2: 608، واللسان والصحاح «حكم» و «زهم» صدر كصدره أما عجزه فهو: «منها الشنون ومنها الزاهق الزهم» .

مقامها. و «الأبق» : الكتّان «1» . وقال تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ [الآية 197] ، اسم في موضع رفع مثل ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الجاثية: 25] . ولكن هذا لا يكون فيه إلا النصب في الأول أَنْ يَعْلَمَهُ هو الذي يكون آية، وقد يجوز الرفع، وهو ضعيف «2» . وقال تعالى: عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ [الآية 198] واحدهم «الأعجم» وهو إضافة كالأشعرين. وقال تعالى: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ ليس بمعطوف على (حتّى) وإنّما هو جواب لقوله سبحانه لا يُؤْمِنُونَ بِهِ فلما كان جوابا للنفي انتصب، وكذلك فَيَقُولُوا [الآية 203] إنّما هو جواب للنفي. وقال تعالى: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) [يس] «3» أي: فاسمعوا مني.

_ (1) . نقله في إعراب القرآن 2: 755 و 756 والجامع 13: 109. (2) . نصب (آية) قراءة نسبت في السبعة 973، والكشف 2: 152، والتيسير 166، والجامع 13: 129، إلى غير ابن عامر أمّا القراءة برفع (آية) فنسبت في المراجع السابقة كلّها الى ابن عامر وحده وفي البحر 7: 41 زاد الجحدري. (3) . لا مسوّغ لا يراد هذه الآية في هذا الموضع. [.....]

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الشعراء"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الشعراء» «1» إن قيل: لم قال تعالى: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الآية 4] والأعناق لا تخضع؟ قلنا: قيل أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الكلام على أصله، كقولهم ذهبت أهل اليمامة، كأنّ كلمة أهل غير مذكورة. ومثله قول الشاعر: رأت مرّ السّنين أخذن منّي كما أخذ السّرار من الهلال أو لمّا وصفت الأعناق بالخضوع، الذي هو من صفات العقلاء، جمعت جمع العقلاء كقوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] . وقيل: الأعناق رؤساء الناس ومقدّموهم، شبهوا بالأعناق، كما قيل لهم الرؤوس والنواصي والوجوه، وقيل: الأعناق الجماعات يقال: جاءني عنق من الناس أي جماعة، وقيل إن ذلك لمراعاة الفواصل. فإن قيل: لم قال تعالى: قُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الآية 16] بالإفراد، وقال تعالى في موضع آخر: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه: 47] بالتثنية؟ قلنا: الرسول يكون بمعنى المرسل فيلزم تثنيته، ويكون بمعنى الرسالة التي هي مصدر فيوصف به الواحد والاثنان والجماعة كما يوصف بسائر المصادر، والدليل على أنه يكون بمعنى الرسالة قول الشاعر:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسرّ ولا أرسلتهم برسول أي برسالة. الثاني: أنهما، لاتّفاقهما في الأخوّة والشريعة والرسالة، جعلا كنفس واحدة. الثالث: أن تقديره: أن كل واحد منا رسول رب العالمين. الرابع: أن موسى (ع) كان الأصل، وهارون (ع) كان تبعا له، فأفرد إشارة إلى ذلك. فإن قيل: لم قال موسى (ع) ، كما ورد في التنزيل، معتذرا عن قتل القبطي: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) والنبيّ لا يكون ضالا؟ قلنا: أراد به وأنا من الجاهلين. وقيل أراد من المخطئين، لأنه ما تعمد قتله. كما يقال: ضلّ عن الطريق إذا عدل عن الصواب إلى الخطأ. وقيل من الناسين، كقوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [البقرة: 282] . فإن قيل: لم قال فرعون، كما ورد في التنزيل: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) ، ولم يقل ومن رب العالمين؟ قلنا: هو كان أعمى القلب عن معرفة الله سبحانه وتعالى، منكرا لوجوده فكيف ينكر عليه العدول عن «من» إلى «ما» . الثاني أن «ما» لا تختص بغير العاقل بل تطلق على العاقل وسواه، قال الله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] . وقال الله تعالى: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون: 3 و 5] . فإن قيل: لم قال موسى (ع) كما ورد في التنزيل: قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) ، علق كونه تعالى رب السماوات والأرض وما بينهما، بشرط كون فرعون وقومه موقنين، وهذا الشرط منتف، والربوبية ثابتة فكيف صح التعليق؟ قلنا: معناه الأول إن كنتم موقنين أن السماوات والأرض وما بينهما موجودات، وهذا الشرط موجود. الثاني: أن «إن» نافية لا شرطية. فإن قيل: إنّ ذكر السماوات والأرض وما بينهما قد استوعب ذكر المخلوقات كلها، فما الحكمة في قوله تعالى بعد ذلك: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) وقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الآية 28] ؟

قلنا: أعاد ذكرها تخصيصا لها وتمييزا، لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه، ومن ولد منه، وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع، والنقل من هيئة إلى هيئة، ومن حال إلى حال، من وقت ولادته إلى وقت وفاته ثم خص المشرق والمغرب، لأن طلوع الشمس من أحدهما وغروبها في الاخر، على تقدير مستقيم في فصول السنة، وحساب مستو، من أظهر ما يستدلّ به على وجود الصانع. ولظهوره انتقل خليل الله صلوات الله عليه وسلامه، إلى الاحتجاج به عن الاحتجاج بالإحياء والإماتة: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة: 258] . فإن قيل: لم قيل أوّلا: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) وقيل آخرا: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) ؟ قلنا: كان اللين واللطف أوّلا، فلما برز عنادهم وإصرارهم كان قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) ردّا على افتراء فرعون، كما ورد في التنزيل حكاية على لسانه إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) . فإن قيل: القول: «لأسجننك» أوجز من لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) فلم عدل عنه؟ قلنا: كان مراده تعريف العهد، فكأنه قال لأجعلنّك واحدا ممن عرفت حالهم في سجني. وكان إذا سجن إنسانا طرحه في هوة عميقة جدّا مظلمة، وحده لا يبصر فيها ولا يسمع، فكان ذلك أوجع من القتل، وأشد نكاية. فإن قيل: قصة موسى (ع) مع فرعون والسّحرة ذكرت في سورة الأعراف، ثم في سورة طه، ثم في هذه السورة، فما الحكمة من تكرارها وتكرار غيرها من القصص؟ قلنا: أولا: تأكيد التحدي وإظهار الإعجاز، كما أن المبارز إذا خرج من الصف، قال «نزال نزال هل من مبارز هل من مبارز» ، مكرّرا ذلك. يقال: ولهذا سمّى الله تعالى القرآن مثاني لأنه ثنيت فيه الأخبار والقصص. فإن قيل: لم كرر الله تعالى ذكر قصة موسى (ع) أكثر من قصص غيره من الأنبياء (ع) ؟ قلنا: لأن أحواله كانت أشبه بأحوال النبي (ص) من أحوال غيره من

الأنبياء، في إقامته الحجج، وإظهاره المعجزات لأهل مصر وإصرارهم على تكذيبه والجفاء عليه، كما كان حال النبي (ص) مع أهل مكة. فإن قيل: لم قال تعالى: فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ [الآية 61] والترائي «تفاعل» مشتقّ من الرؤية، فيقتضى وجود رؤية كل جمع للجمع الاخر، والمنقول أن بعضهم لم ير بعضا، فإن الله تعالى أرسل غيما أبيض، فحال بين العسكرين حتى منع رؤية بعضهم بعضا؟ قلنا: الترائي يستعمل بمعنى التداني والتقابل أيضا، كما قال (ص) : «المؤمن والكافر لا يتراءيان» ، أي لا يتدانيان، ويقال: دورنا تتراءى: أي تتقارب وتتقابل. فإن قيل: لم قال تعالى حكاية على لسان إبراهيم (ع) : وَإِذا مَرِضْتُ [الآية 80] ، ولم يقل: «وإذا أمرضني» ، كما قال قبله: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) . قلنا: لأنه كان في معرض الثناء على الله تعالى وتعديد نعمه، فأضاف إليه الخير المحض حفظا للأدب، وإن كان الكلّ مضافا إليه، ونظيره، كما ورد في التنزيل، قول الخضر (ع) فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الكهف: 79] وقوله: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما [الكهف: 82] . فإن قيل: هذا الجواب يبطل بقوله تعالى: وَالَّذِي يُمِيتُنِي [الآية 81] ويقوله: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما [الكهف: 81] . قلنا: إنما أضاف الموت إلى الله تعالى لأنه سبب لقائه إياه وانتقاله إلى دار كرامته، فكان نعمة من هذا الوجه. وقيل: إنما أضاف المرض إلى نفسه، لأن أكثر الأمراض تحدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه. فإن قيل: لم قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) والمال الذي أنفق في طاعة الله تعالى وسبيله ينفع، والولد الصالح ينفع، والولد الذي مات صغيرا يشفع، وشواهد ذلك كثيرة من الكتاب والسّنّة، خصوصا قوله (ص) «إذا مات ابن آدم ينقطع عمله إلّا من ثلاث» ، الحديث؟ قلنا: المراد بالآية أنهما لا ينفعان غير المؤمن، فإنه هو الذي يأتي بقلب سليم من الكفر، أو المراد بهما مال لم ينفق في طاعة الله تعالى، وولد بالغ غير صالح.

فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) أي قربت، والجنة لا تنقل من مكانها ولا تحوّل؟ قلنا: فيه قلب معناه: وأزلف المتقون إلى الجنة، كما يقول الحجاج إذا دنوا إلى مكة قربت مكة منا. وقيل معناه: أنها كانت محجوبة عنهم، فلما رفعت الحجب بينهم وبينها كان ذلك تقريبا لها. فإن قيل: لم جمع الشافع، ووحّد الصديق في قوله تعالى فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) ؟ قلنا: لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق ولهذا روي أن أحد الحكماء سئل عن الصديق، فقال: هو اسم لا معنى له، أراد بذلك عزّة وجوده. ويجوز أن يراد بالصديق الجمع كالعدو. فإن قيل: لم قرن بين الأنعام والبنين في قوله تعالى أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) ؟ قلنا: لأن الأنعام كانت من أعز أموالهم عندهم، وكان بنوهم هم الذين يعينونهم على حفظها والقيام عليها، فلهذا قرن بينهما. فإن قيل: القول أوعظت أم لم تعظ أوجز من: أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) ، فكيف عدل عنه؟ قلنا: المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل أم لم تكن من أهله أصلا وهذا أبلغ في قلة الاعتداء بوعظه من القول أو لم تعظ. فإن قيل: قوله تعالى: فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ لم أخذهم العذاب بعد ما ندموا على جنايتهم، وقد قال (ص) «الندم توبة» ؟ قلنا: قال ابن عباس رضي الله عنهما: ندموا حين رأوا العذاب، وذلك ليس وقت التوبة، كما قال الله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء: 18] . وقيل كان ندمهم ندم خوف من العذاب العاجل، لا ندم توبة فلذلك لم ينفعهم. فإن قيل: لم طلب لوط (ع) تنجيته من اللّواط، بقوله كما ورد في التنزيل: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) واللّواط كبيرة من الكبائر، والأنبياء معصومون من الكبائر؟

قلنا: مراده رب نجّني وأهلي من عقوبة عملهم أو من شؤمه، والدليل على ذلك ضمّه أهله إليه في الدعاء، واستثناء الله تعالى امرأته من قبول الدعوة. فإن قيل: لم قال تعالى في قصة شعيب (ع) : إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ [الآية 177] ولم يقل أخوهم، كما قال تعالى في حق غيره هنا، وكما قال في حقه في موضع آخر؟ قلنا: لأنه هنا ذكر مع أصحاب الأيكة وهو لم يكن منهم، وإنما كان من نسل مدين، كذا قال مقاتل. وفي الحديث أن شعيبا (ع) أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة. وقال ابن جرير الطبري: أهل مدين هم أصحاب الأيكة، فعلى هذا يكون حذف الأخ تخفيفا. فإن قيل: ما الفرق بين حذف الواو في قصة صالح (ع) وإثباتها في قصة شعيب، في قولهم كما ورد في التنزيل: ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [الآية 154] ووَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [الآية 186] ؟ قلنا: الفرق بينهما أنه، عند إثبات الواو، يكون المقصود معنيين كلاهما مناف للرسالة عندهم: التّسخير والبشرية. وعند حذف الواو، يكون المقصود معنى واحدا منافيا لها، وهو كونه مسخّرا ثم قرروا التسخير بالبشرية، كذا أجاب الزمخشري رحمه الله. فإن قيل: لم قال تعالى في وصف الكهنة والمتنبّئة كشقّ وسطيح ومسيلمة: وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ [الآية 223] بعد ما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك أثيم، والأفّاك الكذّاب، والأثيم الفاجر، ويلزم من هذا أن يكونوا كلهم كذّابين؟ قلنا: الضمير في قوله تعالى: وَأَكْثَرُهُمْ عائد إلى الشياطين لا إلى كل أفّاك.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الشعراء"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الشعراء» «1» قوله سبحانه: فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) وهذه استعارة. والمراد بها: العبارة عن التقارب والتداني. وإنما قلنا إن اللفظ مستعار، لأنه قد يحسن أن يوصف به الجمعان، وإن لم ير بعضهم بعضا بالموانع، من مثار العجاج، ورهج الطراد. لأن المراد به تقارب الأشخاص، لا تلاحظ الأحداق، وذلك كقولهم في الحيّين المتقاربين: تتراءى ناراهما. أي تتقابل وتتقارب، لكون النارين بحيث لو كان بدلا منهما إنسانان لرأى كل واحد منهما صاحبه. وقد أومأنا إلى ذلك فيما مضى «2» . ويقال أيضا: «قوم رئاء» ، على وزن فعال أي يقابل بعضهم بعضا. وكذلك «بيوتهم رئاء» إذا كانت متقابلة. ذكر ذلك أحمد بن يحيى ثعلب «3» . ومن هذا الباب الحديث المشهور عن النبي (ص) ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا بريء من كل مسلم مع مشرك» . قيل: ولم يا رسول

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . في الكلام في مجازات سورة الفرقان. الآية رقم 12. (3) . لم نجد لذلك ذكرا في «مجالس ثعلب» التي نشرتها «دار المعارف» بتحقيق الأستاذ عبد السلام محمد هارون. ووجدنا ذلك في «الأساس» للزمخشري. وثعلب هو إمام الكوفيين في النحو واللغة. اشتهر بالرواية والحفظ والصدق، وكان ثقة. ومات بصدمة فرس سقط بسببها في هوة، فتوفي على الأثر سنة 291 هـ.

الله؟ قال: «لا تتراءى ناراهما» . وقد استقصينا الكلام على معنى هذا الخبر في كتاب «مجازات الآثار النبوية» . وقوله سبحانه: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) وهذه استعارة. والمراد بها، والله أعلم، فاحكم بيننا وبينهم حكما قاطعا، وأمرا فاصلا: بفتح الباب المبهم بعد ما استصعب رتاجه، وأعضل علاجه. ويقال للحاكم: الفتّاح، لأنه يفتح وجه الأمر بعد اشتباهه واستبهام أبوابه. وقال تعالى: وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ: 26] . وقال بعض بني ذهل بن زيد بن نهد: وعمّي الّذي كانت فتاحة «1» قومه إلى بيته حتّى يجهّز غاديا أي كان الحكم بين قومه، فيه وفي أهل بيته، إلى حين وفاته. وقال فتاحة قومه بكسر الفاء، لأنها في معنى الولاية والزعامة وما يجري مجراهما. وقوله سبحانه: وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وهذه استعارة. والمراد «بالهضيم» هاهنا على بعض الأقوال، والله أعلم، الذي قد ضمن «2» بدخول بعضه في بعض، فكأنّ بعضه هضم بعضا لفرط تكاثفه، وشدة تشابكه. وقيل: الهضيم اللطيف. وذلك أبلغ في صفة الطّلع الذي يراد للأكل. وذلك مأخوذ من قولهم: فلان هضيم الحشا. أي لطيف البطن. وأصله النقصان من الشيء. كأنه نقص من انتفاخ بطنه، فلطفت معاقد خصره. ومنه قوله تعالى: فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) [طه] أي نقصا وثلما. وقيل الهضيم الذي قد أينع وبلغ. وقيل أيضا هو الذي إذا مسّ تهافت من كثرة مائه، ورطوبة أجزائه. والقولان الأخيران يخرجان الكلام عن حد الاستعارة. وقوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)

_ (1) . وفي «اللسان» الفتاحة بالضم: الحكم، والفتاحة والفتاحة أن تحكم بين خصمين. والفتاحة: الحكومة. قال الأشعر الجعفي: ألا من مبلغ عمرا رسولا ... فإني عن فتاحتكم غنيّ والفتّاح: الحاكم. وأهل اليمن يقولون للقاضي: الفتّاح. (2) . هكذا بالأصل. ولعلها ضمّ.

وهذه استعارة. وليس هناك تقلّب منه على الحقيقة. وإنما المراد به تقلّب أحواله بين المصلّين وتصرّفه فيهم بالركوع والسجود، والقيام والقعود. وذهب بعض العلماء في تأويل هذه الآية مذهبا آخر، فقال: المراد بذلك تقلّب الرسول (ص) في أصلاب الآباء المؤمنين. واستدل بذلك على أن آباءه إلى آدم (ع) مسلمون، لم تختلجهم خوالج الشرك، ولم تضرب فيهم أعراق الكفر، تكريما له عليه السلام عن أن يجري إلا في منزّهات الأصلاب، ومطهّرات الأرحام. وهذا الوجه يخرج به الكلام عن أن يكون مستعارا. وقوله سبحانه: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون المراد بها أنهم يشغلون أسماعهم، ويديمون إصغاءهم ليسمعوا من أخبار السماء ما يموّهون به على الضّلّال من أهل الأرض، وهم عن السمع بمعزل، وعن العلم بمزجر. وذلك كقول القائل لغيره: قد ألقيت إليك سمعي. أي صرفته إلى حديثك، ولم أشغله بشيء غير سماع كلامك. والتأويل الاخر أن يكون السّمع هاهنا بمعنى المسموع، كما يكون العلم بمعنى المعلوم، فيكون التأويل أن الشياطين يلقون ما يدّعون أنهم يستمعونه إلى كل أفّاك أثيم، من أعداء النبي (ص) ، على طريق الوسوسة واعتماد القدح في الشريعة. وهذا الوجه يخرج الكلام عن حد الاستعارة. وقوله سبحانه: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) . وهذه استعارة. والمراد بها، والله أعلم، أن الشعراء يذهبون في أقوالهم المذاهب المختلفة، ويسلكون الطرق المتشعّبة. وذلك كما يقول الرّجل لصاحبه إذا كان مخالفا له في رأي، أو مباعدا له في كلام: أنا في واد، وأنت في واد. أي أنت ذاهب في طريق وأنا ذاهب في طريق. ومثل ذلك قولهم: فلان يهبّ مع كل ريح، ويطير بكل جناح، إذا كان تابعا لكل قائد، ومجيبا لكل ناعق. وقيل إن معنى ذلك تصرّف الشاعر في وجوه الكلام من مدح وذم، واستزادة، وعتب، وغزل، ونسيب، ورثاء، وتشبيب، فشبّهت هذه الأقسام

من الكلام بالأودية المتشعبة، والسبل المختلفة. ووصف الشعراء بالهيمان فيه فرط مبالغة في صفتهم بالذهاب في أقطارها، والإبعاد في غاياتها. لأن قوله سبحانه: يَهِيمُونَ (225) أبلغ في هذا المعنى من قوله: «يسعون» ، و «يسيرون» . ومع ذلك فالهيمان صفة من صفات من لا مسكة له ولا رجاحة معه، فهي مخالفة لصفات ذي الحلم الرزين، والعقل الرصين.

سورة النمل 27

سورة النّمل 27

المبحث الأول أهداف سورة"النمل"

المبحث الأول أهداف سورة «النمل» «1» سورة النمل سورة مكية، آياتها 93 آية، نزلت بعد سورة الشعراء. وسميت بسورة النمل، لاشتمالها على مناظرة النمل مع سليمان (ع) ، الواردة في قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) . نظام السورة هذه السورة مجاورة لسورة الشعراء، وهي تمضي على نسقها في الأداء: مقدمة تمضي على نسقها في الأداء: مقدمة وتعقيب يتمثل فيهما موضوع السورة الذي تعالجه، وقصص بين المقدمة والتعقيب يعين على تصوير هذا الموضوع، ويؤكده، ويبرز فيه مواقف معينة للموازنة بين موقف المشركين في مكة ومواقف الغابرين قبلهم من شتّى الأمم، للعبرة والتدبّر في سنن الله وسنن الدعوات. موضوع السورة موضوع سورة النمل الرئيسي، كسائر السور المكية، هو العقيدة: الإيمان بالله، وعبادته وحده، والإيمان بالآخرة، وما فيها من ثواب وعقاب، والإيمان بالوحي، وأن الغيب كلّه لله لا يعلمه سواه، والإيمان بأن الله هو الخالق الرزّاق واهب النعم وتوجيه القلب إلى شكر أنعم الله على البشر،

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

القصص في سورة النمل

والإيمان بأن الحول والقوة كلها لله، وأن لا حول ولا قوة إلّا بالله. القصص في سورة النمل يأتي القصص في سورة النمل لتثبيت أهداف السورة، وتصوير عاقبة المكذّبين بها، وعاقبة المؤمنين. تأتي حلقة من قصة موسى (ع) تلي مقدّمة السورة، حلقة رؤيته للنار، وذهابه إليها، وندائه من الملأ الأعلى، وتكليفه الرسالة إلى فرعون وملئه ثم يعجل السياق بخبر تكذيبهم بآيات الله، وهم على يقين من صدقها، وعاقبة التكذيب مع اليقين: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) . واستغرقت هذه الحلقة، من قصة موسى، من الآية 7 إلى الآية 14. قصة داود وبلقيس استغرقت الآيات [15- 44] في الحديث عن داود وسليمان وبلقيس. وبدأت بالإشارة إلى نعمة الله على داود وسليمان عليهما السلام ثم ذكرت قصة سليمان مع النملة، ومع الهدهد، ومع ملكة سبأ وقومها، وفيها تظهر نعمة الله على داود وسليمان وقيامهما بشكر هذه النعمة، وهي نعمة العلم والملك والنّبوّة مع تسخير الجن والطير لسليمان وفيها تظهر كذلك أصول العقيدة التي يدعو إليها كل رسول. قصة بلقيس تبدأ قصة بلقيس بأن يتفقّد سليمان الطير، ويبحث عن الهدهد فلا يجده، ثم يجيء الهدهد بعد ذلك، وهو هدهد عجيب صاحب إدراك وذكاء وإيمان، وبراعة في عرض الأخبار، فيخبر سليمان أنه رأى ملكة ولها رعية كبيرة في بلاد سبأ، ورآهم في نعمة وغنّى، ولكنهم يسجدون للشمس من دون الله، فيكتب له سليمان رسالة ليلقيها إليهم، وفيها كما ورد في التنزيل: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) . فلما ألقاها على الملكة، جمعت قومها لتستشيرهم فيها. فذكروا لها أنهم أولو قوة وبأس شديد، وفوّضوا أمر ذلك إليها، فذكرت لهم أن عاقبة

قصة صالح ولوط عليهما السلام

الحرب إفساد الديار، وأنها ترى مسالمة سليمان بإرسال هدية إليه، فلما جاءته الهدية لم يقبلها، وهدّدهم بأن يرسل إليهم جنودا لا قبل لهم بها، فلم تجد الملكة مفرّا من أن تذعن له وتسافر إلى مقرّ ملكه، فجمع قومه وأخبرهم بأنه يريد أن يحصل على عرشها قبل حضورها، فأخبره عفريت من الجن بأنه يمكنه أن يأتيه به قبل أن يقوم من مجلسه، وأخبره عالم من علماء قومه بأنه يمكنه أن يأتيه به قبل مرور طرفة عين، فشكر سليمان ربه أن جعل في ملكه مثل هذا الرجل المؤمن المتصل بالله سبحانه. وأمر سليمان قومه أن يغيّروا شيئا من شكل العرش ليختبر ذكاءها، فانتهت الملكة إلى جواب ذكي أريب: قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ [الآية 42] . فهي لا تنفي ولا تثبت، ودلّت على فراسة وبديهة في مواجهة المفاجأة العجيبة، ثم تعرّضت بلقيس لمفاجأة أخرى، في قصر من البلّور أقيمت أرضيته فوق الماء، وظهر كأنه لجّة. فلما قيل لها ادخلي الصرح، حسبت أنها ستخوض في لجة الماء وكشفت عن ساقيها، فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها، وقال: «إنه صرح مملّس من زجاج» . ووقفت الملكة متعجبة مندهشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر، وتدل على أن سليمان مسخّر له قوى أكبر من طاقة البشر، فرجعت إلى الله وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره، معلنة إسلامها مع سليمان- لا لسليمان- ولكن لله رب العالمين. لَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) . قصة صالح ولوط عليهما السلام وفي أعقاب قصة بلقيس نجد الآيات [45- 53] تتحدث عن نبي الله صالح ومكر قومه في حقه. ونجد الآيات [54- 59] تتحدث عن نبي الله لوط وارتكاب قومه لفاحشة اللواط بالرجال، ومحاولة لوط تقديم النصيحة لهم دون جدوى، بل هددوه بالطرد والنفي، فأنجاه الله وأمطر قومه حجارة من السماء فأهلكتهم، فبئس مطر الهالكين الخاطئين.

أدلة القرآن على وجود الله

أدلة القرآن على وجود الله في ختام سورة النمل نجد آيات قوية تتحدث عن قدرة الله ومظاهر العظمة والقدرة في هذا الوجود. لقد استعرضت السورة في بدايتها حلقات من قصص موسى وداود وسليمان وصالح ولوط، عليهم السلام جميعا، استغرقت الآيات [7- 59] . أما الآيات الأخيرة في السورة [60- 93] ، فإنها تجول جولة هادفة في تثبيت العقيدة، جولة في مشاهد الكون وأغوار النفس وأطواء الغيب، وفي أشراط الساعة، ومشاهد القيامة، وأهوال الحشر، التي يفزع لها من في السماوات والأرض إلّا من شاء الله. في هذه الجولة الأخيرة، يستعرض القرآن أمام الناس مشاهدات في صفحة الكون وفي أطواء النفس، لا يملكون تعليلها بغير التسليم بوجود الخالق الواحد المدبّر القدير. ويتوالى عرض هذه المشاهدات في إيقاعات مؤثّرة، تأخذ عليهم أقطار النفس وأقطار المشاعر، وهو يطرح عليهم أسئلة متلاحقة: من خلق السماوات والأرض؟ من أنزل من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة؟ من جعل الأرض قرارا، وجعل خلالها أنهارا، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزا؟ من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟ من يجعلكم خلفاء الأرض؟ من يهديكم في ظلمات البر والبحر؟ من يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ من يرزقكم من السماء والأرض؟ وفي كل مرة يقرّعهم: أإله مع الله؟ وهم لا يملكون أن يقولوا: إن إلها مع الله يفعل شيئا من هذا كله، وهم مع هذا يعبدون أربابا من دون الله! وعقب هذه الإيقاعات القوية التي تقتحم القلوب، لأنها إيقاعات كونية تملأ صفحة الوجود من حولهم، أو إيقاعات وجدانية يحسونها في قلوبهم، يستعرض تكذيبهم بالآخرة وتخبّطهم في أمرها، ويعقّب عليه بتوجيه قلوبهم إلى مصارع الغابرين الذين كانوا مثلهم يكذبون ويتخبطون. ويخلص من هذا إلى عرض مشهد الحشر وما فيه من هول فزع، ويرجع

بهم في ومضة خاطفة إلى الأرض، ثم يردهم إلى مشهد الحشر، وكأنما يهزّ قلوبهم هزّا ويرجّها رجّا. وتختم السورة بحمد الله الذي يستحق الحمد وحده، وتكلهم إلى الله يريهم آياته، ويطّلع على أعمالهم ما ظهر منها وما بطن: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"النمل"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النمل» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة النمل بعد سورة الشعراء، ونزلت سورة الشعراء فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة النمل في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لورود اسم النمل في قوله تعالى في الآية 18 منها: حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ، وتبلغ آياتها ثلاثا وتسعين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة التنويه بشأن القرآن أيضا، ولهذا ذكرت بعد السورة السابقة، لأنها تشبهها في غرضها، وقد جاء أوّلها في بيان ما فيه من الهداية والبشارة للمؤمنين، والترهيب للكافرين ثم انتقل السّياق منه إلى الترغيب والترهيب بذكر بعض قصص الأنبياء والصالحين، ثم انتقل منهما إلى التنويه بشأنها وشأن أصحابها، والموازنة بين من ينزّل مثلها وبين آلهتهم في عجزها وضعفها، إلى غير هذا مما ختمت به هذه السورة. التنويه بشأن القرآن الآيات [1- 6] قال الله تعالى: طس تِلْكَ آياتُ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

الترغيب والترهيب بقصص الأنبياء والصالحين الآيات [7 - 58]

الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) . فنوّه بشأن القرآن وذكر جلّ شأنه، أنه هدّى وبشرى لمن يؤمن به، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويؤمن بالآخرة وأنه سبحانه زيّن للذين لا يؤمنون بالآخرة أعمالهم، فضلّوا عنه، ثم ذكر أن لهم سوء العذاب، وأنهم في الاخرة هم الأخسرون: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) . الترغيب والترهيب بقصص الأنبياء والصالحين الآيات [7- 58] ثم قال تعالى: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فذكر قصة موسى حينما أعطاه آية عصاه يلقيها فتهتزّ كأنها جانّ (حية صغيرة) ، وآية يده يدخلها في جيبه، فتخرج بيضاء من غير سوء ثم أرسله بهما إلى فرعون وقومه، لأنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءهم بآياته، زعموا أنها سحر مبين: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) . ثم انتقل السياق منها إلى قصة داود وسليمان عليهما السلام، فذكر أنه سبحانه آتاهما علما فعملا به وحمداه عليه، وأنه كان مما آتاه سليمان علم منطق الطير وتسخير كثير من الأشياء له، وأن سليمان جمع جنوده من الجن والإنس والطير، فساروا حتى إذا أتوا على وادي النمل أمرت نملة جماعتها من النمل أن يدخلوا مساكنهم، لئلا يحطمهم سليمان بجنوده، ففهم سليمان أمرها وتبسّم سرورا من إدراكه له، وطلب من الله عزّ وجلّ أن يعينه في شكره على تلك النعمة العظيمة، ثم ذكر السياق أن سليمان تفقّد الطير فلم ير الهدهد فسأل عنه، وكان قد طار إلى سبأ باليمن فلم يمكث إلا قليلا حتى رجع منها، وأخبره بأنه وجد امرأة تملك سبأ، وأنها وقومها يسجدون للشمس من دون الله، فكتب له رسالة ليلقيها إليهم إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) . فلمّا ألقاها على الملكة جمعت قومها لتستشيرهم فيها، فذكروا لها أنهم أولو قوة وبأس شديد، وفوّضوا أمر ذلك إليها، فذكرت لهم أن عاقبة الحرب إفساد الديار، وأنها ترى مسالمة سليمان بإرسال هدية إليه فلما جاءته الهدية لم يقبلها، وهدّدهم

التنويه بهذه القصص وأصحابها الآيات [59 - 93]

بأن يرسل إليهم جنودا لا قبل لهم بها، فلم تجد الملكة مفرّا من أن تذعن له، وتسافر إلى مقرّ ملكه فجمع قومه وأخبرهم بأنه يريد أن يحصل على عرشها قبل حضورها، فأخبره عفريت من الجن بأنه يستطيع أن يأتيه به قبل أن يقوم من مجلسه، وأخبره عالم من علماء قومه بأنه يستطيع أن يأتيه به قبل أن يرتدّ إليه طرفه، فشكر الله أن جعل في ملكه من يستطيع إحضار ذلك العرش في هذا الزمن، وقد أمرهم أن يغيّروا شيئا من شكله ليعرضه عليها، وينظر: أتعرف أنه عرشها أم لا تعرفه، ليختبر بذلك عقلها فلما جاءت عرض عليها وقيل لها: أهكذا عرشك؟ قالت كأنه هو، وذكرت أنها آمنت بالله وبقدرته من قبل هذه الآية ثم إنّ سليمان أمرها أن تدخل الصّرح، وكان قصرا من زجاج تحته ماء فلما رأته حسبته لجّة وكشفت عن ساقيها، فأخبرها بأنه صرح ممرّد من قوارير، فعجبت من ذلك، وآمنت بقدرة الله الذي أعطاه هذا الملك: الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) . ثم انتقل السّياق إلى قصة صالح وقومه ثمود، وقصة لوط وقومه، وهما هنا يخالفان ما سبق منهما في سياقهما وأسلوبهما، وفي ذكر بعض زيادات لم تسبق فيهما. التنويه بهذه القصص وأصحابها الآيات [59- 93] ثم قال تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) فأمر الله سبحانه، رسوله الأكرم (ص) أن يحمد الله على ما تلاه عليه من هذه القصص، وأن يسلم على من اصطفاه من أصحابها، وأن يسأل أولئك الذين لا يؤمنون بتنزيلها: آلله الذي ينزلها خير، أم آلهتهم التي لا تقدر على إنزال شيء منها؟ وقد ذكرت موازنات أخرى بعد هذه الموازنة، إلى أن أمروا، أمر تعجيز، بأن يأتوا ببرهان على أنها آلهة إن كانوا صادقين في زعمهم وذكر السياق أنه لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله، جلّ جلاله، ومن عداه من آلهتهم وغير هم لا يشعرون أيّان يبعثون. ومع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة، ولكنهم شاكّون جاهلون، ومن أسباب ذلك فيهم أنهم يستبعدون أن يبعثوا بعد

أن يصيروا ترابا، ويزعمون أنهم قد وعدوا هذا هم وآباؤهم من قبلهم، فلم يحصل شيء منه، وقد أجاب تعالى عن هذا بأن أمرهم أن يسيروا في الأرض لينظروا كيف كان عاقبة المجرمين في الدنيا، فلا بدّ من أن يعاقبهم أيضا في الاخرة ثم ذكر استعجالهم ذلك على سبيل الاستهزاء، وأجاب عنه بأنه سيحصل لهم قريبا بعض منه في الدنيا، بتسليط المؤمنين عليهم، وأن رحمته هي التي اقتضت عدم تعجيله لهم، ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون، ثم هدّدهم على ذلك، بأنه يعلم ما يخفون وما يعلنون وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) . ثم أعاد التنويه بشأن تلك القصص، فذكر أن القرآن يقصّ منها على بني إسرائيل أكثر ما يختلفون فيه، فيهديهم إلى ما غاب عنهم من الصواب فيها، ثم أمر الرسول (ص) أن يتوكّل عليه ولا يلتفت إلى أعدائه لأنه على الحق المبين وذكر تعالى أن الرسول لا يؤثّر فيهم لأنهم موتى لا يسمعون، وعمي لا يبصرون، وإنما يسمع من يؤمن بآياته فهم مسلمون ثم ذكر تعالى ما يكون قبل يوم القيامة من خروج دابّة تخبر الناس بما كان من جحودهم بتلك الآيات، فتؤمن بما لم يؤمنوا به، وهي من العجماوات، ثم ذكر أنهم يحشرون إلى ربهم فيوبّخهم على تكذيبهم بآياته، وأنهم لا يجدون ما يعتذرون به، فلا يمكنهم أن ينطقوا بعذر، وذكر لهم آية واحدة تقطع عذرهم، وهي ما يرونه من أنه جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، وجعل لهم النهار مبصرا وإنما آثر هذه الآية لأنهم يسكنون بالليل، ويبعثون بالنهار، كما يبعثون من الدنيا إلى الاخرة ثم ذكر ما يكون أيضا قبل يوم القيامة من النفخ في الصّور، وأنه يفزع به من في السماوات ومن في الأرض فيأتون صاغرين إليه، وأنه يجازيهم على أعمالهم، فيكون لمن جاء بالحسنة خير منها، ومن جاء بالسيّئة يكبّ في النار على وجهه. ثم ختم السورة بأمر الرسول أن يخبرهم بأنه إنما أمر أن يعبد الله سبحانه، وحده وأن يتلو عليهم القرآن فمن اهتدى به، فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل، فليقل له إنما أنا من المنذرين وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"النمل"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النمل» «1» أقول: وجه اتصالها بما قبلها، أنها كالتتمّة لها، في ذكر بقية القرون، فزاد سبحانه فيها ذكر سليمان وداود (ع) . وبسط فيها قصة لوط (ع) أبسط ممّا هي في «الشعراء» «2» . وقد روينا عن ابن عباس، وجابر بن زيد، في ترتيب السور: أن «الشعراء» أنزلت ثم «طه» ، ثم «القصص» ، ولذلك كان ترتيبها في المصحف هكذا. وأيضا فقد وقع فيها: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً [الآية 7] إلى آخره. وذلك تفصيل قوله تعالى في الشعراء: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) [الشعراء] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . قصة داود وسليمان (ع) في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً [الآية 15] الى أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) وقصة لوط (ع) في قوله تعالى: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ [الآية 54] ، الى فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) . وقول المؤلف: إن قصة لوط هنا أبسط منها في الشعراء مخالف للواقع، فهي في الشعراء أطول، ولكنها ذكرت في النمل مع بيان أقصى ما وصلوا إليه من الانحلال الخلقي والانتكاس العقلي إذ عدّوا طهارة لوط من الشذوذ الجنسيّ جريمة يستحق عليها النفي من البلاد. ولم يرد هذا التعليل في الشعراء. فلعلّ البسط في المعاني لا في المقدار.

المبحث الرابع مكنونات سورة"النمل"

المبحث الرابع مكنونات سورة «النمل» «1» 1- وادِ النَّمْلِ [الآية 18] . قال قتادة: ذكر لنا أنه واد بأرض الشام «2» . أخرجه ابن أبي حاتم. 2- قالَتْ نَمْلَةٌ [الآية 18] . قال السّهيلي: اسمها حرميا. وقيل: طاخية حكاه الزمخشري. وقال صاحب «القاموس» : اسمها عيجلوف بالجيم. قال ابن عسكر: حكي أن قتادة سئل عن نملة سليمان أذكر هي أم أنثى؟ فأفحم! وكان أبو حنيفة حاضرا فقال: أنثى، لقوله تعالى: قالَتْ بالتاء «3» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . وادي النمل: الذي خاطب سليمان (ع) النمل فيه، قيل: هو بين جيرين وعسقلان، كما في «معجم البلدان» 5: 197. (3) . ونقل هذه القصة الزمخشري في «الكشاف» 3: 137، وعلق عليها ابن المنير السّكندري في كتابه «الانتصاف من الكشّاف» قائلا: «لا أدري العجب منه أم من أبي حنيفة أن يثبت ذلك عنه وذلك أن النملة كالحمامة والشاة، تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس، يقال نملة ذكر، ونملة أنثى، كما يقولون: حمامة ذكر وحمامة أنثى، وشاة ذكر، وشاة أنثى. فلفظها مؤنث ومعناه محتمل فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها وإن كانت واقعة على ذكر، بل هذا الفصيح المستعمل. ألا ترى الى قوله عليه الصلاة والسلام، «لا تضحي بعوراء ولا عجفاء ولا عمياء» كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعني الإناث من الأنعام خاصة، فحينئذ قوله تعالى: قالَتْ نَمْلَةٌ روعي فيه تأنيث اللفظ. وأما المعنى فيحتمل على حد سواء، إنما أطلت في هذا وإن كان لا يتمشّى عليه حكم، لأنه نسبه إلى الامام أبي حنيفة على بصيرته باللغة. ثم جعل هذا الجواب معجبا لنعمان- أبي حنيفة- على غزارة علمة وتبصره بالمنقولات. ثم قرر الكلام على ما هو عليه مصونا له، فيا لله العجب العجاب والله الموفق للصواب» .

3- وَعَلى والِدَيَّ [الآية 19] . هما: داود، وأوريا ذكره الكرماني في «عجائبه» . 4- لا أَرَى الْهُدْهُدَ [الآية 20] . أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: اسم هدهد سليمان عنبر. 5- إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ [الآية 23] . أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: هي بلقيس بنت شراحيل. وأخرج مثله عن قتادة. وأخرج عن زهير بن محمد قال: هي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان، وأمّها فارعة، الجنية. وأخرج عن ابن جريح قال: بلقيس بنت ذي سرح، وأمها بلقية «1» . وقال ابن عسكر: قيل: اسم أبيها اليشرح وقيل: إيلي شرخ وقيل: أمها بلمقة وقيل: يلمغة وقيل: يلمعة وقيل: رواحة. 6- قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي [الآية 32] . أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة: أنّ أهل مشورتها، كانوا ثلاث مائة واثني عشر رجلا. 7- فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ [الآية 36] .

_ (1) . في «الدر المنثور» 5: 105: «بلقته» وعن ابن عباس قال، سئل رسول الله (ص) من سبأ، أرجل هو، أم امرأة، أم أرض؟ فقال رسول الله (ص) : بل رجل ولد عشرة، سكن منهم اليمن ستة، والشام أربعة: فاليمانيون: مذحج، وكندة، والأنمار، والأزد، والأشريون، وحمير وأما الشاميون: فلخم وجذام، وعاملة، وغسان. وكانت بلقيس من أحسن نساء العالمين، وقال ابن الكلبي: كان أبوها من عظماء الملوك، وولده ملوك اليمن وتسمى بلقيس بلقمة، ويقال: إن مؤخّر قدمها كان يشبه حافر الدابة، لذلك اتخذ سليمان عليه السلام الصرح الممدد، وكان بيتا من زجاج، ويخيّل للرائي أنه يضطرب، فلما رأته كشفت عن ساقيها فلم ير غير شعر خفيف، ولذلك أمر بإحضار عرشها ليختبر عقلها ثم أسلمت وعزم سليمان على تزوّجها، فأمر الشياطين فاتخذوا الحمام والنورة، وهو أول من اتخذ ذلك ثم تزوجها، وأرادت منه ردها إلى ملكها، ففعل ذلك، وأمر الشياطين فبنوا لها باليمن الحصوة التي لم ير مثلها، وهي: غمدان وسون، وغيرهما، وأبقاها على ملكها، وكان يزورها في كل شهر مرة من الشام على البساط والريح، وبقي ملكها إلى أن توفي، فزال بملكه، والله تعالى أعلم» . قلت: أفاد الزّركلي في «الأعلام» 2: 74 في ترجمة «بلقيس» أنها توفيت في عهد سليمان (ع) ، بخلاف ما ذكر في الحاشية السابقة. والله تعالى أعلم. [.....]

اسم الجائي: منذر. ذكره الكرماني في «عجائبه» . 8- قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ [الآية 39] . اسمه كوزن. أخرجه ابن أبي حاتم عن شعيب الجبائي، ويزيد بن رومان. 9- قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ [الآية 40] . قال ابن عباس وقتادة: هو آصف بن برخيا كاتبه. وقال زهير بن محمد: هو رجل من الإنس، يقال له: ذو النّور. وقال مجاهد: اسمه أسطوم. وقال ابن لهيعة، هو الخضر. أخرج كلّها ابن أبي حاتم. وقيل، هو جبريل. وقيل: هو ملك أيّد الله به سليمان. وقيل: هو ضبّة أبو القبيلة. وقيل: رجل زاهد، اسمه «مليخا» . حكاها الكرماني في «عجائبه» . وقيل: اسمه بلخ. حكاه ابن عسكر 10- وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ [الآية 48] . أخرج ابن أبي حاتم، من طريق السّدّي، عن أبي مالك، عن ابن عباس قال: كانت أسماؤهم رعمي، ورعيم، وهرمي، وهريم، وداب، وصواب، ورئاب، ومسطع، وقدار بن سالف: عاقر الناقة. وقد نظمهم بعضهم في بيتين فقال: رئاب وغنم، والهذيل، ومصدع عمير، سبيط، عاصم، وقدار وسمعان، رهط الماكرين بصالح ألا إن عدوان النفوس بوار هكذا نقلته من خط الشيخ جمال الدين بن هشام في «تذكرته» وفيه مخالفة لقول ابن عبّاس «1» . وذكر ابن هشام أن أسماء آبائهم على الترتيب: مهرع، وغنم، وعبد رب، ومهرج، وكردة، وصدقة، ومخرمة وسالف، وصيفي. 11- رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ [الآية 91] . قال ابن عباس: يعني مكة. أخرجه ابن أبي حاتم.

_ (1) . ذكر السيوطي في «بغية الوعاة» أن هذا الكتاب في خمسة عشر مجلدا، قال الأستاذ عبد الغني الدقر في مقدمته ل «شرح شذور الذهب» لابن هشام ص 10: «ولم نطلع على شيء منه» .

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"النمل"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النمل» «1» قال تعالى: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ [الآية 7] . وقوله تعالى: آنَسْتُ، أي: أبصرت ورأيت. أقول: ويحسن بي أن أقف وقفة طويلة على: آنَسْتُ فأقول: هي من مادة «الأنس» . وآنس الشيء: أحسّه. وآنس الشخص واستأنسه: رآه وأبصره. وأنست بفلان: فرحت به. وفي التنزيل العزيز: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً [القصص: 29] يعني أبصر. واستأنست: استعلمت. والاستئناس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور: 27] . قال الفراء: هذا مقدّم ومؤخّر، إنّما هو حتى تسلّموا وتستأنسوا ... وقال الزجاج: معنى تستأنسوا تستأذنوا. أقول: وجميع معاني «أنس» من الأفعال والمصادر تتصل ب «الأنس» الذي هو جملة هذه المعاني من الإبصار والاستعلام والفرح والاستئذان، فلا بد من أن نجد لها أصلا في أنّ الإنسان يألف أخاه الإنسان بطبعه، فإذا اتصل به وألفه استلّ منه فعلا لهذه الحالة المعنوية من مادة «إنس» ، أي: الإنسان، والإنس

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

مقابل الجن في طائفة من الآيات. والإنس والإنسان شيء واحد، وزيادة الألف والنون لكمال صيغة جديدة. ثم إذا وقفنا قليلا وجدنا لغة قديمة في «الإنسان» هي «إيسان» وهذه اللغة الأخيرة ذات صلة وثيقة بمادة «أيس» الذي يعني الوجود. ولم يرد هذا إلا في قول الخليل بن أحمد: أن العرب تقول جيء به من حيث «أيس، وليس» لم تستعمل «أيس» إلا في هذه الكلمة، وإنما معناها كمعنى حيث، هو في حال الكينونة والوجد مصدر «وجد» ، وقال: إنّ معنى «لا أيس» أي لا يوجد. أقول: والذي يؤيّد هذا، ما نعرفه من أن في العبرانية من هذا شيئا هو أن إيش بمعنى رجل، ويقابله إيث في الآرامية. ولنرجع إلى العربية فنجد أن كلمة «شيء» ، ومعناها معروف ليس بعيدا عن مادة «وجد» ، فالشيء موجود بطبعه وحقيقته، وكأن الأصل هو مقلوب «أيش» الذي يذكرنا ب «أيس» ، الذي يفيد الوجود والذي بقي شيء منه في مادة «ليس» ، أي «لا أيس» . وكان الفلاسفة على حق في التمسّك ب «الأيس» و «الليس» للدلالة على الوجود وعدمه. 2- وقال تعالى: وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ [الآية 10] . وقوله تعالى: وَلَمْ يُعَقِّبْ أي: ولم يرجع، ويقال عقّب المقابل إذا كرّ بعد الفرار، قال: فما عقّبوا إذ قيل هل من معقّب ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا يصف قوما بالجبن وأنهم إن قيل: هل من معقّب وراجع على عقبه للحرب؟ فما رجعوا إليها، ولا نزلوا يوم الحرب، منزلا من منازلها، أي: لم يقدموا مرة على العدو. أقول: وهذا من الكلم المفيد الذي كان ينبغي أن يكون له مكان في العربية المعاصرة، وذلك للحاجة إليه في أحوال مشابهة. 3- وقال تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) . المبصرة: الظاهرة البيّنة، جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمليها، لأنهم لابسوها، وكانوا منها بنظرهم وتفكيرهم فيها.

أقول: وهذا شيء من استعمالات لغة القرآن البديعة، التي تأتي بغير المألوف من إسناد الأفعال، وذلك يحقّق فوائد في إدراك المعاني وتصويرها، على نحو لم يلتفت إليه أهل النظر. 4- وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ [الآية 18] . أقول جاء الفعل «يحطم» في هذه الآية فعلا ثلاثيا. ومثله ما جاء في قوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) [القصص] . والفعل «قبح» في قوله تعالى مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) ثلاثي أيضا. أقول: والفعلان في العربية المعاصرة مزيدان بالتضعيف ولا نعرف صيغة الثلاثي فيهما فيقال: حطم القيد وحطّم الزّجاج، على الحقيقة وحطّم الأحوال، وفلان محطّم أي: متعب مريض، على سبيل المجاز. ومثله يقال: قبّحه الله في الدعاء عليه. 5- وقال تعالى: وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ [الآية 19] . أي اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، أي: كفّني عن الأشياء إلّا عن شكر نعمتك، وكفّني عما يباعدني عنك. أقول: وهذا من الأفعال ذات المعاني المفيدة. 6- وقال تعالى: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ [الآية 36] . حذفت الياء من قوله تعالى: أَتُمِدُّونَنِ وحقها أن تثبت لأنها ضمير في موضع المفعول به، والاكتفاء بالكسرة من خط المصحف. والاكتفاء بالكسرة ربما كان للاهتمام بالكلمة التالية، وهي بِمالٍ، فكأن قصر المد والاكتفاء بكسر النون يغري السماع، ويدفعه إلى الاهتمام بالكلمة اللاحقة. 7- وقال تعالى: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها [الآية 37] . وقوله تعالى: لا قِبَلَ أي: لا طاقة. أقول: لم يعرف أهل عصرنا المصدر «قبل» ، وقد استعاضوا منه المصدر الصناعي «القابلية» بمعنى

الطاقة فهم يقولون: فلان يملك قابليات نادرة. ولا بد من الإشارة إلى أن «القابلية» عند أهل العلوم تعني درجة القبول لعمل من الأعمال كقولهم: قابلية هذه الأرض لامتصاص الماء. 8- وقال تعالى: وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) . «والصاغرون» جمع صاغر وهو الذليل. والصّغار: أن يقعوا في الأسر والاستعباد، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا. أقول: وقد فرّقت العربية في الأبنية باختلاف المعاني، فالمصدر صغر للدلالة على صغر الجسم طولا وعرضا. والصّغار كما أشرنا، والفعل فيهما صغر. 9- وقال تعالى: قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) . وقوله تعالى: نَكِّرُوا، أي: اجعلوه متنكرا متغيّرا عن هيئته وشكله، كما يتنكّر الرجل للناس لئلا يعرفوه. أقول: والتنكير بهذا المعنى مما نعرفه الآن في لغتنا المعاصرة، فيقال مثلا: جاء فلان متنكّرا، أي: متخفّيا مضلّلا من يراه لئلّا يعرفه. 10- وقال تعالى: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) . استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم: عَسى أَنْ يَكُونَ ردفكم بعضه، وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو: دنا لكم وأزف لكم، ومعناه: وتبعكم ولحقكم، وقد عدّي ب «من» قال: فلما ردفنا من عمير وصحبه تولّوا سراعا والمنيّة تعنق يعني دنونا من عمير أقول: ومعنى «ردف» ، في هذه الآية من كلم القرآن الذي لا نعرفه في لغتنا المعاصرة. على أن استعماله كان في موضعه في الآية، قد أدّى المعنى أحسن الأداء. 11- وقال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) . وقوله داخِرِينَ (87) أي: صاغرين.

المبحث السادس المعاني الغوية في سورة"النمل"

المبحث السادس المعاني الغوية في سورة «النمل» «1» قال تعالى: نُودِيَ أَنْ بُورِكَ [الآية 8] أي: نودي بذلك. وقال تعالى: بِشِهابٍ قَبَسٍ [الآية 7] بجعل «القبس» بدلا من «الشّهاب» وإن أضيف «الشّهاب» الى «القبس» لم ينوّن «الشهاب» وكلّ حسن. وقال تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ [الآية 11] لأن «إلّا» تدخل في مثل هذا الكلام كمثل قول العرب: «ما أشتكي إلّا خيرا» فلم يجعل قوله «إلّا خيرا» على الشكوى، ولكنه علم إذا قال لهم «ما أشتكي شيئا» أنه يذكر من نفسه خيرا. كأنه قال «ما أذكر إلّا خيرا» . وقال تعالى: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [الآية 16] لأنها لما كانت تكلّمهم صار كالمنطق. وقال الشاعر [من الخفيف وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد المائتين] : صدّها منطق الدجاج عن القصد وقال [من الرجز وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائتين] : فصبّحت والطير لم تكلّم وقال تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا [الآية 25] يقول: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الآية 24] ل «أن لا يسجدوا» وقرأ بعضهم أَلَّا يَسْجُدُوا فجعله أمرا كأنه قيل لهم: «ألا يسجدوا» فجعله أمر كأنه قيل لهم: «ألا اسجدوا» وزيد بينهما «يا» التي تكون للتنبيه ثم أذهبت ألف الوصل التي في «اسجدوا» وأذهبت الالف التي في «يا» لأنها

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

ساكنة لقيت السين فصارت أَلَّا يَسْجُدُوا وفي الشعر» [من الطويل وهو الشاهد الثاني والستون بعد المائتين] ألا يا سلمي يا دارميّ على البلى ولا زال منهلّا بجرعائك القطر وإنّما هي: ألا يا اسلمي وقال تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ [الآية 30] على إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ [الآية 29] إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ ووَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ وبِسْمِ اللَّهِ مقدمة في المعنى. وقال تعالى: لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [الآية 40] أي: لينظر أأشكر أم أكفر. كقولك: «جئت لأنظر أريد أفضل أم عمرو» . وقال تعالى: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ [الآية 47] بإدغام التاء في الطاء، لأنها من مخرجها، وإذا استأنفت قلت: «اطّيّرنا» . وقال تعالى: تِسْعَةُ رَهْطٍ [الآية 48] والرهط جمع ليس له واحد من لفظه مثل «ذود» . وقال تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ [الآية 60] أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ [الآية 64] حتى ينقضي الكلام. أَمَّنْ، هاهنا ليست باستفهام على قوله سبحانه: خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) إنّما هي بمنزلة «الذي» . وقال تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [الآية 65] كما قال: إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء: 66] وفي حرف ابن مسعود «قليلا» بدلا من الأول لأنك نفيته عنه وجعلته للآخر. وقال تعالى: رَدِفَ لَكُمْ [الآية 72] أي «ردفكم» وأدخلت اللام فأضيف بها الفعل، كما قال لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) [يوسف] ولِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) [الأعراف] وتقول العرب: «ردفه أمر» كما يقولون: «تبعه» و «أتبعه» . وقال تعالى: أَنَّ النَّاسَ [الآية 82] أي: بأنّ النّاس، وبعضهم يقرأ (إنّ

_ (1) . هو لذي الرمة غيلان، ديوانه: 559 ومجاز القرآن 2: 94 ومختار الصحاح «الياء» ، والإنصاف 1: 62، والصحاح، ولسان العرب «يا» ، وأمالي الشجري 2: 151، ومغني اللبيب 234، وشرح شواهد المغني للسيوطي 210، والمقاصد النحوية 2: 6، والدرر 1: 81 و 2: 23 و 86.

النّاس) كما قال وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ [الزمر: 3] انما معناه يقولون: «ما نعبدهم» . قال: ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) ف ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ مؤخّرة لأن المعنى «فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثمّ تولّ عنهم» . وقال تعالى: آياتُنا مُبْصِرَةً [الآية 13] أي: إنها تبصرهم حتّى أبصروا. وإن شئت قرأت: (مبصرة) «1» بفتح الصاد، فقد قرأها بعض الناس، وهي جيدة يعني مبصرة مبيّنة.

_ (1) . في البحر 7: 58 أنّ قتادة والإمام عليّ بن الحسين قرأ بفتح الميم والصاد، وكذلك في الكشاف 3: 352.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"النمل"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النمل» «1» إن قيل: ما الحكمة في تنكير الكتاب في قوله تعالى وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) . قلنا: الحكمة في التفخيم والتعظيم كقوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) [القمر] . فإن قيل: العطف يقتضى المغايرة، فلم عطف الكتاب المبين على القرآن، والمراد به القرآن؟ قلنا: قيل إن المراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ، فعلى هذا لا إشكال وعلى القول الاخر، فتقول العطف يقتضي المغايرة مطلقا إما لفظا وإما معنى، بدليل قول الشاعر: فألفى قولها كذبا ومينا وقولهم: جاءني الفقيه والظريف والمغايرة لفظا أمر ثابت. فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [الآية 4] . وقال تعالى في موضع آخر: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الأنفال: 48] . قلنا: تزيين الله تعالى لهم الأعمال بخلقه الشهوة والهوى وتركيبها فيهم، وتزيين الشيطان بالوسوسة والإغواء والغرور والنميمة، فصحّت الإضافتان. فإن قيل: لم قيل هنا سَآتِيكُمْ [الآية 7] وقيل في سورة طه: لَعَلِّي آتِيكُمْ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

[طه: 10] وأحدهما قطع، والاخر ترجّ، والقصة واحدة؟ قلنا: قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه: سأفعل كذا، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة. فإن قيل: لم قال تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ [الآية 8] مع أنه لم يكن في النار أحد، بل لم يكن المرئي نارا، وإنما كان نورا في قول الجمهور، وقيل كان نارا ثم انقلب نورا؟ قلنا: قال ابن عباس والحسن رضي الله عنهما: معناه قدّس من ناداه من النار وهو الله عزّ وجلّ، لا على معنى أن الله تعالى يحل في شيء، بل على معنى أنه أسمعه النداء من النار في زعمه. الثاني: أن «من» زائدة والتقدير بورك في النار وفيمن حولها، وهو موسى (ع) والملائكة. الثالث: أن معناه بورك من في طلب النار وهو موسى (ع) . فإن قيل: إنما يقال بارك الله على كذا، ولا يقال بارك الله كذا؟ قلنا: قال الفراء: العرب تقول باركه الله وبارك فيه وبارك عليه بمعنى واحد، ومنه قوله تعالى: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ [الصافات: 113] . ولفظ التحيات: وبارك على محمد وعلى آل محمد. فإن قيل: ما وجه الاستثناء في قوله تعالى: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [الآية 10] . قلنا: فيه وجوه: أحدها أنه استثناء منقطع بمعنى لكن. الثاني: أنه استثناء متصل، كذا قاله الحسن وقتادة ومقاتل رحمهم الله، ومعناه: إلا من ظلم منهم بارتكاب الصغيرة كآدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف وموسى وغير هم صلوات الله وسلامه عليهم، فإنه يخاف ممّا فعل مع علمه أني غفور رحيم، فيكون تقدير الكلام: «إلا من ظلم منهم فإنه يخاف فمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم» . ولهذا قال بعضهم: إن هنا وقفا على قوله تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وابتداء الكلام الثاني محذوف كما قدرنا. والثالث: أن «إلّا» بمعنى «ولا» ، كما في قوله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة: 150] أي «ولا الذين ظلموا منهم» . الرابع: أن تقديره: أني لا يخاف لدي المرسلون ولا غير المرسلين إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [الآية 11] .

فإن قيل: لم قال سليمان (ع) كما ورد في التنزيل عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا [الآية 16] بنون العظمة، وهو من كلام المتكبّرين؟ قلنا: لم يرد به نون العظمة، وإنما أراد به نون الجمع وعنى نفسه وأباه. الثاني: أنه كان ملكا مع كونه نبيّا فراعى سياسة الملك، وتكلم بكلام الملوك. فإن قيل: كيف حلّ له تعذيب الهدهد، حتى قال كما ورد في التنزيل لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [الآية 21] . قلنا: لعل ذلك أبيح له خاصّة، كما خصّ بفهم منطق الطير، وتسخيره له، وغير ذلك. فإن قيل: كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان (ع) حتى قال ولها عرش عظيم؟ قلنا: أولا: يجوز أنه استصغر حالها بالنسبة الى حال سليمان، فاستعظم لها ذلك العرش. ثانيا: أنه يجوز أن لا يكون لسليمان مثله، وإن عظمت مملكته في كل شيء، كما يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون للملك مثله. فإن قيل: لم ورد على لسان الهدهد قوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [الآية 23] مع قول سليمان صلوات الله وسلامه عليه كما ورد في التنزيل وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [الآية 16] . فكأنه سوى بينهما؟ قلنا: بينهما فرق وهو أن الهدهد أراد به، وأوتيت من كل شيء من أسباب الدنيا لأنه عطف على الملك، وسليمان أراد به وأوتينا من كل شيء من أسباب الدين والدنيا، ويؤيّد ذلك عطفه على المعجزة، وهي منطق الطير. فإن قيل: كيف سوّى الهدهد بين عرشها وعرش الله تعالى في الوصف بالعظم، في قوله تعالى: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) ورَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) ؟ قلنا: بين الوصفين بون عظيم لأنه وصف عرشها بالعظم بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله تعالى بالعظم بالنسبة إلى ما خلق من السماوات والأرض وما بينهما. فإن قيل: قوله تعالى: فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) .

إذا تولّى عنهم، فكيف يعلم جوابهم؟ قلنا: أوّلا: معناه ثم تولّ عنهم مستترا من حيث لا يرونك فانظر ماذا يرجعون. ثانيا: أن فيه تقديما وتأخيرا تقديره: فانظر ماذا يرجعون، ثم تولّ عنهم. فإن قيل: كيف استجاز سليمان (ع) تقديم اسمه في الكتاب على اسم الله تعالى، حتّى كتب فيه، كما ورد في التنزيل: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) . قلنا: لأنه أدرك أنها لا تعرف الله تعالى وتعرف سليمان، فخاف أن تستخف باسم الله تعالى إذا كان أول ما يقع نظرها عليه، فجعل اسمه وقاية لاسم الله تعالى. وقيل: إن اسم سليمان كان على عنوانه، واسم الله تعالى كان في أول طيّه. فإن قيل: كيف يجوز أن يكون آصف، وهو كاتب سليمان (ع) ووزيره، وليس بنبيّ يقدر على ما لا يقدر عليه النبيّ، وهو إحضار عرش بلقيس في طرفة عين؟ قلنا: يجوز أن يخصّ غير الرسول بكرامة لا يشاركه فيها الرسول، كما خصّت مريم بأنها كانت ترزق من فاكهة الجنة، وزكريا عليه السلام لم يرزق منها وكما أن سليمان صلوات الله عليه خرج مع قومه يستسقون فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تستسقي، فقال لقومه: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم، ولم يلزم من ذلك فضلها على سليمان. وقد نقل أن النبي (ص) كان إذا أراد الخروج إلى الغزوات قال لفقراء المهاجرين والأنصار: ادعوا لنا بالنصرة، فإن الله تعالى ينصرنا بدعائكم. ولم يكونوا أفضل منه (ص) ، مع أن كرامة التابع من جملة كرامات المتبوع. قالوا: والعلم الذي كان عنده هو اسم الله الأعظم، فدعا به فأجيب في الحال، وهو عند أكثر العلماء، كما قال البندنيجي، اسم الله، ثم قيل هو يا حيّ يا قيوم، وقيل يا ذا الجلال والإكرام، وقيل يا الله يا رحمن، وقيل يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت فمن أخلص النيّة، ودعا بهذه الكلمات مع استجماع شرائط الدعاء المعروفة فإنه يجاب لا محالة.

فإن قيل: لم قالت كما ورد في التنزيل أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) وهي إنّما أسلمت بعده على يده لا معه، لأنه كان مسلما قبلها؟ قلنا: إنما عدلت عن تلك العبارة إلى هذه لأنها كانت ملكة، فلم تر أن تذكر عبارة تدل على أنها صارت مولاة له، بإسلامها على يده، وإن كان الواقع كذلك. فإن قيل: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ قلنا: كأنهم اعتقدوا أنهم إذا جمعوا بين البيانين، ثم قالوا: ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ [الآية 49] يعنون ما شهدناه وحده كانوا صادقين، لأنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله. فإن قيل: لم قال تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [الآية 65] ونحن نعلم الجنة والنار وأحوال القيامة، وكلّها غيب؟ قلنا: معناه لا يعلم الغيب بلا دليل إلا الله، أو بلا معلم إلا الله سبحانه، أو جميع الغيب إلا الله جلّ وعلا. وقيل معناه: لا يعلم ضمائر السماوات والأرض إلا الله. فإن قيل قوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [الآية 66] أو «أدرك» على اختلاف القراءتين، هل مرجع الضمير فيه وفي ما قبله واحد أم لا؟ وكيف مطابقة الإضراب لما قبله، ومطابقته لما بعده من الإضرابين؟ وكيف وصفوا بنفي الشعور ثم بكمال العلم، ثم بالشك، ثم بالعمى؟ قلنا: مرجع الضمير في قوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ [الآية 66] هو الكفّار فقط، وفيما قبله جميع من في السماوات والأرض، وقوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ معناه بل تتابع وتلا حق واجتمع كقوله تعالى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً [الأعراف: 38] وأصله تدارك، فأدغم التاء في الدال، وقوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ معناه بل كمل وانتهى. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد ما جهلوه في الدنيا علموه في الاخرة. وقال السعدي: يريد اجتمع علمهم يوم القيامة فلم يشكوا ولم يختلفوا. وقال مقاتل: يريد علموا في الآخرة ما شكوا فيه وعموا عنه في الدنيا، وقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها [الآية 66]

معناه بل هم اليوم في شك من الساعة بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) جمع عم وهو أعمى القلب. ومطابقة الإضراب الأول لما قبله، أن الذين لا يشعرون وقت البعث، لما كانوا فريقين: فريق منهم لا يعلمون وقت البعث مع علمهم أنه يوجد لا محالة، وهم المؤمنون وفريق منهم لا يعلمون وقته، لإنكارهم أصل وجوده. أفرد الفريق الثاني بالذكر بقوله تعالى بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [الآية 66] تأكيدا لنفي علمهم في الدنيا، كأنه تعالى قال: بل فريق منهم لا يعلمون شيئا من أمر البعث في الدنيا أصلا، ثم أضرب عن الإخبار بتتابع علمهم، وتلاحقه بحقيقة البعث في الاخرة، إلى الإخبار عن شكهم في الدنيا في أمر البعث والساعة، مع قيام الأدلّة الشرعية على وجودها لا محالة وأمّا وصفهم بنفي الشعور ثم بكمال العلم ثم بالشك، ثم بالعمى، فلا تناقض فيه، لاختلاف الأزمنة، أو لاختلاف متعلّقات تلك الأمور الأربعة، وهي الشعور والعلم والشك والعمى. فإن قيل: قضاء الله تعالى وحكمه واحد، فما معنى قوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ [الآية 78] وهو بمنزلة قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ [الآية 78] بقضائه أو يحكم بينهم بحكمه. قلنا معناه بما يحكم به وهو عدله المعروف المألوف، لأنه لا يقضي إلا بالحق والعدل، فسمى المحكوم به حكما. وقيل معناه بحكمته، ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمته، ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمه جمع حكمة. فإن قيل: لم قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [الآية 86] ولم تراع المقابلة بقوله تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً [الآية 86] فيه؟ قلنا: روعيت المقابلة المعنوية دون اللفظية، لأن معنى مبصرا ليبصروا فيه، وقد سبق ما يشبه هذا في قوله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الآية 59] . فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) مع أن في ذلك علامات على وحدانية الله تعالى لجميع العقلاء؟ قلنا: إنّما خصّهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون بها دون غير هم.

فإن قيل: لم قال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ [الآية 87] ولم يقل فيفزع، وهو أظهر مناسبة؟ قلنا: أراد بذلك الإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة، لأن الفعل الماضي يدل على الثبوت والتحقّق قطعا. فإن قيل: لم قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) أي صاغرين أذلاء بعد البعث، مع أن النبيّين والصّدّيقين والشهداء يأتونه عزيزين مكرمين؟ قلنا: المراد به صغار العبودية والرّق وذلّهما لا ذلّ الذنوب والمعاصي، وذلك يعم الخلق كلهم ونظيره قوله تعالى إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) [مريم] .

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"النمل"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النمل» «1» قوله تعالى: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً [الآية 7] ، وهذه استعارة على القلب. والمراد بها، والله أعلم، إنّي رأيت نارا فآنستني فنقل فعل الإيناس إلى نفسه على معنى: وإنّي وجدت النار مؤنسة لي، كما سبق من قولنا في تأويل قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا [الكهف: 28] أي وجدناه غافلا، على بعض الأقوال. وقريب من ذلك قوله تعالى: وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الأعراف: 51] ولم تغرّهم هي، وإنما اغتروا بها هم فلما كانت سببا للغرور، حسن أن ينسب إليها ويناط بها. وحقيقة الإيناس، هي الإحساس بالشيء من جهة يؤنس بها وما أنست به، فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه. وقوله سبحانه حاكيا عن ملكة سبأ: ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) . وهذه استعارة. والمراد بقطع الأمر، والله أعلم، الرجوع بعد إجالة الآراء، ومخض الأقوال إلى رأي واحد يصحّ العزم على فعله، والعمل عليه دون غيره، تشبيها بالإسداء والإلحام في الثوب النسيج، ثم القطع له بعد الفراغ منه. فكأنها أجالت الرأي عند ورود ما ورد عليها من دعاء سليمان (ع) لها إلى الإيمان به،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

والاتباع له، فميّلت «1» بين الامتناع والإجابة، والمخاشنة والملاينة. فلما قوي في نفسها أمر الملاطفة عزمت على فعله، فحسن أن يعبّر بقطع الأمر، لما أشرنا إليه. وعلى هذا قول الرجل لصاحبه: لا أقطع أمرا دونك. أي لا أقرر العزم على شيء حتّى أفاوضك فيه، وأوافقك عليه. وقد يجوز أن يكون ذلك كناية عن الاستعجال بفعل الأمر، تشبيها بسرعة قطع الشيء المستدق كالحبل وغيره. ومنه قولهم: صرم الأمر. أي فرغ من فعله بسرعة. والصّريمة من ذلك. وفصل الأمر أيضا قريب منه. وقوله سبحانه: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [الآية 40] . وهذه استعارة: لأن المراد بارتداد الطّرف هاهنا التقاء الجفنين بعد افتراقهما. وذلك أبلغ ما يوصف به في السرعة. وليس هناك على الحقيقة شيء ذهب عنه، ثمّ رجع إليه. ولكن جفن العين لمّا كان ينفتح وينطبق، أقام الانفتاح مقام الخروج، والانطباق مقام الرجوع. وقيل: في ذلك وجه آخر، وهو أنّ في مجرى عادة الناس، أن يقول القائل لغيره، إذا كان على انتظار أمر يرد عليه من جهته: أنا ممدود الطرف إليك، وشاخص البصر نحوك. فإذا كان امتداد الطرف بمعنى الانتظار مستعملا، جاز أن يجعل ارتداده عبارة عن زوال الانتظار. فكأنه قال: أنا آتيك به قبل أن تتكلّف أمر انتظار، وتعدّ الأوقات. والقول الأول أولى بالاعتماد، وأخلق بالصواب. وقوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وهذه استعارة. لأن العمى هنا ليس يراد به فقد الجارحة المخصوصة، وإنّما يراد به التعامي عن الحق، والذهاب صفحا عن النظر والفكر، إمّا قصدا وتعمّدا، أو جهلا وعمّى. وإنّما أجري الجهل مجرى العمى في هذا المعنى، لأن كل واحد منهما يمنع بوجوده من إدراك الشيء على ما هو به. إذ الجهل مضادّ للعلم والمعرفة، والعمى مناف للنظر والرؤية. وإنّما قال

_ (1) . ميّلت: أي شكّت، انظر القاموس المحيط، مادة ميل.

سبحانه: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ ولم يقل: «عنها» ، لأن المراد أنهم يشكّون فيها، ويمترون في صحّتها، فهم في عمّى منها: ولا يصلح أن يكون، في هذا الموضع، «عنها» لأنه ليس المراد ذكر عماهم عن النظر إليها، وإنما القصد ذكر عماهم بالشك فيها. وهذا من لطائف المعاني. وقوله سبحانه: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وهذه استعارة: لأن حقيقة الرّدف هي حمل الإنسان غيره مما يلي ظهره على مركوب. فالمراد بقوله سبحانه: رَدِفَ لَكُمْ هاهنا، والله أعلم، أي عسى أن يكون العذاب الذي تتوقعونه قرب منكم، وهو في آثاركم ولا حق بكم. وقد قيل أيضا إن المراد ب «ردف لكم» هو: ردفكم. فصار العذاب في الالتصاق بكم كالمرادف لكم. والمعنى واحد. وقوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وهذه استعارة. لأن القصص كلام مخصوص، ولا يوصف به إلا الحيّ الناطق المميّز. ولكن القرآن لمّا تضمّن نبأ الأوّلين، ومصادر أمور الآخرين كان كأنّه يقصّ على من آمن به عند تلاوته له، قصص من تقدّمه.

سورة القصص

سورة القصص

المبحث الأول أهداف سورة"القصص"

المبحث الأول أهداف سورة «القصص» «1» سورة القصص سورة مكّيّة، وعدد آياتها 88. نزلت بعد سورة النّمل، وكان نزولها في الفترة المكّيّة الأخيرة، فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء. وقد سمّيت بسورة القصص، لاشتمالها على القصص الذي حكاه موسى (ع) لنبي الله شعيب (ع) في قوله سبحانه: فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) . قصة موسى تستغرق قصة موسى (ع) ، حيّزا كبيرا من سورة القصص، فمن بداية السورة إلى الآية 48، نجد حديثا مستفيضا عنه. وفي الآيات [75- 82] نجد حديثا عن قارون، أي أنّ معظم سورة القصص، يتناول قصة موسى (ع) ، ويتناول قصة قارون. والحكمة في ذلك، أنّ هذه السورة نزلت في مكّة، في مرحلة قاسية، كان المسلمون فيها قلّة مستضعفة، والمشركون أصحاب الحول والطّول والجاه والسلطان فنزلت هذه السورة تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم وتقرّر أنّ هناك قوة واحدة في هذا الوجود، هي قوة الله سبحانه وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون، هي قيمة الإيمان فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه،

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

موسى في سن الرجولة

ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة، ولو ساندته القوى جميعا. ويقوم كيان سورة القصص على قصّة موسى (ع) وفرعون وتعرض السورة، من خلال هذه القصة، قوّة فرعون الطاغية المتجبّر اليقظ الحذر، وفي مواجهتها موسى طفلا رضيعا، لا حول له ولا قوّة، ولا ملجأ له ولا وقاية. وقد علا فرعون في الأرض، واتّخذ أهلها شيعا، واستضعف بني إسرائيل، يذبّح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، وهو على حذر منهم، قابض على أعناقهم. لكنّ قوة فرعون وجبروته وحذره ويقظته، لا تغني عنه شيئا، بل لا تمكّن له من موسى الطفل الصغير المجرّد من كلّ قوّة وحيلة. وهو في حراسة القوّة الحقيقية الوحيدة، ترعاه عين العناية، وتدفع عنه السوء، وتعمي عنه العيون، وتتحدى به فرعون وجنده، تحدّيا سافرا، فتدفع به إلى حجره، وتدخل به عليه عرينه، بل تقتحم به عليه قلب امرأته، وهو مكتوف اليدين إزاءه، مكفوف الأذى عنه، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه. لقد طمعت آسية (ع) ، أن يكون موسى (ع) وليدا لها، تتبنّاه مع زوجها فرعون، فقالت لفرعون كما ورد في التنزيل: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) . وهكذا دبّر الله، سبحانه، أن يتربّى موسى (ع) في بيت فرعون، وأن يؤتى الحذر من مكمنه ولمّا حرّم الله تعالى المراضع على موسى، جاءت أمه كمرضع له، وأرضعته في بيت فرعون، وصار فرعون يجري عليها كلّ يوم دينارا من الذهب، وفي الحديث يقول النبي (ص) : «مثل المؤمن كأمّ موسى ترضع ولدها، وتأخذ أجرتها» «1» . موسى في سنّ الرجولة بلغ موسى (ع) أشدّه، واستكمل نيّفا

_ (1) . أي: المؤمن يعبد الله، فيستفيد من العبادة نظافة القلب، وثقة النفس، وثبات اليقين، وهدوء البال، وصحة الجسم والروح. ثم ينال ثواب العبادة، في جنّة عرضها السماوات والأرض، يوم القيامة. وبذلك ينال أجره مضاعفا: مرّة في الدنيا، ومرّة في الاخرة.

موسى مع فرعون

وثلاثين عاما، وقد صنعه الله سبحانه على عينه، فصار يتأمّل في هذا الكون، ويبتعد عن حاشية فرعون ودخل العاصمة في فترة الظهيرة، فرأى قبطيّا يعمل طبّاخا في قصر فرعون، يتشاجر مع إسرائيليّ «1» فاستغاث به الإسرائيلي، فضرب موسى القبطيّ بجمع يده، فوقع جثّة هامدة وندم موسى على ذلك، واستغفر الله وتاب إليه. وتربّص قوم فرعون بموسى (ع) ليقتلوه، فانتدبت يد القدرة واحدا منهم، يكتم إيمانه عنهم، وجاء لموسى، وقال له كما ورد في التنزيل: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) . خرج موسى (ع) هاربا، مهاجرا، متّجها إلى أرض مدين، وحيدا، فريدا، فآواه الله ورعاه وتعرّف هناك على نبي الله شعيب (ع) وتزوّج بابنته، ومكث هناك عشر سنين ثمّ عاوده الحنين إلى مصر، فجاء إليها عبر سيناء، وعند الشجرة المباركة، ناداه لله أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين، وامتنّ الله سبحانه عليه بالرسالة، وأيّده بالمعجزات. موسى مع فرعون عاد موسى إلى فرعون مرّة أخرى، يدعوه إلى الإيمان بالله ويقدّم له الأدلّة العقلية، والمعجزات الظاهرة. ولكنّ فرعون طغى وتجبّر، وكذّب، وعصى، فأهلكه الله، وأخذه نكال الاخرة والأولى، إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى. الحلقة الجديدة في القصة عنيت سورة القصص، بإبراز حلقة ميلاد موسى (ع) وتربيته في بيت فرعون وهي حلقة جديدة في القصّة، تكشف عن تحدّي القدرة الإلهية للطغيان والظلم، وفيها يتجلّى عجز قوّة فرعون وحيلته وحذره، عن دفع القدر المحتوم، والقضاء النافذ. لقد ولد موسى (ع) في ظروف قاسية في ظاهرها، فصاحبته رعاية الله وعنايته، في رضاعه وفي نشأته وفتوّته،

_ (1) . نسبة إلى نبي إسرائيل في زمن موسى (ع) .

قارون

وصنعه الله على عينه وهيّأه للرسالة وإذا أراد الله أمرا هيّأ له الأسباب، ثمّ قال له: كن فيكون. قارون ذكرت سورة القصص، قصة موسى (ع) في بدايتها، وقصة قارون في نهايتها، والهدف واحد: فقصة فرعون تمثّل طغيان الملك، وقصة قارون تمثّل طغيان المال. كان قارون من قوم موسى (ع) ، وكان غنيّا ذا قدرة ومعرفة، وأوتي من المال ما إنّ مفاتحه لتنوء بها العصبة من الرجال الأقوياء، وخرج على قومه في زينته وأبّهته، ليكسر قلوب الفقراء ونصحه قومه بالاعتدال، وإخراج الزكاة، والإحسان إلى الناس، والابتعاد عن الفساد. فزادته النصيحة تيها وعلوّا، وخرج يباهي النّاس بماله وكنوزه، ثمّ تدخّلت يد القدرة الإلهية، فخسفت به وبداره الأرض، ولم يغن عنه ماله ولا علمه. وهكذا تكون عاقبة الظالمين. وكما غرق فرعون في البحر، هلك قارون خسفا في الأرض، ولا تزال بحيرة قارون، تذكّر الناس بنهاية الظالمين، قال تعالى: وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) [العنكبوت] . أهداف السورة تهدف سورة القصص، إلى إثبات قدرة الله تعالى، ورعايته للمؤمنين فهو، سبحانه، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، المتفرّد بالحكم والقضاء، قد آزر موسى وحيدا، فريدا، طريدا، ونجّاه من بطش فرعون، وأغرق فرعون وجنوده، كما أهلك قارون وقومه. وبين القصّتين نجد الآيات [44- 75] تعقّب على قصة موسى (ع) ، وتبيّن أين يكون الأمن، وأين تكون المخافة. وتجول مع المشركين، الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير، تجول معهم

ختام السورة

جولات شتّى في مشاهد الكون، وفي مشهد الحشر، وفيما هم فيه من الأمر، بعد أن تعرض عليهم دلائل الصدق فيم جاءهم به رسولهم (ص) ، وكيف يتلقّاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين، بينما هم يتلقّونه بالكفران والجحود، وهو رحمة لهم من العذاب، لو أنهم كانوا يتذكّرون. ختام السورة في ختام السورة، نجد الآيات [85- 88] ، تعد الرسول (ص) بالرجوع إلى مكة، فاتحا، منتصرا، ينشر الهدى، ويقيم الحق والعدل ومن العجيب: أنّ هذا الوعد بالنصر، جاءه وهو يخرج من بلده، يطارده قومه، مهاجرا إلى المدينة، ولمّ يبلغها بعد فقد كان بالجحفة قريبا من مكّة، قريبا من الخطر، يتعلّق قلبه وبصره ببلده الذي يحبّه، ويقول عند فراقه مخاطبا مكّة: «والله إنّك لمن أحبّ البلاد إليّ، ومن أحبّ البلاد إلى الله، ولولا أنّ قومك أخرجوني منك ما خرجت» . ويعده الله بالرجوع إلى مكة، فيقول تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [الآية 85] . ويبيّن سبحانه، أنّ كل ما دون الحق فهو عرضة للفناء والزوال، وأنّ زمام الحكم بيده تعالى. وتختم السورة بهذه الآية، إثباتا للوحدانية، ولجلال القدرة الإلهية: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"القصص"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القصص» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة القصص بعد سورة النمل، وقد نزلت سورة النمل فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة القصص في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لأنه جاء في قوله تعالى في الآية [25] منها: فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ وتبلغ آياتها ثماني وثمانين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة: التنويه بشأن القرآن أيضا، ولهذا ذكرت بعد السورة السابقة، وقد فصّل في أولها ما أجمل في السورة السابقة من قصة موسى (ع) ، وجاء آخرها في الاحتجاج بها على أن القرآن من عند الله، وفي دفع ما عندهم من شبه عليه. التنويه بشأن القرآن الآيات [1- 42] قال الله تعالى طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) فنوّه بشأن القرآن وشأن ما يتلى فيه من هذه القصة ثمّ ذكر أنّ فرعون علا في الأرض، واستضعف بني إسرائيل، يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم وأنه تعالى أراد أن يمنّ عليهم، ويجعل منهم أنبياء

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

وملوكا، ويري فرعون وقومه ما كانوا يخافونه منهم، فأظهر فيهم موسى (ع) ، وأوحى إلى أمّه أن ترضعه، وأمرها، إذا خافت عليه من الذبح، أن تضعه في تابوت، وتلقيه في اليمّ، وطمأنها بأنه سيحفظه، ويردّه إليها لتقوم برضاعه فلما ألقته في اليمّ، سار به إلى أن التقطه آل فرعون، ففرحت به امرأته ومنعتهم من قتله، وأرادت أن تربّيه، عسى أن ينفعهم أو يتّخذوه ولدا ثم ذكر سبحانه أنّ أمّ موسى حزنت عليه، وأرسلت أخته وراءه، فرأت عن بعد ما فعلوه به، وأنه لم يقبل الرّضاع من المراضع. فتقدّمت أخته لتدلّهم على مرضع تكفله وتنصح له، فدلّتهم على أمّه، فردّ إليها لتقرّ عينها به، ولتعلم أنّ وعد الله حق. ثم ذكر سبحانه أنه لما بلغ أشدّه آتاه حكمة وعلما، وأنّه دخل المدينة يوما فوجد رجلا من قوم فرعون يعتدي على رجل من بني إسرائيل، فاستغاثه الإسرائيليّ على عدوّه، فوكزه فقضى عليه. ولم يكن موسى يقصد قتله لكنه وقع خطأ منه، فندم عليه، وطلب من الله أن يغفر له. ثم ذكر سبحانه أن موسى (ع) أصبح في المدينة خائفا أن يظهر أنه القاتل، فإذا الإسرائيلي الذي استغاثه بالأمس يستغيثه على رجل آخر من قوم فرعون يعتدي عليه، فلما أراد أن يبطش به، قال له، كما ورد في التنزيل يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) ثمّ ذكرت السورة أنّ رجلا جاء من أقصى المدينة يسعى، فأخبر موسى بأن القوم يأتمرون به ليقتلوه، وأمره أن يخرج من المدينة قبل أن يقبضوا عليه. فخرج موسى من المدينة، وتوجّه تلقاء مدين، إلى أن ورد ماءها، فوجد عليه ناسا يسقون أغنامهم، ووجد من دونهم امرأتين تذودان أغنامهما، فسألهما عن أمرهما، فأخبرتاه بأنهما لا يسقيان حتى يصدر الرّعاء لضعفهما، وأنّ أباهما شيخ كبير لا يقوى على رعي الغنم وسقيها، فسقى لهما، ثمّ ذهب إلى ظلّ شجرة، ودعا الله أن يرزقه خيرا من عنده ثم ذكر أنّ إحداهما جاءته بعد أن رجعتا بأغنامهما إلى أبيهما، تمشي على استحياء، فأخبرته بأنّ أباها يدعوه ليجزيه على ما فعله معهما، فذهب إليه، وقصّ عليه ما حصل منه في مدينة فرعون، فقال له، كما ورد في التنزيل:

إثبات تنزيل القرآن الآيات [43 - 88]

لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) ثم ذكر تعالى، أنّ إحدى ابنتيه طلبت منه أن يستأجره، لقوّته وأمانته، فأخبره بأنه يريد أن ينكحه إحدى ابنتيه، على أن يعمل له ثماني سنين، فإن أتمّها عشرا كان فضلا منه، فرضي موسى (ع) على أنه إذا قضى أحد الأجلين، لم يكن له أن يعتدي عليه بطلب الزيادة ثم ذكر سبحانه، أن موسى (ع) لما قضى الأجل، وسار بأهله إلى مصر، آنس نارا بجانب الطور حينما وصل إليه، فأمر أهله أن يمكثوا ليذهب إليها ثم ذكر أنه حين أتاها ناداه ربّه وأعطاه آيتين ليذهب بهما إلى فرعون وقومه، فذكر له موسى (ع) أنه قتل منهم نفسا، ويخاف أن يقتلوه بها، وطلب منه أن يرسل معه أخاه هارون، لأنه أفصح منه لسانا، فأرسل أخاه هارون معه، ووعده بالغلبة عليهم فلمّا جاءهم بآياته، زعموا أنها سحر مفترى، وأنهم لم يسمعوا ما يدعو إليه في آبائهم الأوّلين فذكر لهم أنّ ربّه أعلم بمن جاء بالهدى من عنده، ومن تكون له عاقبة الدنيا، فناداهم فرعون أنه لا يعلم لهم إلها غيره، وأمر هامان أن يوقد له على الطين، ويبني له صرحا لعلّه يطّلع إلى إله موسى، ليبيّن لهم- في زعمه- كذبه في دعواه أن له إلها غيره واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق، وظنّوا أنّهم لا يرجعون إليه تعالى فأخذهم، فأغرقهم في اليمّ، وجعلهم أئمّة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) . إثبات تنزيل القرآن الآيات [43- 88] ثمّ قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) فذكر، سبحانه، أنه آتى موسى التوراة، من بعد أن أهلك القرون الأولى، من قوم فرعون وغير هم، وأن النبي (ص) لم يكن حاضرا، حينما ألقى إلى موسى وحي التوراة بالجانب الغربي من الطّور، وأنه لم يكن ثاويا في أهل مدين، حينما كان فيها موسى، وأنه لم يكن بجانب الطور إذ نودي موسى به ولكنّه سبحانه، هو الذي أوحى إليه بما لم يشاهده من ذلك كلّه، لينذر به قومه الذين لم يأتهم نذير من قبله، حتى لا

يكون لهم عذر، إذا أصابتهم مصيبة، بما قدّمته أيديهم. ثم ذكر تعالى، أنّهم لمّا جاءهم القرآن بذلك آية لهم، طلبوا أن يؤتى النبي (ص) مثل آيات موسى (ع) وردّ عليهم، بأنّ أسلافهم كفروا بما أوتي موسى (ع) منها، وزعموا أنّه ساحر هو وأخوه هارون (ع) ، وأمرهم بأن يأتوا بكتاب أهدى من التوراة والقرآن، ليتّبعه ويهدي به، فإذا لم يستجيبوا له ولم يؤمنوا فهم قوم يتّبعون أهواءهم، ومن يتّبع هواه لا ترجى هدايته ثم ذكر سبحانه أن الذين أوتوا الكتاب من قبله، يؤمنون به، لأنّه يوافق ما كانوا عليه من الإيمان من قبله. ووعدهم بأن يؤتيهم أجرهم مرتين، على إيمانهم السابق واللاحق وذكر تعالى أن الرسول (ص) لا يمكنه أن يهدي من أحبّ من قومه، لأن الهداية بيده سبحانه، وحده. ثم ذكر لهم سبحانه شبهة ثانية: أنهم إن اتبعوا ما نزّل عليه من الهدى، يتخطّفهم الناس من أرضهم، وردّ عليهم بأنه لا خوف عليهم من ذلك، لأنه مكّن لهم في حرم يأمن فيه الخائف، يجبى إليه ثمرات كلّ شيء، وبأن عدم إيمانهم، هو الذي يخاف عليهم منه، لأنه يؤدّي إلى إهلاكه لهم، كما أهلك القرى التي بطرت معيشتها قبلهم، وبأنهم إذا فاتهم بإيمانهم شيء من الدنيا، فما عند الله خير وأبقى منه لأنه لا يمكن أن يكون من وعده وعدا حسنا في الاخرة، فهو لاقيه كمن يمتّعه متاع الدنيا، ثم يحضره يوم القيامة فيناديهم أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الآية 62] . ويأمرهم بأن يدعوهم فلا يستجيبون لهم، ثم يناديهم: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [الآية 65] ، فيعيون بالكلام ولا ينطقون فأمّا من تاب من الكفر، وعمل صالحا، فإنه يكون من المفلحين. ثم ذكر جلّ وعلا أنه يفعل ذلك بقدرته واختياره فيثيب من يشاء، ويعذّب من يشاء، وليس لهم اختيار مع اختياره وأنه يعلم ما تكنّه صدورهم، وما يعلنونه، فيحاسبهم عليه حسابا عادلا إلى غير هذا ممّا ذكره من آثار قدرته وعظمته ورحمته، ثم عاد السّياق إلى ما ناداهم به تعالى، أوّلا: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وذكر سبحانه، أنه يحضر من كلّ أمة شهيدا عليهم من الرسل، الذين بلّغوهم رسالاتهم، وأنه يأمرهم أن يأتوا

ببرهانهم على أنّ الشّركاء آلهة، وأنهم يعلمون حينئذ، أن الحق لله فلا يحاولون شيئا. ثم أراد أن يهوّن عليهم ما يخافون عليه من دنياهم، إذا آمنوا به فذكر لهم أن قارون كان من قوم موسى (ع) ، فبغى عليهم، وأنه جلّ وعلا آتاه من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بها العصبة أولو القوة، وأنّ قومه نهوه أن يفرح بذلك، ويغترّ به وأنّ قارون ذكر لهم، أنه أوتيه على علم عنده، ولا فضل لأحد عليه، إلى غير هذا ممّا دار بينه وبينهم، ثم ذكر أنه خسف به وبداره الأرض، فلم يغن عنه أحد شيئا، وذهب ما أوتيه في الدنيا، وكأن لم يكن ثم عظّم شأن الاخرة، وذكر سبحانه أنه يجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا وأنّه، جلّت قدرته، يحاسبهم فيها على الحسنة بخير منها، وعلى السيّئة بمثلها. ثم ختم السورة بتبشير النبي (ص) ، وأمره بالصبر على تكذيبهم بالقرآن فذكر له أنه هو الذي فرض عليه أحكامه، وأنه سيردّه إلى معاد ينصره فيه عليهم، وهو أعلم بمن جاء بالهدى، ومن هو في ضلال، فيجازيهم على وفق علمه ثم ذكر له أنه ما كان يرجو أن ينزّل عليه القرآن، ولكنّ رحمته هي التي آثرته به، فيجب أن يشكره عليه، بعدم التأثّر بما يقترحه عليه المشركون من الآيات الأخرى: وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"القصص"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القصص» «1» أقول: ظهر لي بعد الفكرة: أنه سبحانه، لما حكى في سورة «الشعراء» قول فرعون لموسى: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ [الشعراء] ، إلى قول موسى (ع) كما ورد في سورة نفسها: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) ، ولما حكى، سبحانه، قول موسى لأهله، كما ورد في سورة «النمل» : إِنِّي آنَسْتُ ناراً [النّمل: 7] ، وكان ذلك على سبيل الإشارة والإجمال، بسط في هذه السورة ما أو جزه في السورتين، وفصّل ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما. فبدأ بشرح تربية فرعون لموسى، وبيّن: علوّ فرعون، وذبح أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عند ولادته في اليم، خوفا عليه من الذبح وبسط القصة في تربيته، وما وقع فيها إلى كبره إلى السبب الذي من أجله قتل القبطي، والموجب لفراره إلى مدين «2» إلى ما وقع له مع شعيب (ع) ، وتزوّجه بابنته، إلى أن سار بأهله، وآنس من جانب الطور نارا، فقال لأهله كما ورد في التنزيل: امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً [الآية 29] إلى ما وقع له فيها من المناجاة لربّه،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . مدين: مدينة قوم شعيب (ع) ، وهي تجاه تبوك، على بحر القلزم، وبها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب (مراصد الاطّلاع 3: 1246) . [.....]

وبعثه إياه رسولا، وما استتبع ذلك، إلى آخر القصة. فكانت السورة شارحة لما أجمل في السورتين معا، على الترتيب. وبذلك عرف وجه الحكمة في تقديم سورة «النمل» على هذه، وتأخيرها عن سورة «الشعراء» ، فلله الحمد على ما ألهم.

المبحث الرابع مكنونات سورة"القصص"

المبحث الرابع مكنونات سورة «القصص» «1» 1- فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ [الآية 8] . اسم الملتقط، قيل: طابوث «2» . وقيل: هي امرأة فرعون. وقيل: ابنته. قلت أخرج ابن أبي حاتم الثالث عن أبي عبد الرحمن الحبلي «3» . 2- وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ [الآية 9] . اسمها: آسية بنت مزاحم. أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو. 3- أُمِّ مُوسى [الآية 10] قال البغوي: «أم موسى» : يوخابذ بنت لاوي بن يعقوب. وكذا قال ابن الجوزي في «التبصرة» «4» . وقيل: ياوخا. وقيل: يارخت «5» . 4- وَقالَتْ لِأُخْتِهِ [الآية 11] . قال ابن عساكر: اسمها مريم «6» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . في الإتقان 2: 147 «طابوس» بالسين. (3) . أبو عبد الرحمن الحبلي، هو من تابعي أهل مصر، يروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره. «الأنساب» للسمعاني 4: 50. (4) . العبارة جاءت في «الإتقان» 2: 147 كما يلي: «أمّ موسى: يوحانذ بنت يصهر بن ولاوي» . (5) . العبارة في «الإتقان» : وقيل: يوخا. وقيل: اباذخت» . (6) . جاء ذلك في رواية أخرجها ابن عساكر عن أبي روّاد، وأخرى عن أبي أمامة رضي الله عنه، أخرجها ابن عساكر والطبراني كما في «الدر المنثور» 5: 121.

وقيل: كلثوم «1» . 5- وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ [الآية 15] . هي منف «2» ، من أرض مصر. أخرجه ابن أبي حاتم «3» عن السّدّيّ. 6- عَلى حِينِ غَفْلَةٍ [الآية 15] . قال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة: نصف النهار. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. وأخرج من وجه آخر «4» عن ابن عبّاس قال: ما بين المغرب والعشاء. 7- فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ [الآية 15] . الإسرائيلي: هو السامري. والقبطي: هو فاتون. حكاه الزمخشري «5» . 8- وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ [الآية 20] . قال الضّحّاك: هو مؤمن آل فرعون. وقال شعيب الجبائي: اسمه شمعون. وقال ابن إسحاق: شمعان «6» . أخرجهما ابن أبي حاتم. قال السّهيلي: وشمعان أصحّ ما قيل فيه. قال الدّارقطني: لا يعرف شمعان بالمعجمة، إلّا مؤمن آل فرعون. وفي «تاريخ الطبري» أن اسمه: جبر «7» ، وقال بعضهم: حبيب وقيل: حزقيل. 9- وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ [الآية 23] . هما: ليّا، وصفوريا «8» وهي التي نكحها. أخرجه ابن أبي حاتم، عن شعيب الجبائي. قال: وقيل: شرفا

_ (1) . انظر «الإتقان» 2: 147. (2) . كذا ضبطها ياقوت الحموي في «معجم البلدان» 5: 213. (3) . وابن جرير في «تفسيره» 2: 28. (4) . انظر «تفسير الطّبري» 20: 29. (5) . في كتابه «الكشّاف» 3: 160. (6) . في «تاج العروس» 5: 403 مادة: (شمع) نقلا عن شعيب الجبائي: «شمعان» . (7) . في «تفسير الطّبري» 20: 40 «حبر» . (8) . كذا في الأصول وفي «تفسير الطبري» 20: 39، 40: «صفورا» . [.....]

وأبو هما شعيب (ع) عند الأكثر. وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس: أنه بلغه أن شعيبا (ع) ، هو الذي قصّ عليه موسى القصص. وأخرج عن الحسن قال: يقولون شعيب، وليس بشعيب ولكنه سيّد أهل «1» الماء يومئذ. وأخرج عن أبي عبيدة قال: هو يثرون، ابن أخي «2» شعيب. وأخرج ابن جرير «3» عن ابن عباس: أن اسمه يثرى. 10- ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ [الآية 24] . هو ظل سمرة «4» . أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود «5» . 11- فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ «6» . قيل: هو بحر يسمّى راسافا من وراء مصر. حكاه ابن عساكر. 12- وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [الآية 57] . قائل ذلك: الحارث بن عامر بن نوفل. أخرجه النّسائي عن ابن عبّاس. 13- أَفَمَنْ وَعَدْناهُ [الآية 61] . أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: نزلت في حمزة وعلي «7» وأبي جهل. 14- ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ [الآية 76] . أخرج الدّينوري» في «المجالسة» عن خيثمة قال: قرأت في الإنجيل، أنّ

_ (1) . زيادة من «تفسير الطّبري» 20: 40. (2) . كذا في «تفسير الطّبري» 20: 40. (3) . 20: 40. (4) . سمرة: واحدة السّمر، وهو شجر الطلح، ينبت في البوادي ولا ثمر له. (5) . «الطّبري» 20: 37 عن السّدّيّ لا ابن مسعود، وكذا في «الطّبري» ط الحلبي 20: 58. ولعل ما أثبته المؤلف جاء في نسخته من «الطّبري» والله أعلم. (6) . لفظ: فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ من سورة الأعراف [الآية 136] . والذي هنا في سورة القصص: فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ [الآية 40] . (7) . زيادة من «تفسير ابن جرير» 20: 62. (8) . الدّينوري: هو أحمد بن مروان المالكي، أبو بكر، من رجال الحديث المتّهمين بوضع الحديث، ولي قضاء أسوان، وتوفي بالقاهرة سنة 333 هـ.

مفاتيح كنوز قارون وقر «1» ستّين بغلا، كلّ مفتاح على قدر إصبع، لكل مفتاح منها كنز. 15- لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [الآية 85] . قال مجاهد والضّحّاك: يعني مكّة «2» . وقال نعيم القاري: بيت المقدس. وقال ابن عبّاس وغيره: القيامة. أخرجها ابن أبي حاتم «3» .

_ (1) . الوقر: الحمل أي ما يستطيع البعير حمله. (2) . أخرجه البخاري (4773) في التفسير، عن ابن عبّاس موقوفا. (3) . وفي «فتح الباري» 8: 510: «وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: كان ابن عبّاس يكتم تفسير هذه الآية وروى الطّبري من وجه آخر عن ابن عبّاس قال [قوله تعالى] : لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي: إلى الجنة، وإسناده ضعيف، ومن وجه آخر قال: «إلى الموت» ، وأخرجه ابن أبي حاتم وإسناده لا بأس به ومن طريق مجاهد قال: «يحييك يوم القيامة» ، ومن وجه آخر عنه: «إلى مكّة» . وقال عبد الرزاق، قال معمر: وأما الحسن والزّهري فقالا: هو يوم القيامة وروى أبو يعلى، من طريق أبي جعفر محمد بن علي، قال: سألت أبا سعيد عن هذه الآية، فقال: معاده آخرته. وفي إسناده جابر الجعفيّ، وهو ضعيف.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"القصص"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «القصص» «1» 1- وقال تعالى: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ [الآية 4] . وقوله تعالى: يُذَبِّحُ فعل مضاعف، والغرض من التضعيف الاستفظاع، وقوله تعالى: وَيَسْتَحْيِي، أي: يستبقي النساء على قيد الحياة، ولا يقتلهنّ. أقول: والاستحياء على هذا معنى غريب، لا نعرفه الآن، ولم نعرفه إلا في هذه اللغة الشريفة. 2- وقال تعالى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ [الآية 12] . والمراضع جمع مرضع، وهي المرأة التي ترضع. وقالوا: جمع مرضع، وهو موضع الرضاع، أي: الثدي. والمرضع التي معها رضيع كالمرضعة، ومثلها المطفل وهي ذات الطّفل. وعلى هذا يصحّ أن يأتي «مفاعل» جمعا لمفعل ومفعلة، وبهذا يصحّ جمع مشكلة مشاكل، خلافا لأهل التصحيح في جعلهم «مشاكل» من الخطأ. 3- وقال تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [الآية 15] . وقوله تعالى: فَوَكَزَهُ، أي دفعه بأطراف الأصابع، وقيل: بجمع الكف. أقول: وينبغي أن ننظر إلى الأفعال: لكز، ولقز، ونكز، ووكز فكلّها تتضمن معنى الدفع، بهيئة خاصة. وإذا كان لنا أن نقرّب بين هذه

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

الأصوات، وتشابه الدلالات التي جاءت في الأفعال كان لنا أيضا أن ننظر في: نسق ووسق، ونفر وأفر ووفر. 4- وقال تعالى: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما [الآية 19] . أقول: جاءت «أن» المفتوحة الهمزة زائدة بعد «لما» وهي كقوله تعالى: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ [يوسف: 96] . وإذا زيدت «أن» بعد «لمّا» فقد زيدت «إن» المكسورة الهمزة بعد «ما» النافية، وهذا ما لم نقف على شاهد له في لغة التنزيل، وقد استدل عليه النحاة في قول النابغة: ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه إذن فلا رفعت سوطي إليّ يدي وقد زيدت، قبل الاسم، في بيت لفروة بن مسيك، أو لعمرو بن قعاس، ونسب إلى الكميت، وهو: فما إن طبّنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا وقول الشاعر: بني غدانة ما إن أنتم ذهبا ولا طريفا ولكن أنتم الخزف وهذه الأبيات من شواهدهم التي نجدها في عامّة كتبهم. وتزاد «إن» المكسورة الحقيقية في مواضع أخرى، ذكرها ابن هشام في «المغني» ، وليس من همنا في هذا الموضع استيفاؤها. وقد عرضت لزيادة «إن» هذه، وهي ليست موضعا في لغة التنزيل، بسبب الخطأ الذي يعرض للمعربين في عصرنا، فيجعلونها «أن» مفتوحة الهمزة، وهي زائدة زيادة «أن» بعد «لما» موضع بحثنا هذا فيقولون: وما أن حضر الرئيس حتى عزفت الموسيقى. والصحيح الفصيح: وما إن حضر ... ، بكسر الهمزة. 5- وقال تعالى: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) . أقول: جاءت «تلقاء» مصدرا في اللغة ليس على فعله، وذلك لأنّه مكسور التاء، والمصادر كلها المبدوءة بتاء تكون مفتوحة التاء، كالتجوال والتطواف وغير هما إلا تلقاء وتبيان فإنهما مكسوران. أما تلقاء هذه التي وردت في الآية،

فهي ظرف مكان، والمعنى: ولما توجّه نحو مدين ... أقول: وليس لنا هذا الاستعمال في العربية المعاصرة، أي: كونها ظرفا. والذي نعرفه من «تلقاء» أنها مصدر، يستعمل نحو قولهم مثلا: واعترف من تلقاء نفسه، أي: أنه اعترف من دون إكراه أو إجبار أو شيء آخر. 6- وقال تعالى: حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ [الآية 23] . أقول: والرّعاء جمع راع، وهو من الجموع العزيزة في عصرنا، ذلك أنّنا لا نعرف إلا «الرّعاة» في العربية المعاصرة. ومفعول «يصدر» محذوف، تقديره: ماشيتهم. 7 وقال تعالى: قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [الآية 35] . والمعنى: سنقوّيك به، ونعينك. ويقال: شدّ الله في عضدك وضدّه: فتّ الله في عضدك. والعضد: الساعد من المرفق إلى الكتف. أقول: وقد أفادت العربية من العضد في هذا المعنى، فقالوا: عضد يعضد، بمعنى أعان وأيّد. والإفادة من أعضاء الجسم في توليد المعاني كثيرة، فقالوا: أيّد من اليد، وأنف من «الأنف» ، وفاه من «فوه» ، وعاين من «العين» ، وغير ذلك كثير. 8- وقال تعالى: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ [الآية 47] . أقول: جاءت «لولا» أداة تحضيض، مثل «هلّا» ، فاستحقّت الفعل بعدها. وهذه من الأدوات التي افتقدناها في العربية المعاصرة، على أنّ استعمالها كثير على هذا النحو في القرآن. 9- وقال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً [الآية 57] . أي: أن الله، جلّ وعلا، جعل لهم من الحرم مكانا آمنا. وجاء قوله تعالى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ، وقرئ: تجبى. أما القراءة المشهورة المثبتة، فقد غلّب فيها التذكير، لأن «الثمرات» وإن كانت مؤنثة فهي عامة، تشمل أجناس النبات كلّها، وأصناف الخير كلّها، فضلا عن أنها مؤنث مجازي، وأنها مفصولة عن فعلها. 10- وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها [الآية 58] .

وقوله تعالى: مَعِيشَتَها بالنصب، والمعنى: بطرت في معيشتها. والأصل: بطر أهلها بمعيشتهم ولما دلّت القرية على أهلها، كما هو كثير في القرآن، جاز ذلك. 11- وقال تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ [الآية 66] . والمراد: طمست، وغامت، فجهلوها. أقول: واستعارة «العمى» للإنباء، من الكلم المجازيّ الجميل. 12- وقال تعالى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [الآية 76] . قالوا: ناء بالحمل، إذا نهض به مثقلا، وناء به الحمل إذا أثقله. والمعنى في الآية: أنّ المفاتح تنوء بالعصبة، أي: تميلهم من ثقلها. أقول: والاستعمال في عصرنا على الوجه الاخر فيقال: ناء فلان بالعبء أي: شقّ عليه وأثقله. 13- وقال تعالى: يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [الآية 82] . أقول: «وي» مفصولة عن «كأنّ» ، ولكن بسبب من خط المصحف اتصلت وهي كلمة تنبّه على الخطأ وتندّم، ومعناها أن القوم قد تنبّهوا على خطأهم في تمنّيهم. وقد بقي شيء من هذه الأداة في المحكيات، ففي «لغة» النساء في العراق، تستعمل «وي» بكسر الواو في مقام التعجب والاستغراب، فكأنها شيء مما اصطلح عليه النحويون ب «أسماء الأفعال» . وهي في «لغة» الأعرابيات في الجنوب «بفتح الواو» أيضا.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"القصص"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «القصص» «1» قال تعالى: فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ [الآية 10] أي: فارغا من الوحي، إذ تخوّفت على موسى إن كادت لتبدي بالوحي. أي: تظهره «2» . قال تعالى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [الآية 11] أي: قصّي أثره. وقال سبحانه: فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً [الآية 17] أي مقيما، يقال: «لن يكون فلان في الدّار مقيما» أي: «لا يكوننّ مقيما» . وقال تعالى: تَأْجُرَنِي [الآية 27] وفي لغة العرب منهم من يقول «أجر غلامي» ف «هو مأجور» و «أجرته» ف «هو مؤجر» يريد: «أفعلته» ف «هو مفعل» ، وقال بعضهم: «آجرته» ف «هو مؤاجر» أراد «فاعلته» . وقال تعالى: مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ [الآية 30] وجماعة «الشّاطئ» «الشواطئ» قرأ بعضهم «شطّ» ، والجماعة «شطوط» . وقال تعالى: فَذانِكَ بُرْهانانِ [الآية 32] ثقّل بعضهم «3» وهم الذين

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله الأنباري في الأضداد 298، ونسب في الجامع 13: 255 القول بالفراغ من الوحي، الى الحسن وابن أبي إسحاق وابن زيد. [.....] (3) . تثقيل النون قراءة في الطّبري 20: 74 نسبت الى ابن كثير، وأبي عمرو وكذلك في السبعة 493، والتيسير 171، والبحر 7: 118، واقتصر في الجامع 13: 285، على ابن كثير أمّا تخفيف النون، فلغيرهما، كما جاء في المصادر السابقة.

قرءوا (ذلك) فأدخلوا التثقيل للتأكيد، كما أدخلوا اللام في «ذلك» . وقال تعالى: رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [الآية 34] أي: عونا فيمنعني، ويكون في هذا الوجه: «ردأته» : أعنته. (ويصدّقني) بالجزم إذا جعلته شرطا «1» ويُصَدِّقُنِي «2» إذا جعلته من صفة الردء. وقال تعالى: وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الآية 46] بنصب رَحْمَةً على «ولكن رحمك ربّك رحمة» «3» . وقال تعالى: أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الآية 63] لأنه من «غوى» «يغوي» مثل «رمى» «يرمي» . وقال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [الآية 5] على قوله سبحانه يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ [الآية 4] أي: فعل هذا فرعون ونحن نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا. وقال تعالى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ [الآية 76] أي: إنّ الذي مفاتحه. وهذا موضع لا يبتدأ فيه ب «أنّ» وقد قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة: 8] وقوله سبحانه لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ معناه أنّ العصبة لتنوء بها وقد ورد السياق على سبيل المجاز. وفي الشعر [وهو الشاهد السابع عشر بعد المائة من مجزوء الوافر] : تنوء بها فتثقلها ... عجيزتها ... وليست العجيزة تنوء بها، ولكنّها هي تنوء بالعجيزة. وقال «4» [من الكامل وهو الشاهد الثالث والستون بعد المائتين] : ما كنت في الحرب العوان مغمّرا ... إذ شبّ حرّ وقودها أجزالها وقال تعالى: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ [الآية 82] المفسرون

_ (1) . في معاني القرآن 2: 306، نسبت قراءة الجزم الى اهل المدينة وفي الطبري 20: 75 الى عامة قراء الحجاز والبصرة وفي السبعة 494، وحجّة ابن خالويه 253، والكشف 2: 173، والتيسير 171، والجامع 13: 287، والبحر 7: 118، الى غير عاصم وحمزة. (2) . نسبت قراءة الرفع في المصادر السابقة كلّها، عدا معاني القرآن، إذ لم يشر الى نسبتها، الى عاصم وحمزة. (3) . نقله في المشكل 2: 546، وإعراب القرآن 2: 797، والجامع 13: 292. (4) . هو الأعشى ميمون. ديوانه 3.

يفسّرونها: «ألم تر أنّ الله» وقال تعالى: وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [الآية 82] وفي الشعر [من الخفيف وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد المائتين] : سالتاني الطّلاق أن رأتا مالي [م] ... قليلا قد جئتماني بنكر ويكأن من يكن له نشب يحبب [م] ... ومن يفتقر يعش عيش ضر وقال تعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً [الآية 86] استثناء خارج من أوّل الكلام في معنى «لكن» .

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"القصص"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «القصص» «1» إن قيل: ما الحكمة في وحي الله تعالى، إلى أم موسى (ع) ، بإرضاعه وهي ترضعه طبعا، سواء أأمرت بذلك أم لا؟ قلنا: أمرها بإرضاعه ليألف لبنها، فلا يقبل ثديا غيرها، بعد وقوعه في يد فرعون فلو لم يأمرها بإرضاعه، لكان من المتوقّع أن تسترضع له مرضعة، فيفوت ذلك المقصود. فإن قيل: لم قال تعالى: فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي [الآية 7] والشرط الواحد إذا تعلق به جزاءان صدّق مع كل واحد منهما وحده، فيؤول هذا إلى صدق قوله: فإذا خفت عليه فلا تخافي، وأنه يشبه التناقض. قلنا: معناه فإذا خفت عليه من القتل، فألقيه في اليمّ، ولا تخافي عليه من الغرق، ولا تناقض بينهما. فإن قيل: ما الفرق بين الخوف والحزن حتى عطف أحدهما على الاخر، في قوله تعالى: وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي [الآية 7] ؟ قلنا: الخوف غمّ يصيب الإنسان، لأمر يتوقّعه في المستقبل، والحزن غمّ يصيبه لأمر قد وقع ومضى. فإن قيل: لم جعل موسى (ع) ، قتله القبطي الكافر من عمل الشيطان، وسمّى نفسه ظالما، واستغفر منه؟ قلنا: إنّما جعله من عمل الشيطان، لأنّه قتله قبل أن يؤذن له في قتله،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

فكان ذلك ذنبا يستغفر منه مثله. قال ابن جريج: ليس لنبيّ أن يقتل ما لم يؤمر. فإن قيل: إنّ موسى (ع) ، ما سقى لابنتي شعيب (ع) ، طلبا للأجر، فكيف أجاب دعوة إحداهما، لمّا قالت كما ورد في التنزيل: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا [الآية 25] ؟ قلنا: يجوز أن يكون قد أجاب دعوتها، ودعوة أبيها لوجه الله تعالى، على سبيل البر والمعروف ابتداء، لا على سبيل الإجزاء، وإن سمّته هي جزاء ويؤيّد هذا، ما روي أنّه لما قدّم إليه الطعام امتنع، قال: «إنّا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع «1» الأرض ذهبا، ولا نأخذ على المعروف أجرا» ، حتى قال له شعيب (ع) : «هذه عادتنا، مع كلّ من ينزل بنا» . فإن قيل: لم قال له شعيب (ع) كما ورد في التنزيل: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ [الآية 27] ، ومثل هذا النكاح، لا يصحّ لجهالة المنكوح، والنبي (ع) لا ينكح نكاحا فاسدا، ولا يعد به؟ قلنا: إنّما كان ذلك وعدا بنكاح معيّنة عند الواعد، وإن كانت مجهولة عند الموعود، ومثله جائز، ويكون التعيين عند إنجاز الوعد، كما وقع منه. فإن قيل: لم قال تعالى هنا: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [الآية 32] فجعل الجناح هنا مضموما، وقال في سورة طه وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ [طه: 22] ، فجعل الجناح هناك مضموما إليه، والقصة واحدة؟ قلنا: المراد بالجناح المضموم هنا، هو اليد اليمنى، والمراد بالجناح المضموم إليه في سورة طه، ما بين العضد إلى الإبط من اليد اليسرى، فلا تناقض بينهما. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [الآية 32] ؟ قلنا: لمّا رهب الحيّة، أمره الله تعالى، أن يضمّ إليه جناحه، ليذهب عنه الفزع، وإنما قال تعالى: مِنَ الرَّهْبِ، لأنه جعل الرهب الذي أصابه علّة وسببا، لما أمر به من ضمّ

_ (1) . طلاع الأرض: مثلها.

الجناح. قال مجاهد: كل من فزع من شيء، فضمّ جناحه إليه، ذهب عنه الفزع. وقيل حقيقة ضمّ الجناح غير مرادة بل هو مجاز، عن تسكين الروع وتثبيت الجأش. قال أبو علي: لم يرد به الضم بين شيئين، وإنما أمر بالعزم والجدّ في الإتيان بما طلب منه ومثله قولهم: اشدد حيازيمك للموت فليس فيه شدّ حقيقة. وقيل في الآية تقديم وتأخير، تقديره: ولّى مدبرا من الرهب. فإن قيل: ما الحكمة في تصديق هارون لموسى (ع) ، في قوله تعالى: فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [الآية 34] ؟ قلنا: ليس المراد بقوله تعالى: رِدْءاً يُصَدِّقُنِي أن يقول هارون لموسى (ع) : صدقت في دعوى الرسالة، فإنّ ذلك لا يفيده عند فرعون وقومه، الذين كانوا لا يصدّقونه، مع وجود تلك الآية الباهرة والمعجزات الظاهرة، بل مراد موسى (ع) أن يلخّص حججه بلسانه، ويبسّط القول فيها ببيانه، ويجادل عنه بالحق، فيكون ذلك سببا لتصديقه. ألا ترى إلى قوله تعالى: وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [الآية 34] ؟ وفضل الفصاحة، إنما يحتاج إليه لما قلنا، لا لقوله صدقت، فإن سحبان وائل وباقلا في ذلك سواء. فإن قيل: قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [الآية 44] ، أي أحكمنا إليه الوحي، مغن عن قوله تعالى: وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الآية 44] ، أي من الحاضرين عند ذلك؟ قلنا: معناه وما كنت من الشاهدين قصّته، مع شعيب (ع) فاختلفت القضيّتان. فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الآية 50] ، وكم رأينا من الظالمين بالكفر والكبائر، من قد هداه الله للإسلام والتوبة؟ قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة المائدة. فإن قيل: لم قال تعالى: وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ [الآية 64] ، وإنّما يرى العذاب من كان ضالًّا، لا مهتديا. قلنا: جواب «لو» محذوف تقديره: ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون،

لما اتّبعوهم، أو لما رأوا العذاب. فإن قيل: لم قال تعالى في آخر آية الليل: بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ [الآية 71] وقال في آخر آية النهار: بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الآية 72] ؟ قلنا: السّماع والإبصار المذكوران، لا تعلّق لهما بظلمة الليل ولا بضياء النهار، فلذلك لم يقرن الإبصار بالضياء وبيانه أن معنى الآيتين: أفلا تسمعون القرآن سماع تأمّل وتدبّر، فتستدلّوا، بما فيه من الحجج، على توحيد الله تعالى؟ أفلا تبصرون ما أنتم عليه، من الخطأ والضلالة؟ فإن قيل: ما وجه الاستثناء في قوله تعالى إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الآية 86] ؟ قلنا: قال الفرّاء: هو استثناء منقطع، تقديره رحمة من ربك: أي للرحمة.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"القصص"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «القصص» «1» قوله تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً [الآية 10] . وقد تقدّم الإيماء إلى معنى ذلك، بذكر نظيره في السورة التي يذكر فيها إبراهيم (ع) ومعنى «فارغا» ، أي: قد خلا من صبر، وثبات، وتماسك، ووقار، لفرط الجزع، والأسف، وشدّة الارتماض «2» والقلق وحسن وصف القلب بالفراغ من الأشياء التي ذكرنا، وإن كان مملوءا بأضدادها، لأنّ تلك الأشياء من المحمودات، وأضدادها من المذمومات والممتلئ من الأشياء المذمومة كالفارغ، إذا كان امتلاؤه ممّا لا فائدة فيه، ولا عائدة له. وقوله تعالى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [الآية 32] . وهذه استعارة، والجناح هاهنا عبارة عن اليد وقد أشرنا إلى الكلام على نظيره فيما تقدّم، وقيل معنى ذلك، أي: سكّن روعك، وخفّض جأشك من الرهب الذي أصابك، والرعب الذي داخلك، عند انقلاب العصا في هيئة الجان ولمّا كان من شأن الخائف القلق والانزعاج والتململ والاضطراب، صار ضمّ الجناح عبارة عن السكون بعد القلق، والأمان بعد الغرق فأما قوله تعالى في صدر هذه الآية: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . من رمض: الرّمض: حرقة القيظ، ارتمض لفلان أي حزن له، الرّماضة: الحدّة وشدّة الوقع.

فيقرب من أن يكون استعارة، لأن «اسلك» ، ان كان بمعنى أدخل، فإن أصلها مأخوذ من إدخال السلك، وهو الخيط المستدقّ، في خروق الخرز المنظومة، فهو، إذا، يفيد إدخال الشيء في الشيء المتضايق، أو إدخاله على الوجه الشاقّ المستصعب، وعلى هذا قوله تعالى: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) [الشعراء] ، أي أدخلنا القرآن في قلوبهم، من جهة الأسماع على كره منها، إدخالا يشقّ وقد تقدم كلامنا على مثل هذا وكذلك قوله تعالى: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) [المدثر] ، أي ما أدخلكم فيها على كره منكم، ومشقّة عليكم، وعلى هذا قول الشاعر: وقد سلكوك في يوم عصيب أي أدخلوك وأنت كاره له فيكون معنى قوله تعالى لموسى (ع) : اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ إن كنت على خوف وإشفاق عند مشاهدة ما قد راعك، من تلك الآيات القواهر، والأعلام البواهر. وقوله تعالى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [الآية 35] . وهذه استعارة والمراد بها تقويته على إنفاذ الأمر، وتأدية الوحي بأخيه لأنّ اشتداد العضد والساعد في القول، عبارة عن القوّة، والجلد، والقدرة على العمل ألا ترى إلى قول الشاعر: أعلّمه الرّماية كلّ يوم فلما اشتدّ ساعده رماني ويروى، فلما «استدّ ساعده» بالسّين، والأوّل أقوى وأظهر، ولأنّ اشتداد العضد بمعنى القوة، تمكّن اليد من السطوة، وتعينها على البسطة وهذا من عجيب الكلام. وقوله تعالى: قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا [الآية 48] . على قراءة أهل الكوفة وهذه استعارة، لأنّ التظاهر الذي معناه المعاونة والمضافرة إنّما هو من صفات الأجسام، والسّحر عرض من الأعراض، والمراد بذلك حكاية ما قاله المشركون، في الكلام الذي جاء به نبينا (ص) ، بعد ما جاء به موسى (ع) ، من الآيات الباهرة والأعلام الظاهرة ومعنى تظاهرا أي تعاونا من طريق الاشتباه والتماثل، وكان الثاني مصدّقا للأوّل والمتأخّر مقوّيا للمتقدّم. وقوله سبحانه: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) .

وهذه استعارة، والمراد بتوصيل القول، والله أعلم، إرداف بعضه ببعض، وتكرير بعضه على أعقاب بعض، مظاهرة للحجّة على سامعيه، وإبعادا في منازع الاحتجاج على مخالفيه، ليتذكّروا بعد الغفلة، وينتبهوا من الرّقدة وذلك تشبيها بتوصيل الحبال بعضها ببعض، عند إدلاء الدلو إلى الطّويّ البعيدة، إلى أن يصل إلى الماء، ويفضي إلى الرواء، وهذا من دقيق المعاني. وقوله تعالى: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [الآية 54] . وهذه استعارة لأنّ الحسنة والسّيئة ليستا بجسمين، يصح دفع أحدهما بالآخر وإنّما المراد، والله أعلم، أنهم يختارون الأفعال الحسنة على الأفعال القبيحة، فيكونون، بذلك الاختيار، كأنهم قد دفعوا السّيئات بالحسنات، عكسا لرقابها، وردّا على أعقابها وقد يجوز أن يكون أيضا معنى ذلك: أنهم يدفعون ضرر العقوبة بعاجلة التوبة، لأنّ التوبة حسنة، والعقوبة قد تسمّى سيّئة، لأنها جزاء على السيئة، ولأنها مضرّة وان لم تكن قبيحة. وقوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها [الآية 58] . وهذه استعارة، والمراد بها أهل القرية والبطر سوء احتمال النعمة، حتى يستقلع مغارسها، ويستنزع ملابسها وقد مضت الإشارة الى نظير ذلك، فيما تقدّم. وقوله سبحانه: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا [الآية 59] . وهذه استعارة، والمراد هاهنا بأمّ القرى مكّة على الأغلب وقال بعضهم المراد معظمها، والمنظور إليها منها، لأنّ ما هو دونها جار مجرى التّبع لها، ومثل ذلك قوله تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الأنعام: 92 والشورى: 7] ، يريد مكّة، وإنما سمّيت مكة أمّ القرى، لما ضمّته من بيت الله، وحرمه، ومهابط وحيه، ومدارج أقدام رسله (ع) فصارت من أجل ما ذكرناه، كأنها كبيرة القرى، وصارت القرى بالإضافة إليها صغارا، كصغر البنات إذا أضيفت إلى الأمهات. وقوله تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) . وهذه استعارة والكلام وارد في وصف أحوال الاخرة، لأنه سبحانه يقول أمام هذه الآية:

وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) ، ثم قال تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ [الآية 66] والمعنى أنهم إذا سئلوا في الاخرة عمّا أجابوا به أنبياءهم في الدنيا، لجلجلوا «1» المقال، وأخطئوا الجواب، ولم يعلموا ما يقولون، ولا عمّا يخبرون فكأنّ الأنباء التي هي الأخبار عميت عليهم، فكانوا لا يوجّهون كلاما إلّا ضلّ عن طريق الحقّ، ولا يخبرون خبرا إلّا كان قاصرا عن غرض الصّدق، كالأعمى الذي لا يهتدي لقصد، ولا يقوم على نهج، وكأنهم حادوا عن الجواب لانسداد طرق الأنباء عليهم ولم يتساءلوا، فيستخبر بعضهم بعضا عن ذلك، علما منهم بقيام الحجّة عليهم، وعموم الحيرة لجميعهم وقد يجوز أن يكون لقوله تعالى فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ وجه آخر، هو أن يكون ذلك على معنى قول القائل: خرّبت عليّ داري، وموّتّ عليّ إبلي. أي خربت هذه، وموّتّ هذه، وجاءت لفظة عليّ هاهنا لاختصاص الضرر بصاحب الدار والإبل فيكون المعنى: أن الأخبار عميت في نفوسها، أي لم تهتد إلى صدق، ولم تنفذ في حقّ، وقيل عليهم لاختصاص ضرر ذلك بهم، لأنّ الحجّة لزمتهم، والاحتجاج قعد بهم. ومثل ذلك قوله سبحانه في هذه السورة: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [الآية 75] ، لأنّ ضلال افترائهم في معنى عمى أنبائهم. ومن الكنايات العجيبة عن الدعاء على قوم بعمى العيون، قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، في كلام له يخاطب بعض أصحابه: «مالكم «2» لا سددتم لرشد، ولا هديتم لقصد» فكأنه (ع) ، قال لهم مالكم أعمى الله عيونكم، وقد ذكرنا هذا الكلام بتمامه، في كتابنا الموسوم (بنهج البلاغة) ، وهو المشتمل على المختار من كلام أمير المؤمنين (ع) ، في جميع أقسامه، ومرامي أغراضه. وقوله تعالى: وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [الآية 76] . وهذه الاستعارة على القلب، لأن

_ (1) . من لجلج: تردّد في الكلام. (2) . في النهج شرح الشيخ محمد عبده ج 1 ص 231 طبع مصر ما بالكم ... إلخ.

المراد أنّ العصبة أولي القوة تنوء بتلك المفاتح، أي تنهض بها نهضا متثاقلا، لكثرة أعدادها، وثقل اعتمادها ولكن لما كانت هي السبب في نوء تلك العصبة بها، على التثاقل من نهضها، كانت كأنّها هي التي تنوء بالعصبة، أي تحوجها إلى النهوض، على تلك الحال من المشقّة. وقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الآية 88] . وهذه استعارة والوجه هاهنا عبارة عن ذات الشيء، ونفسه وعلى هذا قوله تعالى في السورة التي يذكر فيها الرحمن سبحانه: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) [الرحمن] ، أي ويبقى ذات ربك ومن الدليل على ذلك رفع «ذو» في قوله تعالى ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) : لأنه صفة للوجه، الذي هو الذات، ولو كان الوجه هاهنا بمعنى العضو المخصوص، على ما ظنّه الجهال، لكان وجه الكلام أن يكون: «ويبقى وجه ربك «ذي» الجلال والإكرام» ، فيكون «ذي» صفة للجملة، لا صفة للوجه الذي هو التخاطيط المخصوصة كما يقول القائل: «رأيت وجه الأمير ذي الطّول والإنعام» ، ولا يقول ذا لأنّ الطّول والإنعام من صفات جملته، لا من صفات وجهه. ويوضح ذلك قوله تعالى في هذه السورة: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) [الرحمن] ، لمّا كان الاسم غير المسمّى، وصف سبحانه المضاف إليه ولمّا كان الوجه في الآية المتقدّمة، هو النفس والذات، قال تعالى ذُو الْجَلالِ ولم يقل «ذي الجلال والإكرام» ويقولون عين الشيء ونفس الشيء على هذا النحو، وقد قيل في ذلك وجه آخر، وهو أن يراد بالوجه هاهنا، ما قصد به من العمل الصالح، والمتجر الرابح، على طريق القربة وطلب الزلفة «1» . وعلى ذلك قول الشاعر: أستغفر الله ذنبا لست محصيه ربّ العباد إليه الوجه والعمل أي اليه تعالى، قصد الفعل الذي يستنزل به فضله، ودرجات عفوه فأعلمنا سبحانه أنّ كل شيء هالك إلا وجه دينه، الذي يوصل إليه منه، ويستزلف عنده به، ويجعل وسيلة إلى رضوانه، وسببا لغفرانه.

_ (1) . من زلف: درجة، منزلة قربة.

سورة العنكبوت 29

سورة العنكبوت 29

المبحث الأول أهداف سورة"العنكبوت"

المبحث الأول أهداف سورة «العنكبوت» «1» سورة العنكبوت سورة مكّية، نزلت بعد سورة الروم، وآياتها 69 آية. وقد نزلت سورة العنكبوت، في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين في مكّة، قبل الهجرة وكانت هذه الفترة، من أقسى الفترات، ولذلك تعرّضت السورة لتثبيت المؤمنين على الإيمان، وبيان أن هناك ضريبة يدفعها المؤمن، هي الفتنة، والامتحان بالإيذاء، أو بالإغراء، أو بالوعد، أو بالوعيد. وتناولت السورة قصص الأنبياء السابقين، وجهادهم، وبلاءهم، ثمّ إهلاك الكافرين، وانتصار المؤمنين وسمّيت سورة العنكبوت بهذا الاسم، لتكرّر ذكر العنكبوت فيها في قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) . وفي المصحف المطبوع بالقاهرة، المتداول بين الناس، نجد في عنوان السورة: سورة العنكبوت مكيّة، إلّا من الآية 1 إلى الآية 11، فمدنية. وقد رجّحت اللجنة المشرفة على طبع المصحف الرأي القائل: بأنّ الإحدى عشرة آية الأولى مدنية، وذلك لذكر الجهاد فيها.... وذكر المنافقين. وعند التأمّل يترجّح لدينا، أن السورة كلّها مكّية أما تفسير الجهاد فيها، فمرجعه أنها واردة بصدد الجهاد ضدّ الفتنة، أي جهاد النفس، لتصبر ولا

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

ثلاثة فصول

تفتن وهذا واضح في السياق وكذلك ذكر النّفاق، فقد جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس. ثلاثة فصول الخط الأساسي لسورة العنكبوت، هو الحديث عن الإيمان والفتنة، وعن تكاليف الإيمان الحقة، التي تكشف عن معدنه في النفوس فليس الايمان كلمة تقال باللسان، وإنّما هو الصبر على المكاره، والثبات في المحن. ومع أنّ موضوع السورة، هو تكاليف الإيمان والثبات في المحنة، إلّا أنه يمكن أن نقسّم سورة العنكبوت إلى ثلاثة عناصر، لهذا الموضوع، أو ثلاثة فصول. الفصل الأول: من أوّل السورة إلى الآية 13: يتناول هذا الفصل حقيقة الإيمان، وسنّة الابتلاء والفتنة، ومصير المؤمنين والكافرين ثم فرديّة التبعية، فلا يحمل أحد عن أحد شيئا، يوم القيامة. وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) . الفصل الثاني: الآيات [14- 45] : يتناول هذا الفصل قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب (ع) وإشارة إلى قبيلة عاد وثمود ويصوّر هذا القصص، ما وجد من عقبات وفتن في طريق كلّ دعوة. ويتحدّث عن التهوين من شأن هذه العقبات، أمام قوة الإيمان، والاعتماد على قدرة الله تعالى، والمضيّ في تبليغ رسالته، وتحمّل تبعات هذه الرسالة، إحقاقا للحق، وازهاقا للباطل. قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء: 18] . الفصل الثالث: من الآية 46 إلى آخر السورة: يتناول هذا الفصل النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلّا بالحسنى ويتناول وحدة الدين والعقيدة والإيمان، واتحاد ذلك مع الدين الأخير، الذي يجحد به الكافرون، ويجادل فيه المشركون ويختم بالتثبيت والبشرى، والطمأنينة للمجاهدين في الله، المهديين إلى سبيله. ويتخلّل السورة، من المطلع إلى الختام، إيقاعات قويّة عميقة، حول معنى الإيمان وحقيقته، تهزّ الوجدان

القصص في سورة العنكبوت

هزّا. وتوقفه أمام تكاليف الإيمان وقفة حازمة فإمّا النهوض بها، وإمّا النكوص عنها، وإلّا فهو النفاق الذي يفضحه الله. القصص في سورة العنكبوت استغرقت الآيات [14- 45] الحديث عن قصص الأنبياء والتعليق عليه، وبيان العظة والعبرة منه. وبدأت بالحديث عن نوح (ع) ، فقد مكث في قومه ألف سنة، إلّا خمسين عاما، هي مدة الرسالة وجزء من حياته كان قبل الرسالة، وجزء منها كان بعد الطوفان وهو عمر مديد، ولكن نتيجته محدودة، فلم يؤمن به إلّا قليل من قومه. ثم ثنّى بالحديث عن إبراهيم الخليل (ع) ، صاحب الرسالة الكبرى، إذ دعا قومه إلى عبادة الله الخالق الرزاق، ونبذ الأوثان والأصنام والتوجّه إلى الله، الإله الواحد: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ [الآية 24] . وفي قصة لوط (ع) ، يتبدّى تبجّح الرذيلة وسفورها، بلا حياء ولا تحرّج، وانحدار البشرية إلى الدرك الأسفل، من الانحراف والشذوذ، مع الاستهتار بالنذير فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الآية 29] . وفي قصّة شعيب (ع) مع مدين، يتبدّى الفساد، والتمرّد على الحق والعدل، فاستحقّوا عذاب الله: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) . وتذكر الإشارة، إلى عاد وثمود، بالاعتزاز بالقوّة، والبطر بالنعمة كما تذكر الإشارة إلى قارون وفرعون وهامان، بطغيان المال، واستبداد الحكم، والتمرّد على أمر الله. وفي النهاية يلقى الظالم حتفه جزاء ظلمه وقد تكرر هذا المعنى في سور سابقة، وتأكّد هنا، ليستقر في الأذهان، أمام المشركين والظالمين. قال تعالى: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) . وتعقّب السورة على هذا القصص،

الدرس الأخير في سورة العنكبوت

بمثل ضربته، لهوان قوى الشرك والظلم فالباطل مهما علا، لا مستقبل له والحقّ مهما امتحن، مستقبله هنيء مريء قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) . وينتهي هذا القصص بهوان الشرك، وعزّة الإيمان، وبيان قدرة الله تعالى، الذي يضرب الأمثال، ليتّعظ بها العقلاء، وليفهمها العلماء. قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ (43) . الدرس الأخير في سورة العنكبوت يستغرق الدرس الأخير في السورة، ربعا كاملا من الآية 46 إلى الآية 61. والسورة بدأت، بإعلان ثقل تكاليف الإيمان، وتعرّض المؤمنين للبلاء والامتحان. ثمّ ذكرت قصص الأنبياء وبلاءهم من عهد نوح (ع) . وفي هذا الدرس الأخير، يبيّن القرآن الكريم، وحدة الرسالات في الهدف فالرسالات كلّها من عهد نوح (ع) والرسل من بعده، إلى عهد محمد (ص) ، دعوة واحدة، من عند إله واحد، ذات هدف واحد، هو إصلاح العقيدة، وتهذيب السلوك، وردّ البشرية الضالّة إلى قوانين الله العادلة وأنّ المؤمنين بكل رسالة، لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات: كلهم أمّة واحدة، تعبد إلها واحدا وأنّ البشرية في جميع أجيالها صنفان اثنان: صنف المؤمنين وهم حزب الله، وصنف المشاقّين وهم حزب الشيطان. ولقد ختم الجزء العشرون في القرآن، بآية شهيرة، تدعو إلى تلاوة الكتاب، وقراءة القرآن، وإقامة الصلاة، هي قوله تعالى: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) . وبدأ الجزء الحادي والعشرون، بالحديث عن هذا الكتاب، والعلاقة بينه وبين الكتاب السابقة، وبأمر المسلمين، ألّا يجادلوا أهل الكتاب إلّا بالتي هي أحسن، لبيان حكمة مجيء

الرسالة الجديدة، والكشف عمّا بينها وبين الرسالات قبلها من صلة، إلّا الذين ظلموا منهم، وبدّلوا في كتبهم، وانحرفوا إلى الشرك والشرك ظلم عظيم. ودعت الآية المؤمنين، أن يعلنوا إيمانهم بالدعوات كلّها، وبالكتب المنزّلة جميعها، فهي حق من عند الله يصدّق ما معهم من القرآن والإسلام. قال تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) . ثم يحذّر القرآن المشركين استعجالهم بعذاب الله، ويهدّدهم بمجيئه بغتة، ويصوّر لهم قربه منهم، وإحاطة جهنّم بهم ويصف حالهم، يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ثمّ يلتفت إلى المؤمنين الذين يتلقّون الفتنة والإيذاء في مكّة، يحضّهم على الهجرة بدينهم إلى الله، ليعبدوه وحده، يلتفت إليهم في أسلوب عجيب، يعالج كلّ هاجسة تخطر في ضمائرهم، وكلّ معيق يقعد بهم، ويقلّب قلوبهم بين أصابع الرحمن، في لمسات تشهد بأن منزّل هذا القرآن هو خالق هذه القلوب فما يعرف مساربها ومداخلها الخفيّة إلا خالقها اللطيف الخبير، الذي تكفّل برزق كلّ دابة في كلّ مكان وزمان. وينتقل من هذا التعجّب من حال أولئك المشركين، وهم يتخبّطون في تصوّراتهم، فيقرّون لله سبحانه بخلق السماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر، وإنزال الماء من السماء وإحياء الأرض الموات وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله وحده مخلصين له الدين. ثمّ هم بعد ذلك يشركون بالله ويكافرون بكتابه، ويؤذون رسوله، ويفتنون المؤمنين به. ويذكّر المشركين بنعمة الله عليهم، بهذا الحرم الأمن الذي يعيشون فيه، والناس من حولهم في خوف وقلق، وهم يفترون على الله الكذب، ويشركون به آلهة مفتراة، ويعدهم على هذا جهنّم، وفيها مثوى للكافرين. وتختم السورة، بوعد من الله سبحانه، بهداية المجاهدين ورعايتهم، فيقول سبحانه: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"العنكبوت"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «العنكبوت» «1» تاريخ نزولها، ووجه تسميتها نزلت سورة العنكبوت بعد سورة الروم، ونزلت سورة الروم في السنة التي انتصر الفرس فيها عليهم، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة، فيكون نزول سورة العنكبوت في هذه السنة مثلها، وتكون من السّور التي نزلت فيما بين الإسراء والهجرة إلى المدينة. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لورود اسم العنكبوت في قوله تعالى في [الآية 41] منها مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وتبلغ آياتها تسعا وستين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة، تهوين ما يلقاه المؤمنون من العذاب في سبيل دينهم وهي في ذلك تنقسم إلى قسمين: أوّلهما، في بيان الحكمة من فتنة المؤمنين في دينهم وثانيهما، في بيان ما يسلكونه مع من يفتنونهم في دينهم، من المضيّ في دعوتهم، وردّ شبههم، ومن الهجرة عنهم إلى من لا يفتنهم في دينهم وكانت المدينة توشك أن تفتح أبوابها لهجرتهم. وقد جاء في السورة السابقة، أنّهم كانوا يخافون إذا آمنوا أن يتخطّفهم الناس من أرضهم، فجاءت هذه السورة بعدها، وفي أوّلها تهوين ما يلقاه المؤمنون من الفتنة في دينهم، ووعدهم بالنصر على أعدائهم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....]

الحكمة في فتنة المؤمنين في دينهم الآيات [1 - 44]

الحكمة في فتنة المؤمنين في دينهم الآيات [1- 44] قال الله تعالى: الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) فنهى تعالى المؤمنين، أن يظنوا أنهم يتركون من غير أن يفتنوا في دينهم وذكر سبحانه أن تلك سنّته في كلّ من آمن قبلهم، وأنه يفعل ذلك ليتبيّن الصادق في إيمانه من الكاذب فيه ثم هدّد الذين يفتنونهم، بأنهم لا يمكنهم أن يفلتوا من عقابه على فتنتهم وذكر، أنّ لذلك أجلا، يعلم من يرجو لقاءه أن لا يتخلّف عنه ثم ذكر عزّ وجل، أنّ من جاهد ما يلقاه في دينه من الفتنة بالصبر عليه، فإنّما يجاهد لنفسه، لأنّ الذين يعملون الصالحات يجازون عليها بأحسن منها ثمّ ذكر من الفتنة في الدّين ما كان يفعله الآباء من محاولة صرف أبنائهم عن دينهم، ووصّى الأبناء بطاعة الآباء، إلّا في محاولة ردّهم إلى الشرك ثمّ ذكر أنّ من الناس من يؤمن بلسانه ولا يصل الإيمان إلى قلبه، فإذا فتن في دينه لم يصبر على ما يصيبه فيه، واختار الاحتراز عمّا يوقعه في الأذى، فإذا جاء نصر الله ذكر للمؤمنين أنه كان معهم، والله أعلم منه بما كان يخفيه من نفاقه ثمّ ذكر من الفتنة في الدين، أنّ الكفّار كانوا يقولون لمن آمن منهم اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [الآية 12] يريدون، بذلك، أنه لا خطيئة في رجوعهم إلى الكفر، وأنّه لا معاد يحاسبون فيه على ذلك وقد أجابهم سبحانه، بإثبات أن هناك معادا يحملون فيه خطاياهم، وخطايا من حملوهم على الكفر، ويسألون فيه عمّا يفترون، من إنكار المعاد والحساب. ثمّ انتقل جلّ وعلا إلى ذكر من فتنوا قبلهم من المؤمنين، فصبروا، فنصرهم الله على من فتنوهم فذكر أنه أرسل نوحا (ع) إلى قومه، فلبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما، ثمّ أخذهم بالطوفان، ونجّاه ومن آمن به وأنّ إبراهيم (ع) ، أمر قومه أن يعبدوا الله ويتّقوه، وبيّن لهم فساد ما يعبدونه من الأوثان، إلى غير هذا ممّا ذكره في دعوتهم ثم ذكر سبحانه أنّ جوابهم له، كان أن أمروا بقتله أو تحريقه، فنجّاه الله من النار التي ألقوه فيها، وكان في ذلك دلالة على قدرته تعالى

ما يفعلونه في فتنتهم في دينهم الآيات [الآية 45 - 69]

وقد سجّل عليهم به أنّهم يتّخذون من دونه أوثانا يقلّد فيها بعضهم بعضا، ويوم القيامة يتبرّأ بعضهم من بعض ويكون مأواهم النار فلا ينجّونهم منها ثم ذكر إيمان لوط (ع) بدعوة ابراهيم (ع) ، وهجرته معه من بلاد قومه وأنه سبحانه وهب لإبراهيم (ع) إسحاق ويعقوب (ع) ، وجعل في ذريّته النبوة والكتاب ثم ذكر لوطا (ع) ، وتوبيخه قومه على ما يأتونه من الفاحشة التي لم يسبقهم أحد إليها، إلى غير هذا ممّا سبق في قصّته ثم ذكر شعيبا (ع) وما جرى له مع أهل مدين وذكر عادا وثمود وقارون وفرعون وهامان وما فعله بهم، وأنه لم يظلمهم بذلك، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم ثم ضرب مثلا لظلمهم لأنفسهم بشركهم فذكر أنهم في اتّخاذهم آلهة من دونه، لا تنفعهم في دنياهم وأخراهم، كالعنكبوت التي تتّخذ لها بيتا هو أوهن البيوت فما يدعونه من دونه ليس بشيء أصلا ثم ذكر أنّه يضرب لهم هذا المثل وغيره من الأمثال، وما يعقلها إلا العالمون خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) . ما يفعلونه في فتنتهم في دينهم الآيات [الآية 45- 69] ثم قال تعالى: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) . فأمر النبي (ص) أن يتلو ما أوحي إليه من أخبار من فتنوا قبله في دينهم، ليكون له سلوة وأسوة بهم وأن يثابر على إقامة الصلاة ومداومة ذكره، لأنّ الصلاة تصلح من نفوسهم، وتعطيهم قوّة على احتمال ما يفتنون به ثمّ ذكر لهم آداب المجادلة على من يحاول أن يفتنهم بها في دينهم، فأمرهم سبحانه أن يجادلوا أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وأن يذكروا لهم أنّهم يؤمنون بالكتب المنزّلة كلّها، ويؤمنون بالإله الذي يؤمنون به ثمّ ذكر أنّ من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن، كما يؤمن بتلك الكتاب، ومن المشركين من يؤمن به أيضا، وما يجحد به إلّا المعاندون منهم، وذكر ما يثبت تنزيله من أمّيّة النبي (ص) ثم أورد، من شبهاتهم عليه، اقتراحهم أن تنزل عليه آيات أخرى، مثل الآيات التي أنزلت على الأنبياء السابقين وردّ عليهم، بأنه

سبحانه هو الذي ينزّل تلك الآيات كما يشاء، وليس النبي إلّا نذيرا لهم، ولا يملك أن يقترح على الله شيئا وبأنّ في إنزال القرآن عليه، وهو أمّيّ، ما يكفيهم في الإيمان به ولو تأمّلوا لعلموا أنّ آياته خير من آيات العذاب التي يقترحونها، لما فيها من الرحمة والذكرى لهم ثمّ ذكر سبحانه أنهم يستعجلونه بالعذاب بما يقترحونه من تلك الآيات، ولولا أنه جعل له أجلا مسمّى لجاءهم. إلى غير هذه ممّا ذكره في الردّ على استعجالهم. ثمّ أرشدهم إلى الهجرة بدينهم، فرارا ممّن يفتنهم فذكر لهم أن أرضه (تبارك اسمه) واسعة، فإذا تعذّرت عبادته في أرض، فليهاجروا إلى غيرها، ولا يتركوا عبادته بحال من الأحوال وهوّن عليهم ذلك، بأنّهم لا بدّلهم من مفارقة أحبابهم بالموت، فليكن ذلك في سبيل الله، ليجازيهم عليه عند رجوعهم إليه، ويكافئهم على ما عملوا من صالحات، وما صبروا عليه من فتنة وأذى، ثمّ هوّن عليهم ذلك أيضا، بأنّه هو المتكفّل برزق كلّ دابّة في الأرض، وبرزقهم فلا يفوتهم شيء من رزقهم بهجرتهم. ثمّ ختم السورة، بتهديد أولئك الذين يفتنونهم، كما هدّدهم في أوّلها، فذكر لهم أنّهم لا يمكنهم أن ينكروا، أنه سبحانه هو خالق السماوات والأرض، ومسخّر الشمس والقمر، فلا يمكنهم أن يفلتوا من عقابه وذكر لهم أنّه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ليبتلي بذلك عباده، فلا يصحّ أن يغترّوا بما بسط لهم من الرزق وذكر لهم أنه هو الذي ينزل الماء من السماء فيحيي به الأرض بعد موتها، ليعلموا أنه هو الذي يرزقهم ثم ذكر لهم أنّ ما يغترّون به من هذه الحياة، وبسطة أرزاقهم فيها، إنّما هما لهو ولعب، وأنّ الاخرة هي الحياة التي يعتدّ بها، وأيّد ذلك بما يحصل لهم حينما يركبون الفلك في البحر، فإنهم ينسون الدنيا وزخارفها، ويتوجّهون إليه سبحانه بالدعاء وحده فإذا نجّاهم إلى البرّ، رجعوا إلى ما كانوا عليه من حبّ الدنيا، فأشركوا به ثم أمرهم أمر تهديد، أن يقابلوا ما بسط لهم من الرزق بالكفر، فسوف يعلمون ما أعدّ لهم من العذاب على كفرهم وذكر أنهم لا يمكنهم أن ينكروا أنه هو الذي أسكنهم في ذلك الحرم الأمن، فبسط لهم من الرزق ما لم يبسطه لغيرهم،

ممّن يتخطّف من حولهم وأنكر عليهم بعد ذلك أن يؤمنوا، بما هم فيه من الباطل، ويكفروا بنعمته عليهم بذلك الحرم، ثمّ أوعدهم على ذلك بما أوعدهم به، ووعد المؤمنين، فقال جلّ شأنه وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"العنكبوت"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «العنكبوت» «1» أقول: ظهر لي في وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى، لما أخبر في أول السورة السابقة، عن فرعون أنه: عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ [القصص: 4] ، افتتح هذه السورة، بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفّار، وعذّبوهم على الإيمان، بعذاب دون ما عذّب به قوم فرعون بني إسرائيل، تسلية لهم، بما وقع لمن قبلهم، وحثّا لهم على الصبر ولذلك قال تعالى في هذه السورة: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الآية 3] . وهذه أيضا من حكم تأخير سورة العنكبوت على (طسم) . وأيضا، فلمّا كان في خاتمة «القصص» إشارة إلى هجرة النبي (ص) «2» ، وفي خاتمة هذه الإشارة إشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ [الآية 56] ، ناسب تتاليهما.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وذلك في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: 85] . والمعنى: لرادّك إلى مكّة، كما في البخاري. 6: 142. أي: كما خرجت منها. وبه قال ابن عبّاس، ويحيى بن الجزّار، وسعيد بن جبير والضّحّاك، واختاره ابن جرير (تفسير الطبري. 20: 80) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"العنكبوت"

المبحث الرابع مكنونات سورة «العنكبوت» «1» 1- أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا [الآية 2] . هم المؤذون على الإسلام في مكّة، منهم عمّار بن ياسر «2» . 2- وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا [الآية 12] قائل ذلك: الوليد بن المغيرة. حكاه المهدوي «3» . 3- هذِهِ الْقَرْيَةِ [الآيتان 31 و 34] . هي سدوم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . كما جاء في آثار أخرجها الطّبري 20: 83، وابن أبي حاتم. انظر «الدر المنثور» 5: 141. (3) . وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنّف» ، وابن المنذر عن ابن الحنفيّة رضي الله عنه قال: كان أبو جهل، وصناديد قريش، يتلقّون الناس إذا جاءوا إلى النبي (ص) ، يسلمون، يقولون: إنه يحرّم الخمر، ويحرّم الزّنا، ويحرّم ما كانت تصنع العرب، فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم فنزلت هذه الآية: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [الآية 13] «الدر المنثور» 5: 142. وانظر «تفسير الطبري» 20: 86.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"العنكبوت"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «العنكبوت» «1» 1- وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ [الآية 7] . وتكفير السّيّئات، يعني إسقاط عقابها بثواب الحسنات. أقول: ولعل استعمال التضعيف في الفعل فيه شيء من معنى السّلب، كقولنا: مرّض الطبيب المريض، أي: شفاه: فأزال مرضه. 2- وقال تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [الآية 29] . والنادي: مجتمع القوم ومجلسهم، ولا يسمّى ناديا حتى يكون فيه أهله. أقول: وقد عاش النادي طوال العصور حتى أمسكنا به في عصرنا، فذهب «النّدي» ، وانصرفت «الندوة» إلى شيء آخر، فهي المجلس الخاص، المقيّد بزمن معيّن، كما في «ندوات أهل الحكم» «2» . ومثل هذه النّدوات المنتدى الذي لم يبق له مكان كبير في الاستعمال المعاصر. 3- وقال تعالى: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [الآية 34] . الرّجز والرّجس العذاب، وإن كان في مجيء الكلمة بالسين دلالات أخرى، وهذا من فوائد الإبدال في العربية. 4- وقال تعالى: فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [الآية 38] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . وكان في مكّة، في عصر النبوّة وقبله، دار الندوة، وهي ناد يجتمع فيه أهل مكة.

وقوله تعالى: مُسْتَبْصِرِينَ، يعني عقلاء، تمكّنوا من النظر والفكر. 5- وقال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) . وقوله تعالى: إِذاً فيه إشارة إلى ما تقدم في الآية، ومعناه: لو كان شيء من ذلك، أي: من التلاوة والخطّ لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ. أقول: وهذا ضرب من الإيجاز الجميل. 6- وقال تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الآية 64] . أي: ليس فيها إلّا حياة مستمرة، دائمة، خالدة، لا موت فيها، فكأنّها في ذاتها حياة. و «الحيوان» مصدر «حيي» ، وكان ينبغي أن يكون القياس حييان، فقلبت الثانية واوا خلافا للقياس كما قالوا: حياة في اسم رجل.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"العنكبوت"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «العنكبوت» «1» قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [الآية 8] ، على «ووصّيناه حسنا» وقد يقول الرجل: «وصّيته خيرا» أي: بخير. وقال تعالى: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [الآية 12] ، على الأمر «2» : كأنّهم أمروا أنفسهم. وقال تعالى: كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ [الآية 19] وقال: كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [الآية 20] ، فهما لغتان تقول: «بدأ الخلق» و «أبدأ» . وقال تعالى وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [الآية 22] ، أي: لا تعجّزوننا هربا في الأرض ولا في السّماء. وقال تعالى إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ [الآية 33] . فالأوّل كان في معنى التنوين لأنه لم يقع، ولذلك انتصب الثاني على هذا التقدير «3» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في زاد المسير 6: 260. (3) . نقله في البحر 7: 151، والبيان 2: 244، والإملاء 2: 183.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"العنكبوت"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «العنكبوت» «1» إن قيل: قال تعالى: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ [الآية 12] ثم قال سبحانه: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [الآية 13] ؟ قلنا: معناه: وما الكافرون بحاملين شيئا من خطايا المؤمنين، التي ضمنوا حملها، وليحملنّ الكافرون أثقال أنفسهم، وهي ذنوب ضلالهم، وأثقالا مع أثقالهم، وهي ذنوب إضلالهم غير هم من الكفار، لا خطايا المؤمنين التي نفى سبحانه عنهم حملها وقد سبق نظير هذا في قوله تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] . فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن القول «تسعمائة وخمسين عاما» إلى قوله سبحانه أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً [الآية 14] مع أن عادة أهل الحساب هي اللفظ الأول؟ قلنا: لما كانت القصة مسوقة، لتسلية النبي (ص) بذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام، من أمته، وكابده من طول مصابرتهم، كان ذكر أقصى العدد، الذي لا عقد أكثر منه في مراتب العدد، أفخم وأعظم إلى الغرض المقصود، وهو استطالة السامع مدة صبره. وفيه فائدة أخرى، وهي نفي وهم إرادة المجاز، بإطلاق لفظ التسعمائة والخمسين على أكثرها، فإنّ هذا الوهم هو مع ذكر الألف، والاستثناء منتف، أو هو أبعد. فإن قيل: لم جاء المميّز أولا بلفظ «السنة» والثاني بلفظ «العام» ؟

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

قلنا: لأن تكرار اللفظ الواحد، مجتنب في مذهب الفصحاء والبلغاء، إلّا أن يكون لغرض تفخيم، أو تهويل، أو تنويه، أو نحو ذلك. فإن قيل: لم نكّر الرزق ثم عرّفه في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [الآية 17] ؟ قلنا: لأنّه سبحانه أراد أنهم لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق، فابتغوا عند الله الرزق كلّه، فإنه هو الرازق وحده لا يرزق غيره. فإن قيل: لم أضمر اسمه تعالى في قوله عز وجل قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [الآية 20] ، ثمّ أظهره في قوله تعالى ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [الآية 20] ، وكان القياس «كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الاخرة» ؟ قلنا: إنّما عدل، سبحانه، إلى ما ذكر، لتأكيد الإخبار عن الإعادة التي كانت هي المنكرة عندهم، بالإفصاح باسمه تعالى في ذكرها، وجعله مبتدأ لزيادة الاهتمام بشأنها؟ فإن قيل: لم قال تعالى وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا [الآية 27] ، في معرض المدح أو في معرض الامتنان عليه، وأجر الدنيا فان منقطع، بخلاف أجر الاخرة فإنه النعيم المقيم الباقي، فكان الأولى بالذكر؟ قلنا: المراد به: وآتيناه أجره في الدنيا، مضموما إلى أجره في الاخرة، من غير أن ينقص من أجر الاخرة شيء. قال ابن جرير: وإليه الإشارة بقوله تعالى وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [الآية 27] ، يعني له في الاخرة جزاء الصالحين وافيا وكاملا، وأجره في الدنيا. قيل: هو الثناء الحسن من الناس، والمحبّة من أهل الأديان. وقيل: هي البركة التي بارك الله فيه، وفي ذرّيته. فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ [الآية 31] ، يعني مدينة قوم لوط (ع) ، ولم يقل «تلك القرية» ، مع أن مدينة قوم لوط كانت بعيدة عن موضع إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، غائبة عند وقت هذا الخطاب؟ قلنا: إنّما قال سبحانه: هذِهِ الْقَرْيَةِ لأنها كانت قريبة حاضرة بالنسبة إليهم، وإن كانت بعيدة بالنسبة

إلى إبراهيم (ع) . فإن قيل: لم قال تعالى: أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ [الآية 34] ولم يقل: أهل هذه القرى؟ مع أن مدائن قوم لوط كانت خمسا، فأهلكوا منها أربعا؟ قلنا: انّما اقتصر سبحانه في الذّكر على قرية واحدة، لأنها كانت أكبر وأقرب، وهي سدوم مدينة لوط (ع) ، فجعل ما وراءها تبعا لها في الذكر. فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [الآية 38] ، أي ذوي بصائر؟ يقال: فلان مستبصر، إذا كان عاقلا لبيبا صحيح النظر. ولو كانوا كذلك، لما عدلوا عن طريق الهدى، إلى طريق الضلال؟ قلنا: معناه: وكانوا مستبصرين في أمور الدنيا، وقيل معناه: وكانوا عارفين الحق بوضوح الحجج والدلائل، ولكنهم كانوا ينكرونه متابعة للهوى، لقوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] . وقيل: معناه: وكانوا مستبصرين لو نظروا نظر تدبّر وتفكّر. فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الآية 41] ، وكل أحد يعلم أن أضعف بيوت يتخذها الهوامّ بيت العنكبوت؟ قلنا: معناه لو كانوا يعلمون، أنّ اتخاذهم الأصنام أولياء من دون الله، مثل اتخاذ العنكبوت بيتا، لما اتّخذوها. فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [الآية 46] ، وأهل الكتاب كلهم ظالمون لأنهم كافرون، ولا ظلم أشدّ من الكفر، ويؤيده قوله تعالى وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] ؟ قلنا: أوّلا المراد بالظلم هنا الامتناع عن قبول عقد الذّمّة، وأداء الجزية، أو نقض العهد بعد قبوله. ثانيا: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29] . فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [الآية 48] ؟ قلنا: الحكمة فيه تأكيد لنفي، كما يقال في الإثبات للتأكيد: هذا الكتاب

ممّا كتبه فلان بيده وبيمينه، ورأيت فلانا بعيني، وسمعت هذا الحديث بأذني، ونحو ذلك. فإن قيل: لم لم يؤكّد سبحانه وتعالى في التلاوة، ولم يقل: «وما كنت تتلو من قبله من كتاب بلسانك» ؟ قلنا: الأصل في الكلام عدم الزيادة، وكلّ ما جاء على الأصل لا يحتاج إلى العلّة، إنما يحتاج إلى العلة ما جاء على خلاف الأصل. فإن قيل: لم قال تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الآية 69] ، ومعلوم أنّ المجاهدة في دين الله تعالى، أو في حقّ الله تعالى، مع النفس الأمّارة بالسوء، أو مع الشيطان أو مع أعداء الدين، ذلك كله إنّما يكون بعد تقدّم الهداية من الله تعالى، فلم جعلت الهداية من ثمرات المجاهدة؟ قلنا: معناه: والذين جاهدوا في طلب التعلّم، لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، بمعرفة الأحكام وحقائقها. وقيل معناه: لنهدينّهم طريق الجنة. وقيل معناه: والذين جاهدوا لتحصيل درجة لنهدينّهم إلى درجة أخرى أعلى منها، وحاصله لنزيدنّهم هداية وتوفيقا للخيرات، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17] وقوله تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مريم: 76] . وقال أبو سليمان الداراني رحمة الله عليه: معناه: والذين جاهدوا فيما علموا، لنهدينّهم إلى ما لم يعلموا. وعن بعض الحكماء: من عمل بما علم، وفّق لما لا يعلم. وقيل: إن الذي نرى من جهلنا بما لا نعلم، هو من تقصيرنا فيما نعلم..

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"العنكبوت"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «العنكبوت» » قوله سبحانه: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) . وهذه استعارة لأن لقاء الله سبحانه على الحقيقة، لا يصحّ، وإنما المراد لقاء حسابه، ولقاء جزائه وثوابه، أو لقاء الوقت، الذي جعله سبحانه وقت توفية الجزاء، على أعمال العاملين، وتوفير الأعواض على المعوّضين، وعلى ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) [البقرة] . وكلّ ما ورد في القرآن من ذكر لقاء الله تعالى، فالمراد به المعنى الذي ذكرناه والله أعلم ومن كلام العرب: لقينا خيرا ولقينا شرّا، وليس شيء من ذلك ممّا يرى بعين، ولا يواجه بوجه، وإنّما المراد أصابنا هذا، وأصابنا هذا. وقوله سبحانه: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [الآية 17] . وهذه استعارة، والمراد أنّكم خلقتم من الأصنام صورا، أي قدّرتموها على اختياراتكم وأصل الخلق التقدير، ثمّ جعلتموها آلهة تعبدونها والإله المعبود، إنّما هو الخالق لا المخلوق، والصانع لا المصنوع فكأنّه سبحانه قال: إنّكم جعلتم كذبا من الإله تعبدونه من دون الله، والإفك هاهنا هو الكذب، وقال بعضهم معنى تخلقون إفكا أي تصنعون الكذب، على مواقع

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

إرادتكم، وتضعونه مواضع شهواتكم. قوله سبحانه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [الآية 45] . وهذه استعارة والمراد بها، أنّ الصلاة لطف في الامتناع عن المعاصي، فأقيمت مقام الزاجر الناهي، لأن فيها من ذكر الله تعالى، وتلاوة كلامه، وما فيه من بشائر ثوابه، ونذائر عقابه، ما هو أدعى الدواعي إلى الطاعات، وأقوى الصوارف عن المقبّحات. وقوله سبحانه: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) . وهذه استعارة والحيوان هاهنا مصدر كالحياة والدار التي هي دار الاخرة، لا يجوز وصفها على الحقيقة بأنها حياة وإنما المراد أن الخلق يحيون فيها حياة دائمة، لا موت بعدها ولا انفصال لها فلما كانت الحياة الدائمة فيها، حسن أن توصف بها على طريق المبالغة، لأن الصفات بالمصادر تفيد المبالغة في معاني تلك الأشياء الموصوفة. قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [الآية 67] . وهي في معنى الاستعارة التي تقدّمتها على حدّ سواء، لأنّ الحرم لا يصح وصفه بالأمن على الحقيقة، وإنما يأمن الناس فيه فلاتصال هذه الحال ودوامها، واختصاص الحرم بين المواضع بها، حسن أن يوصف بالأمن على طريق المبالغة، ولذلك نظائر كثيرة في القرآن الكريم..

الفهرس

الفهرس سورة «الحج» المبحث الأول أهداف سورة «الحج» 3 سمات القوة 4 أقسام السورة وأفكارها 5 القسم الأول 5 القسم الثاني 6 القسم الثالث 6 القسم الرابع 6 حكمة التسمية 7 مقصود السورة اجمالا 7.. المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحج» 9 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 9 الغرض منها وترتيبها 9 بيان أهوال يوم القيامة 10 الإذن في القتال 11..

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحج» 15.. المبحث الرابع مكنونات سورة «الحج» 17.. المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحج» 19.. المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحج» 25.. المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحج» 29.. المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحج» 35. سورة «المؤمنون» المبحث الأول أهداف سورة «المؤمنون» 41 المؤمنون والايمان 41 الأقسام الرئيسية في السورة 42 القسم الأول 42 القسم الثاني 42 القسم الثالث 43 القسم الرابع 43 مظاهر عامة للسورة 44..

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المؤمنون» 45 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 45 الغرض منها وترتيبها 45 بيان شروط فلاح المؤمنين 45 أخبار بعض الرسل 46.. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المؤمنون» 51 ... المبحث الرابع مكنونات سورة «المؤمنون» 53 ... المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المؤمنون» 55.. المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المؤمنون» 61.. المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المؤمنون» 63.. المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المؤمنون» 65.. سورة «النور» المبحث الأول أهداف سورة «النور» 71 روح السورة 71

فقرات السورة 72 الفقرة الأولى 72 الفقرة الثانية 72 الفقرة الثالثة 73 الفقرة الرابعة 73 الفقرة الخامسة 73 أثر السورة في حفظ المجتمع 73.. المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النور» 75 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 75 الغرض منها وترتيبها 75 حكم الزّنا 75 حكم القذف 76 حكم دخول البيوت 77 حكم النظر 77 أحكام أخرى 77 حكم دخول البيوت للغلمان ونحوهم 78 حكم الاجتماع في بيوت الندوة 79.. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النور» 81.. المبحث الرابع مكنونات سورة «النور» 83.. المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النور» 85..

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النور» 91 ... المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النور» 93 ... المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النور» 99.. سورة «الفرقان» المبحث الأول أهداف سورة «الفرقان» 105 سورة تشد أزر الرسول 105 موضوعات السورة 108 الموضوع الأول 108 الموضوع الثاني 109 الموضوع الثالث 109 الموضوع الرابع 110.. المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفرقان» 111 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 111 الغرض منها وترتيبها 111 تنزيل القرآن للإنذار 112 عماية الكفار عن الإنذار 113.. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفرقان» 115..

المبحث الرابع مكنونات سورة «الفرقان» 117.. المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفرقان» 119.. المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفرقان» 123.. المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفرقان» 125.. المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفرقان» 129.. سورة «الشعراء» المبحث الأول أهداف سورة «الشعراء» 137 موضوع السورة 137 القصص في سورة الشعراء 138 قصة ابراهيم 138 قصة نوح 139 قصة هود 139 قصة ثمود 140 قصة لوط 140 أصحاب الأيكة 141 في أعقاب القصص 141..

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الشعراء» 143 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 143 الغرض منها وترتيبها 143 التنويه بشأن القرآن 143 إثبات تنزيل القرآن 144.. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الشعراء» 147.. المبحث الرابع مكنونات سورة «الشعراء» 149.. المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الشعراء» 151.. المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الشعراء» 155.. المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الشعراء» 159.. المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الشعراء» 165.. سورة «النمل» المبحث الأول أهداف سورة «النمل» 171 نظام السورة 171

موضوع السورة 171 القصص في سورة النمل 172 قصة داود وبلقيس 172 قصة بلقيس 172 قصة صالح ولوط عليهما السلام 173 أدلة القرآن على وجود الله 174.. المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النمل» 177 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 177 الغرض منها وترتيبها 177 التنويه بشأن القرآن 177 الترغيب والترهيب بقصص الأنبياء والصالحين 178 التنويه بهذه القصص وأصحابها 179.. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النمل» 181.. المبحث الرابع مكنونات سورة «النمل» 183.. المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النمل» 187.. المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النمل» 191.. المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النمل» 195..

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النمل» 203.. سورة «القصص» المبحث الأول أهداف سورة «القصص» 209 قصة موسى 209 موسى في سنّ الرجولة 210 موسى مع فرعون 211 الحلقة الجديدة في القصة 211 قارون 212 أهداف السورة 212 ختام السورة 213.. المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القصص» 215 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 215 الغرض منها وترتيبها 215 التنويه بشأن القرآن 215 إثبات تنزيل القرآن 217.. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القصص» 221.. المبحث الرابع مكنونات سورة «القصص» 223..

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «القصص» 227.. المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «القصص» 231.. المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «القصص» 235.. المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «القصص» 239.. سورة «العنكبوت» المبحث الأول أهداف سورة «العنكبوت» 247 ثلاثة فصول 248 القصص في سورة العنكبوت 249 الدرس الأخير في سورة العنكبوت 250 تاريخ نزولها، ووجه تسميتها 253 الغرض منها وترتيبها 253.. المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «العنكبوت» 253 الحكمة في فتنة المؤمنين في دينهم 254 ما يفعلونه في فتنتهم في دينهم 255.. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «العنكبوت» 259..

المبحث الرابع مكنونات سورة «العنكبوت» 261.. المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «العنكبوت» 263.. المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «العنكبوت» 265.. المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «العنكبوت» 267.. المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «العنكبوت» 271..

الجزء السابع

الجزء السابع سورة الرّوم

المبحث الأول أهداف سورة"الروم"

المبحث الأول أهداف سورة «الروم» «1» سورة الروم سورة مكّيّة نزلت بعد سورة الانشقاق، وآياتها 60 آية. وقد نزلت سورة الروم في السنة التي انتصر فيها الفرس على الروم، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة. وسمّيت هذه السورة بسورة الروم لقوله تعالى في أولها: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) . سبب نزول السورة قال المفسّرون «2» : بعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليهم رجلا يسمّى شهريران، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم، فقتلهم وخرّب مدائنهم وقطع زيتونهم، وكان قيصر قد بعث رجلا يدعى يحنس، فالتقى مع شهريران بأذرعات وبصرى وهما أدنى الشام إلى أرض العرب. فغلبت فارس الرّوم، وبلغ ذلك النبيّ (ص) وأصحابه بمكّة فشقّ عليهم. وكان النبي (ص) يكره أن يظهر الأمّيّون من أهل المجوس على أهل الكتاب من الروم، وفرح كفار مكّة وشمتوا، وقالوا للمسلمين: إنكم أهل كتاب، والنّصارى أهل كتاب ونحن أمّيّون. وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم، وإنّكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم. فأنزل الله تعالى سورة الروم. وفيها يفيد أنّ أهل فارس قد غلبوا الروم في

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. (2) . انظر تفسير الجلالين، والطبري، ومقاتل بن سليمان، وظلال القرآن في أسباب النزول للواحدي. [.....]

فصلان مترابطان

أرض الأردن وفلسطين وهي أقرب البلاد إلى جزيرة العرب. ثمّ وعد الله جلّ جلاله أن ينتصر الروم على الفرس في جولة أخرى خلال بضع سنين. والبضع هو ما بين الثلاث إلى التسع أو العشر. وقد التقى الجيشان في السنة السابعة من الالتقاء الأوّل، وغلبت الروم فارس. وعن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم بدر غلب المسلمون كفّار مكّة وأتى المسلمين الخبر بعد ذلك- والنبيّ والمؤمنون بالحديبية- بأن الروم قد غلبوا أهل فارس ففرح المسلمون بذلك، لانتصار أهل الكتاب على عباد الأوثان، فذلك قوله تعالى: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) . فصلان مترابطان يمضي سياق سورة الروم، في فصلين مترابطين: الفصل الأول: يربط بين نصر المؤمنين والحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما، ويرتبط به أمر الدنيا والاخرة. ويوجّه إلى سنّة الله فيمن مضى قبلهم من القرون، ويقيس عليها قضيّة البعث والإعادة. ثمّ يعرض عليهم مشهدا من مشاهد الكون، وآيات الله المبثوثة في ثناياه، ودلالة تلك المشاهد وإيحائها للقلوب، ويضرب لهم من أنفسهم وممّا ملكت أيمانهم أمثالا تكشف عن سخافة فكرة الشرك، وقيامها على الأهواء التي لا تستند إلى حق أو علم. وينتهي هذا الموضوع بتوجيه الرسول (ص) إلى اتّباع طريق الحق الواحد الثابت الواضح، طريق الفطرة التي فطر النّاس عليها، والتي لا تتبدّل ولا تدور مع الهوى، ولا يتفرّق متّبعوها شيعا وأحزابا، كما تفرّق الذين اتّبعوا الهوى. ويمتدّ هذا الفصل من أول السورة إلى الآية 32. الفصل الثاني: يكشف الفصل الثاني من سورة الروم عمّا في طبيعة النّاس من تقلّب لا يصلح أن تقام عليه الحياة، ما لم يرتبطوا بمعيار ثابت لا يدور مع الأهواء. ويصوّر حالهم في الرحمة والضّرّ، وعند بسط الرّزق وقبضه، ويستطرد السياق في هذه المناسبة إلى وسائل إنفاق هذا الرّزق وتنميته، ويعود إلى قضية الشّرك والشّركاء فيعرضها من هذه الزاوية فإذا

الأفكار العامة للسورة

الشركاء لا يرزقون ولا يميتون ولا يحيون. ويربط بين ظهور الفساد في البرّ والبحر وعمل النّاس وكسبهم، ويوجّههم إلى السّير في الأرض، والنّظر في عواقب الناس المشركين من قبل، ومن ثمّ يذكر السياق توجيهه تعالى رسوله (ص) إلى الاستقامة على دين الفطرة من قبل أن يأتي اليوم الذي يجزى فيه كلّ بما كسبت يداه، ويعود بهم بعد ذلك إلى آيات الله في مشاهد الكون، كما عاد بهم في الفصل الأول. ويعقب على ذلك بأن الهدى هدى الله، وأن الرسول (ص) لا يملك إلا البلاغ فهو لا يهدي العمي ولا يسمع الصم، ثم يطوف بهم في جولة جديدة في ذات أنفسهم ويذكّرهم بأطوار نشأتهم من بدئها إلى منتهاها، منذ الطفولة الواهنة الضعيفة إلى الموت والبعث والقيامة، ويعرض عليهم مشهدا من مشاهدها، ثمّ ينتهي هذا الموضوع، وتختم معه السورة بتوجيه الرسول (ص) إلى الصبر على دعوته، وما يلقاه من الناس فيها، والاطمئنان إلى أنّ وعد الله حقّ لا بدّ آت فلا يقلقه الذين لا يوقنون، ويمتد هذا الفصل من الآية 33 إلى آخر السورة. الأفكار العامة للسورة الفكرة الرئيسة في سورة الروم، هي الكشف عن الارتباطات الوثيقة بين أحوال الناس وأحداث الحياة، وماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها، وسنن الوجود ونواميس الكون، ومن خلال هذه الارتباطات، يبدو أنّ كلّ حركة وكلّ حالة وكلّ نصر وكلّ هزيمة مرتبطة جميعها برباط وثيق، محكومة بقانون دقيق وأنّ مردّ الأمر فيها كلّه لله سبحانه: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الآية 4] . وهذه هي الحقيقة الأولى التي يؤكّدها القرآن كلّه بوصفها الحقيقة الموجّهة في هذه العقيدة. الحقيقة التي تنشأ عنها التصوّرات جميعها والمشاعر والقيم والتقديرات، والتي بدونها لا يستقيم تصوّر ولا تقدير. وهناك أفكار متعدّدة مبثوثة في ثنايا السورة منها: ذكر أخبار القرون الماضية، وذكر قيام الساعة، وآيات التوحيد والحجج المترادفة الدّالة على الذّات والصّفات، وبيان البعث يوم القيامة وتمثيل حال المؤمنين والكافرين، وتقرير المؤمنين على الإيمان، والأمر بالمعروف

عالمية الدعوة الاسلامية

والإحسان إلى ذوي القربى، ووعد الثواب على أداء الزكاة، والإخبار عن ظهور الفساد في البرّ والبحر، وعن آثار القيامة، وذكر عجائب الصنع في السّحاب والأمطار، وظهور آثار الرّحمة في إنبات النبات وظهور الربيع، وذكر إصرار الكفّار على الكفر، وتخليق الله الخلق مع الضّعف والعجز، وإحياء الخلق بعد الموت، والحشر والنشر، وتسلية الرسول (ص) . عالمية الدعوة الاسلامية لم يقف القرآن في سورة الرّوم عند حادث هزيمة الرّوم أمام الفرس، ثمّ الوعد بغلبة الرّوم للفرس. ولكنّه انطلق من ذكر هذه الحادثة ليربط بين سنّة الله تعالى في نصر العقيدة السماوية والحق الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما، وليصل بين ماضي البشريّة وحاضرها ومستقبلها. ثمّ يستطرد السياق القرآني إلى الحياة الاخرة ومشاهدها، ثمّ يطوف بالمسلمين في مشاهد الكون ومشاهد النفس وأحوال البشر وعجائب الفطر، ومن ثمّ يرتفع تصوّرهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير، ويشعرون بدقّة السّنن التي تحكم هذا الكون وتصرّف أحداث الحياة وتحدّد مواضع النصر ومواضع الهزيمة. وفي ظل ذلك التصوّر الواسع الشامل، تتكشّف عالميّة هذه الدعوة، وارتباطها بأوضاع العالم كلّه من حولها. ويدرك المسلم موقفه وموقف أمّته في ذلك الخضم الهائل، ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب الله، فيؤدّي حينئذ دوره على بصيرة، وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الروم"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الروم» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الروم بعد سورة الانشقاق، وكان نزول سورة الروم في السنة التي هزمهم الفرس فيها، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة، فتكون من السور التي نزلت فيما بين الإسراء والهجرة إلى المدينة. وقد سمّيت هذه السور بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) وتبلغ آياتها ستّين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة تسلية المؤمنين فيما يصيبهم من أذى المشركين، كشماتتهم بهم حين انتصر الفرس على الرّوم، وذلك بوعدهم بنصر الرّوم على الفرس في الدّنيا، وبيان ما يكون من حالهم وحال أعدائهم في الاخرة وقد جاء هذا الغرض فيها على قسمين: أوّلهما في تسلية المؤمنين بوعدهم بنصر الروم على الفرس، وما إلى هذا ممّا ذكر فيه، وثانيهما في بيان بعض ما يثبّتهم ويهوّن عليهم ما يلقونه من أعدائهم. وقد جاءت هذه السورة بعد سورة العنكبوت لأنّ المسلمين وعدوا فيها بالنصر على المشركين، فجاءت هذه السورة بعدها، وفي أولها وعده سبحانه بنصر الروم على الفرس، ليكون مقدّمة لتحقيق وعده جل جلاله للمسلمين، لأنّ الروم كانوا أهل كتاب، وكانوا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

تسلية المؤمنين الآيات [1 - 16]

أقرب إلى المسلمين من الفرس، ولهذا حزن المسلمون لهزيمتهم وفرح مشركو قريش. تسلية المؤمنين الآيات [1- 16] قال الله تعالى: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فذكر أن الروم غلبوا، ووعد بنصرهم على من غلبهم، ليفرح المؤمنون بنصرهم لأنّهم أهل كتاب مثلهم ثم ذكر سبحانه أنه إذا وعد لا يخلف وعده، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون، لأنّ علمهم لا يتعدّى ظاهرا أمور الدنيا من ملاذّها وملاعبها، ولا يصل إلى باطنها وأسرارها، وهم إلى هذا غافلون عن الاخرة ولا يصلون إلى علمها، فهم لهذا كلّه ينكرون وعده بالنصر ولا يصدّقون به، وينكرون الحشر وما أعدّ لهم فيه ثمّ حثّهم على ما يوصلهم إلى العلم بذلك من الفكر والنظر، لأنهم لو فكّروا في خلق السماوات والأرض وما بينهما، لعلموا أن الله جلّ جلاله لم يخلقهم إلّا لحكمة وأجل معيّن، ثمّ يكون بعد ذلك ما ينكرونه من الحشر، ولو ساروا في الأرض لرأوا عاقبة من كذّب قبلهم من الأمم، وحملهم ذلك على التصديق بما وعد الله من النصر ثم ذكر أنه هو الذي بدأ الخلق فهو قادر على إعادته وعلى حشرهم إليه بعد موتهم، وأنّهم يوم يحشرون إليه لا يجدون إلى الخلاص طريقا، ولا يكون لهم شفيع من شركائهم، ويكافرون بهم بعد مشاهدة عجزهم ويومئذ يتفرّق كلّ من المؤمنين والكافرين إلى ما أعدّ لهم، فأمّا المؤمنون فهم في روضة يحبرون وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) . وسائل تثبيتهم الآيات [17- 60] ثمّ قال تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) فأمرهم بالمواظبة على الصلاة في أوقاتها من الصباح والمساء والعشيّ والظّهيرة، كما أمرهم بذلك في السّورة السابقة ثمّ ذكر بما يوجب عليهم القيام بتسبيحه وحمده فيها، أنّه هو الذي يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ،

إلى غير هذا ممّا ذكره من آياته ونعمه ثمّ ذكر أنّه هو الذي يتفرّد بما ذكره من ذلك كلّه، ولا يصحّ أن يكون له فيه شركاء من خلقه يستحقّون العبادة مثله، كما لا يصحّ أن يكون لنا فيما يرزقنا شركاء ممّا ملكت أيماننا. ثم أظهر لهم فضل ذلك الدّين الذي يلقون الأذى فيه، فذكر أنه دين الفطرة التي فطر النّاس عليها، فيجب أن يتمسّكوا به ولا يكونوا من المشركين الذين تركوه فتفرّقوا شيعا يعادي بعضهم بعضا ثمّ ذكر أنّ هؤلاء المشركين منهم من إذا مسّه ضرّ رجعوا إلى فطرتهم فدعوا ربّهم، فإذا كشف الضرّ عنهم رجع فريق منهم إلى شركهم، وكفروا بما آتاهم من كشف الضرّ عنهم ومنهم من هو على عكس هذا، فإذا أذاقه رحمة فرح بها، وإن أصابته سيّئة وقع في القنوط واليأس. ثمّ أمرهم أن يواسي بعضهم بعضا، بأن يعطي القريب حقّ النّفقة لقريبه، ويعطي الغنيّ حقّ الزّكاة للمساكين وابن السبيل، ونهاهم أن يتعاملوا بالرّبا لأنّه لا يربو عنده كما تربو الزكاة. ثمّ ذكر لهم أنه لا يترك أعداءهم من غير أن يعجّل لهم بعض العذاب على ما أظهروا من الفساد في البرّ والبحر، وأمرهم أن يسيروا في الأرض لينظروا كيف كان عاقبة الذين أشركوا من قبلهم، وأن يتمسّكوا بدينهم من قبل أن يأتيهم ذلك العذاب فيتفرّقوا فيه، فالكافرون يعاقبون على كفرهم، والمؤمنون يثابون على إيمانهم، ليجزيهم من فضله بما صبروا على أذاهم، فيرحمهم بذلك كما يرسل الرياح مبشّرات برحمته، وينتقم من أعدائهم كما انتقم من الذين أجرموا قبلهم ثمّ قرّب وعده لهم مع ضعف حالهم بأنه يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء ثم يخرج المطر من خلاله، فإذا أصاب به من يشاء من عباده فرحوا به وإن كانوا قبله في يأس منه، ثم قرّبه أيضا بما يشاهد من آثار رحمته في إحيائه الأرض بعد موتها، فمن يفعل ذلك يقدر على تقويتهم بعد ضعفهم وهو على كل شيء قدير، ثمّ ذكر أن أولئك المشركين لو أرسل عليهم ريحا مصفرّا إنذارا لهم بما يوعدهم من ذلك العذاب لظلّوا من بعده على كفرهم، لأنهم بلغوا من الجهل مالا يتأثّرون معه بإنذار أو دعاء، فلا يصدّقون وعده بنصر هؤلاء الضعفاء عليهم، ثمّ ذكر ممّا يثبت

قدرته على ذلك أنّه خلقهم من ضعف في حال طفولتهم، ثمّ جعل لهم من بعد ضعفهم قوّة في حال شبابهم، ثمّ جعل لهم من بعد قوّتهم ضعفا في حال شيخوختهم، فهو قادر على أن يضعفهم وينصر المؤمنين عليهم ثم ذكر عذابهم الأكبر بعد عذاب الدنيا، وذلك حين تقوم القيامة فتنسيهم شدّتها مقدار ما لبثوه في دنياهم، فيقسمون أنهم ما لبثوا فيها غير ساعة، ويردّ عليهم أهل العلم والإيمان بأنهم لبثوا الأجل الذي ضربه الله لهم إلى يوم البعث. ولكنّهم كانوا لا يؤمنون بذلك ففاتهم العلم به، ويومئذ يلقون عذابهم ولا ينفعهم معذرة ولا يكون لهم استعتاب، لأنّه لم يجعل لهم ما يعتذرون به بعد أن ضرب لهم في القرآن من كلّ مثل، فكانوا لا يؤمنون بما يأتيهم به من الآيات ثمّ ختمت السورة بالأمر بالصبر الى أن يتحقّق ذلك الوعد، فقال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الروم"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الروم» «1» أقول: ظهر لي في اتّصالها بما قبلها، أن سورة العنكبوت ختمت بقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت 69] . فافتتحت هذه بوعد من غلب من أهل الكتاب بالغلبة والنصر، وفرح المؤمنين بذلك، وأنّ الدولة لأهل الجهاد فيه، ولا يضرهم ما وقع لهم قبل ذلك من هزيمة «2» . هذا مع تأخيها بما قبلها في المطلع، فإنّ كلّا منهما افتتح ب (ألم) غير معقّب بذكر القرآن، وهو خلاف القاعدة الخاصة بالمفتتح بالحروف المقطّعة، فإنها كلّها عقّبت بذكر الكتاب أو وصفه، إلّا هاتين السّورتين وسورة القلم، لنكتة بيّنتها في «أسرار التنزيل» «3» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وذلك في قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ (1) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ الى قوله تعالى وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الآيات 2- 5] . (3) . ذكر المؤلّف في المقدّمة: أنه ألّف هذا الكتاب الموسوعي، ولم نعثر عليه في قوائم المخطوطات، وأشار اليه في الإتقان: 1: 281، 3: 369. والذي نراه في سبب عدم افتتاح العنكبوت والروم بالكتاب أو وصفه، والله أعلم: أنّه لمّا تكرّر الحديث عن الكتاب عقب الحروف المقطّعة، وأنه من عند الله، وهدى للمتقين، وتنزيل من رب العالمين، كان لا بد من ابتلاء المصدّقين به حتّى ينعزل المنافقون عن المؤمنين، ويظهر الصادق في إيمانه من الكاذب، وهذا بمثابة الاختبار العملي لاستجابة الناس لأمر الكتاب، ولا سيّما وأن ثمّة حملة تشكيك أثارها الكفّار ضد الايمان. ولذا قال تعالى في العنكبوت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ [العنكبوت: 10] الى أن قال جلّ وعلا: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] . أمّا في الروم، فقد عقبت الحروف المقطّعة باختبار ودليل على صدق وعد الكتاب، الذي صدّق الكتاب بالإخبار عن المستقبل، وما يجري فيه من وعد الروم بالنصر بعد الهزيمة. وهذا ابتلاء يميّز الله به المؤمنين من المنافقين عند هذا الوعد، وموقف الفريقين منه. ودليل على صدق الكتاب، وأنّه من الله سبحانه حينما تحقق النصر بالفعل. وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) . أمّا سورة القلم، فكانت ثالثة السور نزولا بمكّة، وكان الكفّار قد أرجفوا بأنّ الرسول (ص) مجنون، أو به مسّ من الجن، فاقتضى الأمر تسليته وتثبيت فؤاده، وقدّم هذه التسلية على الدفاع عن القرآن الذي جاءه عقب ذلك في الآيات وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) [القلم] الى: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) [القلم] .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الروم"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الروم» «1» 1- فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [الآية 3] . قال ابن عبّاس: في طرف الشام «2» . وقال مجاهد: في الجزيرة «3» ، وهي أقرب أرض الرّوم إلى فارس. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. 2- فِي بِضْعِ سِنِينَ [الآية 4] . هي تسع فيما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود. وسبع فيما أخرجه التّرمذيّ من حديث نيار الأسلمي «4» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مورخ. (2) . في (أذرعات) كما في رواية عكرمة في «الطّبري» 21: 13 وهي المسمّاة الآن (درعا) في جنوب سورية. (3) . الجزيرة: منطقة في سورية تقع بين نهري دجلة والفرات. (4) . التّرمذيّ (3192) في التفسير، وقال: هذا حديث صحيح، حسن غريب.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الروم"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الروم» «1» 1- قال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [الآية 9] . وقوله تعالى: وَعَمَرُوها معروف من العمارة. وقد استعمل الثلاثي. وأمّا في عربيّتنا المعاصرة فقد دأب المعربون على استعمال المضاعف «عمّر» . 2- وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الآية 43] . أي: يتصدّعون، أي: يتفرّقون. أقول: ودلالة التصدّع في عصرنا اختصّت بالشيء يتكسّر، فتذهب منه أجزاء وليس في دلالاته هذا الدليل الذي ورد في الآية. 3- وقال تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) . يقال: استعتبني فلان فأعتبته، أي: استرضاني فأرضيته، وذلك إذا كنت جانيا عليه، وحقيقة أعتبته: أزلت عتبة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الروم"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الروم» «1» قال تعالى: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) أي: من بعد ما غلبوا. وقرأ بعضهم (غلبت) و (سيغلبون) لأنهم كانوا حين جاء الإسلام غلبوا ثم غلبوا حين كثر الإسلام. وقال سبحانه: أَساؤُا السُّواى [الآية 10] ف «السّوأى» مصدر هاهنا مثل «التقوى» . وقال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً [الآية 24] فلم يذكر فيها (أن) لأنّ هذا يدل على المعنى. قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد السابع بعد المائة] : الا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذّات هل أنت مخلدي أراد: أن أحضر الوغى. وقال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ [الآية 30] بالنّصب على الفعل، كأنّ السّياق «فطر الله تلك فطرة» . وقال سبحانه: مُنِيبِينَ [الآية 31] على الحال لأنّه حينما قال فَأَقِمْ وَجْهَكَ [الآية 30] قد أمره وأمر قومه، حتّى كأنّ السياق «فأقيموا وجوهكم منيبين» . وقال تعالى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا [الآية 34] فمعناه، والله أعلم، فعلوا ذلك ليكفروا. وإنّما أقبل عليهم، فقال «تمتّعوا» فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) وقرأ بعضهم: (فتمتّعوا فسوف يعلمون)

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

كأنّه «فقد تمتّعوا فسوف يعلمون» . وقال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) فقوله تعالى: إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) هو الجواب لأنّ «إذا» معلّقة بالكلام الأوّل بمنزلة «الفاء» . وفي قوله سبحانه: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) ورد مِنْ قَبْلِهِ للتوكيد نحو فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (40) [الحجر] . وقال تعالى: مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الآية 4] بالرفع لأن «قبل» و «بعد» مضمومتان، ما لم تضفهما لأنهما غير متمكّنتين، فإذا أضفتهما تمكّنتا.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الروم"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الروم» «1» إن قيل: لم ذكر الضمير في قوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الآية 27] والمراد به الإعادة لسبق قوله جلّ وعلا: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الآية 27] . قلنا: معناه: ورجعه، أو ردّه أهون عليه، فأعاد الضمير على المعنى لا على اللفظ، كما في قوله تعالى لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [الفرقان: 49] أي بلدا أو مكانا. فإن قيل: لم أخّرت الصلة في قوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الآية 27] وقدمت في قوله تعالى هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم: 9] ؟ قلنا: لأن هناك قصد الاختصاص، وهو يحسّن الكلام، فكأنّ السّياق: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وإن كان مستصعبا عندكم وأما هنا فلا معنى للاختصاص فجرى على أصله، والأمر مبني على ما يعقل الناس من أنّ الإعادة أسهل من الابتداء، فلو قدمت الصلة لتغيّر المعنى. فإن قيل: لم قال تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الآية 27] والأفعال كلّها بالنسبة إلى قدرة الله تعالى في السهولة سواء، وإنّما تتفاوت في السهولة والصعوبة بالنسبة إلى قدرتنا؟ قلنا: معناه «وهو هيّن عليه» ، وقد جاء في كلام العرب أفعل بمعنى اسم الفاعل من غير تفضيل، ومنه قولهم في الأذان: الله أكبر، أي: الله كبير في قول بعضهم، وقال الفرزدق:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

إنّ الّذي سمك السّماء بنى لنا بيتا دعائمه أعزّ وأطول أي عزيزة طويلة، وقال معن بن أوس المزني: لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل على أيّنا تعدو المنية أوّل أي وإنّي لوجل. وقال آخر: أصبحت أمنحك الصّدود وإنّني قسما إليك مع الصّدود لأميل أي لمائل، وقال آخر: تمنّى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد أي بواحد. الثاني: أنّ معناه، وهو أهون عليه في تقديركم وحكمكم، لأنّكم تزعمون وتعتقدون فيما بينكم أنّ الإعادة أهون من الابتداء، كيف يكون ذلك، والابتداء من ماء، والإعادة من تراب، وتركيب الصورة من التراب أهون عندكم؟ الثالث: أن الضمير في قوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الآية 27] راجع إلى المخلوق لا إلى الله تعالى، معناه: أنه لا صعوبة على المخلوق فيه ولا إبطاء، لأنه يعاد دفعة واحدة، بقوله تعالى كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس] وفي الابتداء خلق نطفة ثم نقل إلى مضغة ثمّ إلى عظام ثمّ إلى كسوة اللحم. الرابع: أنّ الابتداء من قبيل التفضّل الّذي لا مقتضى لوجوبه، والإعادة من قبيل الواجب لأنها لا بدّ منها لجزاء الأعمال، وجزاؤها واجب بحكم وعده سبحانه وتعالى. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً [الآية 39] على اختلاف القراءتين بالمد والقصر؟ قلنا: قال الحسن رحمه الله: المراد به الربا المحرم. والخطاب لدافعي الرّبا، لا لآخذيه. معناه: وما أعطيتم أكلة الربا من زيادة لتربو وتزكو في أموالهم فلا تزكو عند الله ولا يبارك فيها، ونظيره قوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [البقرة: 276] لا فرق بينهما. وقال ابن عباس رضي الله عنهما والجمهور: المراد به أن يهب الرجل غيره هبة أو يهدي إليه هديّة على قصد أن يعوّضه أكثر منها. وقالوا: وليس في ذلك أجر ولا وزر، وإنّما سماه لأنه مدفوع لاجتلاب الربا، وهو الزيادة، فكان سببا لها، فسمّي باسمها ومعنى قراءة المد ظاهر. وأما قراءة القصر فمعناها: وما جئتم: أي

وما فعلتم من إعطاء ربا كما تقول أتيت خطأ وأتيت صوابا: أي فعلت، وقوله تعالى: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) ، أي ذوو الأضعاف من الحسنات، وهو التفات عن الخطاب إلى الغيبة. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ [الآية 49] بعد قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ [الآية 49] . قلنا: فائدته التأكيد كما في قوله تعالى فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) [الحجر] . وقيل الضمير لإرسال الرياح أو السحاب فلا تكرار. فإن قيل: لم قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ [الآية 54] والضعف صفة الشيء الضعيف، فكيف يخلق الإنسان من تلك الصفة، مع علمنا أنه خلق من عين، وهو الماء أو التراب، لا من صفة. قلنا: أطلق المصدر وهو الضعف، وأريد به اسم الفاعل وهو الضعيف كقولهم: رجل عدل، أي: عادل ونحوه فمعناه من ضعيف وهو النطفة. وقيل: معناه على ضعف، «فمن» بمعنى «على» كما في قوله تعالى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الأنبياء: 77] والمراد به ضعف جثّة الطفل في طفولته. فإن قيل: لم قال تعالى: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الآية 56] وهم إنّما لبثوا في الأرض في قبورهم؟ قلنا: معناه لقد لبثتم في قبوركم على ما في علم كتاب الله، أو في خبر كتاب الله. وقيل معناه: في قضاء الله. وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره: وقال الّذين أوتوا العلم في كتاب الله الّذين عملوه وفهموه، وذلك كقوله تعالى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) [المؤمنون] . فإن قيل: لم قال تعالى هنا: وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وقال في موضع آخر: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) [فصّلت] فجعلهم مرّة طالبي الإعتاب، ومرّة مطلوبا منهم الإعتاب؟ قلنا: معنى قوله تعالى: وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) أي ولا هم يقالون عثراتهم بالردّ إلى الدنيا، ومعنى قوله تعالى وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) [فصلت] أي: وإن يستقيلوا فما هم من المقالين، هذا ملخّص الجواب وحاصله.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الروم"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الروم» «1» قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) «2» . هذه استعارة والمراد بقيام الساعة حضور وقتها والأجل المضروب لها. وعلى هذا قولهم: قد قامت السوق أي حضر وقتها الّذي يتحرّك فيه أصحابها ويستمرّ بيعها وشراؤها. وعلى هذا المعنى سمّيت القيامة. وقد يجوز أيضا أن تكون تسميتها بذلك لقيام الناس فيها على أقدامهم قال سبحانه: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) [المطفّفين] : فأمّا قوله تعالى في هذه السورة وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الآية 25] ، فمعناه أنها تتماسك بأمره في مناطاتها وتقف على مستقرّاتها، ومثل ذلك قول القائل: إنّما يقوم أمر فلان بكذا، يريد أنّه إنّما يتماسك به، وليس هناك في الحقيقة قيام يشار إليه. فأمّا قوله تعالى في هذه السورة فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الآية 30] ، فالمراد به اتّبع طرائق الدين قاصدا إلى سمته غير منحرف عنه إلى غيره، ومنه قول العرب: قد استقام المنسم إذا سارت الإبل في طريق واضح لا جوانح له ولا معادل فيه والمعنى قوّم وجهك على الدين اللّاحب «3» ومنهج الحق الواضح وقوله تعالى في هذه الآية دليل على أنّ الدّين القيّم راجع في

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . من بلس: انكسر وحزن. قلّ خيره. تحيّر في أمره. يئس من رحمة الله. (3) . من لحب، لحب الطريق: سلكه. أوضحه. [.....]

المعنى إلى ما ذكرناه، والمراد به أنه مستقيم بغير اعوجاج، ومنتصب بغير اضطراب، وقوله تعالى من بعد: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) قريب في المعنى ممّا تقدم، لأنّ المراد بذلك لا يخلو من أحد الأمرين: إمّا أن يكون أراد تعالى بإقامة الصلاة القيام لأوقاتها، لأنّ القيام من أعظم أركان الصلاة وإمّا أن يكون أراد تأديتها على واجبها وإخلاصها من كلّ ما يعود بفسادها، وذلك كقولهم: أقام فلان قناة الدّين أي أظهر أمره، ووالى نصره، ورمى الأعداء عنه، ووقم «1» الأضداد دونه، وجميع هذه الألفاظ المذكورة نظائر، وهي بأجمعها استعارات لا حقائق، وإنّما أوردناها في نسق واحد، لاتّفاق ورودها في سورة واحدة. 2- قال تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً [الآية 32] . وهذه استعارة، لأن الدّين على الحقيقة لا يتأتّى فيه التفريق وإنّما المراد، والله أعلم، أنّهم لمّا افترقوا في دينهم بمذاهب مختلفة وطرائق متباينة، كانوا كأنّهم قد فرّقوه فرقا، وجعلوه شيعا، فحسن وصفهم بذلك. 3- قال تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) . وهذه استعارة. والمراد بالسلطان هاهنا البرهان على أحد التأويلين وهو الحقّ الّذي يتسلّط به الإنسان على مخالفه، ويظهر على منازعه، وإنّما وصفه سبحانه بالكلام، لظهور حجّته وقوّة دعوته، فكأنه ناطق ومدافع مناضل. 4- قال سبحانه: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الآية 39] . وهذه استعارة والمراد بالرّبا هاهنا، المال الّذي يعطيه الإنسان غيره ليعطيه أكثر منه على الوجه المنهي عنه. وأصل الرّبو الزيادة والكثرة، وإنّما سمّي المال المعطى الّذي يلتمسون به الزيادة ربا، لأنه جعل غرضه لطلب الزيادة، ووصلته إليها علّة لها، فحسن تسميته بذلك، للسبب الّذي ذكرناه، ومعنى قوله تعالى: لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ

_ (1) . من وقم، أوقم الرجل: قهره. وردّه عن حاجته أقبح الردّ.

أي ليزيد في أموال الناس، وليس قوله سبحانه هاهنا بمعنى ليكون مددا لأموال الناس فتزيد به. وإنّما المعنى يزيد هو بدخوله في أموال الناس ودخوله فيها، هو أنّ صاحبه يعطيه الناس ليأخذ منهم أكثر منه فإذا ما كره وأراد التعويض عنه بالقدر الزائد عليه، كان كأنّه قد ربا أي كثر بحصوله في أموال الناس، لأنّ كثرته وإضعافه كان السبب فيهما، كونه في أموال الناس على الوجه الّذي بيّنّاه، وهذا من غوامض المعاني. ومن الشواهد على بيان ربا، بمعنى الزيادة والكثرة في كلامهم قول يزيد بن مفرغ الحميري: وكم عطايا له ليست مكدّرة لا بل تفيض كفيض المسبل الرّابي يريد البحر، فسمّاه رابيا، لكثرة مائه وارتفاع أمواجه. 5- قال سبحانه: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) . وهذه استعارة. ومعنى يمهدون هاهنا، أي يوطّئون لجنوبهم، ويمكّنون لأقدامهم عند مصارع الموت ومواقف البعث. وذلك كناية عن تقديم العمل الصالح والمتجر الرابح، تشبيها بمن وطّأ لمضجعه بالفرش الوثيرة والنمارق «1» الكثيرة. 6- قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الآية 46] . وهذه استعارة. والمراد بها ما جرت به العادة من هبوب الرياح أمام الغيوث، وأنّ ذلك يقوم مقام النطق البشّار، والوعد بالأمطار المتوقعة بين يدي الرحمة. والرحمة في كثير من الآيات كناية عن الغيث، وعلى ذلك قوله تعالى في هذه السورة فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ [الآية 50] أي الى ما كان يعقب الغيوث، من منابت الأعشاب واكتساء القيعان. 7- قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ [الآية 48] . وهذه استعارة. والمراد بإثارتها السحاب أنها تلفق قطعه، وتوصل منقطعه، وتستخرجه من غيوبه، وتظهره بعد غيوضه تشبيها بالقانص أي ينهضه من مجاثمه، ويبرزه عن مكانه، لتراه عينه فيتأتّى لقنصه، ويتمكّن من فرصه.

_ (1) . من النمرق: الوسادة الصغيرة يتّكأ عليها.

سورة لقمان 31

سورة لقمان 31

المبحث الأول أهداف سورة"لقمان"

المبحث الأول أهداف سورة «لقمان» «1» سورة لقمان سورة مكّيّة وعدد آياتها 34 آية. نزلت بعد سورة الصّافات، وسورة لقمان من أواخر ما نزل في مكة. فقد نزلت بعد الإسراء وقبيل الهجرة. وقد سمّيت بسورة لقمان لورود قصة لقمان فيها، الّذي كان من الحكماء الأقدمين، ولم يرد اسم حكيم غيره في القرآن. وسورة لقمان رحلة بعيدة الاماد والآفاق، تطوف بالقلب في جولات متعدّدة، لتأكيد قضيّة العقيدة وترسيخها في النفوس، وهي القضيّة الّتي تعالجها السور المكّيّة بأساليب شتّى، ومن زوايا متنوّعة، تتناول القلب البشريّ من جميع أقطاره، وتلمس جوانبه بشتّى المؤثّرات الّتي تخاطب الفطرة وتوقظها. هذه القضيّة الواحدة، قضية العقيدة، تتلخّص هنا في توحيد الخالق وعبادته وحده، وشكر آلائه، وفي اليقين بالآخرة، وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل، وفي اتّباع ما أنزل الله والتخلّي عمّا عداه من مألوفات ومعتقدات. والسورة تتولّى عرض هذه القضيّة ثلاث مرّات في ثلاث جولات، تطوف كل منها بالقلب البشري فتعرض عليه دعوة الهدى من جانب الوحي ومن جانب الحكمة ومن جانب الكون الكبير سمائه وأرضه، وشمسه وقمره، وليله ونهاره وأجوائه وبحاره، وأمواجه

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

فقرات السورة

وأمطاره، ونباته وأشجاره وأخيرا من جانب القدرة الإلهية المحيطة بكل شيء، صاحبة الملك في الأولى والاخرة. فقرات السورة يمكن أن نقسم سورة لقمان إلى ثلاث فقرات أو جولات: الجولة الاولى: تبدأ الجولة بعد افتتاح السورة بالأحرف المقطّعة، فتقرّر أنّ هذه السورة من جنس تلك الأحرف، هي آيات الكتاب الحكيم، وهي هدى ورحمة للمحسنين. وهؤلاء المحسنون هم: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) . فتقرر قضيّة اليقين بالآخرة، وقضيّة العبادة لله، ومعها مؤثر نفسيّ ملحوظ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) . ومن ذا الّذي لا يريد أن يكون من المفلحين؟ ... وفي الجانب الاخر فريق من الناس يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله بغير علم، ويتّخذ تلك الآيات هزوا. وهؤلاء يعاجلهم بمؤثّر نفسيّ مخيف مناسب لاستهزائهم بآيات الله. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) . ثمّ يمضي السّياق في وصف حركات هذا الفريق: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها [الآية 7] . ومع الوصف مؤثّر نفسي منفّر من هذا الفريق: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً [الآية 7] . ومؤثّر آخر يخيفه مع التهكّم الواضح في التعبير: فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) . والبشارة هنا فيها من التهكّم الملحوظ ... ثمّ يعود السّياق إلى المؤمنين يفصّل شيئا من فلاحهم الّذي أجمله في أوّل السورة، ويبيّن جزاءهم الحسن في الاخرة. ثمّ يعرض صفحة الكون الكبير مجالا للبرهان القاطع الّذي يطالع الفطرة من كل جانب، ويخاطبها بكل لسان، ويواجهها بالحقّ الهائل الّذي يمرّ عليه النّاس غافلين ... وأمام هذه الأدلّة الكونيّة

الجولة الثانية:

الّتي تهزّ الحسّ وتنبّه الشعور، وتأخذ بتلابيب القلوب الشاردة الّتي تجعل لله شركاء، وهي ترى خلقه العظيم: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) . وتمتد هذه الفقرة من أوّل السورة إلى الآية 11. الجولة الثانية: تبدأ الجولة الثانية من خلال نفوس آدميّة، وتتناول القضيّة ذاتها بأسلوب جديد ومؤثّرات جديدة: إنّها نصيحة من رجل حكيم يعظ ابنه، فيقدّم له خلاصة تجاربه وحكمته، فيأمره بالتوحيد وينهاه عن الشرك، ويحثّه على برّ الوالدين وطاعتهما فيما يأمران به، إلّا إذا أمرا بالشّرك ونحوه، وينبّه لقمان ولده إلى إحاطة علم الله بكل شيء، إحاطة يرتعش لها الوجدان البشري. ثمّ يتابع لقمان وصيّته لابنه فيأمره أن يقوم بتكاليف العقيدة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يصبر ويحتمل فإنّ الصبر من أمّهات الفضائل. ويحثّ لقمان ولده على مكارم الأخلاق، وآداب النفس والسلوك فينهاه عن الكبر والبطر، ويأمره أن يعتدل في مشيته وأن يغضّ من صوته، وأن يلزم الرفق والهدوء والاعتدال. وقد استغرقت هذه الجولة الآيات 12- 19. الجولة الثالثة: تستغرق الجولة الثالثة بقية السورة من الآية 20 إلى الآية 34، بعرض أدلة التوحيد في خلق السماء والأرض، وفي تسخير الكون، وإسباغ النعم الظاهرة والباطنة. وفي ظل النّعم الظاهرة والأدلّة الملموسة يبدو الجدل في الله مستنكرا للفطرة تمجّه القلوب المستقيمة. ثمّ يتابع السّياق استنكار موقف الكفر والجمود، وتقليد الآباء دونما تبصّر ورويّة، ومن ثمّ يعرض قضيّة الجزاء في الاخرة مرتبطة بقضيّة الكفر والإيمان. ثمّ يقف الكافرون وجها لوجه أمام منطق الفطرة، وهي تواجه هذا الكون فلا تملك إلّا الاعتراف بالخالق الواحد الكبير. وتعرض الآيات مشهدا كونيا

يهزّ القلب البشري، مشهد اللّيل وهو يطول فيدخل في جسم النّهار ويمتدّ، والنّهار وهو يطول فيدخل في جسم اللّيل ويمتدّ، ومشهد الشّمس والقمر مسخّرين في فلكيهما يجريان في حدود مرسومة إلى وقت لا يعلمه إلّا خالقهما. ويتّخذ من هذا المشهد الكونيّ دليله إلى الفطرة على القضية المعهودة، وهي قضيّة التّوحيد. ثمّ يلمس القلوب بمؤثّر آخر من نعمة الله على الناس، في صورة الفلك الّتي تجري في البحر، ثمّ يوقفهم أمام منطق الفطرة حينما تواجه هول البحر مجرّدة من غرور القدرة والعلم، الّذي يبعدها عن بارئها، ويتّخذ من هذا المنطق دليلا على قضيّة التوحيد. وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) . وبمناسبة موج البحر وهوله، يذكّرهم بالهول الأكبر، وهو يقرّر قضيّة الاخرة، الهول الّذي يفرّ فيه الوالد من ولده، والولد من والده: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الآية 33] . وتختم السورة بآية تقرّ القضايا الّتي عالجتها في إيقاع قويّ عميق مرهوب، فتذكّر أن الله جلّ جلاله، استأثر بخمس لا يعلمهنّ سواه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) . هذه الجولات الثلاث بأساليبها ومؤثّراتها ودلائلها وآياتها نموذج من أسلوب القرآن الكريم في معالجة القلوب، هذا الأسلوب المختار من خالق هذه القلوب، العليم بمداخليها، الخبير بما يصلح لها، وما تصلح به من الأساليب.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"لقمان"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «لقمان» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة لقمان بعد سورة الصّافّات، وهي من السور الّتي نزلت في مكّة بعد الإسراء، فيكون نزول سورة لقمان بعد الإسراء وقبيل الهجرة. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لورود قصّة لقمان فيها، وكان من الحكماء الأقدمين ولم يرد اسم حكيم غيره في القرآن الكريم، وتبلغ آياتها أربعا وثلاثين آية. الغرض منه وترتيبها الغرض من هذه السورة بيان الموافقة بين ما جاء به القرآن من الحكمة المنزلة، وما جاء به لقمان الحكيم من الحكمة المأثورة عنه، إذ كان يدعو فيها كما يدعو القرآن إلى الإيمان بالله وحده، ويأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن الفواحش، وقد جاء هذا الغرض في هذه السّورة على ثلاثة أقسام: أوّلها في التنويه بحكمة القرآن، وثانيها في بيان شيء من حكمة لقمان، وثالثها في دعوة المشركين إلى الإيمان بما اتّفقت عليه الحكمة المنزلة والحكمة المأثورة عن الحكماء. والمقصود من هذا تسلية النبي (ص) ببيان فضل ما أنزل إليه من هذه النّاحية، ليعلم أنّ قومه لا يخالفون ما جاء به هو وغيره من الأنبياء فقط، بل يخالفون ما جاء به لقمان وغيره من

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

التنويه بحكمة القرآن الآيات [1 - 11]

الحكماء أيضا، فيهون عليه أمر كفرهم، ولا يحزن لعنادهم وتعنّتهم، وهذا هو وجه المناسبة بين هذه السورة وسورة الروم. التنويه بحكمة القرآن الآيات [1- 11] قال الله تعالى: الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) فذكر أنّ القرآن يشتمل على آيات حكيمة يقصد منها الهداية والرّحمة، وأنه قد أصلح بذلك من حسنت طباعهم وأفعالهم ممّن يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة ويؤمنون بالآخرة، ولم ينكر فضله في ذلك إلّا من قبح طبعه فأثر الاشتغال بلهو الحديث على الاشتغال بحكمته، ثمّ أوعده على ذلك بما أوعده به من العذاب، ووعد من آمن به بنعيم الجنّات، وذكر أن وعده حقّ لا يتخلّف لأنه عزيز حكيم، يعذّب من يعرض عن حكمته ويثيب من يقبل عليها بكامل قدرته، ثم بيّن عزّته وقدرته بخلقه السماوات بغير عمد مشاهدة، إلى أن قال: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) . بيان حكمة لقمان الآيات [12- 19] ثمّ قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) . فذكر أنّه آتى لقمان الحكمة، وأنه كان يدعو فيها إلى ما يدعو إليه القرآن من الإيمان بالله، وطاعة الوالدين في ما يأمران به، إلّا إذا أمرا بالشّرك ونحوه، إلى غير هذا ممّا جاء في وصاياه لابنه، وقد ختمها بقوله تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) . الدعوة إلى ما اتفقت عليه الحكمتان الآيات [20- 34] ثمّ قال تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الآية 20] ، فدعاهم إلى ما اتّفقت عليه الحكمتان من الإيمان به. وعاب عليهم أن يجادلوا فيه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. والعلم إشارة إلى الحكمة المأثورة والكتاب إشارة إلى الحكمة

المنزّلة وإنما هو تقليد لآبائهم من غير اعتماد على دليل. ثمّ نهى النبي (ص) أن يحزن لهذا الكفر الصادر عن عناد وجهل، وأخبره بأنه سيرجعهم إليه بعد أن يمتّعهم قليلا، ثم يضطرّهم إلى عذاب غليظ، ثمّ أثبت له عنادهم وجهلهم في كفرهم بأنه إن سألهم من خلق السماوات والأرض فإنهم يعترفون بأن الّذي خلقهما هو الله، ولكنّهم جهلاء معاندون فلا يحملهم ذلك على الإقلاع عن شركهم ثم ذكر أنّ له سبحانه ما. في السماوات والأرض فلا يقتصر أمره على خلقهما، وأنّ ملكه لا يقتصر على ذلك وحده لتناهيه، بل إن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [الآية 27] ، أي عجائبه، وما خلقنا وبعثنا إلّا كخلق نفس واحدة وبعثها، فالقليل والكثير سواء في قدرته. ثمّ ذكر من عجائب قدرته وعلمه أنّه يولج النّهار في اللّيل، وأنّه سخّر الشمس والقمر كلّ يجري إلى أجل مسمّى، وأنّه سخّر الفلك تجرى في البحر بنعمته ليريهم ما في البحر من عجائبه وأهواله، فإذا غشيهم موجه كالظلّ دعوا الله ليخلّصهم منه، فإذا نجّاهم إلى البرّ رجعوا الى ما كانوا عليه من كفر، فمنهم من يقتصد فيه بتأثير ما شاهده، ومنهم من يجحد ما شاهده من العجائب لمبالغة في الكفر. ثمّ ختم السورة بأمرهم بتقواه كما جاءت به الحكمة المنزلة والحكمة المأثورة، وبأن يخشوا يوم الاخرة الّذي لا ينفع الإنسان فيه إلّا عمله، وأخبرهم بأن وعده حق، فلا يغرّنّهم بالله الغرور إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"لقمان"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «لقمان» «1» أقول: ظهر لي، من اتّصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الافتتاح ب الم، أن قوله تعالى هنا: هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) متعلّق بقوله في آخر سورة الروم: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الروم: 56] . فهذا عين إيقانهم بالآخرة، وهم المحسنون الموقنون بما ذكر. وأيضا ففي كلتا السورتين جملة من الأديان وبدء الخلق «2» . وذكر في الروم: فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . ذكرت جملة الأديان في سورة الروم في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلى قوله تعالى: وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) [الروم] وقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً [الروم: 32] وبدء الخلق في قوله سبحانه: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ [الروم: 20] وما بعدها. وذكرت جملة الأديان في سورة لقمان في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [الآية 6] وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وما بعدها. وبدء الخلق في قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الآية 10] . وقوله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [الآية 28] .

وقد فسّر بالسّماع «1» وفي لقمان: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [الآية 6] . وقد فسّر بالغناء، وآلات الملاهي «2» .

_ (1) . هو قول يحيى بن أبي كثير. أنظر (تفسير ابن كثير 6: 313) . (2) . هو قول ابن مسعود سمعه منه أبو الصهباء البكري (تفسير الطبري 21: 39) . وهو قول ابن عبّاس، وجابر، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومكحول، والحسن. وانظر صحيح التّرمذي: 4: 502، 503 بتحفة الأحوذي.

المبحث الرابع مكنونات سورة"لقمان"

المبحث الرابع مكنونات سورة «لقمان» «1» 1- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [الآية 6] . قال ابن عبّاس: نزل في النّضر بن الحارث «2» . أخرجه جويبر «3» . 2- وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ [الآية 10] . قال ابن عبّاس هي الجبال الشّامخات، من أوتاد الأرض. وهي سبعة عشر جبلا، منها: قاف، وأبو قبيس، والجودي، ولبنان، وسينين، وثبير، وطور سيناء. أخرجه جويبر. 3- وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ [الآية 13] . اسم الابن: تاران «4» . وقيل: أنعم. وقيل: مشلم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . كان النّضر يخرج تاجرا إلى فارس، فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها، ويحدّث فيها قريشا، ويقول لهم: إن محمّدا يحدّثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدّثكم بحديث رستم وأسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه، ويتركون استماع القرآن فنزلت فيه. نقله الواحدي في «أسباب النزول» : 259 عن مقاتل والكلبي. (3) . جويبر هو ابن سعيد الأزدي، أبو القاسم البلخي، ضعّفه الكثير من المحدثين، وعدّه يحيى القطّان ممّن لا يحمل عنهم الحديث، ويكتب التفاسير عنهم، وذكره السيوطي ممّن أسندوا التفسير إلى ابن عبّاس وهي غير مرضية ورواتها مجاهيل. انظر «تهذيب التهذيب» لابن حجر 2: 124 و «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي 2: 188، و «الدر المنثور» 5: 159. (4) . كذا في الأصول وفي «الإتقان» 2: 147: «اسمه باران بالموحّدة، وقيل واران» .

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"لقمان"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «لقمان» «1» 1- قال تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [الآية 22] . قوله تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ هو من باب جعل الوجه ذاته ونفسه سالما لله أي: خالصا له. 2- قال تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) . الختر: أشدّ الغدر. أقول: ولا نعرف «الختر» ولا «الختّار» في العربية المعاصرة. ومثل الختر «الختل» ، مع خصوصيّة معنويّة في نوع الغدر، وكذلك الختّال. وهاتان الكلمتان باللام من الكلم المعروف في عصرنا.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"لقمان"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «لقمان» «1» قال تعالى: هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) لأن قوله تعالى: الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) معرفة، فهذا خبر المعرفة. وقال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [الآية 12] وهي «بأن اشكر الله» . وقال تعالى: إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ [الآية 16] أي: «إن تكن خطيئة مثقال حبّة» ورفع بعضهم فجعلها «كان» الّذي لا يحتاج الى خبر كأنه «بلغ مثقال حبّة» . وقال تعالى: أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ [الآية 21] هنا ألف استفهام أدخلت على واو العطف. وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ [الآية 27] رفع على الابتداء ونصب على القطع. ورفع لفظ الأقلام على خبر «أنّ» . وقال تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [الآية 34] وقد تقول: «أيّ امرأة جاءتك» و «أيّة امرأة جاءتك» . وقال تعالى: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [الآية 14] أي في انقضاء عامين ولم يذكر الانقضاء كما قال سبحانه: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] يعني أهل القرية. وقال تعالى: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ [الآية 16] يقول «إن تكن المعصية مثقال حبّة من خردل» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"لقمان"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «لقمان» «1» إن قيل: كيف يحلّ الغناء بعد قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [الآية 6] ، وقد قال الواحدي في تفسير وسيطه: أكثر المفسّرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء. وروى هو أيضا عن النبي (ص) أنّه قال: «والّذي نفسي بيده ما رفع رجل قط عقيرته يتغنّى إلّا ارتدّ فيه شيطانان يضربان بأرجلهما على ظهره وصدره حتى يسكت» . وقال سعيد بن جبير ومجاهد وابن مسعود رضي الله عنهم: لهو الحديث هو والله الغناء واشتراء المغنّي والمغنّية بالمال. وروى أيضا حديثا آخر مسندا، عن النبي (ص) أنّه قال في هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ اللعب والباطل كثير النفقة سمح فيه، لا تطيب نفسه بدرهم يتصدّق به. وروى أيضا حديثا آخر مسندا عن النبي (ص) أنه قال: «من ملأ سمعه من غناء، لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيّين يوم القيامة. قيل: وما الروحانيّون؟ قال قرّاء أهل الجنة» . قال أهل المعاني: ويدخل في هذا كلّ من اختار اللهو واللعب والمزامير والمعازف وآثرها على القرآن، وإن كان اللفظ ورد بالاشتراء، لأنّ هذا اللفظ يذكر في الاستبدال والاختيار كثيرا. وقال قتادة رحمه الله: حسب المرء من الضّلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق. هذا كله نقله الواحدي رحمه الله، وكان من كبار السلف في العلم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

والعمل. وقال غيره: قال ابن عبّاس وابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة: المراد بلهو الحديث الغناء. وعن الحسن رحمه الله تعالى أنّه كلّ ما ألهى عن الله تعالى. وفي معنى يشتري قولان: أحدهما أنّه الشّراء بالمال والثاني أنّه الاختيار كما مرّ. وقيل الغناء منفدة للمال، مفسدة للقلب، مسخطة للربّ. قلنا: جوابه أنّهم يؤوّلون هذه الآية ونظائرها، وهذه الأحاديث ونظائرها فيصرفونها عن ظاهرها متابعة للهوى وميلا إلى الشهوات ولو نظروا بعقولهم في ما ينشأ عن جمعيّات السّماع في زماننا هذا من المفاسد، لعلموا حرمته بلا خلاف بين المسلمين، فإنّ شروط إباحة السّماع عند من أباحه لا تجتمع في زماننا هذا، على ما هو مسطور في كتب المشايخ وأرباب الطريق، ولو اشتغلنا بتفصيل مفاسده وعدد شروطه عند من أباحه لخرجنا عن مقصود كتابنا هذا. فإن قيل: لم وقع قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ [الآية 14] ، في أثناء وصيّة لقمان لابنه، وما الجامع بينهما؟ قلنا: هي جملة وقعت معترضة على سبيل الاستطراد، تأكيدا لما في وصيّة لقمان من النهي عن الشرك. فإن قيل: في قوله تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [الآية 14] ، لم اعترض بين الوصيّة ومفعولها؟ قلنا: لمّا وصى سبحانه بالوالدين ذكر ما تكابده الأم خاصة، وتعانيه من المشاق والمتاعب تخصيصا لها بتأكيد الوصيّة، وتذكير تعظيم حقّها بإفرادها بالذكر ومن هنا قال رسول الله (ص) لمن قال له: من أبرّ؟ قال أمّك ثم أمّك ثم أمّك، ثم قال بعد ذلك: ثمّ أباك. فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [الآية 19] فجمع الأصوات، وأفرد صوت الحمير. قلنا: ليس المراد ذكر صوت كلّ واحد من آحاد هذا الجنس حتّى يجمع، وإنّما المراد أنّ كلّ جنس من الحيوان الناطق وغيره له صوت، وأنكر الأصوات من هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب إفراده لئلا يظن أن الاجتماع شرط في ذلك.

فإن قيل: قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [الآية 27] يطابقه وما في الأبحر من ماء مداد، فلم عدل عنه إلى قوله: سبحانه وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [الآية 27] ؟ قلنا: استغنى عن ذكر المداد بقوله تعالى يَمُدُّهُ والفعل مأخوذ من مد الدواة وأمدها. أي: زادها مدادا. فجعل البحر المحيط بمنزلة الدواة، والأبحر السبعة مملوءة مدادا تصبّ فيه أبدا صبّا لا ينقطع، فصار نظير ما ذكرتم، ونظيره قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي [الكهف: 109] . فإن قيل: لم قال تعالى: مِنْ شَجَرَةٍ ولم يقل «من شجر» ؟ قلنا: لأن السّياق اقتضى تفصيل الشجر وتقصّيها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر شجرة واحدة إلّا وقد بريت أقلاما. فإن قيل: الكلمات جمع قلة والمقصود التفخيم والتعظيم، فكان جمع الكثرة وهو الكلم أشد مناسبة؟ قلنا: جمع القلّة هنا أبلغ فيما ذكرتم من المقصود. لأن جمع القلّة إذا لم يفن بتلك الأقلام وذلك المداد، فكيف يفنى جمع الكثرة. فإن قيل: في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [الآية 34] . لم أضاف سبحانه العلم إلى نفسه في الأمور الثلاثة من الخمسة المغيّبات، ونفى العلم عن العباد في الأمرين الآخرين، مع أن الأمور الخمسة سواء في اختصاص الله تعالى بعلمها وانتفاء علم العباد بها؟ قلنا: إنما خصّ الأمور الثلاثة الأول بالإضافة إليه تعظيما لها وتفخيما لأنّها أجلّ وأعظم وإنّما خصّ الأمرين الآخرين بنفي علمهما عن العباد، لأنّهما من صفاتهم وأحوالهم، فإذا انتفى عنهم علمهما كان انتفاء علم ما عداهما من الأمور الخمسة أولى. فإن قيل: لم قال تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [الآية 34] ولم يقل بأي وقت تموت، وكلاهما غير معلوم، بل نفي العلم بالزمان أولى، لأنّ من الناس من يدّعي علمه وهم المنجّمون، بخلاف المكان فإن أحدا لا يدّعي علمه؟ قلنا: إنّما خصّ المكان بنفي علمه لوجهين: أحدهما أن الكون في مكان

دون مكان في وسع الإنسان واختياره، فيكون اعتقاده علم مكان الموت أقرب بخلاف الزمان. الثاني: أنّ للمكان تأثيرا في جنب الصحة والسقم بخلاف الزمان، أو تأثير المكان في ذلك أكثر.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"لقمان"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «لقمان» «1» 1- قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الآية 6] . وهذه استعارة، والمراد بالاشتراء هاهنا استبدال الشيء من غيره، وكذلك البيع للشيء يكون بمعنى استبدال غيره منه. فكأنّ المذموم بهذا الكلام استبدال لهو الحديث من سماع القرآن، والتأدب بآدابه والاعتلاق بأسبابه. ويدخل تحت لهو الحديث، سماع الغناء والحداء والإفاضة في الهزل والفحشاء، وما يجري هذا المجرى. ويروى عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: هو شراء القينات، وقيل إنّ ذلك نزل في النّضر بن الحارث بن كلدة بن عبد الدار بن قصيّ. وكان يبتاع الكتاب، وفيها أحاديث الأكاسرة وأنباء الأمم الخالية، ويقرأها على قريش إلهاء لهم عن سماع القرآن وتدبّره، بزعمه وحيدا لهم عن تأمّل قوارعه وزواجره. 2- قال سبحانه: فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الآية 7] . وهذه استعارة، لأن البشارة في العرف إنما تكون بالخير والسعادة والمسرّة لا بالشّرّ والمضرّة. لكنّ إبلاغهم الوعيد بالعقاب، لمّا كان كإبلاغهم الوعد بالثواب في تقدم الخبر به، جاز أن يسمّى لهذه العلّة باسمه.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

وكان أبو العبّاس المبرّد يذهب بذلك مذهبا حسنا، فيقول: إنّ لفظ البشارة مأخوذ من البشرة فكأنّ المخبر لغيره بخبر النفع والخير، أو خبر الشّرّ والضّرّ يلقي في قلبه من كلا الأمرين ما يظهر تأثيره في بشرة وجهه: فإن كان خيرا ظهرت تباشير المسرّة، وإن كان شرّا ظهرت فيه علامات المساءة، فحسن على هذا المعنى، أن تستعمل البشارة في الشّرّ والضّرّ، كما تستعمل في النفع والخير. 3- قال تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [الآية 18] . وقرئ «ولا تصاعر» وهذه استعارة. وأصل الصّعر داء يأخذ الإبل في رؤوسها حتّى تقلب أعناقها. فكأنّه أمره أن لا يشمخ بأنفه ويعرض بوجهه من الكبر، تشبيها بالبعير إذا أصابه ذلك الداء، ومن صفات الكبر رفع الطرف حتّى كأنه معقود بالسماء، وعلى ذلك قول كثيّر في صفة قوم بالكبر: تراهم إذا ما جئتهم فكأنّما يشيمون أعلى عارض متراكب أي يرفعون رؤوسهم كبرا، ويطمحون بأبصارهم عجبا وقال شيخنا أبو الفتح عثمان بن جنّي: أنشدنا أبو علي الفارسي هذا البيت، وقال يصلح أن يجعل في مقابلة قوله تعالى: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 45] لأنّ البيت في صفة المتكبّرين بالغيرة، والآية في صفة الخاشعين بالذّلّة، وهما في طرفين وسبيلين مختلفين. والبيت المتقدم ذكره أنشدنا إياه أبو الفتح عن أبي علي، على ما ذكرته، وهو قوله: يشيمون أعلى عارض متراكب والصحيح «أعلى عارض متنصّب» لأن هذه القصيدة مدح بها كثيّر عبد الملك بن مروان، وتالي البيت المذكور قوله: يردون «1» شزرا والعيون طوامح بأبصارهم آفاق شرق ومغرب وأنشده منشد عمر بن عبد العزيز فقال هجانا ورب الكعبة، يريد أنّه وصفهم بالكبر المفرط والطّماح المشرف «2» .

_ (1) . نرجح أن يكون الفعل يرودون. (2) . نظن أن الأصل المسرف.

4- قال سبحانه: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [الآية 19] . وهذه استعارة، لأن أصل «الغض» الحطّ من منزلة عليّة إلى منزلة دنيّة. يقال غضّ فلان من فلان إذا فعل به ذلك قولا وفعلا، وغضّ طرفه إذا كسره وضعّفه، أي فكأنّه قال: «وحطّ صوتك من حال الارتفاع إلى حال الانخفاض، إخباتا لله وتطامنا لأولياء الله» .

سورة السجدة 32

سورة السّجدة 32

المبحث الأول أهداف سورة"السجدة"

المبحث الأول أهداف سورة «السجدة» «1» سورة السجدة مكّية، وآياتها 30، نزلت بعد سورة غافر، وقد نزلت سورة السجدة في المرحلة الأخيرة من حياة المسلمين بمكّة، إذ كان نزولها بعد الإسراء وقبيل الهجرة. أسماء السورة لسورة السجدة ثلاثة أسماء، الاسم الأول سورة السجدة، لاشتمالها على سجدة التلاوة في قوله تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) . الاسم الثاني: «سجدة لقمان» ، للتمييز عن حم السجدة، وهي سورة «فصّلت» . الاسم الثالث: «المضاجع» لقوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [الآية 16] . مخاطبة القلوب سورة السجدة نموذج متميّز، من نماذج الخطاب القرآني للقلب البشري، بالعقيدة الصحيحة الّتي جاء القرآن ليوقظها في الفطرة، ويركزها في القلوب عقيدة الدينونة لله الأحد، الفرد الصمد، خالق الكون والناس ومدبّر السماوات والأرض وما بينهما، وما فيهما من خلائق لا يعلمها إلّا الله، والتصديق برسالة محمد (ص) ، الموحى إليه بهذا القرآن، لهداية البشر إلى الله، والاعتقاد بالبعث والقيامة،

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

أفكار السورة ونظامها

والحساب والجزاء. هذه هي القضية الّتي تعالجها السورة، وهي القضية الّتي تعالجها سائر السور المكّيّة، كلّ منها تعالجها بأسلوب خاص، ومؤثّرات خاصّة، تلتقي كلّها في أنّها تخاطب القلب البشري، خطاب العليم الخبير، المطّلع على أسرار هذه القلوب وخفاياها، العارف بطبيعتها وتكوينها، وما يستكنّ فيها من مشاعر، وما يعتريها من تأثّرات واستجابات. في جميع الأحوال والظروف. وسورة السجدة تعالج تلك القضية بأسلوب، وبطريقة مغايرين لأسلوب سورة لقمان السابقة وطريقته. فهي تعرضها في آياتها الأولى، ثم تمضي بقيّتها، تقدّم مؤثّرات موقظة للقلب، منيرة للروح، مثيرة للتأمّل والتّدبّر، كما تقدّم أدلّة وبراهين على تلك القضيّة، معروضة في صفحة الكون ومشاهده، وفي نشأة الإنسان وأطواره، وفي مشهد من مشاهد اليوم الاخر حافل بالحياة والحركة، وفي مصارع الغابرين، وآثارهم القاطعة الناطقة بالعبرة، لمن يسمع لها ويتدبّر منطقها. «كذلك ترسم السورة صورا للنفوس المؤمنة، في خشوعها وتطلّعها إلى ربّها، وللنفوس الجاحدة في عنادها ولجاجها، وتعرض صورا للجزاء الّذي يتلقّاه هؤلاء وهؤلاء وكأنّها واقع مشهود حاضر للعيان، يشهده كلّ قارئ لهذا القرآن. وفي كلّ هذه المعارض والمشاهد، تواجه القلب البشريّ، ممّا يوقظه ويحرّكه ويقوده إلى التأمّل والتدبّر مرّة، وإلى الخوف والخشية مرّة، وإلى التطلّع والرّجال مرّة، وتطالعه تارة بالتحذير والتهديد، وتارة بالأطماع وتارة بالإقناع ... ثمّ تدعه في النّهاية تحت هذه المؤثّرات، وأمام تلك البراهين، تدعه لنفسه يختار طريقه، وينتظر مصيره على علم وعلى هدى وعلى نور» «1» . أفكار السورة ونظامها تبدأ سورة السجدة بالحديث عن القرآن الكريم، وتبيّن أنّه حقّ من عند الله، وتبيّن قدرة الله وعظمته، فهو خالق السماوات والأرض، وهو

_ (1) . في ظلال القرآن، بقلم سيّد قطب 21: 92.

المهيمن على الكون، وهو المدبّر للأمر كلّه، وهو الخالق للإنسان، وهبه السمع والبصر والإدراك والنّاس بعد ذلك قليلا ما يشكرون. وبذلك عالجت قضية الألوهيّة وصفتها: صفة الخلق، وصفة التدبير مذكورة في سياق آيات الخلق والتكوين، وتستغرق هذه المجموعة، بما فيها صفة الإحسان، وصفة الإنعام، وصفة العلم وصفة الرحمة، تستغرق من أوّل السورة إلى الآية 9. ثمّ تتحدّث الآيات عن إنكار الكافرين للبعث والحساب، وتجيبهم بأن البعث حقّ، وتعرض مشهدا من مشاهد القيامة، يقف فيه المجرمون أذلّاء يعلنون يقينهم بالآخرة، ويقينهم بالحقّ الّذي جاءتهم به الدعوة المحمّدية. وإلى جوار هذا المشهد البائس المكروب تعرض السورة مشهد المؤمنين في الدنيا وهم يعبدون الله، ويسجدون لعظمته، ويقومون الليل بالصلاة والعبادة، ثمّ تبشّرهم بحسن الجزاء: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) . ثم تشير الآيات، إلى أن منطق العدالة يأبى أن يستوي المؤمن والفاسق، فقد اختلفوا في العمل في الدنيا، فيجب أن يختلف الجزاء في الاخرة، فللمؤمنين جنّات المأوى، وللفاسقين «عذاب» جهنم وتستغرق هذه المجموعة الآيات [10- 12] . وفي الآيات الأخيرة من السورة، ترد إشارة إلى موسى (ع) ، ووحدة رسالته ورسالة محمد (ص) والمهتدين من قومه. وتعقب هذه الإشارة، جولة في مصارع الغابرين من القرون، وهم يمشون في مساكنهم غافلين، ثم جولة في الأرض الميتة، ينزل عليها الماء بالحياة والنماء.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"السجدة"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «السجدة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة السجدة بعد سورة غافر، وقد نزلت سورة غافر بعد الإسراء قبيل الهجرة، فيكون نزول سورة السجدة في ذلك التاريخ أيضا. وسمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في الآية 15 منها: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) . وهي من الآيات الّتي تحسن السجدة عند قراءتها، وتبلغ آياتها ثلاثين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن، وهو قريب من الغرض الّذي يقصد من السورة السابقة، ولهذا ذكرت هذه السورة بعدها وهذا، إلى أنّها تشبهها في ما جاء فيها، من حثّ المؤمنين على الصبر على أذى المشركين، ومن وعدهم بأن يجازوا على صبرهم كما جوزي الصابرون من بنى إسرائيل قبلهم، وقد جاء ذلك الغرض فيها على قسمين: أوّلهما في إثبات تنزيل القرآن، وبيان عاقبة من آمن به، ومن كذّب به في الاخرة والدنيا وثانيهما في تأييد ذلك، بما لا يمكن إنكاره من فطرة العقل، وبما حصل لمن آمن بالتوراة من بني إسرائيل من رفعة شأنهم، وجعلهم أئمّة في الدنيا، يهدون بأمر الله تعالى.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

إثبات تنزيل القرآن الآيات [1 - 7]

إثبات تنزيل القرآن الآيات [1- 7] قال الله تعالى: الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) فذكر سبحانه، أنّه لا ريب في تنزيل الكتاب من عنده، وأنّهم يزعمون أنّ النبي (ص) افتراه وردّ ذلك بأنّه جاء بالحقّ لينذر به قومه الّذين لم يأتهم نذير قبله، ويهديهم إلى الإيمان بالله بعد أن ضلّوا عنه وهو الّذي خلق السماوات والأرض، وما بينهما في ستّة أيّام، إلى غير هذا ممّا ذكره سبحانه في الهداية إلى الإيمان به. ثمّ ذكر لهم شبهة أخرى، وهي إنكارهم ما أتى به، من بعثهم بعد أن يصيروا ترابا، ويضلّوا في الأرض، ومن لقاء ربهم ليعاقبهم على كفرهم وردّ عليهم بأنّه لا بدّ من الموت، ومن لقاء جزائهم بالبعث بعده، فإذا حاسبهم سبحانه على كفرهم، نكسوا رؤوسهم، ودعوه أن يرجعهم إلى الدنيا ليؤمنوا فيها به، فيجيبهم تعالى بأنّه لو شاء لهداهم في الدنيا، ولكنه لم يشأ ذلك، فلا سبيل إلى تغييره برجوعهم إليها، ولا بدّ لهم من دخول جهنّم، ولا بدّ لهم أن يذوقوا عذابها بما نسوا لقاء يومهم هذا ثمّ ذكر جلّ وعلا أنّ الإيمان لا يكون من قوم متكبّرين مثلهم، وإنّما يكون من قوم إذا ذكّروا بآيات ربهم خرّوا سجدا، وتواضعوا لمن يذكّرهم، إلى غير هذا من صفاتهم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) . أخذهم بالترغيب والترهيب إلى الايمان به الآيات [18- 30] ثم قال تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) فذكر سبحانه أنه لا يمكن أن يكون جزاء من يصدّق به كجزاء من يكذّب به، لدليلين: أوّلهما: أنّه لا يمكن في العقل أن يستوي المؤمن والفاسق في الجزاء، فالمؤمنون لهم جنّات المأوى جزاء لهم، والفاسقون مأواهم النار في الاخرة، ولهم في الدنيا عذاب أدنى من ذلك، بتسليط المؤمنين عليهم وثانيهما، أنّه أتى موسى الكتاب فأظفر من آمن به على من كذّب به، فلا يصحّ للنبي (ص) أن يشكّ في أنّه سيلقى من ذلك، مثل ما لقي موسى (ع) ثمّ ذكر

تعالى أنه جعل كتاب موسى (ع) هدى لبني إسرائيل، وأنّه سبحانه، هداهم به وجعل منهم أئمّة يهدون بأمره، وأنه كافأهم بذلك، لصبرهم على أذى أعدائهم. ثمّ ذكر لأولئك المشركين، أنّ الأمر في هذا، لا يقتصر على موسى وقومه، بل هناك قرون كثيرة أهلكهم الله جلّ جلاله، على تكذيبهم رسلهم، وأنّهم يمشون في مساكنهم فيشاهدون ما حصل لهم بأعينهم ثمّ ذكر تعالى لهم، أنّ تلك النّقم آية لهم على قدرته، لو تأمّلوا فيها بعقولهم وحثّهم على التأمّل في نعمه (سبحانه) عليهم، بسوق الماء إلى الأرض الجرز «1» ، ليخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم فجمع بهذا بين ترهيبهم وترغيبهم. ثمّ ختمت السورة بذكر سؤال المشركين، على سبيل الاستهزاء: متى هذا الفتح الّذي يكون للمؤمنين؟ وأجابهم جلّ شأنه، بأنّه إذا أتى يؤمنون بصدقه فلا ينفعهم إيمانهم، ولا يمهلون ليستدركوا ما فاتهم ثمّ أمر النبي (ص) أن يعرض عن استهزائهم، وينتظر وعده بهلاكهم، فقال تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) .

_ (1) . أي الأرض الجدبة.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"السجدة"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «السجدة» «1» أقول: وجه اتّصالها بما قبلها: أنها شرحت مفاتح الغيب الخمسة الّتي ذكرت في خاتمة لقمان. فقوله تعالى، هنا: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) . شرح لقوله سبحانه هناك: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] . ولذلك عقّب تعالى هنا بقوله: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الآية 6] . وقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ [الآية 27] شرح لقوله سبحانه: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان: 34] . وقوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [الآية 7] شرح لقوله سبحانه: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [لقمان: 34] . وقوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ [الآية 5] وقوله: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [الآية 13] شرح لقوله سبحانه: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً [لقمان: 34] . وقوله تعالى: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [الآية 10] إلى قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) شرح لقوله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34] . فلله الحمد على ما ألهم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.

المبحث الرابع مكنونات سورة"السجدة"

المبحث الرابع مكنونات سورة «السجدة» «1» 1- مَلَكُ الْمَوْتِ [الآية 11] . أخرج أبو الشيخ عن وهب: أنّ اسمه عزرائيل (ع) . 2- أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً [الآية 18] . أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن أبي ليلى والسّدّي: أنها نزلت في عليّ (ع) ، والوليد بن عقبة. وأخرجه الواحدي «2» عن ابن عبّاس. 3- الْأَرْضِ الْجُرُزِ [الآية 27] . قال ابن عبّاس: أرض باليمن. وقال مجاهد: هي أبين «3» . وقال الحسن: هي فيما بين «4» اليمن والشّام. أخرجها ابن أبي حاتم. وقال قوم: هي مصر.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . في «أسباب النزول» : 263 و (المؤمن) هو علي. و (الفاسق) هو الوليد بن عقبة. (3) . نصّ رواية مجاهد، كما في «الدر المنثور» 5: 179: «هي الّتي لا تنبت، هي أبين ونحوها من الأرض» . وانظر نحوها في «تفسير الطّبري» 21: 72. (4) . في «الدر المنثور» 5: 179: و «هي قرى» .

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"السجدة"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «السجدة» «1» 1- قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ [الآية 27] . «الجرز» : الأرض الّتي جرز نباتها، أي قطع، إمّا لعدم الماء، وإمّا لأنّه رعي وأزيل، ولا يقال للّتي لا تنبت كالسّباخ: جرز. أقول: وقد جاء «الجرز» وصفا للصّعيد في قوله تعالى: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) [الكهف] . أقول: وإذا كان الجرز هذه صفته، «فالصعيد الجرز» هو «الصعيد» الموصوف ب «الطيّب» في قوله تعالى. فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [النساء: 43] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"السجدة"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «السجدة» «1» قال تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ [الآية 26] بالياء يعني «ألم يبيّن وقرأ بعضهم (أولم نهد) «2» أي: أولم نبيّن لهم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . القراءة بالياء في الطّبري 21: 114، نسبت الى ابن عبّاس، وقتادة، وقرّاء الأمصار والقراءة بالنون نسبت في الشواذ 118، إلى الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) ، وابن عبّاس (رض) ، والسّلمي وفي الجامع 14: 110 الى قتادة، والسّلمي، وأبي زيد، عن يعقوب.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"السجدة"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «السجدة» «1» إن قيل: لم قال تعالى هنا: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) وقال تعالى، في سورة المعارج: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) [المعارج] ؟ قلنا: المراد بالأوّل، مسافة عروج الملائكة من الأرض إلى السطح الأعلى من سماء الدنيا وذلك ألف سنة، خمسمائة سنة مسافة ما بين السماء والأرض، وخمسمائة سنة مسافة سمك سماء الدنيا والمراد بالثاني مسافة عروج الملائكة من الأرض إلى العرش. الثاني: أنّ المراد به في الآيتين يوم القيامة، ومقداره ألف سنة من حساب أهل الدنيا، لقوله تعالى: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] ومعنى قوله تعالى: خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أي: لو تولّى فيه حساب الخلق غير الله تعالى. الثالث: أنه كألف سنة في حقّ عوام المؤمنين، والخمسين ألف سنة في حقّ الكافرين، لشدّة ما يكابدون فيه من الأهوال والمحن وكساعة من أيّام الدنيا في حقّ خواصّ المؤمنين. ويؤيّده ما روي أنّه قيل «يا رسول الله يوم مقداره خمسون ألف سنة ما أطوله، فقال: والّذي نفسي بيده ليخفّف على المؤمن، حتّى يكون عليه

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ

أخفّ من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا» . وروي أن ابن عبّاس رضي الله عنهما سئل عن هاتين الآيتين؟ فقال: يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه وإنّي أكره أن أقول في كتاب الله، بما لا أعلم. فإن قيل: لم قال تعالى الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [الآية 7] على اختلاف القراءتين «1» ومقتضى القراءتين، أن لا يكون في مخلوقات الله تعالى شيء قبيح، والواقع خلافه ولو لم يكن إلّا الشّرور والمعاصي فإنها مخلوقة لله تعالى عند أهل السنة والجماعة، مع أنها قبيحة؟ قلنا: كلمة «أحسن» بمعنى: أحكم وأتقن، وهذا الجواب يعمّ القراءتين. الثاني: أنّ فيه إضمارا تقديره: أحسن إلى كل شيء خلقه. الثالث: أنّ «أحسن» بمعنى «علم» ، كما يقال فلان لا يحسن شيئا. أي: لا يعلم شيئا. وقال عليّ كرّم الله وجهه: قيمة كلّ امرئ ما يحسنه: أي ما يعلمه فمعناه أنّه علم خلق كل شيء، أو علم كلّ شيء خلقه، ولم يتعلّمه من أحد، وهذان الجوابان يخصّان بقراءة فتح اللام. فإن قيل: لم قال تعالى هنا: مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) وقال في موضوع آخر مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) [المؤمنون] ؟ قلنا: المذكور هنا صفة ذرّيّة آدم (ع) ، والمذكور هناك صفة آدم (ع) يعلم ذلك من أوّل الآيتين فلا تناف. فإن قيل: لم قال الله تعالى وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ [الآية 9] والله تعالى منزّه عن الرّوح؟ قلنا: معناه: نفخ فيه من روح مضافة إلى الله تعالى، بالخلق والإيجاد، لا بوجه آخر. فإن قيل: لم قال تعالى هنا قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [الآية 11] وقال تعالى، في موضع آخر: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الأنعام: 61] ، وقال تعالى في موضع آخر: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزّمر: 42] ؟ قلنا: الله تعالى هو المتوفّي بخلق الموت وأمر الوسائط بنزع الروح، والملائكة المتوفّون أعوان ملك

_ (1) . أي بتحريك اللام أو تسكينها في قوله تعالى: خَلَقَهُ..

الموت، وهم يجذبون الروح من الأظفار إلى الحلقوم وملك الموت يتناول الروح من الحلقوم، فصحّت الإضافات كلها. فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً [الآية 15] الآية، وليس المؤمنون منحصرين فيمن هو موصوف بهذه الصفة، وليست هذه الصفة شرطا في تحقّق الإيمان؟ قلنا: المراد بقوله تعالى: ذُكِّرُوا بِها أي وعظوا، والمراد بالسجود الخشوع والخضوع والتواضع، في قبول الموعظة بآيات الله تعالى، وهذه الصفة شرط في تحقق الإيمان. ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) [الإسراء] . الثاني: أنّ معناه إنّما يؤمن بآياتنا إيمانا كاملا، من اتّصف بهذه الصفة، وقيل المراد بالآيات فرائض الصلوات الخمس، والمراد التذكير بها بالأذان والإقامة. فإن قيل: قوله تعالى أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) يدل على أنّ الفاسق لا يكون مؤمنا؟ قلنا: الفاسق هنا بمعنى الكافر، بدليل قوله تعالى بعده: وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) ، والتقسيم يقتضي كون الفاسق المذكور هنا كافرا، لا كون كل فاسق كافرا ونظيره قوله تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) [القلم] وقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الجاثية: 21] ولم يلزم من ذلك، أنّ كلّ مجرم كافر، ولا أنّ كلّ مسيء كافر. فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن قوله تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) في قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ [الآية 22] ؟ قلنا: لمّا جعله أظلم الظّلمة، ثم توعد كلّ المجرمين بالانتقام منه، دلّ على أن الأظلم يصيبه النصيب الأوفر من الانتقام، ولو قاله بالضمير، لم يفد هذه الفائدة. فإن قيل: قوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ [الآية 28] سؤال عن وقت الفتح، وهو يوم القضاء بين المؤمنين والكافرين، يعنى يوم القيامة، فكيف طابقه ما بعده جوابا؟ قلنا: لمّا كان سؤالهم سؤال تكذيب

واستهزاء بيوم القيامة، لا سؤال استفهام، أجيبوا بالتهديد المطابق للتكذيب والاستهزاء، لا ببيان حقيقة الوقت. فإن قيل: على قول من فسّر الفتح، بفتح مكّة أو بفتح يوم بدر، كيف وجّه الجواب عن قوله تعالى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ [الآية 29] ، وقد نفع بعض الكفار إيمانهم في ذينك اليومين، وهم الطلقاء الّذين آمنوا؟ قلنا: المراد أنّ المقتولين منهم، لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"السجدة"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «السجدة» «1» قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) . وهذه استعارة، لأن المهين لا يكون بحقيقته إلّا الإنسان، قال الله تعالى حكاية على لسان فرعون: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) [الزخرف] ، وقال تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) [القلم] ومهين فعيل من المهنة، وهي الخدمة، يقال مهن القوم يمهنهم مهنة إذا خدمهم والمهنة بكسر الميم خطأ، فيكون معنى من ماء مهين، على ما قدّمناه، أي من ماء مستذلّ، لأنّ ماهن القوم إذا خدمهم يكون ذليلا لهم، ومبتذلا بينهم. - وقوله تعالى: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الآية 10] . وهذه استعارة، لأنّها عبارة عن حال الموت والميت لا يوصف بالضلال، الّذي هو المتاه والضياع، فكأن المعن: إذا دفنّا في الأرض، فكنّا كالشيء الضالّ، الضائع، لتفرّق أوصالنا، وتمزّق أعضائنا، تستأنف بعد هذه الحال، إعادتنا، وتستجدّ حياتنا كأنهم قالوا على سبيل الاستبعاد، وأخرجوه مخرج الاستطراف، والاستغراب فأعلمهم الله سبحانه، أنّهم لا يضلّون عن علمه، ولا يلطفون عن جمعه، وإن صاروا رميما وترابا، وفرقا وأوزاعا وفي عرف كلام العرب أنّ كل شيء غلب عليه شيء حتّى يغيّبه باشتماله عليه، فقد ضلّ فيه ويسمّون

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

الدافنين للأموات مضلّين، لأنّهم يغيّبونهم في الأرض قال النابغة الذبياني في ذلك: فآب مضلّوه بعين جليّة وغودر بالجولان حزم ونائل يريد دافنيه، وحكى الأصمعي أنه رواه مصلّوه بالصاد، وفتحها، والمصلّي الوارد بعد السابق، قال فكأنّ المعنى أنّ ناعيه الأوّل جاء بنعيه، فشكّ في قوله، ثمّ جاء الثاني بجملة الخبر، فوقع العلم وارتفع الشكّ، والعين الجليّة، الواضح الّذي يتجلّى بعد خفائه، أو يجلو الشك بعد التباسه وأنشد للمخبّل السعدي يمدح قيس بن عاصم المنقريّ: أضلّت بنو قيس بن سعد عميدها وفارسها في الدّهر قيس بن عاصم أي دفنته في التراب وغيبته في الأرض. - وقوله سبحانه: فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) . وقد تقدّم مثل هذه اللفظة، في بعض السور المتقدّمة ولم نشر إليه إذ كان في الأشهر بيّن التأويل، خارجا عن الاستعارة، لأنّه عند عامّة المفسّرين، بمعنى المنزل والنزول، فكأنّه تعالى قال كانت لهم جنان الفردوس منزلا ينزلونه، وقرارا يستوطنونه، فلمّا بلغنا الى هذا الموضع من هذه السورة، نظرنا فإذا لهذه اللفظة مجاز آخر يدخلها في حيّز الاستعارة، فذكرناها لهذه العلّة، وهو أنّ لفظ النّزل عند بعضهم قد عبّر به عمّا يقرى به الضيف عند طروقه، ويعدّ له قبل نزوله، فيجوز أن يكون معنى قوله تعالى: فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) أي أعدّ لهم في جنّات الله ما يعدّ للضّيوف لأنهم ضيفان الله تعالى في جنّاته، وجيرانه في داره ليس أنّ هناك قربا بمسافة، ولا وصفا في أداء إقامة، وإنما أوجب هذا الاختصاص، في قولنا: ضيفان الله، وجيران الله، لأنهم نزول في الدار، الّتي لا يملك الحكم فيها غيره، ولا يتسلّط عليها إلّا سلطانه، كما قيل إنّ قريشا كانوا يسمّون قطين الله، إذ كانوا جيران بيته الّذي اختصّه، وفرض على الناس حجّه، ومن الشاهد قول عبد الله بن قيس الرقيّات: أتانا رسول من رقيّة ناصح بأنّ قطين الله بعدك سيّرا

يريد أهل مكّة، وحكى ابن الزبير قال، سمعت حسّان بن ثابت ينشد هذا البيت، في جملة قصيدته الميميّة، على قوله: لنا حاضر فخم وباد كأنّه قطين إله عزّة وتكرّما قال فغيّره الرواة فيما بعد، حسدا لقريش، فقالوا: شماريخ رضوى عزّة وتكرّما وأيّ تكرّم للجبال؟! وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ [الآية 27] . وقد أشرنا إلى هذه اللفظة أنها مستعارة، وأطلعنا خبيّها، ونشرنا مطويّها في سورة الكهف، فلا حاجة إلى إعادة ذلك.

سورة الأحزاب 33

سورة الأحزاب 33

المبحث الأول أهداف سورة"الأحزاب"

المبحث الأول أهداف سورة «الأحزاب» «1» سورة الأحزاب مدنيّة وآياتها 73 آية نزلت بعد سورة آل عمران. وتقع أحداث السورة فيما بين السنة الثانية والخامسة من الهجرة. وهي فترة حرجة لم يكن عود المسلمين قد اشتدّ فيها، إذ كانوا يتعرّضون لدسائس المنافقين واليهود. وسمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لذكر غزوة الأحزاب فيها، في قوله تعالى: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا [الآية 20] . أحداث السّورة تتناول سورة الأحزاب قطاعا حقيقيّا من حياة الجماعة المسلمة، في فترة تمتدّ من بعد غزوة بدر الكبرى، إلى ما قبل صلح الحديبية، وتصوّر هذه الفترة من حياة المسلمين في المدينة، تصويرا واقعيّا مباشرا. وهي مزدحمة بالأحداث الّتي تشير إليها في خلال هذه الفترة، والتنظيمات الّتي أنشأتها أو أقرّتها في المجتمع الإسلامي الناشئ. ولهذه الفترة الّتي تتناولها السورة من حياة الجماعة المسلمة سمة خاصة. فهي الفترة الّتي بدأ فيها بروز ملامح الشخصية المسلمة في حياة الجماعة وفي حياة الدولة. ولم يتمّ استقرارها بعد، ولا سيطرتها الكاملة، كالذي تمّ بعد فتح مكّة ودخول النّاس في دين الله أفواجا، واستتباب الأمر للدولة الاسلامية.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

فصول السورة

والسّورة تتولّى جانبا من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة، وإبراز تلك الملامح، وتثبيتها في حياة الأسرة والجماعة، وبيان أصولها من العقيدة والتشريع. كما تتولّى تعديل الأوضاع والتقاليد، أو إبطالها وإخضاعها في هذا كلّه للتصوّر الإسلامي الجديد. وفي ثنايا الحديث عن تلك الأوضاع والنظم، يرد الحديث عن غزوة الأحزاب وغزوة بني قريظة، ومواقف الكفار والمنافقين واليهود فيهما، ودسائسهم في وسط الجماعة المسلمة، وما وقع من خلخلة وأذى بسبب هذه الدسائس وتلك المواقف كما تعرض، بعدها، دسائسهم وكيدهم للمسلمين في أخلاقهم وبيوتهم ونسائهم. ونقطة الاتصال في سياق السورة بين تلك الأوضاع والنظم وهاتين الغزوتين وما وقع فيهما من أحداث، هي علاقة هذه وتلك بموقف الكافرين والمنافقين واليهود، وسعي هذه الفئات لإيقاع الاضطراب في صفوف الجماعة المسلمة سواء من طريق الهجوم الحربي، والإرجاف في الصفوف والدعوة إلى الهزيمة، أو من طريق خلخلة الأوضاع الاجتماعية والآداب الخلقيّة ... ثم ما نشأ في أعقاب الغزوات والغنائم من آثار في حياة الجماعة المسلمة، تقتضي تعديل بعض الأوضاع الاجتماعية ومن هذا الجانب وذاك تبدو وحدة السورة، وتماسك سياقها، وتناسق موضوعاتها المنوّعة إلى جانب وحدة الزمن تربط بين الأحداث والتنظيمات الّتي تتناولها السورة. فصول السورة يمكن أن نقسم سورة الأحزاب إلى خمسة فصول، يبدأ الفصل الأول منها بتوجيه الرسول (ص) إلى تقوى الله، وعدم الطاعة للكافرين والمنافقين، واتّباع ما يوحي إليه ربّه، والتوكّل عليه وحده سبحانه. وبعد ذلك يلقي بكلمة الحق والفصل في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية مبتدئا ببيان أن الإنسان لا يملك إلّا قلبا واحدا، ومن ثمّ يجب أن يتّجه إلى إله واحد، وأن يتّبع نهجا واحدا. ولذلك يأخذ في إبطال عادة الظّهار، وهو أن يحلف الرجل على

غزوة الأحزاب وبني قريظة

امرأته أنّها عليه كظهر أمه، فتحرّم عليه حرمة أمه ويقرّر أن هذا الكلام يقال بالأفواه، ولا ينشئ حقيقة وراءه، بل تظل الزوجة زوجة ولا تصير أمّا بهذا الكلام. ثم من هذا إلى إبطال التبني: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الآية 4] . والدعي هو المتبنّى يدّعي الإنسان بنوّته، وهو لا يصير ابنا بمجرّد القول، ثمّ يأمرهم أن يدعوا المتبنّى إلى أبيه، فإن ذلك أقسط وأعدل من دعوتهم لمن يتبنّونهم. ثمّ ينشئ الولاية العامّة للرسول (ص) على المؤمنين جميعا، كما ينشئ صلة الأمومة الشعوريّة، بين أزواج النبي (ص) والمؤمنين ويعقّب على هذا التنظيم الجديد، بالإشارة إلى أنّ ذلك مسطور في كتاب الله القديم، وإلى الميثاق المأخوذ على النبيّين وعلى أولي العزم منهم بصفة خاصة، على طريقة القرآن في التعقيب على النظم والتشريعات والمبادئ والتوجيهات، لتستقرّ في الضمائر والنفوس ويستغرق هذا الفصل من أول السورة إلى الآية 8. غزوة الأحزاب وبني قريظة نجد الفصل الثاني من السورة ممتدّا من الآية 9 إلى الآية 27، ويتناول هذا الفصل غزوة الأحزاب، ويصف مشاهدها وملابساتها، ويصوّر أحوال المسلمين فيها، وقد جاءتهم قريش من أسفل الوادي، وغطفان من أعلاه وأسقط في يد المسلمين: فالأحزاب أمام المدينة، ويهود بني قريظة نقضوا عهودهم، وأظهروا الخيانة والغدر للمسلمين وحفر المسلمون خندقا لحماية المدينة، وكان المسلمون غاية في الإجهاد والعسرة المادية، واشتدت الفتن، وفي وسط هذه المحن بشّر النبي (ص) المؤمنين بالنصر، ووعدهم كنوز كسرى وقيصر وظهر النفاق من بعض المنافقين فقالوا: إنّ محمّدا يعدنا كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يستطيع الخروج إلى الخلاء وحده وفي ذلك يقول القرآن: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) . واستنجد النبي (ص) ربّه سبحانه، ورفع يديه إلى السماء، وقال: «اللهم ربّ الأرباب ومسبّب الأسباب، اهزم

الأحزاب، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم يا ربّ العالمين» . فأرسل الله جلّ جلاله ريحا عاتية، في ليلة شاتية مظلمة، خلعت خيام الكافرين، وكفأت قدورهم وانسحبت قريش وأحزابها، في ظلام الليل يجرّون أذيال الخوف والانكسار وسجّل الله عزّ وجل ذلك في القرآن الكريم، بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (11) . وتصف الآيات صدق بعض المؤمنين وبلاءهم الحسن، وإخلاصهم لله في الجهاد حتى رؤي بعض الشهداء، وفيه أكثر من سبعين ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم وفي مثل هؤلاء يقول عزّ وجلّ: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) . ثمّ تصف الآيات رحيل الكافرين بغيظهم لم ينالوا خيرا، وحماية الله للمسلمين في هذه الموقعة، وهو سبحانه القويّ العزيز. ولمّا رحلت الأحزاب عن المدينة، نزل جبريل من السماء وقال: «يا محمد إن الملائكة لم تضع السلاح بعد، اذهب إلى بني قريظة فإنّ الله ناصرك عليهم، جزاء خيانتهم وغدرهم» فقال (ص) : «من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يصلينّ العصر إلّا في بني قريظة» . وهناك حاصر المسلمون بني قريظة، ثمّ أجلوهم عن ديارهم، وغنم المسلمون أرضهم ودورهم وأموالهم وحصونهم المنيعة، بقدرة الله، وهو على كل شيء قدير. قال تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ

زوجات الرسول (ص)

فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) . زوجات الرسول (ص) تتناول الآيات [28- 36] حديثا عن زوجات الرسول (ص) ، وكانت الغنائم قد جاءت للمسلمين، وأقبل المال بعد غزوة بني قريظة، فتطلّعت زوجات الرسول (ص) إلى المتعة والنفقة الواسعة، وقلن يا رسول الله نساء كسرى وقيصر بين الحلي والحلل، والإماء والخدم، ونساؤك على ما ترى من هذه الحال. فنزلت الآيات تخيّرهن بين متاع الحياة الدنيا وزينتها، وبين الله ورسوله والدار الاخرة. وخيّر النبي نساءه، وبدأ بعائشة، فقال لها: «سأعرض عليك أمرين، أرجو ألّا تقطعي في اختيار أحدهما، حتى تستشيري أبويك وقرأ عليها الآيتين» : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) . فقالت عائشة: «أفيك أشاور أبويّ يا رسول الله؟ أختار الله ورسوله» ، وقالت نساؤه كلّهن مثل ذلك، فجعلهنّ الله أمّهات المؤمنين وأشارت الآيات التالية إلى جزائهنّ المضاعف في الأجر إن اتّقين، وإلى العذاب المضاعف إن ارتكبن فاحشة مبيّنة، لأنهنّ في بيت النبوّة والقدوة والأسوة، فلهنّ ضعف الأجر إن أحسنّ، وضعف العقوبة إن أسأن فزلّة العالم يقرع بها الطبل، وزلّة الجاهل يخفيها الجهل ثمّ أمرت الآيات زوجات الرسول (ص) بخفض الصوت، وجعله مستقيما بدون تكسّر، حتى لا يطمع الشباب المنافق فيهنّ، وحثّهنّ على الاستقرار في البيت، وعدم التبرّج، وتلاوة القرآن والتفقّه في أحكامه. واستطردت الآيات في بيان جزاء المؤمنين كافّة والمؤمنات، وكان هذا هو الفصل الثالث في سورة الأحزاب. قصة زينب بنت جحش أرسل الله محمّدا (ص) للنّاس كافّة، فحرّر العبيد، وعلّم الناس المساواة، وكرّم إنسانية الإنسان، وبيّن أن النّاس

سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلّا بالتقوى. وخطب النبي (ص) زينب بنت جحش، لزيد بن حارثة رضي الله عنه، فاستنكفت وقالت: أنا خير منه حسبا، وكانت امرأة فيها حدّة، فأنزل الله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً (36) . فقالت زينب هل رضيته لي يا رسول الله زوجا؟ قال رسول الله: نعم، قالت: إذن لا أعصي الرسول (ص) قد أنكحته نفسي. وتمّ هذا الزواج، ولأمر أراده الله سبحانه لم يدم طويلا، فقد كانت زينب تفخر على زيد بن حارثة بأنّها حرّة قرشيّة جميلة، وأنّه عبد لا يدانيها في نسبها وحسبها فلمّا تكرّر ذلك منها عزم زيد على طلاقها، وذكر ذلك لرسول الله (ص) ، فقال له النبي أمسك عليك زوجك واتّق الله، رغبة في إبقاء هذا الزواج وكان النبي (ص) يعلم بوحي من السماء أنّ زينب ستطلّق، وأنّها ستكون زوجة للرسول، ليبطل بهذا الزواج آثار التبنّي بسابقة عمليّة يختار لها رسول الله (ص) بشخصه، لشدّة عمق هذه العادة في البيئة العربيّة، وصعوبة الخروج عليها. ولمّا طلّقت زينب من زيد خطبها النبي (ص) لنفسه، ونزل الوحي من السماء بذلك، حتّى كانت زينب تفخر على أزواج النبي، فتقول زوّجكن أهاليكن، وزوّجني الله تعالى من فوق سبع سماوات. ولم تمرّ المسألة سهلة، فقد فوجئ بها المجتمع الإسلاميّ كله، كما انطلقت ألسنة المنافقين تقول: «تزوّج حليلة ابنه» . وكانت المسألة مسألة تقرير مبدأ جديد، لأنّ العرف السائد كان يعدّ زينب مطلقة ابن لمحمّد (ص) لا تحلّ له، حتّى بعد إبطال عادة التبنّي في ذاتها، ولم يكن قد نزل بعد إحلال مطلّقات الأدعياء، إنّما كان حادث زواج النبي (ص) بزينب، هو الّذي قرّر القاعدة عمليّا، بعد ما قوبل هذا القرار بالدهشة والمفاجأة والاستنكار. وفي هذا ما يهدم كلّ الروايات، الّتي رويت عن هذا الحادث، والّتي تشبّث

أدب بيت النبوة

بها أعداء الإسلام قديما وحديثا، وصاغوا حولها الأساطير المفتريات. إنّما كان الأمر أمر الله سبحانه، تحمّله النبيّ (ص) وواجه به المجتمع الكاره لهذا الأمر كل الكراهية، حتّى ليتردّد النبي في تحمّله ومواجهة الناس به. قال تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) . واستمرّت الآيات توضح أنه لا حرج على النبي (ص) فيما فرض الله له، فقد فرض له أن يتزوّج زينب، وأن يبطل عادة العرب في تحريم أزواج الأدعياء وذكرت الآيات أنّ محمّدا لم يكن أبا أحد من رجال العرب، حتى يحرم عليه الزواج من مطلّقته، وإنّما محمد رسول الله وخاتم النبيين، فهو يشرّع الشرائع الباقية، لتسير عليها البشريّة إلى يوم الدين ثمّ حثّت الآيات على ذكر الله وطاعته ... وقد استغرق هذا الموضوع الرابع، [الآيات 36- 44] . أدب بيت النبوة يستغرق الموضوع الخامس الآيات الممتدّة من الآية 45 إلى آخر السورة، ويبدأ ببيان حكم المطلّقات قبل الدخول، ثمّ يتناول تنظيم الحياة الزوجية للنبي (ص) ، فيبيّن من يحلّ له من النساء المؤمنات ومن يحرّم عليه ويستطرد السياق إلى تنظيم علاقة المسلمين ببيوت النبي، وزوجاته في حياته وبعد وفاته، وتقرير احتجابهنّ إلّا على آبائهنّ أو إخوانهنّ أو أبناء إخوانهنّ أو نسائهنّ، أو ما ملكت أيمانهنّ، وإلى بيان جزاء الّذين يؤذون رسول الله (ص) في أزواجه وبيوته وشعوره، وهدّدهم باللعن في الدنيا والاخرة، ممّا يشي بأن المنافقين وغيرهم كانوا يأتون من هذا شيئا كثيرا. ويعقّب السّياق على هذا بأمر أزواج النبي (ص) وبناته، ونساء المؤمنين كافّة، أن يدنين عليهن من جلابيبهن: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الآية 59] .

تحمل الإنسان للأمانة

وبتهديد المنافقين والّذين في قلوبهم مرض، والمرجفين في المدينة، بتسليط النبي (ص) عليهم، وإخراجهم من المدينة كما خرج بنو قينقاع من قبل، وبنو النّضير بعدهم، أو القضاء عليهم كما وقع لبني قريظة وكل هذا يشير إلى أنّ هذه المجموعة كانت تؤذي المجتمع الإسلامي، بوسائل شرّيرة، خبيثة. ثم ذكر السّياق من شرور هؤلاء الناس، أنّهم كانوا يسألون النبيّ متى تكون الساعة على سبيل الاستهزاء والاستخفاف، وأجابهم بأنّ علم الساعة عند الله، ولوّح بأنّها قد تكون قريبا، وأتبع هذا بمشهد من مشاهد القيامة حيث يتقلّب المجرمون في جهنّم، ويتمرّغون في العذاب والندامة. ثم تعقّب السورة بنهي المؤمنين عن إيذاء النبي (ص) ، حتى لا يكونوا كالذين آذوا موسى (ع) بالطعن عليه، ثم برّأه الله وجعله نزيها وجيها. تحمل الإنسان للأمانة في آخر السورة نجد آية شهيرة تكشف عن جسامة العبء الملقى على عاتق البشريّة، وعلى عاتق الجماعة الإسلاميّة بصفة خاصة، وهي الّتي تنهض وحدها بعبء الأمانة الكبرى، أمانة العقيدة والاستقامة عليها. لقد عرض الله جلّ جلاله حمل الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين حملها لخطر أمرها وحملها الإنسان الّذي خلق مزوّدا بالإرادة والكسب والاختيار، والقدرة على الطاعة والمعصية. فالسماء والأرض والجبال والبحار والكون كلّه يخضع لله خضوع القهر والغلبة، ولا يتحمّل التكاليف، ولا يستطيع أن يتحمّل الأمانة والتكاليف الشرعية، فيثاب على الطاعة ويعاقب على المعصية إنّما الإنسان وحده الّذي ميّزه الله بالعقل والإرادة، وكرّمه وفضّله بالكسب والاختيار، له قدرة على الطاعة وقدرة على الظلم والجهل، وقد استعمر الله الإنسان في الأرض واستخلفه فيها لعلمه، أنه وحده هو الّذي يصلح خليفة عنه، لما ركز في غرائزه وطبائعه من حبّ التّنافس، والتّسابق في عمارة الأرض فمن أطاع الله من طائفة الإنسان فله

الجنّة وله التّوبة عند الخطأ، ومن كفر ونافق فله العذاب والعقاب، قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الأحزاب"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأحزاب» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الأحزاب بعد سورة آل عمران، وكان نزولها بعد غزوة الأحزاب، فيكون نزولها في أواخر السنة الخامسة من الهجرة، وتكون من السور الّتي نزلت فيما بين غزوة بدر وصلح الحديبية. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لذكر غزوة الأحزاب فيها، وتبلغ آياتها ثلاثا وسبعين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة ذكر أحكام تتعلق بالنبي (ص) ، ولهذا ابتدئت بندائه وأمره بالتقوى، ليكون هذا تمهيدا لما قصد تكليفه به وقد شرّعت الأحكام الّتي تضمّنتها هذه السورة في زمن غزوة الأحزاب، ولهذا جمع بينهما في هذه السورة ليسجّل فيها ما حصل في هذا الزمن من تشريع وغزو. وقد ابتدئت السورة السابقة بإثبات تنزيل القرآن، وجاءت هذه السورة بعدها مبتدئة بالأمر باتّباعه وحده، والنهي عن خشية أحد في الأخذ بأحكامه، وهذا هو وجه المناسبة بينهما. إبطال تبني زيد بن حارثة الآيات [1- 27] قال الله تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) . فمهّد بهذا، لأمره بإبطال تبنّيه لزيد بن حارثة، ليتّبعه المؤمنون في إبطال تبنّيهم وكان التبني عادة مستحكمة في العرب وفي سائر الشعوب، فلمّا أبطلها النبيّ (ص) شنّع عليه أعداؤه من الكافرين والمنافقين، فابتدأ هذه السورة بأمره بأن يتّقيه وحده ولا يطيع أعداءه، وبأن يتّبع ما يوحي إليه ويتوكّل عليه ثمّ أخبره بأنه لم يجعل لرجل قلبين في جوفه يجمع بهما بين خوفه وخوف غيره، وأنّه لم يجعل لرجل أمّين إذا قال لزوجته- أنت عليّ كظهر أمي- ليتخلّص بذلك إلى المقصود، وهو إبطال التبنّي فكأنّه قال: كما لم أجعل لرجل قلبين ولا أمّين لم أجعل لابن أبوين، فلا يصح أن يكون أدعياؤهم أبناءهم بمجرّد قولهم ذلك بأفواههم ثمّ أمرهم بأن يدعوهم لآبائهم لأنه أعدل عنده من دعوتهم لمن يتبنّونهم، فإن لم يعلموا آباءهم فهم إخوانهم في الدّين لا أبناؤهم ولا جناح عليهم إن سبق لسانهم إلى ذلك من غير قصد ثم ذكر أنّ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم، فكلّهم سواء في أبوّته وأمومتهنّ لهم، ولا يصح أن يختصّ بذلك أحد منهم، والأقرباء بعضهم أولى ببعض في الإرث، فلا يصح أن يدخل في إرثهم بالتبنّي أجنبي عنهم ثم أكّد ذلك بتذكيره بأنّه أخذ منه ومن النبيّين قبله ميثاقهم أن يبلّغوا رسالتهم ولا يخشوا فيها أحدا، ليسأل الّذين يصدقون في تبليغها عن صدقهم، ويعدّ لمن يكفر بهم عذابا أليما. ثمّ استطرد السّياق من ذلك إلى تذكيرهم بما حصل لهم في غزوة الأحزاب، ليؤكّد به ما أمر من تقواه وحده فيما يأمر به، فأمرهم أن يذكروا نعمته عليهم إذا اجتمعت عليهم جنود أعدائهم من الأحزاب، ونقضت بنو قريظة عهدها معهم وانضمّت إلى أعدائهم، وظهرت خيانة المنافقين ومحاولتهم صرفهم عن القتال، فاشتدّ الأمر بهم وزلزلوا زلزالا شديدا، ولكنّه سبحانه ثبّتهم فصبروا على قتالهم ولم يتأثروا بتثبيط المنافقين لهم، حتّى ردّ الأحزاب بغيظهم وكفاهم قتالهم، وأنزل بني قريظة من حصونهم بعد أن حاصروهم فيها، فقتلوا منهم فريقا وأسروا فريقا:

أمر النبي بتخيير نسائه الآيات [28 - 36]

وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) . أمر النبي بتخيير نسائه الآيات [28- 36] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) . وقد كان أزواج النبيّ (ص) سألنه من عرض الدنيا، وطلبن منه زيادة النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فأمره سبحانه أن يخيّرهنّ بين الطلاق إذا أبين إلّا ذلك، والبقاء في عصمته إذا أردن الله ورسوله والدّار والاخرة ثمّ وعظهنّ بأنّ شأنهنّ ليس كشأن غيرهنّ، فمن تأت منهنّ بفاحشة ظاهرة يضاعف لها العذاب ضعفين، ومن تطع الله ورسوله يؤتها أجرها مرّتين ثمّ أمرهنّ أن يقرن في بيوتهنّ ويتركن تبرّج الجاهليّة الأولى، إلى غير هذا ممّا أمرهنّ به ونهاهنّ عنه ثم عاد السّياق إلى تخييرهنّ، فذكر سبحانه أنه ليس لهنّ ولا لغيرهنّ خيرة مع ما اختاره من ذلك لهنّ فقال جلّ وعلا وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً (36) . تزويج النبي مطلّقة زيد الآيات [37- 44] ثمّ قال تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الآية 37] ، حكاية عن قول النبي (ص) لزيد بن حارثة وكان يتبنّاه: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الآية 37] وهي زينب بنت جحش، وكان يريد طلاقها لأنّها كانت تفخر عليه بنسبها ثمّ ذكر تعالى أنّ الرسول يخفي في نفسه إرادة تزوّجها بعد طلاقها ليكون أقوى في إبطال تبنّيه زيدا، وأنّه يحمله على إخفاء ذلك خشية طعن الناس عليه بأنّه تزوّج امرأة متبنّاه، والله أحقّ منهم بأن يخشاه فلمّا طلّقها زيد زوّجها الله له لكيلا يكون على الناس حرج في أزواج من يتبنّونهم ثم ذكر سبحانه أنّه لا حرج عل الرسول (ص) في ذلك الزواج لأنه سنّة الله في الرسل قبله، وأنّه لم يكن أبا أحد منهم حتّى تحرّم عليه زوجه ثم أمرهم جلّ شأنه أن

إرشاد النبي إلى آداب عامة الآيات [45 - 49]

يذكروه ويسبّحوه سبحانه بكرة وأصيلا، لأنه يرحمهم بما يشرّع لهم من ذلك وغيره، ويخرجهم به من الظّلمات إلى النور، وهو رحيم بهم على الدوام تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) . إرشاد النبي إلى آداب عامة الآيات [45- 49] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) فذكر سبحانه أنه أرسله شاهدا على الناس ومبشّرا ونذيرا. فإذا كانوا مؤمنين، فعليه أن يبشّرهم بما لهم من الفضل عنده وإذا كانوا كفّارا أو منافقين فإنّه لا يصحّ أن يطيعهم أو يخشاهم في شيء، وعليه أن يدع أذاهم ويتوكّل عليه سبحانه وحده ثم أمر المؤمنين إذا طلّقوا أزواجهم من قبل أن يمسّوهنّ أن يتركوا أذاهم، بمناسبة أمر النبي (ص) بترك أذى أعدائه، فقال تعالى: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (49) . خصائص النبي في أزواجه الآيات [50- 58] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ [الآية 50] . فذكر ما خصّه به من إحلال أزواجه له، وإن زاد عددهنّ على أربع. ومن عدم وجوب القسم عليه بينهنّ، لكي تقرّ أعينهن إذا سوّى بينهن من نفسه، ومن تحريم طلاقهنّ أو زواج غيرهنّ ليقصرهنّ عليه ويقصره عليهنّ ثمّ ذكر ما يستتبعه ذلك التشريع من فرض الحجاب عليهنّ وتحريم نكاحهنّ بعده على غيره واستثنى من فرض الحجاب عليهنّ آباءهنّ ونحوهم من محارمهنّ ثمّ ذكر ما يوجب احترامه في ذلك من صلاة الله عليه وملائكته، فيجب على المؤمنين أن يذكروا حرمته في كلّ وقت بالصّلاة عليه ثم هدّد من يؤذيه في ذلك باللّعن في الدّنيا والاخرة، وهدّد بمناسبة ذلك من يؤذي الناس عامة، فقال جلّ وعلا: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) .

إرشاد النبي إلى ما يجب ستره من نسائه وغيرهن الآيات [59 - 73]

إرشاد النبي إلى ما يجب ستره من نسائه وغيرهن الآيات [59- 73] ثمّ قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الآية 59] . فأمره سبحانه بأن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين بأن يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ، ليعرفن بالعفّة فلا يطمع الفسّاق من المنافقين فيهنّ ثمّ هدّد أولئك المنافقين إن لم ينتهوا عن تعرّضهم للنّساء في الطّرق وغير ذلك من شرورهم، بتسليط النبي (ص) عليهم، فلا يجاورونه في المدينة إلّا قليلا، ويحقّ عليهم التقتيل في كلّ مكان يصيرون إليه، كما فعل ذلك بالذين خلوا من قبلهم ثمّ ذكر من شرورهم أنهم يسألونه متى يكون ما يوعدون به على سبيل الاستهزاء، وأجابهم بأنّه سيكون قريبا وذكر ما يكون لهم من اللّعن والعذاب فيه. ثمّ ختم السورة بنهي المؤمنين عامّة عن إيذاء النبيّ (ص) بمثل ما يؤذيه المنافقون به من الطّعن عليه، بنحو ما سبق فيها، حتّى لا يكونوا كالذين آذوا موسى (ع) بالطّعن عليه بما هو بريء منه ثمّ أمرهم بالتقوى والقول السّديد بدل الطّعن والفحش ونوّه بشأن الأمانة الّتي لا يراعيها أولئك الطاعنون بالزّور فذكر سبحانه أنّه عرض حملها على السماوات والأرض والجبال فأبين ذلك لخطر أمرها، وأنّ الإنسان لم يشفق على نفسه من حملها لأنّه ظلوم جهول فلا يبالي بالتّهاون في أمرها، ولأنّه يعاقب على تركها ويثاب على فعلها لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الأحزاب"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأحزاب» «1» أقول: وجه اتّصالها بما قبلها، أي بسورة السّجدة: تشابه مطلع هذه، ومقطع تلك، فإنّ تلك ختمت بأمر النبي (ص) بالإعراض عن الكافرين، وانتظار عذابهم «2» ومطلع هذه الأمر بتقوى الله سبحانه، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، فصارت كالتّتمّة لما ختمت به تلك، حتّى كأنّهما سورة واحدة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وذلك قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) [السّجدة] .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الأحزاب"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الأحزاب» «1» 1- إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ [الآية 9] . هم الأحزاب: أبو سفيان، وأصحابه، وقريظة، وعيينة بن بدر، أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد. 2- فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً [الآية 9] . هي الصّبا «2» . أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. 3- وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الآية 9] . قال مجاهد: هي الملائكة. أخرجه ابن أبي حاتم «3» . 4- إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ [الآية 10] . قال مجاهد: عيينة بن بدر، من نجد. 5- وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الآية 10] . أبو سفيان ومن معه، وقريظة. أخرجه ابن أبي حاتم. 6- وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ [الآية 12] . سمّى السّدّي منهم: قشير بن معتّب. أخرجه ابن أبي حاتم. وفي «تفسير جويبر» عن ابن عبّاس: هو معتّب بن قشير الأنصاري. 7- وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ [الآية 13] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات القران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . الصّبا: الرّيح الّتي تهبّ من المشرق. وأخرج البخاري (1035) في الاستسقاء عن ابن عبّاس عن النبيّ (ص) قال: «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» والدّبور: عكس الصّبا. (3) . والطبري 21: 81.

قال السّدّي: هم عبد الله بن أبيّ، وأصحابه. أخرجه ابن أبي حاتم. 8- وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ [الآية 13] . قال السّدّي: هما رجلان من بني حارثة: أبو عرابة بن أوس، وأوس بن قيظيّ. أخرجه ابن أبي حاتم، أيضا. 9- مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ [الآية 23] . نزلت في أنس بن النّضر، وأصحابه. كما أخرجه مسلم وغيره، عن أنس بن مالك. 10- مَنْ قَضى نَحْبَهُ [الآية 23] . أخرج التّرمذيّ، وغيره عن معاوية: أن النبي (ص) قال: «طلحة ممّن قضى نحبه» . 11- الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الآية 26] . قال مجاهد: قريظة. أخرجه ابن أبي حاتم «1» . 12- وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها [الآية 27] . قال السّدّيّ: هي خيبر، فتحت بعد بني قريظة. وقال قتادة: كنا نحدّث أنّها مكّة. وقال الحسن: هي أرض الرّوم وفارس. أخرج ذلك ابن أبي حاتم «2» . 13- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الآية 28] . قال عكرمة: كان تحته يومئذ تسع نسوة خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأمّ سلمة بنت أبي أميّة وكانت تحته: صفيّة بنت حيي الخيبريّة، وميمونة بنت الحارث الهلاليّة، وزينب بنت جحش الأسديّة، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق. أخرجه ابن أبي حاتم «3» . 14- أَهْلَ الْبَيْتِ [الآية 33] . أخرج التّرمذيّ حديثا: أنّها لمّا نزلت

_ (1) . والطبري في «تفسيره» 21: 95. (2) . قال ابن جرير رحمه الله: «والصّواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره أخبر أنّه أورث المؤمنين من أصحاب رسول الله (ص) أرض بني قريظة وديارهم، وأرضا لم يطئوها يومئذ، ولم تكن مكّة ولا خيبر ولا أرض فارس والروم ولا اليمن ممّا كانوا وطئوه يومئذ، ثمّ وطئوا ذلك بعد. وأورثهموه الله ذلك ذلك كلّه داخل في قوله تعالى: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها لأنه تعالى ذكره لم يخصّص من ذلك بعضا دون بعض» . ووقع اختلاف في «تفسير الطّبري» 21: 98 في نسبة الأقوال لأصحابها عمّا ذكره المؤلف هنا. [.....] (3) . انظر أزواجه (ص) في «سيرة ابن هشام» 2: 643.

دعا النبيّ (ص) فاطمة، وحسنا، وحسينا، وعليّا فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي» «1» . وأخرج ابن أبي حاتم عن طريق عكرمة، عن ابن عبّاس قال: نزلت في نساء النبي (ص) خاصّة «2» . قال عكرمة: من شاء باهلته «3» أنّها نزلت فيهنّ. 15- وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ [الآية 36] . نزلت في أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأخيها، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن زيد «4» . 16- لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ [الآية 37] . هو زيد بن حارثة «5» . 17- أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الآية 37] . هي: زينب بنت جحش. 18- وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ [الآية 50] . أخرج ابن أبي حاتم عن عائشة، قالت: «الّتي وهبت نفسها للنبيّ (ص) خولة بنت حكيم، وتكنّى: [أمّ شريك] » . وأخرجه عن عروة بلفظ: كان يقال: إن خولة بنت حكيم من اللّاتي وهبن أنفسهن. وأخرج عن محمّد بن كعب وغيره: أنّ ميمونة بنت الحارث هي الّتي وهبت نفسها.

_ (1) . أخرجه التّرمذيّ (3203) في التفسير و (3789) في المناقب، وقال: هذا حديث حسن غريب، وأورده الذهبي في «سير أعلام النبلاء» 2: 208 عن عكرمة، عن ابن عبّاس. وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه عليه: «إسناده حسن» وللحديث طرق أخرى، انظر تخريجها في «سير أعلام النبلاء» 2: 122، و 3: 254، 255. (2) . قال ابن كثير في «تفسيره» 3: 483: «فإن كان المراد أنّهن كن سبب النزول دون غيرهنّ فصحيح، وإن أريد أنهنّ المراد فقط دون غيرهنّ ففي هذا نظر، فإنه قد وردت أحاديث تدلّ على أنّ المراد أعمّ من ذلك» ، ثم أورد الأحاديث في ذلك. (3) . من المباهلة، وهي أن يدعو كلّ من المباهلين إلى الله تعالى، ويخلص إلى الله الدعاء، ويطلب منه سبحانه أن ينزل لعنته وعضبه على من يستحقه منهم. (4) . ابن زيد: هو عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، وروى آخرون منهم قتادة: أنّها نزلت في زينب بنت جحش حين خطبها رسول الله (ص) على فتاه زيد بن حارثة، فامتنعت من إنكاحه نفسها. انظر «تفسير الطّبري» 22: 9، و «مجمع الزوائد» 7: 92 وفيه: «رواه الطّبراني بأسانيد، ورجال بعضها رجال الصحيح» . (5) . انظر «تفسير الطّبري» 22: 9، 10، «وتفسير ابن كثير» 3: 490.

وحكى الكرماني: أنها زينب أمّ المساكين، امرأة من الأنصار «1» . وقيل: أمّ شريك «2» بنت الحارث. 19- تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ [الآية 51] . أخرج ابن أبي حاتم عن أبي رزين مولى شقيق بن سلمة قال: كان ممّن أرجي: ميمونة، وجويريّة، وأمّ حبيبة «3» ، وصفيّة، وسودة وكان ممّن آوى: عائشة، وأمّ سلمة، وزينب، وحفصة. وأخرج عن ابن شهاب قال: هذا أمر أباحه الله لنبيّه، ولم نعلم أنه أرجأ منهنّ شيئا. وهذان على أنّ ضمير منهنّ عائد لأمّهات المؤمنين، وهو الّذي أخرجه ابن أبي حاتم عن طريق العوفي، عن ابن عبّاس. وأخرج عن الشّعبي قال: كنّ نساء وهبن أنفسهنّ للنبي (ص) ، فدخل ببعضهنّ، وأرجأ بعضهنّ، منهن أمّ شريك. 20- قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ [الآية 59] . تقدّمت الأزواج «4» ، وأمّا البنات: ففاطمة، وزينب زوج أبي العاص ورقيّة، وأمّ كلثوم، زوجا عثمان «5» . 21- وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الآية 72] . قال ابن عبّاس: هو آدم. أخرجه ابن أبي حاتم «6» .

_ (1) . هي زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية من أزواج النبي (ص) ، وسميت بأمّ المساكين لرحمتها إيّاهم، ورقّتها عليهم، وكان النبيّ (ص) قد تزوّجها سنة ثلاث للهجرة، ولبثت عنده ثمانية أشهر أو أقل، وماتت بالمدينة وعمرها نحو ثلاثين سنة. انظر «سيرة ابن هشام» 2: 647، و «سير أعلام النبلاء» 2: 218، و «تفسير الطبري» 22: 17. (2) . واسمها: ميمونة كما في رواية ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم في «الدرّ المنثور» 5: 208، وانظر ترجمتها في «سير أعلام النبلاء» 2: 255، 256. (3) . في رواية ابن مردويه عن مجاهد، أنّ أم حبيبة كانت ممّن آواها النبي (ص) . (4) . انظر الآية رقم (28) في هذه السورة. (5) . انظر «سيرة ابن هشام» 1: 190. (6) . الطّبري 22: 38.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الأحزاب"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأحزاب» «1» 1- قال تعالى: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ [الآية 4] . يقال: ظاهر من امرأته وتظاهر وتظهّر، وهو أن يقول لها: أنت عليّ كظهر أمّي. وكانت العرب تطلّق نساءها في الجاهليّة بهذا اللفظ، فلمّا جاء الإسلام نهوا عنه، وأوجبت الكفّارة على من ظاهر من امرأته. أقول: وهذا شيء من إفادة العربية من أعضاء الجسم في توليد هذا المصطلح. ومن ذلك أيضا قوله تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ [الآية 26] . أي: أعانوهم. أقول: وهذه «المظاهرة» الّتي تعني الإعانة والمساعدة، ليست بعيدة عن الأصل، الّذي ولّدت منه، وهو «الظهر» كأن الإعانة في هذا الفعل أن تكون «ظهيرا» ، أي: مساعدا لغيرك. 2- وقال تعالى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) . أقول: والوجه في العربية أن يقال: وتظنّون بالله الظنون، لمكان الألف واللام في الكلام، ولا تأتي ألف الإطلاق إلّا مع النكرة. ولم يلجأ إلى هذا إلّا لمراعاة الفواصل، لتجيء عدّة الآيات على نسق متجانس في الكلم وفي الأبنية. 3- وقال تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [الآية 18] . والْمُعَوِّقِينَ في الآية هم المثبّطون

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

عن رسول الله (ص) وهم المنافقون. أقول: والمعوّق في عصرنا من كان به عاهة جسميّة، كالعرج والعضب في رجله ويده، وهو غير الأعمى والأبكم. 4- وقال تعالى: فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ [الآية 19] . وقوله تعالى: سَلَقُوكُمْ، أي: آذوكم بالكلام. وأصل السّلق شدّة الصوت، وهو الصّلق أيضا. أقول: والسّلق بالألسنة الحداد ممّا نعرفه في العربية الدّارجة بهذا المعنى، ولكنّ الكلام الحادّ يكون في غيبة الرّجل. 5- وقال تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الآية 32] . أي: لستنّ كجماعة واحدة من جماعات النّساء، فجعلت الجماعة كأنّها واحد بإزاء الجماعات الأخرى، ومثله قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [النساء: 152] . يريد بين جماعة واحدة منهم. 6- وقال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الآية 33] . وقوله تعالى: قَرْنَ وأصله أقررن، فحذفت الراء وألقيت فتحتها على ما قبلها. أقول: وفي العربيّة من هذا الحذف، ممّا يراد به التخفيف، ألا ترى أنّ الهمزة من «رأى» تحذف في المضارع فقالوا: «يرى» ؟ 7- وقال تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الآية 36] . أقول: وليس للخيرة من فعل إلا المزيد «اختار» ، أمّا المجرد، «خار» ، فهو قليل الاستعمال بالقياس إلى المزيد «اختار» أو «تخيّر» . 8 قال تعالى: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الآية 53] . أقول: والضمير في إِناهُ يعود على الطّعام في الآية نفسها: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الآية 53] . وإنى الطعام: إدراكه، يقال: أني الطعام إنّى، كقولك: قلاه قلى، ومنه قوله تعالى: وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) [الرّحمن] ، أي: بالغ إناه.

وقيل: إناه وقته، أي: غير ناظرين وقت الطّعام. أقول: أني الطّعام، أي: بلغ إدراكه، فيه شيء من «آن» أي «حان» و «أنى» يأني، وهما بمعنى. 9- وقال تعالى: وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) . أقول: والتضعيف للاستفظاع.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الأحزاب"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الأحزاب» «1» قال تعالى: مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الآية 4] إنّما هو «ما جعل الله لرجل قلبين في جوفه» وجاءت (من) توكيدا. وقال تعالى: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا [الآية 6] في موضع نصب واستثناء خارج. وقال تعالى: الظُّنُونَا (10) مراعاة للفواصل في رؤوس الآي. وقال تعالى: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الآية 40] أي: «ولكن كان رسول الله وخاتم النبيين» . وقال تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الآية 5] فأنت تقول «هو يدعى لفلان» . وقال تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ [الآية 52] فمعناه- والله أعلم- «أن تبدّل بهنّ أزواجا» . وأدخلت (من) للتوكيد. وقال تعالى: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ [الآية 53] بالعطف على غَيْرَ وجعله نصبا أو على ما بعد غَيْرَ بجعله جرّا. وقال تعالى: إِلَّا قَلِيلًا (60) أي: «لا يجاورونك إلّا قليلا» على المصدر. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) فصلاة النّاس عليه دعاؤهم له، وصلاة الله عزّ وجلّ إشاعة الخير عنه. وقال تعالى: وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) برفع ما بعد وَإِذاً لمكان الواو وكذلك الفاء، وقال تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) [النساء] وهي في بعض القراءة نصب أعملوها كما يعملونها بغير فاء، ولا واو «1» . وقال تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الآية 53] بالنصب على الحال أي: إلّا أن يؤذن لكم غير ناظرين. ولا يكون جرّا على الطعام إلّا أن يقال «أنتم» . ألا ترى أنّك لو قلت: «ائذن لعبد الله على امرأة مبغضا لها» لم يكن فيه إلّا النصب، إلّا أن تقول «مبغض لها هو» : لأنّك إذا أجريت صفته عليها ولم تظهر الضمير الّذي يدلّ على أنّ الصفة له، لم يكن كلاما. لو قلت: «هذا رجل مع امرأة ملازمها» كان لحنا حتى تقول «ملازمها» فترفع، أو تقول «ملازمها هو» فتجرّ.

_ (1) . قراءة الرفع في آية الأحزاب هي للجمهور، وإجماع القرّاء للطّبري 21: 138، والبحر 7: 219. وقراءة النصب فيها لم تذكر في كتاب إلّا الجامع 14: 151 ولم تنسب. أمّا قراءة النصب في آية النساء، فقد نسبت في البحر 3: 273، إلى عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عبّاس.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الأحزاب"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأحزاب» «1» إن قيل: لم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الآية 1] ولم يقل يا محمّد كما قال تعالى: يا موسى، يا عيسى، يا داود ونحوه؟ قلنا: إنّما عدل عن ندائه باسمه إلى ندائه بالنبيّ والرّسول، إجلالا له وتعظيما، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ [المائدة: 67] . فإن قيل: لو كان ذلك كما ذكرتم، لعدل عن اسمه إلى نعته في الإخبار عنه، كما عدل في النّداء في قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح: 29] وقوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . قلنا: إنّما عدل عن نعته في هذين الموضعين لتعليم النّاس أنه رسول الله، وتلقينهم أن يسمّوه بذلك، ويدعوه به ولذلك ذكره بنعته لا باسمه في غير هذين الموضعين من مواضع الإخبار، كما ذكره في النداء: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] ، لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الآية 21] ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] ، النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الآية: 6] ، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الآية 56] ، وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ [المائدة: 81] ونظائره كثيره. فإن قيل: ما الحكمة من ذكر الجوف في قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الآية 4] ؟ قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

وجوابه في سورة الحجّ، في قوله تعالى: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (41) [الحج] . فإن قيل: ما معنى قولهم. أنت عليّ كظهر أمّي؟ قلنا: أرادوا أن يقولوا أنت عليّ حرام كبطن أمّي، فكنّوا عن البطن بالظّهر لئلّا يذكروا البطن الّذي يقارب ذكره ذكر الفرج، وإنما كنّوا عن البطن بالظّهر لوجهين: أحدهما أنّه عمود البطن، ويؤيّده قول عمر رضي الله تعالى عنه: يجيء أحدهم على عمود بطنه: أي على ظهره. الثاني: أنّ إتيان المرأة من قبل ظهرها كان محرّما عندهم، وكانوا يعتقدون أنّها إذا أتيت من قبل ظهرها جاء الولد أحول، فكان المطلّق في الجاهلية، إذا قصد تغليظ الطلاق، قال: أنت عليّ كظهر أمي. فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الآية 6] . جعل أزواج النبي (ص) بمنزلة أمهات المؤمنين حكما: أي في الحرمة والاحترام وما جعل النبي (ص) بمنزلة أبيهم، حتى قال تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الآية 40] ؟ قلنا: أراد الله بقوله تبارك وتعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أوّلا: أنّ أمّته يدعون أزواجه بأشرف الأسماء، وأشرف أسماء النساء الأمّ، وأشرف أسماء النبي (ص) رسول الله، لا الأب. ثانيا: أنّه تعالى جعلهنّ أمّهات المؤمنين تحريما لهنّ وإجلالا وتعظيما له (ص) كيلا يطمع أحد في نكاحهنّ بعده فلو جعل النبي (ص) أبا المؤمنين لكان أبا للمؤمنات أيضا، فلم يجعل له نكاح امرأة من المؤمنات بل يحرّمن عليه (ع) ، وذلك ينافي إجلاله وتعظيمه، وقد جعله أعظم من الأب في القرب والحرمة، بقوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الآية 6] فجعل (ص) أقرب إليهم من أنفسهم وكثير من الآباء يتبرّأ من ابنه ويتبرّأ منه ابنه أيضا، وليس أحد يتبرّأ من نفسه. فإن قيل: لم قدّم النبي (ص) على نوح (ع) ومن بعده في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الآية 7] ؟ قلنا: لأنّ هذا العطف من باب عطف الخاصّ على العامّ الّذي هو جزء منه، لبيان التفضيل والتخصيص بذكر

مشاهير الأنبياء وذراريهم، فلمّا كان النبي (ص) أفضل هؤلاء المفضّلين قدّم عليهم. وفي الميثاق المأخوذ قولان: أحدهما أنه تعالى أخذ منهم الميثاق يوم أخذ الميثاق بأن يصدّق بعضهم بعضا والثاني أخذ منهم الميثاق أن يوحّدوا الله تعالى، ويدعوا إلى توحيده، ويصدّق بعضهم بعضا. فإن قيل: فلم قدّم نوح (ع) في نظير هذه الآية، وهي قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: 13] ؟ قلنا: لأنّ تلك الآية سيقت لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة، كأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الّذي بعث عليه نوح (ع) في العهد القديم، وبعث عليه محمّد (ص) في العهد الحديث، وبعث عليه من توسّطهما من الأنبياء المشاهير، فكان تقديم نوح (ع) أشدّ مناسبة بالمقصود من سوق الآية. فإن قيل: ما الحكمة من إعادة أخذ الميثاق في قوله تعالى: وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) ؟ قلنا: فائدته التأكيد، ووصف الميثاق المذكور أوّلا بالجلالة والعظم استعاذة من وصف الأجرام به. وقيل إنّ المراد بالميثاق الغليظ، اليمين بالله تعالى على الوفاء بما حملوا، فلا إعادة لاختلاف الميثاقين. فإن قيل: لم قال تعالى في وصف حال المؤمنين الّتي امتنّ عليهم فيها: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الآية 10] ولو بلغت القلوب الحناجر لماتوا ولم يبق للامتنان وجه؟ قلنا: قال ابن قتيبة: معناه كادت القلوب تبلغ الحناجر من الخوف، فهو مثل في اضطراب القلوب ووجيبها. وردّه ابن الأنباري فقال: العرب لا تضمّن كاد ولا تعرف معناه ما لم تنطق به. وقال الفراء: معناه أنهم جبنوا وجزعوا، والجبان إذا اشتدّ خوفه انتفخت رئته فرفعت قلبه إلى حنجرته، وهي جوف الحلقوم وأقصاه، وكذلك إذا اشتدّ الغضب أو الغم وهذا المعنى مرويّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، ومن هنا قيل للجبان: انتفخ منخره. فإن قيل: لم ساق الله تعالى عذاب المنافقين بمشيئته بقوله تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ [الآية 24] وعذابهم متيقّن مقطوع به، لقوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] ؟

قلنا: إن شاء تعذيبهم بإماتتهم على النّفاق. وقيل معناه إن شاء ذلك، وقد شاءه. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الآية 21] ؟ قلنا: فيه وجهان. أحدهما أنّه (ص) نفسه أسوة حسنة: أي قدوة، والأسوة اسم للمتأسّى به: أي المقتدى به، كما نقول في البيضة عشرون منا حديدا: أي هي في نفسها هذا المقدار. الثاني: أنّ فيه خصلة من حقّها أن يؤتسى بها وتتبّع، وهي مواساته بنفسه أصحابه وصبره على الجهاد، وثباته يوم أحد حين كسرت رباعيته، وشجّ وجهه الشريف. فإن قيل: لم أظهر تعالى الاسمين مع تقدّم ذكرهما في قوله تعالى: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الآية 22] ؟ قلنا: لئلّا يكون الضمير الواحد، عائدا على الله تعالى وغيره. فإن قيل: لم قال تعالى في وصف بني قريظة: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها [الآية 27] والله تعالى إنّما ملّكهم أرضهم بعد ما وطئوها وظهروا عليها؟ قلنا: معناه أوّلا: ويورثكم بطريق وضع الماضي موضع المستقبل، مبالغة في تحقيق الموعود وتأكيده. ثانيا: أنّ فيه إضمارا تقديره: وأرضا لم تطئوها سيورثكم إيّاها، يعني أرض مكّة، وقيل أرض فارس والروم، وقيل أرض خيبر، وقيل كلّ أرض ظهر عليها المسلمون بعد ذلك إلى يوم القيامة. ثالثا: أنّ معناه، وأورثكم ذلك كلّه في الأزل، بكتابته لكم في اللّوح المحفوظ. فإن قيل: لم خصّ الله تعالى نساء النبي (ص) بتضعيف العقوبة على الذّنب، والمثوبة على الطّاعة، في قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الآية 30] ؟ قلنا: أمّا تضعيف العقوبة فلأنّهنّ أولا يشاهدن من الزّواجر الرّادعة عن الذنوب ما لا يشاهده غيرهنّ. ثانيا: أنّ في معصيتهنّ أذى لرسول الله (ص) أعظم من ذنب من آذى رسول الله (ص) أعظم من ذنب غيره والمراد بالفاحشة النشوز وسوء الخلق كذا قاله ابن

عبّاس رضي الله تعالى عنهما. وأمّا تضعيف المثوبة فلأنّهنّ أشرف من سائر النساء بقربهنّ من رسول الله (ص) ، فكانت الطاعة منهنّ أشرف كما كانت المعصية منهنّ أقبح. فإن قيل: لم قال تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ولم يقل «كواحدة من النساء» [الآية 32] ؟ قلنا: قد سبق نظير هذا مرّة في آخر سورة البقرة في قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] . فإن قيل: لم أمر الله تعالى نساء النبي (ص) بالزّكاة في قوله سبحانه وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ [الآية 33] ولم يملكن نصابا حولا كاملا؟ قلنا: المراد بالزّكاة هنا الصدقة النافلة، والأمر أمر ندب. فإن قيل: ما الفرق بين المسلم والمؤمن، حتّى عطف أحدهما على الاخر، في قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الآية 34] مع أنّهما متّحدان شرعا؟ قلنا: المراد بالمسلم الموحّد بلسانه، وبالمؤمن المصدّق بقلبه. فإن قيل: لم قال تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الآية 40] مع أنه كان أبا للطّاهر والطّيّب والقاسم وإبراهيم (ع) ؟ قلنا: قوله تعالى مِنْ رِجالِكُمْ [الآية 40] يخرجهم من حكم النّفي من وجهين: أحدهما أنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال بل ماتوا صبيانا. والثاني: أنه أضاف الرجال إليهم. وهم كانوا رجاله لا رجالهم. فإن قيل: لم قال تعالى: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الآية 40] وعيسى (ع) ينزل بعده، وهو نبيّ؟ قلنا: معنى كونه خاتم النبيين، أنّه لا يتنبّأ أحد بعده، وعيسى (ع) ممّن نبّئ قبله، وحينما ينزل عاملا بشريعة محمد (ص) مصلّيا إلى قبلته، كأنّه بعض أمته؟ فإن قيل: قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ [الآية 43] معناه يرحمكم ويغفر لكم، فما معنى قوله تعالى: وَمَلائِكَتُهُ [الآية 43] والرحمة والمغفرة منهم محال؟ قلنا: جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة بالرحمة والمغفرة، كأنّهم فاعلو

الرحمة والمغفرة، كما يقولون: حيّاك الله: أي أحياك وأبقاك، وحيّا زيد عمرا: أي دعا له بأن يحييه الله اتّكالا منه على إجابة دعوته، ومثله قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الآية 56] . فإن قيل: قد فهم من قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أنّه مأذون له في الدعاء إلى الله تعالى، فما الحكمة في قوله سبحانه بِإِذْنِهِ [الآية 46] ؟ قلنا: معناه بتسهيله وتيسيره، وقيل معناه بأمره لا أنك تدعوهم من تلقاء نفسك. فإن قيل: لم شبّه الله تعالى النبي (ص) بالسّراج دون الشمس، والشمس أتمّ وأكمل في قوله تعالى: وَسِراجاً مُنِيراً (46) ؟ قلنا: قيل إن المراد بالسّراج هنا الشمس كما في قوله تعالى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) [نوح] وقيل إنما شبّه بالسّراج لأنّ السّراج يتفرّع ويتولّد منه سرج لا تعدّ ولا تحصى بخلاف الشمس، والنبي (ص) تفرّع منه بواسطة إرشاده وهدايته العلماء جميعهم من عصره إلى يومنا هذا، وهلم جرا إلى يوم القيامة وقيل إنّما شبّهه بالسّراج، لأنّه جلّ جلاله بعث النبي (ص) في زمان، يشبه الليل بظلمات الكفر والجهل والضلال. فإن قيل: لم شبّهه بالسراج دون الشمع، والشمع أشرف، ونوره أتمّ وأكمل؟ قلنا: قد سبق الجواب عن مثل هذا، في قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [النور: 35] . فإن قيل: لم خصّ تعالى المؤمنات بعدم وجوب العدّة في الطلاق قبل المسيس، في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ [الآية 49] ، مع أن حكم الكتابيّة كذلك أيضا؟ قلنا: هذا خرج مخرج الأغلب والأكثر، لا تخصيص. فإن قيل: لم أفرد سبحانه العمّ وجمع العمّات، وأفرد الخال وجمع الخالات، في قوله تعالى: وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ [الآية 50] والمعهود في كلام العرب مقابلة الجمع بالجمع؟ قلنا: لأنّ العمّ اسم على وزن

المصدر الّذي هو الضم ونحوه، وكذا الخال على وزن القال ونحوه، فيستوي فيه المفرد والتثنية والجمع، بخلاف العمّة والخالة، ونظيره قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ [البقرة: 7] . فإن قيل: هذا الجواب منقوض بقوله تعالى في سورة النور أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ [النور: 61] . قلنا: ليس العمّ والخال مصدرين حقيقة، بل على وزن المصدر، فاعتبر هنا شبههما بالمصدر وهناك حقيقتهما عملا بالجهتين، بخلاف السّمع فإنّه لو كان مصدرا حقيقة، ما جاء قط في الكتاب العزيز إلا مفردا. فإن قيل: لم ذكر الأقارب في قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ [الآية 55] ، ولم يذكر العمّ والخال، وحكمهما حكم من ذكر في رفع الجناح؟ قلنا: سبق مثل هذا السؤال وجوابه، في سورة النور في قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ [النور: 31] . فالأولى أن تستتر المرأة عن عمّها وخالها، لئلّا يصف محاسنها عند ابنه فيفضي إلى الفتنة. فإن قيل: السادة والكبراء بمعنى واحد، فلم عطف أحدهما على الاخر، في قوله تعالى: إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا [الآية 67] ؟ قلنا: هو من باب عطف اللفظ على اللفظ المغاير له، مع اتّحاد معنيهما، كقولهم: فلان عاقل لبيب، وهذا حسن جميل، وقول الشاعر: معاذ الله من كذب ومين فإن قيل: المراد بالإنسان آدم (ع) في قوله تعالى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الآية 72] فلم قال سبحانه: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) وفعول من أوزان المبالغة، فيقتضي تكرار الظلم والجهل منه، وأنّه منتف؟ قلنا: لمّا كان عظيم القدر، رفيع المحلّ، كان ظلمه وجهله لنفسه أقبح وأفحش، فقام عظم الوصف مقام الكثرة وقد سبق نظير هذا في سورة آل عمران في قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران: 182] .

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الأحزاب"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأحزاب» «1» وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الآية 26] وهذه استعارة. والمراد بها: أنّه تعالى ألقى الرّعب في قلوبهم من أثقل جهاته، وعلى أقطع بغتاته. تشبيها بقذفة الحجر إذا صكّت الإنسان على غفلة منه. فإن ذلك يكون أملأ لقلبه، وأشدّ لروعه. وقوله سبحانه: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الآية 30] وهذه استعارة. فكأنّه تعالى جعل الفاحشة تبيّن حال صاحبها، وتشير إلى ما يستحقّه من العقاب عليها. وهذا من أحسن الأعراض، وأنفس جواهر الكلام. وقوله سبحانه وتعالى: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وهذه استعارة. والمراد بالسّراج المنير هاهنا: أنّه (ص) يهتدى به في ضلال الكفر، وظلام الغي، كما يستصبح بالشّهاب في الظلماء، وتستوضح الغرّة في الدّهماء. وقوله سبحانه: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) . وهذه استعارة. وللعلماء في ذلك أقوال، قال بعضهم: المراد بذلك تفخيم شأن الأمانة، وأنّ منزلتها منزلة ما لو عرض على هذه الأشياء المذكورة مع عظمها، وكانت تعلم ما فيها، لأبت أن تحملها

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

وأشفقت كلّ الإشفاق منها. إلّا أنّ هذا الكلام خرج مخرج الواقع، لأنّه أبلغ من المقدّر. وقال بعضهم: عرض الشيء على الشيء ومعارضته سواء. والمعارضة، والمقابلة، والمقايسة، والموازنة، بمعنى واحد. فأخبر الله سبحانه عن عظم أمر الأمانة وثقلها، وأنّها إذا قيست بالسماوات والأرض والجبال، ووزنت بها، لرجحت عليها. ولم تطق حملها، ضعفا عنها. وذلك معنى قوله تعالى: فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها ومن كلامهم: فلان يأبى الضّيم، إذا كان لا يحتمله. فالإباء هاهنا هو ألّا يقام بحمل الشيء. والإشفاق في هذا الموضع هو الضّعف عن الشيء، ولذلك كنّي به عن الخوف الّذي هو ضعف القلب. فقالوا: فلان مشفق من كذا. أي خائف منه. ومعنى قوله سبحانه: فالسماوات والأرض والجبال لم تحمل الأمانة ضعفا عنها، وحملها الإنسان، أي تقلّدها وقارف المأثم فيها، للمعروف من كثرة جهله، وظلمه لنفسه.

سورة سبأ 34

سورة سبأ 34

المبحث الأول أهداف سورة"سبأ"

المبحث الأول أهداف سورة «سبأ» «1» سورة سبأ سورة مكّية، نزلت بعد سورة لقمان. وقد نزلت سورة سبأ في الفترة الواقعة بين السنة الحادية عشرة والثانية عشرة من حياة الرسول (ص) في مكّة بعد البعثة، فقد جاء الوحي إلى النبي وعمره أربعون سنة، ثم مكث في مكّة ثلاثة عشر عاما، وفي المدينة عشرة أعوام، ومات وعمره ثلاث وستّون سنة. وكانت سورة سبأ ضمن مجموعة السور الّتي نزلت في السنوات الأخيرة من حياة المسلمين في مكّة. وعدد آيات سورة سبأ 54 آية، وسمّيت بهذا الاسم لاشتمالها على قصّة سبأ، وهي مدينة من المدن القديمة في اليمن، وكانت عاصمة دولة قديمة به، وقد خربت عند انهيار سد مأرب بسبب سيل العرم، قال تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) . موضوعات السورة موضوعات سورة سبأ هي موضوعات العقيدة الرئيسة: توحيد الله والإيمان بالوحي، والاعتقاد بالبعث وإلى جوارها تصحيح بعض القيم

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسة، وبيان أنّ الإيمان والعمل الصالح، لا الأموال ولا الأولاد، هما قوام الحكم والجزاء عند الله، وأنّه ما من قوّة تعصم من بطش الله، وما من شفاعة عنده إلّا بإذنه. والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء، وعلى إحاطة علم الله وشموله، ودقّته ولطفه وتتركز الإشارة في السورة على هاتين القضيّتين بطرق منوّعة، وأساليب شتّى، وتظلّل جوّ السورة كلّه من البدء إلى النهاية. فعن قضية البعث تقول السورة: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [الآية 3] . ويرد قرب ختام السورة: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) . وقد عرض الفيروزآبادي مقصود السورة فقال: بيان حكمة التوحيد، وبرهان نبوّة الرسول (ص) ومعجزات داود وسليمان ووفاتهما، وهلاك سبأ، وشؤم الكفران، وعدم الشكر، وإلزام الحجّة على عبّاد الأصنام، ومناظرة أهل الضلالة وذكر معاملة الأمم الماضية مع النبيّين، ووعد المنافقين والمصدّقين بالإخلاف والعودة إلى إلزام الحجّة على منكري النبوّة، وتمنّي الكفّار في وقت الوفاة الرجوع إلى الدنيا. ونلاحظ أن هذه القضايا الّتي تعالجها السورة، قد عالجتها السور المكّيّة في صور شتّى، ولكنّها تعرض في كلّ سورة مصحوبة بمؤثّرات منوّعة جديدة على القلب في كل مرّة ومجال عرضها في سورة سبأ يأتي مصحوبا بمؤثرات عدة، ممثّلة في رقعة السماوات والأرض الفسيحة، وفي عالم الغيب المجهول المرهوب، وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة، وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة، وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة، وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة غريبة، وفي كلّ منها مؤثّر موح للقلب البشريّ، موقظ له من الغفلة والضّيق والهمود. فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح العيون على هذا الكون الهائل، وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله، وعلى مجال علمه اللطيف الشامل، الدقيق الهائل. وتستمرّ السورة في مناقشة

فصول السورة

المكذّبين، وإلزامهم بالحجّة، وإيقافهم أمام فطرتهم وأمام منطق قلوبهم، بعيدا عن الغواشي والمؤثّرات المصطنعة «1» . قال تعالى: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) . وهكذا تطوف السورة بالقلب البشريّ في مجالات متنوّعة، وتواجهه بالحقائق والأدلّة والحجج، حتّى تنتهي بمشهد عنيف أخّاذ من مشاهد القيامة. فصول السورة يجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة، يمكن تقسيمها إلى ستة فصول: 1- الألوهيّة وإثبات البعث تحدّثت الآيات التسع الأولى من السّورة، عن عظمة الخالق المالك لما في السماوات والأرض، المحمود في الاخرة وهو الحكيم الخبير، وقررت شمول علمه الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ثمّ تطرّقت للحديث عن إنكار الكافرين لمجيء الساعة، وردّت عليهم بتأكيد إتيانها، لتتمّ إثابة المؤمنين، وعقوبة الكافرين، وليستيقن العلماء المؤمنون، أنّ القرآن حقّ وصدق، وهداية إلى صراط العزيز الحميد ثمّ تحدّثت عن عجب الكفّار من قضيّة البعث واستبعادهم لوقوعه، بعد أن يموتوا ويمزّقوا كلّ ممزّق وأجابت عن ذلك بأنّه لا وجه لاستبعادهم، وهم يرون من كمال قدرة الله ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض وهدّدت المكذّبين بخسف الأرض من تحتهم، أو إسقاط السماء كسفا عليهم. 2- داود وسليمان تتناول الآيات [10- 14] طرفا من قصة داود وسليمان (ع) ، وتذكر نعمة الله عليهما وفضله، فقد أعطي داود (ع) النبوّة، والزّبور والصوت الحسن وإذا سبّح الله سبحت معه الجبال والطير، وألان الله له الحديد، وأوحى إليه أن

_ (1) . انظر في ظلال القرآن، بقلم سيّد قطب 22: 53- 56.

3 - قصة سبأ

يعمل دروعا سابغات للحرب، كما حثّه الله على العمل الصالح، فإنه سبحانه بصير خبير. وقد سخّر الله تعالى لسليمان (ع) الريح ذهابها شهر ورجوعها شهر، تحمل بساطه هو وخاصّته إلى حيث يشاء، وقد ذلّل الله له الجنّ تعمل له أنواع المصنوعات. فلما انقضى أجله مات واقفا متّكئا على عصاه وما دل الجنّ على موته إلا أرضة قرضت عصاه، فسقط، فانطلقوا بعد أن كانوا مسجونين. 3- قصة سبأ ضرب الله مثلا للشاكرين داود وسليمان. وقليل من الناس من يدرك فضل الله عليه، وعظيم نعمائه الّتي لا تعدّ ولا تحصى. ثم ضرب الله مثلا للبطر وجحود النعمة، مملكة سبأ. فلمّا آمنت بلقيس، وكفر من جاء بعدها، وأعرضوا عن شكر الله، أصابهم الدمار. وسبأ اسم لقوم كانوا يسكنون جنوبيّ اليمن، وكانوا في أرض مخصبة لا تزال منها بقيّة إلى اليوم، وقد ارتقوا في سلّم الحضارة، حتّى تحكّموا في مياه الأمطار الغزيرة الّتي تأتيهم من البحر في الجنوب والشرق. فأقاموا خزّانا طبيعيّا يتألّف جانباه من جبلين، وجعلوا على فم الوادي بينهما سدّا به عيون تفتح وتغلق، وخزنوا المياه بكمّيات عظيمة وراء السد، وتحكّموا فيها وفق حاجتهم، فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم، وقد عرف باسم «سدّ مأرب» . وهاتان الجنّتان، عن اليمين والشمال، رمز لذلك الخصب والوفرة والرّخاء والمتاع الجميل. ولكنهم لم يشكروا نعمة الله ولم يذكروا آلاءه، فسلبهم هذا الرخاء، وأرسل السيل الجارف الّذي يحمل العرم في طريقه، وهي الحجارة، لشدّة تدفّقه، فحطم السد وانساحت المياه فطغت وأغرقت ثم لم يعد الماء يخزن بعد ذلك فجفّت الجنّتان واحترقتا، وتبدّلتا، صحراء تتناثر فيها الأشجار البرّيّة الخشنة. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا [الآية 17] بنعمة الله. وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ وقد استغرقت قصة سبأ الآيات [15- 21]

4 - الشرك والتوحيد

4- الشرك والتوحيد يجد المتأمل في الآيات [22- 27] من سورة سبأ ظاهرة متميّزة: فقد تكرّرت لفظة «قل» في أول هذه الآيات، كما تضمّنت عددا من الأسئلة والحقائق بأسلوب رائع جزل. لقد بدأت الآيات تتحدّى المشركين أن يدعوا الّذين يزعمون أنهم آلهة من دون الله، وهم لا يملكون نفعا ولا ضرّا، ولا يملكون شفاعة عند الله، ولو كانوا من الملائكة. فالملائكة يتلقّون أمر الله بالخشوع الراجف، ولا يتحدّثون حتّى يزول منهم الفزع والارتجاف العميق. ويسألهم الله عمّن يرزقهم من السماوات والأرض، والله مالك السماوات والأرض، وهو الّذي يرزقهم بلا شريك ثمّ يفوّض أمر النبي وأمرهم إلى الله، وهو الّذي يفصل فيما هم فيه مختلفون، ويختم هذا الفصل بالتحدّي كما بدأه، في أن يروه الّذين يلحقونهم بالله شركاء. كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) . وهكذا تطوف الآيات بالقلب البشري في مجال الوجود كلّه: حاضره وغيبه، سمائه وأرضه، دنياه وآخرته، وتقف به أمام رزقه وكسبه وحسابه وجزائه ذلك كلّه في فواصل قوية، وضربات متلاحقة، وآيات تبدأ كلّ آية منها بفعل الأمر (قل) ، وكل قولة منها تدمغ بالحجّة، وتصدع بالبرهان في قوة وسلطان. وفي أعقاب هذه الآيات بيان لرسالة الرّسول (ص) ، وأنها عامّة للناس أجمعين: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) . 5- مشاهد القيامة والجزاء يستغرق الفصل الخامس من السورة الآيات [29- 42] ويبدأ بسؤال يوجّهه الكفّار للنبيّ (ص) عن يوم القيامة، استبعادا لوقوعه، والجواب أنّ ميعاده لا يتقدّم ولا يتأخّر، وقد اعتزّ الكفار بالأموال والأولاد، وقالوا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب السابقة له. وهنا يعرض القرآن موقف الظّالمين أمام ربّهم يتحاورون فيراجع بعضهم بعضا كلّ منهم يحاول أن يلقي التّبعة على أخيه، فيقول الضعفاء للسّادة

6 - الدعوة إلى التأمل والتفكر

والكبراء: لقد تصدّيتم لنا بالإغراء، والمكر بنا ليلا ونهارا، حتّى أفسدتم علينا رأينا، وجعلتمونا نكفر بالله، ونجعل له نظراء من الالهة الخياليّة ويحتجّ الكبراء ويقولون أنحن منعناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟ بل كنتم مجرمين إذ أخذتم الكفر عنّا بالتقليد. وعضّ الجميع بنان الندم حينما رأوا العذاب، والأغلال في أعناقهم. ثم نرى المترفين يقاومون كلّ إصلاح، ويكذّبون كلّ رسالة: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) . وقد احتجّ المترفون بكثرة أموالهم وأولادهم، واعتقدوا أنّ فضلهم في الدنيا سيمنعهم من العذاب في الاخرة وهنا يضع القرآن موازين الحق والعدل، ويقرر القيم الحقيقية الّتي يكون عليها الجزاء والحساب، وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد. وفي مشاهد القيامة يتّضح أنه لا الملائكة ولا الجن الّذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، يملكون لهم في الاخرة شيئا. كما توضح الآيات أنّ بسط الرزق وقبضه أمران يجريان وفق إرادة الله سبحانه، وليسا دليلا على رضيّ أو غضب، ولا على قرب أو بعد. إنّما ذلك ابتلاء واختبار. 6- الدعوة الى التأمّل والتفكّر في الآيات الأخيرة من السورة [43- 54] حديث عن عناد الكافرين وجحودهم، من غير برهان ولا دليل، وتنبيه من القرآن بما وقع لأمثالهم وعرض لمصارع الغابرين الّذين أخذهم النّكير في الدنيا، وهم كانوا أقوى منهم، وأعلم وأغنى. ويعقب هذا عدّة إيقاعات عنيفة، كأنّما هي مطارق متوالية يدعوهم في أوّل إيقاع منها إلى أن يقوموا لله متجرّدين، ثمّ يتفكّروا غير متأثّرين بالحواجز الّتي تمنعهم من الهدى ومن النّظر الصحيح. وفي الإيقاع الثاني يدعوهم إلى التفكير في حقيقة البواعث الّتي تجعل الرّسول (ص) يلاحقهم بالدعوة، وليس له من وراء ذلك نفع ولا هو يطلب على ذلك أجرا، فما لهم يتشكّكون في دعوته ويعرضون؟ وتوالت الآيات تبدأ بلفظ (قل) ...

وكلّ منها يهزّ القلب هزّا، فمحمّد (ص) لم يسألهم أجرا بل أجره على الله، ومحمّد (ص) مؤيّد بالحقّ، والحقّ غالب والباطل مغلوب. ثم تلطّف في وعظهم، فذكر سبحانه أنّ محمدا (ص) إن ضلّ فضلاله إنّما يعود عليه وحده، وإن اهتدى فبهدي الله له ثم بيّن سوء حالهم إذا فزعوا يوم القيامة إلى ربّهم، فلا يكون لهم فوت منه ولا مهرب وذكر أنّهم يؤمنون به في ذلك الوقت، فلا ينفعهم إيمانهم وتختم السورة بمشهد هؤلاء الكفّار، وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان في غير موعده، والإفلات من العذاب، والنّجاة من أهوال القيامة، كما فعل أشياعهم من كفرة الأمم الّتي قبلهم، إنهم كانوا في شكّ موقع في الارتياب. وهكذا تختم السورة بمشهد يثبت قضيّة البعث والجزاء، وهي القضيّة الّتي ظهرت خلال السورة، من بدايتها، قال تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"سبأ"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «سبأ» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة سبأ بعد سورة لقمان، ونزلت سورة لقمان بين الإسراء والهجرة، فيكون نزول سورة سبأ في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لورود قصة أهل سبأ فيها. وكانت سبأ مدينة من المدن القديمة في اليمن، وكانت عاصمة دولة قديمة به، وقد خربت عند انهيار سدّ مأرب بسبب سيل العرم، وتبلغ آياتها أربعا وخمسين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إثبات يوم الساعة، وكانوا قد تساءلوا عنه في آخر السورة السابقة سؤال استهزاء: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) [الأحزاب] ، ولهذا ذكرت هذه السورة بعد السورة السابقة، وقد افتتحت بحمد الله تمهيدا لذكر اعتراضاتهم على ذلك اليوم ثمّ دار الكلام فيها على ذكر الاعتراض والجواب عنه، إلى أن ختمت بإثبات عنادهم ومكابرتهم. الاعتراض الأول على يوم القيامة الآيات [1- 6] قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

الاعتراض الثاني على يوم القيامة الآيات [7 - 28]

فذكر سبحانه أنه يجب له الحمد في الدنيا على ما أنعم به علينا في السماوات والأرض، وأنّ حمدنا له في الدنيا نجازي عليه في الاخرة، فيكون له الحمد علينا فيها أيضا. وأخبر بأنّه حكيم خبير عالم رحيم غفور، فلا يصحّ أن يكون خلقه لنا عبثا من غير حكمة. ثم ذكر اعتراضهم الأوّل على يوم القيامة: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ [الآية 3] ، ورد عليهم بتأكيد إتيانها، ليثيب الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات، ويعذّب الّذين سعوا في آياته معاجزين: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) . الاعتراض الثاني على يوم القيامة الآيات [7- 28] ثمّ قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) ، فذكر استبعادهم لإعادتهم بعد أن يموتوا ويمزّقوا كلّ ممزّق، وأجاب عن ذلك بأنه لا وجه لاستبعادهم ذلك وهم يرون من كمال قدرته ما يرون فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، وهو الّذي سخّر الجبال والطير لداود، وسخّر الريح وأسال عين القطر لسليمان، وأرسل سيل العرم على أهل سبأ، فأهلكهم وخرّب ديارهم ثم ذكر عجز آلهتهم ليوازنوا بين هذا العجز وبين كمال قدرته سبحانه وأمر نبيّه بعد هذا، أن يتلطّف في جدالهم بعد ظهور الحقّ لهم، فيذكر لهم أنّه وإيّاهم إمّا على الهدى وإمّا على الضّلال، وأنّهم لا يسألون عن عمله كما لا يسأل عن عملهم، وأنّه لا بدّ من يوم يفصل فيه بينهم، ثمّ ختم ذلك بإثبات صدقه فيما يدعوهم إليه من الإيمان بيوم القيامة وغيره: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) . الاعتراض الثالث والرابع على يوم القيامة الآيات [29- 42] ثمّ قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) فذكر، سبحانه، أنّهم سألوا عن ميعاد يوم

الخاتمة [الآيات 43 - 54]

القيامة استبعادا له، وأجاب بأن له ميعادا لا يتأخّرون عنه ساعة ولا يتقدّمون عنه ثمّ ذكر أنهم قالوا: لن نؤمن بالقرآن ولا بما بين يديه من يوم القيامة، وأجاب بأنّه لا بدّ من وقوفهم أمامه رؤساء ومرؤوسين، فيلقي بعضهم الذنب على بعض، ويقول المرؤوسون لرؤسائهم لولا أنتم لكنّا مؤمنين، ويقول الرؤساء لهم أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟ إلى أن قال: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) . ثم ذكر أنّ هذا كان شأن أهل القرى قبلهم مع أنبيائهم، فكان مترفوها يكافرون بما جاء به الأنبياء عن يوم القيامة وغيره، ويفتخرون بكثرة أموالهم وأولادهم، ويعتقدون أنه لا عذاب يصيبهم في آخرتهم ثم أمره أن يخبرهم بأن الرزق يجري بيد الله، فكم من موسر شقيّ، وكم من معسر تقيّ، ولا تنفع الأموال والأولاد شيئا عند الله، وإنما ينفع عنده العمل الصالح، فيجازى أصحابه الضّعف بما عملوا، ويعاقب من يسعى في آياته معاجزا بعذاب محضر دائم ثمّ أمره أن يعيد إخبارهم بأن الرزق يجري بيده سبحانه، وأنّهم إذا أنفقوا منه في سبيله، فهو يخلفه عليهم ثمّ ذكر بأنّه سيحشر هؤلاء الكفّار جميعا سابقين ولا حقين، ثم يقول أمامهم للملائكة: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) فيتبرّأ الملائكة من عبادتهم، ويذكرون أنّهم كانوا يعبدون الجنّ، أكثرهم بهم مؤمنون: فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) . الخاتمة [الآيات 43- 54] ثمّ قال تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) فذكر أنّ ما سبق لهم في هذه السورة آيات بيّنات لا ينكرونها إلّا عنادا من غير برهان ولا كتاب أنزل عليهم، ولا رسول أرسل إليهم، وقد عاند الّذين من قبلهم ولم يبلغوا معشار ما كان لهم من قوّة ونعمة، فأخذهم الله بعذابه ولم تنفعهم قوّتهم ونعمتهم. ثمّ وعظهم أن

يتفكّروا في أمر النبي (ص) ليعلموا صدق ما ينذرهم به من عذاب يوم القيامة. وذكر من أدلّة صدقه أنّه لا يسألهم على ذلك أجرا، وأنّه يقذف به حقّا واضحا على باطلهم فيدمغه، وأنّه قد جاء به حقّا قويّا لا يبدئ الباطل معه ولا يعيد ثم تلطّف في وعظهم، فذكر سبحانه، حكاية عن الرسول (ص) ، أنّه إن ضلّ الرسول فضلاله إنّما يعود عليه وحده وإن اهتدى، فبهدي الله له ثمّ ختم السورة ببيان سوء حالهم إذا فزعوا يوم القيامة الى ربّهم، فلا يكون لهم فوت منه ولا مهرب وذكر أنّهم يؤمنون به في ذلك الوقت، فلا ينفعهم إيمانهم، لأنهم كانوا يكافرون به من قبل، ويقذفون بالغيب من مكان بعيد: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"سبأ"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «سبأ» «1» أقول: ظهر لي وجه اتّصالها بما قبلها، وهو أن تلك لمّا ختمت بقوله تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الأحزاب: 73] ، افتتحت هذه بأن له ما في السماوات وما في الأرض «2» . وهذا الوصف لائق بذلك الحكم، فإن الملك العامّ، والقدرة التّامّة، يقتضيان ذلك. وخاتمة سورة الأحزاب: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) وفاصلة الآية الثانية من مطلع سبأ: وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وذلك قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ [الآية 1] .

المبحث الرابع مكنونات سورة"سبأ"

المبحث الرابع مكنونات سورة «سبأ» «1» 1- غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ [الآية 12] . قال الحسن: كان يغدو من دمشق، فيقيل بإصطخر «2» ، ويروح من إصطخر فيبيت بكابل «3» أخرجه عبد الرزاق «4» . 2- وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [الآية 12] . قال قتادة: كانت بأرض اليمن. قال السّدّيّ: سيلت له ثلاثة أيام. أخرجهما ابن أبي حاتم. 3- دَابَّةُ الْأَرْضِ [الآية 14] . قال ابن عباس: هي الأرضة. أخرجه ابن أبي حاتم. وفي «العجائب» للكرماني: الأرض: مصدر أرض، أرضت الخشبة فهي مأروضة، والدّابة آرضة، والجمع: أرضة كالكفرة والفجرة «5» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . إصطخر: مدينة في بلاد فارس. «معجم البلدان» 1: 210. (3) . كابل هي عاصمة أفغانستان الآن. (4) . جاءت الرواية في «الدر المنثور» 5: 227 كما يلي، مختلفة عمّا ذكر هنا، ففيه: «أخرج عبد الرّزاق، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن رضي الله عنه، قال: إن سليمان (ع) لمّا شغلته الخيل فاتته صلاة العصر، غضب لله فعقر الخيل- أي ضرب قوائمها بالسيف- فأبدله الله مكانها خيرا منها وأسرع، الريح تجري بأمره كيف يشاء، فكان عدوّها شهرا، ورواحها شهرا. وكان يغدو من إيليا- أي بيت المقدس- فيقيل بقريرا، ويروح بقريرا، فيبيت بكابل» . والأثر أخرجه، كما هو أعلاه، الطّبري في «تفسيره» 22: 48. (5) . انظر «تاج العروس» مادة (أرض) .

4- لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ [الآية 15] . قال سفيان: هي باليمن. أخرجه ابن أبي حاتم. 5- وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [الآية 19] . قال الشّعبي: أمّا غسّان منهم، فلحقوا بالشام: وأمّا الأنصار، فلحقوا بيثرب: وأمّا خزاعة، فلحقوا بتهامة، وأمّا الأزد فلحقوا بعمان. أخرجه ابن أبي حاتم «1» . 6- قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ [الآية 23] . هم الملائكة. 7- قالُوا الْحَقَّ [الآية 23] . أوّل من يقوله جبريل فيتبعونه. كما أخرجه ابن جرير من حديث النّوّاس بن سمعان.

_ (1) . والطّبري: 22: 59. [.....]

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"سبأ"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «سبأ» «1» 1- وقال تعالى: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [الآية 13] . أقول: كان خط المصحف كَالْجَوابِ بالباء المكسورة، وحقّها أن تكون «الجوابي» وهذا القدر الّذي أثبتناه من الآية، يعادل من حيث الوزن بيتا من الرّمل، لو أن وقفة قصيرة على «الجواب» لتفصل الصدر عن العجز، ولو كانت هذه الوقفة لحسن أن تأتي الجوابي بالياء على الأصل، خلافا لخط المصحف. فكأنّ خط المصحف، وعدم وجود الوقف كان اجتنابا لهذا الوزن، الّذي بعدت عنه لغة التنزيل. أقول: لعلّ شيئا من ذلك جعل «الجوابي» «الجواب» !! 2- وقال تعالى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ [الآية 23] . أقول: والتضعيف في قوله تعالى: فُزِّعَ للسّلب، أي أزيل الفزع. والسّلب، كما بيّنا، من المعاني الّتي تستفاد من التّضعيف. 3- وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [الآية 28] . أقول: والمعنى: وما أرسلناك إلّا للناس كافّة ... ومجيء الآية بتقديم كَافَّةً يفسد مذهب أهل التصحيح، الّذين يقولون بخطإ قول المعربين، كافة الناس، ويلزمونهم أن يقولوا: الناس كافة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

4- وقال تعالى: وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها [الآية 44] . لعلّ هذه الآية من أقدم الشواهد على دلالة «الدرس» ، وهي قراءة الكتاب ومعرفتها وحفظها ... 5- وقال تعالى: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الآية 52] . والتَّناوُشُ: التناول، ويقال: ناشه ينوشه وتناوشه. أقول: وقد أميت هذا الفعل وجميع صوره في العربية المعاصرة، ولكننا نجده حيا معروفا بمعناه في العربية الدّارجة، ولا سيّما في العراق.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"سبأ"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «سبأ» «1» في قوله تعالى: يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) . لا إعمال «ينبّئكم» لأنّ (إنّكم) موضع ابتداء لمكان اللام، كما تقول: «أشهد إنّك لظريف» . وقوله تعالى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ [الآية 15] أي على: هذه بلدة طيّبة. وقوله تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [الآية 23] أي: لا يشفع الا لمن أذن له. وقوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ [الآية 21] على البدل، كأنّ السّياق: «ما كان ذلك الابتلاء إلّا لنعلم» . وفي قوله تعالى: قالُوا الْحَقَّ [الآية 23] ، إن شئت نصبت الحقّ، وإن شئت رفعته. وقوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً [الآية 24] فليس هذا لأنّه شكّ، ولكنّ هذا في كلام العرب على أنّه هو المهتدي. وقد يقول الرجل لعبده: «أحدنا ضارب صاحبه» فلا يكون فيه إشكال على السّامع، أنّ المولى هو الضّارب. وقال تعالى: يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ [الآية 31] تقول «قد رجعت إليه القول» . وقال تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الآية 33] أي: هذا مكر اللّيل والنّهار. واللّيل والنّهار لا يمكران

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

بأحد، ولكن يمكر فيهما كقوله تعالى: مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد: 13] وهذا من سعة العربيّة. وقال تعالى: تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [الآية 37] ، وزُلْفى هاهنا اسم المصدر، كأنّه أراد: بالّتي تقرّبكم عندنا إزلافا. وقال تعالى: مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ [الآية 45] أي: عشرة. ولا يقولون هذا في سوى العشر. وقال تعالى: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الآية 8] ، فالألف قطع، لأنّها ألف الاستفهام وكذلك ألف الوصل، إذا دخلت عليها ألف الاستفهام.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"سبأ"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «سبأ» «1» إن قيل: لم قال تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الآية 9] ، ولم يقل: إلى ما فوقهم وما تحتهم من السماء والأرض؟ قلنا: ما بين يدي الإنسان هو كلّ شيء يقع نظره عليه من غير أن يحوّل وجهه إليه، وما خلفه هو كلّ شيء لا يقع نظره عليه حتّى يحوّل وجهه إليه، فكان اللفظ المذكور أتمّ ممّا ذكر. فإن قيل: لماذا لم يذكر سبحانه الأيمان والشمائل هنا، كما ذكرها في قوله تعالى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف: 17] ؟ قلنا: لأنّه وجد هنا ما يغني عن ذكرها، وهو لفظ العموم، وذكر السماء والأرض، ولا كذلك ثمّة. فإن قيل: كيف استجاز سليمان (ع) عمل التماثيل، وهي التصاوير؟ قلنا: قيل إن عمل الصورة لم يكن محرّما في شريعته، ويجوز أن تكون صور غير الحيوان كالأشجار ونحوها، وذلك غير محرّم في شريعتنا أيضا. فإن قيل: لم قال تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ [الآية 15] ولم يقل آيتان جنّتان، وكل جنة كانت آية: أي علامة على توحيد الله تعالى؟ قلنا: لما تماثلتا في الدّلالة واتحدت جهتهما فيها، جعلتا آية

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

واحدة، ونظيره قوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون: 50] . فإن قيل: لم قال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الآية 22] ، أي الّذين زعمتموهم آلهة من دون الله، مع أنّ المشركين ما زعموا غير الله إلها دون الله، بل مع الله على وجه الشّركة؟ قلنا: النّص لا يدل على زعمهم حصر الالهة في غير الله نصّا بل يوهم ذلك، ولو دلّ فنقول: فيه تقديم وتأخير تقديره: ادعوا الّذين من دون الله زعمتم أنهم شركاء لله. فإن قيل: ما معنى التشكيك في قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) ؟ قلنا: قيل إنّ (أو) هنا بمعنى الواو في الموضعين، فيصير المعنى: نحن على الهدى وأنتم في الضلال. وقيل معناه: وإنّا لضالّون أو مهتدون وإنّكم لكذلك، وهو من التعريض بضلالهم كما يقول الرّجل لصاحبه إذا أراد تكذيبه: والله إنّ أحدنا لكاذب، ويعني به صاحبه. فإن قيل: لم قالت الملائكة (ع) في حق المشركين، كما ورد في التنزيل: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [الآية 41] ولم ينقل عن أحد من المشركين أنّه عبد الجن؟ قلنا: معناه كانوا يطيعون الشياطين فيما يأمرونهم به من عبادتنا: أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) : أي أكثر المشركين مصدّقون بالشياطين فيما يخبرونهم به من الكذب، أنّ الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك فالمراد بالجنّ الشياطين.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"سبأ"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «سبأ» «1» قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ [الآية 23] . هذه استعارة، فالمراد بقوله تعالى: فُزِّعَ، أي أزيل الفزع عن قلوبهم. كما تقول: قذّيت عينه: إذا أزلت القذى عنها. وهو كقولهم: رغب عنه: إذا رفعت الرغبة عنه. خلافا لقولهم: رغب فيه: إذا صرفت الرغبة إليه. فالرغبة في أحد الأمرين منقطعة، وفي الاخر منصرفة. وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [الآية 31] . وهذه استعارة. والمراد بها ما تقدّم القرآن من الكتاب، فكأنّها كانت مشيرة إليه، ومصرّفة بين يديه. وقد مضى الكلام على نظائر ذلك فيما تقدّم. وقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً [الآية 33] . وهذه استعارة. والمراد بمكر اللّيل والنّهار: ما يتوقّع من مكرهم في الليل والنهار، فأضاف تعالى المكر إليهما لوقوعه فيهما. وفيه أيضا زيادة فائدة، وهي دلالة الكلام على أنّ مكرهم كان متصلا غير منقطع في الليل والنهار، كما يقول القائل: ما زال بنا سير الليل والنهار حتّى وردنا أرض بني فلان. وهذا دليل على اتّصال سيرهم في الليل والنهار، من غير إغباب، ولا إراحة ركاب. وقوله سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) . وهذه

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

استعارة. والمراد أنّه عليه الصّلاة والسّلام بعث ليقدّم الإنذار أمام وقوع العقاب، إزاحة للعلّة، وقطعا للمعذرة. وقد تقدّمت إشارتنا إلى نظائر هذه الاستعارة في عدّة مواضع من هذا الكتاب. وقوله سبحانه: قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) . وهذه استعارة. لأن الإبداء والإعادة يكونان في القول، ويكونان في الفعل. فأمّا كونهما في الفعل فبقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم: 27] وأمّا كونهما في القول، فإنّ القائل يقول: سكت فلان فلم يعد ولم يبدئ. أيّ لم يتكلم ابتداء ولا أحار جوابا. وهاتان الصّفتان يستحيل أن يوصف بهما الباطل، الّذي هو عرض من الأعراض، إلّا على طريق الاتّساع والمجاز. وإنّما المراد أنّ الحقّ قوي وظهر، والباطل ضعف واستتر، ولم يبق له بقيّة يقوى بها بعد ضعفه، ويجبر بعد وهنه. أي ما تقوم له قائمة في بدء ولا عود. والبدء: الحال الأولى، والعود: الحال الأخرى. وكذلك الإبداء والإعادة. ويجوز أن يكون لذلك وجه آخر، وهو أن يكون المعنى، أنّ الباطل كان عند غلبة الحقّ وظهوره، بمنزلة الواجم الساكت، والحائر الذاهل، الّذي لا قدرة له على الحجاج، ولا قوّة له على الانتصار. كقولهم: «سكت فما أعاد ولا أبدأ» عند وصف الإنسان بالحيرة أو غلبة الفكرة. وقد قيل أيضا في ذلك وجه آخر، يخرج به الكلام عن حيّز الاستعارة، وهو أن يكون المراد أنّ صاحب الباطل لا يبدئ ولا يعيد عند حضور صاحب الحقّ، ضعفا عن حجاجه، وضلالا عن منهاجه. فجعل المضاف هاهنا في موضع المضاف إليه. وذلك كثير في كلامهم. وقوله تعالى: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وهذه استعارة. والمراد بذلك، والله أعلم، أنّهم يقولون ما لا يعلمون، ويظنّون ولا يتحقّقون. فهم بمنزلة الرّامي غرضا بينه وبينه مسافة متباعدة، فلا يكون سهمه أبدا إلّا قاصرا عن الغرض، وعادلا عن السّدد.

سورة فاطر 35

سورة فاطر 35

المبحث الأول أهداف سورة"فاطر"

المبحث الأول أهداف سورة «فاطر» «1» سورة فاطر سورة مكّية نزلت بعد سورة الفرقان، بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء. وإذا قسمنا حياة المسلمين بمكّة إلى ثلاث فترات: الفترة المبكرة للدعوة، والفترة المتوسّطة بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، والفترة الأخيرة بين الإسراء والهجرة إلى المدينة، رأينا أن سورة فاطر نزلت في الفترة المتوسّطة من حياة المسلمين بمكّة. ولسورة فاطر اسمان: الاسم الأول فاطر، والاسم الثاني سورة الملائكة، لقوله تعالى في أول السورة: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) . موضوعات السورة قال الفيروزآبادي: مقصود سورة فاطر هو: «بيان خلق الملائكة، وفتح أبواب الرحمة، وتذكير النعمة، والتحذير من إغراء الشياطين، وتسلية الرسول، وصعود كلمة الشهادة إلى الله، وذكر عجائب البحر، واستخراج الحلية منه، وسير الليل والنهار، وعجز الأصنام عن الرّبوبيّة، وفقر العباد إلى الله، وفضل القرآن وشرف تلاوته، وأصناف الخلق في وراثة القرآن، وخلود الجنّة لأهل الإيمان، وخلود النار لأهل الكفر والطغيان والمنّة على العباد بحفظ السماء والأرض من الخلل والاضطراب ... » .

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

سياق السورة

سياق السورة سورة فاطر لها نسق خاص في موضوعها وسياقها، أقرب ما يكون إلى نسق سورة الرعد. «فهي تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشري من بدئها إلى نهايتها، وهي إيقاعات موحية مؤثّرة تهز القلب هزّا، وتوقظه من غفلته ليتأمّل عظمة هذا الوجود، وروعة هذا الكون، وليتدبّر آيات الله المبثوثة في تضاعيفه، المتناثرة في صفحاته، وليتذكّر آلاء الله ويشعر برحمته ورعايته، وليتصوّر مصارع الغابرين في الأرض ومشاهدهم يوم القيامة، وليخشع ويعنو وهو يواجه بدائع صنع الله، وآثار يده في أطواء الكون، وأغوار النفس وحياة البشر، وأحداث التاريخ. وهو يرى ويلمس في تلك البدائع وهذه الآثار وحدة الحق ووحدة الناموس، ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القادرة. ذلك كله بأسلوب وإيقاع لا يتماسك له قلب يحسّ ويدرك، ويتأثّر تأثّر الأحياء. «والسّورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات، متتالية الإيقاعات يصعب تقسيمها إلى فصول متميّزة الموضوعات فهي كلّها موضوع، كلّها إيقاعات على أوتار القلب البشريّ، تستمدّ من ينابيع الكون والنفس والحياة والتاريخ والبعث، فتأخذ على النفس أقطارها، وتهتف بالقلب من كلّ مطلع إلى الإيمان والخشوع والإذعان. «والسمة البارزة الملحوظة هي تجميع الخيوط كلّها في يد القدرة المبدعة، وإظهار هذه اليد تحرّك الخيوط كلّها وتجمعها، وتقبضها وتبسطها، وتشدّها وترخيها فلا معقّب ولا شريك ولا ظهير.» فقرات السورة رغم أن السّورة كلّها وحدة متماسكة إلّا أنه يمكن تقسيمها إلى خمسة موضوعات: 1- رحمة الله وفضله إذا تأمّلنا الآيات: [1- 8] من سورة فاطر، نجد فيضا من أنعم الله الّتي لا تعدّ ولا تحصى على عباده، فهو خالق السماء والأرض وجاعل الملائكة رسلا يوصلون آثار قدرته وجليل وحيه إلى عباده، ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها [الآية 2] لقد فتح الله رحمته لأنبيائه وأصفيائه، جعل النار

2 - آيات الله في الكون

بردا وسلاما على إبراهيم (ع) ، وأنقذ يوسف (ع) من الجبّ ومن السجن، واستجاب دعاء يونس (ع) في بطن الحوت، وآزر موسى (ع) في طريقه إلى فرعون، وأنزل رحمته بأصحاب الكهف وحفظهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، وشملت رحمة الله محمدا (ص) في الهجرة، وهو طريد: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] . وإذا أمسك الله رحمته عن عبد، فلن ينفعه مال ولا رجال. وإذا استقرّ اليقين في القلب، تنبّه إلى كيد الشّيطان وفنّه فالمؤمن يعلم أن الشيطان عدوّ لنا يزيّن لنا الشّرّ ليوقعنا في المعصية، فمن أطاع الشيطان زيّن له سوء عمله فرآه حسنا، ووقع في الضلال، ومن يضلل الله فما له من هاد. 2- آيات الله في الكون في الآيات [9- 15] نلحظ القدرة الإلهيّة، في نفس الإنسان وفي صفحة الكون، وفي الرياح يسوقها الله، ثمّ تثير السحب فتسوقها يد القدرة مطرا يحيي الأرض بعد موتها، وكذلك البعث والحياة بعد الموت. والله خالق الإنسان وبيده رعايته في مراحل تكوينه، وتخليقه في بطن أمّه، ثمّ رعايته وليدا وناشئا وزوجا، وهو عليم بمن يموت مبكرا، إنّ ذلك على الله يسير. وتمتدّ قدرة الله سبحانه إلى كلّ مظهر من مظاهر الوجود، فتراها في مشهد البحرين المتميّزين أحدهما عذب فرات، والاخر ملح أجاج وفيهما من نعم الله على النّاس ما يقتضي الشكر والعرفان. وفي مشهد الليل والنهار، يتداخلان ويطولان ويقصران، دليل على التقدير والتدبير، وكذلك مشهد الشمس والقمر، مسخّرين بهذا النظام الدقيق. هذه آثار قدرة الله جلّ وعلا، والّذين يدعون من دونه لا يسمعون ولا يستجيبون، ويوم القيامة يتبوّءون من عبادهم الضّلال. ولا يخبر بهذه الحقائق مثل الإله الخبير. 3- الله غني عن عبادتنا في الآيات [15- 26] بيان لحقيقة أساسيّة، هي أن الله جلّ جلاله غنيّ عن عبادتنا، فلا تنفعه طاعتنا، ولا

4 - كتابان إلهيان

تضرّه معصيتنا ولكننا نحن الفقراء المحتاجون إلى رضاه وعنايته، فمن اهتدى بهدى الله سبحانه، فقد اهتدى إلى كلّ خير، ووجد الهداية والسعادة والثقة بالنفس، والأمل في الغد ومن لم يهتد فقد خسر كل شيء. ولو شاء الله أن يذهب النّاس لأهلكهم، وأتى بخلق جديد يعرفون فضله عليهم. ويشير القرآن إلى أن طبيعة الهدى غير طبيعة الضلال، وأنّ الاختلاف بين طبيعتيهما أصل عميق، كأصالة الاختلاف بين العمى والبصر، والظّلمات والنور، والظّلّ والحرور، والموت والحياة وأنّ بين الهدى والبصر والنور والظّلّ والحياة صلة وشبها كما أنّ بين العمى والظلمة والحرور والموت صلة وشبها ثمّ تنتهي الجولة بإشارة إلى مصارع المكذّبين للتنبيه والتحذير. 4- كتابان إلهيان عند قراءة الآيات [27- 38] يتّضح أمامنا أن لله عز وجل كتابين يدلّان عليه، أحدهما كتاب الكون والثاني الكتاب المنزل. والمؤمن يقرأ دلائل القدرة في كتاب الكون: في صحائفه العجيبة الرائعة، المتنوّعة الألوان والأنواع والأجناس، والثمار المتنوّعة الألوان، والجبال الملوّنة الشّعاب، والنّاس والدّواب والأنعام وألوانها المتعددة الكثيرة. هذه اللفتة العجيبة إلى تلك الصحائف الرائعة في كتاب الكون المفتوح. والمؤمن يقرأ في الكتاب المنزل، ويستيقن بما فيه من الحقّ المصدّق لما بين يديه من الكتاب المنزلة، وتوريث هذا الكتاب للأمة المسلمة، ودرجات الوارثين وما ينتظرهم جميعا من نعيم بعد عفو الله وغفرانه للمسيئين، ومشهدهم في دار النعيم ومقابلهم مشهد الكافرين الأليم. وتختم الجولة العجيبة، المديدة، المنوّعة الألوان، بتقرير أنّ ذلك كلّه يكون وفقا لعلم الله، العليم بذات الصّدور. 5- دلائل الإيمان تشتمل الآيات [39- 45] على الفقرة الأخيرة من السّورة، وفيها دلائل يقدّمها القرآن ليحرّك القلوب نحو الإيمان. وتجول الآيات جولات واسعة المدى، تشتمل على إيحاءات شتّى: جولة مع البشريّة في أجيالها

المتعاقبة يخلف بعضها بعضا، «وجولة في الأرض والسّماوات للبحث عن أيّ أثر للشّركاء الّذين يدعونهم من دون الله وجولة في السّماوات والأرض، كذلك لرؤية يد الله القوية تمسك بالسماوات والأرض أن تزولا، وجولة مع هؤلاء المكذّبين بتلك الدلائل والآيات كلها وهم قد عاهدوا الله من قبل: لئن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من إحدى الأمم، ثمّ نقضوا هذا العهد وخالفوه. فلمّا جاءهم نذير ما زادهم إلّا نفورا وجولة في مصارع المكذّبين من قبلهم، وهم يشهدون آثارهم الداثرة، ولا يخشون أن تدور عليهم الدائرة، وأن تمضي فيهم سنّة الله الجارية» «1» . ثمّ الختام الموحي الموقظ للقلب، المبين فضل الله العظيم في إمهال العصاة: فإن تابوا قبل توبتهم، وإن أصرّوا على المعصية عاقبهم وحاسبهم قال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) .

_ (1) . سيّد قطب: في ظلال القرآن 22: 136.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"فاطر"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «فاطر» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة فاطر بعد سورة الفرقان، وقد نزلت سورة الفرقان بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزولها في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 1] فسمّيت باسم فاطر الّذي ابتدئت به بعد ذكر اسم الحمد، ومثل هذا يكفي في تسميتها به، وتبلغ آياتها خمسا وأربعين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إثبات اختصاص الله تعالى بالحمد، ولهذا يدور الكلام فيها على ذكر ما يوجب حمده على الناس، ليفوزوا برضاه وينجوا من عقابه، وقد افتتحت بإثبات اختصاصه تعالى بالحمد، وتبشير المؤمنين الحامدين بفتح أبواب الرحمة لهم فاتّصل أوّلها بما جاء في آخر السورة السابقة من قطع رجاء المشركين في ربهم، لأنّ الضّدّ يدعو إلى ذكر الضّدّ. اختصاص الله تعالى بالحمد الآيات [1- 8] قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) فذكر اختصاصه بالحمد لأنه مبدع السماوات

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

آيات تدل على اختصاصه بالحمد الآيات [9 - 45]

والأرض، وجاعل الملائكة رسلا يوصلون آثار قدرته وصنعه فإذا أرسلهم إلى الناس برحمته فلا معارض له في إرسالها، وإذا أمسكها عنهم فلا مرسل لها من بعده ثمّ أمر الناس أن يذكروا ما رحمهم به من النعم، ليعلموا أنه لا خالق لها غيره، وأنه هو الرازق وحده، فإذا لم يؤمنوا بذلك فسوف يكون إليه جلّ وعلا مرجعهم، ليعاقبهم على كفرهم بما أنعم به عليهم ثم ذكر سبحانه أن ما وعد به من رجوعهم إليه حقّ لا يصحّ أن تغرّهم عنه أسباب دنياهم، أو الشيطان الّذي هو عدوّ لهم، ويزيّن ما يزيّنه لأتباعه ليوقعهم في عذاب ربّهم ثم ذكر استحقاقهم ذلك العذاب، وذكر استحقاق المؤمنين للمغفرة والأجر، وأيّد ذلك بقوله جلّ وعلا: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) . آيات تدل على اختصاصه بالحمد الآيات [9- 45] ثمّ قال تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) فذكر، ممّا يدل على اختصاصه بالحمد، إرساله الرياح بالمطر لإحياء الأرض بعد موتها، وأنّه كما يحيي الأرض بذلك ينشر الموتى من قبورهم، لأنّه المتفرّد وحده بالعزّة والقدرة، وإليه تصعد أعمال الناس فيحاسبهم عليها. ثم ذكر من ذلك خلقه لنا من تراب، وجعله لنا أزواجا وتفرّده بعلم ما تحمل كلّ أنثى وما تضع، وخلقه بحرين أحدهما عذب سائغ شرابه، وثانيهما ملح أجاج، ومن كلّ منهما نأكل لحما طريّا ونستخرج حلية نلبسها. ثمّ ذكر من ذلك، أنّه هو الّذي يولج اللّيل في النّهار ويولج النّهار في اللّيل، ويسخّر الشّمس والقمر كلّ يجرى إلى أجل مسمّى، وأنّ من يكون هذا شأنه يكون هو المتفرّد بالملك والحمد وأمّا الّذين يدعونهم آلهة، فلا يملكون شيئا، لأنّهم جماد لا يسمعون شيئا، فإذا جاء يوم القيامة ظهر ضعفهم وكفروا بشرك من يعبدونهم. ثمّ ذكر لهم أنّهم فقراء إليه وهو سبحانه غنيّ عنهم، وإن يشأ يذهبهم ويأت بخلق غيرهم يعرفون فضله عليهم وأنّ ما

يزرونه من شرك وغيره لا يحمل وزره غيرهم، كما أنّ من تزكّى فإنّما يتزكّى لنفسه، ولا يمكن أن يستويا في ذلك، كما لا يستوي الأعمى والبصير، ولا الظّلّ ولا الحرور ولا الأحياء ولا الأموات ثم ذكر، جلّت قدرته، أنه لا شيء على النبي (ص) من تكذيبهم، وأنّهم إن يكذّبوه في ذلك فقد كذّب الّذين من قبلهم، فأهلكهم بآيات العذاب الّتي أرسلها عليهم. ثمّ ذكر من ذلك إنزاله ماء المطر الّذي أخرج به ثمرات مختلفا ألوانها، وتنويعه الجبال إلى جبال ذات طرائق بيض وحمر، وغير ذلك من ألوانها، وتنويعه الناس والدّوابّ والأنعام إلى أنواع مختلفة الألوان وأنّ ذلك إنّما يعرفه العلماء الّذين يخشونه، ويتلون كتابه فيتدبّرونه ويعملون به ثمّ ذكر فضل هذا الكتاب، وأنّه جاء مصدّقا لما قبله من الكتاب، وأنّه أورثه هذه الأمّة الّتي اصطفاها من عباده، فانقسمت فيه إلى ظالم لنفسه ترجّحت سيّئاته، وإلى مقتصد تساوت حسناته وسيّئاته، وإلى سابق بالخيرات ترجّحت حسناته، وبيّن ما أعدّ لهم من الثواب، وما أعدّ للكافرين من العقاب ثمّ أمر النبيّ (ص) أن يقول لهم: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ [الآية 40] : ليسجّل عجزها عما يزعمونه من شفاعتها لهم، لأنّه، سبحانه، هو الّذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ولا يمكن أن يمسكهما غيره إن زالتا. ثمّ ختمت السورة ببيان أنهم يكافرون بذلك عنادا، لأنّهم كانوا يقسمون مجتهدين إن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من اليهود أو النّصارى الّذين كذّبوا رسلهم. فلمّا جاءهم نذير لم يزدهم إلّا نفورا، فاستكبروا في الأرض، ومكروا مكرا سيّئا، ولا يحيق المكر السّيّئ إلّا بأهله، وتلك سنّته فيمن كذّب قبلهم برسله، لا تتبدّل ولا تتحوّل، فلينظروا كيف كانت عاقبتهم، وقد كانوا أشدّ منهم قوّة، وما كان الله ليعجزه شيء في السماوات والأرض، إنّه كان عليما قديرا: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"فاطر"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «فاطر» » أقول: مناسبة وضعها بعد سبأ: تأخيهما في الافتتاح بالحمد، مع تناسبهما في المقدار. وقال بعضهم: افتتاح سورة فاطر بالحمد مناسب لختام ما قبلها، من قوله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ: 54] . كما قال سبحانه: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) [الأنعام] ، فهو نظير اتصال أوّل الأنعام بفصل القضاء المختتم به المائدة «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . يعني قوله تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الآية 119] . وأمّا أوّل الأنعام، فهو قوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.

المبحث الرابع مكنونات سورة"فاطر"

المبحث الرابع مكنونات سورة «فاطر» «1» 1- وَيَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 14] . أخرج ابن أبي حاتم عن القاسم بن الفضل الحدّاني «2» قال: أرسل الحجّاج الى عكرمة يسأله عن يوم القيامة، أمن الدنيا هو أم من الاخرة؟ فقال: صدر ذلك اليوم من الدنيا وآخره من الاخرة. 2- أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [الآية 37] . فسّر في حديث مرفوع، بالسّتين. أخرجه الطبراني «3» من حديث ابن عبّاس. وله شاهد من حديث أبي هريرة في «الصحيح» «4» . وأخرجه ابن جرير من طريق عن ابن عباس موقوفا. وأخرج من وجه آخر عنه أنه أربعون سنة. 3- وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ [الآية 37] . هو محمّد (ص) «5» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . بضم الحاء وتشديد الدال المهملتين، وفي آخرها نون، نسبة الى حدّان وهم من الأزد، أبو المغيرة البّصري، من رواة الحديث الثقات، رمي بالإرجاء، وتوفي سنة 167 هـ. انظر «الأنساب» للسمعاني 4: 76، 77. (3) . في «المعجم الأوسط» وفيه إبراهيم بن الفضل المخزومي، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7: 97. (4) . البخاري في الرقاق باب: من بلغ ستين سنة، فقد أعذر الله إليه في العمر برقم (6419) عن أبي هريرة، عن النبيّ (ص) قال: «أعذر الله الى امرئ أخّر أجله حتّى بلّغه ستين سنة» . انظر «تفسير الطبري» 22: 93. (5) . انظر «تفسير الطبري» 22: 93. [.....]

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"فاطر"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «فاطر» «1» وقال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الآية 4] . أقول: قال النحاة: كلّ جمع مؤنّث، وهذا يعني أنّ الغالب على معنى الجمع هو التأنيث، إذا استثنينا جمع المذكّر السالم. ويصدق قولهم: إنّ الجمع مؤنث في كثير من الألفاظ المذكّرة الدّالّة على العاقل، مثل كلمة، «رسل» فهي جمع رسول. 2- وقال تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ [الآية 9] . أقول: الميّت بالتشديد «فيعل» ، وقد يخفف فيكون «ميت» ، «فعل» مثل «ضيّق» و «ضيق» . وقد ورد «ميت» بالتخفيف في قوله تعالى: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا [الفرقان: 49] . كما ورد «ضيّق» بالتشديد، في قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام: 125] . 3- وقال تعالى: وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ [الآية 10] . أي: ومكر أولئك يكسد ويفسد. أقول: والبوار كثير استعماله في التجارة، فيقال تجارة بائرة أو بضاعة بائرة، هذا في العربية المعاصرة، ومثله ورد في قوله تعالى: يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ [الآية 29] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

4- وقال تعالى: ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [الآية 13] . أقول: لم يأت «قطميرا» في الآية، لتكون الآية على نمط الفواصل في السورة كلها، ذلك أنّ المعنى: ما يملكون شيئا. إنّ قوله تعالى: ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ أبلغ ممّا لو قيل: «ما يملكون شيئا» ، من قبل أنّ القطمير شيء لا قيمة له البتّة، ولا يلتفت اليه فهو لفافة النّواة. 5- وقال تعالى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [الآية: 27] . أقول: وصف قوله تعالى: جُدَدٌ ب بِيضٌ، ووَ حُمْرٌ ثم قوله تعالى: وَغَرابِيبُ سُودٌ يدلّنا على أن الوصف للجمع لا يكون، ولا يصحّ ب «فعلاء» ، بل يكون ب «فعل» جمع أفعل فعلاء. وعلى هذا، يكون من ذهب إلى خطأ قولنا: صحائف بيضاء على حقّ. 6- وقال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً [الآية 37] . أقول: يَصْطَرِخُونَ، بمعنى: يتصارخون. لم نسمع في غير هذه الآية «افتعل» من الصراخ. 7- وقال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ [الآية 39] . والخلائف جمع خليفة، فأما خلفاء فهي في الأصل جمع خليف، مثل شريف وشرفاء، ولكنّها شاعت في جمع خليفة، لوجود الخليفة مستعملا في العربية أكثر من الخليف. 8- وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [الآية 41] . أقول: كنّا قد أشرنا إلى مثل هذه الآية في احتساب السَّماواتِ مفردا، بإزاء الْأَرْضَ الّتي هي مفرد فرجع الضمير إليهما ضمير الاثنين في قوله سبحانه: أَنْ تَزُولا، وهذا شيء من خصائص لغة القرآن.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"فاطر"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «فاطر» «1» في قوله تعالى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [الآية 1] لم تصرف «ثلاث» و «رباع» على تأويل «الثلاثة» و «الأربعة» . وهذا لا يستعمل إلّا في حال العدد. وقال سبحانه في مكان آخر أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى [سبأ: 46] ، وتقول «ادخلوا أحاد أحاد» كما تقول «ثلاث ثلاث» . وقال الشاعر [من الوافر وهو الشاهد الثاني والستون بعد المائة] . أحمّ الله ذلك من لقاء أحاد أحاد في شهر حلال وقال تعالى: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها [الآية 2] بالتأنيث لذكر (الرحمة) وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ.. بالتذكير لأنّ لفظ (ما) يذكّر. وقوله تعالى: وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [الآية 18] خبر. وقال تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها [الآية 18] فكأنّ المعنى «إن تدع إنسانا لا يحمل من ثقلها شيئا ولو كان الإنسان ذا قربى. في قوله تعالى: وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) يشبه أن تكون (لا) زائدة لأنك لو قلت: «لا يستوي عمرو ولا زيد» في هذا المعنى، لم يكن إلّا أن تكون (لا) زائدة. وقال تعالى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ [الآية 27] و «الجدد» واحدتها

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

«جدّة» و «الجدد» هي ألوان الطرائق الّتي فيها. مثل «الغدّة» وجماعتها «الغدد» ولو كانت جماعة «الجديد» لكانت «الجدد» . وإنّما قرئت مُخْتَلِفاً أَلْوانُها [الآية 27] لأنّ كلّ صفة مقدّمة فهي تجري على الّذي قبلها، إذا كانت من سببه فالثّمرات في موضع نصب. وقال تعالى: وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها [الآية 27] برفع «المختلف» لأنّ الّذي قبلها مرفوع. وقال سبحانه: هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [الآية 31] لأنّ «الحقّ» معرفة. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما [الآية 41] بالتثنية، وقد قال سبحانه: السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فهذه جماعة وأرى، والله أعلم، أنّ السياق جعل السماوات صنفا كالواحد. وقال تعالى: لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ [الآية 42] فجعلها السياق إحدى، لأنها أمّة. وقال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [الآية 45] بإضمار الأرض من غير أن يكون ذكرها، لأنّ هذا الكلام قد كثر حتى عرف معناه تقول: «أخبرك ما على ظهرها أحد أحبّ إليّ منك وما بها أحد آثر عندي منك» . وقال تعالى: وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [الآية 36] وقد قال سبحانه: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) [الإسراء] أي: «لا يخفّف عنهم من العذاب الّذي هو هكذا» .

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"فاطر"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «فاطر» «1» إن قيل: قوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الآية 9] . لم جاء فَتُثِيرُ مضارعا دون ما قبله وما بعده؟ قلنا: هو مضارع وضع موضع الماضي، كما في قوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ [الأحزاب: 37] . فإن قيل ما معنى قوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ [الآية 11] ؟ قلنا: معناه وما يعمّر من أحد، وإنّما سمّاه بما هو صائر إليه. فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [الآية 24] ، وكم من أمة كانت في الفترة بين عيسى (ع) ومحمد (ص) ولم يخل فيها نذير؟ قلنا: إذا كان آثار النّذارة باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس، وحين اندرست آثار نذارة عيسى (ع) بعث محمد عليه الصلاة والسلام. فإن قيل: لم اكتفى سبحانه وتعالى، بذكر النّذير عن البشير في آخر الآية، بعد سبق ذكرهما في أوّلها؟ قلنا: لمّا كانت النّذارة مشفوعة بالبشارة، لا محالة، استغني بذكر أحدهما عن الاخر بعد سبق ذكرهما. فإن قيل: ما الفرق بين النّصب واللّغوب حتّى عطف أحدهما على الاخر؟

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

قلنا: النّصب المشقّة والكلفة، واللّغوب الفتور الحاصل بسبب النّصب فهو نتيجة النّصب، كذا فرّق بينهما الزمخشري رحمه الله. ويردّ على هذا، أن يكون انتفاء الثاني معلوما من انتفاء الأول. فإن قيل ما الحكمة في قوله تعالى رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الآية 37] ، مع أنه قد يفيد أنهم يعملون صالحا آخر غير الصالح الّذي عملوه، وهم ما عملوا صالحا قطّ، بل سيئا؟ قلنا: هم كانوا يحسبون أنّهم على سيرة صالحة، كما قال تعالى: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) [الكهف] فمعناه غير الّذي كنا نحسبه صالحا، فنعمله.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"فاطر"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «فاطر» «1» قوله سبحانه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [الآية 10] هذه استعارة. وليس المراد أنّ هناك على الحقيقة شيئا يوصف بالصّعود، ويرتقي من سفال إلى علوّ. وإنّما المراد أنّ القول الطّيب والعمل الصالح متقبّلان عند الله تعالى، واصلان إليه سبحانه. بمعنى أنهما يبلغان رضاه، وينالان زلفاه. وأنّه تعالى لا يضيّعهما ولا يهمل الجزاء عليهما. وهذا كقول القائل لغيره: قد ترقّى الأمر إلى الأمير. أي بلغه ذلك على وجهه، وعرفه على حقيقته. وليس يريد به الارتقاء الّذي هو الارتفاع، وضده الانخفاض. ووجه آخر: قيل إن معنى ذلك صعود الأقوال والأعمال إلى حيث لا يملك الحكم فيه إلّا الله سبحانه. كما يقال ارتفع أمر القوم إلى القاضي. إذا انتهوا إلى أن يحكم بينهم، ويفصل خصامهم. ووجه آخر: قيل إنّ الله سبحانه لمّا كان موصوفا بالعلوّ على طريق الجلال والعظمة، لا على طريق المدى والمسافة، فكلّ ما يتقرّب به إليه من قول زكيّ، وعمل مرضيّ فالإخبار عنه يقع بلفظ الصعود والارتفاع، على طريق المجاز والاتّساع. وقوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [الآية 18] . وقد مضى نظير هذا الكلام في الأنعام، وفي بني إسرائيل، وتركنا الإشارة إليه

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

هناك لمّا جاءت في هذا الموضع زيادة حققت الكلام بالاستعارة، فاحتجنا إلى العبارة عنها أسوة بنظائرها. فنقول: إنّ قوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل حاملة حمل غيرها يوم القيامة. يقال: وزر، يزر وزرا، إذا حمل. والاسم الوزر. ومن ذلك أخذ اسم الوزير، لأنه حامل الثّقل عن الأمير. والمعنى: ولا يحمل مذنب ذنب غيره، ولا يؤخذ بجرمه وجنايته. والزيادة في هذا الموضوع قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى فشبّه تعالى استغاثة المثقّل من الآثام باستغاثته من الإعياء. لأنّ من عادة من تلك حاله أن يطلب من يشاطره الحمل، ويخفّف عنه الثّقل. فأمّا في ذلك اليوم فلا يهمّ كلّ امرئ إلّا نفسه، ولا يعنيه إلّا أمره، ولا يعين أحد أحدا، ولا يخفّف مدعوّ من داع ثقلا، ولو كان أولى الناس بأمره، وأقربهم التياطا به، وانتياطا «1» بنسبه. وإنّما قال سبحانه: مُثْقَلَةٌ. ولم يقل: «مثقل» . لأنه ردّ ذلك إلى النفس، ولم يردده إلى الشخص. وقوله سبحانه: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [الآية 43] وهذه استعارة. والمراد أن الله سبحانه يعاقب المشركين على مكرهم بالمؤمنين، فكأنما مكروا بأنفسهم، ووجّهوا الضرر إليهم، لا إلى غيرهم، إذ كان المكر عائدا بالوبال عليهم. ومعنى لا يحيق أي لا يحلّ، ولا ينزل، ولا يحيط إلّا بهم. وهذه الألفاظ كلها بمعنى واحد.

_ (1) . انتاط به: أي تعلّق به. ولاحظ هنا الجناس الناقص بين التياط وانتياط وذلك من براعات الشريف الرضي.

سورة يس 36

سورة يس 36

المبحث الأول أهداف سورة"يس"

المبحث الأول أهداف سورة «يس» «1» سورة «يس» سورة مكّية، نزلت في الفترة المتوسّطة من حياة المسلمين في مكّة، أي فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، وآياتها 83 آية نزلت بعد سورة الجن. وللسورة اسمان: سورة «يس» لافتتاحها بها، وسورة «حبيب النجار» لاشتمالها على قصته، فقد جاء في تفسير قوله تعالى: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) أنّ هذا الرجل يسمّى «حبيب النّجّار» . مقصود السورة قال الفيروزآبادي: «معظم مقصود سورة «يس» : تأكيد أمر القرآن والرسالة، وإلزام الحجة على أهل الضلالة، وضرب المثل بأهل قرية أنطاكية، في قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) . وذكر قصة «حبيب النجار» ، الّذي جاء من أقصى المدينة يسعى، وبيان البراهين المختلفة في إحياء الأرض الميتة، وإبداء الليل والنهار، وسير الكواكب ودوران الأفلاك، وجري الجواري المنشئات في البحار، وذلّة الكفار عند الموت، وحيرتهم ساعة البعث، وسعادة المؤمنين المطيعين، وشغلهم في الجنّة، وتميّز المؤمن من الكافر في القيامة، وشهادة الجوارح على أهل المعاصي بمعاصيهم، والمنّة

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

ملامح السورة

على الرسول (ص) بصيانته من الشعر ونظمه، وإقامة البرهان على البعث، ونفاذ أمر الحق في كُنْ فَيَكُونُ (82) ، وكمال ملك ذي الجلال على كل حال» «1» في قوله سبحانه: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) . ملامح السورة لسورة يس وقع خاص في نفوس المسلمين، يردّدون قراءتها في الصباح والمساء، وتقرأ على المريض للشفاء، وعلى المحتضر لتيسير خروج الروح، وعلى المقابر لتنزل الرحمة على الموتى، وقد أخرج ابن حبّان في صحيحه مرفوعا: «من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر الله له» «2» . وتتميز سورة يس بقصر الآيات، وسهولة القراءة، وتتابع المشاهد وتنوّعها، من بدء السورة إلى نهايتها. والموضوعات الرئيسة في السورة، هي موضوعات السورة المكّيّة، وهدفها الأول هو بناء أسس العقيدة، فهي تتعرض لطبيعة الوحي وصدق الرسالة، وتسوق قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، لتحذّر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة، وتعرض هذه العاقبة في القصّة على طريقة القرآن الكريم في استخدام القصص لتدعيم قضاياه وتعود السورة، قبيل نهايتها، إلى الموضوع ذاته، فتوضح أنّ ما يوحى إلى محمد (ص) ، ليس شعرا ولكنّه ذكر وقرآن مبين. كذلك تتعرّض السّورة لقضيّة الألوهيّة والوحدانيّة، فيجيء استنكار الشّرك على لسان الرّجل المؤمن، الّذي جاء من أقصى المدينة ليعلن إيمانه بالمرسلين، وهو يقول كما ورد في التنزيل: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) . والقضيّة الّتي يشتدّ عليها التركيز في مواضع كثيرة من السورة، هي قضية البعث والنشور. وتحكي السورة قصّة

_ (1) . بصائر ذوي التمييز 1: 310 بتصرف. (2) . انظر المصدر نفسه 1: 392.

فصول السورة

أبيّ بن خلف، حين جاء بعظم قد رمّ وبلي وصار ترابا، ثمّ ضغط عليه بيديه، ونفخ فيه فطار في الفضاء، ثمّ قال: «يا محمّد تزعم أنّ ربّك يبعث هذا بعد ما رمّ وبلي وصار ترابا» ، فقال له: النبي (ص) «نعم ويبعثك ويدخلك النار» ، قال تعالى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) . «والقضايا المتعلّقة ببناء العقيدة، تتكرّر في السور المكّية، ولكنّها تعرض كلّ مرّة من زاوية معيّنة، تحت ضوء معيّن، مصحوبة بمؤثّرات تناسب جوّها، وتتناسق مع إيقاعها وصورها. «وهذه المؤثرات منتزعة في هذه السورة من مشاهد القيامة، بصفة خاصة، ومن مشاهد القصة ومواقفها وحوارها، ومن مصارع الغابرين على مدار القرون، ثمّ من المشاهد الكونية الكثيرة، المتفرعة الموحية: مشهد الأرض الميتة تدب فيها الحياة، ومشهد الليل يسلخ منه النهار فإذا هو ظلام، ومشهد الشمس تجري لمستقرّ لها، ومشهد القمر يتدرّج في منازله حتّى يعود كالعرجون القديم، ومشهد الفلك المشحون يحمل ذرّية البشر الأوّلين، ومشهد الأنعام مسخّرة للادميين، ومشهد النطفة وتحوّلها في النهاية إلى إنسان فإذا هو خصيم مبين، ومشهد الشجر الأخضر تكمن فيه النار الّتي يوقدون» «3» . فصول السورة يجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة فصول: 1- رسالة ورسول يستغرق الفصل الأول من السورة الآيات [1- 29] ، ويبدأ بالقسم بالحرفين «يا سين» وبالقرآن الحكيم على صدق رسالة النبي (ص) ، وأنّه على صراط مستقيم، ثم يبيّن أنّ القرآن الكريم منزل من عند الله تعالى، لإنذار العرب الّذين لم ينذر آباؤهم من قبل فوقعوا فيما وقعوا من الغفلة، وحقّ العذاب على أكثرهم بسببها، وقد

_ (3) . في ظلال القرآن 23: 7.

2 - أدلة الايمان

جرت سنّة الله سبحانه ألّا يعذّب قوما إلّا بعد أن يرسل إليهم من ينذرهم، ثمّ وصف حرمانهم من الهداية وإمعانهم في الغواية، كأنّما وضعت أغلال في أعناقهم بلغت إلى أذقانهم، ووضعت سدود بين أيديهم ومن خلفهم فصاروا لا يبصرون وبيّن أنّ الإنذار إنّما ينفع من اتّبع الذكر وخشي الرّحمن بالغيب، فاستعدّ قلبه لاستقبال دلائل الهدى، وموحيات الإيمان. ثم يوجّه النبي (ص) إلى أن يضرب لهم مثلا أصحاب القرية. (قصة أصحاب القرية) ضرب الله جلّ جلاله لأهل مكّة مثلا قصّة أهل أنطاكية بالشام، أرسل سبحانه إليهم رسولين، هما يوحنا وبولس من حواريّي عيسى (ع) ، فكذّبهما أهل القرية، فأرسل الله جلّ وعلا، ثالثا على درجة من الذكاء في توجيه الدّعوة، واستمرّ التّكذيب من الكافرين، وبيان الحجة وأدلّة الإيمان من المرسلين. ثمّ جاء رجل مؤمن يسمى «حبيب النجار» فدعا قومه إلى الإيمان بالرسل، فاتّهموه بأنه مؤمن، فأعلن إيمانه في ظروف حرجة، وتعرّض الرجل للإيذاء والقتل، فحظي بالشهادة والجنّة، وتمنّى لو أنّ قومه يعلمون منزلته الآن عند الله سبحانه. أمّا القرية الظالمة فقد صاح بها الملك صيحة أهلكتها، أفلا يعتبر أهل مكّة بهذه القرية، وبالقرون الّتي هلكت جزاء كفرها؟ وسيجتمع الجميع أمام الله تعالى يوم القيامة، ويتميّز المؤمنون بحسن الثواب، ويحلّ بالكافرين سوء العقاب. 2- أدلة الايمان بعد الحديث في الدرس الأول عن المشركين الّذين واجهوا دعوة الإسلام بالتكذيب، والمثل الّذي ضربه الله لهم في قصة أصحاب القرية المكذّبين، وما انتهى إليه أمرهم من الهلاك، بصيحة الملاك، فإذا هم خامدون تحدثت الآيات [30- 68] عن موقف المكذّبين بكل ملّة ودين، وعرضت صور البشرية الضالّة على مدار القرون، ثم أخذت في استعراض الآيات الكونية، الّتي يمرّون عليها معرضين غافلين، وهي مبثوثة في أنفسهم وفيما حولهم. فالماء الّذي يحيي الأرض بأنواع

3 - وحي لا شعر

الجنان والنخيل والأعناب، واللّيل والنّهار والشّمس والقمر، والنّبات والإنسان، وكلّ ما في الكون قد أبدع بنظام دقيق، فللشّمس مدارها، وللقمر مساره، ولليل وقته، وللنهار أوانه: لا يتأخر كوكب عن موعده، ولا يختلّ نظام، ولا تضطرب حركات الكون: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) . ثمّ تحدّثت الآيات عن عناد المشركين، واستعجالهم العذاب غير مصدّقين: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) . وبمناسبة ذلك يستعرض مشهدا من مشاهد القيامة، يرون فيه مصيرهم الّذي به يستعجلون، كأنّه حاضر تراه العيون. 3- وحي لا شعر يشتمل الدرس الثالث على الآيات الممتدة من الآية 69 الى آخر السّورة. ويكاد هذا الفصل يلخّص موضوعات السورة كلّها، فينفي في أوّله أن ما جاء به محمد (ص) شعر، وينفي عن الرسول (ص) كلّ علاقة بالشّعر أصلا، ثمّ يعرض بعض المشاهد واللّمسات الدالّة على الألوهيّة المنفردة، وينعي عليهم اتّخاذ آلهة من دون الله يبتغون عندهم النصر، وهم الّذين يقومون بحماية تلك الالهة المدّعاة ويتناول قضية البعث والنشور، فيذكّرهم بالنشأة الأولى من نطفة، ليروا أنّ إحياء العظام وهي رميم، كتلك النشأة ولا غرابة، ويذكّرهم بالشجر الأخضر الّذي تكون فيه النار، وهما في الظاهر بعيدان، وبخلق السماوات والأرض، وهذا الخلق شاهد للقدرة على خلق أمثالهم من البشر في الأولى والاخرة وفي ختام السورة نجد برهان القدرة الإلهية والإرادة الربّانيّة، فالله مالك كلّ شيء في الدّنيا والاخرة، وإليه المآب والمرجع قال تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"يس"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «يس» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «يس» بعد سورة «الجنّ» ، وكان نزول سورة الجن في رجوع النبي (ص) من الطائف، وكان قد سافر إليها سنة عشر من بعثته، ليعرض الإسلام على أهلها، فيكون نزول سورة «يس» فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لابتدائها بالقسم بهذين الحرفين اللذين سميت بهما، وتبلغ آياتها ثلاثا وثمانين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السّورة إثبات الرّسالة، وبيان الحاجة إليها، وهي إنذار العرب الّذين لم ينذروا من قبل النبي (ص) ، وقد حقّ عذاب الله عليهم بغفلتهم وفجورهم. ويدور السّياق في هذه السورة على ذكر ما يدلّ على قدرة الله على ذلك من الأمثلة والآيات، وقد ختمت السورة السابقة بإنذارهم بذلك العذاب، وأن الله لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض فجاءت هذه السورة لإثبات قدرة الله تعالى المطلقة، بتلك الأمثلة والآيات. حاجتهم إلى رسول لإنذارهم الآيات [1- 12] قال الله تعالى: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) ،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

إثبات قدرته على عذابهم الآيات [13 - 83]

فأقسم بهذين الحرفين على أن محمّدا (ص) من المرسلين، ثم ذكر الحاجة الى رسالته، وهي إنذار العرب الّذين لم ينذر آباؤهم من قبل، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الغفلة، وحقّ العذاب على أكثرهم بسببها وقد جرت سنّة الله تعالى ألّا يعذّب قوما إلّا بعد أن يرسل إليهم من ينذرهم ثم ذكر سبحانه، أنه بلغ من استحكام غفلتهم، أنهم كانوا كأنّما كانت في أعناقهم أغلال بلغت إلى أذقانهم، فارتفعت بها رؤوسهم وصاروا لا يبصرون الطريق الّذي يخلّصهم منها ثم ذكر أن من وصلت بهم الغفلة إلى هذا الحدّ، وهم الأكثر عددا، لا فائدة في إنذارهم، وإنّما ينذر من كان عنده استعداد لاتّباع الذكر، وخشية من العذاب، وهؤلاء لهم البشرى بمغفرة وأجر كريم: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) . إثبات قدرته على عذابهم الآيات [13- 83] ثم قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) فذكر سبحانه، ممّا يدلّ على قدرته على عذابهم، مثل أصحاب تلك القرية مع رسلهم، وقد فصّله بما فصله به، إلى أن ذكر سبحانه، أنه لم يحتج في عذابهم إلى إنزال جند من السماء عليهم، وإنما كانت صيحة واحدة أخمدتهم، وجعلتهم يستحقّون التحسّر على ما أصابهم، بسبب استهزائهم بمن كان يأتيهم من الرسل، وعدم اتّعاظهم بما يرونه من الأمم الّتي أهلكت قبلهم، وأنّهم إليهم لا يرجعون: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) . ثم ذكر تعالى من ذلك، آية إحياء الأرض بعد موتها، فأخرج منها حبّا وجعل فيها جنات من نخيل وأعناب، إلى غير هذا ممّا ذكره في هذه الآية. ثمّ ذكر سبحانه من ذلك آية سلخ النهار من الليل، وجري الشمس لمستقرّ لها، وتقدير القمر منازل، الى غير هذا ممّا ذكره في هذه الآية. ثم ذكر جلّ جلاله، من ذلك آية حمل ذرّيتهم في الفلك الّتي تجري بهم في البحر، وأنه، جلّ شأنه، إن يشأ يغرقهم، فلا يقدر أحد على إنقاذهم، ولكنّ رحمته سبحانه هي الّتي اقتضت أن يمهلهم الى حين ثم ذكر أنهم مع

هذا، إذا قيل لهم احذروا مثل هذا العذاب، لعلّ الله يرحمكم، ويمنعه عنكم، أعرضوا كما يعرضون عن كل آية تأتيهم، وأنهم إذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله، قالوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه، ثم ذكر سبحانه أنهم يقولون مستهزئين متى هذا الوعد بالعذاب؟ وأجاب عنه بأنهم لا ينظرون إلّا صيحة واحدة وهم يجادلون فيه، فلا يستطيعون توصية ولا رجوعا الى أهلهم ثم ذكر جلّ وعلا أنه بعد صيحة العذاب، تكون صيحة النفخ في الصور، فيبعثون من القبور وفصّل ما يكون بعد البعث من الثّواب والعقاب، إلى أن ذكر أنّ الكافرين ينكرون في ذلك اليوم كفرهم، فيختم على أفواههم، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وأنه لو يشاء سبحانه لطمس على أعينهم، ومسخ على مكانتهم، فأعجزهم عن الحركة كما أعجزهم عن النطق بالختم على أفواههم كما ينكّس من يعمّره في الخلق، فيردّه من القوة إلى الضعف والإعياء ثم ذكر أن ما يوعدون به من ذلك ليس بقول شاعر يلقي القول على عواهنه، وإنّما هو ذكر وقرآن مبين لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) . ثم ذكر من ذلك، أنّه سبحانه خلق لهم أنعاما، وذلّلها لركوبهم وأكلهم، وجعل لهم فيها منافع ومشارب توجب شكره عليهم ولكنّهم يتّخذون من دونه آلهة يزعمون أنها تنصرهم، وتدفع عنهم ما يوعدون به من العذاب، مع أنها لا تستطيع أن تدفع عنهم شيئا إذا جاء يوم عذابهم وتتبرّأ منهم ثم نهى النبي (ص) أن يحزن لكفرهم بقوله تعالى: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) . ثمّ ذكر سبحانه، من ذلك، خلقه الإنسان من نطفة، فإذا هو خصيم مبين وذكر من خصامه أنه يضرب مثلا لإنكار بعثه فيقول كما ورد في التنزيل: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) ، وأمر النبي (ص) أن يجيبه بأن الّذي أنشأها أوّل مرة، قادر على إحيائها وذكر من قدرته تعالى، على ذلك أنّه يجعل من الشجر الأخضر نارا، وأنّه هو الّذي خلق السماوات والأرض، وإذا أراد شيئا قال له: كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"يس"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «يس» «1» أقول: ظهر لي وجه اتّصالها بما قبلها: أنّه لمّا ذكر تعالى في سورة فاطر قوله: وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر: 37] ، وقوله سبحانه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ [فاطر: 42] ، والمراد به محمد (ص) «2» وقد أعرضوا عنه وكذّبوه، فافتتح هذه السّورة بالإقسام على صحة رسالته، وأنّه على صراط مستقيم، لينذر قوما ما أنذر آباؤهم. وهذا وجه بيّن. وفي فاطر: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [الآية 13] . وفي يس وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) . وذلك أبسط وأوضح. وفي فاطر: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ [الآية 12] . وفي يس: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) ، فزاد القصّة بسطا.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . هو قول السّدّيّ وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم. انظر تفسير ابن كثير 6: 542.

المبحث الرابع مكنونات سورة"يس"

المبحث الرابع مكنونات سورة «يس» «1» 1- أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [الآية 13] . قال بريدة «2» : أنطاكية. أخرجه ابن أبي حاتم. 2- إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [الآية 14] . هما: شمعون ويوحنّا. أخرجه ابن أبي حاتم عن شعيب الجبائي، قال: واسم الثالث: بولس «3» . وأخرج عن كعب ووهب: أنّ الثلاثة: صادق، وصدوق، وشلوم. وأخرج ابن سعد عن ابن عبّاس: أنّ الثالث الّذي عزّز به شمعون. 3- وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ [الآية 20] . قال ابن عبّاس: هو حبيب النجّار. أخرجه ابن أبي حاتم من طرق عنه، وعن قتادة، وكعب، ووهب، وغيرهم «4» . وأخرج عن عمر بن الحكم: أنه كان إسكافا. وعن السّدّيّ: أنه كان قصّارا. 4- لِمُسْتَقَرٍّ لَها [الآية 38] . أخرج الأئمّة الخمسة «5» عن أبي ذرّ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . انظر «تفسير الطّبري» 22: 101. [.....] (3) . انظر «الإتقان» 2: 148. (4) . انظر «تفسير الطّبري» 22: 102. (5) . البخاري (4803) في التفسير، وفي التوحيد أيضا، ومسلم في الإيمان (159) ، والتّرمذي (3225) في التفسير، وأبو داود (4002) في الحروف والقراآت، والنّسائي.

قال: سألت النبي (ص) عن قول الله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها. قال: مستقرّها تحت العرش. 5- أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ [الآية 77] . نزلت في العاصي بن وائل، كما أخرجه الحاكم «1» عن ابن عبّاس. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد، وعكرمة، وعروة، والسّدّيّ: في أبيّ بن خلف. وأخرج ابن جرير «2» من طريق العوفي، عن ابن عبّاس: في عبد الله بن أبيّ. وقيل في أميّة بن خلف. حكاه ابن عساكر.

_ (1) . في «المستدرك» 2: 429 وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» وأخرجه أيضا الطّبري في «تفسيره» 23: 30 ط الحلبي. ووقع لفظ «الحاكم» : «ابن أبي حاتم» ، وذكر السّيوطي في «الدّرّ المنثور» 5: 269 أنّ «ابن أبي حاتم» قد أخرجه أيضا، ولكني لا أطمئن الى أن أثبتها أعلاه بجانب «الحاكم» ، إذ ليس ببعيد أن يدمج الروايات ذات المعنى الواحد في روايات أخر والله تعالى أعلم. (2) . 23: 21. وسنده ضعيف، وقال ابن كثير، بعد ما ذكر أثر ابن عباس هذا في «تفسيره» 3: 581: «وهذا منكر، لأن السورة مكّيّة، وعبد الله بن أبيّ بن سلول، إنّما كان في المدينة» .

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"يس"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «يس» «1» 1- وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) . والمقمح: الّذي يرفع رأسه ويغضّ بصره، يقال: قمح البعير فهو قامح إذا روي، فرفع رأسه. ومنه شهرا قماح، سمّيا بذلك، لأنّ الإبل إذا وردت فيهما آذاها برد الماء، فقامحت. أقول: ليقف دارس العربية وقفة طويلة على هذه الأصول البدويّة القديمة، الّتي أحالها المعربون إلى مواد أخرى، تبدو كأنّها قطعت الصلة بأصولها القديمة. 2- وقال تعالى: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) . قرئ: بإدغام التّاء في الصّاد، مع فتح الخاء وكسرها، وإتباع الياء الخاء في الكسر، والأصل: يختصمون، وبها قراءة أيضا. أقول: وقد تعجب أن القراآت المشهورة تبدو أحيانا غريبة، وقد تتجاوز المألوف الشائع الّذي درجت عليه العربيّة، فتأتي أبنية غريبة كهذه الكلمة، في حين يبتعد عن الأصل الشائع. 3- وقال تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

وقرئ: «فكهون» بكسر الكاف وضمّها، مثل حدث وحدث ونطس ونطس وغير ذلك. وقرئ فاكهين وفكهين، بالنصب على الحال. أقول: وقوله تعالى: فاكِهُونَ، وهو اسم فاعل ووصف أخذ من الاسم «فاكهة» ، فهي مادة الاشتقاق وأصله، لشهرتها ومعرفتها، وقد جاء الفعل وما يتبعه منها. 4- وقال تعالى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) . وقوله تعالى: وَامْتازُوا، أي: وانفردوا عن المؤمنين، وكونوا على حدة، وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنّة. أقول: إن الفعل «امتاز» ، من الأفعال المهمّة في العربية المعاصرة، فهو كثير الاستعمال، يقال: امتاز هذا الشيء بجودته عن سائر الأشياء، أي: انفرد. غير أن استعماله يقتصر على الإيجاب، فإذا امتاز الشيء بشيء ما، فذلك الشيء الّذي امتاز به من صفات الحسن والجودة، ولهذا كان «الممتاز» هو الحسن من كلّ شيء، فالبضاعة «الممتازة» هي العالية في نوعها مثلا. ولا يقال في الصّفات السلبية «امتازت» فلا نقول: امتاز الكتاب بسوء تأليفه، بل العكس هو الغالب المستعمل. 5- وقال تعالى: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً [الآية 62] . وقرئ: «جبلّا» ، بضمتين، وضمة وسكون، وضمتين وتشديد، وكسرتين، وكسرة وسكون، مع التشديد. وكلها بمعنى الخلق. وفي قراءة عليّ رضي الله عنه: جيلا واحدا بالياء. 6- وقال تعالى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) . وقرئ: (ركوبتهم) ، وهو ما يركب كالحلوب والحلوبة. وقيل: «الرّكوبة» جمع. وقرئ: (ركوبهم) ، أي: ذو ركوبهم.

أقول: وقد ورد «فعول» للاسم كثيرا في العربيّة، كالوقود والوضوء والغسول والوجور والسّفوف، وغير ذلك. 7- وقال تعالى: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [الآية 77] . والمعنى وإذا هو، أي الإنسان، بعد ما كان نطفة، صار رجلا مميّزا قادرا على الخصام. فالخصيم نعت، يفيد أنّه يعرف الخصام، ويحسنه.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"يس"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «يس» «1» قال تعالى: يس (1) ، يقال معناها يا إنسان، كأنّه سبحانه يعني النبيّ (ص) ، فلذلك قال: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) لأنه يعني النبي (ص) . وقال تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) [الآية 6] أي: قوم لم ينذر آباؤهم، لأنهم كانوا في الفترة. وقرأ بعضهم (ما أنذره آباؤهم فهم غافلون) . فدخول الفاء في هذا المعنى، كأنّه لا يجوز، والله أعلم، وهو على الأوّل أحسن. وقال تعالى: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ [الآية 19] أي: إن ذكّرتم فمعكم طائركم. وقال سبحانه: لَا الشَّمْسُ [الآية 40] بإدخال «لا» لمعنى النفي، ولكن لا ينصب ما بعدها إلّا أن يكون نكرة، فهذا مثل قوله تعالى: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ [الكافرون: 3 و 5] . وقال تعالى: فَمِنْها رَكُوبُهُمْ [الآية 72] أي: «منها ما يركبون» لأنّك تقول: «هذه دابّة ركوب» . و «الرّكوب» : هو فعلهم. وقال تعالى: سَلامٌ قَوْلًا [الآية 58] فانتصب «قولا» على البدل من اللفظ بالفعل، كأنّه قال «أقول قولا» وقرأه ابن مسعود (سلاما) وعيسى «2» وابن

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هو عيسى بن عمر الثّقفي، وقد مرّت ترجمته.

أبي إسحاق «1» كذلك نصباها على خبر المعرفة، على قوله تعالى وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) «2» .

_ (1) . هو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، أحد أوائل النّحاة، وترجم له في أخبار النحويين البصريين 19، ومراتب النحويين 12، ونزهة الألباء 10، وطبقات اللغويين 31، وإنباه الرّواة 3: 104. (2) . القراءة بالنصب، هي في معاني القرآن 2: 380 الى عبد الله وفي المصاحف 69، والطبري 23: 21، والجامع 15: 45 كذلك، وفي البحر 7: 343 الى أبيّ وعبد الله، وعيسى، والغنوي.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"يس"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «يس» «1» إن قيل: لم قال تعالى أولا: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) وقال سبحانه ثانيا: إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) ؟ قلنا: لأن الأوّل ابتداء إخبار، فلم يحتج إلى التّأكيد باللّام، بخلاف الثاني فإنّه جواب بعد الإنكار والتّكذيب، فاحتاج إلى التّأكيد. فإن قيل: لم أضاف الرجل الّذي جاء من أقصى المدينة الفطر إلى نفسه، بقوله كما ورد في التنزيل: فَطَرَنِي [الآية 22] وأضاف البعث إليهم بقوله، كما ذكر القرآن ذلك وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الآية 22] ، مع علمه أنّ الله تعالى فطره وفطرهم، وسوف يبعثه ويبعثهم، فلم لم يقل فطرنا وإليه نرجع، أو فطركم وإليه ترجعون؟ قلنا: لأنّ الخلق والإيجاد نعمة من الله تعالى توجب الشّكر والبعث بعد الموت وعيد وتهديد يوجب الزّجر، فكان إضافته النعمة إلى نفسه أظهر في الشّكر، وإضافته البعث إليهم أبلغ في الزّجر. فإن قيل: لم قال تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [الآية 30] والتحسّر على الله تعالى محال؟ قلنا: هو تحسير للخلق، معناه قولوا يا حسرتنا على أنفسنا، لا تحسّرا من الله تعالى. فإن قيل: لم نفى الله سبحانه وتعالى عن الشمس أن تدرك القمر دون عكسه وهو: ولا القمر ينبغي له أن يدرك الشمس؟

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

قلنا: لأنّ سير القمر أسرع، فإنّه يقطع فلكه في شهر، والشمس لا تقطع فلكها إلّا في سنة، فكانت الشمس جديرة بأن توصف بنفي الإدراك لبطء سيرها، والقمر خليقا بأن يوصف بالسّبق لسرعة سيره هذا سؤال الزّمخشري رحمه الله وجوابه. ويردّ عليه أن سرعة سير القمر يناسب أن ينفى الإدراك عنه، لأنّه إذا قيل لا القمر ينبغي له أن يدرك الشمس مع سرعة سيره، علم بالطريق الأولى أنّ الشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر مع بطء سيرها: فإذا قيل: لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر أمكن أن يقال إنّما لم تدركه لبطء سيرها، فأمّا القمر فيجوز أن يدركها لسرعة سيره. فإن قيل: لم قال الله تعالى وَآيَةٌ لَهُمْ [الآية 41] ، أي لأهل مكّة، أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ (41) أي ذرّيّة أهل مكّة، أو ذرّيّة قوم نوح (ع) فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الآية 41] ، والذّرّية اسم للأولاد، والمحمول في سفينة نوح (ع) آباء أهل مكّة، لا أولادهم؟ قلنا: الذّريّة من أسماء الأضداد تطلق على الآباء والأولاد بدليل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [آل عمران] . وصف جميع المذكورين بكونهم ذرّية وبعضهم آباء وبعضهم أبناء، فمعناه حملنا آباء أهل مكّة، أو حملنا أبناءهم، لأنهم كانوا في ظهور آبائهم المحمولين. فإن قيل: لم قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) يعنون الوعد بالبعث والجزاء، والوعد كان واقعا لا منتظرا؟ قلنا: معناه إنجاز هذا الوعد وصدقه، بحذف المضاف أو بإطلاق اسم الوعد على الموعود، كضرب الأمير ونسيج اليمن. فان قيل: قولهم، كما ورد في التنزيل: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [الآية 52] ، سؤال عن الباعث، فكيف طابقه ما بعده جوابا. قلنا: معناه بعثكم الرّحمن الّذي وعدكم البعث، وأنبأكم به الرّسل، إلا أنه جيء به على هذه الطريقة، تبكيتا لهم وتوبيخا.

فإن قيل: لم قال تعالى في صفة أهل الجنة: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ [الآية 56] والظلّ إنّما يكون حيث تكون الشمس، ولهذا لا يقال لما في الليل ظلّ، والجنّة لا يكون فيها شمس، لقوله تعالى: لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) [الإنسان] ؟ قلنا: ظل أشجار الجنة من نور العرش، لئلّا تبهر أبصار أهل الجنة، فإنه أعظم من نور الشمس، وقيل من نور قناديل العرش. فإن قيل: لم سمّى سبحانه وتعالى، نطق اليد كلاما، ونطق الرجل شهادة، في قوله سبحانه: وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [الآية 65] ؟ قلنا: لأن اليد كانت مباشرة، والرّجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة، وقول الفاعل على نفسه ليس بشهادة، بل إقرار بما فعل. قلت: وفي الجواب نظر. فإن قيل: لم قال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [الآية 69] مع أنه (ص) قد روي عنه ما هو شعر، وهو قوله (ص) : أنا النّبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب وقوله (ص) : هل أنت إلّا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت قلنا: هذا ليس بشعر، لأن الخليل لم يعدّ مشطور الرّجز شعرا، وقوله (ص) «هل أنت إلا إصبع دميت» من مشطور بحر الرجز، كيف وقد روي أنه (ص) قال: «دميت ولقيت» بفتح الياء وسكون التاء، وعلى هذا لا يكون شعرا، وإنّما الرّاوي حرّفه فصار شعرا الثاني أن حدّ الشعر قول موزون مقفّى مقصود به الشعر والقصد منتف فيما روي عنه (ص) ، فكان كما يتّفق وجوده في كلّ كلام منثور من الخطب والرسائل ومحاورات الناس، ولا يعدّه أحد شعرا. فإن قيل: لم قال تعالى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [الآية 71] والله تعالى منزّه عن الجارحة؟ قلنا: هو كناية عن الانفراد بخلق الأنعام، والاستبداد به بغير شريك كما يقال في الحبّ وغيره من أعمال القلب، هذا ممّا عملته يداك ويقال لمن لا يد له يداك أو يديك، وكذا

قوله تعالى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] . فإن قيل: لم سمّى تعالى قوله: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [الآية 78] مثلا، وهو ليس بمثل، وإنّما هو استفهام إنكار؟ قلنا: سمّاه، سبحانه، مثلا، لما دلّ عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل، وهو إنكار الإنسان قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، مع أنّ العقل والنّقل كليهما يشهدان بقدرة الله، جل جلاله، على ذلك.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"يس"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «يس» «1» قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) . وهاتان استعارتان. ومن أوضح الأدلّة على ذلك، أنّ الكلام كلّه في أوصاف القوم المذمومين. وهم في أحوال الدّنيا دون أحوال الاخرة. ألا ترى قوله تعالى بعد ذلك: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) . وإذا كان الكلام محمولا على أحوال الدّنيا دون أحوال الاخرة، وقد علمنا أنّ هؤلاء القوم الّذين ذهب الكلام إليهم، كان النّاس يشاهدونهم غير مقمحين بالأغلال، ولا مضروبا عليهم بالأسداد، علمنا أنّ الكلام خرج مخرج قوله سبحانه: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة: 7] وكأنّ ذلك وصف لما كان عليه الكفّار عند سماع القرآن، من تنكيس الأذقان، وليّ الأعناق، ذهابا عن الرّشد، واستكبار عن الانقياد للحقّ، وضيق صدر بما يرد عليهم من مواقع البيان، وقوارع القرآن. وقد اختلف في معنى الإقماح. فقال قوم: هو غضّ الأبصار واستشهدوا بقول بشر بن أبي «2» خازم في ذكر السفينة:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . البيت في «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ج 15 ص 8 منسوبا إلى بشر، فقط من غير ذكر لأبيه. وفي كتاب «القرطين» لابن مطرّف ج 2 ص 87 لم ينسب لقائله. ولكن مصحّح الكتاب نسبه في الهامش إلى بشر بن أبي حازم بالحاء المهملة كما جاء مثل ذلك في كتاب «الحماسة» لابن الشّجري طبع حيدر أباد ص 5، 304 أما في صفحة 103، 269 فجاء بغير ذلك. والصواب بالحاء المعجمة والزّاي. وله ترجمة في «الشعر والشعراء» لابن قتيبة ص 227، والخزانة ج 2 ص 261- 264، ومختارات ابن الشجري ج 2 ص 19- 33، والمفضّليّات بتحقيق الأستاذين أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون.

ونحن على جوانبها قعود نغضّ الطّرف كالإبل القماح وقال قوم: المقمح: الرافع رأسه متعمّدا. فكأنّ هؤلاء المذمومين شبّهوا على المبالغة في وصف تكارههم للإيمان، وتضايق صدورهم لسماع القرآن، بقوم عوقبوا فجذبت أذقانهم بالأغلال إلى صدورهم مضمومة إليها أيمانهم، ثمّ رفعت رؤوسهم، ليكون ذلك أشدّ لإيلامهم، وأبلغ في عذابهم. وقيل: إنّ المقمح الغاضّ بصره بعد رفع رأسه، فكأنّه جامع بين الصّفتين جميعا. وقيل: إنّ قوله تعالى: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ يعني به أيمانهم المجموعة بالأغلال إلى أعناقهم، فاكتفي بذكر الأعناق من الأيمان، لأن الأغلال تجمع بين الأيمان والأعناق. وكذلك معنى السّدّ المجعول بين أيديهم ومن خلفهم، إنّما هو تشبيه بمن قصر خطوه وأخذت عليه طرقه. ولما كان ما يصيبهم من هذه المشاقّ المذكورة والأحوال المذمومة، إنّما هو عقيب تلاوة القرآن عليهم، ونفث قوارعه في أسماعهم، حسن أن يضيف سبحانه ذلك إلى نفسه، فيقول: إنّا جعلناهم على تلك الصفات. وقد قرئ «سدّا» بالفتح، و «سدّا» بالضم. وقيل إن السّدّ بالفتح ما يصنعه الناس، والسّدّ بالضمّ ما يصنعه الله تعالى. وقال بعضهم: المراد بذكر السّدّ هاهنا: الإخبار عن خذلان الله سبحانه إيّاهم، وتركه نصرهم ومعونتهم، كما تقول العرب في صفة الضّالّ المتحيّر: فلان لا ينفذ في طريق يسلكه، ولا يعلم أمامه أم وراءه خير له. وعلى ذلك قول الشاعر: فأصبح لا يدري وإن كان حازما أقدّامه خير له أم وراءه وأمّا قوله سبحانه: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [الآية 9] ، فهو أيضا في معنى الختم والطّبع، وواقع على الوجه الّذي يقعان عليه. وقد تقدّم إيماؤنا إليه.

وقوله سبحانه: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) . وهذه استعارة. والمراد نخرج منه النّهار، ونستقصي تخليص أجزائه، حتّى لا يبقى من ضوء النهار شيء مع ظلمة الليل، فإذا النّاس قد دخلوا في الظلام. وهذا معنى قوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ كما يقال: أفجروا، إذا دخلوا في الفجر، وأنجدوا، وأتهموا، إذا دخلوا نجدا وتهامة. والسّلخ: إخراج الشيء ممّا لابسه، والتحم به. فكلّ واحد من اللّيل والنّهار، متّصل بصاحبه اتّصال الملابس بأبدانها، والجلود بحيوانها. ففي تخليص أحدهما من الاخر، حتّى لا يبقى معه منه طرف، ولا عليه منه أثر، آية باهرة، ودلالة ظاهرة. فسبحان الله ربّ العالمين. وقوله سبحانه في ذكر البعث: قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) وهذه استعارة. لأن المرقد هاهنا عبارة عن الممات، فشبّهوا حال موتهم بحال نومهم، لأنها أشبه الأشياء بها. وكذلك قوة شبه حال الاستيقاظ بحال الأحياء والإنشار، وعلى ذلك قوله (ص) : «إنّكم تموتون كما تنامون، وتبعثون كما تستيقظون» «1» . وقال بعضهم: الاستعارة هاهنا أبلغ من الحقيقة. لأنّ النوم أكثر من الموت، والاستيقاظ أكثر من الإحياء بعد الموت. لأن الإنسان الواحد يتكرّر عليه النوم واليقظة مرات، وليس كذلك حال الموت والحياة. وقوله سبحانه: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) . وهذه استعارة. والمراد بالطّمس هاهنا: إذهاب نور الأبصار حتّى يبطل إدراكها، تشبيها بطمس حروف الكتاب، حتّى تشكل قراءتها. وفيه أيضا زيادة معنى، لأنه يدلّ على محو آثار عيونهم، مع إذهاب أبصارها، وكسف أنوارها. وقيل معنى الطّمس إلحام الشّقوق الّتي بين الأجفان حتّى تكون مبهمة، لا شقّ فيها، ولا

_ (1) . هذا الحديث من خطبة له (ص) ، وهي أوّل خطبة بمكّة حينما دعا قومه إلى الإسلام. وهي في كتاب «جمهرة خطب العرب» ج 1 ص 51. وقد نقلها عن «السيرة الحلبية» ج 1 ص 272، وعن «الكامل» لابن الأثير ج 2 ص 27. [.....]

شفر لها. يقولون: أعمى مطموس وطميس، إذا كان كذلك. وقوله سبحانه: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وقرئ: ننكسه بالتخفيف، وهذه استعارة. والمراد، والله أعلم، أنّا نعيد الشّيخ الكبير، إلى حال الطّفل الصّغير، في الضّعف بعد القوّة، والتّثاقل بعد النّهضة، والأخلاق «1» بعد الجدّة. تشبيها بمن انتكس على رأسه، فصار أعلاه سفلا، وأسفله علوا. وقوله سبحانه: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) وهذه استعارة. والمراد بالحيّ هاهنا: الغافل الّذي يستيقظ إذا أوقظ، ويتّعظ إذا وعظ. فسمّى سبحانه المؤمن الّذي ينتفع بالإنذار حيّا لنجاته، وسمّى الكافر الّذي لا يصغي إلى الزّواجر ميتا لهلكه. وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وهذه استعارة. والمراد بذكر الأيدي هاهنا، قسمان من أقسام اليد في اللغة العربية. إمّا أن تكون بمعنى القوّة، وبمعنى تحقيق الإضافة. فكأنّه سبحانه قال: أولم يروا أنّا خلقنا لهم أنعاما، اخترعناها بقوّة تقديرنا، ومتقن تدبيرنا. أو يكون المعنى أنّ هذه الأنعام، ممّا تولّينا خلقه، من غير أن يشاركنا فيه أحد من المخلوقين لأنّ المخلوقين قد يعملون سفائن البحر، ولا يعملون سفائن البرّ، الّتي هي الأنعام المذلّلة ظهورها، والمحلّلة لحومها. فهذا وجه فائدة الإضافة في قوله تعالى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا والله أعلم.

_ (1) . الأخلاق: كون الشيء خلقا باليا بعد جدّته.

سورة الصافات 37

سورة الصّافات 37

المبحث الأول أهداف سورة"الصافات"

المبحث الأول أهداف سورة «الصافات» «1» سورة «الصّافات» سورة مكّية، وآياتها [182] آية. نزلت بعد سورة «الأنعام» في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكّة، فقد نزلت بعد الإسراء وقبيل الهجرة إلى المدينة. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لابتدائها بالقسم بالصّافات. والمراد بها الملائكة الّتي تقف صفوفا للعبادة، أو تصفّ أجنحتها في الهواء امتثالا للطّاعة، وانتظارا لوصول أمر الله إليها. مقصود السورة قال الفيروزآبادي: معظم ما تقصد إليه السورة هو: الإخبار عن صفّ الملائكة والمصلّين للعبادة، ودلائل الوحدانيّة، ورجم الشياطين، وذلّ الظّالمين، وعزّ المطيعين في الجنان، وقهر المجرمين في النّيران، ومعجزة نوح وحديث إبراهيم وفداء إسماعيل في جزاء الانقياد، وبشارة إبراهيم بإسحاق، والمنة على موسى وهارون بإيتاء الكتاب، وحكاية الناس في حال الدّعوة، وهلاك قوم لوط، وحبس يونس في بطن الحوت، وبيان فساد عقيدة المشركين في إثبات النسبة، ودرجات الملائكة في مقام العبادة، وما منح الله الأنبياء من النصر والتأييد، وتنزيه حضرة الجلال عن الأنداد والأضداد في قوله سبحانه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) .

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

سياق السورة

سياق السورة تميّزت سورة «الصافات» بقصر الآيات، وسرعة الإيقاع، وكثرة المشاهد والمواقف، وتنوّع الصور والمؤثّرات. وهي تستهدف، كسائر السور المكّيّة، بناء العقيدة في النفوس، وتخليصها من شوائب الشّرك في كلّ صوره وأشكاله، ولكنّها بصفة خاصّة تعالج صورة معيّنة من صور الشّرك، الّتي كانت سائدة في البيئة العربيّة الأولى، وتقف أمام هذه الصورة طويلا، وتكشف عن زيفها وبطلانها بوسائل شتّى. تلك هي الصورة الّتي كانت جاهليّة العرب تستسيغها، وهي تزعم أنّ هناك قرابة بين الله سبحانه والجنّ وتستطرد في تلك الأسطورة فتزعم أنّه من التّزاوج بين الله، سبحانه، والجن، ولدت الملائكة. ثمّ تزعم أنّ الملائكة إناث، وأنهنّ بنات الله! هذه الأسطورة تتعرض لحملة قويّة في هذه السّورة، تكشف عن تفاهتها وسخفها، ونظرا لأنّها هي الموضوع البارز الّذي تعالجه السّورة، فإنها تبدأ بالإشارة إلى طوائف من الملائكة: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) . ويتلوها حديث عن الشّياطين المردة، وتعرّضهم للرّجم بالشّهب الثاقبة، كي لا يقربوا من الملأ الأعلى، ولا يتسمّعوا لما يدور فيه، ولو كانوا حيث تزعم لهم أساطير الجاهلية ما طوردوا هذه المطاردة. وبمناسبة ضلال الكافرين وتكذيبهم، تعرض السورة سلسلة من قصص الرّسل: نوح وإبراهيم وابنه، وموسى وهارون، وإلياس ولوط ويونس صلوات الله عليهم جميعا، تتكشّف فيها رحمة الله ونصره لرسله، وأخذه للمكذّبين بالعذاب والتنكيل. ويمكننا أن نقسم سورة الصّافّات إلى ثلاثة موضوعات رئيسة: 1- وصف الملائكة ومشاهد الاخرة يستغرق الموضوع الأوّل من السورة الآيات [1- 70] . ويتضمّن افتتاح السّورة بالقسم بتلك الطوائف من الملائكة:

2 - قصص الأنبياء

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) ، على وحدانية الله ربّ المشارق والمغارب، مزيّن السّماء بالكواكب، ثمّ تجيء مسألة الشّياطين، وتسمّعهم للملأ الأعلى، ورجمهم بالشّهب الثاقبة، يتلوها سؤال لهم: أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا [الآية 11] ، من الملائكة والكواكب والشّياطين والشّهب؟، للتوصّل من هذا إلى تسفيه ما كانوا يقولونه عن البعث، وإثبات ما كانوا يستبعدونه ويستهزءون بوقوعه ومن ثم يعرض ذلك المشهد المطوّل للبعث والحساب والنعيم والعذاب، وهو مشهد فريد، حافل بالصورة والحركة، والمقابلة بينه وبين منازل الأبرار، وآلام الفجار. 2- قصص الأنبياء تتعرّض الآيات [71- 148] لبيان أن هؤلاء الضالين لهم نظائر في السّابقين، الّذين جاءتهم النّذر فكان أكثرهم من الضالّين، ويستطرد السّياق في قصص أولئك المنذرين، من قوم نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ولوط ويونس (ع) ، وكيف كانت عاقبة المنذرين وعاقبة المؤمنين. ومن الظواهر المؤثّرة في هذا القصص، تجرّد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لربهم جلّ وعلا، وإخلاصهم له، فيونس (ع) يسبّح بحمد ربه ويناجيه في بطن الحوت، وإبراهيم (ع) يطيع الله ويستسلم لأمره، في قصة الذبح والفداء ونشاهد من الذابح والذبيح التجرّد والامتثال لأمر الله تعالى، في أعمق صورة، وأروعها، وأرفعها. وقد كانت الإشارة إلى قصص الأنبياء لمحات سريعة في آيات قصيرة، تحتوي على عبرة القصة، والتذكير بمضمونها. 3- أسطورة تعقبها الحقيقة تناولت الآيات الممتدّة من 149 إلى الآية 182، حيث آخر السورة، الحديث عن الأسطورة الكاذبة، أسطورة نسبة الجنّ والملائكة إلى الله سبحانه، ثمّ فنّدت هذه الأسطورة، ونزّهت الله سبحانه عنها، وبيّنت أنّ الملائكة خلق من خلق الله، ملتزم بطاعته. وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) .

وقرّرت الآيات وعد الله لرسله بالظفر والغلبة: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) . وتنتهي السورة بتنزيه الله سبحانه، والتسليم على رسله عليهم الصلاة والسلام، والاعتراف بربوبيّته وهي القضايا الّتي تناولتها السورة في الصميم. سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الصافات"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الصافات» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «الصافّات» بعد سورة «الأنعام» ، وقد نزلت سورة الأنعام بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الصافّات» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لابتدائها بالقسم به، والمراد به الملائكة الّتي تقف صفوفا للعبادة، أو تصفّ أجنحتها في الهواء، منتظرة وصول أمر الله إليها وتبلغ آيات هذه السورة اثنتين وثمانين ومائة آية. الغرض منها وترتيبها يقصد من هذه السورة إبطال الشرك، وقد كانوا يعبدون الملائكة ويزعمون أنّها بنات الله، ويتّخذون من الشّياطين قرناء يطيعونهم، ويزعمون أنّ بينهم وبين الله نسبا، وأنّهم يصعدون إلى السماء فيطّلعون على أسرارها ويخبرونهم بها، فابتدأت السّورة بإثبات وحدانيته تعالى، وأشارت إلى أن الملائكة عباد مسخّرون للعبادة وحراسة السماء من الشياطين وذكر السّياق أنّ الشياطين عباد مدحورون لا يعرفون شيئا من أخبار السماء، وأنّ الله تعالى أمر النبيّ (ص) أن يستفتيهم فيما يكون من أمرهم، وهم أضعف منهم خلقا، لينذرهم بقدرته على بعثهم وحسابهم مع شياطينهم وآلهتهم، وبما قصّ عليهم من أخبار الماضين ليكون فيها

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

إبطال الشرك الآيات [1 - 10]

عبرة لهم ثم أمره جلّ جلاله أن يستفتيهم ثانيا في صحّة ما زعموه من أن الملائكة بنات الله، ومن أنّ بينه وبين الجنّة نسبا وبهذا يدور السياق في هذه السورة على هذا الترتيب، وقد ختمت السّورة السابقة بالاستدلال بخلق السماوات والأرض على قدرته سبحانه على بعثهم وقد جاء في أوّل هذه السّورة أنهم أضعف من غيرهم خلقا، فيكون بعثهم أهون عليه جلّ وعلا من غيرهم، وهذا هو وجه ذكر هذه السّورة بعد سابقتها، إلى ما بينهما من الشّبه في الإنذار بعذاب الله تعالى. إبطال الشرك الآيات [1- 10] قال الله تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) فأقسم بالملائكة الّتي تصطفّ لعبادته، وتزجر الشياطين عن معرفة أسرار سمائه على وحدانيّته وأشار بهذا إلى عبوديّتها له عزّ وجل ثمّ وصف نفسه بما يدل على تفرّده بالألوهية، فذكر سبحانه، أنّه ربّ السماوات والأرض، وأنه زيّن السماء الدنيا بالكواكب، وحفظها من الشّياطين الّتي يزعمون أنّها تصعد إليها، فتعرف أسرارها وتلقيها إليهم، فهم يدحرون عنها كلّما اقتربوا منها، ولهم عذاب يترقّبهم دائما كلّما حاولوا ذلك: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) . أخذ المشركين بالترهيب والترغيب الآيات [11- 148] ثمّ قال تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) فأمر النبي (ص) أن يستفتيهم في أمرهم، وقد سخّر لعبادته وطرد من رحمته من هو أشدّ منهم خلقا، ومن اتّخذوهم قرناء وآلهة، فلا يعجزه أن يبعثهم ويحشرهم مع قرنائهم وآلهتهم ثم ذكر جلّ وعلا أنهم عند بعثهم لا يتناصرون كما يزعمون، بل يلقي بعضهم التّبعة على بعض، ويشتركون في العذاب جميعا ثمّ ذكر ما أعدّه للمؤمنين بعد ذكر عذابهم، وذكر ما كان من عصيانهم لقرنائهم حينما كانوا يغوونهم بالكفر وإنكار البعث والجزاء، ووازن بين ما أعدّه للفريقين، إلى أن ذكر أن السبب في ضلال المشركين أنهم ألفوا آباءهم

إبطال نبوة الملائكة والجن الآيات [149 - 182]

ضالّين: فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) . ثمّ أخذ السّياق في ذكر حال من يقلّدونهم ليعتبروا بما حصل لهم، ويوازنوا بين من كفر ومن آمن منهم فذكر أخبار نوح وقومه، وأنّ الله تعالى ناداه فأجابه هو ومن آمن معه، فنجّاهم وجعل ذرّيّتهم هم الباقين، وترك على نوح سلاما في العالمين، وأغرق من كفر به فبادوا وذهبت آثارهم ثمّ ذكر السّياق أخبار إبراهيم وقومه، وأنّه جلّ وعلا رفع شأنه على من كفر به منهم، ورزقه ذرّية صالحة مباركة، وترك عليه سلاما باقيا في الآخرين ثم ذكر السّياق أخبار موسى وهارون، وأنّه جلّ وعلا نجّاهما وقومهما من ظلم فرعون، وترك عليهما سلاما باقيا في الآخرين ثم ذكر السّياق أخبار إلياس وقومه، وأنّ إلياس دعاهم إلى عبادة ربّهم وترك عبادة صنمهم بعل، فكذّبوه فاستحقّوا العذاب إلّا من آمن منهم، فإنّ الله سبحانه نجّاهم وترك عليهم سلاما في الآخرين ثم ذكر السّياق أخبار لوط وقومه، وأخبار يونس وقومه وذكر في يونس أنّ الله سبحانه أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون: فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) . إبطال نبوة الملائكة والجن الآيات [149- 182] ثم قال تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) فأنكر عليهم أن يكون له بنات من الملائكة، وهم إنّما يرضون البنين لأنفسهم ويكرهون البنات وذكر جلّ وعلا أنهم لم يشهدوا خلق الملائكة إناثا حتّى يصحّ لهم أن يذهبوا إليه، وإنّما هو إفك لا دليل لهم عليه، ثمّ ذكر أنهم جعلوا بينه وبين الجنّة نسبا، وهم المجوس من العرب والفرس، وكانوا يقولون بإلهين، إله للخير، وإله للشّرّ، وأنّ إله الخير هو الله، وإله الشّرّ هو إبليس ثم ردّ عليهم بأنّ الجنّة يعلمون أنهم عباد محضرون للعذاب، ونزّه نفسه سبحانه عمّا يصفونه به من النّسب بينه وبين الجنّة، وبيّن بطلان جعلهم الجن آلهة وذكر سبحانه أنهم يعجزون عن إغواء المخلصين من عباده، ولا يغوون إلا من سبق في علم الله أن يكون من أهل الجحيم ومن يكن هذا شأنه لا يكون إلها ثم ذكر سبحانه تفرّده بعلوّ الشأن فقال: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) .

ثم ختمت السّورة بتوبيخهم على شركهم، مع أنّهم كانوا يقولون لو أنّ عندنا كتابا منزّلا مثل الكتاب المنزّلة على الأوّلين لأخلصنا العبادة لله ثم ذكر السياق تهديده سبحانه الكفّار على كفرهم بعد أن أجيبوا إلى قولهم وذكر أنه جلّ شأنه كتب النصر لرسله وأتباعهم، وأمر النبي (ص) أن يعرض عنهم إلى أن يحين عذابهم، فسوف يبصرون منه ما يبصرون: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الصافات"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الصافات» «1» أقول: هذه السورة بعد «يس» ك «الأعراف» بعد «الأنعام» ، وك «الشعراء» بعد «الفرقان» ، في تفصيل أحوال القرون المشار إلى إهلاكهم، كما أنّ تينك السّورتين تفصيل لمثل ذلك، كما تقدّم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الصافات"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الصافات» «1» 1- وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) .. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود: أنّ المراد بالثلاثة الملائكة «2» . 2- قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) . قال السّدّيّ: هما شريكان في بني إسرائيل: أحدهما مؤمن، والاخر كافر. أخرجه ابن أبي حاتم. وفي «العجائب» للكرماني: أنّهما يهوذا، وفطروس. 3- فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) . إلى آخر القصة: فيه قولان شهيران: إسماعيل أو إسحاق، وقد أفردت في ذلك تأليفا ضمّنته حجج كلّ من القولين «3» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . ورواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، وهو ضعيف. قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7: 98. (3) . الّذي عليه علماء السلف أنّ الذبيح هو إسماعيل ويكفي دليلا أنّ الله سبحانه وتعالى بعد أن أنهى قصة الذبيح قال: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ [الآية 112] ، فهذا يدلّ على أن إسحاق هو غير الّذي انتهت قصته لتوّها، وقد أشار ابن كثير إلى هذا في «تفسيره» 4: 14. وفي «زاد المعاد» لابن قيّم الجوزيّة 1: 71: «وأما القول بأنّه إسحاق فباطل، بأكثر من عشرين وجها، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة قدس الله روحه، يقول: هذا القول إنما هو متلقّى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنصّ كتابهم، فإنّ فيه: إنّ الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفي لفظ: وحيده، ولا يشكّ أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده: والّذي غرّ أصحاب هذا القول أنّ في التوراة الّتي بأيديهم: اذبح ابنك إسحاق قال [أي ابن تيمية] : وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم» . ثمّ قال أيضا: «وكيف يسوّغ أن يقال: «إن الذبيح إسحاق، والله تعالى قد بشّر أمّ إسحاق به وبابنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة: إنّهم قالوا لإبراهيم لمّا أتوه بالبشرى: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) [هود] ، فمحال أن يبشّرها بأنه يكون لها ولد، ثمّ يأمر بذبحه، ولا ريب في أن يعقوب (ع) داخل في البشارة، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللّفظ الواحد، وهذا ظاهر الكلام وسياقه» . وأما مصنّف السّيوطي الّذي أورد فيه حجج كلّ من القولين، فهو: «القول الفصيح في تعيين الذبيح» ، وقد ضمّنه في كتابه «الحاوي للفتاوي» 1: 318، 322 وقال فيه بعد أن أورد حجج كلّ من القولين: «وكنت ملت إليه- يقصد أنّه مال إلى القول بأنّ الذبيح هو إسحاق- في علم التفسير، وأنا الآن متوقّف في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم» . انظر للوقوف على مزيد من التحقيق في هذه المسألة، إضافة للمراجع المذكورة أعلاه: «كشف الخفاء» للعجلوني في حديث رقم (606) ، و «جنى الجنتين في تمييز نوع المثنيين» للمحبيّ ص 50.

بِذِبْحٍ [الآية 107] . هو الكبش الّذي قرّبه ابن آدم فتقبّل منه. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. وأخرج عن الحسن: أن اسمه حرير. إِلْ ياسِينَ (130) . هو محمّد (ص) ، وآله: أقاربه المؤمنون من بني هاشم والمطّلب. وقيل: كلّ مؤمن تقيّ. وقيل: «ياسين» اسم كتاب من كتب الله. حكاه الكرماني في «عجائبه» . 4- فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ [الآية 142] . قال قتادة: يقال له لخم. أخرجه ابن أبي حاتم. 5- فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ [الآية 145] . قال جعفر: بشاطئ دجلة. أخرجه ابن أبي حاتم. وقيل: بأرض اليمن. حكاه ابن كثير. 6- إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) . في حديث مرفوع: يَزِيدُونَ (147) : عشرين ألفا «1» . أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبيّ بن كعب. وأخرج عن ابن عبّاس: ثلاثين ألفا. وفي رواية: أربعين ألفا «2» .

_ (1) . والتّرمذي في «سننه» رقم (3227) في التفسير، وقال: هذا حديث غريب، والطّبري في «تفسيره» 22: 67. (2) . انظر «تفسير الطّبري» 22: 66.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الصافات"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الصافات» «1» 1- وقال تعالى: وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) . والاستسخار: المبالغة في السّخرية. أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها. 2- وقال تعالى: لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) . الغول: مصدر غاله يغوله، إذا أهلكه وأفسده. أقول: لعلّ الغول، وهو المصدر، قد أخذ من كلمة «الغول» ، وهي من أوهام العرب وأباطيلهم! والغريب أن جماعة من العرب في عصرنا، أطلقت «الغول» على ما يسمّى في العلم الحديث المادة «الرّوحية» في المخدّرات، الّتي أسموها: «الكحول» ، وذلك توهّما وخطأ. وكان ذلك بسبب أن كلمة «الغول» قد وردت في هذه الآية، توصف بها الخمر في الجنّة، أي: أنّ خمرة الجنة لا تهلك ولا تفسد العقول، كخمرة الدنيا. وقوله تعالى: يُنْزَفُونَ (47) بالبناء للمفعول من: نزف الشارب إذا ذهب عقله، ويقال للسّكران: نزيف ومنزوف. 3- وقال تعالى: فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) . وقوله تعالى: فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ، أي: فذهب إليها في خفية «2» ، والأصل

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . ويقال أيضا: «خفية» بضمّ الخاء.

روغ الثعلب. وكذلك قوله سبحانه: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) ، أي: فأقبل عليهم مستخفيا. واستعمال «الجار والمجرور» : «عليهم» بعد «راغ» يشعرنا أنّ الفعل تضمّن معنى «ضربهم» ، أو فراغ عليهم يضربهم ضربا قويّا. 4- وقال تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) . وقوله تعالى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، أي: صرعه على شقّه، فوقع أحد جبينيه على الأرض، تواضعا على مباشرة الأمر بصبر وجلد، ليرضيا الرّحمن ويخزيا الشّيطان. أقول: والفعل «تلّ» يؤدّي في عصرنا معنى جذب بقوّة. 5- وقال تعالى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) . والمليم: الداخل في الملامة، ويقال: ربّ لائم مليم، أي: يلوم غيره، وهو أحق منه باللوم. أقول: ونحن محتاجون الى الفعل «ألام» في عربيّتنا المعاصرة، لأننا نعبر عن معناه بجملة لإيضاح ما نريد: أن فلانا مثلا، أحقّ باللوم قبل أن يلوم غيره.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الصافات"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الصافات» «1» قال تعالى: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 5] على «إنّ إلهكم ربّ» ونصب بعضهم رَبُّ السَّماواتِ [الآية 5] وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) فجعله صفة للاسم الّذي وقعت عليه «إنّ» ، والأوّل أجود، لأنّ الأوّل في هذا المعنى، وهو متناول بعيد في التفسير. وقال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الآية 6] بجعل «الكواكب» بدلا من «الزّينة» وبعضهم قرأ: (بزينة الكواكب) وليس يعني بعضها، ولكن زينتها حسنها. وورد قوله تعالى: وَحِفْظاً [الآية 7] بالنصب، باعتباره بدلا من اللفظ بالفعل، كأنّ السّياق: «وحفظناها حفظا» . وقال تعالى: لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) وثقّل بعضهم، وليس للتثقيل معنى، إنّما معنى التثقيل «المتصدّقين» وليس هذا بذاك المعنى. انّما معنى هذا من «التّصديق» وليس من «التصدّق» ، وإنّما تضعّف هذه ويخفّف ما سواها، «والصّدقة» تضعّف صادها، وتلك غير هذه. إنّما سئل رجل: من صاحبه؟ فحكى عن قرينه في الدّنيا، فقال كما ورد في التنزيل: كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) إنّا لنبعث بعد الموت. أي: أتؤمن بهذا؟ أي: تصدّق بهذا.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

وقال تعالى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) تقول: «أكبّه لوجهه» و «أكببته لوجهه» لأنّه في المعنى شبه «أقصيته» . وقال تعالى: مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147 يقول: كانوا كذلك عندكم.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الصافات"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الصافات» «1» إن قيل: لم جمع تعالى لفظ «المشارق» هنا، وثنّاهما في سورة الرّحمن، ولم اقتصر هنا على ذكر «المشارق» ، وذكر ثمّة المغربين أيضا، وذكر المغارب مع المشارق، مجموعين في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: 40] وذكرهما مفردين في قوله تعالى قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) [الشعراء] ؟ قلنا: لأنّ القرآن نزل بلغة العرب على المعهود من أساليب كلامهم وفنونه، ومن أساليب كلامهم وفنونه: الإجمال والتفصيل والبسط والإيجاز، فأجمل تارة بقوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) [الرّحمن] أراد مشرقي الصّيف والشتاء، ومغربيهما على الإجمال وفصّل تارة بقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: 40] أراد جمع مشارق السنة ومغاربها، وهي تزيد على سبعمائة وبسّط مرّة، بقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: 40] ، وأوجز واختصر مرّة بقوله تعالى: وَرَبُّ الْمَشارِقِ [الآية 5] لدلالة المذكور، وهي المشارق، على المحذوف، وهي المغارب، وكانت المشارق أولى بالذكر لأنها أشرف إمّا لكون الشروق سابقا في الوجود على الغروب، أو لأنّ المشارق منبع الأنوار والأضواء. فإن قيل: لم خصّ سبحانه وتعالى سماء الدنيا، بقوله تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) مع أنّ غير سماء الدنيا مزيّنة بالكواكب أيضا؟ قلنا: إنّما خصّها بالذّكر لأنّا نحن نرى سماء الدنيا لا غير. فإن قيل: لم مدح سبحانه نوحا (ع) بقوله: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) مع أنّ مرتبة الرّسل فوق مرتبة المؤمنين؟ قلنا: إنّما مدحه بذلك، تنبيها لنا على جلالة محلّ الإيمان وشرفه، وترغيبا في تحصيله والثبات عليه، والازدياد منه، كما قال تعالى في مدح إبراهيم (ع) : وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) . فإن قيل: لم قال تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) والنّظر إنّما يعدّى بإلى، قال الله تعالى وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف: 143] وقال: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ [الروم: 50] . قلنا: «في» هنا بمعنى «إلى» كما في قوله تعالى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إبراهيم: 9] الثاني: أنّ المراد به، نظر الفكر لا نظر العين، ونظر الفكر إنّما يعدّى بفي قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 185] فصار المعنى ففكّر في علم النجوم أو في حال النجوم. فإن قيل: لم استجاز إبراهيم (ع) أن يقول، كما ورد في التنزيل: إِنِّي سَقِيمٌ (89) ولم يكن سقيما؟ قلنا: معناه سأسقم، كما في قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزمر: 30] فهو من معاريض الكلام، قاله ليتخلّف عنهم إذا خرجوا إلى عيدهم، فيكيد أصنامهم. وقال ابن الأنباري: أعلمه الله تعالى أنّه يمتحنه بالسّقم إذا طلع نجم كذا، فلمّا رآه علم أنه سيسقم. وقيل معناه: إنّي سقيم القلب عليكم، إذا عبدتم الأصنام، وتكهّنتم بنجوم لا تضرّ ولا تنفع. وقيل إنّه عرض له مرض، وكان سقيما حقيقة. وقال الزّمخشري: قد جوّز بعض الناس الكذب في المكيدة في الحرب، والتقيّة، وإرضاء الزوج، والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين. قال: والصحيح أن الكذب حرام إلّا إذا عرّض وورّى وإبراهيم صلوات الله عليه، عرّض بقوله وورّى، فإنه أراد أنّ من في عنقه الموت سقيم، كما قيل في المثل «كفى بالسلامة داء» وقال لبيد: ودعوت ربّي بالسّلامة جاهدا

ليصحّني فإذا السلامة داء وروي أن رجلا مات فجأة، فاجتمع عليه الناس وقالوا مات وهو صحيح، فقال أعرابي: أصحيح من الموت في عنقه؟ فإن قيل: لم لا يجوز النظر في علم النجوم، مع أنّ إبراهيم (ع) قد نظر فيه، وحكم منه؟ قلنا: ليس المنجّم كإبراهيم (ع) ، في أن الله تعالى أراه ملكوت السماوات والأرض فأبيح له النظر في علم النجوم والحكم منه. فإن قيل: قوله تعالى: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) أي يسرعون، يدلّ على أنهم عرفوا أنّه هو الكاسر لها وقوله تعالى في سورة الأنبياء قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا [الأنبياء: 59] ، وما بعده يدلّ على أنّهم ما عرفوا أنّه الكاسر، فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا: يجوز أن يكون الّذي عرفه وزفّ إليه بعضهم، والّذي جهله وسأل عنه بعض آخر ويجوز أن الكلّ جهلوه وسألوا عنه، فلما عرفوا أنه الكاسر لها زفّوا إليه كلّهم. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى على لسان ابراهيم صلوات الله عليه إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الآية 99] . قلنا: معناه إلى حيث أمرني ربّي بالمهاجرة، وهو الشّام. وقيل: إلى طاعة ربّي ورضاه. وقيل: إلى أرض ربّي وإنّما خصّها بالإضافة إلى الله تعالى، تشريفا لها وتفضيلا، لأنّها أرض مقدّسة مبارك فيها للعالمين، كما في قوله تعالى وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الجنّ: 18] ، وقوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان: 63] . فإن قيل: ما المقصود بقوله تعالى: سَيَهْدِينِ (99) وهو كان مهتديا؟ قلنا: المقصود: سيثبّتني على ما أنا عليه من الهدى، ويزيدني هدى. وقيل: سَيَهْدِينِ (99) إلى الجنّة. وقيل إلى الصّواب في جميع أحوالي. ونظيره قول موسى عليه الصلاة والسلام، كما ورد في التنزيل: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) [الشعراء] . فإن قيل: كيف شاور إبراهيم ولده، عليهما السلام، في ذبحه بقوله كما نصّ القرآن: فَانْظُرْ ماذا تَرى [الآية 102] ، مع أنّه كان حتما على إبراهيم،

لأنه أمر به، لأنّ معنى قول إبراهيم (ع) كما ورد في التنزيل إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الآية 102] : أنّه أمر بذبحه في المنام، ورؤيا الأنبياء حقّ فإذا رأوا شيئا في المنام، فعلوه في اليقظة، كذا قاله قتادة والدليل على أنّ منامه كان وحيا بالأمر بالذبح، قوله تعالى حكاية على لسان ولد ابراهيم (ع) : يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ [الآية 102] ؟ قلنا: لم يشاوره ليرجع إلى رأيه في ذلك، ولكن ليعلم ما عنده من الصّبر، فيما نزل به من بلاء الله تعالى، فيثبّت قدمه إن جزع، ويأمن عليه الزّلل إن صبر وسلّم، وليعلم القصّة فيوطن نفسه على الذّبح، ويهوّنه عليها، فيلقى البلاء وهو كالمستأنس به، ويكتسب الثواب بالانقياد والصبر لأمر الله تعالى قبل نزوله، وليكون سنّة في المشاورة فقد قيل لو شاور آدم الملائكة في أكل الشجرة، لما فرط منه ذلك. فإن قيل: لم قيل له: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الآية 105] وإنّما يكون مصدّقا لها، لو وجد منه الذّبح، ولم يوجد؟ قلنا: معناه قد فعلت غاية ما في وسعك، ممّا يفعله الذابح، من إلقاء ولدك، وإمرار الشفرة على حلقه ولكنّ الله تعالى منع الشفرة أن تقطع. وقيل: إنّ الّذي رآه في المنام معالجة الذبح فقط، لا إراقة الدم وقد فعل ذلك في اليقظة، فكان مصدّقا للرؤيا. فإن قيل: أين جواب «لمّا» في قوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما [الآية 103] ؟ قلنا: قيل هو محذوف تقديره: استبشرا، واغتبطا، وشكرا لله تعالى على ما أنعم به عليهما من الفداء أو تقديره: سعدا، أو أجزل ثوابهما. وقيل الجواب هو قوله تعالى: وَنادَيْناهُ [الآية 104] والواو زائدة كما في قول امرئ القيس: فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل أي فلمّا أجزنا ساحة الحي انتحى، كذا نقله ابن الأنباري في شرحه. فإن قيل: لم قال تعالى في قصة إبراهيم (ع) : كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) وفي غيرها من القصص قبلها وبعدها: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) . قلنا: لمّا سبق في قصة إبراهيم (ع) مرة: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) طرحه في الثاني تخفيفا واختصارا

، واكتفاء بذكره مرّة، بخلاف سائر القصص. فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) وهو كان من المرسلين، قبل زمان التنجية؟ قلنا: قوله تعالى إِذْ نَجَّيْناهُ [الآية 134] لا يتعلّق بما قبله، بل يتعلّق بمحذوف تقديره: واذكر لهم يا محمّد، إذ نجّيناه أو أنعمنا عليه إذ نجّيناه، وكذا السؤال في قوله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) . فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) و «أو» كلمة شكّ، والشّكّ على الله محال؟ قلنا: قيل «أو» هنا بمعنى «بل» ، فلا شكّ وقيل بمعنى «الواو» كما في قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: 43] وقوله تعالى: عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) [المرسلات] وقيل معناه، أو يزيدون في تقديركم، فلو رآهم أحد منكم لقال: هم مائة ألف أو يزيدون، فالشّكّ إنّما دخل في حكاية قول المخلوقين، ونظيره قوله تعالى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) [النجم] . فإن قيل: ما الحكمة في تكرار الأمر بالتولية والإبصار، في قوله تعالى: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) . قلنا: الحكمة تأكيد التهديد والوعيد. فإن قيل: لم قال تعالى: وَأَبْصِرْهُمْ [الآية 175] ثمّ قال ثانيا: وَأَبْصِرْ [الآية 179] ؟ قلنا: طرح ضمير المفعول تخفيفا واختصارا واكتفاء بسبق ذكره مرّة وقيل معنى الأوّل: وأبصارهم إذا نزل بهم العذاب، ومعنى الثاني: وأبصر العذاب إذا نزل بهم، فلا فرق بينهما في المعنى.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الصافات"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الصافات» «1» قوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) هذه استعارة. والمراد بالقاصرات الطّرف هاهنا: اللواتي جعلن نظرهنّ مقصورا على أزواجهنّ. أي حبسن النّظر عليهم، فلا يتعدّينهم إلى غيرهم. وجيء بذكر الطّرف على طريق المجاز. وإلّا فحقيقة المعنى أنهنّ حبسن الأنفس على الأزواج عفّة ودينا، وخلقا وصونا. وإنّما وقعت الكناية عن هذا المعنى بقصر الطّرف، لأنّ طماح الأعين في الأكثر يكون سببا لتتبّع النفوس وتطرّب القلوب، وعلى هذا قول الشاعر: وإنّك إن أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر «2» والطّرف هاهنا واحد في تأويل

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....] (2) . البيت هو أحد بيتين أنشدتهما امرأة أمام أبي الغصن الأعرابي، وكان قد خرج حاجّا، فمرّ بقباء، وإذا جارية كأنّ وجهها سيف صقيل. والقصة كاملة في الجزء الرابع من «عيون الأخبار» لابن قتيبة، ص 22. وفي «شرح شواهد الكشّاف» للعلامة محبّ الدّين ص 134 أنّه من أبيات «الحماسة» وفي «شرح الحماسة» للمرزوقي ج 3 ص 1238، لم يذكر اسم قائله وإنما اكتفى بقوله: وقال آخر. ولم يتعرّض العلّامة المرزوقي لتحقيق اسم هذا الشاعر أو الشاعرة، وإنما اكتفى بشرح البيتين شرحا أدبيا. وهما: وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر رأيت الّذي لا كلّه أنت قادر ... عليه، ولا عن بعضه أنت صابر

الجميع، ونظيره قوله سبحانه: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [البقرة: 7] . أي على أسماعهم، أو مواضع استماعهم. .

سورة ص

سورة ص المبحث الأول أهداف سورة «ص» «1» سورة ص سورة مكية نزلت في الفترة المتوسّطة من حياة المسلمين بمكة، بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، وآياتها 88 آية، وسميت ص لابتدائها بهذا الحرف. مقاصد السورة قال الفيروزآبادي: «معظم المقصود من سورة ص: بيان تعجّب الكفّار من نبوّة المصطفى (ص) ووصف الكافرين لرسول الله بالاختلاق والافتراء، واختصاص الحق تعالى بملك الأرض والسماء، وظهور أحوال يوم القضاء، وعجائب حديث داود وأوريا، وقصة سليمان، وذكر أيوب في الابتلاء والشفاء، وذكر إبراهيم وأولاده من الأنبياء، وحكاية أحوال ساكني جنة المأوى، وعجز حال الأشقياء في سقر ولظى، وواقعة إبليس مع آدم وحواء، وتهديد الكفار على تكذيبهم للمجتبى» قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) . قضايا السورة أثارت سورة ص عددا من القضايا أهمها قضية التوحيد، وقضية الوحي، وقضية الحساب في الاخرة، وقد عرضت هذه القضايا الثلاث في مطلعها، الّذي يمثل الدهشة والاستغراب من كبار المشركين في مكة، حين جاءهم محمد (ص)

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

1 - شبهات الكافرين

يدعوهم إلى التوحيد، وساقت السورة شبهات الكافرين حول قضية الوحي. فقد استكثروا أن يختار الله سبحانه رجلا منهم لينزل عليه الذكر من بينهم، وأن هذا الرجل هو محمد بن عبد الله الّذي لم تسبق له رئاسة فيهم، ولا إمارة فقالوا كما ورد في التنزيل: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [الآية 8] . وبيّنت السورة لهم، أنّ رحمة الله لا يمسكها شيء، إذا أراد أن يفتحها على من يشاء، وأنه ليس للبشر شيء من ملك السماوات والأرض، وإنّما يفتح الله رزقه ورحمته على من يشاء، وأنه يختار من عباده من يعلم استحقاقهم للخير، وينعم عليهم بشتى الإنعامات، بلا قيد ولا حدّ ولا حساب. في هذا السياق جاء تسخير الجبال والطير، وتسخير الجن والريح، فوق الملك وخزائن الأرض والسلطان والمتاع، وجاء مع القصّتين توجيه النبي (ص) إلى الصبر على ما يلقاه من المكذّبين: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) . كذلك جاءت قصة أيوب (ع) تصور ابتلاء الله سبحانه للمخلصين من عباده بالضّرّاء، وصبر أيوب (ع) مثل في الصبر رفيع وتصور السورة حسن العاقبة للصابرين. ونلاحظ أن السياق، في سورة ص، يربط بين أربعة موضوعات رئيسة: هي شبهات الكافرين، وقصص الأنبياء، والمقابلة بين نعيم المتقين وعذاب الكافرين، ثم قصة خلق آدم (ع) وسجود الملائكة له وإباء إبليس. 1- شبهات الكافرين تشتمل الآيات [1- 16] على شبهات الكافرين حول بشريّة الرسول، واختصاصه بالوحي، وإنكار توحيد الالهة في إله واحد، والرد على هذه المفتريات، وبيان جزاء المكذّبين، من قوم نوح وعاد وفرعون وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة. إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) . 2- قصص الأنبياء تشتمل الآيات [17- 48] على قصص وأمثلة من حياة الرسل صلوات الله عليهم. وفي هذا القصص بيان لآثار رحمة

3 - النعيم والجحيم

الله بالرسل من قبل، وتذكير بما أغدق الله عليهم من نعمة وفضل، وبما آتاهم من ملك وسلطان ومن رعاية وإنعام، وذلك ردا على عجب الكافرين من اختيار الله لمحمد (ص) رسولا من بينهم، وما هو ببدع من الرسل، وفيهم من آتاه الله سبحانه إلى جانب الرسالة الملك والسلطان، وفيهم من سخّر له الجبال يسبّحن معه والطير، وفيهم من سخّر الله تعالى له الريح والشياطين، كداود وسليمان (ع) . فما وجه العجب أن يختار الله جلّ وعلا محمدا (ص) الصادق، لينزل عليه الذكر من بين قريش في آخر الزمان. كذلك يصور هذا القصص رعاية الله تعالى الدائمة لرسله، وإحاطتهم بتوجيهه وتأديبه فقد كانوا بشرا، كما أن محمد (ص) بشر، وكان فيهم ضعف البشر، وكان الله سبحانه يرعاهم فلا يدعهم لضعفهم ولكن يبين لهم ويوجههم، ويبتليهم ليغفر لهم ويكرمهم، وفي هذا ما يطمئن قلب الرسول إلى رعاية ربه له، وحمايته له من أذى المشركين وفي تلك القصص سلوى ومواساة لما لقيه النبي من تكذيب واتهام وافتراء، وفيه دعوة إلى الصبر حتى ينال رضوان الله، كما ناله السابقون من الأنبياء. 3- النعيم والجحيم تعرض الآيات [49- 64] مشهد المؤمنين في الجنة، وقد فتحت أبوابها، وجرت أنهارها، وكثر حورها وولدانها، وتنوّعت أرزاقها: إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) . كما تعرض مشهد الطاغين في النار، وقد اشتد لهيبها وتنوّع عذابها، واختصم الأتباع والرؤساء فيها، وأخذوا يبحثون عن ضعفاء المؤمنين بينهم فلا يجدونهم في النار، لأن هؤلاء الضعفاء في الجنة والرضوان. 4- سجود الملائكة لآدم تشتمل الآيات الممتدة من الآية 65 إلى آخر السورة، على تأكيد وحدانية الله تعالى، وشمول قدرته وملكه في السماوات والأرض. وتستعرض قصة آدم (ع) وسجود الملائكة له، كدليل على أن هؤلاء الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون كما تتضمّن القصة لونا من الحسد في نفس

الشيطان، وهو الّذي أبعده الله عن رحمته، وطرده من جنّته، حينما استكثر على آدم فضل الله الّذي أعطاه وفي هذا إيحاء لهم ألا يستكثروا على محمد (ص) فضل الرسالة وتبليغ وحي السماء. كذلك تصوّر الآيات المعركة المستمرة بين الشيطان وأبناء آدم، والّتي لا يهدأ أوارها، ولا تضع أوزارها، والّتي يهدف من ورائها إلى إيقاع أكبر عدد منهم في حبائله، لإيرادهم النار معه، انتقاما من أبيهم آدم. وقد كان طرد إبليس من الجنة بسبب امتناعه عن السجود له، فالمعركة بين إبليس وذرية آدم معروفة الأهداف، ولكن أبناء آدم يستسلمون لعدوهم القديم. وتختم السورة بتوكيد قضية الوحي، وإخلاص الرسول في تبليغ الرسالة، لا يبتغي أجرا ولا يتكلّف قولا وإنّما يبلّغ القرآن، وسيكون لهذا القرآن أبلغ الأثر في حياة البشرية.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"ص"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «ص» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «ص» بعد سورة «القمر» وقبل سورة «الأعراف» ، ونزلت سورة «الأعراف» بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة «ص» في هذا التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لابتدائها بالقسم به، وتبلغ آياتها ثماني وثمانين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إنذار الكافرين بعذاب الدنيا والاخرة، وقد ابتدأت بإثباته بالقسم عليه، وبالقياس على من أهلك قبلهم من الأمم ثم أمر النبي (ص) بالصبر على طلبهم تعجيله استهزاء به، وقصّ عليه في ذلك قصص من صبر قبله من الأنبياء، ثم ذكر ما يكون إليه المآب بعد هلاكهم ثمّ ختمت السورة بالعود إلى تأكيد ذلك الإنذار، ليكون ختامها مناسبا لابتدائها فيرتبط آخرها بأولها وهي، في هذا، تشبه السورة السابقة فيما أنذر به فيها، وهذا هو وجه ذكرها بعدها. إنذار الكفار بعقاب الدنيا والاخرة الآيات [1- 70] قال الله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2)

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

العهد القديم بعقاب الكافرين الآيات [71 - 88]

فأقسم بذلك أنهم سيعاقبون على كفرهم في الدنيا والاخرة، ولكنّهم في غفلة عن هذا وشقاق، وكم أهلك من قبلهم من الكفّار، فنادوا ولات حين مناص ثم ذكر سبحانه أنهم تعجبوا من أن ينذرهم بذلك واحد منهم، ومن أن يدعو إلى التوحيد وإبطال الالهة، وهذا يخالف الملّة الاخرة (النصرانية) الّتي تجعل الالهة ثلاثة ثم ذكر إنكارهم أن يختص بذلك دونهم وهو لا يمتاز بشيء عليهم ورد عليهم بأن ذلك يرجع إلى اختياره بمقتضى رحمته، ولا شريك له فيما يملكه من أمر سماواته وأرضه، فإن ادّعوا لهم ملكا في ذلك فليرتقوا في الأسباب: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) . ثم ذكر جلّ وعلا أنه قد كذّب قبلهم من كان أقوى منهم من قوم نوح وعاد وفرعون فعاقبهم وأهلكهم، وسيكون مصيرهم مثلهم. ثم ذكر أنهم طلبوا تعجيل هذا العذاب استهزاء، وأمر النبي (ص) أن يصبر على استهزائهم، ويذكر ما كان من أمر الرسل قبله ليعتبر بما كان منهم وقد ذكر له في ذلك أخبار داود وسليمان وأيّوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل (عليهم السلام) ، وفصّل في بعضهم ما فصّله من أخبارهم، وأجمل في بعضهم ما أجمله من أمرهم، ليحمله على ما أمره به من الصبر على قومه. ثم لفت إلى أمر آخر يحمله أيضا على الصبر عليهم، وهو ما أعدّه سبحانه للمتقين والطاغين من حسن المآب للأولين وشرّه للاخرين، وقد فصّل فيهما ما فصل من أحوالهما، وذكر في الثاني ما يكون من التخاصم بين أهل النار وخزنتها، ثم ختم ذلك كله بتأكيد ما بدأ به من الإنذار، فقال جلّ وعلا: قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) فإذا أراد إهلاكهم لم يمنعه غيره من آلهتهم ثم ذكر السياق على لسان الرسول أن ما ينذرهم به نبأ عظيم لا كذب فيه، وأيّد ذلك بأن ما ذكره من ذلك التخاصم بين أهل النار وخزنتهم، لم يكن للرسول به علم إذ يختصمون: إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) . العهد القديم بعقاب الكافرين الآيات [71- 88] ثم قال تعالى:

إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) ، فذكر قصة خلق آدم وأمره الملائكة بالسجود له، وأنهم أطاعوه إلا إبليس لعنه الله وأنه عاقبه على ذلك بإخراجه من الجنة، وأنه عهد، وعهده الحقّ، أن يملأ جهنّم منه وممّن تبعه من الكافرين ثم ختم السورة بأنه لا يسألهم على هذا الإنذار من أجر، ولا يكلّفهم منه ما لا يطيقون: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"ص"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «ص» «1» أقول: هذه السورة بعد «الصافات» ، ك «طس» بعد «الشعراء» ، وك «طه» و «الأنبياء» بعد «مريم» ، وك «يوسف» بعد «هود» ، في كونها متمّمة لها بذكر من بقي من الأنبياء، ممّن لم يذكروا فيها فإنه سبحانه ذكر، في الصافات، نوحا، وإبراهيم والذبيح، وموسى، وهارون ولوطا، وإلياس، ويونس. وذكر، هنا، داود، وسليمان، وأيوب، وأشار إلى بقية من ذكر، فهي بعدها أشبه شيء «بالأنبياء» ، و «طس» بعد «مريم» و «الشعراء» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.

المبحث الرابع مكنونات سورة"ص"

المبحث الرابع مكنونات سورة «ص» «1» 1- وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ [الآية 6] . قال مجاهد: أي عقبة بن أبي معيط. زاد السّدّي: وأبو جهل، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطّلب، والأسود بن يغوث. أخرجهما ابن أبي حاتم. 2- ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ [الآية 7] . قال محمد بن كعب: يعني ملّة عيسى (ع) . وقال مجاهد: ملّة قريش «2» . وأخرجهما ابن أبي حاتم «3» . 3- وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [الآية 16] . قال قتادة: قال ذلك أبو جهل. أخرجه ابن أبي حاتم «4» . وقال عطاء: النّضر بن الحارث. أخرجه عبد بن حميد. 4- وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [الآية 21] . هما ملكان. أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أنس بن مالك مرفوعا بسند ضعيف، ومن حديث ابن عبّاس

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . وفي رواية مسدّد، كما في «المطالب العالية» 3: 363، عن مجاهد أن الملّة هي النصرانية. وانظر «تفسير ابن كثير» 4: 28، و «سنن الترمذي» 8: 361. (3) . والطبري في «تفسيره» 23: 80. (4) . و «الطبري» 23: 85. ونقلا عن «غريب القرآن» أن القط واحد القطوط وهي الكتاب بالجوائز.

موقوفا، وسمّاهما: جبريل، وميكائيل. 5- الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) . أخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم التّيمي «1» : أنها عشرون ألف فرس. 6- وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً [الآية 34] . قال ابن عباس: هو الشّيطان. أخرجه ابن أبي حاتم. وأخرج عن قتادة: أنه مارد يقال له: أسيد. وأخرج من طريق علي، عن ابن عباس: أنّه صخر الجنّي وعن السّدّي: أنه شيطان اسمه: حقيق. وروى عبد الرزاق، عن مجاهد: أنّ اسمه آصف. وروى ابن جرير عنه: أن اسمه آصر. 7- أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ [الآية 41] . قال نوف البكالي «2» . الشيطان الّذي مسّ أيّوب يقال له: مسعط. أخرجه ابن أبي حاتم. 8- وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا [الآية 62] . قائل ذلك: أبو جهل، وسمّي من الرّجال: عمار بن [ياسر] وبلال، وصهيب، وخبّاب. أخرج ذلك ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد.

_ (1) . إبراهيم بن يزيد التيمي، عابد، صابر،. ثقة روى عن أنس رضي الله عنه، وتوفي نحو (94) هـ. (2) . نوف البكالي بكسر الباء وفتحها نسبة الى بكال بطن من حمير، تابعيّ من أهل دمشق فاضل، عالم، لا سيّما بالقصص والإسرائيليات. ترجمه الحافظ في «التهذيب» ، وانظر تعليق الدكتور نور الدين عتر على كتاب «الرحلة في طلب الحديث» للخطيب البغدادي ص 97.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"ص"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «ص» «1» 1- وقال تعالى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) . قالوا في «لات» : هي لا المشبهة ب «ليس» زيدت عليها تاء التأنيث، كما زيدت على «ربّ» و «ثمّ» للتوكيد. وتغيّر بذلك حكمها حيث لم تدخل إلّا على الأحيان، ولم يبرز إلا أحد مقتضييها، إمّا الاسم وإمّا الخبر، وامتنع بروزهما جميعا. هذا مذهب الخليل، وتبعه سيبويه. وعند الأخفش أنها «لا» النافية للجنس زيدت عليها التاء، وخصّت بنفي الأحيان. هذا مجمل كلام ليس لنا أن نقبله بيسر، فما معنى قولهم إنّ «التاء» للتأنيث، وتاء التأنيث ساكنة مع الفعل، ومحركة بالحركات مع الاسم. وما معنى قولهم: إنها للتوكيد؟ وهل كل زيادة توكيد؟ وما معنى التوكيد؟ وما المؤكّد في ذلك؟ وإذا كانت للتأنيث فكيف يراد التوكيد؟ وما رأينا تاء للتأنيث تفيد التوكيد! وهل التاء في «ربّت» و «ثمّت» المفتوحتان للتأنيث والتوكيد؟ وأما اختصاصها بنفي الأحيان، فهذا قائم لأنها سمعت كذلك في لغة العرب. ولعلّنا نستطيع أن نقول شيئا آخر في هذه التاء. ومن ذلك تصوّرنا أن هذه «التاء» هي شيء من «ايت» السريانية. و «ايت»

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

السريانية هذه تعني «ايش» أي: الشيء في العربية. وقد ركبت مع «لا» فصارت «لا ايت» ، ثم خفّفت فصار «لات» ، واستعملت استعمالا خاصّا. وهي نظير «ليس» الّتي قال الخليل بتركيبها من «لا أيس» أي: لا وجود. وكنا قد شرحنا هذا الشيء بتفصيل في الكلام على قوله تعالى: إِنِّي آنَسْتُ ناراً [طه: 10] . ولنعد إلى «لات» لنقول: إن «ايت» بمعنى «شيء» بقي شيء منها في العربية، وذلك في مادة «أثث» . وإذا رجعنا إلى «أثاث» و «أثاثة» في المعجم، وجدنا أن عموم الدلالة فيهما يشير إلى أنها مطلق الشيء، ومن غير تخصيص، ثم جاء الاستعمال فقيّد وخصّص وصرفها إلى أشياء معيّنة. وقد بقي لنا أن نقول: إن العرب ربما أدخلوا على «حين» التاء وقالوا: لات حين بمعنى ليس حين. وأما قول أبي وجزة: العاطفون تحين ما من عاطف والمفضلون يدا إذا ما أنعموا فقال ابن سيده: قيل إنه أراد «العاطفون» مثل «القائمون» و «القاعدون» ، ثم زاد التاء في «حين» كما زادها الاخر في قوله: نولّي قبل نأي داري جمانا وصلينا كما زعمت تلانا أراد الآن، فزاد التاء، وألقى حركة الهمزة على ما قبلها. أقول: هذا قول المتقدّمين في كلمة «حين» ، وزيادة التاء في أولها. وعلى هذا يكون قولنا: «لات حين» من باب نفي «تحين» ب «لا» قبلها. وأرى أن هذا المنقول من كلامهم قد يشعرنا أن «للتاء» ، في لغة قديمة، ما للألف واللام في أول الاسم، ولعل هذا شيء مما ورثته العربية من اللغات الّتي سبقتها! 2- وقال تعالى: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) . والقطّ: القسط من الشيء، لأنه قطعة منه. أقول: القطّ هو القسم، أي: القطعة، وهو من الفعل، قطّ يقطّ أي: قطع يقطع. والمصدر القطّ على فعل. وقد أشرنا إلى كثير من المصادر الثلاثية على «فعل» ، أن الاسم منها يكون بكسر الفاء كالسّقط والنّقض

والكسر والمسخ، وكله بكسر الفاء وسكون العين. وعلى هذا يكون «القطّ» القسم، أي القسط الّذي أرادوه. 3- وقال تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ [الآية 17] . قلنا: إن العربية قد أفادت من أعضاء الجسم في توليد المواد المفيدة، وفي هذه الآية «الأيد» ، وهو مصدر بمعنى القوة من «اليد» عضو الإنسان، وهكذا أخذ من الضلع والعظم والسن وغيرها فوائد عدة. 4- وقال تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ. أريد أن أنبه إلى أن الخصم، وإن كان مفردا في لفظه، فإنه يدل على الجمع في معناه، والآية شاهد. وانظر: الآية التاسعة عشرة من سورة الحج. 5- وقال تعالى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) . والمعنى: وغلبني. أقول: وهذا من معاني «عزّ» النادرة الّتي لا نعرفها في عصرنا. 6- وقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ [الآية 24] . وقوله تعالى: وَقَلِيلٌ ما هُمْ للإبهام، وفيه تعجب من قلّتهم، و «ما» زائدة. أقول وزيادة «ما» هذه رشّحت للتركيب الجميل للإبهام والتعجب من قلّتهم. 7- وقال تعالى: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) . والنصب قد يقرأ بفتح النون مع سكون الصاد، وبفتحهما وضمهما كالرّشد والرّشد. والنصب هو البلاء والشرّ. وقد نبّهت على هذا، لأننا لا نعرف من هذه الكلمة إلا النصب، بفتحتين وهو التعب. 8- وقال تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [الآية 42] . والمعنى: وادفع برجلك الأرض. 9- وقال تعالى: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا [الآية 63] . أقول: والسّخريّة والسخريّ والسّخريّ كله بمعنى مصدر سخر كالسّخر.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"ص"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «ص» «1» قال تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) فيزعمون أنّ موضع القسم هو في قوله سبحانه: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) . وقال تعالى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) فشبهوا (لات) ب (ليس) وأضمروا فيها اسم الفاعل ولا تكون (لات) إلّا مع «حين» وقرأ بعضهم بالرفع وَلاتَ حِينَ مَناصٍ فجعله في قوله مثل (ليس) كأن السياق «ليس أحد» وبإضمار الخبر. وفي الشعر [من الخفيف وهو الشاهد الرابع والستون بعد المائتين] : طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء فجرّ «أوان» وحذف وأضمر «الحين» وأضاف الى «أوان» لأنّ (لات) لا تكون إلّا مع «الحين» . وقال تعالى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [الآية 5] تقول «أتجعل مائة شاهد شاهدا واحدا» . وقال تعالى: فَطَفِقَ مَسْحاً [الآية 33] أي: يمسح مسحا. وقال تعالى: رُخاءً [الآية 36] والله أعلم، على «رخّيناها رخاء» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"ص"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «ص» «1» إن قيل: أين جواب القسم في قوله تعالى ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) ؟. قلنا: فيه وجوه: أحدها: أنه لما ذكر سبحانه حرفا من حروف المعجم على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز، كما قيل في كل سورة مفتتحة بحرف أتبعه القسم، محذوف الجواب، لدلالة التحدي عليه، كأنّ السياق: والقرآن ذي الذكر إنه لكلام معجز وكذلك إذا كان الحرف مقسما به، كأنّ السياق: أقسمت ب «ص» والقرآن ذي الذكر، إن هذا الكلام معجز. الثاني: أن «ص» خبر مبتدأ محذوف، على أنه اسم للسورة، كأن السياق يقول: هذه «ص» ، يعني: هذه السورة الّتي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر، كما تقول: هذا حاتم والله، تريد: هذا هو المشهور بالسخاء والله. الثالث: أن جواب القسم: كم أهلكنا، وأصله لكم أهلكنا، فلمّا طال الكلام حذفت اللام تخفيفا كما في قوله تعالى وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) [الشمس] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) [الشمس] الرابع: أنّه قوله تعالى إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) وهو قول الكسائي. وقال الفرّاء: وهذا لا يستقيم في العربية لتأخّره جدا عن القسم. فإن قيل: ما وجه المناسبة والارتباط بين قوله تعالى: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

[الآية 17] وقوله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ [الآية 17] ؟ قلنا: وجه المناسبة بينهما: أنه أمر أن يتقوّى على الصبر، بذكر قوة داود عليه السلام على العبادة والطاعة. الثاني: أن المعنى عرّفهم أن داود (عليه السلام) ، مع كرامته وشهرة طاعته وعبادته، الّتي منها صوم يوم دون يوم، وقيام نصف الليل، كان شديد الخوف من عذابي، لا يزال باكيا مستغفرا. فكيف حال هؤلاء مع أفعالهم؟ فإن قيل: لم قال الملكان لمّا دخلا على داود (عليه السلام) كما ورد في التنزيل: خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ [الآية 22] والملائكة لا يوجد منهم البغي والظلم، ولم قال تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [الآية 23] إلى آخره، ولم يكن كما قال؟ قلنا: إنّما قالا ذلك على سبيل الفرض والتصوير للمسألة، ومثل ذلك لا يعدّ كذبا كما تقول في تصوير المسائل: زيد له أربعون شاة وعمرو له أربعون، وأنت تشير إليهما، فخلطاها وحال عليها الحول كم يجب فيها وليس لهما شيء، وتقول لي أربعون شاة، ولك أربعون، فخلطناها وما لكم شيء. فإن قيل: لم حكم داود (عليه السلام) على المدعى عليه بكونه ظالما قبل أن يسمع كلامه؟ قلنا: لم يحكم عليه إلا بعد اعترافه، كذا نقله السّدّي إلا أنه حذف ذكر الاعتراف في القصة، اختصارا لدلالة الحال عليه، كما تقول العرب: أمرته بالتجارة فكسب الأموال: أي فاتّجر، فكسب الأموال. فإن قيل: ما معنى تكرار الحب في قوله تعالى: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي [الآية 32] . وما معنى تعديته ب «عن» وظاهره أحببت حبّا مثل حب الخير، كما تقول أحببت حبّ زيد: أي أحببت حبّا مثل حبّ زيد؟ قلنا: أحببت في الآية بمعنى آثرت، كما يقول المخيّر بين شيئين: أحببت هذا: أي آثرته، وقد جاء استحب بمعنى آثر، قال الله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17] . أي آثروه: لأنّ من أحبّ شيئا فقد آثره على غيره، و «عن» بمعنى «على» كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ

[محمد: 38] فيصير المعنى أي آثرت حب الخير على ذكر ربي. الثاني: وهو اختيار الجرجاني صاحب معاني القرآن، أن «أحببت» بمعنى قعدت وتأخرت، مأخوذ من أحب الجمل إذا برك، ومنه قول الشاعر: دعتك إليها مقلتاها وجيدها فملت كما مال المحبّ على عمد فالمحبّ هنا الجمل، والعمد علّة تكون في سنام الجمل، وكل من ترك شيئا وتجنّب أن يفعله فقد قعد عنه، فتأويل الآية: إنّي قعدت عن ربي لحبّ الخير، فيكون انتصاب حب على أنه مفعول له. فإن قيل: لم قال سليمان عليه السلام، كما ورد في التنزيل: وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [الآية 35] وهذا أشبه بالحسد والبخل بنعم الله تعالى على عبيده، بما لا يضرّ سليمان عليه السلام؟ قلنا: قال الحسن وقتادة رحمهما الله: المراد به لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني في حياتي، كما فعله الشيطان الّذي لبس خاتمه وجلس على كرسيه الثاني: أن الله تعالى علم أنه لا يقوم غيره من عباده بمصالح ذلك الملك، فاقتضت حكمته سبحانه تخصيصه به، فألهمه أن يسأله تخصيصه به. الثالث: أنه أراد بذلك ملكا عظيما، فعبر عنه بتلك العبارة، ولم يقصد بذلك إلّا عظم الملك وسعته، كما تقول لفلان: ليس لأحد مثله من الفضل أو من المال، وتريد بذلك عظم فضله أو ماله، وإن كان في الناس أمثاله. فإن قيل: لم قال تعالى في وصف أيوب عليه السلام: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً [الآية 44] مع أن الصبر هو ترك الشكوى من ألم البلوى، على ما قيل، وهو قد شكا؟ قلنا: الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، ولا تسمّى جزعا لما فيها من إظهار الخضوع والعبودية لله تعالى، والافتقار إليه ويؤيده قول يعقوب عليه السلام، كما ورد في التنزيل: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: 86] مع قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف: 83] وقولهم: الصبر ترك الشكوى، يعني إلى العباد. الثاني: أنه (ع) ، إنما طلب الشفاء من الله تعالى، بعد ما لم يبق منه إلا قلبه ولسانه، خيفة على قومه أن يفتنهم الشيطان بما كان يوسوس لهم

به. ويقول إنه لو كان أيوب نبيّا لما ابتلي بما هو فيه، ولدعا الله تعالى بكشف ضرّه. وروي أنه عليه السلام قال في مناجاته: إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري، ولم يلهني ما ملكت يميني، ولم آكل إلا ومعي يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان، فكشف الله تعالى ضرّه. فإن قيل: قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) يدل على أن غاية لعنة الله لإبليس يوم القيامة ثم تنقطع؟ قلنا: كيف تنقطع، وقد قال تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ [الأعراف: 44] يعني يوم القيامة أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) [الأعراف] وإبليس أظلم الظلمة ولكن مراده، في الآية، أن عليه اللعنة في طول مدة الدنيا فإذا كان يوم القيامة اقترن له باللعنة من أنواع العذاب، ما تنسى عنده اللعنة، وكأنها انقطعت.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"ص"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «ص» » قوله تعالى: وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) هذه استعارة على بعض الأقوال، وهو أن قوله تعالى ذُو الْأَوْتادِ معناه ذو الملك الثابت، والأمر الواطد، والأسباب الّتي بها يثبت السلطان، كما يثبت الخباء بأوتاده، ويقوم على عماده. وقد يجوز أيضا أن ذُو الْأَوْتادِ معناه ذو الأبنية المشيّدة، والقواعد الممهّدة، الّتي تشبّه بالجبال في ارتفاع الرؤوس ورسوخ الأصول. لأن الجبال تسمى أوتاد الأرض. قال سبحانه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) [النّبأ] . وقوله سبحانه: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) . وقرئ: من فواق «2» بالضم. وقد قيل إنهما لغتان، وذلك قول الكسائي. وقال أبو عبيدة: من فتح أراد ما لها من راحة، ومن ضمّ أراد ما لها في إهلاكهم من مهلة، بمقدار فواق الناقة، وهي الوقفة الّتي بين الحلبتين. والموضع الّذي يحقق الكلام بالاستعارة على قراءة من قرأ من فواق بالفتح، أن يكون سبحانه وصف تلك الصيحة بأنها لا إفاقة من سكرتها، ولا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....] (2) . الضم هو قراءة حمزة والكسائي. وبقية القرّاء قرءوها بفتح الفاء. وقال الجوهري: الفواق بالفتح والفوق بالضم ما بين الحلبتين من الوقت. وفي الحديث الشريف (العيادة قدر فواق الناقة) انظر «الجامع لأحكام القرآن» ج 15 ص 156.

استراحة من كربتها، كما يفيق المريض من علّته، والسكران من نشوته. والمراد أنه لا راحة للقوم منها. فجعل سبحانه الراحة لها على طريق المجاز والاتساع. ومثله كثير في الكلام. وقوله سبحانه: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) . وهذا الكلام داخل في حيّز الاستعارة. لأن النعاج هاهنا كناية عن النساء. وقد جاءت في أشعارهم الكناية عن المرأة بالشاة. وعلى ذلك قول الأعشى: فرميت غفلة عينه عن شاته فأصبت حبة قلبها وطحالها «1» أي: عن امرأته. وقال عنترة: يا شاة ما قنص لمن حلّت له حرمت عليّ وليتها لم تحرم «2» وربما سمّوا الظّبية نعجة، والظبية شبيهة بالمرأة، فتكون اللفظة مستعارة على هذا التركيب. وإنما شبّهت النساء بالنعاج، لأنّ النعاج يرتبطن للاحتلاب والاستنتاج، والنساء يصطفين للاستمتاع والاستيلاد. وقوله تعالى في ذكر الخيل حاكيا عن سليمان عليه السلام لمّا عرضت عليه فكاد أن يفوته، للشغل بها، وقت صلاة كان يصلّيها، فضرب رؤوسها وعراقيبها بالسيف، على ما وردت به الأخبار: رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وهذه استعارة. لأن المسح هاهنا- في أكثر أقوال أهل التأويل- كناية عن الضّرب بالسيف. وامتسح رأسه: إذا فعل به ذلك. وهذه الباء هاهنا للإلصاق فكأنّ السّياق: وألصق السيف بسوقها وأعناقها. كما يقول القائل: مسحت يدي بالمنديل.

_ (1) . هذا البيت من قصيدة للأعشى يمدح بها قيس بن معد يكرب. ومطلعها: رحلت سميّة غدوة أجمالها ... غضبى عليك، فما تقول بدا لها وتبلغ أبياتها 54 بيتا، كما في ديوانه الكبير الّذي نشرته مكتبة الآداب بتحقيق الدكتور م. محمد حسين- ص 27. والعرب تكني بالشاة عن المرأة والزوجة. والأعشى من شعراء العصر الجاهلي الّذين اشتهروا بشعر الخمر، ووصف مجالسها وآلاتها، ما كان له أثر في الشعراء بعده كالأخطل وأبي نواس. (2) . قال ابن مطرف الكناني في شرح هذا البيت: (يعرّض بجارية يقول: أيّ صيد أنت لمن حل له أن يصيدك، فأما أنا فإن حرمة الجوار قد حرّمتك عليّ) . وتجد شرحه في «شرح القصائد العشر» للإمام التبريزي ص 200 وقال بعض النحاة: إن «ما» زائدة والأصل يا شاة قنص.

أي ألصقتها به. وعلى ذلك قول الشاعر «1» . نمشّ «2» بأعراف الجياد أكفّنا إذا نحن قمنا عن شواء مضهّب أي نلصق أيدينا بأعرافها، كما نلصقها بالمناديل الّتي تمسح بها الأيدي. وقد صرّح بذلك الشاعر الاخر «3» فقال: أعرافهنّ لأيدينا مناديل والشاهد الأعظم على ذلك ما ورد في التنزيل من قوله سبحانه: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] على قراءة من قرأ: (وأرجلكم) جرّا. أي ألصقوا المسح بهذه المواضع. وهذه الآية يستدل بها أهل العراق على أنّ استيعاب الرأس بالمسح ليس بواجب، خلافا لقول مالك. وقال لي الشيخ أبو بكر محمد بن موسى «4» الخوارزمي- أدام الله توفيقه- عند بلوغي عليه في القراءة، من مختصر أبي جعفر الطّحاوي «5» إلى هذه المسألة: سألت أبا علي الفارسي النحوي «6» وأبا

_ (1) . هو امرؤ القيس بن حجر الكندي، أمير شعراء الجاهلية. (2) . في الأصل «نمس» بالسين المهملة وهو تحريف من الناسخ، كما أنه ترك كلمة مضهب بدون نقط على الضاد المعجمة. والبيت من بائية امرئ القيس الّتي يقول في مطلعها: خليليّ مرّا بي على أمّ جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذّب انظر ديوان امرئ القيس (تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم) ص 54. (3) . هو عبدة بن الطبيب الشاعر الجاهلي. والبيت كاملا هو. ثمّت قمنا إلى جرد مسوّمة ... أعرافهنّ لأيدينا مناديل ويقول ابن قتيبة في «الشعر والشعراء» : إنّه أخذه من قول امرئ القيس: نمش بأعراف الجياد أكفّنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهّب (4) . كدت أيأس من الحصول على ترجمة له إلى أن وجدته «في تاريخ بغداد» ج 3 ص 247. قالوا: ما شاهد الناس مثله في حسن الفتوى والإصابة فيها وحسن التدريس، وقد دعي إلى ولاية الحكم مرارا فامتنع منه. توفي سنة 403 هـ- أي قبل وفاة الشريف الرضي بثلاث سنوات. (5) . هو الإمام أبو جعفر الطّحاوي المصري، برع في الفقه والحديث، وإليه انتهت رئاسة الحنفية بمصر، وتفقّه في مذهب الإمام أبي حنيفة حتى صار إماما. توفي سنة 321 هـ-. (6) . هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي، كان إماما في النحو والعربية. وتقدّمت ترجمته في الهامش عند الكلام على سورة طه.

الحسن علي بن عيسى الرّمّاني «1» : هل يقتضي ظاهر الآية إلصاق الفعل بجميع المحل أو بالبعض؟ فقالا جميعا: إذا ألصق الفعل ببعض المحل تناوله الاسم. قال: وهذا يدل على الاقتصار، على مسح بعض الرأس كما يقوله أصحابنا. وقوله سبحانه: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) وهذه استعارة. والمراد بها- والله أعلم- أولي القوى في العبادة، والبصائر في الطاعة. ولا يجوز أن يكون المراد بالأبصار هاهنا الجوارح والحواس، لأن سائر الناس يشاركون الأنبياء عليهم السلام في خلق ذلك لهم. ولا يحسن مدح الإنسان بأن له يدا وقدما وعينا وفما. وإنّما يحسن أن يمدح بأن له نفسا شريفة، وهمّة منيفة، وأفعالا جميلة. وخلالا محمودة. وقيل أيضا معنى أُولِي الْأَيْدِي: أي أولي النّعم في الدّين، لأن ورود اليد بمعنى النعمة مشهور في كلامهم، فإنهم أسدوا إلى الناس أيديا بدعايتهم إلى الإيمان، وافتلاتهم من حبائل الضّلال. وأما قوله سبحانه وتعالى في هذه السورة: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [الآية 75] فقد مضى، من الكلام على قوله تعالى في يس: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) [يس] ، ما هو بعينه الكلام على هذا الموضع، فلا فائدة في إعادته. وجملته أنّ المراد بقوله تعالى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ مزيّة الاختصاص بخلق آدم عليه السلام من غير معونة معين، ولا مظاهرة ظهير.

_ (1) . هو مفسّر ونحوي كبير، ولد ببغداد وتوفي بها سنة 384 هـ وله كتب «التفسير» و «شرح أصول ابن السّرّاج» و «شرح سيبويه» و «معاني الحروف» وترجمته في بغية الوعاة» .

سورة الزمر 39

سورة الزّمر 39

المبحث الأول أهداف سورة"الزمر"

المبحث الأول أهداف سورة «الزّمر» «1» سورة «الزّمر» سورة مكية نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة، بعد الإسراء وقبيل الهجرة وآياتها 75 آية. نزلت بعد سورة «سبأ» ، وقد سميت سورة «الزّمر» بذلك الاسم، لقوله تعالى في آخرها: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً [الآية 71] . وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الآية 73] . وللسورة اسمان: سورة الزمر، وسورة «الغرف» ، لقوله تعالى: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ [الآية 20] . أدلّة التوحيد سورة الزمر تهزّ القلب هزّا، وتسكب فيه مؤثرات الإيمان بالله، وتستعرض أمامه أدلّة القدرة الإلهية، والجزاء العادل في الدنيا والاخرة، وتفتح باب الرجاء الأمل في رحمة الله ورضوانه، ومن آياتها الشهيرة قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) . ومنذ افتتاح السورة إلى نهايتها وهي تؤكد قضية التوحيد الخالص. ففي مطلع السورة: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ [الآية 3] .

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

ظل الاخرة

وفي خلال السورة نجد لمسات متوالية للقلوب والأفئدة، تعرض عليها أدلّة القدرة ومشاهد الكون، وخلق الليل والنهار، وإنزال المطر وإنبات النبات، وبدء الخليقة، ومراحل خلق الجنين، وطبيعة النفس في اللجوء إلى الله سبحانه في الضّرّاء، والإعراض عنه في السّرّاء، مع أن الموت قائم على رؤوس العباد. ظل الاخرة مشاهد الاخرة تظلل السورة وتسيطر على ختامها، حيث نجد الملائكة حافّين من حول العرش، ونرى المؤمنين يساقون إلى الجنة أفواجا وجماعات في تكريم إلهي، وسلام ونعيم في الخلود، ونرى الكفّار يساقون إلى جهنّم زمرا في مهانة وإذلال. «وظل الاخرة في السورة يتناسق مع جوّها، وأهداف اللّمسات الّتي تأخذ القلب البشري بها، فهذه اللمسات أقرب إلى جو الخشية والخوف والفزع والارتعاش، ومن ثمّ نجد الحالات الّتي ترسمها للقلب البشري هي حالات ارتعاشة وانتفاضة وخشية، نجد هذا في صورة القانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه، وفي صورة الّذين يخشون ربهم، حيث تقشعر جلودهم لهذا القرآن، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، كما نجده في التوجيه إلى التقوى، والخوف من العذاب والتخفيف منه، ثم نجده في مشاهد القيامة، وما فيها من فزع ومن خشية، وما فيها كذلك من إنابة وخشوع» . فقرات السورة 1- التوحيد في الآيات الأولى من السّورة المكوّنة لفقرتها الأولى، حثّ على إخلاص العبادة لله سبحانه، ثم نهي عن اتخاذ الأنداد والأولياء ثم نجد القرآن يلمس القلوب فيبين قدرة الله جلّ جلاله في خلق الناس من نفس واحدة، وتزويجها من جنسها، وخلق الأنعام أزواجا كذلك، وخلقهم في بطون أمهاتهم في ظلمات ثلاث، ومنحهم خصائص جنسهم البشري أوّل مرة، ثم منحهم خصائص البقاء والارتقاء. وقد استغرقت هذه الفقرة الآيات [1- 7] .

2 - أنواع الإنسان وحالته

2- أنواع الإنسان وحالته في الفقرة الثانية نجد أن الآيات [8- 20] قد لمست القلوب لمسة أخرى، وهي تعرض على الناس صورتهم في الضّرّاء وصورتهم في البأساء، وتريهم تقلّبهم وضعفهم وقلّة ثباتهم على نهج إلّا حين يتصلون بربهم ويتطلّعون إليه، ويقنتون له، فيعرفون الطريق، ويعلمون الحقيقة وينتفعون بما وهبهم الله من خصائص الإنسان. ثم وجّهت الآيات النبيّ (ص) إلى إعلان كلمة التوحيد الخالصة، وإعلان خوفه من معصية الله، وإعلان تصميمه على منهجه وطريقه، وتركهم هم لمنهجهم وطريقهم، وبيان عاقبة هذا الطريق وذلك يوم يكون الحساب. 3- في مظاهر القدرة في الآيات [21- 25] لفتة إلى حياة النبات في الأرض عقب إنزال الماء من السماء، ثم نهاية النبات في فترة وجيزة، وكذلك شأن الدنيا. ثم تشير الآيات إلى الكتاب المنزل من السماء، لتحيا به القلوب وتنشرح له الصدور مع تصوير لعاقبة المستجيبين لذكر الله، والقاسية قلوبهم من ذكر الله. ثم تضرب الآيات مثالا لمن يعبد إلها واحدا، ومن يعبد آلهة متعددة، وهما لا يستويان مثلا، ولا يتّفقان حالا، كما لا يستوي العبد الّذي يملكه سادة متنازعون، والعبد الّذي يعمل لسيد واحد لا يتنازع أحد فيه. ثم تضع حقيقة واقعة، وهي تعرّض الناس جميعا للموت والفناء، الرسول والمرسل إليهم وسيتنوع الجزاء يوم القيامة، فيجازى الكافرون في جهنم، ويجازى الصادقون المصدّقون جزاء المحسنين. 4- نقاش متنوع في الآيات [36- 61] نلمس قدرة القرآن الفائقة على إقامة الحجّة، وإقناع الإنسان، وأخذ السبيل على النفس البشرية حتى لا تجد بدّا من الإذعان والانقياد. وقد تناولت هذه الفقرة التوحيد من جوانب متعددة في لمسات متنوعة، تبدأ بتصوير حقيقة القلب المؤمن، وموقفه بإزاء قوى الأرض واعتداده بالقوة الوحيدة، واعتماده عليها دون مبالاة بسواها من القوى الضئيلة الهزيلة. ومن ثم ينفض يده من هذه القوى الوهمية، ويكل أمره وأمر

5 - الله مستحق للعبادة دون سواه

المجادلين له إلى يوم القيامة، ويمضي في طريقه ثابتا واثقا مستقيما بالمصير. يتلو هذا بيان الرسول (ص) وأنه ليس وكيلا على العباد في هداهم وضلالهم، وإنما الله سبحانه هو المسيطر عليهم، الأخذ بناصيتهم في كل حالة من حالاتهم، وليس لهم من دونه شفيع فإن الشفاعة لله جميعا، وإليه سبحانه ملك السماوات والأرض، وإليه المرجع والمصير. ثم تتعرّض الآيات لوصف المشركين وانقباض قلوبهم عند ذكر كلمة التوحيد، وانبساطها عند ذكر كلمة الشّرك وتعقّب على هذا بدعوة الرسول (ص) إلى إعلان كلمة التوحيد خالصة وترك أمور المشركين لله، وتصوّرهم يوم القيامة يودّون لو يفتدون بملء الأرض ومثله معه، وقد تكشّف لهم من الأمر ما يذهل ويخيف! وتعرض الآيات وضع الإنسان في حال الهلع والجزع، ثم في حال النعمة والرخاء فهو إذا أصابه الضّرّ دعا الله وحده، فإذا وهبه الله النّعم والرّخاء ادعى دعاوى عريضة، وقال: إنما أوتيته على علم عندي هذه الكلمة الّتي قالها من سبق من المتبطّرين والمتكبّرين، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وهو قادر على أن يبطش بكلّ جبّار عنيد، وما كان بسط الرزق وقبضه إلّا سنّة من سنن الله تجري وفق حكمته وتقديره، وهو وحده الباسط القابض بيده الخلق والأمر. والله سبحانه قد فتح أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة، ودعا العصاة إلى الإنابة والاستقامة، واتّباع منهج الحق والعدل من قبل أن يأتي يوم الحساب فتندم كل نفس ظالمة، وتتمنى أن تعود إلى الدنيا لتستدرك ما فاتها. وفي هذا اليوم تظهر الكآبة في وجوه الكافرين، ويظهر الفوز والسرور في وجوه المؤمنين. 5- الله مستحق للعبادة دون سواه تعرض الآيات الأخيرة في السورة [62- 75] ألوان قدرة الله وجلاله وتفرّده بالملك والتصرف في كل شيء. وإذا تبيّن لنا آثار هذه القدرة، ظهرت أمامنا دعوة المشركين للنبي (ص) إلى مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل أن يشاركوه عبادة إلهه، مستغربة مستنكرة، فكيف يعبد معه

سبحانه غيره؟ وله وحده مقاليد السماوات والأرض. وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (67) [الآية 67] . وهم يشركون به وهو وحده المعبود القادر القاهر. وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 67] . فهي في تصرفه وملكه كما يتصرف الإنسان فيما هو داخل قبضته. وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ. [الآية 67] . وستطوى هذه السماوات وتبدل بقدرته سبحانه. وبمناسبة تصوير هذه الحقيقة على هذا النحو يوم القيامة، يعرض مشهدا فريدا من مشاهد القيامة، ينتهي بموقف الملائكة حافّين من حول العرش يسبّحون بحمد ربّهم. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الزمر"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الزّمر» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «الزّمر» بعد سورة «سبأ» ، ونزلت سورة «سبأ» بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الزّمر» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في آخرها: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً [الآية 71] إلى قوله: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الآية 73] . وتبلغ آياتها خمسا وسبعين آية. الغرض منها وترتيبها ما يبرز لنا من أغراض هذه السورة الحثّ على إخلاص العبادة لله تعالى، والنهي عن اتخاذ الوسائل من الأولياء والأولاد ونحوهم، ولهذا يدور السياق فيها على إقامة الأدلة والآيات على بطلان هذا الاعتقاد. ووجه ارتباطها بسورة «ص» أنه ذكر فيها أن مشركي مكة اعتمدوا على ما جاء في النصرانية من التثليث واتخاذ الولد، فجاءت هذه السورة بعدها لإبطال ما اعتمدوا عليه من ذلك، والحث على إخلاص العبادة لله وحده. إبطال الوسائل من الأولياء والأولاد الآيات [1- 75] قال الله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) فذكر سبحانه

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

وتعالى، من قدرته وحكمته، ما يستغنى معه عن الأولياء والأولاد. ثم أمر النبي (ص) أن يخلص العبادة له، وأوعد من يتّخذون من دونه أولياء يعبدونهم ليقربوهم إليه بحكمه بينهم يوم القيامة ثم ذكر جلّ وعلا، أن كل ما عداه مخلوق له فيستحيل أن يكون له ولد منهم، لأن الولد يجب أن يجانس والده في الألوهية، فهو خالق السماوات والأرض، ومكوّر الليل على النهار والنهار على الليل، إلى غير هذا مما ذكره من خلقه ثم ذكر أنهم، إن يكفروا بعد ذلك، فهو غني عنهم، ولا تزر وازرة وزر أخرى، فلا شفاعة لولي أو ولد أو غيرهما مما يعبدونهم. ثم ذكر، سبحانه، أنه إذا مسّ الإنسان ضرّ لجأ إليه وحده، ونسي أولياءه وشفعاءه إليه، فإذا كشف الضّر عنه وصار في نعمة، نسيه واتّخذ له أندادا من الأولياء والشفعاء، ثم هدّد هذا الإنسان الجاحد الكافر بأنه سيتمتّع بكفره ثم يكون من أصحاب النار، لأنه لا يصح أن يستوي هو ومن يقنت إلى ربه ويعمل لآخرته، ولا يصح أن يستوي من يعلم أن العبادة لله وحده بمن لا يعلم ذلك، فيجب على المؤمنين أن يتّقوا ربهم وحده، وأن يكونوا أول المسلمين له، وليعبد غيرهم ما يشاءون من دونه، فسيكون لهم من العقاب ما يكون، وسيكون للّذين يخلصون العبادة له من الثواب ما يكون. ثم ذكر أنه، جلّت قدرته، هو الّذي أنزل المطر فسلكه ينابيع في الأرض، ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه، ثم يهيج فتراه مصفرّا، ثم يجعله حطاما ففي ذلك دليل أيضا على تفرّده سبحانه بالألوهية، وأنه لا يشاركه في ألوهيّته ما يتخذونه من الشفعاء والأولاد، ثم ذكر أنه لا يعرف هذا إلا من استنار قلبه بالإسلام ثم نوّه السياق بشأن القرآن الّذي يأتي بمثل هذا البيان، مما تقشعرّ منه الجلود، وتلين منه القلوب، وجمع في هذا بين الوعد والوعيد على نحو ما سبق. ثم ضرب مثلا لمن يتّخذ معه آلهة من الأولاد والأولياء بعبد فيه شركاء متشاكسون، فلا يمكنه أن يرضيهم كلهم وضرب مثلا لمن يعبد الله وحده بعبد خالص لرجل واحد،

فيسهل عليه أن يرضيه وذكر أن ما ضربه مثلا في الحالين يفهمه كل من عنده حظ من العلم، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون. ثم أكمل السياق، بعد هذا، نسق الوعد والوعيد على نحو ما سبق. ثم ذكر سبحانه أنه فيه وحده الكفاية لعبيده، فلا يصح أن يخاف من الشفعاء الّذين يخوّف المشركون بهم، وذكر أنهم لو سئلوا عن خالق السماوات والأرض لأجابوا بأنه هو الّذي خلقها، وإذا كان هذا شأنه فإنه إذا أراد أحدا بضرّ لا يكشفه شفعاؤهم، وإذا أراد أحدا برحمة لا يمكنهم أن يمسكوها عنه. ثم أكمل السياق، بعد هذا، نسق الوعد والوعيد على نحو ما سبق. ثم ذكر جلّ وعلا أنهم يتخذون هؤلاء الشفعاء من الأصنام، لأنها تماثيل لأشخاص كانوا من المقربين عنده، لينفعوا بشفاعتها وشفاعة أصحابها لهم ورد عليهم بأن أولئك المقربين عبيد لا يملكون من أمره شيئا، وتلك الأصنام من الجماد الّذي لا يعقل، فلا شفاعة إلا لله وحده. ثم ذكر أنهم، مع هذا، إذا ذكر سبحانه وحده اشمأزّت قلوبهم، وإذا ذكر الّذين يتخذونهم شفعاء من دونه فرحوا واستبشروا، وهذا تناقض عجيب منهم، وأوعدهم على ذلك بما أوعدهم به، وبيّن أنهم يفعلون ذلك في حال النعمة والرخاء، فإذا مسّهم ضرّ توجّهوا إليه جلّ جلاله وحده بالدعاء، ولا يلبثون، إذا كشفه عنهم، أن يعودوا إلى ما كانوا عليه، فينسبوا ما أوتوه من نعمة إلى علمهم بالأفلاك. ولا يعلمون أنه سبحانه هو الّذي يبسط الرزق لمن يشاء، ويقبضه عمّن يشاء. ثم تلطف في دعوتهم، فذكر أنهم أسرفوا بذلك على أنفسهم، ونهاهم أن يقنطوا مع ذلك من رحمته، لأنه يغفر الذنوب جميعا بالتوبة عنها، إلى غير هذا مما ذكره في ذلك الأسلوب من دعوتهم. ثم ذكر سبحانه أنه خالق كل شيء وله مقاليد السماوات والأرض، وأمر النبيّ (ص) أن يخبرهم بأنه لا يصحّ مع هذا أن يطيعهم فيما يأمرونه به من عبادة أوليائهم وشفعائهم. ثم أكمل السياق، بعد هذا، نسق الوعد والوعيد على نحو ما سبق، إلى أن ذكر سبحانه

أن الّذين كفروا يساقون إلى جهنم زمرا فيقابلهم خزنتها بما يقابلونهم به، وأن الّذين اتقوا ربهم يساقون إلى الجنة زمرا، فيقابلهم خزنتها بما يقابلونهم به، ويحمدون الله الّذي صدقهم وعده، وأورثهم الأرض يتبوّءون من الجنّة حيث يشاءون، فنعم أجر العاملين وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الزمر"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الزّمر» «1» لا يخفى وجه اتصال أولها باخر «ص» ، حيث قال سبحانه في «ص» : إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) ثم قال هنا: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ [الآية 1] فكأنه قيل: هذا الذكر تنزيل. وهذا تلاؤم شديد، بحيث أنه لو أسقطت البسملة لالتأمت الآيتان في السورتين كالآية الواحدة. وقد ذكر الله تعالى في آخر «ص» قصة خلق آدم (ع) «2» ، وذكر في صدر هذه قصة خلق زوجه، وخلق الناس كلّهم منه، وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق، ثم ذكر أنهم ميّتون، ثم ذكر وفاة النوم والموت، ثم ذكر القيامة، والحساب، والجزاء، والنار، والجنة «3» . وقال جلّ وعلا: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) . فذكر أحوال الخلق، من المبدأ إلى المعاد، متّصلا بخلق آدم المذكور في السورة الّتي قبلها.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . قصّة خلق آدم في ص في قوله تعالى: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) [ص] إلى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) [ص] . [.....] (3) . بدأ ذكر هذه الموضوعات في الزمر، بقوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الآية 6] ، وقوله سبحانه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) وقوله جلّ وعلا: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الآية 42] . وقوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً [الآية 71] ، الى آخر السورة. فلو قدّمت الزمر على «ص» ، لاختل النسق القرآني الّذي أحكمه الله تعالى.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الزمر"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الزّمر» «1» 1- وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ [الآية 33] . قال قتادة: هو النبي (ص) . وقال السّدّي: هو جبريل. 2- وَصَدَّقَ بِهِ [الآية 33] . هو النبيّ (ص) أخرجهما ابن أبي حاتم. 3- أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الآية 36] . قال السّدّي: هو محمد (ص) أخرجه ابن أبي حاتم. 4- إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الآية 68] . قال كعب الأحبار: هم اثنا عشر: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، وحملة العرش ثمانية. أخرجه ابن أبي حاتم. ورد ذلك من حديث أنس مرفوعا أخرجه الفريابي.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الزمر"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الزّمر» «1» قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الآية 23] . قوله تعالى: مَثانِيَ جمع مثنى، وهو بيان لكونه متشابها، لأنّ القصص المكرّرة لا تكون إلّا متشابهة، فكأن المراد: مردّدة ومكررة. 2- وقال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ [الآية 29] . أي: متنازعون. أقول: والتشاكس والمشاكسة في لغة العصر ضرب من الشّغب والشّقاق والفتنة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الزمر"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الزّمر» «1» قال تعالى: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ [الآية 12] أي: وبذلك أمرت. وقال: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الآية 17] لأنّ (الطاغوت) في معنى جماعة. وقال أيضا: أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ (257) [البقرة] وإن شئت جعلته واحدا مؤنّثا. وقال سبحانه: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الآية 19] أي: أفأنت تنقذه. وقال أيضا: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الآية 22] بجعل قوله سبحانه: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ [الآية 22] مكان الخبر. وقال: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ [الآية 24] فهذا لم يظهر له خبر في اللفظ، ولكنه في المعنى، والله أعلم، كأن السياق «أفمن يتّقي بوجهه أفضل أم من لا يتّقي» . وقال تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الآية 28] لأن قوله سبحانه: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الآية 27] معرفة فانتصب خبره. وقال: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ [الآية 33] ثم قال أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) بجعل (الّذي) في معنى جماعة بمنزلة «من» . وقال تعالى: وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الآية 60] بالرفع على الابتداء، ونصب بعضهم على البدل. وكذلك

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ [الأنفال 37] بجعله بدلا من (الخبيث) ومنهم من قرأ (بعضه على بعض) فرفع على الابتداء. أو شغل الفعل بالأول. وقرأ بعضهم: (مسوادّة) وهي لغة لأهل الحجاز يقولون: «اسوادّ وجهه» و «احمارّ» يجعلونه «افعالّ» كما تقول للأشهب «قد اشهابّ» وللازرق «قد ازراقّ» . وقال بعضهم لا يكون «افعالّ» في ذي اللون الواحد، وإنّما يكون في نحو الأشهب، ولا يكون في نحو الأحمر، وهما لغتان. وقال تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الآية 64] أي «أفغير الله أعبد تأمرونني» كأن السياق أراد الإلغاء، والله أعلم، كما تقول «هل ذهب فلان. تدري» جعله على معنى «ما تدري» . وقال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الآية 65] . وقال: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الآية 75] ف مِنْ أدخلت هاهنا توكيدا، والله أعلم، نحو قولك: «ما جاءني من أحد» وثقّلت حَافِّينَ لأنها من «حففت» . وقال تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الآية 73] فيقال إن قوله سبحانه وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها [الآية 73] في معنى «قال لهم» كأن السياق يلقي الواو. وقد جاء في الشعر شيء يشبه أن تكون الواو زائدة فيه. قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد الخامس بعد المائة] : فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن ... إلّا كلمّة حالم بخيال فيشبه أن يكون يريد «فإذا ذلك لم يكن» . وقال بعضهم: «أضمر الخبر» وإضمار الخبر أحسن في الآية أيضا، وهو في الكلام. وقال تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الآية 67] أي: «في قدرته» نحو قوله جلّ وعلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (25) [النساء] أي: وما كانت لكم عليه قدرة، وليس الملك لليمين دون الشمال وسائر البدن. وأما قوله سبحانه قَبْضَتُهُ فنحو قولك للرجل: «هذا في يدك وفي قبضتك» .

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الزمر"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الزّمر» «1» إن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) وكم من كاذب كفّار قد هداه الله تعالى فأسلم وصدق؟ قلنا: معناه لا يهديه إلى الإيمان مادام على كفره وكذبه. وقيل معناه: لا يهديه إلى حجّة يلزم بها المؤمنين. فإن قيل: كيف نستنتج أن في قوله تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ (4) [الآية 4] ردّا لقول من ادّعى أن له ولدا، وإبطالا لذلك، مع أنّ كل من نسب إليه سبحانه ولدا قال إنه اصطفاه من خلقه بجعله ولدا فاليهود يدّعون أنه عزير، والنصارى يدّعون أنه المسيح بن مريم عليهما السلام، وطائفة من مشركي العرب يدعون أن الملائكة بنات الله تعالى؟ قلنا: هذا إن جعل ردّا على اليهود والنصارى كان معناه لاصطفى الولد من الملائكة لا من البشر، لأنّ الملائكة أشرف من البشر بلا خلاف بين اليهود ولا بين النصارى وإن كان ردّا على مشركي العرب كان معناه لاصطفى له ولدا من جنس يخلق كل شيء يريده ليكون ولدا موصوفا لصفته، ولم يصطف من الملائكة الّذين لا يقدرون على إيجاد جناح بعوضة ولا يردّ على هذا خلق عيسى (ع) الطير لأنه ليس بعام، أو لأن معنى خلقه التقدير من الطين، ثم إنّ الله تعالى يخلقه حيوانا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

بنفخ عيسى عليه السلام وإظهارا لمعجزته. فإن قيل: لم قال تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الآية 6] وخلق حواء من آدم (ع) سابق على خلقنا منه، فكيف عطفه عليه بكلمة «ثمّ» ؟ قلنا: «ثم» هنا للترتيب في الإخبار لا في الإيجاد، كما تقول لصاحبك أعطيتك اليوم كذا ثم أعطيتك أمس أكثر منه: أي ثم أخبرك بكذا، ومنه قول الشاعر: إنّ من ساد ثمّ ساد أبوه ثمّ قد ساد قبل ذلك جدّه الثاني: أن «ثم» متعلقة بمعنى واحِدَةٍ وعاطفة عليه لا على خَلَقَكُمْ، فمعناه خلقكم من نفس واحدة، وأفردت بالإيجاد ثم شفعت بزوج. الثالث: أن «ثم» على ظاهرها، لأن الله تعالى خلق آدم ثم أخرج أولاده من ظهره كالذّر، وأخذ عليهم الميثاق ثم ردهم إلى ظهره، ثم خلق منه حواء فالمراد بقوله تعالى خلقكم خلقا يوم أخذ الميثاق دفعة واحدة، لأن هذا الخلق الّذي نحن فيه بالتوالد والتناسل. فإن قيل: لم قال تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الآية 6] مع أن الأنعام مخلوقة في الأرض لا منزلة من السماء؟ قلنا: قيل إن الله تعالى خلق الأزواج الثمانية في الجنّة ثم أنزلها على آدم (ع) بعد إنزاله. الثاني: أن الله تعالى أنزل الماء من السماء، والأنعام لا توجد إلا بوجود النبات، والنبات لا يوجد إلا بوجود الماء، فكأن الأنعام منزلة من السماء، ونظيره قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ [الأعراف: 26] وإنما أنزل الماء الّذي لا يوجد القطن والكتان والصوف إلّا به. فإن قيل: لم قال تعالى في وصف الّذي جاء بالصدق وصدق به: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) مع أنه سبحانه وتعالى يكفّر عنهم سيّئ أعمالهم ويجزيهم بحسنها أيضا؟ قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة التوبة. فإن قيل: لم قال تعالى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً [الآية 44] مع أنه جاء في الأخبار أن للأنبياء والعلماء

والشهداء والأطفال شفاعة يوم القيامة؟ قلنا: معناه أن أحدا لا يملكها إلّا بتمليكه، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] وقال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى (28) [الأنبياء: 28] . فإن قيل: لم ذكّر الضمير في أوتيته وهو للنعمة في قوله تعالى: ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ [الآية 49] ؟ قلنا: إنما ذكّره نظرا إلى المعنى، لأن معنى «نعمة» : «شيئا من النعمة وقسما منها» ، أو لأن النعمة والإنعام بمعنى واحد. فإن قيل: لم قال تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الآية 55] والقرآن كلّه حسن؟ قلنا: معناه اتّبعوا أحسن وحي أو كتاب أنزل إليكم من ربّكم، وهو القرآن كله. وقيل أحسن القرآن الآيات المحكمات. وقيل أحسنه كل آية تضمنت أمرا بطاعة أو إحسان وقد سبق نظير هذه الآية في سورة الأعراف في قوله تعالى: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها [الأعراف: 145] والأجوبة المذكورة ثمّة تصلح هنا، وكذا الأجوبة المذكورة هنا تصلح ثمّة، إلا الجواب الأول. فإن قيل: لم قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ [الآية 65] مع أن الموحى إليهم جماعة، ولما أوحي إلى من قبله لم يكن في الوحي إليهم خطابه؟ قلنا: معناه الأول: ولقد أوحي إلى كل واحد منك ومنهم: لئن أشركت. الثاني: أن فيه إضمارا تقديره: ولقد أوحي إليك وإلى الّذين من قبلك التوحيد، ثم ابتدئ فقيل لئن أشركت. والثالث: أن فيه تقديما وتأخيرا تقديره: ولقد أوحي إليك لئن أشركت، وكذلك أوحي إلى الّذين من قبلك. فإن قيل: لم عبّر سبحانه عن الذهاب بأهل الجنة والنار بلفظ السّوق في قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 71] وفي قوله سبحانه وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [الآية 73] والتعبير في الآيتين يحمل ضربا من الإهانة؟ قلنا: المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف، كما يفعل

بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم حثّا وإسراعا بهم إلى دار الكرامة والرضوان، كما يفعل بمن يشرّف ويكرم من الوافدين على السلطان، فشتان ما بين السّوقين. فإن قيل: لم قال تعالى في وصف النار: فُتِحَتْ أَبْوابُها [الآية 71] بغير واو، وقال في صفة الجنة: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الآية 73] بالواو؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها أنها زائدة، قاله الفرّاء وغيره. الثاني: أنها واو الثمانية وأبواب الجنة ثمانية. الثالث: أنها واو الحال، معناه: جاءوها وقد فتحت أبوابها قبل مجيئهم، بخلاف أبواب النار فإنها إنّما تفتح عند مجيئهم. والحكمة في ذلك من وجوه: أحدها أن يستعجل أهل الجنة الفرح والسرور إذا رأوا الأبواب مفتّحة، وأهل النار يأتون النار وأبوابها مغلّقة ليكون أشدّ لحرّها. الثاني أنّ الوقوف على الباب المغلق نوع ذل وهوان، فصين عنه أهل الجنة لا أهل النار. الثالث: أن الكريم يعجّل المثوبة ويؤخّر العقوبة، فلو وجد أهل الجنة بابها مغلقا لأثّر انتظار فتحه في كمال الكريم، بخلاف أهل النار.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الزمر"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الزّمر» «1» قوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الآية 5] . هذه استعارة. والمعنى يعلي هذا على هذا. وذلك مأخوذ من قولهم: كار العمامة على رأسه يكورها: إذا أدارها عليه. وقد قالوا: طعنه فكوّره، أي صرعه. ومنه قول أبي كبير الهذلي: «2» متكوّرين على المعاري بينهم ضرب كتعطاط المزاد الأنجل ومنه الحديث المأثور: (نعوذ بالله من الحور بعد الكور) «3» أي من الإدبار بعد الإقبال. وقيل من القلة بعد الكثرة. لأنهم يسمّون القطيع الكثير من البقر وغيرها كورا. ومنه قول أبي ذؤيب «4» في صفة الثور:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . أبو كبير الهذلي هو عامر بن الحليس. وهو شاعر جاهلي. وله ترجمة في «الشعر والشعراء» و «الإصابة» والخزانة» واللئالي» . وزعموا أنه تزوج أم الشاعر «تأبّط شرّا» ، وكان هذا غلاما صغيرا، فلمّا رآه يكثر الدخول على أمه تنكّر له. والقصة كاملة في كتاب «ديوان الهذليين» ج 2 ص 88 ومتكوّرين أي بعضهم على بعض، والمعاري السوآت. والتعطاط من العط، وهو الشق، والأنجل الواسع. (3) . في «أساس البلاغة» : «وأعوذ بالله من الحور بعد الكور» . والباطل في حور- بالضم- وهما النقصان، كالهون والهون. والحديث كاملا في «المجازات النبوية» طبع القاهرة. صفحة 113، ونصه: «اللهمّ إنّا نعوذ بك من وعثاء السفر. وكابة المنقلب، والحور بعد الكور. وسوء المنظر في الأهل والمال» . (4) . هو أبو ذؤيب الهذلي خويلد بن خالد، جاهلي إسلامي، وكان راوية للشاعر الهذلي ساعدة بن جؤيّة. وقالوا: إنه خرج مع عبد الله بن الزّبير في مغزى نحو المغرب فمات. وهو صاحب العينية المشهورة الّتي يرثي بها سبعة من أبنائه ماتوا في يوم واحد، ومطلعها: أمن المنون وريبها نتوجع ... والدّهر ليس بمعتب من يجزع وشعره في «ديوان الهذليين» طبع دار الكتاب المصرية.

ولا شبوب من الثيران أفرده عن كوره كثرة الإغراء والطّرد أي عن سربه الكثير. فيجوز أن يكون معنى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ على قول من يقول: طعنه فكوّره، يريد: فصرعه. أي يلقي الليل على النهار، ويلقي النهار على الليل. ويكون المعنى على قول من يذهب إلى أن الكور اسم للكثرة، أي يكثر أجزاء الليل على أجزاء النهار، حتى يخفي ضوء النهار وتغلب ظلمة الليل. ويكوّر النهار على الليل: أي يكثر أجزاء النهار، حتى تظهر وتنتشر وتتلاشى فيها أجزاء الليل وتضمحل. وقوله سبحانه: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الآية 42] وفي هذا الكلام استعارة خفيّة. وذلك أنّ قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ 2 مَوْتِها أي يقبضها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها منسوق تعبير. فظاهر الخطاب يقتضى أنه سبحانه يتوفّى الأنفس الّتي لم تمت في منامها أيضا. ونحن نجد أمارة بقاء نفس النائم في جسده بأشياء كثيرة. منها ظهور التنفس والحركة وحذف لسانه بالكلمة بعد الكلمة، وغير ذلك مما يجري مجراه. فيكون معنى توفّي النفس النائمة هاهنا اقتطاعها عن الأفعال التمييزية، والحركات الإرادية، كالعزوم «1» والقصود وترتيب القيام والقعود، إلى غير ذلك ممّا في معناه. وقال بعضهم: الفرق بين قبض النوم وقبض الموت أن قبض النوم يضادّ اليقظة وقبض الموت يضادّ الحياة. وقبض النوم تكون الروح معه في البدن، وقبض الموت تخرج الروح معه من البدن. وقوله سبحانه: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) وهذه

_ (1) . جمع عزم وهو ما يعزم الإنسان عليه من قصد ونيّة.

استعارة. وقد اختلف في المراد بالجنب هاهنا. فقال قوم: معناه في ذات الله. وقال قوم: معناه في طاعة الله، وفي أمر الله. لأنه ذكر الجنب على مجرى العادة في قولهم: هذا الأمر مغال في جنب ذلك الأمر أي في جهته. لأنه إذا عبّر عنه بهذه العبارة دل على اختصاصه به من وجه قريب من معنى صفته. وقال بعضهم: معنى فِي جَنْبِ اللَّهِ أي في سبيل الله، أو في الجانب الأقرب إلى مرضاته، بل الأوصل إلى طاعاته. ولمّا كان الأمر كلّه يتشعّب إلى طريقين: إحداهما هدى ورشاد، والأخرى غيّ وضلال، وكلّ واحد منهما مجانب لصاحبه، أو هو في جانب، والاخر في جانب، وكان الجنب والجانب بمعنى واحد، حسنت العبارة هاهنا عن سبيل الله بجنب الله، على النحو الّذي ذكرناه. وقوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 63] وهذه استعارة. والمقاليد: المفاتيح. قال أبو عبيدة: واحدها مقليد، وواحد الأقاليد إقليد. وهما بمعنى واحد وقال غيره: واحدها قلد على غير قياس. وقال أبو عمرو بن العلاء «1» : وجهه في العربية أن يكون الواحد على لفظ مقلد، ثم تجمع على «مقالد» فمن شاء أن يشبع كسرة اللام قال: «مقاليد» كما قالوا: درهم ودراهيم. قال: وسمعت أبا المنذر يقول: واحد المفاتيح مفتاح. وواحد المفاتح مفتح والمعنيان جميعا واحد. والمراد بمقاليد السماوات والأرض هاهنا، والله أعلم، أي مفاتيح خيراتهما، ومعادن بركاتهما، من إدرار الأمطار، وإيراق الأشجار، وسائر وجوه المنافع، وعوائد المصالح. وقد وصف سبحانه السماء في عدة مواضع بأنّ لها خزائن وأبوابا، فحسن على مقتضى الكلام أن توصف بأن لها مقاليد وأغلاقا. قال سبحانه: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [الأعراف: 40] وقال تعالى:

_ (1) . هو زبّان بن عمار التميمي البصري. كان إماما في اللغة والأدب والشعر ورواية الأخبار. وقد تلقى أخباره عن أعراب أدركوا الجاهلية. توفي بالكوفة سنة 154 هـ.

فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) [القمر] وقال عزّ من قائل: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [المنافقون: 7] . وقالوا: خزائن السماوات الأمطار، وخزائن الأرض النبات. وقد يجوز أن يكون معنى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي طاعة السماوات والأرض ومن فيهن. كما يقال: ألقى فلان إلى فلان مقاليده، أي: أطاعه، وفوّض إليه أمره. وعلى ذلك قول الأعشى: «1» فتى لو ينادي الشّمس ألقت قناعها أو القمر السّاري لألقى المقالدا أي لسلّم العلوّ إليه، واعتراف له به. وقال بعض العلماء: ليس قول الشاعر هاهنا: ينادي الشمس، من النداء الّذي هو رفع الصوت، وإنّما هو من المجالسة. تقول: ناديت فلانا، إذا جالسته في النادي. فكأنه قال: لو يجالس الشمس لألقت قناعها شغفا به، وتبرّجا له. وهذا من غريب القول. وقوله سبحانه: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الآية 67] وهاتان استعارتان. ومعنى قبضته هاهنا أي ملك له خالص، قد ارتفعت عنه أيدي المالكين من بريّته، والمتصرّفين فيه من خليقته. وقد ورث تعالى من عباده ما كان ملّكهم في دار الدنيا من ذلك، فلم يبق ملك إلّا انتقل، ولا مالك إلّا بطل. وقيل أيضا: معنى ذلك أن الأرض في مقدوره، كالذي يقبض عليه القابض، فتستولي عليه كفّه، ويحوزه ملكه، ولا يشاركه فيه غيره. ومعنى قوله تعالى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي مجموعات في ملكه، ومضمومات بقدرته. واليمين هاهنا بمعنى الملك. يقول القائل: هذا ملك يميني. وليس يريد اليمين الّتي هي الجارحة. وقد يعبّرون عن القوة أيضا باليمين. فيجوز على هذا التأويل أن يكون معنى قوله سبحانه: مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي يجمع أقطارها ويطوي انتشارها بقوته، كما قال سبحانه:

_ (1) . البيت من قصيدة للأعشى يمدح بها «هوذة بن علي الحنفي» ويذم «الحارث بن وعلة بن مجالد الرقاشي» . ومطلعها: أجدّك ودّعت الصّبا والولائدا ... وأصبحت بعد الجور فيهنّ قاصدا

يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104] وقيل في اليمين هاهنا وجه آخر. وهو أن تكون بمعنى القسم. لأنه سبحانه لما قال: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) [الأنبياء] كان التزامه تعالى فعل ما أوجبه على نفسه بهذا الوعد، كأنه قسم أقسم به، ليفعلنّ ذلك. فأخبر سبحانه في هذا الموضع من السورة الأخرى أن السّماوات مطويّات بيمينه، أي بذلك الوعد الّذي ألزم به نفسه سبحانه. وجرى مجرى القسم الّذي لا بد من أن يقع الوفاء به، والخروج منه. والاعتماد على القولين المتقدمين أولى.

الفهرس

الفهرس سورة الروم المبحث الأول 3 أهداف سورة «الروم» 3 سبب نزول السورة 3 فصلان مترابطان 4 الأفكار العامة للسورة 5 عالمية الدعوة الاسلامية 6 المبحث الثاني 7 ترابط الآيات في سورة «الروم» 7 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 7 الغرض منها وترتيبها 7 تسلية المؤمنين 8 وسائل تثبيتهم 8 المبحث الثالث 11 أسرار ترتيب سورة «الروم» 11 المبحث الرابع 13 مكنونات سورة «الروم» 13

سورة"لقمان"

المبحث الخامس 15 لغة التنزيل في سورة «الروم» 15 المبحث السادس 17 المعاني اللغوية في سورة «الروم» 17 المبحث السابع 19 لكل سؤال جواب في سورة «الروم» 19 المبحث الثامن 23 المعاني المجازية في سورة «الروم» 23 سورة «لقمان» المبحث الأول 29 أهداف سورة «لقمان» 29 فقرات السورة 30 الجولة الاولى 30 الجولة الثانية 31 الجولة الثالثة 31 المبحث الثاني 33 ترابط الآيات في سورة «لقمان» 33 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 33 الغرض منه وترتيبها 33 التنويه بحكمة القرآن 34 بيان حكمة لقمان 34 الدعوة إلى ما اتفقت عليه الحكمتان 34

سورة"السجدة"

المبحث الثالث 37 أسرار ترتيب سورة «لقمان» 37 المبحث الرابع 39 مكنونات سورة «لقمان» 39 المبحث الخامس 41 لغة التنزيل في سورة «لقمان» 41 المبحث السادس 43 المعاني اللغوية في سورة «لقمان» 43 المبحث السابع 45 لكل سؤال جواب في سورة «لقمان» 45 المبحث الثامن 49 المعاني المجازية في سورة «لقمان» 49 سورة «السجدة» المبحث الأول 55 أهداف سورة «السجدة» 55 أسماء السورة 55 مخاطبة القلوب 55 أفكار السورة ونظامها 56 المبحث الثاني 59 ترابط الآيات في سورة «السجدة» 59 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 59 الغرض منها وترتيبها 59

سورة"الأحزاب"

إثبات تنزيل القرآن 60 أخذهم بالترغيب والترهيب إلى الايمان به 60 المبحث الثالث 63 أسرار ترتيب سورة «السجدة» 63 المبحث الرابع 65 مكنونات سورة «السجدة» 65 المبحث الخامس 67 لغة التنزيل في سورة «السجدة» 67 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «السجدة» 69 المبحث السابع 71 لكل سؤال جواب في سورة «السجدة» 71 المبحث الثامن 75 المعاني المجازية في سورة «السجدة» 75 سورة «الأحزاب» المبحث الأول 81 أهداف سورة «الأحزاب» 81 أحداث السّورة 81 فصول السورة 82 غزوة الأحزاب وبني قريظة 83 زوجات الرسول (ص) 85 قصة زينب بنت جحش 85

أدب بيت النبوة 87 تحمل الإنسان للأمانة 88 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 91 المبحث الثاني 91 ترابط الآيات في سورة «الأحزاب» 91 الغرض منها وترتيبها 91 إبطال تبني زيد بن حارثة 91 أمر النبي بتخيير نسائه 93 تزويج النبي مطلّقة زيد 93 إرشاد النبي إلى آداب عامة 94 خصائص النبي في أزواجه 94 إرشاد النبي إلى ما يجب ستره من نسائه وغير هن 95 المبحث الثالث 97 أسرار ترتيب سورة «الأحزاب» 97 المبحث الرابع 99 مكنونات سورة «الأحزاب» 99 المبحث الخامس 103 لغة التنزيل في سورة «الأحزاب» 103 المبحث السادس 107 المعاني اللغوية في سورة «الأحزاب» 107 المبحث السابع 109 لكل سؤال جواب في سورة «الأحزاب» 109 المبحث الثامن 117 المعاني المجازية في سورة «الأحزاب» 117

سورة"سبأ"

سورة «سبأ» المبحث الأول 121 أهداف سورة «سبأ» 121 موضوعات السورة 121 فصول السورة 123 1- الألوهيّة وإثبات البعث 123 2- داود وسليمان 123 3- قصة سبأ 124 4- الشرك والتوحيد 125 5- مشاهد القيامة والجزاء 125 6- الدعوة الى التأمّل والتفكّر 126 المبحث الثاني 129 ترابط الآيات في سورة «سبأ» 129 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 129 الغرض منها وترتيبها 129 الاعتراض الأول على يوم القيامة 129 الاعتراض الثاني على يوم القيامة 130 الاعتراض الثالث والرابع على يوم القيامة 130 الخاتمة 131 المبحث الثالث 133 أسرار ترتيب سورة «سبأ» 133 المبحث الرابع 135 مكنونات سورة «سبأ» 135 المبحث الخامس 137 لغة التنزيل في سورة «سبأ» 137

سورة"فاطر"

المبحث السادس 139 المعاني اللغوية في سورة «سبأ» 139 المبحث السابع 141 لكل سؤال جواب في سورة «سبأ» 141 المبحث الثامن 143 المعاني المجازية في سورة «سبأ» 143 سورة «فاطر» المبحث الأول 147 أهداف سورة «فاطر» 147 موضوعات السورة 147 سياق السورة 148 فقرات السورة 148 1- رحمة الله وفضله 148 2- آيات الله في الكون 149 3- الله غني عن عبادتنا 149 4- كتابان إلهيان 150 5- دلائل الإيمان 150 المبحث الثاني 153 ترابط الآيات في سورة «فاطر» 153 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 153 الغرض منها وترتيبها 153 اختصاص الله تعالى بالحمد 153 آيات تدل على اختصاصه بالحمد 154

سورة"يس"

المبحث الثالث 157 أسرار ترتيب سورة «فاطر» 157 المبحث الرابع 159 مكنونات سورة «فاطر» 159 المبحث الخامس 161 لغة التنزيل في سورة «فاطر» 161 المبحث السادس 163 المعاني اللغوية في سورة «فاطر» 163 المبحث السابع 165 لكل سؤال جواب في سورة «فاطر» 165 المبحث الثامن 167 المعاني المجازية في سورة «فاطر» 167 سورة «يس» المبحث الأول 171 أهداف سورة «يس» 171 مقصود السورة 171 ملامح السورة 172 فصول السورة 173 1- رسالة ورسول 173 قصة أصحاب القرية 174 2- أدلة الايمان 174 3- وحي لا شعر 175

سورة"الصافات"

المبحث الثاني 177 ترابط الآيات في سورة «يس» 177 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 177 الغرض منها وترتيبها 177 حاجتهم إلى رسول لإنذارهم 177 إثبات قدرته على عذابهم 178 المبحث الثالث 181 أسرار ترتيب سورة «يس» 181 المبحث الرابع 183 مكنونات سورة «يس» 183 المبحث الخامس 185 لغة التنزيل في سورة «يس» 185 المبحث السادس 189 المعاني اللغوية في سورة «يس» 189 المبحث السابع 191 لكل سؤال جواب في سورة «يس» 191 المبحث الثامن 195 المعاني المجازية في سورة «يس» 195 سورة «الصافات» المبحث الأول 201 أهداف سورة «الصافات» 201 مقصود السورة 201

سياق السورة 202 1- وصف الملائكة ومشاهد الاخرة 202 2- قصص الأنبياء 203 3- أسطورة تعقبها الحقيقة 203 المبحث الثاني 205 ترابط الآيات في سورة «الصافات» 205 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 205 الغرض منها وترتيبها 205 إبطال الشرك 206 أخذ المشركين بالترهيب والترغيب 206 إبطال نبوة الملائكة والجن 207 المبحث الثالث 209 أسرار ترتيب سورة «الصافات» 209 المبحث الرابع 211 مكنونات سورة «الصافات» 211 المبحث الخامس 213 لغة التنزيل في سورة «الصافات» 213 المبحث السادس 215 المعاني اللغوية في سورة «الصافات» 215 المبحث السابع 217 لكل سؤال جواب في سورة «الصافات» 217 المبحث الثامن 223 المعاني المجازية في سورة «الصافات» 223

سورة"ص"

سورة «ص» المبحث الأول 227 أهداف سورة «ص» 227 مقاصد السورة 227 قضايا السورة 227 1- شبهات الكافرين 228 2- قصص الأنبياء 228 3- النعيم والجحيم 229 سجود الملائكة لآدم 229 المبحث الثاني 231 ترابط الآيات في سورة «ص» 231 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 231 الغرض منها وترتيبها 231 إنذار الكفار بعقاب الدنيا والاخرة 231 العهد القديم بعقاب الكافرين 232 المبحث الثالث 235 أسرار ترتيب سورة «ص» 235 المبحث الرابع 237 مكنونات سورة «ص» 237 المبحث الخامس 239 لغة التنزيل في سورة «ص» 239 المبحث السادس 243 المعاني اللغوية في سورة «ص» 243

سورة"الزمر"

المبحث السابع 245 لكل سؤال جواب في سورة «ص» 245 المبحث الثامن 249 المعاني المجازية في سورة «ص» 249 سورة «الزّمر» المبحث الأول 255 أهداف سورة «الزّمر» 255 أدلّة التوحيد 255 ظل الاخرة 256 فقرات السورة 256 1- التوحيد 256 2- أنواع الإنسان وحالته 257 3- في مظاهر القدرة 257 4- نقاش متنوع 257 5- الله مستحق للعبادة دون سواه 258 المبحث الثاني 261 ترابط الآيات في سورة «الزّمر» 261 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 261 الغرض منها وترتيبها 261 إبطال الوسائل من الأولياء والأولاد 261 المبحث الثالث 265 أسرار ترتيب سورة «الزّمر» 265

المبحث الرابع 267 مكنونات سورة «الزّمر» 267 المبحث الخامس 269 لغة التنزيل في سورة «الزّمر» 269 المبحث السادس 271 المعاني اللغوية في سورة «الزّمر» 271 المبحث السابع 273 لكل سؤال جواب في سورة «الزّمر» 273 المبحث الثامن 277 المعاني المجازية في سورة «الزّمر» 277

الجزء الثامن

الجزء الثامن سورة غافر 40 المبحث الأول أهداف سورة «غافر» «1» سورة «غافر» سورة مكية، نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين في مكة، بعد الإسراء وقبيل الهجرة. وآياتها 85 آية نزلت بعد سورة «الزمر» . أربعة أسماء: تسمى هذه السورة سورة «غافر» ، لقوله تعالى في أوّلها: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ [الآية 3] . وتسمى سورة «المؤمن» لاشتمالها على حديث مؤمن آل فرعون «واسمه خربيل» في قوله تعالى: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الآية 28] . وسورة «الطّول» ، لقوله تعالى: ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) . وتسمى «حم الأولى» لأنها السورة الأولى في الحواميم. روح السورة الروح الساري في سورة «غافر» هو الصراع الدائر بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والدعوة والتكذيب، وأخيرا قضية العلو في الأرض والتجبّر بغير الحق، وبأس الله الذي يأخذ المتجبّرين. وفي ثنايا أهداف السورة الأصلية نجد أنها تلمّ بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين، ونضر الله إيّاهم، واستغفار الملائكة لهم، واستجابة الله

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

موضوعات السورة

لدعائهم، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم. وجو السورة كله، من ثمّ، كأنه جو معركة، وهي المعركة بين الإيمان والطغيان، بين الهدى والضلال، بين المتكبرين المتجبّرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والتنكيل. وتتنسّم، خلال هذا الجو، نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين. ويتمثّل روح السورة في عرض مصارع الغابرين، كما يتمثل في عرض مشاهد القيامة، وهذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر، وتعرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة. ومنذ بداية السورة إلى نهايتها نجد آيات تلمس القلب، وتهزّ الوجدان، وتعصف بكيان المكذّبين، وقد ترقّ آيات السورة فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس القلب برفق، وهي تعرض صفات الله تعالى، غافر الذنب وقابل التوب، ثم تصف حملة العرش، وهم يدعون ربّهم ليتكرّم على عباده المؤمنين ثم تعرض الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية. موضوعات السورة يمكننا أن نقسم سورة غافر بحسب موضوعاتها إلى أربعة فصول: الفصل الأول: صفات الله تبدأ الآيات، من 4 إلى 20، بعرض افتتاحية السورة، وبيان أن الكتاب منزّل من عند الله سبحانه. غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ للمؤمنين التائبين، وهو: شَدِيدِ الْعِقابِ للعصاة المذنبين. ثم تقرر أن الوجود كلّه مسلّم مستسلم لله جلّ وعلا، وأنه لا يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فيشذّون عن سائر الوجود بهذا الجدال، ومن ثمّ فهم لا يستحقون أن يأبه لهم رسول الله (ص) ، مهما تقلّبوا في الخير والمتاع، فإنّما هم صائرون إلى ما صارت إليه أحزاب المكذّبين قبلهم وقد أخذهم الله أخذا، بعقاب يستحق العجب والإعجاب، ومع الأخذ في الدنيا، فإن عذاب الآخرة ينتظرهم هناك. ذلك بينما حملة العرش ومن حوله يعلنون إيمانهم بربّهم، ويتوجهون

الفصل الثاني: رجل مؤمن يجاهد بالكلمة

إليه بالعبادة، ويستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض، ويدعون لهم بالمغفرة والنعيم والفلاح. وفي الوقت ذاته تعرض مشهد الكافرين وهم ينادون: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) . وهم في موقف المذلة والانكسار يقرون بذنبهم، ويعترفون بربهم فلا ينفعهم الاعتراف والإقرار، ومن هذا الموقف بين يدي الله في الآخرة، يعود السياق ليعرض أمام الناس مظاهر أنعم الله عليهم، ليأخذ بأيديهم إلى طريق الإيمان بالله. فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) . ويعرض السياق مشهد ذلك اليوم في صورة حية مؤثرة: فقد برز الجميع أمام الله جلّ وعلا، العالم بالظواهر والبواطن وفي المشهد تبلغ الروح الحلقوم، وتذهب صولة الظالمين والطغاة، فلا يجدون حميما ولا شفيعا يطاع في شفاعته لقد أصبح الملك والأمر والقضاء لله الواحد القهار. الفصل الثاني: رجل مؤمن يجاهد بالكلمة يستغرق الفصل الثاني الآيات [21- 55] . ويبدأ بلفت المشركين إلى ما أصاب المكذّبين قبلهم ثم يعرض، من قصة موسى (ع) مع فرعون وهامان وقارون، جانبا يمثل موقف الطغاة من دعوة الحق، ويعرض فيها حلقة جديدة لم تعرض في قصة موسى من قبل، ولا تعرض إلا في هذه السورة، وهي حلقة ظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، يدافع عن موسى (ع) ، ويصدع بكلمة الحق والإيمان في تلطّف وحذر في أول الأمر، ثم في صراحة ووضوح في النهاية، ويعرض في جدله مع فرعون حجج الحق وبراهينه القوية الناصعة، ويحذرهم يوم القيامة، ويمثل لهم بعض مشاهده في أسلوب مؤثر، ويذكّرهم بموقفهم وموقف الأجيال قبلهم من يوسف (ع) ورسالته ويستطرد السياق بالقصة حتى يصل طرفها بالآخرة فإذا هم هناك، وإذا هم

الفصل الثالث: الترغيب والترهيب

يتحاجّون في النار، وإذا حوار بين الضعفاء والذين استكبروا، وحوار لهم جميعا مع خزنة جهنّم يطلبون فيه الخلاص، ولات حين خلاص وفي ظل هذا المشهد يوضح الحق سبحانه أن العاقبة للمرسلين في الدنيا ويوم القيامة، فقد نصر الله موسى رغم جبروت فرعون ثم يدعو الرسول الأمين إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق، والتوجه إلى الله بالتسبيح والحمد والاستغفار. الفصل الثالث: الترغيب والترهيب يستغرق الفصل الثالث من الآية [56- 77] ويبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان إنما يدفعهم إلى هذا كبر في نفوسهم عن الحق، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر ويوجّه القلوب حينئذ إلى هذا الوجود الكبير الذي خلقه الله جلت قدرته وهذا الوجود أكبر من الناس جميعا، لعلّ المتكبّرين يتصاغرون أمام عظمة خلق الله، وتتفتّح بصيرتهم فلا يكونون عميا: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ (58) . ويذكّر هذا الفصل الناس بمجيء الساعة، ثم يفتح الباب أمامهم إلى دعاء الله سبحانه والاستجابة لأمره ويبيّن لهم أنّ الذين يستكبرون عن عبادته تعالى سيدخلون جهنّم أذلاء صاغرين. ويعرض هذا القسم في هذا الموقف بعض آيات الله الكونية التي يمرون عليها غافلين، يعرض عليهم الليل وقد جعله الله سكنا، والنهار مبصرا، والأرض قرارا والسماء بناء، ويذكرهم بأنفسهم وقد صورهم، ويوجههم إلى دعوة الله مخلصين له الدين. وفي هذا القسم عينه، يأمر الله تعالى رسوله (ص) أن يبرأ من عبادة الذين يدعون من دون الله سبحانه، وأن يعلن إسلامه لرب العالمين ثم يؤكّد السياق أنّ الله الواحد هو الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة، وهو الذي يحيي ويميت. ثم يلفت الحقّ تعالى رسوله (ص) إلى أمر الذين يجادلون في الله، وينذرهم عذاب يوم القيامة في مشهد عنيف، تعلق فيه الأغلال في أعناقهم، ويسحبون في الحميم، ويحرقون في النار جزاء كفرهم

الفصل الرابع: نهاية الظالمين

وشركهم بالله وفي ضوء هذا المشهد يوجّه الله رسوله إلى الصبر والثقة بأن وعد الله حق، سواء أأبقاه حتى يشهد ما يعدهم، أم توفاه قبل أن يراه، فسيتحقق الوعد هناك. الفصل الرابع: نهاية الظالمين يشتمل الفصل الرابع على الآيات الأخيرة من السورة [78- 85] ، ويذكر أن الله أرسل رسلا وأنبياء كثيرين لهداية الناس، منهم من ذكر في القرآن، ومنهم من لم يذكر: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ [الآية 78] ، وأن يقدم معجزة لقومه: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [الآية 78] . على أن في الكون آيات قائمة وبين أيديهم آيات قريبة، ولكنهم يغفلون عن تدبّرها ... هذه الأنعام المسخّرة لهم من سخّرها؟ وهذه الفلك التي تحملهم أليست آية يرونها؟ ومصارع الغابرين، ألا تثير في قلوبهم العظة والتقوى؟! وتختم السورة بإيقاع قوي على مصرع من مصارع المكذبين وهم يرون بأس الله فيؤمنون، حيث لا ينفعهم الإيمان: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"غافر"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «غافر» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «غافر» بعد سورة «الزّمر» ، وقد نزلت سورة «الزمر» بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «غافر» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أوّلها: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ [الآية 3] وتبلغ آياتها خمسا وثمانين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة كالغرض من السورة السابقة، وهو الحث على إخلاص العبادة لله. ولهذا ذكرت بعدها، والفرق بينهما في ذلك أنّ المشركين أخذوا في السورة السابقة بطريق الدليل على فساد اعتقادهم في شفعائهم، وإن جاء فيه شيء من الترغيب والترهيب، وأخذوا في هذه السورة بطريق الترغيب والترهيب، وإن جاء فيه شيء من الطريق الأول. التمهيد بالترهيب والترغيب الآيات [1- 12] قال الله تعالى: حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) فذكر، سبحانه، من صفاته أنه عزيز عليم يغفر الذنب ويقبل التوب، ويأخذ بالعقاب الشديد، وإليه المصير. وذكر أنه لا يجادل في ذلك إلا الذين كفروا به، ونهى النبي (ص) أن يغترّ في ذلك

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....]

الأمر بإخلاص العبادة لله الآيات [13 - 54]

بما اغترّوا به من تقلّبهم في البلاد، فقد سبقهم إلى هذا الغرور من كان أشدّ منهم من قوم نوح والأحزاب من بعدهم، فكذّبوا رسلهم وهمّوا بهم ليأخذوهم فأخذهم الله بعقابه وأهلكهم. ثم شرع السياق في الترغيب بعد الترهيب، وذلك بالتذكير أن الملائكة يستغفرون لمن آمن به جلّ وعلا، ويطلبون منه أن يدخلهم ما وعدهم به من جناته. ثم عاد السياق إلى ترهيب الكافرين بعذاب الآخرة بعد ترهيبهم بعذاب الدنيا، إلى قوله تعالى في بيان السّبب: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) . الأمر بإخلاص العبادة لله الآيات [13- 54] ثم قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فذكر الدليل على تفرّده بالألوهية، وأمر بإخلاص العبادة له، ثم وصف نفسه، جلّ وعلا، بأنه رفيع الدرجات يختار لرسالته من يشاء لينذر يوم التّلاقي. ومضى في ترهيبهم بهذا اليوم إلى أن ذكر أنه ليس للظالمين فيه حميم ولا شفيع ممّا يعدّونه من دونه، وأنه هو الذي يقضي فيه بالحق، والذين يعبدون من دونه لا يقضون بشيء. ثم أخذ السياق في ترهيبهم بما حصل لمن كفر قبلهم، وكانوا أشدّ منهم قوّة وآثارا في الأرض فلم تغن عنهم قوّتهم شيئا ولا آلهتهم وذكر من أخبار هؤلاء الكفّار خبر فرعون وهامان وقارون مع موسى. وتمتاز قصتهم هنا بتفصيل ما كان فيها من مؤمن آل فرعون، إلى أن ذكر ما حاق بهم من سوء العذاب في دنياهم وأخراهم. وختم ذلك بما كان من نصر موسى وقومه: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) . ختم السورة بالترهيب والترغيب الآيات [55- 85] ثم قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) فأمر النبي (ص) بالصبر على هؤلاء المشركين المغترين بدنياهم، ووعده

بالنصر عليهم، كما نصر موسى وقومه على فرعون وهامان وقارون وذكر سبحانه أن الذي يحملهم على الجدال في آياته بغير دليل تكبّرهم أن يكونوا مرؤوسين، وما هم ببالغي ما يريدون من ذلك، فلا بدّ من تحقّق وعد الله عليهم، ومهما بلغوا فإنهم لا يعجزون الذي خلق السماوات والأرض وخلق ذلك أكبر من خلق الناس. ثم ذكر سبحانه، أنه لا يستوي أمر المؤمنين وأولئك المتكبّرين، وأن الساعة التي يفصل فيها بين الفريقين آتية لا ريب فيها وأمر المؤمنين أن يستمرّوا على الإخلاص في عبادته ليستجيب لهم، ويقيهم ممّا أعدّه لمن يستكبر عن عبادته. ثمّ ذكر ممّا يوجب عبادته عليهم أنه، جلّ وعلا، هو الذي جعل لهم الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا، إلى غير هذا مما ذكره من الآيات الدّالّة على قدرته وعظمته وتفضّله وإنعامه. ثم بيّن السّياق العجب، بعد هذا، من أولئك المتكبّرين الذين يجادلون في آيات الله. ومضى في تهديدهم على ذلك إلى قوله تعالى: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) . ثم أمر تعالى النبي (ص) بالصبر ووعده بالنصر عليهم، وذكر أنه سيريه في الدنيا بعض الذي يعدهم، ثمّ يرجعهم إليه فينتقم منهم أشدّ انتقام، ولكلّ من ذلك أجل يأتي فيه، وشأنه في ذلك شأن الرسل قبله، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله، فإذا جاء أمره حلّ وعده عليهم. وفي سياق ترغيبهم وترهيبهم ذكر تعالى أنه هو الذي جعل لهم الأنعام لركوبهم وأكلهم، إلى غير هذا مما ذكره من نعمه عليهم، ثم أمرهم أن يسيروا في الأرض لينظروا عاقبة الذين كفروا من قبلهم، وقد اغترّوا بقوّتهم فاستهزأوا برسلهم وفرحوا بما عندهم من العلم، فلمّا أخذهم الله بعذابه قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"غافر"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «غافر» «1» أقول: وجه إيلاء الحواميم السبع» سورة «الزمر» : تآخي المطالع في الافتتاح بتنزيل الكتاب. وفي مصحف أبيّ بن كعب: أول الزمر (حم) وتلك مناسبة جليلة. ثم إنّ الحواميم ترتّبت لاشتراكها في الافتتاح ب (حم) ، وبذكر الكتاب بعد (حم) ، وأنها مكية، بل ورد في الحديث أنها نزلت جملة. وفيها شبه من ترتيب ذوات (الر) الست «3» . فانظر إلى ثانية الحواميم، وهي «فصّلت» ، كيف شابهت ثانية ذوات (الر) ، أي «هود» في تغيير الأسلوب في وصف الكتاب. في «هود» : كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ (1) [الآية 1] ، وفي فصّلت: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ [الآية 3] . وفي سائر ذوات (الر) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ «4» ، وفي سائر الحواميم: تَنْزِيلُ الْكِتابِ أو وَالْكِتابِ «5» . وروينا عن جابر بن زيد وابن عباس في ترتيب نزول السور: أن الحواميم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . الحواميم السبع هي: غافر، وفصلت والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف. (3) . ذوات (الر) الست هي يونس، وهود، ويوسف، والرعد، (وأولها: المر) وابراهيم، والحجر. (4) . ولكن في إبراهيم كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ [الآية 1] . (5) . ولكن في فصّلت: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) ، وفي الشورى كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ [الآية 3] .

نزلت عقب «الزمر» ، وأنها نزلت متتاليات كترتيبها في المصحف: «المؤمن» ، ثم «السجدة» ، ثم «الشورى» ، ثم «الزخرف» ، ثم «الدخان» ، ثم «الجاثية» ، ثم «الأحقاف» . ولم يتخلّلها نزول غيرها. وتلك مناسبة جليّة واضحة في وضعها هذا. ثم ظهر لي لطيفة أخرى، وهي: أنه في كل ربع من أرباع القرآن توالت سبع سور مفتتحة بالحروف المقطعة. فهذه السبع مصدرة ب (حم) وسبع في الربع الذي قبله ذوات (الر) الست متوالية، و (المص) الأعراف، فإنها متّصلة ب «يونس» على ما تقدمت الإشارة إليه. وافتتح أول القرآن بسورتين من ذلك، وأول النصف الثاني بسورتين «1» . وقال الكرماني في «العجائب» «2» : ترتيب الحواميم السبع لما بينها من التشاكل الذي خصت به، وهو: أن كل سورة منها استفتحت بالكتاب أو وصفه، مع تفاوت المقادير في الطول والقصر، وتشاكل الكلام في النظام. قلت وانظر إلى مناسبة ترتيبها، فإن مطلع غافر مناسب لمطلع الزمر، ومطلع فصلت التي هي ثانية الحواميم مناسب لمطلع هود، التي هي ثانية ذوات (الر) ومطلع الزخرف مؤاخ لمطلع الدخان، وكذا مطلع الجاثية لمطلع الأحقاف «3» .

_ (1) . كان حق الكلام (بسبع سور) فنصف القرآن بالآيات في سورة الشعراء (الإتقان: 1/ 243) . وعليه يكون نصف القرآن مفتتحا بالشعراء، وأولها (طسم) ، والنمل، (طس) ، والقصص (طسم) ، والعنكبوت (الم) ، والروم (الم) ، ولقمان (الم) ، والسجدة (الم) . وإذا اعتبرنا النصف المعروف لنا فالسورتان هما (مريم، وطه) . (2) . هو كتاب «لباب التفسير وعجائب التأويل» لتاج القراء محمود بن حمزة بن نصر الكرماني (خط) . ولم نعثر عليه مخطوطا ولا مطبوعا، انظر (معجم الأدباء 19/ 125) . وقد ذكره الكرماني في (أسرار التكرار في القرآن ص 18) . (3) . مطلع الزمر: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) ومطلع غافر: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) . ومطلع هود كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود/ 1] . ومطلع فصّلت: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [فصّلت/ 3] . وهكذا جميع المطالع التي ذكرها المؤلف.

المبحث الرابع مكنونات سورة"غافر"

المبحث الرابع مكنونات سورة «غافر» «1» 1- وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الآية 28] أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي: أنه ابن عم فرعون. وتقدّم الخلاف في اسمه في الآية 20 من سورة القصص. 2- وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) . قال زيد بن أسلم: هم النّبيون، والملائكة، والمؤمنون. وقال السّدّي: الملائكة فقط. أخرجهما ابن أبي حاتم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"غافر"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «غافر» «1» قال تعالى: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) . أقول: ربما استطعنا أن نضع إشارات نقف عندها، فنقطّع هذه الآية على النحو الآتي: غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير. أقول: يتبين لنا من هذه التجزئة جمال هذا النظم البديع، الذي اتصفت به لغة القرآن، وعلى هذا يتّفق إحسان النظم مع إحكام المعاني والأغراض. ألا ترى أنه حين جاء قوله تعالى: غافِرِ الذَّنْبِ جاء بعده التَّوْبِ وليس «التوبة» ، ليتوفر هذا النحو من المماثلة في الأبنية، فيحسن بذلك النّظم. ثم قال: ذِي الطَّوْلِ فتمّ بذلك ما ذهبنا إليه من حسن هذه الديباجة العامرة. 2- وقال تعالى: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ [الآية 8] . أردت أن أشير إلى أنّ الفصيح «صلح» مثل كتب، الذي ورد في الآية، قد عدل عنه في اللغة المعاصرة خطأ إلى «فعل» مثل «عظم» . 3- وقال تعالى: كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ [الآية 21] . المراد بقوله تعالى: وَآثاراً

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

الحصون والقصور.. أقول: وهذا يؤيّد قول المعاصرين في الكلام على مصنّفات أحدهم من الكتب وغيرها: آثاره. 4- وقال تعالى: ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) . وهو من قولهم: «سجر التنوّر» إذا ملأه بالوقود. أقول: وما زال هذا الفعل معروفا في العامية الدارجة في العراق، وهو بالسين فيقولون سجر التنور، مرة، وبالشين، شجر التنوّر أخرى. وهم يتوسعون فيه فتقول الخبّازة: خبزت «شجارا» واحدا أو «شجارين» أي: ما يعدل إيقاد التنوّر بالوقود خبزا في كل مرة.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"غافر"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «غافر» «1» قال تعالى: حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ فهذا على البدل. وأما غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ فقد يكون معرفة لأنك تقول: «هذا ضارب زيد مقبلا» إذا لم ترد به التنوين. ثم قال سبحانه ذِي الطَّوْلِ [الآية 3] فيكون على البدل وعلى الصفة، ويجوز فيه الرفع على الابتداء والنصب على خبر المعرفة إلا في ذِي الطَّوْلِ فإنّه لا يكون فيه النصب على خبر المعرفة لأنه معرفة. و «التوب» هو جماعة التوبة ويقال «عومة» و «عوم» في «عوم السّفينة» . قال الشاعر: [من البسيط وهو الشاهد الخامس والستون بعد المائتين] . عوم السّفين فلمّا حال دونهم فيد القريّات فالفتكان فالكرم قال تعالى: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ [الآية 5] بالجمع على «الكلّ» لأن الكلّ مذكّر معناه معنى الجماعة. وقال سبحانه: وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) أي: لأنّهم أو بأنّهم وليس أَنَّهُمْ في موضع مفعول. ليس مثل قولك «أحقّت أنهم» . وقال جلّ وعلا: وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [الآية 7] فانتصابه كانتصاب: «لك مثله عبدا» بجعل وَسِعْتَ ل كُلَّ شَيْءٍ وهو مفعول به، والفاعل التاء، وجعل

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.

(الرّحمة) و (العلم) تفسيرا قد شغل عنهما الفعل، كما شغل «المثل» بالهاء، فلذلك نصب تشبيها بالمفعول بعد الفاعل. وقال تعالى: يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ [الآية 10] . فهذه اللام هي لام الابتداء: كأنه: يُنادَوْنَ فيقال لهم، لأنّ النداء قول. ومثله في الإعراب يقال: «لزيد أفضل من عمرو» . وقال تعالى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ [الآية 16] بإضافة المعنى، فلذلك لا ينون «اليوم» كما: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) [الذاريات] وهذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) [المرسلات] . معناه: هذا يوم فتنتهم. ولكن لما ابتدأ الاسم وبقي عليه، صار الجرّ أولى. وكانت الإضافة في المعنى إلى الفتنة، وهذا إنّما يكون إذا كان «اليوم» في معنى «إذ» ، وإلّا فهو قبيح. ألا ترى أنك تقول «لقيتك زمن زيد أمير» أي: إذ زيد أمير. ولو قلت: «ألقاك زمن زيد أمير» ، لم يحسن. وقال تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ [الآية 15] على الابتداء. والنصب جائز لو كان في الكلام على المدح. وقال سبحانه: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [الآية 16] . فهذا على ضمير «يقول» . وقال تعالى: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ [الآية 18] . فانتصاب كاظِمِينَ على الحال، كأنّ المعنى: «القلوب لدى الحناجر في هذه الحال» . وقال تعالى: عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) . فمن نوّن جعل (المتكبّر الجبار) من صفته، ومن لم ينوّن أضاف (القلب) الى (المتكبر) . وقال تعالى: يا هامانُ ابْنِ لِي [الآية 36] . بعضهم يضم النون كأنه أتبعها ضمة النون التي في (هامان) كما قالوا: «منتن» فكسروا الميم للكسرة التي في التاء، وبينها حرف ساكن فلم يحل. وكذلك لم تحل الباء في قوله تعالى: ابْنِ لِي. وقال تعالى: وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ [الآية 46] . فإن شئت جعلت النَّارُ بدلا من سُوءُ الْعَذابِ (45) ورفعتها على وَحاقَ، وإن شئت جعلتها تفسيرا ورفعتها على

الابتداء كأنك تقول: «هي النار» وإن شئت جررت على أن تجعل النَّارُ بدلا من الْعَذابِ كأنّ المراد: «سوء النار» . وقال تعالى: غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وفيه ضمير «يقال لهم ادخلوا يا آل فرعون» : غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ (46) فإنّما هو مصدر كما تقول: «آتيه ظلاما» تجعله ظرفا وهو مصدر جعل ظرفا، ولو قلت «موعدك غدرة» أو «موعدك ظلام» فرفعته كما تقول: «موعدك يوم الجمعة» ، لم يحسن لأنّ هذه المصادر وما أشبهها من نحو «سحر» لا تجعل إلا ظرفا، والظرف كلّه ليس بمتمكّن. وقال تعالى: إِنَّا كُلٌّ فِيها [الآية 48] بجعل كُلٌّ اسما مبتدأ، كما تقول: «إنّا كلّنا فيها» . وقال سبحانه: وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) و (تقوم) «1» كلّ جائز، وكذلك كل جماعة مذكّر أو مؤنّث من الإنس، فالتذكير والتأنيث في فعله جائز. وقال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) أي «في الإبكار» . وقد تقول «بالدار زيد» تريد «زيد في الدّار» . وقال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [الآية 60] فقوله سبحانه: أَسْتَجِبْ إنّما هو «أفعل» [وما] هذه الألف سوى ألف الوصل. ألا ترى أنّك تقول: «بعت» «تبيع» ثم تقول «أبيع» فتجيء فيها ألف ل «أفعل» فهي نظير الياء والتاء في «يفعل» و «تفعل» تقطع كل شيء كان على «أفعل» ، في وصل كان أو قطع. وقال تعالى: كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً [الآية 47] «فالتبع» يكون واحدا وجماعة، ويجمع فيقال «أتباع» . وقال تعالى: لِتَرْكَبُوا مِنْها [الآية 79] فكأن السياق أضمر «شيئا» . وقال سبحانه: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وقال جلّ وعلا:

_ (1) . في الطبري 24/ 75 نسبت القراءة بالتاء على التأنيث إلى بعض أهل مكة، وبعض قراء البصرة وفي البحر 7/ 470 إلى ابن هرمز وإسماعيل والمنقري، عن أبي عمرو.

إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) [النساء] . فيجوز أن يكون آل فرعون أدخلوا مع المنافقين في الدرك الأسفل، وهو أشدّ العذاب. وأمّا قوله تعالى: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) [المائدة] . فقوله جلّ شأنه: لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً من عالم أهل زمانه.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"غافر"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «غافر» «1» إن قيل: لم قال تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 4] . مع أن الذين آمنوا يجادلون أيضا فيها، أمنسوخة هي أم محكمة؟ أفيها مجاز أم كلها حقيقة؟ أمخلوقة هي أم قديمة؟ وغير ذلك. قلنا: المراد الجدال فيها بالتكذيب، ودفعها بالباطل والطعن بقصد إدحاض الحق وإطفاء نور الله تعالى، ويدل عليه قوله تعالى عقيبه: وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [الآية 5] . فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في وصف حملة العرش: وَيُؤْمِنُونَ بِهِ [الآية 7] ولا يخفى على أحد أن حملة العرش يؤمنون بالله تعالى؟ قلنا: الحكمة إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه كما وصف الأنبياء (ع) بالصلاح والإيمان في غير موضع من كتابه. فإن قيل: في قوله تعالى: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [الآية 11] كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتا إماتة؟ قلنا: هذا كما تقول: سبحان من صغّر جسم البعوضة وكبّر جسم الفيل، وكما تقول للحفّار: ضيّق فم الركيّة ووسّع أسفلها، وليس فيهما نقل من كبر إلى صغر ومن صغر إلى كبر، ولا من سعة إلى ضيق ولا من ضيق إلى سعة وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات. والسبب في صحته أن الصّغر

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

والكبر جائزان معا على ذات المصنوع الواحد من غير ترجيح لأحدهما، وكذلك الضيق والسعة وإذا اختار الصانع أحد الجائزين، وهو متمكن منهما على السواء، فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر، فجعل صرفه عنه كنقله منه. فإن قيل: قوله تعالى: لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [الآية 16] بيان وتقرير لبروزهم في قوله تعالى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ [الآية 16] والله تعالى لا يخفى عليه شيء، برزوا أو لم يبرزوا؟ قلنا: معناه لا يخفى على الله منهم شيء في اعتقادهم أيضا، فإنهم كانوا في الدنيا يتوهّمون إذا تستّروا بالحيطان والحجب أنّ الله لا يراهم، ويؤيده قوله تعالى: وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) [فصلت] . فإن قيل: لم قال المؤمن في حق موسى (ع) كما ورد في التنزيل: وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [الآية 28] مع أنه صادق في زعم القائل لهذا القول، وفي نفس الأمر أيضا، ويلزم من ذلك أن يصيبهم جميع ما وعدهم لا بعضه فقط؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها أن لفظة بعض صلة. الثاني: أنها بمعنى «كل» كما في قول الشاعر: إنّ الأمور إذا الأحداث دبّرها دون الشّيوخ ترى في بعضها خللا ومنه قول لبيد: أولم تكن تدري نوار بأنني ... وصّال عقد حبائل جذّامها ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النّفوس حمامها قلنا: ولقائل أن يقول: إن لفظة بعض في البيتين على حقيقتها، وكنى لبيد ببعض النفوس عن نفسه، كأنه قال: أتركها إلى أن أموت، وكذا فسّره ابن الأنباري على أنّ أبا عبيدة قال: إن لفظة «بعض» في الآية بمعنى كل، واستدل ببيت لبيد وأنكر الزمخشري على أبي عبيدة هذا التفسير على أن غير أبي عبيدة قال في قوله تعالى حكاية عن عيسى (ع) لأمّته: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [الزخرف/ 63] أن لفظة «بعض» فيه بمعنى كل. الثالث: أنها على أصلها. ثم في ذلك وجهان: أحدهما أنه وعدهم النجاة إن آمنوا، والهلاك إن كفروا، فذكر لفظة بعض لأنهم على إحدى الحالتين لا

محالة. الثاني أنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، وكان هلاكهم في الدنيا بعضا، فمراده: يصيبكم في الدنيا بعض الذي يعدكم. الرابع: أنه ذكر البعض بطريق التنزّل والتلطّف وإمحاض النصيحة من غير مبالغة ولا تأكيد، ليسمعوا منه ولا يتّهموه، فيردوا عليه وينسبوه إلى ميل إلى موسى (ع) ومحاباة فكأنه قال: أقلّ ما يصيبكم البعض وفيه كفاية قال الشاعر: قد يدرك المتأنّي بعض حاجته وقد يكون من المستعجل الزّلل كأنه يقول أقلّ ما يكون في التأني إدراك بعض المطلوب، وأقلّ ما يكون في الاستعجال الزلل، فقد بان فضل التأني على العجلة بما لا يقدر الخصم على دفعه وردّه. والوجه الرابع هو اختيار الزمخشري رحمة الله عليه. فإن قيل: التولّي والإدبار واحد، فما الحكمة في قوله تعالى: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ [الآية 33] ؟ قلنا: هو تأكيد، كقوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل/ 26] ونظائره كثيرة. الثاني: أنه استثارة لحميّتهم، واستجلاب لأنفتهم، لما في لفظ «مدبرين» من التعريض بذكر الدبر، فيصير نظير قوله تعالى: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر] . فإن قيل: ما الحكمة في التكرار في قوله تعالى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ ولم لم يقل: أبلغ أسباب السماوات؟ أي أبوابها وطرقها. قلنا: إذا أبهم الشيء ثمّ أوضح كان تفخيما لشأنه وتعظيما لمكانه، فلما أريد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السموات أبهمت ثمّ أوضحت. فإن قيل: مثل السيئة سيئة، فما المقصود في قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الآية 40] ؟ قلنا: معناه أنّ جزاء السيئة له حساب وتقدير لا يزيد على المقدار المستحق، وأمّا جزاء العمل الصالح فبغير تقدير حساب كما قال تعالى في آخر الآية. فإن قيل: قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام/ 160] ينافي ذلك. قلنا: ذلك لمنع النقصان لا لمنع الزيادة، كما قال الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس/ 26] . فإن قيل: لم قال تعالى: وَقالَ

الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ [الآية 49] ولم يقل: وقال الذين في النار لخزنتها مع أنه أوجز؟ قلنا: لأن في ذكر جهنّم تهويلا وتفظيعا. وقيل إن جهنّم هي أبعد النار قعرا، وخزنتها أعلى الملائكة الموكلين بالنار مرتبة، فإنّما قصدهم أهل النار بطلب الدعاء منهم لذلك. فإن قيل: لم قال المشركون كما ورد في التنزيل: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً [الآية 74] مع قولهم كما ورد في التنزيل أيضا: هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ [النحل/ 86] ؟ قلنا: معناه أن الأصنام التي كنا نعبدها لم تكن شيئا لأنّها لا تنفع ولا تضرّ. الثاني أنهم قالوا كذبا وجحودا، كقولهم كما ورد في التنزيل: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) [الأنعام] . فإن قيل: لم قال تعالى: وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) ولم يقل: وفي الفلك تحملون، كما قال سبحانه: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود/ 40] .؟ قلنا: معنى الوعاء ومعنى الاستعلاء كلاهما صحيح في الفلك، لأنه وعاء لمن يكون فيه وحمولة لمن يستعليه فلما صحّ المعنيان استقامت العبارتان معا.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"غافر"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «غافر» «1» في قوله تعالى: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [الآية 7] . استعارة: لأن حقيقة السعة إنّما توصف بها الأوعية والظروف التي هي أجسام، ولها أقدار ومساحات، والله سبحانه يتعالى عن ذلك. والمراد، والله أعلم، أنّ رحمتك وعلمك وسعا كلّ شيء، فنقل الفعل إلى الموصوف على جهة المبالغة كقولهم: طبت بهذا الأمر نفسا، وضقت به ذرعا. أي طابت نفسي، وضاق ذرعي. وجعل العلم موضع المعلوم كما جاء قوله سبحانه: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [البقرة/ 255] أي بشيء من معلومه. وفي قوله سبحانه: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) استعارتان. إحداهما قوله تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ والمعنى: أن منازل العز، ومراتب الفضل التي يخصّ بها عباده الصالحين، وأولياءه المخلصين رفيعة الأقدار، مشرفة المنار. فالدرجات المذكورة هي التي يرفع عباده إليها، لا التي يرتفع هو بها، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. والاستعارة الأخرى قوله سبحانه: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ والرّوح هاهنا كناية عن الوحي كقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى/ 52]

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

وإنما سمّي روحا لأن الناس يحيون به من موت الضلالة، وينشرون من مدافن الغفلة. وذلك أحسن تشبيه، وأوضح تمثيل. وفي قوله سبحانه: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) استعارة. والمراد بخائنة الأعين، والله أعلم، الرّيب في كسر الجفون، ومرامز العيون. وسمّى سبحانه ذلك خيانة، لأنه أمارة للرّيبة، ومجانب للعفّة. وقد يجوز أن تكون خائنة الأعين هاهنا صفة لبعض الأعين بالمبالغة في الخيانة، على المعنى الذي أشرنا إليه. كما يقال علّامة، ونسّابة. وأنشدوا قول الشاعر في مثل ذلك: حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغلّ الإصبع أي لم تكن موصوفا بالمبالغة في الخيانة. ومعنى مغلّ الإصبع: سارق مختلس. وأضاف الأغلال إلى الإصبع، كما أضاف الآخر «1» الخيانة إلى اليد في قوله: أولّيت العراق ورافديه ... فزاريّا أحذّ يد القميص أي خفيف اليد في السرقة والأحذّ الخفيف السريع. وعنى برافديه: دجلة والفرات. وإنما ذكرت اليد والإصبع في هذين الموضعين، لأنّ فعل السارق والمختلس في الأكثر إنّما يكون باستعمال يده، واستخدام أصابعه.

_ (1) . هو الشاعر الفرزدق. والبيت من أبيات في ديوانه، وقد أشار إليه ابن قتيبة في مقدمته لكتابه «الشعر والشعراء» ص 34، وهو يتحدّث عن التكلّف وضرورات القافية. والفرزدق يخاطب الخليفة يزيد بن عبد الملك شاكيا عمر بن هبيرة. وفي «أساس البلاغة» للزمخشري، روي هذا البيت هكذا: بعثت على العراق ورافديه ... فزاريّا أحذّ يد القميص

سورة فصلت

سورة فصّلت

المبحث الأول أهداف سورة"فصلت"

المبحث الأول أهداف سورة «فصّلت» «1» سورة «فصّلت» سورة مكية نزلت بعد الإسراء وقبيل الهجرة وآياتها 54 آية نزلت بعد سورة «غافر» . أسماؤها: تسمى سورة «فصّلت» لقوله تعالى في أوائلها: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) . وتسمى سورة «حم السجدة» لاشتمالها على السجدة، وسورة «المصابيح» لقوله تعالى: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) . روح السورة الروح الساري بين آيات سورة «فصلت» ، هو عرض أهداف الدعوة الجديدة، وأركانها وحقائقها الأساسية، وهذه الحقائق هي: الإيمان بالله وحده، وبالحياة الآخرة، وبالوحي والرّسالة، ويضاف إلى ذلك طريقة الدعوة إلى الله وخلق الداعية. وكلّ ما في السورة هو شرح لهذه الحقائق، واستدلال عليها، وعرض لآيات الله في الأنفس والآفاق، وتحذير من التكذيب بها، وتذكير بمصارع المكذبين في الأجيال السابقة، وعرض لمشاهد المكذّبين يوم القيامة، وبيان أن المكذّبين من الجن والإنس هم وحدهم الذين لا يسلمون بهذه الحقائق، ولا يستسلمون لله وحده،

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

موضوعات السورة

بينما السماء والأرض والشمس والقمر والملائكة ... كلهم يسجدون لله، ويخضعون لأمره، ويسلمون ويستسلمون. موضوعات السورة في سورة «فصلت» موضوعان اثنان: الموضوع الأول يستغرق نصف السورة الأول الآيات [1- 36] ، ويبدأ بالآيات التي تتحدث عن تنزيل الكتاب وطبيعته، وموقف المشركين منه، وتليها قصّة خلق السماء والأرض، فقصّة عاد وثمود، فمشهدهم في الآخرة تشهد عليهم الأسماع والأبصار والجلود. ومن هنا يرتد السياق إلى الحديث عنهم في الدنيا وكيف ضلّوا هذا الضلال، فيذكر أن الله سبحانه قيّض لهم قرناء سوء من الجن والإنس، يزيّنون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم، ومن آثار هذا قولهم، كما ورد في التنزيل: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) . ثم موقفهم يوم القيامة حانقين على هؤلاء الذين خدعوهم من قرناء الجن والإنس. وفي الجهة الأخرى نجد الذين قالوا: ربّنا الله، ثم استقاموا. وهؤلاء تتنزل عليهم الملائكة، لا قرناء السوء، يطمئنونهم ويبشرونهم ويعلنون ولايتهم لهم في الدنيا والآخرة ويلي هذا ما جاء عن الدعوة والداعية، وبذلك ينتهي الموضوع الأول. الموضوع الثاني تتحدّث الآيات [37- 54] عن آيات الله من الليل والنهار، والشمس والقمر، والملائكة العابدة، والأرض الخاشعة، والحياة التي تهتز فيها وتربو بعد الموات. ويلي هذا الحديث عن الذين يلحدون في آيات الله وفي كتابه. وهنا يجيء ذلك الحديث عن هذا الكتاب، ويشار إلى كتاب موسى واختلاف قومه فيه، وأنه لولا سبق حكمه بإمهالهم لعجّل بقضائه بينهم. وهنا يرد حديث عن الساعة واختصاص علم الله بها، وعلمه بما تكنّه الأكمام من ثمرات، وما تكنّه الأرحام من أنسال، ويعرض مشهد الكافرين وهم يسألون عن الشركاء. يلي هذا الحديث عن النفس البشرية عارية من أستارها، ومع حرص

الإنسان على نفسه هكذا، فإنه لا يحتاط لها، فيكذب ويكفر، غير محتاط لما يعقب هذا التكذيب من دمار وعذاب. وتختم السورة بوعد من الله سبحانه، أن يكشف للناس عن آياته، في الآفاق وفي أنفسهم. وقد صدق الله وعده، فكشف لهم عن آياته في الآفاق خلال الأربعة عشر قرنا، التي تلت هذا الوعد، فعرفوا كثيرا عن مادة هذا الكون، وعرفوا أن أساس بناء هذا الكون هو الذرّة، وأدركوا أن الذّرة تتحول إلى الإشعاع، كما فهموا أن الكون كله من الإشعاع. وعرفوا الكثير عن كروية الأرض، وحركتها حول نفسها، وحول الشمس وعرفوا الكثير عن المحيطات والأنهار، والمخبوء في جوف الأرض من الأرزاق. وفي آفاق النفس اهتدى الإنسان إلى معرفة الكثير عن خصائص الجسم البشري وأسراره، ووظائفه وأمراضه، وغذائه وتمثيله، وأسرار عمله وحركته، ثم عن تطوّر المعرفة حول ذكاء الإنسان، ونفسية الأفراد والجماعات، وقياس السلوك، ولا يزال الإنسان في الطريق إلى اكتشاف نفسه، واكتشاف الكون من حوله، حتّى يحقّ وعد الله بأن كلماته حقّ، وآياته صدق، وكتابه منزل، وهو على كل شيء شهيد ... قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"فصلت"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «فصّلت» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «فصّلت» بعد سورة «غافر» ، ونزلت سورة «غافر» بعد الإسراء، وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة فصلت في ذلك التاريخ أيضا. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) وتبلغ آياتها أربعا وخمسين آية. الغرض منها وترتيبها ترمي من هذه السورة إلى بيان الغرض من نزول القرآن، وهو التبشير بالثواب والإنذار بالعقاب، وهي بهذا تكاد تتّفق في الغرض مع السورة السابقة، وهذا هو وجه ذكرها بعدها. وقد جمع فيها بين الأخذ بالترغيب والترهيب، والأخذ بالدليل أيضا. بيان الغرض من نزول القرآن الآيات [1- 32] قال الله تعالى: حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) فذكر، سبحانه، أن القرآن تنزيل منه، وأنه كتاب فصّلت آياته ليكون بشيرا ونذيرا للناس، فأعرض أكثرهم عنه وقالوا استهزاء بوعيده، كما ورد في التنزيل: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) وقد أمر النبي (ص) أن يجيبهم عن هذا بأنه بشر مثلهم، فليس له شيء من أمر عقابهم، وما

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

شرف الغرض الذي تدعو إليه الآيات [33 - 54]

عليه إلا أن يبلغهم ما يوحى إليه من دعوتهم إلى وحدانية الله، وإنذارهم بالويل والهلاك إن لم يؤمنوا به، وتبشير المؤمنين بأن لهم أجرا غير ممنون. ثم أخذ السياق يبيّن لهم قبح كفرهم به، فذكر أنهم يكفرون بالذي خلق الأرض في يومين. ومضى هذا السياق في ترتيب أيام خلق الأرض والسماوات، ثم أنذرهم إن أعرضوا عن الإيمان بالله تعالى، بعد ذلك، بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. وأخذ في تفصيل ما حصل لهم من ذلك في دنياهم، ثم ذكر ما يحصل لهم بعد حشرهم من شهادة سمعهم وأبصارهم وجلودهم عليهم، إلى غير هذا ممّا ذكره من أمر آخرتهم، ثم عاد إلى ذكر إعراضهم عن إنذار القرآن لهم، فذكر أنهم قالوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) . ثم هدّدهم جلّ جلاله على ذلك بما أعده لهم من العذاب الشديد، وذكر ما أعدّه للمؤمنين من حسن لقاء الملائكة لهم، إلى قولهم في لقائهم لهم نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) . شرف الغرض الذي تدعو إليه الآيات [33- 54] ثم قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) فذكر شرف الغرض في الدعوة إلى الله، وأمر رسوله (ص) أن يقابل في دعوته إساءتهم بالحسنة، وأن يستعيذ بالله جلّ وعلا إذا نزغه من الشيطان نزغ من الغضب ثم ذكر سبحانه أن من آياته الليل والنهار والشمس والقمر، ونهاهم جلّ شأنه أن يسجدوا للشمس والقمر، وأمرهم بالسجود له تعالى، فإن استكبروا فلا ينقص ذلك شيئا من سلطانه وتسبيح الملائكة له سبحانه لا ينقطع إقرارا وإذعانا. ثم ذكر السياق أن من آيات الله إحياء الأرض بالمطر، ليبيّن لهم أنّ الذي يحيي الأرض قادر على إحياء الموتى، وانتقل السياق من ذلك الى تهديدهم على إلحادهم في آياته بعد إحيائهم. ثم عاد هذا السياق إلى تهوين أمر إساءتهم للرسول (ص) ليؤكّد ما أمره من مقابلتها بالحسنة، فذكر أنّه لا يقال له إلا ما قد قيل للرسل من قبله، فلا يصحّ أن يضيق صدره بما قالوه في أول

السورة من أن في قلوبهم أكنّة ممّا يدعوهم إليه، إلى غير هذا مما حكى عنهم، وعليه أن يشتغل بالتبليغ ويفوّض أمره إلى الله سبحانه فهو ذو مغفرة وذو عقاب أليم. ثم ذكر السياق أنه سبحانه لو جعله قرآنا أعجميّا، ولم يفصّل آياته بالعربية كما فصّله، لقالوا: لولا فصّلت آياته، لأنهم متعنّتون لا يرضيهم شيء. وذكر أنه هدى وشفاء للمؤمنين، وأنّ غيرهم في آذانهم وقر وهو عليهم عمى، فلا عيب فيه وإنما العيب فيهم. ثمّ ذكر تعالى أنه آتى موسى التوراة قبله فاختلف فيها كما اختلف هؤلاء المشركون في القرآن بين مصدّق ومكذّب، وأنه لولا سبق حكمه بإمهالهم لعجّل بقضائه بينهم، فذكر أن من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها. وذكر أن موعد ذلك ممّا اختص هو جل جلاله بعلمه، فإذا أتى يومه ناداهم أين شركائي؟ فيتبرءون من إثبات الشركاء له. ثم بيّن أن إنكارهم لهم في الآخرة بعد إقرارهم بهم في الدنيا هو شأن الإنسان لا يثبت على حال، فإن أقبلت عليه الدنيا لا ينتهي إلى درجة إلّا ويطلب أزيد منها، وإن أدبرت عنه بالغ في اليأس والقنوط، وإن عاودته النعمة، اغترّ بها، وظنّ أنها حق له لا يزول عنه وأنه لا ساعة قائمة ولئن كان هناك ساعة ورجع إلى ربه ليحسننّ إليه. ثم يمضي في إعراضه وينأى بجانبه، فإذا مسّه الشر بعد ذلك عاد إلى الإكثار من دعائه. ثم ختم بذكر ما يوجب عليهم أن يحتاطوا في أمرهم، فأخبرهم بأنه على تقدير أن يكون القرآن من عنده، يكون كفرهم به من أعظم موجبات العقاب. ثم ذكر أنه سيريهم ما أوعدهم به في الآفاق وفي أنفسهم. ويراد بالآفاق، والله أعلم، فتح البلاد المحيطة بهم، وبأنفسهم فتح مكة، وبهذا يتبين لهم أنه الحق: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) .

المبحث الثالث مكنونات سورة"فصلت"

المبحث الثالث مكنونات سورة «فصّلت» «1» 1- وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [الآية 26] . قيل: إنّ قائلها أبو جهل. ذكره ابن عسكر. 2- رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الآية 29] . قال عليّ بن أبي طالب: هما إبليس، وابن آدم، الذي قتل أخاه. أخرجه ابن أبي حاتم «2» . 3- وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ [الآية 33] . قال الحسن: هو النبي (ص) أخرجه ابن أبي حاتم «3» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . والطبري 24/ 72. (3) . والطبري 24/ 75.

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"فصلت"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «فصّلت» «1» 1- قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) . أقول: لمّا أنزلت السماء والأرض منزلة الآدميّين، وذلك ظاهر من الآية في إسناد القول لهما، وصفتا بصفة العقلاء فقيل: طائِعِينَ، وهذه الصفة جمع مذكر للعاقل وهي منصوبة على الحال، وصاحبها مثنّى، وهذا موطن هذه المسألة اللطيفة، ولا أستطيع أن أقول إلا أنّ هذا من أسلوب القرآن الذي اقتضت حكمته أن يأتي على هذه الصورة خدمة لهذا النظم البديع. 2- وقال تعالى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) [الآية 24] . والمعنى: وإن يسألوا العتبى، وهي الرجوع بهم إلى ما يحبّون، جزعا ممّا هم فيه لم يعتبوا، أي، لم يعطوا العتبى، ولم يجابوا إليها. 3- وقال تعالى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ [الآية 51] . وقوله تعالى: وَنَأى بِجانِبِهِ، أي: ثنى عطفه، وازورّ وتولّى بركنه. أقول: وفي قوله تعالى وَنَأى بِجانِبِهِ، تصوير لحاله، وهو يتنكّر ويزور فيبتعد بجنبه إشارة إلى رفضه.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"فصلت"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «فصّلت» «1» قال تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ [الآية 3] فالكتاب خبر المبتدأ، أخبر به أن التنزيل كتاب ثم قال سبحانه: فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الآية 3] بشغل الفعل بالآيات حتى صارت بمنزلة الفاعل، فنصب «القرآن» . وقوله تعالى: بَشِيراً وَنَذِيراً [الآية 4] حين شغل عنه. وإن شئت جعلته نصبا على المدح، كأنه حينما أقبل سبحانه على مدحه فقال: «ذكرنا قرآنا عربيّا بشيرا ونذيرا» أو «ذكرناه قرآنا عربيّا» وكان فيما مضى من ذكره دليل على ما أضمر، وقال تعالى: وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [الآية 5] معناه، والله أعلم، «وبيننا وبينك حجاب» ، ولكن دخلت «من» للتوكيد «2» . وأمّا نصب سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) فبجعله مصدرا كأنه قال «استواء» «3» وقد قرئ بالجرّ «4» وجعل اسما للمستويات أي: في أربعة أيّام تامّة. وأما قوله تعالى: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [الآية 9] ثم قال: أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ [الآية 10] فإنما يعني أن هذا مع الأول،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في زاد المسير 7/ 241. (3) . النصب قراءة عاصم وحمزة كما في معاني القرآن 3/ 12 وفي الطبري 24/ 98 الى عامة قراء الأمصار، إلّا أبا جعفر، والحسن البصري، وأبا جعفر القارئ، وفي البحر 7/ 486. (4) . في معاني القرآن 3/ 12 نسبت الى الحسن، وفي الطبري 24/ 98 كذلك، وزاد في الجامع 15/ 343 يعقوب الحضرمي، وفي البحر 7/ 486 زاد زيد بن علي، وابن أبي إسحاق، وعمرو بن عبيد وعيسى.

أربعة أيام، كما تقول «تزوّجت أمس امرأة، واليوم اثنتين» وإحداهما التي تزوجتها أمس «1» . وقال تعالى: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً [الآية 12] كأنه سبحانه قد قال «وحفظناها حفظا» ، لأنه حين قال سبحانه: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ قد أخبر أنه نظر في أمرها، وتعاهدها، فهذا يدل على الحفظ كأن السياق: «وحفظناها حفظا» . وقال تعالى: قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الآية 21] فجاء اللفظ بهم، مثل اللفظ في الإنس، لما خبّر عنهم بالنطق والفعل، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النمل/ 18] لمّا عقلن وتكلّمن صرن بمنزلة الإنس في لفظهم، قال الشاعر [من الرجز وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائتين] : فصبّحت والطّير لم تكلّم ... جابية طمّت بسيل مفعم «2» وقال تعالى، حكاية على لسان الذين كفروا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [الآية 26] أي: لا تطيعوه. كما تقول «سمعت لك» وهو، والله أعلم، على وجه «لا تسمعوا القرآن» . وقال تعالى وَالْغَوْا فِيهِ (26) «3» من «لغوت» «يلغا» مثل «محوت» «يمحا» «4» وقرأ بعضهم (والغوا فيه) «5» من «لغوت» «تلغو» مثل «محوت» «تمحو» وبعض العرب تقول: «لغي» «يلغى» وهي قبيحة قليلة «6» ولكن «لغي بكذا وكذا»

_ (1) . نقله في زاد المسير 7/ 244. (2) . سبق للأخفش إيراد هذا الرأي، والكلام عليه فيما سبق مع ذكر هذا الشاهد. (3) . هي قراءة نسبت في الجامع 15/ 356 الى الجماعة، وفي البحر 7/ 494 الى جمهور القراء. [.....] (4) . هي لهجة عقيل كما في اللهجات 455، وقيل هي لهجة دوس، وهي بطن من شنوءة الأزد «كالسابق 456» . (5) . في المحتسب 2/ 246 نسبت الى ابي بكر بن حبيب السهمي، وفي الشواذ 133 الى عبد الله بن بكير الساعي، وابن أبي إسحاق وعيسى، وفي الجامع 15/ 356 الى عيسى بن عمر، والجحدري، وابن أبي إسحاق، وابن حيوة، وبكر بن حبيب السهمي، وفي البحر 7/ 494 إلى بكر بن حبيب السهمي، أو عبد الله بن بكر السهمي، وقتادة، وأبي حيوة، والزعفراني، وابن أبي إسحاق، وعيسى، بخلاف عنهما. (6) . لعلّها لهجة أهل العالية قياسا على قولهم «لهيت» في لهوت اللهجات 455.

أي: أغري به، فهو يقوله ويصنعه. وقال تعالى: ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ [الآية 28] بالرفع على الابتداء كأنه تفسير للجزاء. وقال سبحانه: أَلَّا تَخافُوا [الآية 30] أي بأن لا تخافوا. وقال تعالى: نُزُلًا [الآية 32] على تقدير أن السياق قد شغل وَلَكُمْ ب ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ [الآية 31] حتّى صارت بمنزلة الفاعل، وهو معرفة، وقوله تعالى: نُزُلًا ينتصب على «نزّلنا نزلا» «1» نحو قوله سبحانه: رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ [الإسراء/ 87] و [الكهف/ 82] و [القصص/ 46] و [الدخان/ 6] . وقال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [الآية 34] يقال: «لا يستوي عبد الله ولا زيد» إذا أردت: لا يستوي عبد الله وزيد» لأنهما جميعا لا يستويان. وان شئت قلت إن الثانية زائدة تريد: لا يستوي عبد الله وزيد. فزيدت «لا» توكيدا كما قال سبحانه: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد/ 29] أي لأن يعلم. وكما قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) [القيامة] . وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ [الآية 41] فزعم بعض المفسّرين أن خبره أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وقد يجوز أن يكون على الأخبار التي في القرآن، يستغنى بها كما استغنت أشياء عن الخبر، إذا طال الكلام وعرف المعنى، نحو قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد/ 31] وما أشبهه. وحدّثني شيخ من أهل العلم قال: «سمعت عيسى بن عمر «2» يسأل عمرو ابن عبيد «3» » : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ أين خبره؟» فقال عمرو: «معناه في التفسير: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ كفروا به وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) فقال عيسى: «جاءت يا أبا عثمان» .

_ (1) . نقله في إعراب القرآن 3/ 1022. (2) . هو عيسى بن عمر الثقفي، وقد مرت ترجمته. (3) . هو عمرو بن عبيد، أبو عثمان البصري المتوفى سنة 144، وهو أحد العباد الزهّاد، ترجم له في طبقات القراء 1/ 602.

وقال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [الآية 44] أي هلّا فصّلت آياتهءَ أَعْجَمِيٌّ «1» يعني القرآن ووَ عَرَبِيٌّ يعني الرسول (ص) ، وقد قرئت من غير استفهام، وكلّ جائز في معنى واحد. وقال تعالى: وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) أي: فاستيقنوا، لأن «ما» هاهنا حرف، وليس باسم، والفعل لا يعمل في مثل هذا، فلذلك جعل الفعل ملغى «2» .

_ (1) . في معاني القرآن 3/ 19 والكشاف 4/ 202 الى الحسن وفي التيسير 193 الى هشام وزاد عليهما في الجامع 1/ 369 أبا العالية ونصر بن عاصم والمغيرة وابن عامر. ولعل ما جاء من الكتابة همزة واحدة في الأصل مقام على ما جاء في المحتسب 2/ 248 منسوبا إلى عمرو بن ميمون من القراءة بالاستفهام وفتح العين نسبة الى العجم. (2) . نقله في إعراب القرآن 3/ 1028.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"فصلت"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «فصّلت» «1» إن قيل ما الحكمة في زيادة «من» في قوله تعالى: وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [الآية 5] مع أن المعنى حاصل بالقول «وبيننا وبينك حجاب» ؟ قلنا: لو قيل كذلك، لكان المعنى أن الحجاب حاصل وسط الجهتين، وأما بزيادة «من» فمعناه أن الحجاب ابتداؤه منا ومنك، فالمسافة المتوسطة بيننا وبينك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها. فإن قيل: قوله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [الآية 9] ، إلى قوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [الآية 12] يدل على أن السموات والأرض وما بينهما خلقت في ثمانية أيام، وقال تعالى في سورة الفرقان الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الفرقان/ 59] فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا: معنى قوله تعالى: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ (10) [الآية 10] في تتمة أربعة أيام، لأن اليومين اللذين خلق سبحانه فيهما الأرض من جملة الأربعة، أو معناه: كل ذلك في أربعة أيام يعني خلق الأرض، وما ذكر بعدها، فصار المجموع ستة وهذا لا اختلاف فيه بين المفسّرين. فإن قيل: السموات وما فيها أعظم من الأرض وما فيها، بأضعاف

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

مضاعفة، فما الحكمة في أن الله سبحانه خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام، والسموات وما فيها في يومين؟ قلنا لأن السموات وما فيها من عالم الغيب، ومن عالم الملكوت، ومن عالم الأمر، والأرض وما فيها من عالم الشهادة والملك، وخلق الأول أسرع من الثاني. ووجه آخر، وهو أنه فعل ذلك ليعلم أن الخلق على سبيل التدريج والتمهيل في الأرض، وما فيها لم يكن للعجز عن خلقها دفعة واحدة، بل كان لمصالح لا تحصل إلّا بذلك، ولهذه الحكمة خلق العالم الأكبر في ستة أيام، والعالم الأصغر وهو الإنسان في ستة أشهر. فإن قيل: لم قال تعالى في وصف أهل النار: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (24) [الآية 24] مع أنهم إن لم يصبروا على عذاب النار، وجزعوا فالنار مثوى لهم أيضا؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: فإن يصبروا أولا يصبروا، فالنار مثوى لهم، على كل حال ولا ينفعهم الصبر في الآخرة كما ينفع الصبر في الدنيا ولهذا قيل الصبر مفتاح الفرج، وقيل من صبر ظفر. الثاني: أنّ هذا جواب لقول المشركين، في حثّ بعضهم لبعض على إدامة عبادة الأصنام: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ [ص/ 6] فقال الله تعالى: فإن يصبروا على عبادة الأصنام في الدنيا، فالنار مثوى لهم في العقبى. فإن قيل: لم قال تعالى في وصف الكفّار: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) أي بأسوأ أعمالهم، مع أنهم يجزون بسيّئ أعمالهم أيضا؟ قلنا: قد سبق نظير هذا السؤال في آخر سورة التوبة، والجواب الأول هناك يصلح جوابا هنا. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَلا لِلْقَمَرِ [الآية 37] بعد قوله تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ [الآية 37] وهو مستفاد من الأول بالطريق الأولى؟ قلنا: فائدته ثبوت الحكم بأقوى الدليلين، وهو النص، والله أعلم.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"فصلت"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «فصّلت» «1» في قوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [الآية 5] استعارة: فالأكنّة جمع كنان، وهو الستر والغطاء، مثل: عنان، وأعنّة. وسنان، وأسنّة. وليس هناك على الحقيقة شيء ممّا أشاروا إليه. وإنّما أخرجوا هذا الكلام، مخرج الدلالة على استثقالهم ما يسمعونه من قوارع القرآن، وبواقع البيان. فكأنهم، من قوة الزّهادة فيه، وشدّة الكراهية له، قد وقرت أسماعهم عن فهمه، وأكنّت قلوبهم دون علمه. وذلك معروف في عادات الناس، أن يقول القائل منهم لمن يشنأ كلامه، ويستثقل خطابه: ما أسمع قولك، ولا أعي لفظك. وإن كان صحيح حاسّة السمع. إلا أنه حمل الكلام على الاستثقال والمقت. وعلى هذا قول الشاعر «2» : وكلام سيّئ قد وقرت ... أذني عنه، وما بي من صمم وفي قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) استعارة. فليس هناك، على الحقيقة، قول ولا جواب، وإنما ذلك عبارة عن

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . لم أهتد إلى اسم هذا الشاعر، وقد ورد هذا البيت في «أساس البلاغة» للزمخشري مادة «وقر» ولم يذكر قائله. وروايته في الأساس هكذا: كم كلام سيّئ قد وقرت ... أذني عنه، وما بي من صمم

سرعة تكوين السماوات والأرض. كما قال تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) [النحل] ولو لم يكن المراد ما ذكرنا لكان في هذا الكلام أمر للمعدوم، وخطاب لغير الموجود. وذلك يستحيل أن يكون من فعل الحكيم سبحانه. ومعنى قوله تعالى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) أنهما جرتا على المراد، ووقفتا عند الحدود والأقدار، من غير معاناة طويلة، ولا مشقّة شديدة، فكانت في ذلك جارية مجرى الطائع المميّز، إذا انقاد إلى ما أمر به، ووقف عند الذي وقف عنده. وقال بعضهم: معنى قوله سبحانه: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي: كونا على ما أريد منكم من لين وشدّة، وسهل وحزونة، وصعب وذلول، ومبرم وسحيل «1» . والكره والشّدّة بمعنى واحد في اللغة العربية. يقول القائل منهم لغيره: أنا أكره فراقك. أي يصعب عليّ أن أفارقك. وقال سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ (216) [البقرة/ 216] أي شديد عليكم. ومعنى الطوع هاهنا: التّسهّل والانقياد من غير إبطاء ولا اعتياص. وإنما قال سبحانه: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) بجعل السماوات والأرض كلّها كالواحدة، والأرض جميعا كذلك، فحسن أن يعبّر عنهما بعبارة الاثنين دون عبارة الجميع. وأمّا قوله سبحانه: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فكان وجه الكلام أن يكون طائعتين، أو طائعات ردّا على معنى التأنيث. فالمراد به، والله أعلم، عند بعضهم: قالتا أتينا بمن فينا من الخلق طائعين. فكانت كلمة «طائعين» وصفا للخلق المميّزين، لا وصفا للسماوات والأرض. وقال بعضهم: لمّا تضمّن الكلام ذكر السماوات والأرض في الخطاب لهما، والكناية عنهما بما يخاطب به أهل التمييز، ويكنى به عن السامعين الناطقين، أجريتا في ردّ الفعل إليهما مجرى العاقل اللبيب، والسامع المجيب. وذلك مثل قوله تعالى:

_ (1) . المبرم: الخيط أو الحبل الذي فتل فتلتين، والسّحيل: الحبل الذي فتل فتلا واحدا.

وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) [يوسف] . ولو أجري اللفظ على حقيقته، وحمل على محجّته لقيل ساجدات. ولكن المراد بذلك: أنه، لما كان ما أشرنا إليه، حسن أن يقال ساجدين، وطائعين. وقوله سبحانه: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [الآية 17] استعارة. والمراد بالعمى هاهنا ظلام البصيرة، والمتاه في الغواية. فإن ذلك أخفّ على الإنسان، وأشد ملاءمة للطباع، من تحمّل مشاقّ النظر، والتلجيج في غمار الفكر. وفي قوله تعالى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) استعارة: لأنّ الظن الذي ظنّوه على الحقيقة لم يردهم بمعنى: يهلكهم، وإنّما أهلكهم الله سبحانه جزاء على ما ظنّوه به من الظنون السّيئة، ونسبوه إليه من الأفعال القبيحة. فلمّا كان ذلك الظنّ سببا في هلاكهم، جاز أن ينسب إليه الهلاك الواقع بهم. وفي قوله سبحانه: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الآية 39] استعارة، وقد مضى الكلام على نظيرها في سورة «الحج» . إلا أن هاهنا زيادة هي صفة الأرض بالخشوع، كما وصفت هناك بالهمود. واللفظان جميعا يرجعان إلى معنى واحد، وهو ما يظهر على الأرض من آثار الجدب، وأعلام المحل، فتكون كالإنسان الخاشع الذي قد سكنت أطرافه، وتطأطأ استشرافه. وفي قوله سبحانه: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) استعارة. وقد قيل فيها أقوال: منها أن يكون المراد بذلك أن هذا الكتاب العزيز، لا يشبهه شيء من الكلام المتقدم له، ولا يشبهه شيء من الكلام الوارد بعده. فهذا معنى: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ لأنه لو أشبهه شيء من الكلام المتقدّم، أو الكلام المتأخّر، لأبطل معجزته وفصم حجّته. فكأنّ الباطل، قد أتاه من إحدى الجهتين المذكورتين، إمّا من جهة أمامه، وإمّا من جهة ورائه. وهذا معنى عجيب. وقال بعضهم: معنى ذلك أنّه لا تعلق به الشّبهة من طريق المشاكلة، ولا الحقيقة من جهة المناقضة، فهو

الحقّ الخالص الذي لا يشوبه شائب، ولا يلحقه طالب. وقال بعضهم: معنى ذلك أن الشيطان والإنسان لا يقدران على أن ينتقصا منه حقّا، أو أن يزيدا فيه باطلا. وقال بعضهم: معنى ذلك، أنه لا باطل فيه، من الإخبار عمّا كان وما يكون. فكأنّ المراد بقوله سبحانه: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي من جهة ما أخبر عنه من الأمور الواقعة. وبقوله تعالى: وَلا مِنْ خَلْفِهِ أي من جهة ما أخبر عنه من الأمور المتوقعة. وفي قوله سبحانه: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) استعارة. والمراد بها، والله أعلم، صفتهم بالتباعد عن طريق الرشد، والإعراض عن دعاء الحق. كأنهم من شدة الذهاب بأسماعهم، والانصراف بقلوبهم ينادون من مكان بعيد. فالنداء غير مسمع لهم، ولا واصل إليهم. ولو سمعوه لضلّ عنهم فهمه للصدّ «1» المنفرج بينهم وبينه. وفي قوله سبحانه وتعالى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) استعارة. والمراد بها صفة الدعاء بالسّعة والكثرة، وليس يراد العرض الذي هو ضدّ للطّول. وذلك أن صفة الشيء بالعرض تفيد فيه معنى الطول لأنه لو لم يكن مع العرض طول لكان العرض هو الطّول. ألا ترى أنهم يصفون الرّمح بالطول، ولا يصفونه بالعرض إذا كان طوله أضعاف عرضه، ويصفون الإزار بأنه عريض إذ كان عرضه مقاربا لطوله. وقد استقصينا شرح ذلك في كتابنا الكبير واقتصرنا منه هاهنا على البلغة الكافية، والنكتة الشافية.

_ (1) . غير واضحة بالأصل، ولعلها للبعد.

سورة الشورى

سورة الشورى

المبحث الأول أهداف سورة"الشورى"

المبحث الأول أهداف سورة «الشورى» «1» سورة «الشورى» سورة مكّية، نزلت بعد «الإسراء» ، وقبيل الهجرة. وآياتها 53 آية نزلت بعد سورة «فصلت» . ولها اسمان: «عسق» لافتتاحها بها، وسورة «الشورى» لقوله سبحانه: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الآية 38] . روح السورة هذه السورة، تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية، ولكنها تركّز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة حتى ليصحّ أن يقال إن هذه الحقيقة، هي المحور الرئيس، الذي ترتبط به السورة كلّها. وتأتي سائر الموضوعات فيها، تبعا لتلك الحقيقة الرئيسة فيها. هذا، مع أن السّورة تتوسّع في الحديث عن حقيقة الوحدانية وتعرض لها من جوانب متعدّدة كما أنها تتحدث عن حقيقة القيامة والإيمان بها ويأتي ذكر الآخرة ومشاهدها في مواضع متعددة منها وكذلك تتناول عرض صفات المؤمنين، وأخلاقهم التي يمتازون بها كما تلمّ بقضية الرزق، بسطه وقبضه، وصفة الإنسان في السّرّاء والضّرّاء. ولكنّ حقيقة الوحي والرسالة وما يتصل بها، تظل مع ذلك هي الحقيقة البارزة في محيط السورة، والتي تطبعها وتظلّلها، وكأنّ سائر الموضوعات الأخرى، مسوقة

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....]

موضوع السورة

لتقوية تلك الحقيقة الأولى، وتوكيدها. ويسير سياق السورة في عرض تلك الحقيقة، وما يصاحبها من موضوعات أخرى، بطريقة تدعو إلى مزيد من التدبّر والملاحظة، «فهي تعرض من جوانب متعددة، يفترق بعضها عن بعض، ببضع آيات، تتحدث عن وحدانية الخالق، أو وحدانية الرازق، أو وحدانيّة المتصرّف في القلوب، أو وحدانيّة المتصرّف في المصير، في حين أنّ الحديث عن حقيقة الوحي والرسالة يتّجه إلى تقرير وحدانية الموحي، سبحانه، ووحدة الوحي، ووحدة العقيدة، ووحدة المنهج والطريق وأخيرا وحدة القيادة البشرية في ظل العقيدة. ومن ثمّ يرتسم في النفس خط الوحدانية بارزا واضحا بشتّى معانيه وشتى إيحاءاته من وراء موضوعات السورة جميعها» «1» . موضوع السورة يمكن أن نقسم سورة الشورى إلى فصلين رئيسين. يتناول الفصل الأول وحدة الأهداف الرئيسية للرسالات السماوية، ويتناول الفصل الثاني بعض صفات المؤمنين ودلائل الإيمان. الفصل الأول: وحدة أهداف الرسالات يتناول النصف الأول من السورة الآيات [1- 24] ، ويبدأ بالتحدّث عن الوحي، ثم يعالج قصّة الوحي منذ النبوّات الأولى، ليقرّر وحدة الدّين ووحدة المنهج، ووحدة الطريق، وليعلن القيادة الجديدة للبشريّة ممثلّة في رسالة محمد (ص) ، وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة. وتشير السورة إلى هذه الوحدة في مطلعها: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ، لتقرّر أن الله سبحانه هو الموحي بالرسالات جميعها للرسل جميعهم، وأنّ الرّسالة الأخيرة، هي امتداد لأمر مقرّر مطّرد من قديم. وتأتي الإشارة الثانية بعد قليل:

_ (1) . في ظلال القرآن بقلم سيد قطب 24/ 7.

وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الآية 7] ، لتقرر مركز القيادة الجديد، فقد اختار الله جلّ جلاله بلاد العرب، لتكون مقر الرسالة الأخيرة، التي جاءت للبشرية جمعاء، والتي تتضح عالميّتها منذ أيامها الأولى. كانت الأرض المعمورة، عند مولد الرسالة الأخيرة، تكاد تتقاسمها إمبراطوريات أربع هي: الرومانية، والفارسية، والهندية، والصينية. وفي هذا الوقت، جاء الإسلام لينقذ البشرية كلّها، ممّا انتهت إليه من انحلال وفساد واضطهاد، وجاهلية عمياء في كل مكان من المعمورة. جاء ليهيمن على حياة البشرية، ويقودها في الطريق الى الله، على هدى ونور. ولم يكن هنالك بدّ من أن يبدأ الإسلام رحلته من أرض حرّة، لا سلطان فيها لإمبراطورية من تلك الإمبراطوريات، وكانت الجزيرة العربية وأمّ القرى وما حولها بالذات، أصلح مكان على وجه الأرض، لنشأة الإسلام يومئذ، وأصلح نقطة، يبدأ منها رحلته العالميّة. لم تكن في بلاد العرب حكومات منظّمة، ولا ديانة ثابتة واضحة المعالم، وكانت خلخلة النظام السياسي للجزيرة، إلى جانب خلخلة النظام الديني، أفضل ظرف يقوم فيه دين جديد، متحرر من كل سلطان عليه في نشأته. وهكذا جاء القرآن الكريم بلسان عربيّ مبين، لينذر أم القرى ومن حولها فلمّا خرجت الجزيرة من الجاهلية إلى الإسلام، حملت الراية وشرّقت بها وغرّبت، وقدّمت الرسالة للبشرية جميعها، وكان الذين حملوها أصلح خلق الله لحملها، وقد خرجوا بها من أصلح مكان في الأرض لميلادها وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام/ 124] . وفي آية مشهورة من سورة الشورى، تطالعنا وحدة الرسالات جميعها، ووحدة الرسل، ووحدة الدين، ووحدة الهدف للجميع، وهو توحيد الله سبحانه، وتدعيم القيم والأخلاق،

الفصل الثاني: صفات الجماعة المسلمة

ومحاربة الرذائل والانحراف. قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) . وتقرّر الآيات بعد ذلك أن التفرّق قد وقع مخالفا لهذه التوصية، ولم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام، ولكن عن علم. وقع بغيا وحسدا: وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الآية 14] . وتصف أتباع الأديان، وحملة الكتب السماوية بأنّهم في حيرة وشكّ، لاضطراب أحوال الديانات، وخروجها عن الهدف الذي جاءت له: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) . وعند هذا الحدّ يتبين أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب، ولم تعد لها قيادة راشدة تقوم على نهج ثابت قويم. ثمّ يعلن القرآن الكريم انتداب الرسالة الأخيرة وحاملها (ص) ، لهذه القيادة: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) . الفصل الثاني: صفات الجماعة المسلمة يشتمل النصف الثاني من السورة، على الآيات [25- 53] . ويتحدّث عن صفات الجماعة المسلمة، التي انتدبها الله تعالى لحمل هذه الرسالة ويبدأ هذا الفصل باستعراض آيات الله في بسط الرزق وقبضه، وفي تنزيل الغيث برحمته، وفي خلق السماوات والأرض، وما بثّ فيهما من دابّة، وفي الفلك الجواري في البحر كالأعلام، ويستطرد السياق من هذه الآيات إلى صفة المؤمنين التي تميز جماعتهم، ومع أن سورة الشورى سورة مكّية، نزلت قبل قيام الدولة الإسلامية في المدينة، إلا أنها تذكر أن الشورى من صفات المؤمنين، في قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الآية 38] . مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق،

في حياة المسلمين، من مجرّد أن يكون نظاما سياسيّا للدولة، فهو طابع أساسي للجماعة كلها، يقوم على أمرها كجماعة، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة، بوصفها ممثّلة للجماعة. والتأمّل في صفات المؤمنين، يوحي بأن الإسلام دين القيم، دين يهتم بالجوهر لا بالعرض، وبتكوين النفس البشرية لا بالقيم الزائلة. فما قيم الجماعة المؤمنة؟ إنها الإيمان، والتوكل، واجتناب كبائر الإثم والفواحش، والمغفرة عند الغضب، والاستجابة لله، وإقامة الصلاة، والشورى الشاملة، والإنفاق ممّا رزق الله، والانتصار من البغي، والعفو والإصلاح والصبر. وبهذه القيم تحوّل العرب من أشتات مختلفين إلى أمّة متماسكة، متراحمة مؤمنة بالله مستقيمة على هداه وتعاليمه، فوطّأ الله لهم أكناف الأرض، وصاروا خير أمة أخرجت للناس. وبعد تقرير صفة المؤمنين، وما ينتظرهم من عون وإنعام تعرض الآيات في الصفحة المقابلة، صورة الظالمين الضّالّين، وما ينتظرهم من ذلّ وخسران في يوم القيامة: يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ. وفي ظل هذا المشهد، نجد القرآن الكريم، يدعو الناس إلى إنقاذ أنفسهم من مثل هذا الموقف، قبل فوات الأوان: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ [الآية 47] . ويمضي سياق السورة حتى ختامها، يدور حول محور الوحي والرسالة، وأثرهما في صفات المؤمنين، مع بعض الاستطراد إلى وصف الكافرين، وبيان صفات الله الخالق الوهّاب، القابض الباسط، قال تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) . ويعود السياق في نهاية السورة، إلى الحديث عن طبيعة الوحي وطريقته. وهناك ارتباط ظاهر بين الحديث عن

الوحي في القسم الأول من السورة، والحديث عن صفات المؤمنين، ودلائل الإيمان في القسم الثاني منها فإنّ الهداية والإيمان من آثار الوحي، وبركات الرسالة أي أن القسم الثاني، وهو السلوك، مترتّب عن القسم الأول، وهو العقيدة والوحي.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الشورى"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الشورى» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «الشّورى» بعد سورة «فصّلت» ، ونزلت سورة «فصلت» بعد الإسراء، وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الشورى» في هذا التاريخ أيضا. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وتبلغ آياتها ثلاثا وخمسين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة: بيان اتفاق الرّسل على شرع الإسلام من أوّلهم إلى آخرهم، وإنذار من يخالفه بعذاب الدنيا والآخرة، وتبشير من يؤمن به بحسن الثواب فيهما. وبهذا تتّفق، هي والسورة السابقة، في ما جاء فيهما من الترهيب والترغيب، مع ما فيها من أخذهم بشيء من طريق الدليل، وهذا هو وجه المناسبة بين السورتين. اتفاق الرّسل على شرع الإسلام الآيات [1- 53] قال الله تعالى: حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) فمهّد لذلك بأن الذي يوحي إلى الرسول (ص) وإلى الرسل قبله، إله واحد، هو العزيز الحكيم وذكر ما ذكر من سعة ملكه سبحانه، وعلوّه وعظمته جلّ جلاله،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

وأنّ السماوات تكاد تتفطّر من خشيته، والملائكة يسبّحون بحمده وهدّد من يتخذ من دونه أولياء بأنه رقيب عليهم، وسيحاسبهم على شركهم ثم ذكر سبحانه أنه أوحى إليه قرآنا عربيا لينذر به أهل مكة، ومن حولهم بعذاب يوم القيامة، وهو اليوم الذي يجتمعون فيه، فيكون فريق منهم في الجنة وفريق في السعير ولو شاء الله تعالى، لجعلهم أمّة واحدة، ولكن مشيئته، سبحانه، اقتضت أن يدخل من يشاء في رحمته، وأن يحرم من يشاء منها ومن يحرمه منها لا يمكن أن يدخله فيها، ما يتخذه من وليّ أو نصير ثم أنكر عليهم أن يتّخذوا من دونه أولياء لا يمكنهم نصرهم: لأنه سبحانه هو الوليّ وحده وذكر أن ما اختلفوا فيه من ذلك، فحكمه إليه في يوم القيامة، وليس لأحد من خلقه الحكم فيه، بل يجب تفويض كل شيء إليه، لأنه فاطر السماوات والأرض إلى غير هذا مما استدلّ به على وجوب تفويض الأمر إليه. ثم انتقل السياق من ذلك التمهيد إلى المقصود، وهو أنه سبحانه شرع لهم، من الدين، ما وصّى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى (ع) وذلك ما اتفقت عليه شرائعهم، من الإيمان بالله واليوم الآخر، ونحوهما مما لا اختلاف فيه بينهم. وذكر السياق توبيخ المشركين أن يستبعدوا ما يدعوهم الله إليه من هذا الدين، الذي اتفق الرسل عليه، ثم ذكر أنّ أتباع أولئك الرّسل لم يتفرّقوا في ذلك الدين إلّا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا حكم الله بتأخير الفصل بينهم إلى يوم القيامة، لفصل بينهم في الدنيا ثم أمر الله سبحانه النبي (ص) أن يستمر في دعوته إلى هذا الدين، فلا يتّبع أهواءهم المتفرّقة، ولا يؤمن ببعض الكتاب دون بعض. وليعدل بينهم في الحكم لأنّ إلهه وإلههم واحد، وكلّ واحد مسؤول عن عمله، والله هو الذي سيحكم بينهم، ثم ذكر أن الذين يحاجّون في دين الله من بعد اتفاق أولئك الرسل عليه، حجّتهم داحضة، وعليهم غضب منه جلّ جلاله، ولهم عذاب شديد وأنه، سبحانه، أنزل الكتاب بهذا الدين الحق، وأنزل الميزان، وهو العقل الذي يميّز بين الحق والباطل، فلا عذر لهم في تباطئهم عن الإيمان به، ولعلّ السّاعة تفاجئهم وهم على كفرهم، فيندمون حينما لا ينفع الندم ثم ذكر

أن الذين لا يؤمنون بها يستعجلون بها على سبيل الاستهزاء، وأن الذين يؤمنون بها مشفقون أن تفاجئهم، وأنّه لا يؤخّرها إلّا لأنّه لطيف بعباده، يرزق من يشاء وهو القوي العزيز. فمن كان يريد حرث الآخرة يزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا يؤته منها ويمهله ولا يعجّله، وما له في الآخرة من نصيب. ثم انتقل السياق إلى توبيخهم، على ما شرّعوا لأنفسهم من الشرك وإنكار البعث، ونحو ذلك، مما زيّنه لهم شركاؤهم من الشياطين وهدّدهم سبحانه بأنّه لولا حكمه بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة لعجّل بالقضاء بينهم وأنذرهم بأن لهم عذابا أليما على ما شرعوه من ذلك لأنفسهم، وبشّر المؤمنين بروضات الجنات التي أعدّها جلّت قدرته لهم، وانتقل السياق من هذا إلى توبيخهم، على أن ينسبوا الى النبي (ص) افتراء هذا الدين عليه، وذكر سبحانه أنّه لو يشاء ختم على قلبه، وتولّى هو محو الباطل وإحقاق الحق بآياته ولكنّه أراد أن يعذرهم بإرساله إليهم، رحمة بهم، ليتوب عن شركه من يتوب فيقبل توبته، ويستجيب دعاء المؤمنين ويزيدهم من فضله ومن يستمرّ على كفره بعد ذلك، فلهم عذاب شديد في دنياهم وآخرتهم ثم ذكر أنه في رحمته بهم يرزقهم بقدر، لأنّه، لو بسط لهم الرزق، لبغوا في الأرض وبيّن أنهم إذا احتاجوا إلى الرزق فإنه لا يمنعهم منه، فينزل الغيث عليهم من بعد يأسهم منه، وينشر عليهم رحمته. وقد ذكر بعد هذا آياته ونعمه عليهم، وذكر ما يصيبهم في دنياهم، أو في ما ينعم به عليهم، ليبيّن أن ذلك قد يكون بما كسبت أيديهم ثم ذكر سبحانه أن ما يعطونه من الرزق في الدنيا لا قيمة له، وأن ما عنده خير وأبقى للمؤمنين الذين يتوكّلون عليه، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، ويعفون عند غضبهم، إلى غير هذا مما ذكره سبحانه من صفاتهم ثم انتقل السياق من هذا إلى وعيد من يضلّ عن ذلك الدين القديم، فذكر سبحانه أنهم حين يرون العذاب، يتمنّون أن يردّوا ليؤمنوا به، إلى غير هذا مما ذكره من أحوالهم. ثم ختم السورة بأمرهم أن يستجيبوا لربّهم فيما شرع لهم من ذلك الدين، من قبل أن يأتي يوم لا مردّ له منه، ولا

يكون لهم ملجأ من عذابه. فإن أعرضوا عن ذلك فليس على النبي (ص) شيء من إعراضهم، لأنه قام بما كلّف به من تبليغهم ثم ذكر السياق أن السبب في إعراضهم ما هم فيه من غرور وجهل. فإذا أصابتهم رحمة فرحوا بها وأبطرتهم، وإذا أصابتهم سيّئة بلغ الكفر مبلغه منهم ثم خطّأهم في غرورهم بما يملكون في دنياهم، لأن كلّ شيء ملك لله جلّ جلاله، وكل ما في أيدينا هبة منه وحده سبحانه يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً. ثم انتقل السياق من ذلك إلى إثبات ما أنكروه من الوحي، بأنه ما كان لبشر أن يكلّمه الله إلّا وحيا أو من وراء حجاب، أو بوساطة ملك، وأنّه تعالى أوحى إلى الرسول (ص) روحا من أمره، وما كان الرسول (ص) يدري قبله ما الكتاب ولا الإيمان، وأنّه يهدي من ذلك إلى صراط مستقيم صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) .

المبحث الثالث مكنونات سورة"الشورى"

المبحث الثالث مكنونات سورة «الشورى» «1» 1- يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً [الآية 49] . قال البغوي «2» : كلوط (ع) . 2- وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) . قال: كإبراهيم (ع) لم يولد له أنثى. 3- أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً [الآية 50] . قال: كمحمّد (ص) 4- وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً [الآية 50] . قال: كيحيى وعيسى (ع) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . في «معالم التنزيل» 7/ 383. بهامش «ابن كثير» .

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"الشورى"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الشورى» «1» 1- قال تعالى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا [الآية 34] . أي: يهلكهنّ. أقول: آثرت أن أقف على هذا الفعل الذي لا نعرف منه في اللغة المعاصرة إلّا الوصف وهو «الموبقات» ، والموبقات في استعمال المعاصرين الأعمال الشائنة كالزّنى ونحوه. 2- وقال تعالى: وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) . والنكير: الإنكار، أي: ما لكم من مخلّص من العذاب. والغالب في المصدر على «فعيل» أن يدل على صوت نحو الصريخ والعويل والهديل، وغير ذلك كثير.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"الشورى"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الشورى» «1» قال تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الآية 13] . على التفسير كأنه سبحانه قال «هو أن أقيموا الدين» على البدل. وقال تعالى: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الآية 15] أي: أمرت كي أعدل. وقال سبحانه: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الآية 23] استثناء خارج. يريد، والله أعلم، إلّا أن أذكر مودة قرابتي. وأمّا يُبَشِّرُ [الآية 23] من «بشّرته» و «أبشرته» ، وقال بعضهم «أبشره» خفيفة، فذا من «بشرت» «2» وهو في الشعر. قال الشاعر [من البسيط وهو الشاهد السادس والستون بعد المائتين] : وقد أروح إلى الحانوت أبشره بالرّحل فوق ذرى العيرانة الأجد قال أبو الحسن «3» «أنشدني يونس «4» هذا البيت هكذا. لذلك ف (الذي يبشر) اسما للفعل كأنه «التبشير» ، كما قال تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر/ 94] أي اصدع بالأمر. ولا يكون أن تضمر فيها الباء، وتحذفها لأنك لا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . في التيسير 195 الى غير نافع، وعاصم، وابن عامر، وفي البحر 7/ 515 إلى عبد الله بن يعمر، وابن أبي إسحاق، والجحدري، والأعمش، وطلحة، في رواية، والكسائي وحمزة أمّا قراءة التضعيف «يبشر» وعليها رسم المصحف، فهي في التيسير إلى نافع، وعاصم، وابن عامر، وفي البحر إلى الجمهور. (3) . هو الأخفش المؤلف. (4) . هو يونس بن حبيب، وقد مرت ترجمته.

تقول: «كلّم الذي مررت» وأنت تريد «به» . وقوله تعالى: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا [الآية 26] أي: استجاب فجعلوا الفاعلين. وقال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) . أمّا اللام التي في وَلَمَنْ صَبَرَ (43) فلام الابتداء، وأمّا ذلك فمعناه، والله أعلم، إن ذلك منه لمن عزم الأمور. وقد تقول: «مررت بدار الذراع بدرهم» أي: «الذراع منها بدرهم» ، و «مررت ببرّ قفيز بدرهم» أي: «قفيز منه» وأمّا ابتداء «إنّ» في هذا الموضوع فكمثل قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة/ 8] . وقال تعالى: يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ (45) [الآية 45] بجعل (الطرف) العين كأنه سبحانه قال «ونظرهم من عين ضعيفة» ، والله أعلم. وقال يونس: إنّ مِنْ طَرْفٍ مثل: «بطرف» كما تقول العرب: «ضربته في السّيف» و «بالسّيف» «1» . وقال تعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) لأن الله تبارك وتعالى، يتولّى الأشياء دون خلقه يوم القيامة، وهو سبحانه في الدنيا قد جعل بعض الأمور إليهم، من الفقهاء والسلطان وأشباه ذلك «2» .

_ (1) . نقله في الجامع 16/ 46. (2) . نقله في إعراب القرآن 3/ 1049.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الشورى"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الشورى» «1» قال سبحانه: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) . - ما الحكمة من قوله تعالى يُوحِي والوجه الظاهر أن يقال: «أوحى» ؟ إنما قال ذلك ليدل على أن إيحاء مثل القرآن الكريم من عادته سبحانه. وقال: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الآية 16] . - الوجه المعهود ان يقال «حجتهم مدحوضة» ، أي ضعيفة وزالقة وزالّة وغير متماسكة، وأن يقال: «شبهتهم داحضة» ، فلم قال تعالى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ. إنما قال تعالى: داحِضَةٌ ليكون أبلغ في ضعف سنادها، ووهاء عمادها، فكأنها هي المبطلة لنفسها من غير مبطل أبطلها، لظهور أعلام الكذب فيها، وقيام شواهد التهافت عليها. وإنما قال سبحانه: حُجَّتُهُمْ ولم يقل: «شبهتهم» لاعتقادهم أنّ ما أدلوا به حجّة، ولتسميتهم لها بذلك في حال النزاع والمناقلة. وقال جلّ من قائل: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) . - لم عبر سبحانه بالحرث عن نفع الدنيا ونفع الآخرة؟

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أضواء على متشابهات القرآن» ، للشيخ خليل ياسين، دار مكتبة الهلال، بيروت، 1980 م.

لأن حرث الآخرة والدنيا كدح الكادح لثواب الآجلة، وحطام العاجلة، وذلك لأن الحارث المزدرع إنّما يتوقع عاقبة حرثه فيجني ثمرة غراسه، ويفوز بعوائد ازدراعه، كما قال الشريف الرضي. ولم قال سبحانه: وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [الآية 20] ولم يقل، منه؟ إنما صح تأنيث الضمير لأن لفظة «حرث» في معرض الحذف، ويصح حلول ما بعدها محلها، فيكون الضمير عائدا على الجزء الثاني وهو «الدنيا» فكأنه سبحانه قال «من كان يريد الدنيا نؤته منها» ويدل عليه قول ابن مالك في منظومته: وربما أكسب ثان أوّلا ... تأنيثه إن كان حذف موهلا وكما في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) [الأعراف] أي إن الله قريب. وقال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) . - ما هي كلمة الفصل التي منعت من القضاء بينهم؟ كلمة الفصل هي القضاء السابق، بتأجيل العقوبة لهذه الأمة، الى الآخرة، وهي الكلمة الواردة في [يونس/ 19] و [هود/ 110] ، و [طه/ 129] : وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ. وقال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الآية 23] . - من هم هؤلاء وما هي مودتهم، وما معنى فِي الْقُرْبى؟ أما قوله تعالى فِي الْقُرْبى فمعناه أنهم جعلوا مكانا للمودّة ومقرّا لها، كقولك: لي في آل فلان مودّة، ولي فيهم هوى وحبّ. وأما أهل القربى، فهم عليّ وأبناؤه الميامين عليهم السلام، وفي ذلك تواترت الأحاديث عن الرسول (ص) نذكر بعضا منها تيمّنا، عن الكشاف، والصواعق المحرقة وغيرهما. روي أنه لما نزلت، قيل يا رسول الله: من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم، قال هم علي وفاطمة وابناهما. وورد عنه (ص) أنّه قال: ألا ومن

مات على حبّ آل محمّد فتح له الى الجنة بابان ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشمّ رائحة الجنّة. يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: يا آل بيت رسول الله حبّكم ... فرض من الله في القرآن أنزله كفاكم من عظيم الفخر أنّكم ... من لم يصلّ عليكم لا صلاة له وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الآية 25] . - ما موقع كلمة عَنْ هنا؟ كلمة عَنْ هنا بمعنى «من» أي من عباده، تقول أخذ فلان العلم عن فلان أي منه. وقال: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ [الآية 29] . وقال جل وعلا: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) . - ما وجه نصب وَيَعْلَمَ مع أنّ ما قبلها مجزوم؟ إنّما كان النصب للعطف على تعليل محذوف، فكأنه سبحانه قال لينتقم منهم، وليعلم الذين يجادلون في آياتنا. وقال سبحانه: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الآية 40] . - لم سمّي الجزاء سيئة وهو ليس بسيّئة؟ - ذلك من باب الازدواج، كما في قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة/ 194] . وقوله سبحانه: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل/ 126] . وقال: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الآية 51] . - ما المراد بالحجاب في هذه الآية الكريمة؟ المراد بالحجاب البعد والخفاء وعدم الظهور، والعرب تستعمل لفظ الحجاب في ما ذكرناه، فيقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه واستبطأ فطنته، بيني وبينك حجاب، وتقول للأمر الذي تستبعده وتستصعب طريقه، بيني وبينه حجاب وموانع وسواتر وما جرى مجرى ذلك وعليه يكون معنى الآية: أنه تعالى لم يكلّم البشر إلّا وحيا بأن

يخطر في قلوبهم، أو من وراء حجاب بأن ينصب لهم أدلّة تدلّهم على ما يريده أو يكرهه، فيكون من حيث نصبه للدلالة على ذلك، والإرشاد إليه مخاطبا ومكلّما للعباد بما يدل عليه وجعله تعالى من وراء حجاب من حيث لم يكن مسموعا، كما يسمع الخاطر، فالحجاب كناية عن الخفاء. وقال: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الآية 52] . - ما المراد بالكتاب والإيمان في هذه الآية الكريمة؟ المراد بالكتاب القرآن، وبالإيمان التصديق بالله سبحانه وبرسوله معا، فالنبي (ص) مخاطب بالإيمان أي بالتصديق بالله وبرسالة نفسه، كما أنّ أمّته مخاطبة بتصديقه، ولا شكّ في أنّه، قبل البعث، لم يكن يعلم أنه رسول الله، وما علم ذلك إلا بالوحي، ويستقيم نفي الإيمان بالمعنى المركّب من التصديق بالله وبرسالة نفسه، وليس المراد بالإيمان التصديق بالله فقط. - ولم قال تعالى: مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ (52) والوجه الظاهر أن يقال «وما الإيمان» ؟ تقدير الآية: ما كنت قبل البعث تدري ما الكتاب، ولا ما الإيمان.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"الشورى"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الشورى» «1» في قوله تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا [الآية 13] استعارة. والمراد بإقامة الدين إعلان شعاره، وإعلاء مناره، والدّوام على اعتقاده، والثبات على العمل بواجباته. وقد مضى الكلام على نظائر هذه الاستعارة في ما تقدم. وفي قوله سبحانه: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الآية 16] استعارة. و «الدحض» : الزّلق. فكأنه تعالى قال: حجّتهم ضعيفة غير ثابتة، وزالّة غير متماسكة، كالواطئ الذي تضعف قدمه، فيزلق عن مستوى الأرض، ولا يستمر على الوطء. وداحضة هاهنا بمعنى مدحوضة. وإذا نسب الفعل إليها في الدّحوض كان أبلغ في ضعف سنادها، ووهاء عمادها، فكأنها هي المبطلة لنفسها، من غير مبطل أبطلها، لظهور أعلام الكذب فيها، وقيام شواهد التهافت عليها. وأطلق تعالى اسم الحجّة عليها، وهي شبهة، لاعتقاد المدلي بها أنّها حجّة، وتسميته لها بذلك في حال النزاع والمناقلة. وأيضا، فإنّ المتكلّم بها، لمّا أوردها مورد الحجة، وأسلكها طريقها، وأقامها مقامها، جاز أن يطلق عليها اسمها. وفي قوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) استعارة. والمراد بحرث الآخرة والدنيا، كدح

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

الكادح لثواب الآجلة، وحطام العاجلة، فهذا من التشبيه العجيب، والتمثيل المصيب. لأنّ الحارث المزدرع، إنّما يتوقع عاقبة حرثه، فيجني ثمرة غراسه، ويفوز بعوائد ازدراعه. وقيل معنى: نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أي نعطيه بالحسنة عشرا، إلى ما شئنا من الزيادة على ذلك. ومن عمل للدنيا دون الآخرة، أعطيناه نصيبا من الدّنيا دون الآخرة. وفي قوله سبحانه: وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) استعارة. وليس المراد أن هناك رحمة كانت مطويّة فنشرت، وخفيّة فأظهرت. وإنما معنى الرحمة، هاهنا، الغيث المنزّل لإحياء الأرض، وإخراج النّبت. ونشره عبارة عن إظهار النفع به، وتعريف الخلق عواقب المصالح بموقعه. وفي قوله تعالى: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الآية 45] استعارة. وقد أشرنا إليها فيما تقدّم، لمعنى جرّ إلى ذكرها. والمراد بذلك، أنّ نظرهم نظر الخائف الذليل، والمرتاب الظّنين. فهو لا ينظر إلا مسترقا، ولا يغضي إلا مشفقا. وهذا معنى قولهم: فلان لا يملأ عينيه من فلان. إذا وصفوه بعظم الهيبة له، وشدّة المخافة منه. فكأنّهم لا ينظرون بمتّسعات عيونهم، وإنّما ينظرون بشفافاتها «1» من ذلّهم ومخافتهم. وقد يجوز أن يكون الطّرف، هاهنا، بمعنى العين نفسها. فكأنه تعالى وصفهم بالنظر من عين ضعيفة، على المعنى الذي أشرنا إليه، أو يكون الطرف مصدر قولك: طرفت، أطرف، طرفا. إذا لحظت. فيكون المعنى أنّ لحظهم خفيّ، لأنّ نظرهم استراق، كما قلنا أوّلا، من عظيم الخيفة وتوقّع العقوبة.

_ (1) . لعلها جمع شفافة، وهي بقيّة الشيء. [.....]

سورة الزخرف

سورة الزّخرف

المبحث الأول أهداف سورة"الزخرف"

المبحث الأول أهداف سورة «الزخرف» «1» سورة الزخرف سورة مكيّة نزلت بعد سورة «الشورى» . وقد نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين في مكّة بعد الإسراء وقبيل الهجرة، وقد سمّيت بسورة «الزخرف» ، لقوله تعالى فيها: وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) . أفكار السورة تعرض هذه السورة جانبا ممّا كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات، ومن جدال واعتراضات، وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس، وكيف يقرّر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مواجهة الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلة الزائفة، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك، ولا يزال جانب منها قائما في النفوس في كلّ زمان ومكان. وقال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة «الشورى» هو: «بيان إثبات القرآن في اللوح المحفوظ، وإثبات الحجّة والبرهان على وجود الصانع، والردّ على عبّاد الأصنام الذين قالوا: الملائكة بنات الله سبحانه، والمنّة على الخليل إبراهيم (ع) بإبقاء كلمة التوحيد في عقبه، وبيان قسمة الأرزاق، والإخبار عن حسرة الكفار وندامتهم يوم القيامة، ومناظرة فرعون وموسى، ومجادلة عبد الله بن الزبعري للمؤمنين بحديث عيسى (ع) ، وادعاؤه أن

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

فصول السورة

الملائكة أحق بالعبادة من عيسى، ثم بيان شرف الموحّدين في القيامة، وعجز الكفار في جهنّم، وإثبات ألوهية الحق سبحانه في السماء والأرض، وأمر الرسول (ص) بالإعراض عن مكافأة الكفار» «1» في قوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) . فصول السورة إذا تأملنا سورة الزخرف، وجدنا أنّه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: 1- شبهات الكافرين يشمل الفصل الأول الآيات [1- 25] . ويبدأ بالتنويه بشأن القرآن والوحي، وبيان أنّ من سنّة الله، جلّ جلاله، إرسال الرسل لهداية الناس وإرشادهم، ولكنّ البشرية قابلت الرسل بالاستهزاء والسخرية، فأهلك الله المكذّبين. والعجيب أن كفّار مكة كانوا يعترفون بوجود الله، ثم لا يرتّبون على هذا الاعتراف نتائجه الطبيعية، من توحيد الله وإخلاص التوجّه إليه، فكانوا يجعلون له شركاء يخصّونهم ببعض ما خلق من الأنعام. وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية، وردّ النفوس الى الفطرة، وإلى الحقائق الأولى فالأنعام من خلق الله، وهي طرف من آية الحياة، مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعا، وقد خلقها الله وسخّرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها، لا ليجعلوا له شركاء، ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به الله، بينما هم يعترفون بأن الله، جل جلاله، هو الخالق المبدع، ثم هم ينحرفون عن هذه الحقيقة، ويتّبعون الخرافات والأساطير: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) . وكانت الوثنية الجاهلية تقول: إنّ الملائكة بنات الله. ومع أنهم يكرهون مولد البنات لأنفسهم، فإنّهم كانوا يختارون لله البنات ويعبدونهنّ من

_ (1) . بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 1/ 421، مع تعديل يسير.

2 - مناقشة ومحاجة

دونه، ويقولون إنّنا نعبدهنّ بمشيئة الله ولو شاء ما عبدناهنّ. وكانت مجرد أسطورة ناشئة عن انحراف في العقيدة. وفي هذه السورة يناقشهم القرآن بمنطقهم هم، ويحاجّهم كذلك بمنطق الفطرة الواضح حول هذه الأسطورة التي لا تستند الى شيء على الإطلاق: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) . ثم يكشف القرآن الكريم عن سندهم الوحيد في اعتقاد هذه الأسطورة، وهو المحاكاة والتقليد، وهي صورة زريّة، تشبه صورة القطيع يمضي حيث هو، منساقا بدون تفكير. ثم يبيّن القرآن، أن طبيعة المعرضين عن الهدى واحدة، وحجّتهم مكرورة بدون تدبّر لما يلقى إليهم، ولو كان أهدى وأجدى، ومن ثمّ لا تكون عاقبتهم إلّا التدمير والتنكيل، انتقاما منهم وعقابا لهم: وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) . 2- مناقشة ومحاجة تشتمل الآيات [26- 56] على القسم الثاني من السورة، وهو استمرار لمناقشة قريش في دعاويها. فقد كانت قريش تقول: إنها من ذريّة إبراهيم (ع) - وهذا حق- وإنها على ملّة إبراهيم (ع) - وهذا ادّعاء باطل- فقد أعلن إبراهيم (ع) كلمة التوحيد قوية واضحة، لا لبس فيها ولا غموض، ومن أجلها هجر أباه وقومه، بعد أن تعرّض للقتل والتحريق، وعلى التوحيد قامت شريعة إبراهيم (ع) ، ثم أوصى بها ذريّته وعقبه، فلم يكن للشرك فيها أي خيط رفيع. وفي هذا القسم من السورة يردّهم

3 - من أساطير المشركين

الى هذه الحقيقة التاريخية، ليعرضوا عليها دعواهم التي يدّعون. ثم يحكي اعتراضهم على رسالة النبي (ص) وقولهم كما ورد في التنزيل لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) ، ويناقش قولتهم هذه، وما تنطوي عليه من خطأ في تقدير القيم الأصلية التي أقام الله عليها الحياة، والقيم الزائفة التي تتراءى لهم، وتصدّهم عن الحقّ والهدى. وعقب تقرير الحقيقة في هذه القضيّة، يطلعهم على عاقبة المعرضين عن ذكر الله، بعد أن يطلعهم على علّة هذا العمى، وهو من وسوسة الشيطان. ويلتفت السياق في نهاية هذا الدرس الى الرسول (ص) فيذكر تسلية الله تعالى له ومواساته إيّاه عن إعراضهم وعماهم، بأن الرسول (ص) ليس بهادي العمي أو مسمع الصّمّ، وسيلقون جزاءهم، سواء أشهد انتقام الله منهم، أم أخّره الله عنهم، ويوجّهه تعالى الى الاستمساك بما أوحى إليه فإنّه الحق الذي جاء به الرسل أجمعون فكلّهم جاءوا بكلمة التوحيد ثم يعرض، من قصة موسى (ع) ، حلقة تمثّل واقع العرب هذا مع رسولهم، وكأنّما هي نسخة مكررة تحوي الاعتراضات ذاتها التي يبدونها، وتحكي اعتزاز فرعون وملته بالقيم ذاتها، التي يعتز بها المشركون: المال، الملك، الجاه، السلطان، مظاهر البذخ. وقد بيّن القرآن الكريم، فيما سبق، أنّها لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولو شاء الله لأعطى هذه الأموال للكافر في الدنيا لهوانها على الله من جهة، ولأنّ هذا الكافر لا حظّ له في نعيم الآخرة، من جهة أخرى ولكنّ الله سبحانه لم يفعل ذلك خشية أن يفتن الناس، وهو العليم بضعفهم، ولولا خوف الفتنة لجعل للكافر بيوتا سقفها من فضة، وسلالمها من ذهب، بيوتا ذات أبواب كثيرة، وقصورا فيها سرر للاتكاء، وفيها زخرف للزينة ... رمزا لهوان هذه الفضة والذهب، والزخرف والمتاع، بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمن. وهذا المتاع الزائل لا يتجاوز حدود الدنيا، ولكن الله يدّخر نعيم الآخرة للمتقين. 3- من أساطير المشركين تشتمل الآيات [57- 89] على

الدرس الأخير من سورة الزخرف، وفيها يستطرد السياق الى حكاية أساطير المشركين حول عبادة الملائكة، ويحكي حادثا من حوادث الجدل الذي كانوا يزاولونه، وهم يدافعون عن عقائدهم الواهية، لا بقصد الوصول الى الحق، ولكن مراء ومحالا. فلما قيل: إنكم وما تعبدون من دون الله حطب جهنم، وكان القصد هو أصنامهم التي جعلوها تماثيل للملائكة، ثم عبدوها بذاتها وقيل لهم إنّ كل عابد وما يعبد من دون الله في النار ... لما قيل لهم هذا، ضرب بعضهم المثل بعيسى بن مريم (ع) ، وقد عبده المنحرفون من قومه، أهو في النار؟ وكان هذا مجرد جدل، ومجرد مراء. ثم قالوا: إذا كان أهل الكتاب يعبدون عيسى (ع) ، وهو بشر، فنحن أهدى منهم إذ نعبد الملائكة وهم بنات الله، وكان هذا باطلا يقوم على باطل. وبهذه المناسبة، يذكر السياق طرفا من قصة عيسى بن مريم (ع) ، يكشف حقيقته وحقيقة دعوته، واختلاف قومه من قبله ومن بعده. ثم يهدّد المنحرفين عن سواء العقيدة جميعا بمجيء الساعة بغتة. وهنا يعرض مشهدا مطوّلا من مشاهد القيامة، يتضمّن صفحة من النعيم للمتّقين، وصفحة من العذاب الأليم للمجرمين، ثم يبيّن إحاطة الله سبحانه بجميع ما يصدر عنهم، وتسجيل ذلك عليهم. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) . ثم تلطّف القرآن الكريم في تنزيه الله تعالى عمّا يصفون، فأمر النبي (ص) أن يذكر لهم أنّه لو كان للرحمن ولد، لكان النبي (ص) أوّل العابدين له، ولكن الله جلّ جلاله منزّه عن اتّخاذ الولد، فهو سبحانه له الملكية المطلقة، للسماء والأرض، والدنيا والآخرة. ثم يواجههم القرآن الكريم بمنطق فطرتهم، فهم يؤمنون بالله، فكيف يصرفون عن الحق الذي تشهد به فطرتهم، ويحيدون عن مقتضاه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) . وفي ختام السورة يتبدّى اتجاه الرسول (ص) لربّه، يشكو إليه كفرهم، وعدم إيمانهم:

وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) . ويجيب عليه سبحانه في رعاية، فيدعوه الى الصفح والإعراض، فسيلقون جزاءهم المحتوم: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الزخرف"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الزخرف» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «الزخرف» بعد سورة «الشورى» ، ونزلت سورة «الشورى» بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الزخرف» ، في ذلك التاريخ أيضا. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى منها: وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وتبلغ آياتها تسعا وثمانين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة تنزيه الله تعالى عن الأولاد، وقد ذكر في السورة السابقة اتفاق الرسل على شريعة التوحيد، ولكنّ بعض أتباعهم أدخل عقيدة الولد في شرائعهم، فذكرت هذه السورة بعدها لتنزيه الله سبحانه عنها، وتبرئة هذه الشرائع منها هذا إلى ما فيها من أخذهم بالترهيب والترغيب وغيرهما مما تشبه به السورة السابقة أيضا. التمهيد لتنزيه الله سبحانه عن الأولاد الآيات [1- 14] قال الله تعالى: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) فمهّد لذلك بالتنويه بشأن ما يتلى عليهم فيه، وذكر سبحانه

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

إبطال بنوة الملائكة الآيات [15 - 56]

أنّه لا يصح أن يعرض عن إنذارهم لإسرافهم في شركهم، وأنه كم أرسل من نبي في الأولين، وأنهم كانوا أشدّ منهم بطشا، فلمّا استهزءوا بالرسل أهلكهم وجعلهم مثلا لمن بعدهم ثم انتقل السياق من ذلك الى إثبات ما ذكره من إسرافهم وعنادهم، فذكر سبحانه أنهم لو سئلوا: من خلق السماوات والأرض لقالوا: خلقهنّ العزيز العليم وذكر بعد هذا بعض ما أنعم به عليهم، ليعرفوا فضله، وينزّهوه عمّا لا يليق به، ويعتقدوا أنهم لا بد من رجوعهم إليه وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) . إبطال بنوة الملائكة الآيات [15- 56] ثم قال تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) فذكر، جلّ وعلا، أنهم، بدل شكره سبحانه، وتنزيهه عمّا لا يليق به، قالوا عن الملائكة إنهم بناته، مع أنهم لا يرضون البنات لأنفسهم، وإذا بشّر أحدهم بما يضربه لله مثلا من البنات ظلّ وجهه مسودا من الحزن والغم ثم ذكر أنهم لا دليل لهم على عبادتها إلّا قولهم: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، وقولهم: إنّا وجدنا آباءنا يعبدونهم ونحن مقتدون بهم وردّ عليهم بأنّ من قبلهم من المشركين ذكر مثل هذا لرسلهم، فلم يفدهم شيئا وانتقم الله منهم فأهلكهم ثم أمر النبي (ص) أن يذكر لهم براءة إبراهيم (ع) ممّا يشركون، وهو الأب الأعلى لهم، والإمام الذي يجب أن يكون قدوتهم، وكان قومه يعبدون الكواكب وسكّانها من الملائكة، فتبرّأ من عبادتهم، وشرع دين التوحيد لذريّته، ليرجعوا إليه جيلا بعد جيل ثم ذكر تعالى أنه متّع العرب من ذرّيّته حين انصرفوا عن شرعه، الى تلك العبادة الباطلة، فأمهلهم وأمدّ لهم، إلى أن أرسل إليهم رسولا منهم، وأنزل عليه القرآن ليدعوهم الى عبادته، فاستخفّوا به لأنه لم يكن من ذوي الرياسة فيهم، وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل عظيم من مكة أو الطائف وردّ عليهم سبحانه بأن ذلك فضله ورحمته يقسمهما كما يريد، وهو الذي قسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، واقتضت حكمته أن يكون فيهم الأغنياء والفقراء لتنتظم بهذا أمور

إبطال بنوة عيسى الآيات [57 - 89]

حياتهم، ورحمته خير من تلك الأموال التي يجعلونها مقياس الفضل بينهم. ولولا أن يكون الناس أمة واحدة على الكفر، لجعل لمن يكفر به بيوتا سقفها من فضة، إلى غير هذا من زخرف الدنيا وزينتها: وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) ثم ذكر تعالى أن ذلك من إغواء الشيطان الذي اتخذوه قرينا لهم، وأنّهم سيندمون على استماعهم له، حين يرجعون الى ربّهم، ويتمنّون أن لو كان بينهم وبينه بعد المشرقين ثم ذكر سبحانه للنبي (ص) استحكام الجهل فيهم، وأنهم لا ترجى هدايتهم، وأنه إن ذهب به قبلهم فإنه سينتقم منهم في آخرتهم، وإن أراه ما يوعدون من العذاب في دنياهم فهو مقتدر عليهم. ثم أمره أن يستمسك بما أوحي إليه من الإسلام والتوحيد وذكر أنه هو الدين الذي أرسل به الرسل قبله ثم خصّ موسى (ع) بالذكر من بينهم، لبقاء ظهور التوحيد في شريعته، أعظم من ظهوره في سواها فذكر ما كان من إرساله الى فرعون وقومه، وذكر ما كان من اغترار فرعون بملكه، واستهزائه بموسى (ع) لأنه لا يبلغ ما بلغه من المجد والسلطان في الحياة الدنيا، وأنه استخفّ قومه فأطاعوه فأغرقهم أجمعين: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) . إبطال بنوة عيسى الآيات [57- 89] ثم قال تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) فذكر أنهم اعتمدوا على النصرانية في عبادتهم الملائكة، فقالوا إن النصارى عبدوا عيسى (ع) واتخذوه ولدا لله، والملائكة خير منه بزعمهم الباطل وردّ عليهم سبحانه بأن عيسى ما هو إلا عبد مثلهم، وأنه لو يشاء سبحانه لجعلهم خلفا في الأرض منهم، ولم يسكنهم السماوات التي جعلتهم يبالغون في أمرهم ثم ذكر أن عيسى (ع) إنما ولد من غير أب، ليكون علامة على الساعة، ونهاهم عن الشكّ فيها، وأمرهم أن يتّبعوه ولا يسمعوا للشيطان فيما يزيّن لهم من عبادة غيره ثم ذكر أن عيسى (ع) جاء بما جاء به غيره من الرسل، فأمر بتقوى الله وعبادته، ولكنّ أتباعه

اختلفوا بعده الى أحزاب في شريعته، وزعموا أنه ابن له، ثم هدّدهم على هذا بعذاب يوم القيامة، وبيّن أنها توشك أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون، ويومئذ يعادي الأخلاء بعضهم بعضا إلا المتّقين ثم ذكر ما يحصل للمتّقين في ذلك اليوم، وذكر بعده ما يحصل للمجرمين فيه، الى أن ذكر في بيان استحقاقهم لما يحصل لهم: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) . ثم ختمت السورة بالتلطّف في إبطال اتّخاذ الأولاد له تعالى، فأمر الله نبيّه أن يذكر أنه لو كان لله سبحانه ولد، كما يزعمون باطلا، لكان أوّل العابدين سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) . وأمره أن يتركهم في لهوهم ولعبهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ثم ذكر سبحانه أنه هو الذي ثبتت ألوهيته في السماء والأرض، وله ملك السماوات والأرض وما بينهما، ولا يملك الذين يدعون، من الملائكة ونحوهم، الشفاعة لأحد، إلّا من شهد بالحق، فلا يصحّ أن يكونوا مع هذا العجز أولادا له ثم استبعد منهم أن يذهبوا إلى عبادتهم، مع علمهم بأنه جل جلاله، هو الذي خلقهم ثم ذكر أن مثل هؤلاء قوم لا يؤمنون: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) .

المبحث الثالث مكنونات سورة"الزخرف"

المبحث الثالث مكنونات سورة «الزخرف» «1» 1- وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) . قال الضّحّاك، عن ابن عباس: يعنون الوليد بن المغيرة المخزومي من مكة، ومسعود بن عمرو بن عبيد الله الثقفي من الطائف، أخرجه ابن أبي حاتم. وأخرج عن قتادة: وعروة بن مسعود «2» . ومن طريق العوفي، عن ابن عباس: حبيب بن عمر بن عثمان «3» الثقفي. وأخرج عن مجاهد: عتبة بن ربيعة من مكة، وابن عبد ياليل الثّقفي من الطائف «4» . 2- أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الآية 51] . قال مجاهد: الإسكندرية. أخرجه ابن أبي حاتم. 3- وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا [الآية 57] . الضارب له عبد الله بن الزّبعرى.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطّباع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . انظر «تفسير الطبري» 25/ 40. (3) . «تفسير الطبري» : «عمير» ، وكذا في «سيرة ابن هشام» 1/ 419. (4) . رواه ابن إسحاق في «السيرة» 359- 360.

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"الزخرف"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الزخرف» «1» 1- قال تعالى: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) . وقوله تعالى: مقرنين، أي: مطيقين، يقال: أقرن الشيء إذا أطاقه، قال ابن هرمة: وأقرنت ما حمّلتني ولقلّما ... يطاق احتمال الصدّ يا دعد والهجر أقول: ومع استعمالنا للفعل «قرن» و «قارن» فإننا لا نعرف «أقرن» ولا نعرف هذا الاستعمال في العربية المعاصرة. 2- وقال تعالى: وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا. والزخرف: زينة من كل شيء، والزخرف: الزينة والذهب. أقول: وقد خصّص الزخرف في لغتنا، فصارت دلالته على الأشكال المنسّقة، المتقابلة، والمتقاطعة، في حفر الخشب وقطعه، وكذلك في المعادن. 3- وقال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً [الآية 36] . وقرئ: ومن يعش بضم الشين وفتحها، والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل: عشي. وإذا نظر نظر العشيّ ولا آفة به قيل: عشا، ونظيره: عرج، لمن به الآفة، وعرج لمن مشى مشية العرجان من غير عرج. 4- وقال تعالى: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

وقرئ سَلَفاً: جمع سالف كخدم جمع خادم، و (سلفا) ، بضمتين، جمع سليف، أي: فريق قد سلف، و (سلفا) جمع سلفة أي ثلّة قد سلفت. والمعنى: فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفّار، يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم، ونزولهم به لإتيانهم بمثل أفعالهم. 5- وقال تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) . وقوله تعالى: يَصِدُّونَ، أي ترتفع لهم جلبة وضجيج، أي من الصديد وهو الجلبة، وقرئ: يصدّون من الصدود والتفسير واضح. 6- وقال تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) . وقوله تعالى: تُحْبَرُونَ، أي: تكرمون وتسرّون.

المبحث الخامس المعاني الغوية في سورة"الزخرف"

المبحث الخامس المعاني الغوية في سورة «الزخرف» » قال تعالى: أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) أي: «لأن كنتم» . وقال تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ [الآية 13] فتذكيره متعلّق ب ما تَرْكَبُونَ (12) و (ما) هو مذكر، كما تقول: «عندي من النساء ما يوافقك ويسرك» وقد تذكّر «الأنعام» وتؤنث. وقد قال تعالى في موضع: مِمَّا فِي بُطُونِهِ [النحل/ 66] ، وقال جلّ شأنه في موضع آخر بُطُونِها [المؤمنون/ 21] . وقال تعالى: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) تقول العرب «أنا براء منك» «2» . وقال تعالى: وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) تقول العرب «مفاتح» و «مفاتيح» و «معاط» في «المعطاء» و «أثاف» من «الأثفيّة» . وواحد «المعارج» «المعراج» ولو شئت قلت في جمعه «المعاريج» . وقرأ بعضهم قوله تعالى: وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الآية 35] خفيفة منصوبة اللام «3» وقرأ آخرون

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . في مجاز القرآن 2/ 23، أنّها لغة أهل العالية وفي اللهجات 475 أنّها لغة حجازيّة. (3) . هي في السبعة 586، الى القراء، عدا عاصما، وحمزة، وابن عامر، في رواية وفي التيسير 196 أبدل هشاما، بابن عامر وفي البحر 8/ 15 الى الجمهور.

لَمَّا بتثقيل اللام ونصبها، وتضعيف الميم «1» وزعم أنها في التفسير الأول «إلّا» وأنّها من كلام العرب. وقال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ [الآية 36] وهو ليس من «أعشى» و «عشو» ، إنّما هو في معنى قول الشاعر [من الطويل وهو الشاهد السابع والستون بعد المائتين] : إلى مالك أعشو الى مثل مالك كأنّ «أعشو» : أضعف، لأنه حين قال «أعشو الى مثل مالك» كان «العشو» : الضعف وحين قال: «أعشو إلى مثل مالك» أخبر أنه يأتيه غير بصير، ولا قوي. كما قال [من الطويل وهو الشاهد الثامن والستون بعد المائتين] : متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا «2» . أي: متى ما تفتقر، فتقصد الى ضوء ناره، يغنك. وقال تعالى: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ [الآية 53] بجمع «أساور» و «أسورة» وقرأ بعضهم (أساورة) «3»

_ (1) . هي في السبعة 586 الى عاصم، وحمزة وابن عامر في رواية، وأبدل في التيسير 196 هشاما بابن عامر وأهمل في البحر 8/ 15 هشاما وابن عامر، وذكر زيادة الحسن وطلحة والأعمش وعيسى، وعلى هذه القراءة، رسم المصحف الشريف. (2) . البيت ملفق من صدر للحطيئة عجزه هو: تجد خير نار عندها خير موقد وعجز بيت لعبد الله بن الحر صدره هو: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا الكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 445 و 446 ومجالس ثعلب 467، والإنصاف 2/ 309 وشرح المفصل 7/ 53، و 10/ 20، و 2/ 66، و 4/ 478، و 7/ 45، و 53 والخزانة 3/ 660 والدرر 2/ 166 والمقاصد النحوية 4/ 439 ومجالس العلماء 220 وأمالي ابن الشجري 2/ 278 وديوان الحطيئة 161، (3) . هي قراءة نسبت في معاني القرآن 3/ 35 الى يحيى بن وثاب، وفي الطبري 25/ 82، الى عامة قراء المدينة، والبصرة، والكوفة وفي حجّة ابن خالويه 295 الى القرّاء، إلّا عاصما، في رواية حفص، وفي الكشف 2/ 259، والتيسير 197، الى غير حفص وزاد عليه في الجامع 16/ 100 ابن مسعود، وأبيّا وفي البحر 8/ 23 الى الجمهور. أمّا قراء أسورة، ففي معاني القرآن 3/ 35 الى أهل المدينة، والحسن واقتصر في الطبري 25/ 82 على الحسن وفي السبعة 587 الى عاصم، وفي حجّة ابن خالويه 295 الى عاصم، في رواية حفص وفي الكشف 2/ 259، والتيسير 197، والجامع 16/ 100، الى حفص وفي البحر 8/ 23، الى الحسن، وقتادة، وأبي رجاء، والأعرج، ومجاهد، وابن حيوة، وحفص. [.....]

بجعله جمعا للأسورة فكأنّه أراد: «أساوير» ، والله أعلم، بجعل الهاء عوضا من الياء كما في «زنادقة» «1» ، بجعل الهاء عوضا من الياء التي في «زناديق» .

_ (1) . نقله في الصحاح 2/ 690.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الزخرف"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الزخرف» «1» إن قيل: لم قال تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الآية 3] ولم يقل قلناه أو أنزلناه، والقرآن ليس بمجعول، لأنّ الجعل هو الخلق، ومنه قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام/ 1] وقوله تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) [القيامة] . قلنا: الجعل أيضا يأتي بمعنى القول، ومنه قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ [النحل/ 57] وقوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً [إبراهيم/ 30] أي قالوا ووصفوا، لا أنهم خلقوا كذلك هنا. فإن قيل: لم قال تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الآية 45] والنبي (ص) ما لقيهم حتّى يسألهم؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: واسأل أتباع من، أو أمّة من أرسلنا من قبلك. الثاني: أنه مجاز عن النظر في أديانهم، والبحث عن مللهم، هل فيها ذلك. الثالث: أن النبي (ص) حشر له الأنبياء عليهم السلام ليلة المعراج، فلقيهم، وأمّهم في مسجد بيت المقدس، فلمّا فرغ من الصلاة نزلت عليه هذه الآية، والأنبياء حاضرون، فقال لا أسال قد كفيت، وقيل إنه خطاب له، والمراد به أمّته. فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها [الآية 48] يعني الآيات التسع

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

التي جاء بها موسى (ع) . فإن كان المراد به أن كلّ واحدة منهن أكبر من سواها، لزم أن يكون كل واحدة فاضلة ومفضولة وإن كان المراد به أنّ كلّ واحدة منهن أكبر من أخت معنية لها، فأيّتها هي الكبرى، وأيتها هي الصغرى؟ قلنا: المراد بذلك- والله أعلم- أنهن موصوفات بالكبر، لا يكدن يتفاوتن فيه، ونظيره بيت الحماسة: من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم مثل النّجوم التي يسري بها الساري فإن قيل: لم قال عيسى (ع) لأمّته كما ورد في التنزيل: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [الآية 63] . قلنا: كانوا يختلفون في ما يعنيهم من أمر الديانات، وفي ما لا يعنيهم من أمور أخرى، فكان يبيّن لهم الشرائع والأحكام خاصة. وقيل إن البعض هنا بمعنى الكل، كما سبق في سورة غافر في قوله تعالى: وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر/ 28] . فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) بعد قوله تعالى بَغْتَةً أي فجأة. قلنا: الحكمة أنّ الساعة تأتيهم، وهم غافلون، مشغولون بأمور دنياهم، كما قال تعالى: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) [يس] فلولا قوله تعالى وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) ، لجاز أن تأتيهم بغتة، وهم فطنون، حذرون، مستعدّون لها. فإن قيل: لم وصف تعالى أهل النار فيها بكونهم مبلسين، والمبلس هو الآيس من الرحمة والفرج، ثم قال تعالى وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الآية 77] فطلبوا الفرج بالموت. قلنا: تلك أزمنة متطاولة، وأحقاب ممتدة، فتختلف فيها أحوالهم، فيغلب عليهم اليأس تارة فيسكنون، ويشتدّ ما بهم من ألم العذاب تارة فيستغيثون. فإن قيل: قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الآية 84] ظاهره يقتضي تعدّد الآلهة، لأنّ النكرة إذا أعيدت تعدّدت كقول القائل: له عليّ درهم ودرهم، وأنت طالق وطالق، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما لن يغلب عسر يسرين؟ قلنا: الإله هنا بمعنى المعبود

بالنقل، كما في قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام/ 3] فصار المعنى: وهو الذي في السماء معبود وفي الأرض معبود. والمغايرة ثابتة بين معبوديّته في السّماء، ومعبوديّته في الأرض، لأن العبوديّة من الأمور الإضافية، فيكفي في تغايرهما التغاير من أحد الطرفين، فإذا كان العابد في السماء غير العابد في الأرض، صدق أن معبوديته في السماء غير معبوديته في الأرض، مع أن المعبود واحد.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"الزخرف"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الزخرف» «1» في قوله سبحانه: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) استعارة. ويقال: ضربت عنه وأضربت عنه بمعنى واحد. وسواء قولك ذهبت عنه صفحا، وأعرضت عنه صفحا، وضربت وأضربت عنه صفحا، ومعنى صفحا هاهنا أي أعرضت عنه بصفحة وجهي. والمراد، والله اعلم، أفنعرض عنكم بالذّكر، فيكون الذّكر مرورا بصفحه عنكم، من أجل إسرافكم وبغيكم؟ أي لسنا نفعل ذلك، بل نوالي تذكيركم لتتذكّروا، ونتابع زجركم لتنزجروا. ولمّا كان سبحانه يستحيل أن يصف نفسه بإعراض الصفحة، كان الكلام محمولا على وصف الذّكر بذلك، على طريق الاستعارة. وفي قوله سبحانه: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) استعارة. وقد مضى مثلها في ما تقدم، إلا أن هاهنا إبدال لفظة مكان لفظة. لأن ما مضى من نظائر هذه الاستعارة، إنما يرد بلفظ إحياء الأرض بعد موتها. وورد ذلك هاهنا، بلفظ الإنشار بعد الموت وهو أبلغ. لأن الإنشار صفة تختصّ بها الإعادة بعد الموت، والإحياء قد يشترك فيه ما يعاد من الحيوان بعد موته، وما يعاد من النبات والأشجار بعد تلبّده وجفوفه. يقال: قد أحيا الله الشجر.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

كما يقال: قد أحيا البشر. ولا يقال: أنشر الله النبات، كما يقال: أنشر الأموات. وفي قوله سبحانه: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) استعارة: لأنّ الكلام الذي هو الأصوات المقطّعة، والحروف المنظومة، لا يجوز عليه البقاء. إنما المراد، والله اعلم، أن إبراهيم (ع) جعل الكلمة التي قالها لأبيه وقومه وهي قوله تعالى: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) باقية في عقبه، بأن وصّى بها ولده، وأمرهم أن يتواصوا بها ما تناقلتهم الأصلاب، وتناسختهم الأدوار. وهذه الكلمة هي كلمة الإخلاص والتوحيد. والله اعلم. وقوله سبحان: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وهذا الكلام أيضا داخل في قبيل الاستعارة. لأن مسألة الرسل الذين درجت قرونهم، وخلت أزمانهم غير ممكنة. إنّما المراد، والله اعلم، واسأل أصحاب من أرسلنا من قبلك من رسلنا، أو استعلم ما في كتبهم، وتعرّف حقائق سننهم. وذلك على مثال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (82) [يوسف/ 82] . وقال بعضهم: مسألة الرسل هاهنا بمعنى المسألة عنهم، عليهم السلام، وعمّا أتوا به من شريعة، وأقاموه من عماد سنّة. وقد يأتي في كلامهم: اسأل كذا، أي اطلبه، واسأل عنه. قال سبحانه: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا (34) [الإسراء/ 34] أي مسؤولا عنه. وقال تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) أي سئل عن قتلها، وطلب بدمها. فكأنه تعالى قال لنبيه (ع) : واسأل عن سنن الأنبياء قبلك، وشرائع الرسل الماضين أمامك، فإنك لا تجد فيها إطلاقا عبادة لمعبود إلا الله سبحانه. وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتابنا الكبير.

سورة الدخان

سورة الدّخان

المبحث الأول أهداف سورة"الدخان"

المبحث الأول أهداف سورة «الدخان» «1» سورة «الدخان» سورة مكية نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين في مكة، بعد الإسراء، وقبيل الهجرة، وآياتها 59 آية، نزلت بعد سورة «الزخرف» . وقد سميت سورة «الدخان» لقوله تعالى فيها: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) . أفكار السورة قال الفيروزآبادي: معظم ما ترمي إليه سورة الدخان هو: نزول القرآن في ليلة القدر، وآيات التوحيد، والشكاية من الكفار، وحديث موسى (ع) وبني إسرائيل وفرعون، والرد على منكري البعث، وذلّ الكفار في العقوبة، وعز المؤمنين في الجنة، والمنّة على الرسول (ص) بتيسير القرآن على لسانه، في قوله تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) . فضل السورة سورة الدخان سورة يكثر المسلمون قراءتها، خصوصا ليلة النصف من شعبان، وليلة القدر في رمضان، وليلة الجمعة. وهي تبدأ ببيان أن القرآن أنزل من السماء في ليلة مباركة، يحمل الرحمة والهدى من رب العالمين ثم تنذر المشركين بالعذاب، وتذكر طرفا من قصة موسى (ع) مع فرعون، يعقبه

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

سياق السورة

مشاهد القيامة، وفيها نعيم المتقين، وعقاب المشركين. ومن السنّة قراءة سورة الدخان ليلة الجمعة لتثبيت الإيمان وتقوية اليقين بقدرة الله رب العالمين. قال رسول الله (ص) : «من قرأ حم التي يذكر فيها الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له» «1» . سياق السورة سورة الدخان سريعة الإيقاع، قصيرة الفواصل، لها سمات السور المكية، إذ تشتمل على صور عنيفة متقاربة، ونذر متكررة، تشبه المطارق التي تقع على أوتار القلب البشري. «ويكاد سياق السورة أن يكون كله وحدة متماسكة، ذات محور واحد، تشد إليه خيوطها جميعا، سواء في ذلك القصة، ومشهد القيامة، ومصارع الغابرين، والمشهد الكوني، والحديث المباشر عن قضية التوحيد والبعث والرسالة، فكلها وسائل ومؤثرات لإيقاظ القلب البشري، واستجاشته لاستقبال حقيقة الإيمان حية نابضة، كما يبثها هذا القرآن في القلوب» «2» . تبدأ السورة بهذه الآيات القصيرة المتلاحقة، المتعلقة بالكتاب والإنذار والرسالة والهداية: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) . ثم تعريف للناس بربهم: رب السماوات والأرض وما بينهما، وإثبات الوحدانية لله المحيي المميت، ربّ الأولين والآخرين. ثم أعرض السياق عن هذا الحديث ليتناول شأن القوم: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) . ويعاجلهم بالتهديد المرعب جزاء الشك واللعب: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) . ثم ذكر ما يكون من دعائهم لله أن يكشف عنهم العذاب، وإعلانهم

_ (1) . في حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي 148 «هذا الحديث أخرجه الترمذي، وليس موضوعا» . (2) . في ظلال القرآن، بقلم سيد قطب 24/ 105.

الاستعداد للإيمان في وقت لا يقبل منهم فيه إيمان. وتذكيرهم بأن هذا العذاب لم يأت بعد، وهو الآن عنهم مكشوف فلينتهزوا الفرصة، قبل أن يعودوا الى ربهم، فيكون ذلك العذاب المخيف. يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) . ومن هذا الإيقاع العنيف بمشهد العذاب، ومشهد البطشة الكبرى والانتقام، ينتقل بهم السياق الى مصرع فرعون وملّته، يوم جاءهم رسول كريم، يدعوهم الى الإيمان بالله تعالى، فأبوا أن يستجيبوا لدعوته، وهمّوا بالانتقام من موسى (ع) فأغرقهم سبحانه، وتركوا وراءهم الجنات والزروع، والفاكهة والمقام الكريم، يستمتع بها سواهم، ويذوقون هم عذاب السعير. وفي غمرة هذا المشهد الموحي يعود السياق الى الحديث عن تكذيبهم بالآخرة، وإنكارهم للبعث وقولهم، كما ورد في التنزيل: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) . ليذكّرهم، بأنهم ليسوا أقوى من قوم تبّع الذين هلكوا لإجرامهم. ويربط السّياق بين البعث، وحكمة الله، جلّ وعلا، في خلق السماوات والأرض، فلم يخلقهما عبثا، وإنما لحكمة سامية، هي أن تكون الدنيا للعمل والابتلاء، والآخرة للبعث والجزاء. ثم يحدثهم عن يوم الفصل الذي هو مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ. وهنا يعرض السياق مشهدا عنيفا لعذاب المكذّبين: إنهم يأكلون من شجرة مؤلمة طعامها مثل درديّ «1» الزيت المغلي- وهو المهل- يغلي في البطون كغلي الجحيم، ويشدّ المجرم شدّا في جفوة وإهانة، ويصبّ فوق رأسه من الحميم الذي يكوي ويشوي. ومع الشدّ والجذب، والدفع والعتل والكيّ، التأنيب والإهانة، جزاء الشكّ والتكذيب بالبعث والجزاء: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) . وفي الجانب الآخر من ساحة

_ (1) . درديّ الزيت: ما رسب أسفل الزيت.

القيامة، نجد المتّقين في مقام أمين، يلبسون الحرير الرقيق وهو السندس، والحرير السميك وهو الإستبرق، ويجلسون متقابلين يسمرون ويتمتعون بالحور العين، وبالخلود في دار النعيم. فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) . ثم يأتي الختام يذكّرهم بنعمة الله سبحانه في تيسير هذا القرآن على لسان الرسول العربي، الذي يفهمون كلامه ويدركون معانيه، ويخوّفهم العاقبة والمصير، في تعبير ملفوف، ولكنه مخيف. فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الدخان"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الدخان» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «الدخان» بعد سورة «الزخرف» ، ونزلت سورة «الزخرف» بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الدخان» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) وتبلغ آياتها تسعا وخمسين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة، بيان أن ما أنذر به المشركون، في آخر السورة السابقة، قد صار قريبا، وأصبح وقوعه مرتقبا، وأوشك دخانه أن يملأ آفاق السماء ولهذا جاءت هذه السورة بعد سورة الزخرف، لما بينهما من هذه المناسبة الظاهرة. إنزال يوم العذاب الآيات [1- 59] قال الله تعالى: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فذكر سبحانه أنه أنزل يوم عذابهم إلى سماء الدنيا، في الليلة التي اختارها من السنة لتقدير الحوادث فيها، وإعلان ملائكته بها لتنفيذها. ثم انتقل السياق من هذا الى أمر النبي (ص) بارتقاب يوم تأتي السماء

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

بدخانه. وهذا كناية عن ظهور شرّه، لأن الإنسان إذا اشتد خوفه أظلمت عيناه، فيرى الدنيا كأنها مملوءة من الدخان. ثم ذكر السياق ما يكون من دعائهم له، سبحانه، أن يكشفه عنهم وإعلان استعدادهم للإيمان، وما يكون من استبعاده إيمانهم إذا كشفه عنهم، وقد جاءهم رسول مبين فأعرضوا عنه وقالوا: معلّم مجنون. ثم ذكر السياق أيضا أنه، سبحانه، يكشفه قليلا، ليظهر كذبهم في دعوى استعدادهم للإيمان، إذا كشفه عنهم، وأنه، جلّت قدرته، يبطش بهم بعد هذا بطشته الكبرى، وينتقم منهم. ثم أتبع ذلك بذكر ما حصل لفرعون وقومه لبيان قدرة الله تعالى على إهلاكهم، وأن تلك سنته فيمن يكذّب رسله ولا يؤمن به. ثم عاد السياق إليهم فذكر أنهم ينكرون ذلك ويزعمون أنهم لا يبعثون ويطلبون، ممن يعتقد ذلك، أن يبعث لهم آباءهم إن كان صادقا في دعواه. وأورد السياق ردّه سبحانه عليهم بأنهم ليسوا أقوى من قوم تبّع الذين أهلكهم لإجرامهم، وبأنه، جلّ وعلا، لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما عبثا، وإنما خلق ذلك لحكمة لا تظهر إلّا بأن يكون هناك بعث بعد الموت، لأنه لا بدّ من يوم يفصل فيه بينهم أجمعين، فلا يغني فيه مولى عن مولى شيئا، وتكون شجرة الزّقّوم طعام الأثيم، ويكون المتّقون في مقام أمين. ثم ختمت السورة بمثل ما بدأت به، فقال تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) .

المبحث الثالث مكنونات سورة"الدخان"

المبحث الثالث مكنونات سورة «الدخان» «1» 1- إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الآية 3] . قال عكرمة: ليلة القدر. أخرجه ابن أبي حاتم. وقيل: ليلة النّصف من شعبان «2» . حكاه ابن عسكر «3» . 2- طَعامُ الْأَثِيمِ (44) . قال سعيد بن جبير: هو أبو جهل. أخرجه ابن أبي حاتم «4» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 137: «ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان، كما روي عن عكرمة، فقد أبعد النّجعة، فإن نص القرآن أنها في رمضان» أي في سورة القدر. (3) . والطبري في «تفسيره» 25/ 64، وصوّب أنها في ليلة القدر. (4) . وأخرجه الطبري 25/ 78 عن ابن زيد.

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"الدخان"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الدخان» «1» 1- وقال تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) . أي: لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا الى وقت آخر، ولم يمهلوا إلى الآخرة. والإنظار: الإمهال. 2- وقال تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) . أي: فقودوه بعنف وغلظة، وهو أن يؤخذ بتلبيب الرجل، فيجرّ الى حبس أو قتل. ومنه العتلّ، أي: الغليظ الجافي.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"الدخان"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الدخان» «1» قال تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً وقال: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الآية 6] بانتصابه على «إنّا أنزلناه أمرا ورحمة» في الحال. وقال تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ [الآية 42] بجعله بدلا من الاسم المضمر في يُنْصَرُونَ (41) وإن شئت جعلته مبتدأ. وأضمرت خبره تريد «إلّا من رحم الله فيغني عنه» . وقال تعالى: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) أي، والله أعلم، «جعلناهم أزواجا بالحور» ، ومن العرب من يقول «عين حير» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الدخان"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الدخان» «1» إن قيل: الخلاف بين النبي (ص) ومنكري البعث إنما كان في الحياة بعد الموت لا في الموت، فلم قال تبارك وتعالى: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى، ولم يقل إلا حياتنا، كما قال تعالى في موضع آخر: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [المؤمنون/ 37] وما معنى وصف الموتة بالأولى، كأنهم وعدوا موتة أخرى، حتى نفوها وجحدوها وأثبتوا الموتة الأولى؟ قلنا: لمّا وعدوا موتة تكون بعدها حياة نفوا ذلك، كأنهم قالوا: لا تقع في الوجود موتة تكون بعدها حياة، إلّا ما كنا فيه من موتة العدم، وبعثنا منه الى حياة الوجود. وقيل إنهم نفوا بذلك الموتة الثانية في القبر، بعد إحيائهم لسؤال منكر ونكير. فإن قيل لم قال تعالى: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) والعذاب لا يصب، وإنما يصب الحميم، كما في قوله تعالى في موضع آخر: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) [الحج] ؟ قلنا: هو استعارة ليكون الوعد أهول وأهيب، ونظيره قوله تعالى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) [الفجر] وقوله تعالى: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً [البقرة/ 250] ، وقول الشاعر: صبّت عليهم صروف الدّهر من صبب فإن قيل: لم وعد الله أهل الجنة

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

بلبس الإستبرق وهو غليظ الديباج في قوله تعالى: يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مع أن لبس الغليظ من الديباج عند السعداء من أهل الدنيا عيب ونقص؟ قلنا: كما أن رقيق ديباج الجنة وهو السندس، ولا يماثل رقيق ديباج الدنيا إلا في الاسم فقط، فكذلك غليظ ديباج الجنة. وقيل السندس لباس السادة من أهل الجنة، والإستبرق لباس العبيد والخدم إظهارا لتفاوت المراتب. فإن قيل: لم قال تعالى في وصف أهل الجنة: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الآية 56] مع أن الموتة الأولى لم يذوقوها في الجنة؟ قلنا: قال الزجاج والفراء «إلّا» هنا بمعنى سوى كما في قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء/ 22] وقوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [هود/ 108] . الثاني: أن «إلّا» بمعنى بعد كما قال بعضهم في قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. الثالث: أنّ السعداء، إذا حضرتهم الوفاة، كشف لهم الغطاء، وعرضت عليهم منازلهم ومقاماتهم في الجنة، وتلذّذوا في حال النزع بروحها وريحانها، فكأنهم ماتوا في الجنة، وهذا قول ابن قتيبة رحمه الله.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"الدخان"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الدخان» «1» في قوله سبحانه: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) استعارة، وقد مضى الكلام على مثلها في بني إسرائيل. والمراد، والله أعلم، تبيين كل أمر حكيم في هذه الليلة، حتى يصير كفرق الصبح في بيانه، أو مفرق الطريق في اتضاحه. ومنه قولهم: فرقت الشّعر. إذا خلّصت بعضه من بعض، وبيّنت مخطّ وسطه بالمدرى «2» أو بالإصبع. وفي قوله سبحانه: وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) استعارة. والمراد بالعلوّ هاهنا: الاستكبار على الله سبحانه، وعلى أوليائه. ويوصف المستكبر في كلامهم بأن يقال: قد شمخ بأنفه. وهذه الصفة مثل وصفه بالعلوّ. لأنّ الشامخ: العالي. وقال سبحانه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [القصص/ 4] أي تجبّر فيها، واستكبر على أهلها. وليس يراد بذلك العلوّ الذي هو الصعود. وإنما يراد به العلوّ الذي هو الاستكبار والعتوّ. وضدّ وصفهم المستكبر بالعلوّ والتطاول، وصفهم المتواضع بالخشوع والتضاؤل. وفي قوله سبحانه: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) . استعارة. وقد قيل في معناها أقوال: أحدها أن البكاء هاهنا بمعنى الحزن، فكأنه تعالى قال: فلم تحزن عليهم السماء والأرض بعد هلاكهم، وانقطاع

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . المدرى: المشط الذي يدرى به الرأس، ويمشط.

آثارهم. وإنما عبّر سبحانه عن الحزن بالبكاء، لأن البكاء يصدر عن الحزن، في أكثر الأحوال. ومن عادة العرب أن يصفوا الدّار إذا ظعن عنها سكّانها، وفارقها قطّانها بأنها باكية عليهم، ومتوجعة لهم، على طريق المجاز والاتساع، بمعنى ظهور علامات الخشوع والوحشة عليها، وانقطاع أسباب النعمة والأنسة عنها. ووجه آخر هو أن يكون المعنى: لو كانت السماوات والأرض من الجنس الذي يصح منه البكاء لم تبكيا عليهم، ولم تتوجّعا لهم، إذ كان الله سبحانه عليهم ساخطا، ولهم ماقتا. ووجه آخر: قيل معنى ذلك: ما بكى عليهم من السماوات والأرض، ما يبكي على المؤمن عند وفاته، من مواضع صلواته، ومصاعد أعماله، على ما ورد الخبر به «1» . وفي ذلك وجهان آخران يخرج بهما الكلام عن طريق الاستعارة، فأحدهما أن يكون المعنى: فما بكى عليهم أهل السماء والأرض، ونظائر ذلك في القرآن كثيرة. والآخر أن يكون المعنى أنه لم ينتصر أحد لهم، ولم يطلب طالب بثأرهم. ومضى في أشعار العرب: بكينا فلانا بأطراف الرماح، وبمضارب الصفاح. أي طلبنا دمه، وأدركنا ثأره.

_ (1) . روى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص) : «ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان: باب ينزل منه رزقه، وباب يدخل منه كلامه وعمله، فإذا مات فقداه، فبكيا عليه. ثم تلا قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ. انظر «الجامع لأحكام القرآن» ج 16 ص 140 وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما: إنه يبكي مصلاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء. (المصدر نفسه) .

سورة الجاثية

سورة الجاثية

المبحث الأول أهداف سورة"الجاثية"

المبحث الأول أهداف سورة «الجاثية» «1» سورة «الجاثية» سورة مكية نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة، بعد الإسراء وقبيل الهجرة، وآياتها 37 آية نزلت بعد سورة «الدخان» ، ولهذه السورة اسمان: سورة «الجاثية» لقوله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ. وسورة «الشريعة» لقوله: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) . الغرض من السورة تحمل سورة الجاثية الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى، والرد على الدهرية الذين لا يؤمنون به، وينكرون البعث بعد الموت، وقد دعت السورة إلى هذا تارة بالدليل، وتارة بالترهيب والترغيب، شأنها في ذلك شأن السورة السابقة، وشأن السورة التي ذكرت قبلها ووافقتها في هذا الغرض، كما وافقتها في الحروف التي ابتدأت بها، ولهذا ذكرت هذه السورة معها، وسميت مجموعة هذه السور بالحواميم، نسبة إلى بدايتها بقوله تعالى: حم (1) . وقال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة «الجاثية» هو: بيان حجة التوحيد، والشكاية من الكفار والمنكرين، وبيان النفع والضر

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

سمات السورة

والإساءة والإحسان «1» وبيان شريعة الإسلام والإيمان، وتهديد العصاة والخائنين من أهل الإيمان، وذم متابعي الهوى، وذل الناس في المحشر، ونسخ كتب الأعمال من اللوح المحفوظ، وتأبيد الكفار في النار وتحميد الرب المتعال بأوجز لفظ وأفصح مقال «2» ، في قوله جلّ وعلا: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) . سمات السورة لاحظنا أن سورة الدخان تتميز بقصر الآيات، وعنف الإيقاع فيها كأنه مطارق تقرع القلوب. وسورة الجاثية بجوارها تسير في يسر وهوادة وإيضاح هادئ وبيان دقيق عميق. والله سبحانه خالق القلوب، ومنزل هذا القرآن، يأخذ القلوب تارة بالقرع والطرق، وتارة باللمس الناعم الرفيق، وتارة بالبيان الهادئ الرقيق، حسب تنوّعها هي وأخلافها. فمن الناس من ينفع معه الزجر والوعيد، ومنهم من يأسره التوجيه الهادي الرشيد، والقلب الواحد يتقلّب على حالات متعدّدة، والله يختار له ما يناسب، وهو سبحانه اللطيف الخبير، السميع البصير. وقد كان من دعاء النبي (ص) : «اللهم يا مقلّب القلوب والأبصار، ثبّت قلبي على دينك» ، فقالت عائشة: يا رسول الله أراك تكثر من هذا الدعاء ... فقال النبي: يا عائشة، إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء. منهج السورة تصوّر سورة الجاثية جانبا من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية، وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها، وتعنّتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها، واتّباعهم للهوى اتّباعا كاملا، في غير ما تحرّج من حقّ واضح، أو برهان ظاهر. كذلك تصوّر كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة، الشاردة مع الهوى، المغلقة دون الهدى. وهو يواجهها بآيات الله القاطعة، العميقة التأثير والدلالة، ويذكّرهم بعذابه،

_ (1) . لعلّه يقصد الإشارة إلى آيات الله الكونية في نفع العباد في الدنيا ثم في عقوبة الكفّار في الآخرة. (2) . بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 1/ 426.

درسان في السورة

ويصوّر لهم ثوابه، ويقرّر لهم سننه، ويعرّفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود. درسان في السورة سورة الجاثية وحدة في علاج موضوعها، وهذه الوحدة تشتمل على درسين: الدرس الأول: يتناول أدلّة الشرك بالتفنيد، وأدلة الإيمان بالتوضيح والتأييد. والدرس الثاني: يعرض عناد الكافرين في الدنيا، ثم يذكر أحوالهم في مشاهد القيامة. شبهات الكفر وأدلة الإيمان تبدأ سورة الجاثية بهذين الحرفين حم. والملاحظ أن هذه الأحرف التي تفتتح بها السور يتبعها عادة الحديث عن القرآن، مما يشير إلى أنها نزلت للتنويه به، وتلفت الأنظار إلى خصائصه المتميّزة، وتبرهن بذلك على أنه ليس من صنع البشر، وإنّما هو من عند الله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) . وتعرض أدلة الإيمان والتوحيد، وتلفت الأنظار إلى جلال الله سبحانه، ودلائل قدرته جلّ وعلا في السماء والأرض، والخلق والدوابّ، والليل والنهار، والمطر والزرع والرياح، حتى تأخذ على النفس أقطارها، وتواجهها بالحجج والبراهين ساطعة واضحة فتقول: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) . ومن خلال الآيات التالية، نرى فريقا من الناس مصرا على الضلالة مكابرا في الحق، شديد العناد، سيّئ الأدب في حق الله وحق كلامه. ْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) . ونرى جماعة من الناس، ربما كانوا من أهل الكتاب، سيّئي التصوير والتقدير، لا يقيمون وزنا لحقيقة الإيمان الخالصة، ولا يحسّون الفارق

عناد الكافرين وعقابهم يوم الدين

الأصيل بينهم وهم يعملون السيئات، وبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات والقرآن يشعرهم بأن هناك فارقا أصيلا في ميزان الله بين الفريقين: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) . ونرى فريقا من الناس لا يعرف حكما يرجع إليه إلّا هواه فهو إلهه الذي يعبده، ويطيع كل ما يراه نرى هذا الفريق مصوّرا تصويرا فذا في هذه الآية التي تبدي العجب من أمره، وتشهّر بغفلته وعماه. أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) . أرأيت كيف تناولت هذه السورة الهادئة، أصناف المشركين وفرقهم المناوئة للدعوة؟ وربما كان هؤلاء جميعا فريقا واحدا من الناس يصدر منه هذا وذاك، ويصفه القرآن في السورة هنا وهناك، كما يجوز أن يكونوا فرقا متعددة. وعلى أي حال فقد واجه القرآن هؤلاء الناس بصفاتهم تلك وتصرفاتهم، وتحدث عنهم في هذه السورة ذلك الحديث، كذلك واجههم الله تعالى بآياته في الآفاق، وفي أنفسهم، وفي البر والبحر يقول سبحانه: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) . ويستغرق الدرس الأول من السورة الآيات [1- 23] . عناد الكافرين وعقابهم يوم الدين يشمل الدرس الثاني من السورة الآيات [24- 37] . ويبدأ بعرض أقوال المشركين عن الآخرة وعن البعث والحساب، ودعواهم أنّ الأيام تمضي، والدهر ينطوي، فإذا هم أموات، والدهر في ظنهم هو الذي ينهي آجالهم، ويلحق بأجسامهم الموت فيموتون وقد فنّد القرآن هذه الدعوى وبيّن أنّها لا تستند إلى حقيقة أو يقين، وإذا قرعتهم

مشاهد القيامة

الآيات الدالة على ثبوت البعث لم يجدوا لهم حجة إلا أن يقولوا: ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) . والله سبحانه له حكمة في خلق الناس، فقد خلقهم للاختبار والابتلاء في الدنيا قبل الموعد الذي قدره وفق حكمته العليا. والله هو الذي يحيي وهو الذي يميت فلا عجب، إذا، في أن يحيي الناس ويجمعهم الى يوم القيامة، وهو سبحانه مالك السماوات والأرض، وهو القادر على الإنشاء والإعادة. مشاهد القيامة تعرض الآيات الأخيرة من سورة «الجاثية» مشاهد الآخرة ظاهرة ملموسة للعين، ومن خلال الآيات ترى المشركين وقد جثوا على الرّكب متميّزين أمّة أمّة في ارتقاب الحساب المرهوب. ثم يأخذون كتابهم وقد سجّل كلّ شيء فيه، ونسخت فيه كلّ أعمالهم. وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) . ثم تنقسم الحشود الحاشدة والأمم المختلفة على مدى الأجيال إلى فريقين اثنين: الذين آمنوا، وهؤلاء يدخلهم ربهم في رحمته والذين كفروا، وهؤلاء يلقون التشهير والتوبيخ جزاء عنادهم وعندئذ يظهر أمام الذين كفروا سيئات ما عملوا، ويحيق بهم المهانة والعذاب، ويسدل الستار عليهم، وقد أوصدت عليهم أبواب النار: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) . وهنا ينطلق صوت التحميد يعلن وحدة الربوبية في هذا الكون سمائه وأرضه، إنسه وجنّه، طيره ووحشة، وسائر ما فيه ومن فيه فكلّهم في رعاية رب واحد، له الكبرياء المطلقة في هذا الوجود، وله العزة القادرة والحكمة المدبرة: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الجاثية"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الجاثية» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «الجاثية» بعد سورة «الدّخان» ، ونزلت سورة «الدخان» بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الجاثية» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) وتبلغ آياتها سبعا وثلاثين آية . الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى، والرد على الدهرية الذين لا يؤمنون به، وينكرون البعث بعد الموت. وقد دعي فيها إلى هذا تارة بالدليل، وتارة بالترهيب والترغيب، وشأنها في ذلك شأن السورة السابقة، وشأن السّور التي ذكرت قبلها ووافقتها في هذا الغرض، كما وافقتها في الحروف التي ابتدئت بها، ولهذا ذكرت هذه السورة معها. إثبات وجود الله تعالى الآيات [1- 23] قال الله تعالى: حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) فاستدل سبحانه على وجوده بآياته في السماوات والأرض، وفي خلق الإنسان والدوابّ إلى غير هذا مما ذكره

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

الرد على الدهرية الآيات [24 - 37]

من الآيات، ثم أنذر بالهلاك من لا يؤمن بها، ويصرّ على الكفر مستكبرا بعد سماعها، وأخذ السياق في هذا إلى قوله تعالى: هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) . ثم عاد السياق إلى الاستدلال على وجوده تعالى بتسخيره لنا البحر تجري الفلك فيه بأمره، ولنبتغي من فضله ونشكره على تسخيره ذلك لنا. وترقى السورة من تسخير ذلك لنا إلى تسخيره، جلّ وعلا، لنا كل ما في السماوات وما في الأرض جميعا، ثم أمر الذين آمنوا بهذا أن يغفروا للذين يكفرون به ولا يرجون أيام الله، فأخذهم في هذا بالترغيب بعد ذلك الترهيب، وهوّن عليهم أمر كفرهم بأنّ من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها، ثم إلى ربهم مرجعهم فيحكم بينهم، وأتبعه ببيان مشابهة طريقتهم في ذلك لطريقة بني إسرائيل قبلهم، ليهوّن عليهم أيضا بذلك أمرهم، فذكر سبحانه أنه آتاهم الكتاب والحكم والنبوة، إلى غير هذا مما أنعم به عليهم، فاختلفوا فيما آتاهم من ذلك بغيا وظلما، ثم ذكر للنبي (ص) أنه آتاه مثلهم شريعة من أمر الدين، وحذّره أن يختلف فيها كما اختلفوا باتّباع أهواء الجاهلين، فلا يغنوا عنه من عذابه شيئا، لأن الظالمين بعضهم أولياء بعض، وهو وليّ المتقين وحدهم، وهذا تبصرة لمن يتبصّر، وهدى ورحمة لقوم يوقنون. ثم عاد السياق إلى تفصيل ما أجمله من الحكم بينهم، فذكر سبحانه أنه لا يسوّي في الحكم بين الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأنه خلق السماوات والأرض بالحق، ولتجزى كلّ نفس بما كسبت وهم لا يظلمون: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) . الرد على الدهرية الآيات [24- 37] ثم قال تعالى: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) فذكر أنهم لا يؤمنون إلا بالحياة الدنيا، ويزعمون أن الدهر هو الذي يهلكهم، وينكرون وجود إله يحييهم بعد موتهم

ويحاسبهم. ورد عليهم بأنهم لا يستندون في ذلك إلى علم ودليل. فإذا قرعتهم الآيات الدالة على ثبوت البعث لم يجدوا لهم حجّة إلا أن يقولوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) وقد أمر النبي (ص) أن يجيبهم بأن الله يحييهم ثم يميتهم ثم يجمعهم إلى يوم القيامة الذي لا ريب فيه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ثم ذكر، سبحانه، أنه يوم تقوم الساعة يخسر المبطلون، وأنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يدخلهم في رحمته، وأنّ الذين كفروا يقال لهم: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) إلى غير هذا ممّا يقال لهم، وحينئذ تبدو لهم سيئات ما عملوا، ويحيق بهم ما كانوا به يستهزئون. ثم ذكر، جلّ جلاله، استحقاقه الحمد على ذلك، وختم السورة به: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) .

المبحث الثالث لغة التنزيل في سورة"الجاثية"

المبحث الثالث لغة التنزيل في سورة «الجاثية» «1» قال تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) . أي: إنّا كنّا نستكتب الملائكة أعمالكم. فالاستنساخ: طلب النسخ، أي: الكتابة، لا كما هو شائع في اللغة المعاصرة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة"الجاثية"

المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الجاثية» «1» قال تعالى: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، [الآية 21] . من فسر «المحيا» و «الممات» للكفّار والمؤمنين فقد يجوز في هذا المعنى نصب «السواء» ورفعه: لأن من جعل «السواء» مستويا فينبغي له أن يرفعه: لأنه الاسم، إلّا أن ينصب المحيا والممات على البدل. ونصب «السواء» على الاستواء. وقال: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً [الآية 9] ثم قال: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً [الآية 10] . فجمع لأنه قد قال: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) فهو في معنى جماعة مثل الأشياء التي تجيء في لفظ واحد، ومعناها معنى جماعة وقد جعل «الذي» بمنزلة «من» في قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) [الزمر] ف «الذي» في لفظ واحد. ثم قال أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) [الزّمر] . وقال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ [الآية 31] أي: فيقال لهم: «ألم تكن آياتي تتلى عليكم» ودخلت الفاء لمكان «أمّا» . وقال تعالى: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا (32) [الآية 32] أي: ما نظنّ إلّا ظنّا.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة"الجاثية"

المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الجاثية» «1» إن قيل: كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ. قلنا: وجه المطابقة أنهم ألزموا بما هم مقرّون به من أنّ الله تعالى هو الذي أحياهم أوّلا ثمّ يميتهم ومن كان قادرا على ذلك كان قادرا على جمعهم يوم القيامة، فيكون قادرا على إحياء آبائهم. فإن قيل: لم أضيف الكتاب إلى الأمّة ثم أضيف إليه سبحانه، في قوله: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا [الآية 28] وقوله: هذا كِتابُنا [الآية 29] . قلنا: الإضافة تصح بأدنى ملابسة. وقد صحت إضافة الكتاب إليهم، بكون أعمالهم مثبتة فيه. وصحت إضافة الكتاب إليه تعالى، بكونه مالكه الحقّ وكونه آمر الملائكة أن يكتبوا فيه أعمالهم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني المجازية في سورة"الجاثية"

المبحث السادس المعاني المجازية في سورة «الجاثية» «1» في قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها [الآية 18] استعارة، لأن الشريعة في أصل اللغة اسم للطريق المفضية إلى الماء المورود، وإنما سمّيت الأديان شرائع لأنها الطرق الموصلة إلى موارد الثواب، ومنافع العباد، تشبيها بشرائع المناهل التي هي مدرجة إلى الماء وموصلة إلى الرّواء. وفي قوله سبحانه: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الآية 29] ، استعارة، وقد مضت الإشارة إلى نظيرها فيما تقدم. والمعنى: الكتاب ناطق من جهة البيان، كما يكون الناطق من جهة اللّسان. وشهادة الكتاب ببيانه، أقوى من شهادة الإنسان بلسانه.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف

المبحث الأول أهداف سورة"الأحقاف"

المبحث الأول أهداف سورة «الأحقاف» «1» سورة الأحقاف سورة مكية، آياتها 35 آية، نزلت بعد سورة «الجاثية» . سورة الإيمان والتوحيد تعرض سورة الأحقاف قضية الإيمان بوحدانية الله، وربوبيته المطلقة لهذا الوجود ومن فيه وما فيه، والإيمان بالوحي والرسالة، والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء على ما كان في الحياة الدنيا من عمل وكسب، من إحسان وإساءة. هذه الأسس الأولى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله، ومن ثمّ عالجها القرآن في كل سوره المكية علاجا أساسيّا، وظل يتكئ عليها كذلك في سوره المدنية كلما همّ بتوجيه أو تشريع للحياة بعد قيام الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية. ذلك أن طبيعة هذا الدين تجعل قضية الإيمان بوحدانية الله سبحانه، وبعثة محمد (ص) والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء، هي المحور الذي تدور عليه آدابه ونظمه وشرائعه كلها، وترتبط به أوثق ارتباط، فتبقى حية حارّة تبعث تأثّرا دائما بذلك الايمان. وتسلك السورة بهذه القضية الى القلوب كلّ سبيل، وتوقّع فيها على كلّ وتر، وتعرضها في مجالات شتّى، مصحوبة بمؤثرات كونية ونفسية وتاريخية. كما أنها تجعلها قضية الوجود كله، لا قضية البشر وحدهم، فتذكر طرفا من قصة الجن مع هذا

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

أربعة مقاطع

القرآن، كما تذكر موقف بعض بني إسرائيل منه، وتقيم من الفطرة الصادقة شاهدا، كما تقيم من بعض بني إسرائيل شاهدا سواء بسواء. ثم هي تطوف بتلك القلوب في آفاق السماوات والأرض، وفي مشاهد القيامة في الآخرة، كما تطوف بهم في مصرع قوم «هود» ، وفي مصارع القرى حول مكة، وتجعل من السموات والأرض كتبا تنطق بالحق، كما ينطق هذا القرآن بالحق على السواء. أربعة مقاطع تشتمل سورة الأحقاف على أربعة عناصر متماسكة، كأنها عنصر واحد ذو أربعة مقاطع: 1- نقاش المشركين يبدأ المقطع الأول بالحرفين حاء وميم، في قوله تعالى: حم (1) . وهي بداية تكررت في ست سور سابقة تسمى بالحواميم. وهي: «غافر» ، و «فصّلت» ، و «الشورى» ، و «الزخرف» ، و «الدّخان» ، و «الجاثية» والسورة السابعة هي «الأحقاف» . ونلحظ أن هذه السور السبع تبدأ بالحرفين حاء وميم، ثم تعقب بذكر الكتاب، مما يؤيد أن هذه الأحرف نزلت على سبيل التحدي لأهل مكة أن يأتوا بمثل هذا القرآن. وتشير سورة الأحقاف في بدايتها الى القرآن فتقول: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) . وعقبها مباشرة الإشارة إلى كتاب الكون وقيامه على الحق وعلى التقدير والتدبير. ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الآية 3] فيتوافى كتاب القرآن المتلوّ، وكتاب الكون المنظور على الحق والتقدير. وبعد هذا الافتتاح القوي الجامع، يأخذ السياق في عرض قضية العقيدة مبتدئا بإنكار ما كان عليه القوم من الشرك الذي لا يا قوم على أساس من واقع الكون، ولا يستند الى حق من القول ولا مأثور من العلم. ويعرض بعد هذا سوء استقبالهم للحق الذي جاءهم به محمد رسول الله (ص) قال تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) . ثم يسوق، عز وجل، إنكارهم للحق وتطاولهم على الوحي، واتهامهم

2 - الفطرة السليمة والفطرة السقيمة

النبي (ص) بالكذب والافتراء. ويرد عليهم سبحانه بأن الأمر أجلّ من مقولاتهم الهازلة، وادّعاءاتهم العابثة. إذ هو أمر الله العليم الخبير، يشهد ويقضي، وفي شهادته وقضائه الكفاية: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) . ثم يبيّن أن محمدا (ص) ليس بدعا من الرسل فقد سبقه رسل كثيرون، فهو مبلغ عن الله سبحانه، وملتزم بوحي السماء. ويسوق حجة أخرى على صدق رسالته، تتمثل في موقف بعض من اهتدى للحق من بني إسرائيل، حينما رأى في القرآن مصداق ما يعرف من كتاب موسى (ع) . ويستطرد السياق في عرض تعلّاتهم ومعاذيرهم الواهية على هذا الإصرار، وهم يقولون عن المؤمنين، كما ورد في التنزيل: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الآية 11] . ويشير إلى كتاب موسى (ع) من قبله، والى تصديق هذا القرآن له، والى وظيفته ومهمته: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) . وفي نهاية المقطع الأول يصوّر لهم جزاء المحسنين، ويفسّر لهم هذه البشرى التي يحملها إليهم القرآن الكريم بشرطها، وهو الاعتراف بربوبيّة الله وحده، والاستقامة على هذا الاعتقاد ومقتضياته: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) ، فقد آمنوا بالله سبحانه، وأعلنوا ذلك، واستقاموا على منهج الايمان، فاستحقوا حياة كريمة في الدنيا ونعيما خالدا في الآخرة. 2- الفطرة السليمة والفطرة السقيمة يحتوي المقطع الثاني على ست آيات هي الآيات [15- 20] ، وفيها حديث عن الفطرة في استقامتها وفي انحرافها، وفيما تنتهي إليه حين تستقيم، وما تنتهي إليه حين تنحرف. يبدأ بالوصيّة بالوالدين، وكثيرا ما ترد الوصيّة بالوالدين لاحقة للكلام عن العقيدة، لبيان أهمية الأسرة والعمل على ترابطها، وتذكير الإنسان بأصل نعمته ورعايته.

وتذكّرنا الآيات بجهود الأم وفضلها في الحمل والولادة والرضاع. «إنّ البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية، تسعى للالتصاق بجدار الرحم وهي مزوّدة بخاصّية تمزيق جدار الرحم الذي تلتصق به، فيتوارد دم الأم الى موضعها حيث تسبح هذه البويضة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات، وتمتصّه لتحيا به وتنمو وهي دائمة الأكل لجدار الرحم، دائمة الامتصاص لمادة الحياة، والأم المسكينة تأكل وتشرب، وتهضم وتمتص، لتصبّ هذا كلّه دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول. وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر الى الجير، ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير، وهذا كله قليل من كثير. ثم الوضع وهو عملية شاقة، ممزّقة، ولكن آلامها الهائلة كلّها لا تقف في وجه الفطرة، ولا تنسى الأم حلاوة الثمرة، ثمرة تلبية الفطرة، ومنح الحياة نبتة جديدة تفيض وتمتدّ، بينما هي تذوي وتموت. ثم الرضاع والرعاية، حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية، وهي، مع هذا وذلك، فرحة سعيدة، رحيمة ودود. لا تملّ أبدا، ولا تراها كارهة لتعب هذا الوليد، وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء: أن تراه يسلم وينمو، فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد» «1» . وقد تكررت وصية القرآن للأبناء ببرّ الآباء، لأنّ الوالدين قدّما كل شيء، كالنبتة التي ينمو بها النبات فإذا هي قشّة، وكالبيضة التي ينمو منها الكتكوت فإذا هي قشرة. ومن الواجب رد الجميل والعرفان بالفضل لأهله، وأن يحسن الإنسان الى أصله وأن يدعو لهما، وهو نوع من تكافل الأجيال.

_ (1) . في ظلال القرآن 26/ 21. [.....]

3 - قصة عاد

قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) . وهذا النموذج، الذي نشاهده في الآية، نموذج للفطرة المستقيمة التي ترعى أصلها وتتعهد ذريتها، وهذا النموذج يقبل الله عمله ويحشره في أصحاب الجنة. أما النموذج الثاني، فهو نموذج الانحراف والفسوق والضلال، نموذج ولد عاق يجحد معروف والديه وينكر البعث والجزاء ويقول ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) . وهذا النموذج جدير بالخسران: لقد خسر اليقين والإيمان في الدنيا، ثم خسر النّعيم والرّضوان في الآخرة. وينتهي هذا المقطع من السورة بعرض هذين النموذجين ومصيرهما في النهاية ثم يعرض مشهدا من مشاهد القيامة حيث يعرض المتكبّرون على النار وفي ذلك المشهد نرى الغائب شاهدا ماثلا يستحثّ النّفوس على الهدى، ويستجيش الفطر السليمة القوية لارتياد الطريق الواصل المأمون. 3- قصة عاد يتناول المقطع الثالث من السورة قصة عاد وهم قوم نبي الله هود (ع) ، ويشمل الآيات [20- 28] . والقصة هنا تخدم الفكرة وتؤيّدها: فقد أنكر أهل مكة رسالة النبي محمد (ص) ، وأعرضوا عن دعوته. فجاء هذا المقطع يذكّرهم بأشباههم، وينذرهم أن يصيبهم ما أصاب السابقين. وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ [الآية 21] . وأخو عاد هو هود عليه السلام، دعا قومه إلى التوحيد وحذّرهم من عذاب الله. والأحقاف جمع حقف، وهو الكثيب المرتفع من الرّمال، وقد كانت منازل عاد على المرتفعات المتفرّقة في جنوب الجزيرة، يقال في حضرموت. وقد أنذر أخو عاد قومه ودعاهم الى عبادة الله وحده، وحذرهم بطشه وانتقامه. ولم تؤمن عاد برسالة هود (ع) ، وقابلت دعوته بسوء الظن وعدم الفهم والتحدي والاستهزاء، واستعجال العذاب الذي ينذرهم به. فلما رأوا العذاب، في صورة سحابة،

ظنّوه مطرا مفيدا لهم: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) . وتقول الروايات إنه أصاب القوم حرّ شديد، واحتبس عنهم المطر، ودخن الجوّ حولهم من الحرّ والجفاف، ثم ساق الله جلّ جلاله إليهم سحابة ففرحوا بها فرحا شديدا وخرجوا يستقبلونها في الأودية وهم يحسبون فيها الماء قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا. وجاءهم الرد بلسان الواقع بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها.. وهي الريح الصرصر العاتية التي ذكرت في سورة أخرى كما جاء في صفتها: ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) [الذاريات/ 42] . لقد اندفعت الريح تحقّق أمر الله، وتدمر كل شيء بأمر الله، فهلك القوم بجميع ما يملكون من أنعام ومتاع وأشياء، وبقيت مساكنهم خالية موحشة لا ديّار فيها ولا نافخ نار. ويلتفت السياق الى أهل مكة يلمس قلوبهم، ويحرك وجدانهم، ويذكّرهم بأنّ الهالكين كانوا أكثر منهم تمكّنا في الأرض، وأكثر مالا ومتاعا وقوّة وعلما. فلم تغن عنهم قدرتهم ولا قوتهم، ولم يغن عنهم ثراؤهم. ولم ينتفعوا بسمعهم وأبصارهم وأفئدتهم، بل أصمّوا قلوبهم عن سماع الحق، ولم تغن عنهم آلهتهم التي اتّخذوها تقرّبا إلى الله. وكذلك يقف المشركون في مكة أمام مصارع أسلافهم من أمثالهم، فيقفون أمام مصيرهم هم أنفسهم، ثمّ أمام الخطّ الثّابت المطّرد المتّصل، خط الرسالة القائمة على أصلها الواحد الذي لا يتغيّر، وخط السنّة الإلهيّة التي لا تتحوّل ولا تتبدّل. وتبدو شجرة العقيدة عميقة الجذور، ممتدّة الفروع، ضاربة في أعماق الزمان، سنّة واحدة، على اختلاف القرون واختلاف المكان. لقد أهلك الله القرى التي كذّبت رسلها في الجزيرة، كعاد بالأحقاف في جنوب الجزيرة، وثمود بالحجر في شمالها، وسبأ وكانوا باليمن، ومدين، وكانت في طريقهم الى الشام، وكذلك قرى قوم لوط وكانوا يمرون بها في رحلة الصيف الى الشمال.

4 - إيمان الجن

وقد نوّع الله جلّ جلاله في آياته، لعلّ المكذّبين يرجعون إلى ربّهم، ويثوبون الى رشدهم. قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) . 4- إيمان الجن يتناول المقطع الرابع الحديث عن إيمان الجن ويشمل الآيات الأخيرة من سورة «الأحقاف» . وقد تحدث القرآن عن الجن فذكر أنّ أصلهم من نار، وأنّ منهم الصالحين ومنهم الظالمين، وأن لهم تجمّعات معيّنة تشبه تجمّعات البشر في قبائل وأجناس، وأن لهم قدرة على الحياة على هذا الكوكب الأرضي، ولهم قدرة على الحياة خارج هذا الكوكب. وللجن قدرة على التأثير في إدراك البشر، والإيعاز بالشّرّ. قال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) . ومن خصائص الجنّ أن يروا النّاس ولا يراهم النّاس، لقوله تعالى عن إبليس، وهو من الجن: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف/ 27] . وقد تحدّثت الآيات الأخيرة من السورة عن إيمان الجن الذين استمعوا لهذا القرآن، فتنادوا بالإنصات، واطمأنّت قلوبهم إلى الإيمان، وانصرفوا إلى قومهم منذرين يدعونهم الى الله سبحانه، ويبشّرونهم بالغفران والنجاة، ويحذّرونهم الإعراض والضلال. وهذا الأمر في ظاهره الخبر عن إيمان الجن، ومع ذلك، فهو يصوّر أثر هذا القرآن في القلوب. فعند ما سمع الجن تلاوة القرآن قالوا: أنصتوا. وعند ما تأثرت قلوبهم، انطلقوا الى قومهم يتحدثون عن القرآن والإيمان، ويعرضون دعوة الإسلام على قومهم. وبفضل القرآن صاروا دعاة هداة، ملك القرآن عليهم نفوسهم، فانطلقوا يحملون الهداية والرحمة لقومهم، ثم يتحدثون عن الصلة الوثيقة بين القرآن والتوراة، بين محمد وموسى، صلوات الله وسلامه عليهما، وعلى الأنبياء والمرسلين كافّة، فالجميع من عند الله لهداية خلق الله:

مقصود السورة اجمالا

قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) . وهذا القول على لسان الجنّ يفيد ما بين الرسل جميعا من آصرة الأخوّة. فربهم واحد، ودعوتهم واحدة، وفكرتهم أساسها هداية الناس ومحاربة الرذائل، والتعاون على الخير والمعروف. والعداء بين الأديان إنما جاء من سوء الفهم أو من تحريف الإنسان للوحي. كذلك وردت على لسان الجن إشارة الى كتاب الكون المفتوح، ودلالته على قدرة الله الظاهرة في خلق السموات والأرض، الشاهدة لقدرته على الإحياء والبعث، وهي القضية التي يجادل فيها البشر، وبها يجحدون. وبمناسبة البعث، يعرض السياق مشهدا من مشاهد القيامة يبدو فيه الكفار وهم يعترفون بالإيمان، بعد أن كانوا ينكرونه في الدنيا، ثم يقال لهم: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) . وفي ختام السورة توجيه للرسول (ص) بالصبر والمصابرة فإنها طريق الرسل، وما ينبغي للدّعاة إلّا الصبر والاحتمال. مقصود السورة اجمالا ذكر الفيروزآبادي أن معظم سورة الأحقاف هو: «إلزام الحجّة على عبادة الأصنام، والإخبار عن تناقض كلام المتكبّرين، وبيان نبوّة سيّد المرسلين محمّد (ص) ، وتأكيد ذلك بحديث موسى (ع) ، والوصيّة بتعظيم الوالدين، وتهديد المتنعّمين والمترفين، والإشادة بإهلاك عاد، والإشارة إلى الدعوة، وإسلام الجن، وإتيان يوم القيامة فجأة» واستقلال لبث اللّابثين في قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الأحقاف"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأحقاف» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «الأحقاف» بعد سورة «الجاثية» ، ونزلت سورة «الجاثية» بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الأحقاف في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في الآية [21] منها وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ. وتبلغ آياتها خمسا وثلاثين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إنذار المشركين بالعذاب، وأخذهم مع هذا الدليل الى التصديق بالتوحيد والرسالة، وبهذا جمع فيها بين الأخذ بالترهيب والترغيب والأخذ بالدليل، كما جمع بين ذلك في السّور السّابقة، وهذا هو وجه المناسبة بينها وبين هذه السور. إنذار الكفار بالعذاب الآيات [1- 35] قال الله تعالى حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) فذكر سبحانه أنه خلق السماوات والأرض لحكمة وأجل ينتهي أمرهما بعد ذلك وليس خلقهما عبثا، فلا بدّ بعد انتهائهما من الحساب والعقاب، ولا بدّ من رسول ينذرهم بهذا المآل،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

ولكنهم، لجهلهم وعنادهم، يعرضون عن هذا الإنذار، ويتمسّكون بما هم فيه من الشرك والضلال. ثم انتقل السياق من هذا الى تسجيل الجهل والعناد عليهم في شركهم وإعراضهم عما أنذروا به، فطلب منهم، سبحانه، أن يخبروه عمّا خلق شركاؤهم من الأرض، أو يأتوه بكتاب منزل أو دليل من العقل. وذكر، عزّ وجلّ، أنه لا أضلّ ممّن يدعو من دونه جمادا لا يستجيب له الى يوم القيامة، وإذا حشر الناس تبرّأ من عبادتهم له. ثم انتقل السياق من هذا الى إعراضهم عمّا أنذروا به وزعمهم أنه سحر أو كذب مفترى، فأمر الله تعالى نبيّه (ص) بأن يجيبهم بأنه لو كان قد افتراه لعاجله الله بعقربته، ولم يملكوا أن يدفعوا عنه شيئا. ثم ذكر شبهة أخرى لهم فيه، وهي قولهم في الذين آمنوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الآية 11] ، وأجاب عنها بأنه أنزل التوراة قبله إماما ورحمة لبني إسرائيل، وهذا كتاب أنزله لهم بلسان عربيّ إنذارا للذين ظلموا وبشرى للمحسنين، ثم بيّن عزّ وجلّ وجه كونه بشرى لهم بأنهم إذا قالوا: ربّنا الله ثمّ استقاموا، فلا خوف عليهم، وسيكونون من أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون. وذكر من أعظم ما يجزون عليه هذا الجزاء استجابتهم لوصيّته بالإحسان الى الوالدين، وقيامهم بشكره على ما أنعم به عليهم. ثم ذكر، سبحانه، حديث الذي أساء إلى والديه، وقد أنذراه بعذاب الآخرة إن لم يؤمن بالله تعالى، لأن ذكر الضد يدعو الى ذكر ضده، وليأخذ في الوعيد بعد الأخذ في الوعد، فذكر أن مثل هذا قد حقّ عليه القول بالعذاب في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس، وسلكوا في الضلال مسلكهم وأن من هؤلاء الأمم قوم عاد بالأحقاف، فقد أنذرهم أخوهم هود فكذّبوه فأخذوا بريح دمّرت عليهم مساكنهم وكذلك ما حول مكة من القرى التي دمّرت باليمن والشام، فلم ينصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة: بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) . ثم ذكر سبحانه من استجاب للإنذار من الجن، بعد أن ذكر من أعرض عنه من الإنس، ليحملهم على الاستجابة للإنذار مثلهم، فذكر حديث استماع نفر من الجن للقرآن وإيمانهم به، وأنهم انصرفوا الى قومهم منذرين،

فأخبروهم بما سمعوا منه، ورغّبوهم في الإيمان وحذّروهم من الكفر: وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) . ثم ختم تعالى السورة بمثل ما بدأها به من الإنذار، فذكر قدرته جلّ وعلا على إحياء الموتى وحسابهم، وأنذر الكفار بعرضهم على النار، وأنه يطلب منهم أن يعترفوا بأنها الحق فيعترفون، فيقال لهم ذوقوا العذاب بما كنتم. تكفرون: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) .

المبحث الثالث مكنونات سورة"الأحقاف"

المبحث الثالث مكنونات سورة «الأحقاف» «1» 1- وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 10] . هو عبد الله بن سلام. أخرجه الطّبراني من حديث عوف بن مالك الأشجعي «2» بسند صحيح. وأخرجه ابن أبي حاتم من حديث سعد بن أبي وقّاص. ومن طريق العوفي، عن ابن عبّاس «3» . وقاله مجاهد، وعكرمة، وآخرون.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . ونص الحديث كما في «مجمع الزوائد» 7/ 105 نورده لما له من الفوائد في الكشف عن عناد بني إسرائيل ورفضهم الانصياع لحكم الحق. «عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي (ص) ، وأنا معه، حتى إذا دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله (ص) : «يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه» فأسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم ردّ عليهم فلم يجبه أحد، ثم ثلث، فلم يجبه أحد. فقال: «أبيتم، فو الله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا المقفّي آمنتم أو كذّبتم ثمّ انصرف، وأنا معه، حتّى كدنا أن نخرج، فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد. فأقبل، فقال ذاك الرجل: أي رجل تعلمونني منكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم فينا رجلا كان أعلم بكتاب الله، ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدّك قبل أبيك. قال: فإنّي أشهد بالله أنه نبي الله الذي تجدون في التوراة. قالوا: كذبت ثمّ ردّوا عليه، وقالوا فيه شرّا. فقال رسول الله (ص) : «كذبتم لن نقبل منكم قولكم» . قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله (ص) ، وأنا، وابن سلام. فأنزل الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) . قال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. (3) . انظر «تفسير الطبري» 26/ 7.

2- وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الآية 11] . قال ابن عسكر: قيل: قائل ذلك بنو عامر وغطفان، والسّابقون: أسلم، وغفار، وجهينة، ومزينة. وقيل: قاله مشركو قريش، حين أسلمت غفار. وقيل: المراد بالسابقين: بلال، وعمار، وصهيب. 3- وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما [الآية 17] . قال السّدّي: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصّدّيق، وأبيه أبي بكر، وأمّه أمّ رومان. أخرجه ابن أبي حاتم. وأخرج مثله عن ابن جريج. وأخرج عن مجاهد أنه عبد الله بن أبي بكر، وأنكرت ذلك عائشة، كما أخرجه البخاري عنها وقالت: نزلت في فلان بن فلان. كذا في «الصحيح» «1» مكنيا. 4- قالُوا هذا عارِضٌ [الآية 24] . قال ذلك: بكر بن معاوية، من قوم عاد. ذكره ابن عسكر، عن ابن جريج. 5- وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الآية 29] . أخرج ابن أبي حاتم «2» عن ابن عباس قال: هم جنّ نصيبين. وأخرج ابن مردويه من طريق عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّهم كانوا سبعة من أهل نصيبين. ومن طريق سعيد بن جبير عنه قال: كانوا تسعة. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال:

_ (1) . أخرجه البخاري في التفسير (4827) ، ونصه: «كان مروان على الحجاز استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال خذوه. فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري» ، أي في سورة النور والتي فيها قصة الإفك وبراءة عائشة رضي الله عنها، وقول عائشة: نزلت في فلان بن فلان، جاءت، كما نص عليها الحافظ في «فتح الباري» 8/ 577 من رواية الإسماعيلي: للصحيح وفيه، وفي رواية الإسماعيلي «فقالت عائشة: كذب والله، ما نزلت فيه، والله ما أنزلت إلا في فلان بن فلان الفلاني. وفي رواية له: لو شئت أن أسمّيه لسمّيته، ولكن رسول الله (ص) لعن أبا مروان ومروان في صلبه» . (2) . والطبري في «تسيره» 26/ 20.

الجنّ الذين صرفوا الى النبيّ (ص) من الموصل، وكان أشرافهم من نصيبين. وعن زرّ بن حبيش قال: كانوا تسعة أحدهم: زوبعة. وعن مجاهد: أنهم كانوا سبعة: ثلاثة من أهل حران، وأربعة من أهل نصيبين. وذكر السّهيلي: أنّ ابن دريد ذكرهم خمسة. وفي «تفسير إسماعيل بن أبي زياد» : هم تسعة. وقد أخرج ابن مردويه من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: أنهم كانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل. وأخرجه ابن أبي حاتم أيضا عن عكرمة. 6- أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الآية 35] . أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: كلّ الرسل كانوا أولي عزم «1» . وأخرج عن الحسن قال: هم من لم تصبه فتنة من الأنبياء. وعن أبي العالية قال: هم نوح (ع) ، وهود (ع) ، وإبراهيم (ع) ، ومحمد (ص) رابعهم. وعن سعيد بن عبد العزيز قال: هم نوح، وهود، وإبراهيم، وموسى، وشعيب عليهم الصلاة والسلام. وعن السّدّي قال: هم الذين أمروا بالقتال من الأنبياء وبلغنا أنّهم ستة: إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم جميعا. وعن ابن جريج قال: ليس منهم آدم، ولا يونس، ولا سليمان، ولكن إسماعيل، ويعقوب، وأيّوب. وعن الضّحّاك، عن ابن عباس قال: هم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ومحمد (ص) .

_ (1) . وأخرجه أيضا الطبري في «تفسيره» 26/ 24.

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"الأحقاف"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الأحقاف» «1» 1- قال تعالى: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ [الآية 4] . الأثارة: البقيّة. أقول: وهي قريبة من «الأثر» ، الذي فيه معنى ما بقي من الشيء. 2- وقال تعالى: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الآية 9] . البدع: البديع كالخفّ بمعنى الخفيف. والمعنى: ما كنت بدعا من الرسل فآتيكم بكل ما تقترحونه، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من المغيّبات، فإنّ الرسل لم يكونوا يأتون إلّا بما آتاهم الله من آياته، ولا يخبرون إلّا بما أوحي إليهم. 3- وقال تعالى: قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ [الآية 15] . أي: ألهمني وأولعني به. وتأويله في اللغة: كفّني عن الأشياء إلّا عن شكر نعمتك، وكفّني عمّا يباعدني عنك. أقول: وهذا يدفعنا الى ان نقرأ قوله تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) [فصّلت] . والمعنى: أن يحبس أوّلهم على آخرهم، وقيل يكفّون.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"الأحقاف"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الأحقاف» «1» قال تعالى: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الآية 9] والبدع: البديع وهو: الأوّل. وقال وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً [الآية 12] بالنّصب لأنه خبر معرفة. وقال سبحانه: وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا [الآية 12] . بنصب اللسان والعربي لأنه ليس من صفة الكتاب، فانتصب على الحال أو على فعل مضمر، كأنّ السياق: «أعني لسانا عربيّا» وقال بعضهم: إن انتصابه على «مصدّق» جعل الكتاب مصدّق اللسان. وقال: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ [الآية 35] أي: ذاك بلاغ. وقال بعضهم: «إنّ البلاغ هو القرآن» وإنّما يوعظ بالقرآن. ثم قال بَلاغٌ أي: هو بلاغ. وأما قوله تعالى: وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [الآية 33] فهو بالباء كالباء في قوله عزّ وجلّ وَكَفى بِاللَّهِ «2» وهي مثل تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون/ 20] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . ورد هذا التعبير القرآني في سبعة عشر موضعا من الكتاب الكريم، أوّلها سورة النساء، الآية 6 وآخرها سورة الفتح، الآية 28.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الأحقاف"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الأحقاف» «1» لم يقول تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا [الآية 16] ، مع أن حسن ما عملوا يتقبّل عنهم أيضا؟ قلنا: أحسن بمعنى حسن، وقد سبق نظيره في سورة الروم. فإن قيل: لم قال تعالى في وصف الفريقين وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الآية 19] مع أن أهل النار لهم دركات لا درجات؟ قلنا: الدّرجات الطبقات من المراتب مطلقا من غير اختصاص. الثاني أن فيه إضمارا تقديره: ولكل فريق درجات أو دركات مما عملوا، إلا أنه حذف اختصارا لدلالة المذكور عليه. فان قيل: كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قلنا: طابقه من حيث إن قولهم ذلك استعجال للعذاب الذي توعّدهم به، بدليل قوله تعالى بعده: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ [الآية 24] فقال لهم لا علم لي بوقت تعذيبكم، بل الله تعالى هو العالم به وحده. فإن قيل: لم قال تعالى في وصف الريح: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الآية 25] وكم من شيء لم تدمّره؟ قلنا: معناه تدمّر كلّ شيء مرّت به

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

من أموال قوم عاد وأملاكهم. فإن قيل: لم قال تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الآية 31] ولم يقل يغفر لكم ذنوبكم؟ قلنا: لأنّ من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كمظالم العباد ونحوها.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"الأحقاف"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الأحقاف» «1» في قوله تعالى: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) . استعارة على أحد التأويلات. وهو أن يكون معنى: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي شيء يستخرج من العلم بالكشف والبحث، والطّلب والفحص، فتثور حقيقته، وتظهر خبيئته، كما تستثار الأرض بالمحافر، فيخرج نباتها، وتظهر نثائلها «2» . أو كما يستثار القنيص من مجاثمه، ويستطلع من مكامنه. وسائر التأويلات في الآية تخرج الكلام عن حيّز الاستعارة. مثل تأوّلهم ذلك على معنى خاصّة «3» من علم. أي بقيّة من علم، وما يجري هذا المجرى. وأنشد أبو عبيدة للراعي «4» في صفة ناقة: وذات أثارة أكلت عليها نباتا في أكمّته قفارا أي ذات بقيّة من شحم رعت عليها

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . النثائل: جمع نثيلة ونثالة، وهي التراب المستخرج من الحفر. (3) . الخاصة: البقيّة من الشيء. [.....] (4) . هو الراعي النميري حصين بن معاوية. ولقب بهذا اللقب لأنه كان يصف راعي الإبل في شعره، وكان معاصرا للشاعر جرير في العصر الأموي، ودخل معه في مهاجاة لأنه اتهمه بالميل الى الفرزدق. والبيت في «مقاييس اللغة» لأحمد بن فارس ج- 1 ص 56 بتحقيق الأستاذ عبد السلام محمد هارون. وقد ورد في المقاييس هكذا: وذات أثارة أكلت عليها ... نباتا في أكمّته تؤاما

هذا النبات المذكور. وقوله قفارا أي خاليا من الناس، ليس به راعية غيرها، فهو أهنأ لها، وأرفق بها. وقال صاحب «الغريب المصنف «1» » : يقال سمنت الناقة على أثارة، أي على سمن متقدّم قد كان قبل ذلك.

_ (1) . هو أبو عبيد القاسم بن سلام، اشتغل بالحديث والفقه واللغة والأدب، وهو صاحب كتاب «غريب الحديث» وكتاب «غريب المصنف» المشار إليه هنا بالتعريف. وقد اشتغل في تأليفه أربعين عاما وتوفي سنة 223 هـ. وأخباره في «وفيات الأعيان» و «الفهرست» و «طبقات الأدباء» و «تاريخ آداب اللغة العربية» وهناك «الغريب المصنف» أيضا لأبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني، كما في «كشف الظنون» والمقصود هنا كتاب أبي عبيد، كما في «المجازات النبوية» للمؤلف.

سورة محمد (ص)

سورة محمّد (ص)

المبحث الأول

المبحث الأول أهداف سورة «محمّد» (ص) «1» هي سورة مدنية، نزلت بعد سورة «الحديد» ولها اسمان: سورة «محمد» (ص) ، وسورة «القتال» . والقتال عنصر بارز في السورة، بل هو موضوعها الرئيس، فقد نزلت بعد غزوة بدر وقبل غزوة الأحزاب، أي في الفترة الأولى من حياة المسلمين بالمدينة، حيث كان المؤمنون يتعرّضون لعنت المشركين، وكيد المنافقين، ودسائس اليهود. يمكن أن نقسم سورة «محمد» (ص) الى ثلاثة أقسام: القسم الأول: يحرّض على قتال المشركين ويحثّ عليه، ويشمل الآيات [1- 15] . القسم الثاني: يفضح المنافقين ويكشف نفاقهم، ويشمل الآيات [16- 30] القسم الثالث: يدعو المسلمين الى مواصلة الجهاد بالنفس والمال، ويشمل الآيات [31- 38] . 1- التحريض على قتال المشركين تبدأ السورة بالهجوم على المشركين، وتبيّن هلاكهم وضياعهم وضلالهم. لقد سلب الله عنهم الهدى والتوفيق، فاتّبعوا الباطل وانحرفوا الى الضلال. أمّا المؤمنون، فقد آمنوا بالله ورسوله، فكفّر الله ذنوبهم ورزقهم صلاح البال وهدوء النفس ونعمة الرّضا واليقين.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

وشتان ما بين مؤمن راسخ الإيمان، صادق اليقين، معتمد على ربّ كريم حليم وبين كافر ضالّ يبيع الحق، ويشتري الباطل، ويفرّط في الإيمان والهدى، ويتبع الشرك والضلال. ثم تحثّ السورة المسلمين على قتال المشركين، وقطع شوكتهم وهدم جبروتهم، وإزالة قوّتهم من طريق المسلمين: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ وهذا الضرب بعد عرض الإسلام عليهم وإبائهم له، حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ. والإثخان شدّة التقتيل حتّى تتحطّم قوّة العدوّ وتتهاوى، فلا تعود به قدرة على هجوم أو دفاع وعندئذ يؤسر من استأسر ويشدّ وثاقه، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً (4) ، أي إمّا أن يطلق سراحهم بعد ذلك بلا مقابل، وإمّا أن يطلق سراحهم مقابل فدية من مال أو عمل، أو في نظير إطلاق سراح المسلمين المأسورين، حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها حتى تنتهي الحرب بين الإسلام وأعدائه المناوئين له. ولو شاء الله لانتقم من المشركين وأهلكهم كما أهلك من سبقهم بالطوفان والصيحة والريح العقيم، ولكن الله أراد أن يختبر قوة المؤمنين وأن يجعلهم سبيلا لإعزاز الدين وإهلاك الكافرين. والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضيع أعمالهم فهم شهداء، عند الله يتمتّعون بجنات خالدة ونعيم مقيم، وأرواحهم في حواصل طير خضر، تسبح حول الجنة، وتأكل من ثمارها، وتقيم في ألوان النعيم. وقد وعد الله الشهداء بحسن المثوبة والكرامة والهداية وصلاح البال ودخول الجنة، لأنهم نصروا دين الله فسينصرهم الله ويثبّت أقدامهم، كما توعّد الكافرين بالتعاسة والضلال والهلاك جزاء كفرهم وعنادهم. وتسوق السورة ألوانا من التهديد للمشركين، فتأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا ماذا أصاب المكذّبين من الهلاك والدمار. ثم تمضي السورة في ألوان من الحديث حول الكفر والإيمان فتصف المؤمنين بأنهم في ولاية الله ورعايته، والكفّار بأنهم محرومون من هذه الولاية. وتفرّق السورة بين متاع المؤمنين بالطيبات، وتمتّع الكافرين بلذائذ الأرض، كالحيوانات:

2 - خصال المنافقين

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) . ان الفارق الرئيس بين الإنسان والحيوان: أن للإنسان إرادة وهدفا، وتصوّرا خاصّا للحياة يا قوم على أصولها الصحيحة المتلقّاة من الله خالق الحياة. فإذا فقد الإنسان هذا التصوّر، فقد أهم الخصائص المميّزة لجنسه، وأهم المزايا التي من أجلها كرّمه الله جلّ جلاله. ثم تمضي السورة في سلسلة من الموازنات بين المؤمن المتيقّن، والكافر الذي اتّبع هواه وشيطانه، وزيّن له سوء العمل: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) . كما تصف الآيات متاع المؤمنين في الجنّة بشتّى الأشربة الشهيّة، من ماء غير آسن، ولبن لم يتغيّر طعمه، وخمر لذة للشّاربين، وعسل مصفّى، في وفر وفيض، في صورة أنهار جارية. ذلك مع شتى الثمرات ومع المغفرة والرّضوان ثم سؤال: هل هؤلاء المتمتعون بالجنة والرّضوان كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) ؟ 2- خصال المنافقين تشمل الآيات [16- 30] المقطع الثاني من هذه السورة، وفيها حديث عن المنافقين وصفاتهم، وحركة النفاق حركة مدنيّة لم يكن لها وجود في مكة نظرا لضعف المسلمين فيها وتفوّق أعدائهم. فلما هاجر المسلمون الى المدينة وبدأ شأن الإسلام في الظهور والاستعلاء، بدأت حركة النفاق في الظهور والنموّ، وساعدها على الظهور وجود اليهود في المدينة، بما لهم من قوّة مادّيّة وفكريّة، وبما يضمرونه للدّين الجديد من كراهية. وسرعان ما اجتمع اليهود مع المنافقين على هدف واحد، ودبّروا أمرهم بليل، فأخذ المنافقون في حبك المؤامرات ودسّ الدسائس في كلّ مناسبة تعرض، فإن كان المسلمون في شدّة ظهروا بعدائهم وجهروا ببغضائهم وإذا كانوا في رخاء ظلّت الدسائس سرّيّة، والمكايد في الظلام وكانوا، الى منتصف العهد المدني، يشكّلون خطرا حقيقيّا على الإسلام والمسلمين. وقد تواتر ذكر المنافقين ووصف دسائسهم، والتنديد بمؤامراتهم وأخلاقهم في السور المدنية كما تكرّر ذكر اتصالهم

باليهود، وتلقّيهم عنهم، واشتراكهم معهم في بعض المؤامرات المحبوكة. والحديث عن المنافقين في سورة «محمد» (ص) يحمل فكرة السورة ويصوّر شدّتها في مواجهة المشركين والمنافقين. بل إن المنافقين هم فرع من الكافرين، أظهروا الملاينة وأبطنوا الكفر والخداع أو هم فرع من اليهود يعمل بأمرهم، وينفّذ كيدهم ومكرهم. فمن هؤلاء المنافقين من يستمع الى النبي (ص) بأذنه ويغيب عنه بوعيه وقلبه. فإذا خرج من مجلس النبي (ص) تظاهر بالحرص على الدين، فسأل الصحابة عما قاله النبي (ص) سؤال سخرية واستهزاء، أو سؤال تظاهر ورياء. أولئك المنافقون قد طمس الله سبحانه على أفئدتهم فلا تفقه، وقد اتّبعوا أهواءهم، فقادهم الهوى إلى الهلاك. أمّا المتقون المهتدون، فيزيدهم الله هدى ويمنحهم التقوى والرشاد، ثم يتهدّد القرآن المنافقين بالساعة، فإذا جاءت، فلا يملكون الهداية ولا تنفعهم الندامة: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) . ثم تصوّر الآيات جبن المنافقين وهلعهم وتهافتهم إذا ووجهوا بالقرآن يكلّفهم القتال، فهم يتظاهرون بالإيمان، فإذا أنزلت سورة محكمة لا تشابه فيها، وذكرت الجهاد، رأيت المنافقين ينظرون إليك يا محمد نظرة من هو في النّزع الأخير تشخص أبصارهم لذلك كانوا جديرين بأن يهدّدهم الله جل جلاله بالويل والهلاك. وتحثهم الآيات على الطاعة والصدق والثبات: فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) . وبذلك يفتح القرآن الباب لمن يريد الطهارة الحسية والنفسية من المنافقين ومن المخاطبين جميعهم ثمّ يحثّهم عزّ وجلّ على تدبّر القرآن وتأمّله، لأن ذلك يحرّك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلّص الضمير. وتمضي الآيات في تصوير حال المنافقين، وبيان سبب تولّيهم عن الإيمان بعد أن شارفوه، فتبيّن أنه تآمرهم مع اليهود، ووعدهم لهم

3 - حديث عن المشركين والمؤمنين

بالطاعة فيما يدبّرون. لقد كره اليهود الإسلام وتألّبوا عليه، فلمّا هاجر النبيّ (ص) الى المدينة شنّوا عليه حرب الدّسّ والمكر والكيد، وانضمّ المنافقون لليهود يقولون لهم سرا، كما ورد في التنزيل: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) . ثم يتهدّد القرآن المنافقين، بملائكة العذاب لأنهم تركوا طريق الإسلام، وانضمّوا إلى دسائس الحاقدين عليه. وفي نهاية المقطع يتهدّدهم جلّ جلاله بكشف أمرهم لرسول الله (ص) وللمسلمين الذين يعيشون بينهم متخفّين قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) . 3- حديث عن المشركين والمؤمنين المقطع الأخير من السورة يشمل الآيات [32- 38] ، ويبيّن في بدايته أنّ المشركين منعوا الناس من الإيمان بالله تعالى، وأعلنوا الشقاق والعداوة لرسول الله (ص) ، وهؤلاء لن يضرّوا الله بكفرهم، وسيحبط الله أعمالهم. وتتجه الآيات الى المؤمنين فتأمرهم بطاعة الله وطاعة الرسول، وتأمرهم بالثبات على الحق حتى يأتي نصر الله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) . وهذا التوجيه يوحي بأنّه كان في الجماعة المسلمة يومئذ من لا يظهر الطاعة الكاملة، أو من تثقل عليه بعض التكاليف، وتشقّ عليه بعض التضحيات التي يقتضيها جهاد هذه الطوائف القوية المختلفة التي تقف للإسلام، تناوشه من كل جانب، والتي تربطها بالمسلمين مصالح ووشائج قربى، يصعب فصمها والتخلي عنها نهائيّا، كما تقتضي العقيدة ذلك. ولقد كان وقع هذا التوجيه عنيفا عميقا في نفوس المسلمين الصادقين، فارتعشت له قلوبهم، وخافوا أن يقع منهم ما يبطل أعمالهم ويذهب بحسناتهم. وتستمر الآيات في خطاب المؤمنين، تدعوهم الى مواصلة الجهاد بالنفس والمال دونما تراخ أو دعوة الى مهادنة الكافر المعتدي الظالم، تحت

مقصود السورة اجمالا

أيّ مؤثّر من ضعف أو مراعاة قرابة أو رعاية مصلحة، ودونما بخل بالمال الذي لا يكلّفهم الله أن ينفقوا منه إلا في حدود مستطاعة، مراعيا الشّحّ الفطريّ في النفوس. وإذا لم ينهضوا بتكاليف هذه الدعوة، فإنّ الله يحرمهم كرامة حملها والانتداب لها، ويستبدل بهم قوما غيرهم ينهضون بتكاليفها، ويعرفون قدرها، وهو تهديد عنيف مخيف يناسب جوّ السورة، كما يشي بأنه كان علاجا لحالات نفسية قائمة في صفوف المسلمين إذ ذاك، من غير المنافقين وذلك الى جانب حالات التفاني والتجرد والشجاعة والفداء التي اشتهرت بها الروايات، فقد كان في الجماعة المسلمة هؤلاء وهؤلاء. وكان القرآن يعالج ويربّي لينهض بالمتخلفين الى المستوي العالي الكريم. مقصود السورة اجمالا قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة «محمد» (ص) : «الشكاية من الكفّار في إعراضهم عن الحق، وذكر آداب الحرب والأسرى وحكمهم، والأمر بالنصرة والإيمان، وابتلاء الكفّار في العذاب، وذكر أنهار الجنة: من ماء ولبن وخمر وعسل وذكر طعام الكفار وشرابهم وظهور علامة القيامة والشكاية من المنافقين وتفصيل ذميمات خصالهم وأمر المؤمنين بالطاعة والإحسان وذم البخلاء في الإنفاق وبيان استغناء الحق تعالى وفقر الخلق، في قوله جلّ وعلا وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [الآية 38] .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"محمد" (ص)

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «محمّد» (ص) «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «محمد» (ص) بعد سورة «الحديد» ، ونزلت سورة «الحديد» بعد سورة «الزّلزلة» ، ونزلت سورة «الزلزلة» بعد سورة «النساء» ، وكان نزول سورة «النساء» بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة «محمد» (ص) في هذا التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في الآية 2 منها وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ، وتبلغ آياتها ثمانيا وثلاثين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة تحريض المؤمنين على قتال الكافرين ووعدهم بالنصر عليهم، وهذا القتال هو عذاب الدنيا الذي أوعد الكفار به في السور السابقة ولهذا جاء ترتيبها في الذكر بعدها، لتدلّ على صدق ما أوعدهم الله به. التحريض على القتال الآيات [1- 38] قال الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) فمهّد عزّ وجلّ للتحريض على القتال ببيان وجه استحقاق الكفّار له، وذكر أنّهم كفروا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

وصدّوا عن سبيله فأضلّ أعمالهم، وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد (ص) غفر ما كان من شركهم وأصلح بالهم، لأنّ الكفار اتّبعوا الباطل والمؤمنين اتّبعوا الحق من ربّهم ثم أمر جلّ وعلا بقتال الكفّار حتّى يثخنوهم بالقتل والجراح، فإذا أثخنوهم شدّوا وثاقهم بالأسر، وهم مخيّرون بعد هذا في إطلاقهم بفداء أو من غير فداء ثم وعد الذين يقتلون منهم في سبيله حسن الأجر في الآخرة، والذين يبقون منهم بالنصر على أعدائهم وأوعد الكفّار بالهزيمة والهلاك وضياع الأعمال، ثم مضى السياق في هذا الترغيب والترهيب إلى أن انتقل منه إلى الحديث عن المنافقين فألحقهم بأولئك الكفّار، وذكر أنّ الله سبحانه طبع على قلوبهم فاتّبعوا أهواءهم ولم يجاوز إسلامهم حناجرهم، وأن الذين أخلصوا في إيمانهم زادهم الله هدى الى هداهم، وأن هؤلاء المنافقين لا يتوقع منهم الإيمان إلّا أن تأتيهم الساعة بغتة، وها هي ذي قد قربت وجاءت علاماتها، ولكنّ التوبة عندها لا تنفع صاحبها. ثم ذكر السياق، أن الله عزّ وجلّ أمر النبي (ص) أن يستمر هو والمؤمنون على الإخلاص في توحيده، لأنه يعلم متقلّبهم ومثواهم، حتّى لا يكونوا كهؤلاء المنافقين في مخالفة باطنهم لظاهرهم. ثم أخذ السياق في ذم هؤلاء المنافقين على تقاعسهم عن القتال في سبيل الله جبنا وخوفا، وذكر أنهم إن تولّوا عن القتال في سبيله سبحانه فإنهم يعودون إلى ما كانوا عليه من الفساد في الأرض، فيغير بعضهم على بعض، ويقابل ذوو الأرحام بعضهم بعضا، كما كان بين الأوس والخزرج ثم ذكر تعالى أنّه أصمّهم وأعماهم فلا يتدبّرون ذلك، بل يتّبعون ما يسوّله الشيطان لهم، وما وعدوا به أهل مكة من الكفّ عن قتالهم ثم توعّدهم جل جلاله، بقوله وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) [الآية 30] . ثم ختمت السورة بمثل ما بدئت به من التحريض على القتال، فذكر تعالى أنه سيبلوهم به ليعلم المجاهدين والصابرين منهم، ووعدهم بأنه لن يمكّن أعداءهم من أن يضرّوهم ثمّ نهاهم أن يهنوا في القتال ويدعوا إلى السّلم وهم الأعلون، وقد وعدهم

بالنصر وحسن الأجر وهوّن عليهم أمر الدنيا التي يعوق حبّها عن القتال والإنفاق في سبيله سبحانه، إلى أن قال: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) .

البحث الثالث أسرار ترتيب سورة"محمد" (ص)

البحث الثالث أسرار ترتيب سورة «محمّد» (ص) «1» لا يخفى وجه ارتباط أوّلها بقوله تعالى في آخر الأحقاف: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) واتصال هذا القول وتلاحمه، بحيث إنه لو أسقطت البسملة منه، لكان متّصلا اتّصالا واحدا لا تنافر فيه، كالآية الواحدة، آخذا بعضه بعنق بعض «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . أول سورة «محمّد» (ص) : الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وسورة «القتال» مع هذا متمّمة لموضوع سورة «الأحقاف» قبلها: ف «الأحقاف» فيها الحديث عن إعراض الكافرين في مختلف العصور، وفيها دعوتهم الى الإيمان بالتي هي أحسن وقد استنفدت السورة وسائل الإقناع العقلي، وأثبتت عتوّ أهل الكفر وجحودهم فكانت سورة «القتال» بما فيها من جهاد، وقواعد الحرب، وتشريعاته متّفقة تماما مع نسخ وسائل الدعوة السلمية، بآية السيف.

المبحث الرابع مكنونات سورة"محمد" (ص)

المبحث الرابع مكنونات سورة «محمّد» (ص) «1» 1- يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ (38) [الآية 38] . أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنّ رسول الله (ص) تلا هذه الآية: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) . فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء؟ فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي، ثم قال: «هذا وقومه، ولو كان الدّين عند الثريّا لتناوله الرجال من الفرس» «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . أخرج البخاري في «صحيحه» (4897) في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنا جلوسا عند النبي (ص) فأنزلت عليه سورة الجمعة وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة/ 3] قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا- وفينا سلمان الفارسي (رض) ، وضع رسول الله (ص) يده على سلمان- ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال- أو رجل- من هؤلاء» . وفي رواية لمسلم: «لو كان الدين عند الثريا لذهب رجال من أبناء فارس حتى يتناولوه» . وقد أطنب أبو نعيم في أول «تاريخ أصبهان» في تخريج طرق هذا الحديث.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"محمد" (ص)

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «محمّد» (ص) «1» 1- وقال تعالى: الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ، ومدّ لهم في الآمال والأماني، يعني أن الشيطان يغويهم. وقرئ: (وأملي لهم) على البناء للمفعول، أي: أمهلوا ومدّ في عمرهم. 2- وقال تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) . وقوله تعالى: فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. أي: في نحوه وأسلوبه، وقيل: واللّحن أن تميل الكلام إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك، كالتعريض والتورية، كقول الشاعر: ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا واللّحن يعرفه ذوو الألباب 3- وقال تعالى: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) . وهو من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم. وحقيقته: أفردته من قريبه أو ماله، من الوتر وهو الفرد، فشبّه إضاعة عمل العامل، وتعطيل ثوابه بوتر الواتر، وهو من فصيح الكلام.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"محمد" (ص)

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «محمّد» (ص) «1» قال تعالى: فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) [الآية 18] أي: فإنّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة. وقال سبحانه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الآية 22] فإنّ الأوّل للمجازاة، وأوقعت عَسَيْتُمْ على أَنْ تُفْسِدُوا لأنه اسم، ولا يكون أن تعمل فيه (عسيتم) ولا «عسيت» إلّا وفيه «أن» لا تقول «عسيتم الفعل» كما أنّ قولك «لو أنّ زيدا جاء كان خيرا له» فقولك «2» «أنّ زيدا جاء» اسم، وأنت لا تقول: «لو ذاك» لأنه لا تقع الأسماء كلّها في كل موضع ولا تقع الأفعال كلها على كل الأسماء، ألا ترى أنهم يقولون «يدع» ولا يقولون «ودع» ويقولون «يذر» ولا يقولون «وذر» . وقال تعالى: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) أي: في أعمالكم، كما تقول: «دخلت البيت» وأنت تريد «في البيت» . وقال تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ [الآية 38] بجعل التنبيه في موضعين للتوكيد، وكان التنبيه الذي في «هؤلاء» تنبيها لازما.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . عبارة المؤلف غير منسقة. وكان ينبغي لها أن تكون: كما أن قولك «أنّ زيدا جاء» في قولك «لو أنّ زيدا جاء كان خيرا له» اسم.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"محمد" (ص)

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «محمّد» (ص) «1» إن قيل: لم قال الله تعالى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) ولم يسبق ضرب مثل؟ قلنا: معناه كذلك يبيّن الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين، وقيل أراد به أنه جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفّار، واتّباع الحق مثلا لعمل المؤمنين، أو أنه جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفّار، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين. فإن قيل: لم قال تعالى في حق الشهداء بعد ما قتلوا في سبيل الله: سَيَهْدِيهِمْ [الآية 5] والهداية إنما تكون قبل الموت لا بعده؟ قلنا: معناه سيهديهم إلى محاجّة منكر ونكير. وقيل سيهديهم يوم القيامة إلى طريق الجنة. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ [الآية 15] . إلى قوله تعالى: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ [الآية 15] ؟ قلنا: قال الفرّاء: معناه أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار. وقال غيره تقديره: مثل الجنة الموصوفة كمثل جزاء من هو خالد في النار، فحذف منه ذلك إيجازا واختصارا. فإن قيل: لم قال تبارك وتعالى

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

للنبي (ص) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ (19) [الآية 19] وهو عالم بذلك قبل أن يوحى إليه، وبعد الوحي؟ قلنا: معناه اثبت على ذلك العلم، وقال الزّجّاج: الخطاب له (ص) ، والمراد أمّته كما ذكرنا في أوّل سورة الأحزاب.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"محمد" (ص)

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «محمّد» (ص) «1» 1- في قوله سبحانه: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [الآية 4] استعارة. والمراد بالأوزار هاهنا الأثقال، وهي آلة الحرب وعتادها من الدروع والمغافر والرّماح والمناصل وما يجري هذا المجرى: لأنّ جميع ذلك ثقل على حامله، وشاقّ على مستعمله. وعلى هذا قول الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا ومن نسج داوود موضونة «2» ... تساق مع الحيّ عيرا فعيرا والمراد بذلك في الظاهر الحرب وفي المعنى أهل الحرب، لأنهم الذين يصح وصفهم بحمل الأثقال ووضعها، ولبس الأسلحة ونزعها. 2- وفي قوله سبحانه: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) استعارة: لأن العزم لا يوصف بحقيقته إلّا الإنسان المميّز الذي يوطّن النفس على فعل الأمر قبل وقته عقدا بالمشيئة على فعله، فيصحّ أن يسمّى عازما عليه، وإنما قال تعالى: عَزَمَ الْأَمْرُ مجازا أي قويت العزائم على فعله، فصار كالعازم في نفسه. وقال بعضهم معنى عزم الأمر أي جدّ الأمر، ومنه قول النابغة الذّبياني:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . من وضن: الدرع المقاربة النسج، أو المنسوجة بالجواهر. [.....]

حيّاك ودّ فإنا لا يحلّ لنا لهو النساء لأنّ الدّين قد عزما أي استحكم وجدّ وقوي واشتدّ. 3- وفي قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) استعارة. والمراد أن قلوبهم كالأبواب المقفلة لا تنفتح لوعظ واعظ، ولا يلج فيها عذل عاذل. وفي لغة العرب أن يقول القائل، إذا وصف نفسه بضيق الصدر وتشعّب الفكر: قلبي مقفل، وصدري ضيّق. وإذا وصف غيره بضدّ هذه الصفات، قال: انفتح قلبه وانفسح صدره وقد يجوز أن يكون المعنى أنّ أسماعهم لا تعي قولا ولا تسمع عذلا وإنما شبّهت الأسماع بالأقفال على القلوب لأنها أبواب عليها. فإذا عرضت على الأسماع كانت كالأقفال الموثقة والأبواب المغلقة. 4- وفي قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) ، استعارة: ومعناها مأخوذ من الوتر، وهو ما ينقصه الإنسان من مال أو دم وما أشبههما ظلما، فيكسبه ذلك عداوة لفاعله وإرصادا بالمكروه لمستعمليه، فكأنّه تعالى قال: «ولن ينقصكم ثواب أعمالكم، أو لن يظلمكم في الجزاء على أعمالكم فيكون بمنزلة من أودعكم ترة وأطلبكم طائلة» . وقال الأخفش عن قوله تعالى وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) : أي في أعمالكم، كما نقول دخلت البيت، والمراد دخلت في البيت.

سورة الفتح

سورة الفتح

المبحث الأول أهداف سورة"الفتح"

المبحث الأول أهداف سورة «الفتح» «1» سورة «الفتح» سورة مدنية، نزلت في الطريق بين مكة والمدينة عند الانصراف من الحديبية، وآياتها 29 آية، نزلت بعد سورة الجمعة. ونلمح، في بداية السورة، فضل الله تعالى على النبي (ص) وصحبه، وآثار نعمائه، جلّ وعلا، على المسلمين. وقد سبقتها، في ترتيب المصحف، سورة «محمد» التي وصفت ظلم المشركين والمنافقين، وحرّضت المسلمين على الجهاد، وحذرتهم من الخنوع والبعد عن طاعة الله. وقد نزلت سورة «محمد» في الفترة الأولى من حياة المسلمين بالمدينة. أما سورة «الفتح» ، فقد نزلت في العام السادس من الهجرة، وكان عود المسلمين قد اشتد، وقوتهم قد زادت، وظهر أثر ذلك في بيعة الرضوان التي تمت تحت الشجرة على التضحية والفداء. صلح الحديبية رأى رسول الله (ص) في منامه ذات ليلة أنّه دخل المسجد الحرام في أصحابه، آمنين محلّقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون عدوّا، فاستبشر بذلك وأخبر أصحابه، فاستبشروا وفرحوا واستعدّوا لزيارة البيت الحرام معتمرين. «وفي ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، خرج النبي (ص) معتمرا لا يريد حربا، واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

بيعة الرضوان

معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدّوه عن البيت. وتخلّف كثير من الأعراب عن مرافقته ظنا أن الحرب لا بدّ واقعة بينه وبين قريش، فخرج رسول الله بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق بهم من العرب، وساق معه الهدي سبعين بدنة. وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلموا أنه إنّما خرج زائرا للبيت ومعظّما له» . واستخلف رسول الله على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وأخذ معه من نسائه أمّ سلمة، وسار معه ألف وخمسمائة من المسلمين معتمرين، وسيوفهم مغمدة في قربها، فلمّا أصبحوا على مسيرة مرحلتين من مكة لقي النبي (ص) بشر بن سفيان فأنبأه نبأ قريش قائلا: «يا رسول الله، هذه قريش علمت بمسيرك فخرجوا عازمين على طول الإقامة وقد نزلوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا» . فقال رسول الله (ص) : «يا ويح قريش، قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله دخلوا في الإسلام وافرين؟ والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به، حتى يظهره الله أو تنفرد مني هذه السالفة» . وكان النبي (ص) حريصا على أن يتجنب الحرب مع قريش لأنه خرج متنسّكا معظّما للبيت لا للحرب. وأرسلت قريش مندوبين عنها فأعلمهم النبي أنه لم يأت محاربا، وإنما جاء معتمرا معظما للبيت. وأرسل النبي (ص) عثمان بن عفان الى أهل مكة ليخبرهم بمقصد المسلمين فقال لهم: إنّا لم نأت لقتل أحد، وإنّا جئنا زوّارا لهذا البيت، معظّمين لحرمته. ولا نريد إلّا العمرة، فأبت قريش أن يدخل النبي وصحبه مكة، وأذنت قريش لعثمان أن يطوف بالبيت فقال: «لا أطوف ورسول الله ممنوع» ، فاحتبست قريش عثمان، فشاع عند المسلمين أن عثمان قد قتل، فقال (ص) حينما سمع ذلك: «لا نبرح حتّى نناجزهم الحرب» . بيعة الرضوان دعا النبي الناس للبيعة على القتال فبايعوه على الموت، تحت شجرة

شروط الصلح

هناك سميت «شجرة الرّضوان» . وقد بارك الله هذه البيعة، وأعلن رضاه عن أهلها فقال سبحانه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الآية 18] . شروط الصلح علمت قريش بخبر هذه البيعة، فاشتدّ خوفها، وقويت رغبتها في الصلح، وأرسلت سهيل بن عمرو ليفاوض المسلمين بشأن الصلح، وتوصل الطرفان الى معاهدة مشتركة سميت بصلح الحديبية وأهم شروط هذا الصلح ما يأتي: 1- وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين. 2- من جاء الى محمد من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا من المسلمين لا يلزمون بردّه. 3- من أراد أن يدخل في حلف محمد دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش دخل فيه. 4- أن يرجع النبي من غير عمرة هذا العام، ثم يأتي في العام المقبل فيدخل مكة بأصحابه، ويقيموا بها ثلاثة أيام، ليس معهم من السلاح إلّا السيف في القراب. وقد كان هذا الصلح مثار اعتراض من بعض كبار المسلمين، لأنهم جاءوا للطواف بالبيت فمنعوا من ذلك، وهم في حال قوة واستعداد لمحاربة قريش. كما أنّ شروط الصلح أثارت غضب المسلمين، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ فقال بلى، قال عمر: ألسنا على الحق وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى، قال فعلام نعطي الدّنيّة في ديننا إذن؟ فقال رسول الله (ص) : «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيّعني» . ولكن أبا بكر كان أكثر الناس وثوقا بما اختاره النبي، وبأن الحكمة والخيرة في اختياره. ثم وقّع الطرفان على الصلح. وبعد ذلك توافدت قبيلة خزاعة فدخلت في عهد رسول الله وتوافدت قبيلة بكر فدخلت في حلف قريش. وقد كان لهذا الصلح أكبر الأثر في سير الدعوة الإسلامية. فقد اعترفت قريش بالمسلمين، كما سمحت لهم بدخول مكة في العام القادم. ولما دخلوا مكة، شاهدهم أهلها، وسمعوا لقولهم، ورأوا عبادتهم، فتفتّحت قلوبهم

الأحداث وسورة"الفتح"

للإسلام، وقد فتحت مكة بعد عمرة القضاء بسنة واحدة. إذ كان صلح الحديبية سنة 6 هـ وعمرة القضاء سنة 7 هـ، وفتح مكة سنة 8 هـ. كما أن هذا الصلح يسّر للمسلمين نشر الدعوة، وشرح الفكرة، ودعوة الناس الى الإسلام، ومكاتبة الرسل والملوك. الأحداث وسورة «الفتح» نزلت سورة «الفتح» في أعقاب صلح الحديبية، فباركت السورة هذا الصلح وجعلته فتحا مبينا وبشرت النبي (ص) بالمغفرة والنصر وإتمام النعمة. وقد فرح النبي الكريم بهذه السورة فرحا شديدا (انظر الآيات 1- 3) . واشتملت السورة على بيان فضل الله سبحانه على المسلمين حين أنزل السكينة والأمان والرضا في قلوبهم، كما اعترفت السورة للمؤمنين بزيادة الإيمان ورسوخه، وبشّرتهم بالمغفرة والثواب. وتوعّدت السورة المنافقين والكفار بالعذاب والنكال (انظر الآيات 4- 6) . ثم نوّهت ببيعة الرضوان واعتبارها بيعة الله، وربط قلوب المؤمنين مباشرة بربهم من هذا الطريق بهذا الرباط المتصل مباشرة بالله الحي الباقي الذي لا يموت [الآية 10] . وبمناسبة البيعة والنكث، التفت السياق الى الأعراب الذين تخلّفوا عن الخروج، ليفضح معاذيرهم، ويكشف ما جال في خاطرهم من سوء الظن بالله، ومن توقع السوء للرسول ومن معه، والتفت السياق، أيضا، إلى توجيه الله تعالى الرسول (ص) الى ما ينبغي أن يكون موقفه منهم في المستقبل، وذلك بأسلوب يوحي بقوة المسلمين وضعف المخلّفين كما يوحي بأن هناك غنائم وفتوحا قريبة يسيل لها لعاب المخلّفين المتباطئين [انظر الآيات 11- 17] . الله يبارك بيعة الرضوان كان الربع الثاني من سورة الفتح تمجيدا لهؤلاء الصفوة من الرجال، وتسجيلا لرضوان الله عليهم حين بايعوا رسول الله (ص) تحت الشجرة، والله عز وجل حاضر هذه البيعة وشاهدها وموثقها، ويده فوق أيديهم فيها، تلك المجموعة التي حظيت بتلك اللحظة القدسية وذلك التبليغ الالهي: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ

ظهور الإسلام

تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) . تلك المجموعة التي سمعت رسول الله (ص) يقول لها عند البيعة. «أنتم اليوم خير أهل الأرض» . تبدأ الآيات [18- 29] بحديث من الله سبحانه وتعالى الى رسول الله (ص) عن هؤلاء الصّفوة الذين بايعوا تحت الشجرة، ثم بحديث مع هؤلاء الصفوة يبشّرهم بما أعدّ لهم من مغانم كثيرة وفتوح، وبما أحاطهم به من رعاية وحماية في هذه الرحلة وفيما سيتلوها، ويندد بأعدائهم الذين كفروا تنديدا شديدا، ويكشف لهم عن حكمته في اختيار الصلح والمهادنة في هذا العام، ويؤكد لهم صدق الرؤيا التي رآها رسول الله (ص) عن دخول المسجد الحرام، وأن المسلمين سيدخلونه آمنين لا يخافون، وأن دينه سيظهر على الدين كله في الأرض بأسرها. ظهور الإسلام لقد صدقت رؤيا رسول الله (ص) ، وتحقّق وعد الله للمسلمين بدخول المسجد الحرام آمنين، ثم كان الفتح في العام الذي يليه، وظهر دين الله في مكة، ثم ظهر في الجزيرة كلها بعد ذلك، ثم تحقق وعد الله وبشراه الأخيرة حيث يقول: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) . فلقد ظهر دين الحق، لا في الجزيرة وحدها، بل ظهر في المعمور من الأرض كلها، قبل مضي نصف قرن من الزمان. ظهر في إمبراطورية كسرى كلها، وفي قسم كبير من إمبراطورية قيصر، وظهر في الهند وفي الصين، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها، وفي جزر الهند الشرقية (أندونيسيا) ... وكان هذا هو معظم المعمور من الأرض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي. وما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله، حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها، وبخاصة في أوروبا وجزر البحر الأبيض، وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس الى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان. أجل، ما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله من حيث هو دين، فهو الدين القوي بذاته، القوي بطبيعته،

وصف الصحابة

الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله، لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة، ومع نواميس الوجود الاصلية، ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح، وحاجات العمران والتقدم، وحاجات البيئات المتنوعة من ساكني الاكواخ الى ناطحات السحاب وما من صاحب دين غير الإسلام، ينظر في الإسلام نظرة مجرّدة من التعصب والهوى من غير أن يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة، وقدرته على قيادة البشرية قيادة رشيدة، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة. وصف الصحابة في ختام سورة الفتح نجد صورة مشرقة للنبي الكريم وصحبه الأبرار، فهم أقوياء في الحق، أشدّاء على الكفار، رحماء بينهم وهم في الباطن أقوياء في العقيدة، يملأ صدورهم اليقين فتراهم ركّعا سجّدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا. وقد ظهر نور الإيمان عليهم في سمتهم وسحنتهم وسماتهم. سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية. هذه الصورة الوضيئة ثابتة لهم في لوحة القدر، فقد وردت صفتهم في التوراة التي أنزلها الله سبحانه، على موسى (ع) . أما صفتهم في الإنجيل فهي صورة زرع نام قوي، يخرج فروعه بجواره، وهذه الفروع تشدّ أزره، وتساعده حتى يصبح الزرع ضخما مستقيما قويّا سويّا، يبعث في النفوس البهجة والإعجاب. قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) . مقاصد السورة الاجمالية قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة «الفتح» ما يأتي: «وعد الله الرسول (ص) بالفتح والغفران، وإنزال السكينة على أهل الايمان، وإيعاد المنافقين بعذاب

الجحيم ووعد المؤمنين بنعيم الجنان، والثناء على سيّد المرسلين، وذكر العهد وبيعة الرضوان، وذكر ما للمنافقين من الخذلان، وبيان عذر المعذورين، والمنّة على الصحابة بالنصر، وصدق رؤيا سيد المرسلين، وتمثيل حال النبي والصحابة بالزرع والزرّاع في البهجة والنضارة وحسن الشأن» . روى مسلم عن أنس عن ابن عبّاس رضي الله عنه، قال: «لما نزلت سورة «الفتح» قال رسول الله (ص) لقد أنزل عليّ سورة هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها» .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الفتح"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفتح» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «الفتح» بعد سورة «الجمعة» ، وكان نزولها في الطريق عند الانصراف من الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، فتكون من السور التي نزلت فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) وتبلغ آياتها تسعا وعشرين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة التنويه بشأن صلح الحديبية، لأنّ قريشا سعت إليه بعد بيعة الرضوان، فظهر ضعفها وخضوعها بعد إبائها، وبدأ تخاذلها بعد بيعة المسلمين على الموت، وهذا كان فتحا مبينا للمسلمين، وتمهيدا لفتح مكة بعد ذلك في السنة الثامنة من الهجرة وبهذا وفي الله بوعده بنصرهم في السورة السابقة. التنويه بصلح الحديبية الآيات [1- 29] قال الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) فجعل صلح الحديبية فتحا مبينا للنبي (ص) ، وقيل إنه يقصد بذلك فتح مكة، لأن هذا الصلح كان تمهيدا لفتحها ثم ذكر سبحانه أنه هو

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين حينما أبت قريش عليهم أن يدخلوا مكة ليؤدّوا عمرتهم، فلم يهنوا أو لم يرتدّوا على أعقابهم، بل وقفوا ينتظرون ما يكون بعد تبادل الرسل بينهم وبين قريش، وقد وعدهم على هذا بما وعدهم، وأوعد المنافقين الذين تخلفوا عنهم وظنّوا أنهم لن يرجعوا إليهم، ثم مدح الذين بايعوا الرسول (ص) على الموت تحت شجرة الرّضوان حينما أشيع أن قريشا قتلت عثمان بن عفان، وكان النبي (ص) قد أرسله إليها، وذكر أن الذين بايعوه على ذلك إنما بايعوه ويد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بعهده فسيؤتيه أجرا عظيما. ثم ذكر أن أولئك المتخلّفين من المنافقين سيعتذرون بأنهم اشتغلوا بأموالهم وأهليهم، وذكر أنهم كاذبون في اعتذارهم، وأوعدهم على ذلك بما أوعدهم، ثم ذكر جلّ وعلا أنهم سيطلبون من النبي (ص) بعد أن رأوا ظهور أمره أن ينطلقوا معه إلى القتال طمعا في الغنائم، وأمره ألّا يمكّنهم من الانطلاق معه، وأن يبيّن لهم أن القتال طمعا في الغنائم ليس طريقا لقبول توبتهم، وإنما طريق ذلك أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس شديد- ولعلهم يهود خيبر- فإن يطيعوا أمر الله، سبحانه، في قتالهم يؤتهم أجرا حسنا، وإن يتولوا كما تولّوا من قبل يعذبهم عذابا أليما، واستثنى منهم صاحب العذر من الأعمى والأعرج والمريض، ثم عاد السّياق إلى أولئك الذين بايعوا تحت الشجرة فذكر أن الله جلّ جلاله رضي عنهم، وأنه سيثيبهم فتحا قريبا هو فتح خيبر، وهذا إلى مغانم كثيرة يأخذونها بعدها، وقد عجّل لهم فتح خيبر بعد أن كفّ أيدي قريش عنهم بذلك الصلح، وهناك غنيمة أخرى لم يقدروا عليها هذه المدة وهي مكة، وقد أحاط بها بفتح ما حولها ثم ذكر أنه لو لم يعقد هذا الصلح وقاتلتهم قريش لانتصروا عليها، كما هي سنّته في نصر أوليائه على أعدائه، ولكنه أراد ذلك الصلح وكفّ الفريقين عن القتال من بعد أن أظهر المؤمنين عليهم، لأنّ مكة كانت لا يزال بها فريق من المسلمين لم يهاجروا إلى المدينة، فلو دخلها المسلمون عنوة لأصابوهم مع المشركين، ولهذا اقتضت إرادته ذلك، لتكتمل هجرة من بقي بمكة من المسلمين ولو تميزوا فيها من المشركين

لما كفّ المسلمين عنهم، ولعذّبهم عذابا أليما. ثم عاد السياق إلى ذكر فضله تعالى عليهم في ذلك الصلح، فأمرهم أن يذكروا إحسانه إليهم إذ ثارت حميّة الجاهلية في قلوب قريش وصدّوهم عن عمرتهم، فأنزل سكينته عليهم فلم يغضبوا ولم ينهزموا بل صبروا، وكانوا أحق بهذا من أولئك الذين ثارت فيهم حميّة الجاهلية ثم ذكر أنه حقق بذلك الصلح رؤيا النبي (ص) أنهم دخلوا المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين، لأنهم اتّفقوا فيه على أن يرجع المسلمون هذا العام ويعتمروا في العام المقبل. فعلم، سبحانه، من ذلك الصلح ما لم يعلموا، وجعل من دونه فتحا قريبا (فتح خيبر) وإنما يفعل ذلك لأنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الفتح"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفتح» «1» لا يخفى وجه حسن وضعها هنا، لأن الفتح بمعنى النصر، مرتّب على القتال، وقد ورد في الحديث: أنها مبينة لما يفعل بالرسول (ص) وبالمؤمنين، بعد إيهامه في قوله تعالى في الأحقاف: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ «2» [الأحقاف/ 9] فكانت متصلة بسورة الأحقاف من هذه الجملة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . هو قول ابن عبّاس رواه عنه علي بن طلحة. ولذا قال عكرمة والحسن وقتادة: إنّ آية «الأحقاف» منسوخة بآية «الفتح» : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [الآية 2] . قالوا: ولمّا نزلت قال رجل من المسلمين: فما هو فاعل بنا؟ فنزل: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [الآية 5] انظر تفسير ابن كثير: 7/ 260.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الفتح"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الفتح» «1» 1- سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ [الآية 11] قال مجاهد: هم: جهينة ومزينة. أخرجه ابن أبي حاتم «2» . وأخرج عن مقاتل: أنهم خمس قبائل. 2- سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الآية 16] . قال ابن عباس: هم فارس. وقال سعيد بن جبير: أهل هوازن «3» وقال الضّحّاك: ثقيف. وقال جويبر: مسيلمة وأصحابه. أخرجها كلّها ابن أبي حاتم «4» . 3- لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الآية 18] . أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي: أنه سئل كم كان أهل الشجرة عند بيعة الرّضوان؟ قال: كانوا ألفا وخمسمائة

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . والطبري 26/ 49. (3) . وأخرجه الطبري أيضا في «تفسيره» 26/ 52. (4) . قال أبو جعفر بن جرير الطبري في «تفسيره» 26/ 52: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال إنّ الله تعالى أخبر عن هؤلاء المخلّفين من الأعراب أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس في القتال ونجدة في الحروب، ولم يوضح لنا الدليل من خبر لا عقل على أن المعنيّ بذلك هوازن لا بنو حنيفة ولا فارس ولا الروم ولا أعيانهم، وجائز أن يكون عني بذلك بعض هذه الأجناس، وجائز أن يكون عني بهم غيرهم، ولا قول فيه أصح من أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه إنهم سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد» .

وخمسا وعشرين. وأخرج البخاري عن أبي الزبير قال: قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: كنّا زهاء ألف وخمسمائة. وأخرج مسلم «1» عن معقل بن يسار: أنهم كانوا ألفا وأربعمائة. وأخرج الشيخان «2» عن ابن أبي أوفى قال: كنّا يوم الشجرة ألفا وثلاثمائة. وأخرج ابن أبي حاتم من حديث سلمة بن الأكوع: أن الشجرة سمرة «3» . 4- وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) . قال ابن أبي ليلى: فتح خيبر «4» وقال السّدّي: مكة. أخرجهما ابن أبي حاتم. 5- وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها [الآية 21] . قال ابن أبي ليلى: فارس، والروم. أخرجه ابن أبي حاتم «5» . 6- وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [الآية 24] . نزلت في ثمانين من أهل مكة، هبطوا على النبي (ص) من التّنعيم «6» ليقتلوه. أخرجه التّرمذي «7» من حديث أنس.

_ (1) . انظر «صحيح مسلم» كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام رقم (1858) . (2) . البخاري (4155) في المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (1857) في الإمارة باب: استحباب مبايعة الإمام. وقد جمع الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» 7/ 440 بين الروايات بأن مع الزائد زيادة لم يطلع عليها غيره، والزيادة من الثقة مقبولة، أو أن الزيادة قد تكون من الأتباع الذين لحقوا بعد، كالخدم والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم. (3) . سمرة: نوع من الطّلح، صغار الورق، قصار الشوك. (4) . وأخرجه الطبري 26/ 55. (5) . والطبري 26/ 57. (6) . التّنعيم: موضع بمكة في الجبل، وهو بين مكة وسرف، على فرسخين من مكة [.....] (7) . برقم (3260) في التفسير، وأخرجه أيضا: مسلم في «صحيحه» في الجهاد والسّير (122) .

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الفتح"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفتح» «1» قال تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ [الآية 9] أي: تقوّوه بالنّصرة. أقول: وهذا ما لا نعرفه في العربية المعاصرة. وفي عامية العراقيين التعزير ضرب من التأنيب. 2- وقال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الآية 25] . وقوله سبحانه: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أي: محبوسا عن أن يباع. أقول: وهذا معنى لا نعرفه وهو من كلم القرآن، وكلّه فرائد. 3- وقال تعالى: أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الآية 25] . أي: يصيبكم ما تكرهون، ويشقّ عليكم. والمعرّة بهذا المعنى أي: المصيبة، وما يعتريكم من نازلة أو داهية شيء غير «المعرّة» في العربية المعاصرة التي تعني السوء والقبح. 4- وقال تعالى: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) . والمراد بقوله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا، لو تفرّقوا وتميّز بعضهم من بعض: من زاله يزيله. وقرئ: (لو تزايلوا) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

5- وقال تعالى: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ [الآية 29] . وقوله سبحانه: شَطْأَهُ أي: فراخه. ويقال أشطأ الزرع إذا فرّخ. وقوله عزّ وجل: فَآزَرَهُ من المؤازرة وهي المعاونة.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الفتح"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفتح» «1» قال تعالى: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً [الآية 25] على وصدّوا وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً كراهية أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. وقال تعالى: أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ [الآية 29] يريد «أفعله» من «الإزارة» . وقال تعالى: أَنْ تَطَؤُهُمْ [الآية 25] على البدل «لولا رجال أن تطئوهم» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الفتح"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفتح» «1» إن قيل: لم جعل فتح مكة علة للمغفرة، فقال تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ؟ قلنا: لم يجعله علة للمغفرة بل لاجتماع ما وعده من الأمور الأربعة، وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز. وقبل الفتح لم يكن إتمام النعمة والنصر العزيز حاصلا، وإن كان الباقي حاصلا. ويجوز أن يكون فتح مكة سببا للمغفرة من حيث هو جهاد للعدو. فإن قيل: قوله تعالى: ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الآية 2] إن كان المراد بما تأخّر ذنبا يتأخّر وجوده عن الخطاب بهذه الآية فهو معدوم عند نزولها، فكيف يغفر الذنب المعدوم، وإن كان المراد به ذنبا وجد قبل نزولها فهو متقدم فلم سماه متأخرا؟ قلنا: المراد بما تقدم قصة مارية، وبما تأخر قصة امرأة زيد. وقيل المراد بما تقدم ما وجد منه، وبما تأخّر ما لم يوجد منه على معنى أنه موعود بمغفرته على تقدير وجوده، أو على طريق المبالغة كقولهم: فلان يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه بمعنى يضرب كل أحد، فكذا هنا معناه ليغفر لك الله كل ذنب: فالحاصل أن الذنب المتأخّر متقدّم على نزول الآية، وإن كان متأخّرا بالنسبة إلى شيء آخر قبله، أو متأخّرا عن نزولها وهو موعود بمغفرته، أو على طريق المبالغة كما بيّنا.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وهو مهديّ إلى الصراط المستقيم، ومهديّة به أمته أيضا. قلنا: معناه ويزيدك هدى وقيل ويثبّتك على الهدى، وقيل معناه ويهديك صراطا مستقيما في كل أمر تحاوله. فإن قيل: كيف يقال إن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، وقد قال الله تعالى: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الآية 4] قلنا: الإيمان الذي يقال إنه لا يقبل الزيادة والنقصان هو الإقرار بوجود الله تعالى، كما أن إلهيته سبحانه، لا تقبل الزيادة والنقصان فأما الإيمان بمعنى الأمن أو اليقين أو التصديق فإنّه يقبلهما وهو في الآية بمعنى التصديق، لأنهم بسبب السكينة التي هي الطمأنينة وبرد اليقين كلما نزلت فريضة وشريعة صدّقوا بها فازدادوا تصديقا مع تصديقهم. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَأَهْلَها [الآية 26] بعد قوله جلّ وعلا وَكانُوا أَحَقَّ بِها [الآية 26] ؟ قلنا الضمير في «بها» لكلمة التوحيد، وفي «أهلها» للتقوى فلا تكرار. فإن قيل: ما وجه تعليق الدخول بمشيئة الله تعالى في أخباره سبحانه وتعالى، حتّى قال: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ [الآية 27] . قلنا: فيه وجوه: أحدها أن «إن» بمعنى إذ، كما في قوله تعالى: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (78) [البقرة] . الثاني: أنه استثناء من الله تعالى فيما يعلم تعليما لعباده أن يستثنوا فيما لا يعلمون. الثالث: أنه على سبيل الحكاية لرؤيا النبي (ص) فإنه رأى أن قائلا يقول له لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الآية 27] . الرابع: أن الاستثناء متعلق بقوله تعالى آمِنِينَ [الآية 27] . فأما الدخول فليس فيه تعليق. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: لا تَخافُونَ [الآية 27] بعد قوله سبحانه: آمِنِينَ [الآية 27] ؟ قلنا: معناه آمنين في حال الدّخول، لا تخافون عدوكم أن يخرجكم منه في المستقبل.

فإن قيل: قوله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الآية 29] تعليل لأي شيء؟ قلنا: لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وقوّتهم، كأنه قال: إنما كثّرهم وقوّاهم ليغيظ بهم الكفار. فإن قيل: لم قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) ، وكل أصحاب النبي (ص) موصوفون بالإيمان والعمل الصالح وبغيرهما من الصفات الحميدة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، فما معنى التبعيض هنا؟ قلنا: «من» هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، كما في قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج/ 30] .

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الفتح"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفتح» «1» 1- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الآية 10] . استعارة، واليد هاهنا تعرف على وجوه: أحدها أن يكون المعنى عقد البيعة فوق عقدهم. وقيل المراد قوّة الله تعالى في نصرة نبيه (ص) فوق قوّة نصرتهم. وقيل اليد هاهنا بمعنى السلطان والقدرة كما يقول القائل فلان تحت يد فلان أي تحت سلطانه وأمره. فيكون المعنى أنّ سلطان الله تعالى في هذا الأمر فوق سلطانهم، وأمره فوق أمرهم. وقيل في ذلك وجه آخر، وهو أن العادة جارية في المبايعات والمعاقدات أن تقع الصفقة بالأيدي من البائع والمشتري. ومن هناك قالوا صفقة رابحة وصفقة خاسرة، فقيل: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ذهابا إلى هذا المعنى، كأنه سبحانه قال: فالذي أعطاكم الله، في هذه المبايعة، أعلى ممّا أعطيتم وأجلّ وأربح وأفضل. 2- وفي قوله تعالى: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ [الآية 29] استعارة لأنه شبّه أصحاب النبي (ص) في تضافرهم وتآزرهم واشتدادهم وأضدادهم «2» بالزرع الملتفّ المتكاثف الذي يقوّى بعضه ببعض ويستند بعضه إلى بعض. وشطأ الزّرع خرجت أفرخه التي تنبت الى أصوله. ويقال شطأه ممدود،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . كذا في النسخة، ونظنّ أن الأصل واحتشادهم.

ويقال: قد أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا أفرخ. ومعنى آزره أي صار فراخ الزرع له أزرا وقوّة ودعاما ومسكة. وقيل: شطأه سنبله فيكون المراد هو آزره حب السّنبل بعضه لبعض، حتى تشتد كل حبة بأختها. والتأويلان متقاربان وقوله تعالى: فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ، أي قوي وغلظ واستقام على نصبه، كما يا قوم القائم على ساقه، ويعتمد على قدمه وهذه استعارة أخرى.

سورة الحجرات

سورة الحجرات

المبحث الأول أهداف سورة"الحجرات"

المبحث الأول أهداف سورة «الحجرات» «1» الآداب العامة هذه سورة الآداب العامة ومكارم الأخلاق والتهذيب والتأديب، سورة هذّبت وجدان المسلمين، وحركت فيهم دوافع الخير والمعروف، وحاربت نوازع السخرية والاستهزاء بالآخرين، وحثّت على إزالة أسباب الخصام والبغضاء، وحرصت على تأليف القلوب وإشاعة المحبة والمودّة بين الناس، ولذلك نهت عن ظن السوء بالمسلم المخلص، وعن تتبّع العورات المستورة، وعن الغيبة واللّمز والتّنابز بالألقاب. وبيّنت أنّ النّاس جميعا عند الله سواء، كلهم لآدم، وآدم من تراب فهم يتفاضلون عنده، سبحانه، بالتقوى، ويدركون ثوابه بالعمل الصالح. منهج الحياة سورة «الحجرات» يمكن أن تكون دائرة معارف شاملة لتربية الفرد وتهذيب الجماعة، فهي تقدّم منهجا للحياة السليمة، ونظاما تربويّا ناجحا لمواطن صالح مؤمن بربه، يحترم دينه ويؤدّي شعائره. جاء في كتاب «ظلال القرآن» ما يأتي: «هذه سورة جليلة ضخمة، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة، ومن حقائق الوجود

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

معاني السورة

والانسانية، حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقا عالية، وآمادا بعيدة، وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة، وتشمل، من مناهج التكوين والتنظيم، وقواعد التربية والتهذيب، ومبادئ التشريع والتوجيه، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات. «وهي تبرز أمام النظر أمرين عظيمين للتدبير والتفكير. وأول ما يبرز للنظر، عند مطالعة السورة: أنها تستقل بوضع معالم كاملة لعالم رفيع كريم نظيف سليم، متضمّنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يا قوم عليها هذا العالم، والتي تكفل قيامه أولا وصيانته أخيرا، عالم يصدر عن الله، ويتجه الى الله، ويليق أن ينتسب الى الله، عالم نقي القلب نظيف المشاعر، عفّ اللسان، وقبل ذلك عفّ السريرة، عالم له أدب مع الله وأدب مع رسوله، وأدب مع نفسه، وأدب مع غيره، أدب في هواجس ضميره، وفي حركات جوارحه، وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه، وله نظمه التي تكفل صيانته، وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب، وتنبثق منه، وتتّسق معه. فيتوافى باطن هذا العالم وظاهره، وتتلاقى شرائعه ومشاعره، وتتوازن دوافعه وزواجره، وتتناسق أحاسيسه وخطاه وهو يتجه ويتحرك الى الله. ومن ثمّ لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور، ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم، بل يلتقي هذا بذاك في انسجام وتناسق، كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده، كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها، بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة، والدولة بالافراد، وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتّساق» «1» . معاني السورة اشتملت السورة على طائفة كريمة من المعاني الإسلامية والآداب الدينية، فقد أمرت المسلمين ألا يصدروا في أحكامهم إلّا عن طاعة الله والتزام أوامره، ويجب ألا يسبقوا أحكام الله، وأن يجعلوا اختيارهم وذوقهم الديني تابعا لهدى الله.

_ (1) . في ظلال القرآن، للاستاذ سيد قطب 26/ 125.

وهي تأمرهم بالتزام الأدب أمام النبي الكريم، وبحسن المعاملة وخفض الصوت عند خطاب الرسول الأمين، لأنه هو خاتم المرسلين، وهو الذي بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وربّى المسلمين تربية إلهية، حتى صاروا خير أمة أخرجت للناس [الآيات 2- 5] . وتأمر السورة المسلمين أن يتثبّتوا في أحكامهم، وألا يصدّقوا أخبار الفاسقين وإشاعات المغرضين وأراجيف المرجفين، فالرسول معهم، وهدى القرآن والسنّة بين أيديهم، وحقائق الإيمان وأحكامه واضحة أمامهم، وقد حبّب الله إليهم الإيمان وحجب عنهم الكفر والعصيان فلله الفضل والمنّة، وهو العليم بعباده الحكيم في أفعاله [الآيات 6- 8] . والمؤمنون أمّة واحدة، ربّهم واحد وقبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، ودينهم يا قوم على التسامح والتعاون والتناصح. فإذا حدث خلاف بين طائفتين، أو قتال ونزاع، فمن الواجب أن نحاول الصلح بينهما وإذا أصرّت إحدى الطائفتين على البغي والعدوان فمن الواجب أن نقف في وجه المعتدي حتى يفيء الى الحق، وعلينا أن نؤكّد مفاهيم الحق والعدل، وأن نحثّ على الإصلاح ورأب الصّدع، حفاظا على وحدة الأمة، وجمع شمل المسلمين [الآيات 9- 10] . وتأمر الآيات بالبعد عن السخرية والاستهزاء بالآخرين، فالإنسان إنسان بمخبره وإنسانيته لا بمظهره وتعاليه. وهناك قيم حقيقية لمقادير الناس، هي حسن صلتهم بالله ورضى الله عنهم. فقد يسخر الغني من الفقير، والقوي من الضعيف، وقد تسخر الجميلة من القبيحة، والشابة من العجوز، والمعتدلة من المشوّهة. ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست المقياس. فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين، وربّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه. وتحرّم الآيات كذلك اللمز والسخرية بالآخرين، والتنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها ويحسّون فيها مهانة وعيبا. فشتّان ما بين آداب الإيمان، وما بين الفسوق والعصيان، وظلم الآخرين [الآية 11] . وتستمر الآيات فتنهى عن ظنّ السوء، وعن تتبّع عورات الناس حتّى يعيش الناس آمنين على بيوتهم وأسرارهم، وحتّى تصان حقوقهم

الإيمان قول وعمل

وحرّيّاتهم، وتنهى عن الغيبة وتحذّر منها، وتبيّن أنّ الناس جميعا خلقوا من أصل واحد، ثم تفرعت بهم الشعوب والقبائل، والعلاقة بين الناس أساسها التعارف على الخير، وأكرم الناس عند الله أكثرهم تقوى وطاعة لأمره والتزاما بهديه [الآيات 12- 13] . الإيمان قول وعمل وفي ختام السورة نجد لوحة هادفة، ترسم معالم الايمان. فالمؤمن الحق من آمن بالله ورسوله، ولم يتطرق الشك الى قلبه، وأتبع ذلك بالجهاد والعمل على نصرة الإسلام، وسار في طريق العقيدة السليمة والتزم بآدابها وهديها. ونجد صورة نابية للأعراب الذين افتخروا بالإيمان، وتظاهروا به رياء وسمعة، وجاءوا في تيه وخيلاء يمنّون على النبي أنّهم دخلوا في الإسلام، وهي صورة كريهة فيها الرياء والسمعة والمنة، مع أن الله هو العليم بنفوسهم والبصير بخباياهم، وهو صاحب الفضل والمنّة عليهم إن كانوا صادقين. إن المؤمنين الصادقين هم الذين آمنوا بالله ربّا، واختاروا الإسلام دينا، وصدّقوا بمحمد (ص) نبيّا ورسولا، وجمعوا بين صدق اليقين وأدب السلوك [الآيات 14- 18] . وفي الحديث الشريف: «ليس الإيمان بالتمنّي ولكن ما وقر في القلب وصدق في العمل» . الهدف الاجمالي للسورة قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة الحجرات ما يأتي: «المحافظة على أمر الحق تعالى، ومراعاة حرمة الأكابر، والتّؤدة في الأمور، واجتناب التهوّر، والنجدة في إغاثة المظلوم، والاحتراز عن السخرية بالخلق والحذر عن التجسّس والغيبة وترك الفخر بالأحساب والأنساب، والتحاشي عن المنّة على الله بالطاعة» . «وقد تكرّر خطاب المؤمنين في السورة خمس مرات، بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا والمخاطبون هم المؤمنون في الآيات [1 و 2 و 6 و 11 و 12] والمخاطب به أمر ونهي، وفي الآية [13] يا أَيُّهَا النَّاسُ والمخاطب به المؤمنون والكافرون حيث قال سبحانه: إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الآية 13] والنّاس كلّهم في ذلك شرع سواء» .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الحجرات"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحجرات» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «الحجرات» بعد سورة «المجادلة» ، ونزلت سورة «المجادلة» بعد سورة «المنافقون» ، ونزلت سورة «المنافقون» في غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة من الهجرة، فيكون نزول سورة «الحجرات» فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وتبلغ آياتها ثماني عشرة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إرشاد المؤمنين إلى بعض الآداب في حق الله والرسول، إلى آداب أخرى ذكرت فيها مع هذه الآداب. وقد حصل من المؤمنين في صلح الحديبية أن اعترضوا على بعض ما جاء فيه، وأنهم لم يبادروا الى امتثال أمر النبي (ص) لهم أن يحلقوا أو ينحروا ليتحلّلوا من عمرتهم، فجاءت سورة الحجرات عقب سورة «الفتح» التي ذكر فيها ذلك الصلح إرشادا للمؤمنين إلى تلك الآداب، حتى لا يعودوا الى ما وقع منهم من الاعتراض على النبي (ص) ، ومن عدم المبادرة الى امتثال أمره.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

أدب المؤمنين مع الله ورسوله الآيات [1 - 5]

أدب المؤمنين مع الله ورسوله الآيات [1- 5] قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) فذكر من أدب المؤمنين مع الله ورسوله ألّا يتقدموا عليهما بالرأي، وألّا يرفعوا أصواتهم فوق صوت الرسول (ص) ، وألّا يجهروا له بالخطاب كجهر بعضهم لبعض، وألّا ينادوه من وراء الحجرات كما ناداه بعض جفاة الأعراب: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) . أدب المؤمنين في سماع الأخبار الآيات [6- 8] ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) ، فذكر من أدب المؤمنين في سماع الأخبار أن يتثبّتوا في تصديق أخبار الفسّاق، فلا يسمعوا لكلّ ما يلقى إليهم كما سمعوا لما ألقي إليهم، في ذلك الصلح، ولو أن الرسول سمع إليهم في هذا وفي غيره من أمورهم، لوقعوا في العنت. ولكن الله حبّب إليهم الإيمان، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فلم يجعلوا لهم رأيا مع رأيه فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) . ترغيب المؤمنين في الصلح الآيات [9- 18] ثم قال تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الآية 9] ، فرغّب المؤمنين في الصلح لئلّا يأبوه كما أبوه في الحديبية، وأمرهم أن يصلحوا بين كلّ طائفتين تقتتلان من المؤمنين، وأن يقاتلوا من يأبى منهما الصلح حتى يرضى به، فإذا رضي به وجب أن يصلح بينهما بالعدل، ثم نهاهم عمّا يوجب الخصام بينهم من سخرية بعضهم ببعض، ومن عيب بعضهم الآخر في غيبته، وهو اللّمز، ومن تسمية بعضهم بعضا بما يحطّ منه، وهو النّبز، ومن سوء ظنّ بعضهم ببعض، إلى غير هذا ممّا يوجب الخصام بينهم ثم ذكر، جلّ وعلا، أنه خلقهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا لا ليتناكروا ويتخاصموا، وأنّ أكرمهم

عنده هو الذي يمتثل أوامره ويجتنب نواهيه، لا من يتعالى على غيره بنسب أو نحوه فيخاصمه ولا يصالحه. ثم ختمت السورة بالكلام على الأعراب الذين يكتفون من الإسلام بالاسم، ولا يأخذون بشيء من آدابه، بل يمضون على ما كانوا عليه في جاهليتهم من الجفوة والتخاصم والتناكر، فأنكر، سبحانه، عليهم ما يدّعون من الإيمان، وذكر أنهم لم يحصل لهم إلا إسلام لا يتجاوز النطق باللسان، ثم أخذ السّياق في هذا الى أن ذكر أنهم يمنّون على النبي (ص) بإسلامهم، وأجاب عن هذا بأن الله سبحانه هو الذي يمنّ عليهم بهدايتهم للإيمان إن كانوا صادقين إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الحجرات"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحجرات» «1» لا يخفى تآخي هاتين السورتين (الفتح والحجرات) مع ما قبلهما، لكونهما مدنيتين، ومشتملتين على أحكام. فتلك فيها قتال الكفّار، وهذه فيها قتال البغاة «2» . وتلك ختمت بالذين آمنوا، وهذه افتتحت بالذين آمنوا «3» وتلك تضمنت تشريفا له (ص) ، خصوصا مطلعها، وهذه أيضا في مطلعها أنواع من التشريف له (ص) «4» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . قتال الكفّار في «الفتح» معروف، لأنها في فتح مكة، وقتال البغاة في «الحجرات» جاء في قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الآية 9] . (3) . ختام الفتح: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) وافتتاح الحجرات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. (4) . تشريفه (ص) في «الفتح» في قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الآية 2] . وتشريفه في مطلع الحجرات: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الآية الأولى] ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الآية 3] ، إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الحجرات"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الحجرات» «1» 1- إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ [الآية 4] . نزلت في ناس من الأعراب منهم: الأقرع بن حابس. أخرجه أحمد وغيره. 2- إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ [الآية 6] . نزلت في الوليد بن عقبة. أخرجه أحمد وغيره من حديث الحارث بن ضرار الخزاعي. 3- قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا [الآية 14] . هم بنو أسد. أخرجه سعيد بن منصور عن سعيد بن جبير.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....]

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الحجرات"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحجرات» «1» 1- قال تعالى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) . والقسط: العدل، والفعل أقسط، والهمزة للسلب، وهذا يعني: أن الفعل «قسط» بمعنى جار ظلم. 2- وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ [الآية 11] . أقول: دلت كلمة قَوْمٌ في الآية على الرجال بدلالة قوله تعالى: وَلا نِساءٌ وهذا مثل قول زهير: وما أدري ولست إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الحجرات"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحجرات» «1» قال تعالى: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ [الآية 2] أي: مخافة أن تحبط أعمالكم وقد يقال: «اسمك الحائط أن يميل» . وقال إِنَّ أَكْرَمَكُمْ [الآية 13] بالكسر ابتداء ولم يحمل الكلام على لِتَعارَفُوا [الآية 13] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الحجرات"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحجرات» «1» إن قيل: لم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الآية 1] ، والمراد به نهيهم أن يتقدّموا على رسول الله (ص) بقول أو فعل، لا أن يقدّموا غيرهم. قلنا: «قدّم» هنا لازم بمعنى «تقدّم» ، كما في قولهم: بيّن وتبيّن، وفكّر وتفكّر، ووقّف وتوقّف، ومنه قول الشاعر: إذا نحن سرنا سارت الناس خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا أي توقفوا، وقيل معناه: لا تقدّموا فعلا قبل أمر رسول الله (ص) . فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ [الآية 2] بعد قوله سبحانه: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الآية 2] . قلنا: فائدته تحريم الجهر في مخاطبته (ص) باسمه نحو قولهم يا محمد، ويا أحمد، فهو أمر لهم بتوقيره وتعظيمه (ص) في المخاطبة. وأن يقولوا يا رسول الله، ويا نبي الله، ونحو ذلك، ونظيره قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور/ 63] . فإن قيل: لم قال تعالى: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ [الآية 2] أي مخافة أن تحبط

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

أعمالكم مع أن الأعمال إنّما تحبط بالكفر لا بغيره من المعاصي، ورفع الصوت في مجلس النبي (ص) ليس بكفر وقد روي أن الآية نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لمّا رفعا صوتيهما بين يدي رسول الله (ص) وأنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان جهوريّ الصّوت، فربما تأذّى رسول الله (ص) بصوته؟ قلنا: معناه لا تستخفّوا به، فإن الاستخفاف به ربّما أدى خطأه الى عمده، وعمده كفر يحبط العمل. وقيل حبوط العمل مجاز عن نقصان المنزلة وانحطاط المرتبة. فإن قيل: ما وجه الارتباط والتعلق بين قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ [الآية 7] وبين ما قبله؟ قلنا: معناه فاتركوا عبادة الجاهلية، فإن الله تعالى لم يترككم عليها، ولكن الله حبّب إليكم الإيمان. وقيل معناه فتثبّتوا في الأمور كما يليق بالإيمان، فإن الله حبّب إليكم الإيمان. فإن قيل: إن كان الفسوق والعصيان بمعنى واحد، فما فائدة الجمع بينهما، وإن كان العصيان أعم من الفسوق فذكره مغن عن ذكر الفسوق لدخوله فيه فما فائدة الجمع بينهما؟ قلنا: قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بالفسوق هنا الكذب، وبالعصيان بقية المعاصي، وإنما أفرد الكذب بالذكر لأنه سبب نزول الآية. فإن قيل: كيف يقال إن الإيمان والإسلام بمعنى واحد، والله سبحانه وتعالى يقول: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الآية 14] . قلنا: المنفي هنا الإيمان بالقلب بدليل قوله تعالى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الآية 14] يعني لم تصدّقوا بقلوبكم وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الآية 14] أي استسلمنا وانقدنا خوف السيف ولا شكّ في الفرق بين الإيمان والإسلام بهذا التفسير، والذي يدّعي اتحادهما لا يريد به أنهما حيث استعملا كانا بمعنى واحد، بل يريد به أن أحد معاني الإيمان هو الإسلام. فإن قيل: كيف يقال إن العمل ليس

من الإيمان، والله تعالى يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا [الآية 15] ؟ قلنا: معناه إنما المؤمنون إيمانا كاملا، كما في قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر/ 28] ، وقوله (ص) «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» ، وقولهم: الرجل من يصبر على الشدائد. ويردّ على هذا الجواب أن المنفي في أول الآية عن الإعراب نفس الإيمان الكامل، فلا يناسب أن يكون المثبت بعد ذلك الإيمان الكامل بل نفس الإيمان.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الحجرات"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحجرات» «1» 1- في قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) استعارة. وقد قرئ «لا تقدّموا» بفتح التاء والدال، والمعنيان واحد، والمراد بذلك لا تسبقوا أمر الله ورسوله بفعل ما لم يأمرا به ويندبا اليه. وقال أبو عبيدة: العرب تقول فلان تقدّم بين يدي الإمام أي تعجّل بالأمر والنهي دونه، وذلك مضادّ لما وصف الله به ملائكته، إذ يقول: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) [الأنبياء] . ومن قرأ تُقَدِّمُوا بضم التاء فإنما يريد به لا تقدّموا كلامكم بالحكم في الأمر قبل كلام الله سبحانه وكلام رسوله (ص) ، أي قبل الوحي النازل منه، وقبل أداء رسوله إليكم ما أوحي به وأمر بتبليغه. 2- وفي قوله سبحانه: وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الآية 12] ، استعارة ومبناها على أصل معروف في كلام العرب، وهو تسميتهم المغتاب بآكل لحوم الناس، حتى قال شاعرهم «2» : فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا وقال حسان بن ثابت في مرثية ابنة له «3» :

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هو المقنّع الكندي. (3) . المعروف أن هذا البيت من قصيدة له في مدح عائشة.

حصان رزان لا تزنّ بزنية «1» وتصبح غرثى من لحوم الغوافل أي تمسك عن غيبة النساء الغافلات عن غيبتها، فتكون بإمساكها عن الغيبة التي يسمى فاعلها آكل لحم صاحبه، كأنها غرثى أي جائعة لم تطعم شيئا، لأنّ الغيبة، لمّا سمّيت أكلا وقرما «2» حسن أن يسمّى تركها جوعا وغرثا. ومعنى فَكَرِهْتُمُوهُ أي عافته أنفسكم، فكرهتموه، وهذا محذوف مقدّر في الكلام دلالة. وقال بعضهم تلخيص هذا المعنى أن من دعي إلى أكل لحم أخيه ميتا فعافته نفسه وكرهه من جهة طبعه، فإنه ينبغي له، إذا دعي إلى غيبة أخيه، أن تعاف ذلك نفسه من جهة عقله، لأنه يجب أن يكره هذا عقلا كما كره الأوّل طبعا لأنّ داعي العقل أحقّ بالاتّباع من داعي الطبع، إذ كان داعي الطبع أعمى جاهلا وداعي العقل بصيرا عالما، فكلاهما في صفة الناصح، إلّا أنّ نصح العقل سليم مأمون، ونصح الطبع ظنين مدخول.

_ (1) . وردت في بعض الأصول لفظة «بريبة» محل بزينة. (2) . القرم: شدّة الشّهوة إلى اللحم. ابن منظور: اللسان، مادة قرم. [وفي الأصل: من قرم: أكل أكلا ضعيفا، وذلك في أوّل ما يأكل] . وهذا الشرح للمحقّق، وهو ليس دقيقا.

سورة ق

سورة ق

المبحث الأول أهداف سورة"ق"

المبحث الأول أهداف سورة «ق» «1» سورة «ق» سورة مكية آياتها 45 آية، نزلت بعد سورة «المرسلات» . سورة الخطبة كان (ص) يخطب خطبة الجمعة بسورة «ق» حتى قالت النساء: ما حفظنا سورة «ق» إلّا من خطبة النبي (ص) بها وهي سورة تحمل أصول التوحيد وتلفت النظر الى دلائل القدرة في خلق السماء والأرض وآثار الله الملموسة في إنزال المطر وإنبات النبات، وترشد الى سنن الله في إهلاك الظالمين، واستحقاق الوعيد للمكذّبين، وتجول بالإنسان داخل نفسه، وتستعرض مشاهد القيامة وجزاء المتّقين في الجنّة، وجزاء العصاة في النار. وقد سلكت السورة في عرض معانيها أسلوبا رائعا أخّاذا، له سيطرته على النفس والحسّ، وطريقته الفذّة في هزّ أوتار القلوب. جاء في «ظلال القرآن» «سورة ق سورة رهيبة، شديدة الوقع بحقائقها، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري وصورها وظلالها وجرس فواصلها، تأخذ على النفس أقطارها، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها، وتتعقّبها في سرّها وجهرها وفي باطنها وظاهرها تتعقّبها برقابة الله التي

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

فواتح السور

لا تدعها لحظة واحدة من المولد إلى الممات، إلى البعث، إلى الحشر، إلى الحساب وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة، تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا، فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا. كلّ نفس معدود، وكلّ هاجسة معلومة، وكلّ لفظ مكتوب، وكلّ حركة محسوبة. والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة في وساوس القلب، كما هي مضروبة على حركة الجوارح. ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة، المطّلعة على السرّ والنّجوى اطّلاعها على العمل والحركة، في كلّ وقت، وفي كلّ حال. وكلّ هذه حقائق معلومة، ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة، تروع الحس روعة المفاجأة، وتهزّ النفس هزا، وترجّها رجّا وتثير فيها رعشة الخوف، وروعة الإعجاب، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب. وذلك كلّه الى صور الحياة، وصور الموت، وصور البلى، وصور البعث وصور الحشر، وإلى إرهاص الساعة في النفس، وتوقّعها في الحسّ، وإلى الحقائق الكونية المتجلّية في السماء والأرض، وفي الماء والنبات وفي التمر والطلع» : تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) . فواتح السور تبدأ سورة «ق» بهذا الحرف المنفرد: «ق» . وقد بدأت بعض سور القرآن بهذه الأحرف المقطّعة، فمنها ما بدأ بحرف واحد مثل هذه السورة ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) [ص] ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) [القلم] . ومنها ما بدأ بحرفين مثل طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) [طه] ومثل يس، حم. ومنها ما بدأ بثلاثة أحرف مثل: الر، الم، طسم. ومنها ما بدأ بأربعة أحرف مثل: المص، المر. ومنها ما بدأ بخمسة أحرف مثل: كهيعص، حم عسق.

معاني سورة"ق"

معاني هذه الفواتح: هناك رأيان في معنى هذه الفواتح: الرأي الأول: أنّها ممّا استأثر الله تعالى بعلمه، ولذلك نجد في تفسير الجلالين، وهو تفسير مختصر، (ق) الله أعلم بمراده به. الرأي الثاني: أنّ لها معنى، وقد ذهبوا في معناها مذاهب شتى: 1. فمنهم من قال: هي أسماء للسور التي بدأت بها. 2. ومنهم من قال: هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته. روي عن الضحاك في معنى الر: أنا الله أرفع. 3. ومنهم من قال: هي قسم. 4. ومنهم من قال: هي حروف للتنبيه، كالجرس الذي يقرع فينبّه التلاميذ لدخول المدرسة. 5. ومنهم من قال: هي حروف للتحدّي وبيان إعجاز القرآن. 6. وقيل إن هذه الأحرف قد اشتملت على المعاني جميعها، التي ذكرها العلماء في تفسيرها. فهي أسماء للسور، وهي إشارة الى أسماء الله تعالى وصفاته، وهي للقسم، وهي أدوات للتنبيه، وهي حروف للتحدّي والإعجاز، وهي أيضا مما استأثر الله بعلمه. معاني سورة «ق» هذه سورة مكية عنيت بسوق الحجج والأدلة على قدرة الله سبحانه، على تأكيد البعث والجزاء. وقد بدأت السورة بمواجهة المشركين، وعرض أفكارهم، وعجبهم أن يكون الرسول بشرا مثلهم كما أنهم أنكروا البعث والحشر بعد الموت، واستدلّوا بدليل ساذج، هو تفسخ الأجسام وصيرورتها ترابا. والقرآن يوضح قدرة الله تعالى وعلمه الشامل بما تأكله الأرض من أجسامهم، فهم لا يذهبون ضياعا إذا ماتوا وكانوا ترابا أما إعادة الحياة الى هذا التراب فقد حدثت من قبل، وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي [الآيات 1- 5] . ويلفت القرآن نظر الناس الى آثار قدرة الله سبحانه، فالسماء سقف مرفوع والأرض بساط تحفظه

رقابة الله جل وعلا

الجبال، وتجري فيه الأنهار، وينمو فيه صنوف النبات والمطر ينزل فيبعث البركة والنماء، وينبت الحب والنخيل والأعناب، ويبعث الحياة في الزرع والأرض وبمثل هذه القدرة العالية يحيي الله الموتى ويبعثهم من قبورهم، بعد جمع ما تفرّق من أجزائهم الأصلية [الآيات 6- 11] . ويلفت القرآن النظر الى عبرة التاريخ، ويذكّر الناس بما أصاب قوم نوح من الغرق، وما أصاب المكذّبين من الوعيد والهلاك، ومنهم أصحاب الرّسّ (والرّسّ هي البئر) وأصحاب الرّسّ بقية من ثمود، كانت لهم بئر فكذبوا نبيّهم ودسّوه في البئر وأصحاب الأيكة: وهم قوم شعيب (ع) ، والأيكة: الغيضة، وهي الشجر الملتفّ الكثيف. وقوم تبّع، وتبّع لقب لملوك حمير باليمن. إنّ هؤلاء الأقوام أنكروا الرسالة الإلهية، وكذّبوا رسل الله إليهم، فاستحقّوا عذاب السماء، وهذا العذاب يصيب كلّ مكذّب بالله وأنبيائه [الآيات 12- 15] . رقابة الله جلّ وعلا خلق الله الإنسان بيده، ونفخ فيه من روحه، وصانع الآلة أدرى بتركيبها وأسرارها، فهو سبحانه عليم بخفايا الصدور، مطّلع على هواجس النفوس، قريب من عباده لا يغيب عنهم أينما كانوا، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة وهناك ملائكة تسجّل أعمال العباد وتفوض حقيقة المراد منها الى الله تعالى. ولقد عرفنا نحن البشر وسائل للتسجيل، تسجل الحركة والنبرة، كالأشرطة الناطقة وأشرطة السينما والتلفزيون، فليس ببعيد على الله أن يجعل من ملائكته شهود عيان، يحصون على الإنسان أقواله وأفعاله، بالحق والعدل: كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) [الانفطار] . مشاهد القيامة تحدّثت السورة عن البعث والحشر، ولفت الأنظار إلى آثار الله سبحانه في الآفاق، وإلى سننه جلّ وعلا في التاريخ، والى عجيب صنعه في حنايا البشرية. ومن إعجاز القرآن: أنه ينتقل بالمشاهد من الماضي إلى الحاضر، ويلوّن في أسلوب العرض، ويعرّض

النفس الانسانية لمختلف المؤثّرات، رغبة الهداية والإصلاح. قال تعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) [طه] . وقد عرضت سورة «ق» لمشاهد القيامة، وفي مقدّمتها حضور سكرة الموت فجأة، بلا مقدّمات، والموت طالب لا يملّ الطّلب، ولا يبطئ الخطى، ولا يخلف الميعاد: ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) أي تهرب وتفزع، والآن تعلم أنه حق لا مهرب منه ولا مفرّ. وتنتقل الآيات من سكرة الموت الى وهلة الحشر وهول الحساب، وهي مشاهد تزلزل الكبرياء الجامح، وتحارب الغرور والطغيان، وتدعو للتّقى والإيمان. فملك الموت ينفخ في الصور، فيقوم الناس من القبور ويهرع الجميع الى الحساب، وتأتي كلّ نفس ومعها سائق يسوقها، وشاهد يشهد عليها، وقد يكونان هما الملكين الكاتبين الحافظين لها في الدنيا، وقد يكونان غيرهما والأول أرجح. عندئذ يتيقّن المنكر، ويرى البعث والحشر والجزاء مشاهد أمامه ينظر إليها ببصر حديد نافذ، لا يحجبه حجاب من الغفلة أو التهاون. [الآيات 19- 22] . ويشتدّ غضب الجبّار على العصاة المعاندين، فيأمر الله الملكين السائق والشهيد أن يلقيا في النار كلّ كفّار عنيد، منّاع للخير متجاوز للحدود، شاكّ في الدّين، قد جعل مع الله إلها آخر، فاستحقّ العذاب الشديد. ويشتدّ الخصام بين الشيطان وأتباعه من العصاة، يحاول كلّ أن يتنصّل من تبعة جرائمه، وينتهي الحوار بين المجرمين بظهور جهنّم تتلمّظ غيظا على من عصا الله، ويلقى فيها العصاة، ولكنها تزداد نهما وشوقا لعقاب المخالفين، وتقول في كظّة «1» الأكول النّهم، كما ورد في التنزيل: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) . وعلى الضفّة الأخرى من هذا الهول، مشهد آخر وديع أليف رضيّ جميل. إنه مشهد الجنّة تقرب من المتّقين، حتّى تتراءى لهم من قريب، مع الترحيب والتكريم [الآيات 31- 35] .

_ (1) . الكظّة: البطنة.

ختام السورة

ختام السورة في الآيات الأخيرة من السورة [38- 45] ، نجد ختاما مؤكّدا للمعاني السابقة، متدثّرا إيقاعا سريعا، فيه لمسة التاريخ ومصارع الغابرين، وفيه لمسة المكمون المفتوح، وفيه لمسة البعث والحشر في مشهد جديد، ومع هذه اللمسات التوجيه الموحي للمشاعر والقلوب. فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وطلوع الشمس وغروبها، ومشهد الليل الذي يعقب الغروب، كلّها ظواهر مرتبطة بالسموات والأرض والقرآن يرجع إليها التسبيح والحمد والسجود، ويضم إليها الصبر والأمل في الله القويّ القادر، فعليك يا محمّد أن تبلّغ القرآن للناس، علّهم يتّعظون أو يخافون: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) وفي ذلك تسلية للرسول (ص) ، وتثبيت لفؤاده، وتهديد ووعيد للعصاة والكافرين. أهداف السورة إجمالا قال الفيروزآبادي: مقصود سورة «ق» : إثبات النبوة للرسول (ص) وبيان حجّة التوحيد والإخبار عن إهلاك القرون الماضية وعلم الحق تعالى بضمائر الخلق وأسرارهم وذكر الملائكة الموكلين بالخلق المشرفين على أقوالهم وذكر بعث القيامة، وذلّ العصاة يومئذ ومناظرة المنكرين بعضهم بعضا في ذلك اليوم وتغيّظ الجحيم على أهله، وتشرّف الجنّة بأهلها والخبر عن تخليق السماء والأرض، وذكر نداء إسرافيل (ع) بنفخه الصور، وتكليف الرسول (ص) أن يعظ الخلق بالقرآن المجيد.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"ق"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «ق» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «ق» بعد سورة المرسلات، ونزلت سورة المرسلات بعد تسع آيات من سورة النجم، ونزلت سورة النجم بعد الهجرة الأولى للحبشة، وكانت هذه الهجرة في السنة السابعة من البعثة فيكون نزول سورة «ق» في ذلك التاريخ أيضا، وتكون من السور التي نزلت فيما بين الهجرة الى الحبشة والإسراء. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لابتدائها بالقسم به، وتبلغ آياتها خمسا وأربعين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إنذار المشركين بعذاب الدنيا والآخرة، وإثبات ذلك بالدليل مرّة وبالترهيب أخرى وهو يعود بهذا إلى سياق السور السابقة لسور «محمد» و «الفتح» و «الحجرات» . وقد ذكرت هذه السور الثلاث في مواضعها للمناسبات السابقة فلما انتهى منها عاد السياق الى ما كان عليه قبلها، وللفصل بينها، بذلك، فائدته في تنويع الأسلوب، وتجديد نشاط السامع. إثبات الإنذار بالعذاب الآيات [1- 38] قال الله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) فأقسم على أن النبي (ص) بعث لينذرهم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

بعذابه، وذكر أنهم عجبوا أن يجيئهم منذر منهم، وأن يبعثوا لذلك بعد أن يصيروا ترابا وتتفرّق أجزاؤهم، وأجاب سبحانه عن هذا بأنه يعلم ما تفرّق من أجزائهم في الأرض فيقدر على جمعها، وكذلك يعلم أعمالهم، ويحفظها في كتاب عنده ليحاسبهم عليها، ثم أخذ السياق بعد هذا في ذكر آيات الله جلّ جلاله في السماء والأرض، ليعلموا أن من يقدر عليها يقدر على بعثهم وعذابهم وانتقل منه الى ترهيبهم بذكر ما حصل لمن كذّب قبلهم من قوم نوح وأصحاب الرّسّ وغيرهم. ثم عاد السياق الى أخذهم بالدليل، فذكر أنه، سبحانه، لم يعي بالخلق الأول حتى يعيا عن إعادته وبيّن الخلق الأول بأن الله جلّت قدرته هو الذي خلق الإنسان، ويعلم ما توسوس به نفسه، فلم يتركه سدّى بل وكّل به ملكين يحفظان كل ما يلفظ به فإذا مات وبعث وجد أقواله وأفعاله محفوظة في كتابهما، وألقي في جهنّم على ما كان منه من كفر ومنع للخير وغيرهما ثم ذكر السياق بعد هذا ما أعده سبحانه لمن خشيه وآمن به، جمعا بين الترهيب والترغيب ثم ذكّرهم في إطار الترهيب، بمن أهلكه الله قبلهم ممن كان أشدّ منهم بطشا، ليعلموا أنه تعالى قادر على إهلاكهم وبعثهم بعد موتهم والى ذكر خلقه السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام من غير أن يمسّه لغوب، ليستدلوا به على قدرته على ذلك أيضا ثم ختمت السورة بأمر النبي (ص) بالصبر على تكذيبهم له في ذلك، وأن يستعين على هذا بالتسبيح بحمد ربّه قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل وأدبار السجود ثم أمره أن يستمع يوم ينادي المنادي بما يكذّبونه فيه من بعثهم، إيذانا بأنه قريب منهم، ومضى السياق في هذا الى قوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) .

المبحث الثالث مكنونات سورة"ق"

المبحث الثالث مكنونات سورة «ق» «1» 1- يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ [الآية 41] . هو إسرافيل (ع) . أخرجه ابن عساكر عن يزيد بن جابر. 2- مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) . قال قتادة: كنّا نحدّث: أنه ينادي من بيت المقدس من الصّخرة. أخرجه ابن أبي حاتم «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . والطبري في «تفسيره» 26/ 114.

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"ق"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «ق» «1» 1- قال تعالى: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) . قوله تعالى: مَرِيجٍ (5) أي: مضطرب، يقال: مرج الخاتم في إصبعه وجرج. 2- وقال تعالى: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) . أقول: «النخل» : اسم جمع، يكون جمعا مؤنّثا، مراعاة لمعناه، كما في هذه الآية بدلالة «باسقات» . وقد يكون مفردا مؤنثا، كما في قوله تعالى: وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) [الرحمن] . وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) [الحاقة] . كما يكون مفردا مذكّرا في قوله سبحانه: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) [القمر] . أقول: وليس لنا أن نقول شيئا في ترجّح هذه الكلمة بين الإفراد تأنيثا وتذكيرا، وبين الجمع، إلا اعتبار الناحية التاريخية، [التي أباحت اللغة فيها، مثل هذا الترجّح] . 3- وقال تعالى: وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) . أي: هذا شيء لديّ، وفي ملكي مهيّأ. 4- وقال تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) . وقوله تعالى: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي: أصغى. أقول: وإلقاء السمع، بمعنى الإصغاء، لا نعرفه في العربية المعاصرة، فقد نقول: أرهف السمع مثلا.

المبحث الخامس

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «ق» «1» قال تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) قسم على قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [الآية 4] . وقال سبحانه: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) لم يذكر «انه رجع» وذلك، والله أعلم، لأنه كان على جواب كأنه قيل لهم: إنّكم ترجعون. فقالوا: «أإذا كنا ترابا ذلك رجع بعيد» . وقال تعالى: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ [الآية 15] تقول: لبست عليه لبسا. وقال سبحانه: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) بذكر أحدهما والاستغناء عن الآخر. فلم يقل: «عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد» . ومثل ذلك في قوله جل شأنه فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً [النساء/ 4] ، وقوله سبحانه يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر/ 67] بالاستغناء بالواحد عن الجمع. وقال سبحانه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) أي: أملك به، وأقرب إليه في المقدرة عليه.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"ق"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «ق» «1» إن قيل: أين جواب القسم في قوله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) ؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها أنه مضمر تقديره: إنهم مبعوثون بعد الموت. الثاني: أنّه قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [الآية 4] واللام محذوفة لطول الكلام والتقدير: لقد علمنا كما في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) [الشمس] . الثالث: أنه قوله تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ [الآية 18] . فإن قيل: لم قال تعالى: وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وقد أراد به الحبّ الحصيد، فأضاف الشيء إلى نفسه والإضافة تقتضي المغايرة بين المضاف والمضاف إليه؟ قلنا: معناه وحبّ الزرع الحصيد، أو النبات الحصيد. الثاني: أن إضافة الشيء الى نفسه جائزة عند اختلاف اللفظين، كما في قوله تعالى حَقُّ الْيَقِينِ (95) [الواقعة] . وحَبْلِ الْوَرِيدِ (16) ، ووَعْدَ الصِّدْقِ [الأحقاف/ 16] . فإن قيل: لم قال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ولم يقل قعيدان، وهو وصف للملكين اللذين سبق ذكرهما بقوله تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ [الآية 17] ؟ قلنا: معناه عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، إلا أنه حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، كما قال الشاعر:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف وقال آخر: رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطويّ رماني الثاني: أنّ فعيلا يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، قال الله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) [التحريم] . وقيل إنّما لم يقل قعيدان، رعاية لفواصل السورة. فإن قيل: لم قال تعالى: أَلْقِيا [الآية 24] والخطاب لواحد، وهو مالك خازن النار؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها: ما قاله المبرّد أن تثنية الفاعل أقيمت مقام تثنية الفعل للتأكيد باتحادهما حكما، كأنه قال ألق ألق، ونظيره قول امرئ القيس: قفا نبك: أي قف قف. الثاني: أن العرب كثيرا ما يرافق الرجل منهم اثنان، فكثر على ألسنتهم خطاب الاثنين فقالوا: خليليّ وصاحبيّ، وقفا، واسمدا، وعوجا ونحو ذلك قال الفراء: سمعت ذلك من العرب كثيرا، قال وأنشدني بعضهم: فقلت لصاحبي لا تحبسانا ... بنزع أصوله واجتزّ شيحا فقال لا تحبسانا والخطاب لواحد، بدليل قوله لصاحبي قال: وأنشدني أبو ثور: فإن تزجراني يا ابن عفّان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضا ممنّعا وقال امرؤ القيس: خليلىّ مرّا بي على أمّ جندب ... نقضّي لبانات الفؤاد المعذّب ثم قال: ألم تر أني كلّما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب الثالث: أنه أمر للملكين، اللذين سبق ذكرهما، بقوله تعالى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) . فإن قيل: لم قال تعالى: غَيْرَ بَعِيدٍ (31) ولم يقل غير بعيدة، وهو وصف للجنة؟ قلنا: لأنه على زنة المصادر كالزّبير والصّليل، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكّر والمؤنث، أو على حذف الموصوف: أي مكانا غير بعيد،

وكلا الجوابين للزمخشري، رحمه الله تعالى. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: غَيْرَ بَعِيدٍ (31) بعد قوله سبحانه: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ [الآية 31] بمعنى قربت؟ قلنا: فائدته التأكيد، كقولهم: هو قريب غير بعيد، وعزيز غير ذليل. فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [الآية 37] وكل إنسان له قلب، بل كل حيوان؟ قلنا: المراد بالقلب هنا العقل، كذا قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال ابن قتيبة: لمّا كان القلب موضعا للعقل كنّي به عنه. الثاني: أنّ المراد لمن كان له قلب واع لأن من لا يعي قلبه، فكأنه لا قلب له ويؤيد ذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [الأعراف/ 179] .

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"ق"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «ق» «1» قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) . أراد سبحانه أنه يعلم غيب الإنسان ووساوس إضماره، ونجيّ أسراره. فكأنه، باستبطانه ذلك منه، أقرب إليه من وريده. لأن العالم بخفايا قلبه، أقرب إليه من عروقه وعصبه. وليس القرب هاهنا من جهة المسافة والمساحة، ولكن من جهة العلم والإحاطة. وفي قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) استعارة. والمراد بسكرة الموت هاهنا: الكرب الذي يتغشّى المحتضر عند الموت، فيفقد له تمييزه، ويفارق معه معقوله. فشبّه تعالى ذلك بالسّكرة من الشراب، إلا أنّ هذه السّكرة مؤلمة. وقوله تعالى: بِالْحَقِّ يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون جاءت بالحقّ من أمر الآخرة، حتى عرفه الإنسان اضطرارا، ورآه جهارا. والآخر أن يكون المراد بِالْحَقِّ هاهنا أي بالموت، الذي هو الحقّ. وفي قوله سبحانه: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) استعارة، والمراد بها ما يراه الإنسان عند زوال التكليف عنه، من أعلام السّاعة، وأشراط القيامة، فتزول عنه اعتراضات الشكوك، ومشتبهات الأمور، يصدّق بما كذّب، ويقرّ بما جحد، ويكون كأنّه قد نفذ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

بصره بعد وقوف، وأحدّ بعد كلال ونبوّ. فهذا معنى قوله سبحانه: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) . وفي قوله تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) استعارة: لأن الخطاب للنار والجواب منها، في الحقيقة لا يصحان. وإنما المراد- والله أعلم- أنها في ما ظهر من امتلائها، وبان من اغتصاصها بأهلها، بمنزلة الناطقة بأنه لا مزيد فيها، ولا سعة عندها. وذلك كقول الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني ولم يكن هناك قول من الحوض على الحقيقة، ولكن المعنى أن ما ظهر من امتلائه في تلك الحال، جار مجرى القول منه فأقام تعالى الأمر المدرك بالعين، مقام القول المسموع بالأذن. وقيل: المعنى أنّا نقول لخزنة جهنّم هذا القول، ويكون الجواب منهم على حدّ الخطاب. ويكون ذلك من قبيل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف/ 82] بإسقاط المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. وذلك كقولهم: يا خيل الله اركبي. والمراد يا رجال الله اركبي. وعلى القول الأول، يكون مخرج هذا القول لجهنّم على طريق التقرير، لاستخراج الجواب بظاهر الحال، لا على طريق الاستفهام والاستعلام. إذ كان الله سبحانه قد علم امتلاءها قبل أن يظهر ذلك فيها. وإنما قال سبحانه هذا الكلام ليعلم الخلائق صحّة وعده، إذ يقول تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) [هود] . والوجه في قوله تعالى في الحكاية عن جهنم: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) بمعنى لا من مزيد فيّ. وليس ذلك على طريق طلب الزيادة، وهذا معروف في الكلام. ومثله قوله (ص) : «وهل ترك عقيل لنا من دار؟» «1» ، أي ما ترك لنا دارا. وفي قوله سبحانه وتعالى:

_ (1) . قاله عليه الصلاة والسلام حين فتح مكة. فقد مضى الزبير بن العوام برايته حتّى ركّزها عند قبة رسول الله، وكان معه أم سلمة وميمونة رضي الله عنهما، وقيل: يا رسول الله! ألا تنزل منزلك من الشعب؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل منزلا؟ وكان عقيل بن أبي طالب قد باع منزل رسول الله (ص) ومنزل إخوته. والرجال والنساء بمكّة. فقيل: يا رسول الله! فانزل في بعض بيوت مكة في غير منازلك، فقال: لا أدخل البيوت! فلم يزل مضطربا بالحجون [وهو جبل بمكّة] لم يدخل بيتا، وكان يأتي المسجد من الحجون لكلّ صلاة. انظر الخبر في «إمتاع الأسماع» للمقريزي المؤرخ، ج 1 ص 381.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) استعارة مضى نظير لها في ما تقدّم. والمعنى أنه بالغ في الإصغاء الى الذّكرى، وأشهدها قلبه فكان كالملقي إليها سمعه، دنوّا من سماعها، وميلا الى قائلها. والمراد بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [الآية 37] أي عقل ولبّ. ويعبّر عنهما بالقلب، لأنهما يكونان بالقلب. أو يكون المعنى: لمن كان به قلب ينتفع به. لأنّ من القلوب مالا ينتفع به، إذا كان مائلا إلى الغيّ، ومنصرفا عن الرّشد.

الفهرس

الفهرس سورة «غافر» المبحث الأول أهداف سورة «غافر» 3 روح السورة 3 موضوعات السورة 4 الفصل الأول: صفات الله 4 الفصل الثاني: رجل مؤمن يجاهد بالكلمة 5 الفصل الثالث: الترغيب والترهيب 6 الفصل الرابع: نهاية الظالمين 7 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «غافر» 9 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 9 الغرض منها وترتيبها 9 التمهيد بالترهيب والترغيب 9 الأمر بإخلاص العبادة 10 ختم السورة بالترهيب والترغيب 10

سورة"فصلت"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «غافر» 13 المبحث الرابع مكنونات سورة «غافر» 15 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «غافر» 17 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «غافر» 19 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «غافر» 23 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «غافر» 27 سورة «فصلت» المبحث الأول أهداف سورة «فصّلت» 31 روح السورة 31 موضوعا السورة 32 الموضوع الأول 32 الموضوع الثاني 32 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «فصّلت» 35 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 35

سورة"الشورى"

الغرض منها وترتيبها 35 بيان الغرض من نزول القرآن 35 شرف الغرض الذي تدعو اليه 36 المبحث الثالث مكنونات سورة «فصّلت» 39 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «فصّلت» 41 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «فصّلت» 43 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «فصّلت» 47 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «فصّلت» 49 سورة «الشورى» المبحث الأول أهداف سورة «الشورى» 55 روح السورة 55 موضوع السورة 56 الفصل الأول: وحدة أهداف الرسالات 56 الفصل الثاني: صفات الجماعة المسلمة 58 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الشورى» 61

سورة"الزخرف"

تاريخ نزولها ووجه تسميتها 61 الغرض منها وترتيبها 61 اتفاق الرّسل على شرع الإسلام 61 المبحث الثالث مكنونات سورة «الشورى» 65 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الشورى» 67 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الشورى» 69 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الشورى» 71 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الشورى» 75 سورة «الزخرف» المبحث الأول أهداف سورة «الزخرف» 79 أفكار السورة 79 فصول السورة 80 1- شبهات الكافرين 80 2- مناقشة ومحاجة 81 3- من أساطير المشركين 82

سورة"الدخان"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الزخرف» 85 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 85 الغرض منها وترتيبها 85 التمهيد لتنزيه الله سبحانه عن الأولاد 85 إبطال بنوة الملائكة 86 إبطال بنوة عيسى 87 المبحث الثالث مكنونات سورة «الزخرف» 89 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الزخرف» 91 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الزخرف» 93 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الزخرف» 97 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الزخرف» 101 سورة «الدخان» المبحث الأول أهداف سورة «الدخان» 105 أفكار السورة 105 فضل السورة 105

سورة"الجاثية"

سياق السورة 106 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الدخان» 109 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 109 الغرض منها وترتيبها 109 إنزال يوم العذاب 109 المبحث الثالث مكنونات سورة «الدخان» 111 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الدخان» 113 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الدخان» 115 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الدخان» 117 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الدخان» 119 سورة «الجاثية» المبحث الأول أهداف سورة «الجاثية» 123 الغرض من السورة 123 سمات السورة 124 منهج السورة 124

سورة"الأحقاف"

درسان في السورة 125 شبهات الكفر وأدلة الإيمان 125 عناد الكافرين وعقابهم يوم الدين 126 مشاهد القيامة 127 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الجاثية» 129 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 129 الغرض منها وترتيبها 129 إثبات وجود الله تعالى 129 الرد على الدهرية 130 المبحث الثالث لغة التنزيل في سورة «الجاثية» 133 المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الجاثية» 135 المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الجاثية» 137 المبحث السادس المعاني المجازية في سورة «الجاثية» 139 سورة «الأحقاف» المبحث الأول أهداف سورة «الأحقاف» 143 سورة الإيمان والتوحيد 143

أربعة مقاطع 144 1- نقاش المشركين 144 2- الفطرة السليمة والفطرة السقيمة 145 3- قصة عاد 147 4- إيمان الجن 149 مقصود السورة اجمالا 150 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأحقاف» 151 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 151 الغرض منها وترتيبها 151 إنذار الكفار بالعذاب 151 المبحث الثالث مكنونات سورة «الأحقاف» 155 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الأحقاف» 161 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الأحقاف» 163 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الأحقاف» 165

سورة"محمد" (ص)

سورة «محمد» (ص) المبحث الأول أهداف سورة «محمد» (ص) 169 1- التحريض على قتال المشركين 169 2- خصال المنافقين 171 3- حديث عن المشركين والمؤمنين 173 مقصود السورة اجمالا 174 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «محمد» (ص) 175 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 175 الغرض منها وترتيبها 175 التحريض على القتال 175 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «محمد» (ص) 179 المبحث الرابع مكنونات سورة «محمد» (ص) 181 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «محمد» (ص) 183 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «محمد» (ص) 185 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «محمد» (ص) 187

سورة"الفتح"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «محمد» (ص) 189 سورة «الفتح» المبحث الأول أهداف سورة «الفتح» 193 صلح الحديبية 193 بيعة الرضوان 194 شروط الصلح 195 الأحداث وسورة «الفتح» 196 الله يبارك بيعة الرضوان 196 ظهور الإسلام 197 وصف الصحابة 198 مقاصد السورة الاجمالية 198 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفتح» 201 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 201 الغرض منها وترتيبها 201 التنويه بصلح الحديبية 201 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفتح» 205 المبحث الرابع مكنونات سورة «الفتح» 207

سورة"الحجرات"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفتح» 209 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفتح» 211 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفتح» 213 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفتح» 217 سورة «الحجرات» المبحث الأول أهداف سورة «الحجرات» 221 الآداب العامة 221 منهج الحياة 221 معاني السورة 222 الإيمان قول وعمل 224 الهدف الاجمالي للسورة 224 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحجرات» 22 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 225 الغرض منها وترتيبها 225 أدب المؤمنين مع الله ورسوله 226 أدب المؤمنين في سماع الأخبار 226 ترغيب المؤمنين في الصلح 226

سورة"ق"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «ص» 229 المبحث الرابع مكنونات سورة «الحجرات» 231 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحجرات» 233 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحجرات» 235 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحجرات» 237 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحجرات» 240 سورة «ق» المبحث الأول أهداف سورة «ق» 245 سورة الخطبة 245 جاء في «ظلال القرآن» 245 فواتح السور 246 معاني سورة «ق» 247 رقابة الله جلّ وعلا 248 مشاهد القيامة 248 ختام السورة 250

أهداف السورة إجمالا 250 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «ق» 251 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 251 الغرض منها وترتيبها 251 إثبات الإنذار بالعذاب 251 المبحث الثالث مكنونات سورة «ق» 253 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «ق» 255 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «ق» 257 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «ق» 259 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «ق» 263

الجزء التاسع

الجزء التاسع سورة الذّاريات (51)

المبحث الأول أهداف سورة"الذاريات"

المبحث الأول أهداف سورة «الذّاريات» «1» سورة مكّيّة وآياتها ستّون آية، نزلت بعد سورة الأحقاف. معاني السورة بدأت السورة بهذا القسم: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وهي كلمات غير مطروقة وغير متداولة، وقد سئل الإمام علي كرّم الله وجهه، عن معنى قوله تعالى: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فقال رضي الله عنه: هي الريح، فسئل عن فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فقال: هي السحاب، فسئل عن فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فقال: هي السفن، فسئل عن فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) فقال: هي الملائكة. وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) هي الريح التي تذرو التراب وغيره، فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) أي السحب الحاملة للمطر، والوقر الحمل الثقيل، فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) أي السفن الجارية في البحر جريا سهلا، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) أي الملائكة التي تقسم وتوزع أمور الله من الأمطار والأرزاق وغيرها. لقد أقسم الله، جلّ جلاله، بالريح وبالسحب وبالسفن وبالملائكة، وفي هذا القسم ما يوحي بأن الرزق بيد الله، فهو الذي يسوق السحاب، وهو الذي يسخر الريح للسفن، وهو الذي جعل الملائكة أصنافا تقسم الأمور، فالخلق

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

آيات الله في الأرض والسماء

البديع المنظم وراءه قوة عليا مبدعة، هي قوّته سبحانه الذي وعد الناس أن يجازيهم بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا، ووعده واقع لا محالة. وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) الحبك بضمتين جمع حبيكة وهي الطريق ومدار الكواكب. والمراد الطرائق التي هي مسير الأجرام السماوية من نجوم وكواكب، يقسم الله عزّ وعلا بالسماء المتّسقة المحكمة الترتيب، بما فيها من نجوم وكواكب تسلك طريقها مسرعة في مجراتها العظيمة بنظام دقيق وإبداع شامل، على أن المشركين يخوضون في حديث باطل وقول متناقض مضطرب، فصنع الله محكم، وعمل الكافرين باطل مضطرب، فتراهم حينا يقولون عن النبي (ص) إنّه شاعر، وتارة يقولون: ساحر، ومرة ثالثة يقولون: مجنون. وهذا دليل على التخبط وفساد الرأي. وقد رسمت السورة صورة الكافرين يذوقون عذاب جهنم ويقال لهم: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) . أي تعرضوا لعذاب النار وقد كنتم تستعجلون مجيئه، استهزاء بأمره واستبعادا لوقوعه. وعلى الضفّة الاخرى، وفي الصفحة المقابلة، يرتسم مشهد آخر لفريق آخر، فريق مستيقن بالآخرة، مستيقظ للعمل الصالح، فريق المتقين الذين أدّوا حقوق الله سبحانه بالصلاة وقيام الليل، وأدّوا حقوق الناس بالزكاة والصدقة. آيات الله في الأرض والسماء تشير الآية 20 الى آثار قدرة الله في خلق الأرض، فيقول سبحانه: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) . وإذا تأمّلنا مضمون هذه الآية، وجدنا أنّ هذا الكوكب الذي نعيش عليه معرض هائل لآيات الله وعجائب صنعته، هذه الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته، ولو اختلّت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكبيرة جدا لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها. ولو تغيّر حجمها صغرا أو كبرا، لو تغيّر وضعها من الشمس قربا أو بعدا، لو تغيّر حجم الشمس ودرجة حرارتها، لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا، لو

تغيّرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطئا، لو تغيّر حجم القمر أو بعده عنها، لو تغيّرت نسبة الماء الى اليابس فيها زيادة أو نقصا ... لو ... لو ... لو، الى آلاف الموافقات العجيبة المعروفة والمجهولة التي تتحكم في صلاحيتها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته، أليست هذه آية، أو آيات معروضة في هذا المعرض الالهي؟ «وتنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها، حيثما امتدّ الطرف، وحيثما تنقلت القدم، وعجائب هذه المشاهد التي لا تنفد: من واد وجبل، ووهاد وبطاح، وبحار وبحيرات، وأنهار وغدران، وقطع متجاورات، وجنّات وأعناب، وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان ... وكل مشهد من هذه المشاهد تتناوله يد الإبداع والتغيير الدائبة التي لا تفتر عن الإبداع والتغيير» . وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) خلق الله الإنسان، ونفخ فيه من روحه، وشق له السمع والبصر وزوّده بالحواس المتعددة، ووسائل الإدراك المختلفة. «وحيثما وقف الإنسان يتأمّل عجائب نفسه، التقى أسرارا تدهش وتحيّر: تكوين أعضائه وتوزيعها، وظائفها وطريقة أدائها لهذه الوظائف، عملية الهضم والامتصاص، عملية التنفّس والاحتراق، دورة الدم في القلب والعروق، الجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم، الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد وانتظامه، تناسق هذه الأجهزة كلّها وتعاونها وتجاوبها الكامل الدقيق، وكل من هذه تنطوي تحتها عجائب وفي كل عضو وكل جزء من عضو خارقة تحيّر الألباب» . وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) . فبيد الله الخلق والرزق والهدى والضلال، وأرزاق السماء تشمل الأرزاق المادية والمعنوية. وفي السماء أسباب أقواتكم، فالظواهر الفلكية، وجريان الشموس والكواكب وتوابعها، واختلاف الليل والنهار، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبثّ فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحاب المسخّر بين السماء والأرض، كل هذه الظواهر ذلّلها الله لخدمة الإنسان، فليس الرزق موقوفا

قصة ابراهيم

على شيء يتعلق بالأرض وحدها، بل الأمر كله لله تعالى، يقبض ويبسط وإليه المآب. ثم يعقب الله سبحانه بالقسم: بحق رب الأرض والسماء إن هذا الأمر لحق مثل نطقكم، فهل تشكّون في أنكم تنطقون؟. قصة ابراهيم يشتمل القطاع الثاني من سورة «الذاريات» على الإشارة الى قصص إبراهيم ولوط وموسى (ع) ، وعاد قوم هود (ع) ، وثمود قوم صالح (ع) ، ثم آية عن قوم نوح (ع) . وهذا القصص مرتبط بما قبله، ومرتبط بما بعده في سياق السورة. وإبراهيم (ع) أبو البشر اتخذه الله سبحانه، خليلا، وأرسل اليه ملائكة مكرّمين، فأكرم الخليل وفادتهم، وقرّب لهم عجلا سمينا، ودعاهم للأكل منه، ولكنّهم أمسكوا عن الطعام، فخاف منهم إبراهيم. فلما أحسّوا خوفه أخبروه بأنهم ملائكة من السماء أرسلهم الله إليه، ثم بشروه بغلام حليم. وأقبلت زوجته، وقد استولى عليها هول المفاجأة، فضربت وجهها بأطراف أصابعها، وصاحت متعجّبة من الحمل، وهي عجوز عقيم، فأخبرتها الملائكة بأنه لا وجه للعجب، كذلك أمر الله، وهو الحكيم في أعماله العليم بعباده. قصة لوط واتّجهت الملائكة بعد ذلك الى لوط (ع) ، فلما رآهم لوط أنكرهم وضاق بهم ذرعا، فقالت له الملائكة: يا لوط إنا رسل ربّك، جئنا لإنقاذك ومن معك من المؤمنين، فأسر بأهلك في ظلام الليل، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك، فقد حقت عليها كلمة العذاب مثل هؤلاء الظالمين. ولم تجد الملائكة في قرى قوم لوط غير أهل بيت واحد من المسلمين: هو لوط وابنتاه. ولما خرج لوط وابنتاه، جعل الله ديارهم عاليها سافلها، وساق إليهم عاصفة رعدية أمطرتهم بحجارة مسمومة، استأصلت شأفتهم وتركتهم أثرا بعد عين، وجعلهم الله عظة وعبرة للمعتبرين.

إشارات إلى قصص الأنبياء

إشارات الى قصص الأنبياء أشارت الآيات [38- 46] الى العبرة والعظة من قصة موسى (ع) ، ومن قصص غيره من الأنبياء في لمحة عاجلة. لقد أرسل الله موسى ومعه سلطان الهيبة وجلال النبوة، إلى فرعون وملئه، فأعرض فرعون عن موسى واتهمه بالسحر والجنون، فأغرق الله فرعون وجنده في البحر وألبسه ثوب الخزي والندم. وآية أخرى في عاد قوم نبي الله هود (ع) ، حينما كذبوا نبيهم فأرسل الله، جلّ جلاله، عليهم ريحا عاتية تحمل العذاب والدمار. وآية ثالثة في ثمود أمهلهم الله ثلاثة أيام، ثم أرسل عليهم صاعقة فأصبحوا هالكين. والحجارة التي أرسلت على قوم لوط (ع) ، والريح التي ارسالات على عاد، والصاعقة التي أرسلت على ثمود، كلها قوى كونية مدبرة بأمر الله سبحانه، مسخّرة بمشيئته ونواميسه، يسلطها على من يشاء في إطار تلك النواميس فتؤدّي دورها الذي يكلّفها الله، كأيّ جند من جند الله. آية رابعة في قوم نوح (ع) ، فقد أهلكوا وأغرقوا لفسوقهم وكفرهم وخروجهم عن طاعة الله عزّ وعلا. وللتنبيه الى بدائع صنعه إيقاظا للعاطفة الدينية، عاد السياق فذكر أنّ الله تعالى رفع السماء ووسّعها، وخلق الأرض ومهّدها، وأعدّها لما عليها من الكائنات ومن كل شيء في هذه الأرض، ذكرا وأنثى ليكون ذلك وسيلة للعظة والاعتبار. ثم يحث القرآن الناس على أن يتخلّصوا من آثار المادّة والهوى والشيطان، فرارا بدينهم، وطمعا في رحمة خالقهم، وأن يلجئوا إلى حماه وفضله: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) . وتكشف الآيات عن طبيعة المعاندين في جميع العصور، فقد كذّبوا الرسل واتّهموهم بالجنون أو السحر، كأنّما وصى السابق منهم اللاحق، وكأن الكفر في طبيعته ملّة واحدة، والرسالات كلها فكرة واحدة، فمن كذّب برسول واحد فكأنّما كذّب برسل الله أجمعين.

كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) . هذه السورة تربط القلب البشري بالله، سبحانه، وترشده الى عظيم صنعه، وفي ختام السورة يؤكد الله، جلّ جلاله هذا المعنى فيبيّن أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعرفوه ويوحّدوه ويؤمنوا به، فهو سبحانه وتعالى غنيّ بذاته، وهم في حاجة وافتقار اليه. إن معنى العبادة هو الخلافة في الأرض، وهو غاية الوجود الإنساني، وهو أوسع من مجرد الشعائر وأشمل. وتتمثل حقيقة العبادة في أمرين رئيسيّين: الأول: هو استقرار معنى العبودية لله تعالى في النفس، أي استقرار الشعور بأنه ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود، إلا رب واحد والكل له عبيد. والثاني: هو التوجه الى الله عزّ وجلّ، بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة. بهذا وذلك يتحقّق معنى العبادة، ويصبح العمل كالشعائر والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله كلها عبادة وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها، وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه. والمؤمن الحق هو الحريص على أداء واجباته ومرضاة ربه، وهو لا يعني نفسه بأداء الواجبات تحقيقا لمعنى العبادة في الأداء، أما الغايات فموكولة لله يأتي بها وفي قدره الذي يريده. إن الله تعالى لم يخلق الجن والإنس ليستعين بهم، لجلب منفعة لذاته أو دفع مضرة، وما يريد الله منهم أن يرزقوا أحدا من خلقه أو يطعموه. إنّ الله سبحانه وتعالى هو الكفيل برزقهم، والمتفضّل عليهم بما يقوم بمعيشتهم، وهو سبحانه ذو القدرة والقوة، وهو الغالب على أمره فلا يعجزه شيء. وفي ضوء هذه الحقيقة ينذر الذين ظلموا، فلم يؤمنوا بأن لهم نصيبا من العذاب مثل نصيب من سبقهم من الظالمين، فالله يمهل ولا يهمل، وتختتم السورة بهذا الإنذار الأخير: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ

المعنى الاجمالي للسورة

فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) . المعنى الاجمالي للسورة قال الفيروزآبادي: «معظم مقصود سورة الذاريات ما يأتي: «القسم بأن البعث والقيامة حق، والإشارة إلى عذاب أهل الضلالة، وثواب أرباب الهداية، وحجّة الوحدانية، وكرامة إبراهيم في باب الضيافة، وهلاك قوم لوط وفرعون وقومه لمخالفتهم أمر الله، وتدمير عاد وثمود وقوم نوح وخسرانهم، وخلق السماوات والأرض للنفع والإفادة، وزوجية المخلوقات للدلالة على قدرة الخالق، وتخليق الخلق لأجل العبادة واستحقاق المنكرين للعذاب والعقوبة» .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الذاريات"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الذاريات» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «الذاريات» بعد سورة «الأحقاف» ، ونزلت سورة «الأحقاف» بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الذاريات» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) وتبلغ آياتها ستين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إنذار المشركين بعذاب الدنيا والاخرة، وقد أخذوا فيها بالدليل، ومرّة بالترهيب، كما أخذوا بذلك في السورة السابقة، ولهذا جمع بينهما في الذكر، وجاء ترتيب هذه السورة بعد سابقتها. إثبات الإنذار بالعذاب الآيات [1- 60] قال الله تعالى: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) فأقسم بهذا على أن ما يوعدون به من العذاب إن لم يؤمنوا به لصادق ثم أقسم، جلّ وعلا، بالسماء ذات الحبك على أن قولهم في إنكاره مختلف تناقضه أفعالهم، لأنهم كانوا يربطون الركائب عند قبور الأكابر ليركبوها عند حشرهم، ثم أوعدهم على هذا بما أوعدهم به ثم ذكر أنهم يسألون عن

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

يومه استعجالا له واستهزاء به، وأجاب بأنه يكون يوم يفتنون على النار ويقال لهم: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) . ثم ذكر ما يكون للمتقين فيه من جنات وعيون، ليجمع بهذا بين طريق الترهيب وطريق الترغيب، ثم انتقل السّياق من هذا إلى الاستدلال بآياته، سبحانه، في الأرض وفي أنفسهم وفي السماء لإثبات قدرته على بعثهم وعذابهم، وختمه بالقسم كما بدأ به: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) . ثم أخذ السياق بعد هذا في ذكر ما فعله الله جلّ جلاله بالمكذّبين قبلهم ترهيبا لهم بهم، فذكر من ذلك خبر قوم لوط بعد أن مهد له بذكر أخبار الملائكة الذين أرسلوا بهلاكهم مع إبراهيم، ثم ذكر بعد ذلك خبر موسى وفرعون، وخبر عاد وما أهلكوا به من الريح العقيم، وخبر ثمود وما أخذوا به من الصاعقة، وخبر قوم نوح من قبلهم وهو معلوم. ثم عاد السياق إلى إثبات قدرته عزّ وجلّ على ذلك، بالسماء التي بناها وأوسعها، والأرض التي فرشها ومهّدها، إلى غير هذا من آثار قدرته، ثم أمرهم أن يفرّوا إليه سبحانه من عذابه، وألا يجعلوا معه آلهة أخرى لا تدفع عنهم منه شيئا، ثم ذكر أنهم يسلكون في تكذيب ذلك طريق المكذّبين قبلهم، فيزعمون أن من ينذرهم به ساحر أو مجنون، وذكر السياق أمر الله تعالى نبيّه (ص) أن يعرض عنهم لأنه لا لوم عليه بعد أن بلّغهم إنذارهم، وأن يكتفي بالتذكير لأن فيه الكفاية للمؤمنين، ثم ذكر تعالى أنه لم يخلق الجن والإنس عبثا، وإنما خلقهم لعبادته وتوحيده، وهو غنيّ عنهم لا يحتاج الى شيء منهم، فإذا أشركوا به فإن لهم ذنوبا من العذاب مثل ذنوب من سبقهم من أولئك المكذبين: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الذاريات"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الذاريات» «1» أقول: لما ختمت «ق» بذكر البعث، واشتملت على ذكر الجزاء، والجنة والنار، وغير ذلك من أحوال القيامة، افتتحت هذه السورة بالإقسام على إنّ ما توعدون من ذلك لصادق، وإن الدين، وهو الجزاء، لواقع. ونظير ذلك: افتتاح «المرسلات» بذلك، بعد ذكر الوعد والوعيد والجزاء في سورة «الإنسان» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الذاريات"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الذاريات» «1» 1- ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الآية 24] . قال عثمان بن محصن: كانوا أربعة من الملائكة: جبريل، وميكائيل وإسرافيل، وروفائيل، أخرجه ابن أبي حاتم. 2- وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) . قال مجاهد: هو إسماعيل. أخرجه ابن أبي حاتم «2» . وقال الكرماني بعد حكايته: أجمع المفسّرون على أنه إسحاق، إلا مجاهدا فإنه قال هو إسماعيل. 3- فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) . قال مجاهد: لوط وابنتاه. وقال قتادة: وأهل بيته. وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر. أخرجه ابن أبي حاتم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . والطبري في «تفسيره» 26: 129.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الذاريات"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الذاريات» «1» 1- قال تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) . قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) دعاء عليهم كقوله جلّ وعلا: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) [عبس] . والخراصون: الكذّابون المقدّرون ما لا يصحّ، وهم أصحاب القول المختلف. أقول: وأصل الخرص الحزر، كخرص النخل، وهو تقدير ما عليه من حمل. ولما كان الخرص حزرا وتقديرا، فقد يتعرّضون إلى الكذب، إمّا عن قصد وإمّا عن غير قصد. أقول: والخرص ممّا لا تعرفه الفصيحة المعاصرة، ولكننا نعرفه في الدارجة العراقية الجنوبية.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الذاريات"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الذاريات» «1» قال تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) واحدها «الحباك» . وقال تعالى: يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) أي: متى يوم الدّين، فقيل لهم: يوم هم على النار يفتنون. لأن ذلك اليوم يوم طويل فيه الحساب، وفيه فتنتهم على النار. وقال تعالى: ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ [الآية 59] أي سجلا «2» من العذاب.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . السّجل: الدّلو العظيمة.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الذاريات"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الذاريات» «1» إن قيل: لم قال تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) و «الصادق» وصف القائل لا وصف الوعد؟ قلنا: قيل «صادق» بمعنى «مصدوق» كقوله تعالى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) [الحاقة] وقوله: ماءٍ دافِقٍ (6) [الطارق] وقيل معناه «لصدق» ، فإن المصدر قد جاء على وزن اسم الفاعل كقولهم: قمت قائما، وقولهم: لحقت بهم اللائمة: أي اللوم. فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) والمتقون لا يكونون في الجنة في العيون؟ قلنا: معناه أنهم في الجنات، والعيون الكثيرة محدّقة بهم من كل ناحية، وهم في مجموعها لا في كل عين. ونظيره قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) [القمر] لأنه بمعنى أنهار، إلا أنه- والله أعلم- عدل عنها رعاية للفواصل. فإن قيل: لم قال تعالى: وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) ، أي في قرى قوم لوط (ع) ، وقرى قوم لوط ليست موجودة، فكيف توجد فيها العلامة؟ قلنا: الضمير في قوله تعالى فِيها عائد إلى تلك الناحية والبقعة لا إلى مدائن قوم لوط. الثاني: عائد إليها، ولكن «في» بمعنى «من» كما في قوله تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً [النحل: 84] ، وقوله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها [النساء: 5] . ويؤيد هذا الوجه

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئله القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، ومكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

مجيئه مصرحا به في سورة العنكبوت بلفظ «من» في قوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) [العنكبوت] ثم قيل: الآية آثار منازلهم الخربة وقيل هي الحجارة التي أبقاها الله تعالى حتى أدركها أوائل هذه الأمة. وقيل هي الماء الأسود الذي يخرج من الأرض. فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الآية 49] ، أي صنفين، مع أن العرش والكرسي والقلم واللوح لم يخلق منها إلا واحد؟ قلنا قيل: معناه ومن كل حيوان خلقنا ذكرا أو أنثى. وقيل معناه: ومن كل شيء تشاهدونه خلقنا صنفين كالليل والنهار، والصيف والشتاء، والنور والظلمة، والخير والشر، والحياة والموت، والبحر والبر، والسماء والأرض، والشمس والقمر ونحو ذلك. فإن قيل: لم قال تعالى هنا: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الآية 50] ، وقال سبحانه، في موضع آخر: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] ؟ قلنا: معنى قوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي الجأوا إليه بالتوبة، وقيل معناه: ففرّوا من عقوبته إلى رحمته ومعنى قوله سبحانه: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي يخوفكم عذاب نفسه أو عقاب نفسه. وقال الزجّاج: معنى «نفسه» «إياه» ، كأنه قال سبحانه وتعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] أي إياه، فظهر أنه لا تناقض بين الآيتين. فإن قيل: لم قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) وإذا قلنا، خلقهم للعبادة كان مريدا لها منهم، فكيف أرادها منهم ولم توجد منهم؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها أنه عام أريد به الخاص وهم المؤمنون، بدليل خروج البعض منه، بقوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الأعراف: 179] ومن خلق لجهنم لا يكون مخلوقا للعبادة. الثاني: أنه على عمومه، والمراد بالعبادة التوحيد، وقد وحّده الكل يوم أخذ الميثاق، وهذا الجواب يختص بالإنس، لأنّ أخذ الميثاق مخصوص بهم في الآية. وقيل معناه: إلا ليكونوا عبيدا لي. وقيل معناه: إلا ليذلّوا ويخضعوا وينقادوا لما قضيته وقدّرته

عليهم، فلا يخرج عنه أحد منهم. وقيل معناه إلّا ليعبدوني إن اختاروا العبادة لا قسرا وإلجاء. وقيل إلا ليعبدوني العبادة المرادة في قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [الرعد: 15] والعموم ثابت في الوجوه الخمسة. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) بعد قوله سبحانه: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ؟ قلنا: معناه ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ لأنفسهم، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) : أي أن يطعموا عبيدي، وإنما أضاف الإطعام إلى ذاته المقدسة لأن الخلق عياله وعبيده، ومن أطعم عيال غيره فكأنه أطعمه، ويؤيّده ما جاء في الحديث الصحيح «إن الله عز وجلّ يقول يوم القيامة: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني» أي استطعمك عبدي فلم تطعمه.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الذاريات"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الذاريات» «1» في قوله سبحانه في صفة حجارة القذف: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) استعارة. والمسوّمة: المعلمة. وأصل ذلك مستعمل في تسويم الخيل للحرب. أي تعليمها بعلامات تتميّز بها من خيل العدو شبّهت هذه الحجارة بها لأنها معلّمة بعلامات تدلّ على مكروه المصابين، وضرر المعاقبين، كما كانت الخيل المسوّمة تدل على ذلك في لقاء الأعداء. وإرسال هذه للعراك كإرسال تلك للهلاك. وقيل: إن التسويم في تلك الحجارة هو أن تجعل نكتة سوداء في الحجر الأبيض، أو نكتة بيضاء في الحجر الأسود. وقيل: كان عليها أمثال الطوابيع والخواتيم. وقد تكلمنا على نظير هذه الاستعارة في «هود» . والمراد بقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكَ أي خلقها سبحانه كذلك من غير أن يفعلها فاعل، أو يجعلها جاعل. فلأجل هذه الحال وجب أن يجعل لها تعالى هذا الاختصاص بقوله: عِنْدَ رَبِّكَ. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك أنها مسوّمة في سلطان الله تعالى وملكوته. وفي موضع العقاب المعدّ للمذنبين من خلقه. وفي قوله تعالى: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) . وقد قيل: إن المراد بها أنه أعرض بجنوده الذين هم كالركن له، والحجارة دونه. وقد يسمّى أعوان المرء وأنصاره

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

أركانه واعتماده «1» ، إذ كان بهم يصول، وإليهم يؤول. وقيل أيضا معنى ذلك فتولّى «2» وسلطانه، فإن ذلك كالركن له والمانع منه. ونظيره قوله سبحانه حاكيا عن لوط (ع) : قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) [هود] ، أي إلى عزّ دافع، وسلطان قامع. وفي قوله سبحانه: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) استعارة. ومعنى العقيم هاهنا التي لا تحمل القطار، ولا تلقح الأشجار، ولا تعود بخير، ولا تنكشف عن عواقب نفع. فهي كالمرأة التي لا يرجى ولدها، ولا ينمى عددها.

_ (1) . هكذا بالأصل. ولعلها «وأعماده» . (2) . بياض بالأصل.

سورة الطور (52)

سورة الطّور (52)

المبحث الأول أهداف سورة"الطور"

المبحث الأول أهداف سورة «الطور» «1» سورة الطور سورة مكية وآياتها 49 آية، نزلت بعد سورة السجدة. القسم في صدر السورة وَالطُّورِ (1) : الجبل فيه شجر، والأرجح أنّ المقصود به هو الطور المعروف في القرآن، وهو الجبل الذي تلقّى موسى (ع) عنده كلام الله جلّ جلاله. قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) [مريم] . وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) : الأقرب أن يكون كتاب موسى (ع) الذي كتب له في الألواح المناسبة بينه وبين الطور. وقيل هو اللوح المحفوظ تمشيا مع ما بعده، البيت المعمور والسقف المرفوع، ولا يمتنع أن يكون هذا هو المقصود. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) : قد يكون هو الكعبة فهي عامرة بالطواف حولها في جميع الأوقات. وقيل هو بيت في السماء حيال الكعبة يدخله كلّ يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه بل يدخل غيرهم في اليوم التالي. وذلك يرمز الى كثرة الملائكة وهم خلق مكرّمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) : هو السماء. وقد نسب ذلك الى سفيان الثوري عن الإمام علي رضي الله عنه، قال تعالى: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) [الأنبياء] . وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) : المملوء، وهو أنسب شيء يذكر مع السماء، في انفساحه وامتلائه وامتداده. وقد يكون معنى المسجور: المتّقد، كما في قوله تعالى في سورة أخرى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) [التكوير] أي توقّدت نيرانا عند نهاية الحياة، وذلك يمهّد لجواب القسم، وهو: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) . وقد سمع عمر رضي الله عنه هذه الآية ذات ليلة فتأثّر بها واشتدّ خوفه وعاد الى بيته مريضا، ومكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه. وعمر رضي الله عنه سمع السورة قبل ذلك وقرأها وصلى بها، فقد كان رسول الله (ص) يصلي بها المغرب، ولكنها في تلك الليلة صادفت من عمر قلبا مكشوفا، وحسّا مفتوحا، فنفذت إليه. يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) . ومشهد السماء الثابتة المبنية بقوّة وهي تضطرب وتتقلّب كما يضطرب الموج في البحر من هنا إلى هناك بلا قوام، ومشهد الجبال الراسية الصلبة تسير خفيفة رقيقة لا ثبات لها ولا استقرار أمر مذهل مزلزل، من شأنه أن يذهل الإنسان. وفي آيات أخرى ذكر القرآن أن السماء تنشقّ على غلظها وتتعلق الملائكة بأطرافها، كما ذكر اضطراب الكون وسائر الموجودات يوم القيامة. إن قلوب أهل مكة التي جحدت الاخرة، وأنكرت البعث والجزاء، تحتاج الى حملة عنيفة يقسم الله، جلّت قدرته، فيها بمقدّسات في الأرض والسماء بعضها مكشوف ومعلوم، وبعضها مغيّب مجهول، على وقوع العذاب يوم القيامة وسط مشهد هائل ترتج له الأرض والسماء: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) [ابراهيم] . وفي وسط هذا المشهد المفزع نرى

نعيم الجنة

ونسمع ما يزلزل ويرعب من ويل وهول وتقريع وتفزيع. إن المجرمين يساقون سوقا إلى جهنّم ويدفعون في ظهورهم دفعا، حتّى إذ أوصل بهم الدفع الى حافة النار قيل لهم هذه هي النار، فهل هي سحر كما زعمتم أن القرآن سحر وأن محمّدا ساحر، أم أنها الحق الهائل الرهيب؟ أم أنتم لا تبصرون النار كما كنتم لا تبصرون الحقّ في القرآن؟. نعيم الجنة من شأن القرآن أن يقابل بين عذاب الكافرين ونعيم المتّقين، وفي الآيات [17- 28] نجد حديثا عن ألوان التكريم التي يتمتع بها المتقون. فهم في الجنات يتمتّعون بألوان اللذائذ الحسية والمعنوية، وقد ألحق الله الذرية بالإباء إذا اشتركوا معهم في الإيمان وقصروا عنهم في العبادة والطاعة. أدلة القدرة في الجزء الأخير من السورة، نجد أن الآيات لها وقع خاص. ورنين يأخذ على النفس البشرية كلّ أنحائها، ويجبه المنكرين بالعديد من الحجج، ويستفهم منهم بطريقة لاذعة ساخرة لا يملك أيّ منصف معها غير التسليم. والآيات تبدأ بتوجيه الخطاب إلى رسول الله أن يبلغ الدعوة، فهو أمين على وحي السماء، بعيد عن الاتهام بالكذب والجنون. وتسرد الآيات اتّهام الكفّار له بأنّه شاعر أو متقوّل ادّعى القرآن من عند نفسه، ونسبه الى الله، فتطلب منهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين في دعواهم. وأمامهم أدلّة القدرة، فهل خلقوا من غير خالق؟ أم خلقوا أنفسهم؟ وإذا انتفى لم يبق الا احتمال ثالث وهو أنهم خلق الله. ويتوالى هذا الاستفهام الإنكاري يقرّعهم بالحجة بعد الحجة، وبالدليل تلو الدليل. فهذه السماء العالية من خلقها؟ هل هم خلقوها؟ وهل تطلب منهم يا محمد أجرا على تبليغ الرسالة؟ وهل يملكون أمر الغيب؟ وأمر

الغيب لا يطلع عليه إلّا الله سبحانه وتعالى. وهل لهم إله يتولاهم غير الله؟ تنزه الله عن شركهم. وعند ما وصل جحودهم وعنادهم إلى هذا الحد من الغلوّ في الباطل، أمر الله، جلّ وعلا، رسوله (ص) أن يعرض عنهم ويتركهم حتّى يلاقوا مصيرهم، وفي هذا اليوم لا ينفعهم كيدهم ولا تنجيهم مؤامراتهم.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الطور"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الطور» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «الطور» بعد سورة «السجدة» ، ونزلت سورة «السجدة» بعد «الإسراء» وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الطور» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها: وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) وتبلغ آياتها تسعا وأربعين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة الإنذار بعذاب الدنيا والاخرة، وبهذا تشارك السورتين السابقتين في الغرض المقصود منهما، وهذا هو وجه ذكرها بعدهما. إثبات الإنذار بالعذاب الآيات [1- 49] قال الله تعالى: وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ، فأقسم بهذا على وقوع ذلك العذاب، وذكر أنه يوم تمور السماء وتسير الجبال، وحينئذ يكون الهلاك للمكذّبين به، ويصلون النار بما كانوا يعملون ثم ذكر ما أعد فيه للمتقين من جنات ونعيم، ليجمع بهذا بين طريق الترهيب وطريق الترغيب، قد أطال في هذا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

الطريق، إلى أن ذكر مما يقوله المتقون في سبب نعيمهم: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) . ثم انتقل السياق من هذا الى أمر النبي (ص) بأن يستمر على تذكيره بما أنزل عليه من ذلك الإنذار، لأنه حق ليس بقول كاهن ولا مجنون ولا شاعر كما يزعمون، ولأنهم لا ينكرون عن عقل، وإنما هم قوم طاغون ثم أمرهم، جلّ وعلا، على سبيل الإلزام، أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين في ما يفترونه عليه، ليظهر عجزهم ويبطل ما زعموه من أنه كاهن أو مجنون أو شاعر. ثم سلك طريقا آخر في إلزامهم فذكر أنهم لم يخلقوا من غير شيء، بلى لا بد لهم من خالق، وأنهم لا يملكون شيئا من أمر هذا الخلق حتّى يقطعوا بنفي الحساب والعقاب، وأنهم لم ينزل عليهم بذلك نبأ من السماء، فألزمهم بأنّ لهم خالقا هو الذي يتصرف في أمورهم، ولا يملكون أن يمنعوا ما يريده من حسابهم على أعمالهم وذكر سبحانه أنه لا شريك له في ذلك من الملائكة الذين يزعمون أنهم بناته ثم انتقل السياق الى إلزامهم بطريق آخر فذكر تعالى أن النبي (ص) لا يسألهم على إنذاره أجرا حتى يتهم فيه أو يثقلهم به، وأنهم لا علم عندهم بالغيب حتى يقطعوا بأنه لا حساب عليهم، وأنه لم يبق بعد هذا إلّا أن يريدوا الكيد والعذاب لأنفسهم لقيام هذه الإلزامات عليهم، أو يكون لهم إله غير الله يدفع العذاب عنهم سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) . ثم ختمت السورة ببيان فرط طغيانهم وعنادهم في تكذيب ما أنذروا به، فذكر عزّ وجلّ أنهم لو نزّل عليهم كسف من السماء لعذابهم لقالوا: هذا سحاب تراكم بعضه على بعض ليمطرنا، وأمر النبي (ص) أن يتركهم في هذا الطغيان والعناد حتّى يلاقوا ما ينكرون. ثم ذكر أن لهم عذابا دون عذاب الاخرة بتسليط المسلمين عليهم. وأمر النبي (ص) بالصبر الى أن يفي بهذا الوعد، فقال وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الطور"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الطور» «1» أقول: وجه وضعها بعد «الذاريات» : تشابههما في المطلع والمقطع، فإنّ في مطلع كلّ منهما صفة حال المتّقين بقوله تعالى في الآيات 15- 17 من سورة الذاريات: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ، الآيات. وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفّار، بقوله في تلك: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الذاريات: 60] . وفي هذه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 42] «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . ومن المناسبة بين الطور والذاريات أنه تعالى ذكر تكذيب الكافرين، وردّ عليهم بإيجاز في الذاريات بقوله سبحانه: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) وما بعدها. ثم فصّل ذلك في الطور من قوله جل وعلا: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) الى آخر السورة.

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"الطور"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الطور» «1» 1- قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) . والمعنى: يوم يدفعون إلى النار دفعا. وقرئ: «يدعون» من الدعاء. أقول: ليس في العربية المعاصرة الفعل المضاعف «دع يدع» . 2- وقال تعالى: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) . المصيطر بالصاد، أي: الغالب. وقرئ بالسين. أقول: غلبت السين على المسيطر في العربية ولكن لغة التنزيل في القراءة المثبتة الغالبة جاءت بالصاد، وتعاقب السين والصاد معروف. ومثل هذا السراط والصراط، والكلمة بالسين في اللغة المعاصرة، وقد رسمت السين في القرآن تحت الصاد.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"الطور"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الطور» » قال تعالى: وْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً فَوَيْلٌ (10) دخلت الفاء لأنه في معنى: إذا كان كذا وكذا فأشبه المجازاة، لأن المجازاة يكون خبرها بالفاء. وقال: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) لأنك تقول: «تربّصت زيدا» أي: تربصت به «2» » .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . في الجامع 17: 72. وقال الأخفش: نتربص به الى ريب المنون فحذف حرف الجر كما تقول قصدت زيدا وقصدت الى زيد.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الطور"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الطور» «1» إن قيل: لم قال تعالى: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) مع أن الحور العين في الجنة مملوكات ملك يمين لا ملك نكاح؟ قلنا: معناه قرنّاهم بهن من قولهم زوّجت إبلي: أي قرنت بعضها إلى بعض، وليس من التزويج الذي هو عقد النكاح، ويؤيّده أن ذلك لا يعدّى بالباء بل بنفسه كما قال تعالى: زَوَّجْناكَها [الأحزاب: 37] ويقال زوّجه امرأة ولا يقال بامرأة. فإن قيل: لم قال الله تعالى في وصف أهل الجنة كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) أي مرهون في النار بعمله؟ قلنا: قال الزمخشري: كأن نفس كل عبد ترهن عند الله تعالى بالعمل الصالح الذي هو مطالب به، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحا فك الرهن عنها، وخلصت، وإلا أوبقت. وقال غيره: هذه جملة من صفات أهل النار وقعت معترضة في صفات أهل الجنة ويؤيّده ما روي عن مقاتل، أنه قال: معناه: كل امرئ كافر بما عمل من الكفر مرتهن في النار، والمؤمن لا يكون مرتهنا، لقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) [المدّثّر] . فإن قيل: لم قال تعالى في حقّ النبي (ص) : فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) ، وكل

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

واحد غيره كذلك لا يكون كاهنا ولا مجنونا بنعمة الله تعالى؟ قلنا: معناه فما أنت بحمد الله وإنعامه عليك، بالصدق والنبوة، بكاهن ولا مجنون كما يقول الكفار. وقيل الباء هنا بمعنى «مع» ، كما في قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] . وقوله تعالى: فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 52] ويقال: أكلت الخبز بالتمر: أي معه. فإن قيل: ما معنى الجمع في قوله تعالى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الآية 48] ؟ قلنا: معناه التفخيم والتعظيم، والمراد بحيث نراك ونحفظك ونظيره في معنى العين قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) [طه: 39] ونظيره في الجمع للتفخيم والتعظيم قوله تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: 14] وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: 71] .

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"الطور"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الطور» «1» في قوله تعالى: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) استعارة، أي إن كانوا حكماء عقلاء كما يدّعون، فكيف تحملهم أحلامهم وعقولهم على أن يرموا رسول الله (ص) بالسّحر والجنون، وقد علموا بعده عنهما، ومباينته لهما؟ وهذا القول منهم سفه وكذب، وهاتان الصفتان منافيتان لأوصاف الحلماء، ومذاهب الحكماء. ومخرج قوله سبحانه: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا مخرج التبكيت لهم، والإزراء عليهم. ونظير هذا الكلام قوله سبحانه حاكيا عن قوم شعيب (ع) : قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا [هود: 87] أي دينك وما جئت به من شريعتك التي فيها الصلوات وغيرها من العبادات، تحملك على أمرنا بترك ما يعبد آباؤنا. وقد مضى الكلام على ذلك في موضعه. وفي قوله سبحانه وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) وقد قرئ: (وأدبار النجوم) بفتح الهمزة استعارة على القراءتين جميعا. فمن قرأ بفتح الهمزة كان معناه: وأعقاب النجوم. أي أواخرها إذا انصرفت. كما يقال: جاء فلان في أعقاب القوم. أي في أواخرهم. وتلك صفة تخصّ الحيوان المتصرّف الذي

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرخ.

يوصف بالمجيء والذّهاب، والإقبال والإدبار. ولكنها استعملت في النجوم على طريق الاتساع. فأمّا قراءة من قرأ: وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) بالكسر، وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف، فمعناه قريب من المعنى الأول. فكأنه سبحانه وصفها بالإدبار بعد الإقبال. والمراد بذلك الأفول بعد الطلوع، والهبوط بعد الصعود.

سورة النجم (53)

سورة النّجم (53)

المبحث الأول أهداف سورة"النجم"

المبحث الأول أهداف سورة «النجم» «1» سورة «النجم» سورة مكية وآياتها 62 آية، نزلت بعد سورة «الإخلاص» . 1- تكريم الرسول في مطلع السورة نعيش لحظات مع قلب النبي محمد (ص) ، مكشوفة عنه الحجب، مزاحة عنه الأستار، يتلقى من الملأ الأعلى، يسمع ويرى ويحفظ ما وعى، وهي لحظات خصّ بها ذلك القلب المصفّى، حينما عرج به في رحاب الملأ الأعلى. أقسم الله، جلّ وعلا، بالثريا إذا سقطت عند الفجر، أن محمدا راشد غير ضال، مهتد غير غاو، مخلص غير مغرض، مبلّغ عن الحق بالحق غير واهم، لا مفتر ولا مبتدع، ولا ناطق عن الهوى في ما يبلّغكم من الرسالة، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) وهو يبلّغكم ما يوحى إليه صادقا أمينا. وقد رأى النبي (ص) جبريل (ع) مرتين على صورته التي خلق عليها، الأولى عند غار حراء، وكان ذلك في مبدأ الوحي حينما رآه النبي يسدّ الأفق بخلقه الهائل، ثم دنا منه فتدلى نازلا مقتربا إليه فكان أقرب ما يكون منه على قاب قوسين أو أدنى، وهو تعبير عن منتهى القرب، فأوحى إلى عبد الله ما أوحى، بهذا الإجمال والتفخيم والتهويل. والثانية، كانت ليلة الإسراء والمعراج، فقد دنا منه جبريل وهو على هيئته التي خلقه الله بها مرة أخرى

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

2 - أوهام المشركين

عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) أي شجرة ينتهي إليها علم الخلائق، أو انتهت إليها صحبة جبريل (ع) لرسول الله (ص) حيث وقف جبريل وصعد محمد (ص) درجة أخرى أقرب الى عرش ربه. 2- أوهام المشركين تتحدث الآيات [19- 28] عن آلهة المشركين المدّعاة، اللات والعزى ومناة، وعن أوهامهم، عن الملائكة وأساطيرهم حول بنوتها لله، واعتمادهم في هذا كلّه على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، في حين أن الرسول (ص) يدعوهم الى ما دعاهم إليه عن تثبّت وروية ويقين. 3- الإعراض عن الملحدين أما المقطع الثالث من السورة، فيشمل الآيات [29- 32] ، ويوجه الخطاب إلى الرسول (ص) أن يعرض عنهم، وأن يهمل شأنهم، وأن يدع أمرهم لله، الذي يعلم المسيء والمحسن، ويجزي المهدي والضال، ويملك أمر السماوات والأرض وأمر الدنيا والاخرة، ويحاسب بالعدل فلا يظلم أحدا، ويتجاوز عن الذنوب التي لا يصرّ عليها فاعلوها هو الخبير بالنيات والطوايا، لأنه خالق البشر المطّلع على حقيقتهم في أطوار حياتهم جميعا. 4- الصغائر من الذنوب الصغائر هي ما دون الفاحشة، وهي القبلة واللمسة والمباشرة والنظرة وغيرها فإذا التقى الختانان، وتوارت الحشفة، فقد وجب الغسل، وهذه هي الفاحشة. روى البخاري ومسلم أن رسول الله (ص) قال: «إن الله تعالى إذا كتب على ابن آدم حظّه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» . وروى ابن جرير أن ابن مسعود قال: زنا العين النظر، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه، فإن تقدّم بفرجه كان زانيا وإلّا فهو اللّمم، وكذا قال مسروق والشعبي. ويرى فريق من العلماء أن اللّمم هو الإلمام بالذنوب ثم التوبة منها،

5 - حقائق العقيدة

فصاحب اللمم يقع في الكبائر أو يرتكب الآثام غير مصر عليها، ثم يندم ويتوب من قريب. قال ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أراه رفعه» في الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [الآية 32] . قال اللّمّة من الزنا ثم يتوب ولا يعود، واللّمّة من السرقة ثم يتوب ولا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود. قال فذلك الإلمام. وروى ذلك موقوفا على الحسن. وهذا التفسير يفتح باب التوبة أمام الجميع حتى مرتكب الكبيرة لا ييأس، فإذا صدق في توبته، وأخلص في نيته، وأكد عزمه على التوبة النصوح، فإنّ أمامه رحمة الله الواسعة التي يشمل بها التائبين، ويستأنس لذلك بما في الآية من المغفرة: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) . والآية كما نرى تفتح باب الرجاء، وتدل الناس على عظيم فضل الله. فهو سبحانه خلقهم، وهو أعلم بهم. وحينما يذنبون لا يغلق باب الرحمة في وجوههم بل يفتح أبواب القبول للتائبين، ويغفر للمستغفرين، قال تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) [الزمر] . وفي الصحيح أن رسول الله (ص) قال: «ينزل ربّنا كلّ ليلة إلى سماء الدنيا حينما يبقى ثلث الليل الأخير فينادي: يا عبادي هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه، هل من طالب حاجة فأقضيها له حتى يطلع الفجر» . [والنزول هاهنا ليس النزول المعهود، وهو بكيفيّة لا يعلمها إلّا الله جلّ جلاله] . 5- حقائق العقيدة وفي الآيات الأخيرة من السورة [33- 62] تعود الفواصل القصيرة والتنغيم الكامل في أسلوب بسيط، وإيقاع يسير، وتقرّر الآيات الحقائق الأساسية للعقيدة كما هي ثابتة منذ إبراهيم عليه السلام صاحب الحنيفية الأولى، وتعرّف البشر بخالقهم، فاثاره واضحة

أمام الناس، فهو الخالق الرازق صاحب الطّول والإنعام، ومنه المبدأ وإليه المنتهى. وهو الذي أهلك المكذبين من عاد وثمود وقوم نوح، ولكنكم يا أهل مكة تضحكون وتسخرون، وتسترسلون في غيكم وعنادكم، وأولى بكم أن تسجدوا لله سبحانه، وأن تعبدوه وأن تقبلوا على دينه، مقرّين لله عزّ وجل بالعبودية ولمحمد (ص) بالرسالة.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"النجم"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النجم» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «النجم» بعد سورة «الإخلاص» ، وكان نزولها بعد الهجرة الأولى للحبشة، وكانت هذه الهجرة في السنة السابعة من البعثة. فلمّا نزلت هذه السورة أشيع كذبا أنه نزل فيها بعد قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) تلك الغرانيق العلى، وإنّ شفاعتهن لترتجى وأن قريشا أسلمت حين آمن النبي (ص) بشفاعة آلهتها في تلك الشائعة المفتراة، فرجع مهاجرو الحبشة حين أشيع ذلك بينهم، فرأوا أن قريشا لا تزال على كفرها، وبهذا تكون سورة النجم من السور التي نزلت فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أوّلها: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) وتبلغ آياتها اثنتين وستين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إثبات أن ما جاء به النبي (ص) من وحي الملائكة، وهذا يقتضي أن الملائكة عباد الله من وظيفتهم الوحي وغيره، فلهذا انتقل الكلام في هذه السورة من هذا الغرض الى إبطال بنوّتهم لله تعالى ولا شك في أن هذا الغرض يتصل بما جاء في السورة السابقة من زعمهم الباطل أن الرسول (ص) كاهن أو مجنون أو شاعر.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

نزول جبريل بالدعوة

نزول جبريل بالدعوة الآيات [1- 62] قال الله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) . فأقسم بهذا على أن النبي (ص) ما ضلّ وما ينطق عن الهوى، كما هو شأن الكاهن والمجنون والشاعر وإنما ينطق عن الوحي الذي ينزله عليه الملك جبريل ثم ذكر أن جبريل تارة ينزل إليه من السماء بالوحي، وتارة يصعد هو إليه بالسماء فيتلقاه منه، ويرى في ذلك ما يرى من آيات ربه الكبرى. ثم انتقل السياق من هذا إلى إبطال ما يزعمونه من أن هذه الملائكة بنات الله، وكانوا يتخذون لها أصناما يعبدونها من اللات والعزّى ومناة، فذكر ما يتخذونه من هذه الأصنام الثلاثة، وأبطل أن يكون له منها بنات، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وهم لا يرضون لأنفسهم إلا البنين، وذكر أن هذه مزاعم يقلّدون فيها آباءهم ولا دلهم عليها، ثم أبطل ما يتمنونه من شفاعتها لهم، وذكر جلّ وعلا أن كم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا بعد إذنه ورضاه. ثم عاد السياق إلى تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى من غير علم، فذكر أمر الله تعالى النبي (ص) أن يعرض عمّن يتولى بعد هذا عنه، لأنهم لا يريدون الحق وإنما يريدون الحياة الدنيا. ثم ذكر جل جلاله أن له ما في السماوات والأرض ليجزي المحسن والمسيء بعمله، فلا تنفع هناك شفاعة شفيع له. وذكر سبحانه أن المحسنين هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلّا اللمم، وأنه سيكون معهم واسع المغفرة ثم ذكر الذي تولى من المشركين واعتمد على ما يزعمه من شفاعة الملائكة له، فرد عليه بأنه لا علم عنده بذلك من الغيب، وبما ورد في صحف موسى وإبراهيم: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) ، إلى غير هذا مما نقله عن هذه الصحف ثم ذكر أن ما يوحى إلى النبي (ص) نذير من تلك النّذر التي أنزلت قبله، وأن ما ينذر به قد قربت ساعته، وأنكر عليهم أن يعجبوا ويضحكوا ممّا ينذرهم به، ولا يبكوا وهم سامدون: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [الآية 62] .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"النجم"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النجم» «1» أقول: وجه وضعها بعد «الطور» : أنها شديدة المناسبة لها، فإن «الطور» ختمت بقوله تعالى: وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) . وافتتحت هذه بقوله سبحانه: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) . ووجه آخر: أن «الطور» ذكر فيها ذرية المؤمنين، وأنهم تبع لآبائهم «2» ، وهذه فيها ذكر ذرية اليهود «3» في قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [الآية 32] . ولما قال هناك في المؤمنين: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور: 21] . أي: ما نقصنا الآباء بما أعطينا البنين، مع نفعهم بما عمل آباؤهم. قال هنا في صفة الكفّار أو بني الكفّار: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) خلاف ما ذكر في المؤمنين الصّغار. وهذا وجه بيّن بديع في المناسبة، من وادي التضاد.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. [.....] (2) . وذلك في قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21] . (3) . بل فيها ذكر لذرية كل كافر حين استخرج الله ذرية آدم من صلبه وقسمهم فريقين: فريقا للجنة، وفريقا للسعير. انظر (تفسير ابن كثير: 7: 437) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"النجم"

المبحث الرابع مكنونات سورة «النجم» «1» 1- وَالنَّجْمِ [الآية 1] . قال مجاهد: الثريّا. وقال السّدّي: الزّهرة. أخرجهما ابن أبي حاتم. وقيل: هو زحل. وقيل: هو محمد (ص) . حكاهما الكرماني. 2- عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) . قال الربيع، والسّدّي: هو جبريل. أخرجه ابن أبي حاتم. 3- فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ [الآية 10] . قال ابن عبّاس: هو محمد (ص) . وقال الحسن: هو جبريل «2» . أخرجهما ابن أبي حاتم «3» . 4- أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) . قال السّدّي: هو العاصي بن وائل. وقال مجاهد: الوليد بن المغيرة «4» . أخرجهما ابن أبي حاتم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطباع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . قال ابن كثير في «تفسيره» 4: 249 «معناه فأوحى جبريل إلى عبد الله محمّد ما أوحى، أو فأوحى الله إلى عبده محمد بواسطة جبريل، وكلا المعنيين صحيح» . (3) . انظر «تفسير الطبري» 27: 26. (4) . أخرجه أيضا الطبري في «تفسيره» 27: 42.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"النجم"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النجم» «1» 1- وقال تعالى: وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) . سامدون، أي: شامخون مبرطمون «2» . وقيل: لاهون ولاعبون. أقول: وهذا من الكلم الذي لم يتّضح للمفسرين، واختلافهم البعيد في فهمه دليل على ذلك.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . برطم الرّجل: أدلى شفتيه من الغضب.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"النجم"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النجم» «1» قال تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) جماعة «القوّة» وبعض العرب يقول: «حبوة» و «حبى» فينبغي لهؤلاء أن يقولوا: «القوى» ، بكسر القاف، في هذا القياس. ويقول بعض العرب «رشوة» و «رشا» ، ويقول بعضهم «رشوة» و «رشا» . وبعض العرب يقول: «صور» ، و «صور» والجيدة «صور» وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر: 64] . وقال تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) فقوله تعالى: أَلَّا تَزِرُ بدل من قوله سبحانه بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) أي: بأن لا تزر.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرخ.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"النجم"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النجم» «1» إن قيل: الضلال والغواية واحدة، فما الحكمة في قوله تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) . قلنا: قيل إن بينهما فرقا لأنّ الضلال ضدّ الهدى، والغيّ ضدّ الرّشد، وهما مختلفان مع تقاربهما. وقيل معناه: ما ضلّ في قوله ولا غوى في فعله، ولو ثبت اتحاد معناهما، لكان من باب التأكيد باللفظ المخالف، مع اتّحاد المعنى. فإن قيل: لم قال تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) أدخل كلمة الشك، والشّكّ محال على الله تعالى؟ قلنا: «أو» هنا للتخيير لا للشّكّ، كأنّه قال سبحانه وتعالى: إن شئتم قدّروا ذلك القرب بقاب قوسين، وإن شئتم قدّروه بأدنى منهما. وقيل معناه: بل أدنى. وقيل هو خطاب لهم بما هو معهود بينهم. وقيل هو تشكيك لهم لئلّا يعلموا قدر ذلك القرب، ونظيره قوله تعالى وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) [الصافات] والكلام فيهما واحد. فإن قيل: قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) . من رؤية القلب لا من رؤية البصر، فأين مفعولها الثاني؟ قلنا: هو محذوف تقديره: أفرأيتموها بنات الله وأنداده، فإنهم كانوا يزعمون أن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله عز وجل. فإن قيل: لم قال الله تعالى: الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20)

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

فوصف الثالثة بالأخرى، والعرب إنما تصف بالأخرى الثانية لا الثالثة، فظاهر اللفظ يقتضي أن يكون قد سبق ثالثة أولى، ثم لحقتها الثالثة الأخرى فتكون ثالثتان؟ قلنا: الأخرى نعت للعزّى تقديره: أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة لأنها ثالثة الصنمين في الذكر، وإنما أخّر الأخرى رعاية للفواصل، كما قال سبحانه: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) [طه] ولم يقل أخر رعاية للفواصل. فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) ، أي لا يقوم مقام العلم، مع أنه يقوم مقام العلم في صورة القياس؟ قلنا: المراد به هنا الظّن الحاصل من اتّباع الهوى دون الظّنّ الحاصل من النظر والاستدلال ويؤيده قوله تعالى قبل هذا: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [الآية 23] . فإن قيل: لم قال تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) وقد صح في الأخبار وصول ثواب الصدقة والقراءة والحج وغيرها الى الميت؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها ما قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما أنها منسوخة بقوله تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21] ، معناه أنه أدخل الأبناء الجنّة بصلاح الآباء، قالوا وهذا لا يصح لأنّ الآيتين خبر، ولا نسخ في الخبر. الثاني: أن ذلك مخصوص بقوم إبراهيم وموسى (ع) ، وهو حكاية ما في صحفهم، فأمّا هذه الأمّة فلها ما سعت وما سعى لها. الثالث أنه على ظاهره، ولكن دعاء ولده وصديقه وقراءتهما وصدقتهما عنه من سعيه أيضا، بواسطة اكتسابه للقرابة أو الصداقة أو المحبّة من الناس، بسبب التقوى والعمل الصالح. فإن قيل: لم قال تعالى بعد تعديد النقم: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) والآلاء هي النعم؟ قلنا: إنما قال سبحانه بعد تعديد النعم والنقم نعم، لما فيها من الزجر والمواعظ، فمعناه: فبأيّ نعم ربّك الدالّة على وحدانيته تشكّ يا وليد بن المغيرة.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"النجم"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النجم» «1» في قوله سبحانه: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (1) استعارة. والمراد، والله أعلم، أنّ ما اعتقده القلب من صحة ذلك المنظر الذي نظره، والأمر الذي باشره، لم يكن عن تخيّل وتوهّم، بل عن يقين وتأمّل. فلم يكن بمنزلة الكاذب من طريق تعمد الكذب، ولا من طريق الشكوك والشّبه. وفي قوله سبحانه: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) استعارة. وهي قريبة المعنى من الاستعارة الأولى. والمراد، والله أعلم، أن البصر لم يمل عن جهة المبصر إلى غيره ميلا يدخل عليه به الاشتباه، حتّى يشكّ فيما رآه. ولا طغى، أي لم يجاوز المبصر ويرتفع عنه، فيكون مخطئا لإدراكه، متجاوزا لمحاذاته. فكأنّ تلخيص المعنى: أنّ البصر لم يقصّر عن المرئي فيقع دونه، ولم يزد عليه فيقع وراءه، بل وافق موضعه، ولم يجاوز موقعه. وأصل الطّغيان طلب العلوّ والارتفاع، من طريق الظلم والعدوان، وهو في صفة البصر خارج «2» على المجاز والاتساع.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . أي سائر على طريق المجاز والاتساع في التعبير.

سورة القمر (54)

سورة القمر (54)

المبحث الأول أهداف سورة"القمر"

المبحث الأول أهداف سورة «القمر» «1» سورة «القمر» سورة مكية، آياتها 55 آية، نزلت بعد سورة «الطارق» . انشقاق القمر يصف مطلع السورة حادثا فذّا هو انشقاق القمر بقدرة الله تعالى معجزة لرسول الله (ص) . وقد وردت روايات متواترة، من طرق شتّى، عن وقوع انشقاق القمر في مكّة قبل الهجرة. جاءت هذه الروايات في البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد، وغيرها من كتب الثّقات. وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله (ص) فقالت قريش هذا سحر ابن أبي كبشة، قال: فقالوا: انظروا ما يأتيكم من السّفار فإنّ محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلّهم، قال: فجاء السّفار فقالوا ذلك. وهذه الروايات، مع غيرها، تتفق على انشقاق القمر بمكّة. كما ثبت أنّ أهل مكة قابلوا هذه الآية بالعناد، وادّعوا أن محمدا (ص) سحر أهل مكة حتى يشاهدوا القمر منشقّا ثم اتّفقوا على أن يسألوا عن الحادث المسافرين القادمين إلى مكّة، وقد شهد المسافرون بأنهم شاهدوا القمر نصفين في ذلك اليوم، فادّعى

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

سياق السورة وافكارها

أهل مكة أن محمّدا (ص) سحر الناس جميعا. قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) . ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية تخبر عن الأحداث الكونية المقبلة، فعند قيام الساعة ستنشق الأرض والسماوات كما قال سبحانه إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) [الانشقاق] . كما ينشق القمر وينفصل بعضه عن بعض، وتتناثر النجوم، وتبدّل الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات. سياق السورة وافكارها في الآيات [1- 8] وصف لجحود الكافرين، وعدم إيمانهم بالقرآن، وانصرافهم عنه إلى الهوى والبهتان. وفي الآيات تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين بيوم الجزاء، فهم يخرجون من قبورهم خاشعين من الذل، في حالة سيئة من الرعب والهول، فيسرعون الخطى ليوم الحشر كأنهم جراد منتشر، وقد أسقط في أيديهم، فيقول الكافرون هذا يوم صعب عسر. خمس حلقات من مصارع المكذبين الآيات [9- 42] تشتمل على عرض سريع لمصارع قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، وفرعون وملئه، وكلّها موضوعات سبقت في سور مكّية ولكنها تعرض في هذه السورة عرضا خاصّا، يحيلها جديدة كلّ الجدّة، فهي تعرض عنيفة عاصفة، وحاسمة قاصمة يفيض منها الهول، ويتناثر حولها الرعب ويظللها الدمار والفزع. وأخصّ ما يميزها في سياق السورة، أنّ كلّا منها يمثل حلقة عذاب رهيبة سريعة لاهثة مكروبة، يشهدها المكذّبون، وكأنّما يشهدون أنفسهم فيها، ويحسّون إيقاعات سياطها فإذا انتهت الحلقة وبدءوا يستردّون أنفاسهم اللاهثة المكروبة، عاجلتهم حلقة جديدة أشدّ هولا ورعبا، حتّى تنتهي الحلقات الخمس في هذا الجو المفزع الخانق. 1- قوم نوح [الآيات 9- 17] ونلمح في الآيات مشهد المكذّبين،

2 - عاد قوم هود

يتهمون نوحا (ع) بالجنون، ونوح يظهر لله ضعفه ويدعوه أن ينتصر له، وتستجيب السماء فينهمر المطر وتنفجر عيون الأرض، ويلتقي ماء السماء بماء الأرض، ثم يغرق الكافرون، وينجي الله نوحا ومن آمن معه، ويطرح القرآن سؤالا لإيقاظ القلوب الى هول العذاب وصدق النذير: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) ؟ وهذا القرآن سهل التناول، ميسّر الإدراك، فيه جاذبية الصدق والبساطة وموافقة الفطرة، لا تفنى عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، وكلّما تدبّره القلب عاد منه بزاد جديد، وكلّما صحبته النفس زادت له ألفة، وبها أنسا: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) ؟ هذا هو التعقيب الذي يتكرّر بعد كل مصرع من مصارع السابقين. 2- عاد قوم هود [الآيات 18- 22] أرسل الله عليهم ريحا عاتية، تدمّر كلّ شيء بإذن ربّها، وقد سلسلوا أنفسهم بالسلاسل حتّى لا تعصف بهم الريح، وشقّوا لأجسامهم شقوقا داخل الأرض، وتركوا رؤسهم خارجها، فكانت الريح تكسر رؤوسهم وتتركهم كالنخيل التي قطعت رؤوسها، وتركت أعجازها وجذورها. 3- ثمود قوم صالح [الآيات 23- 32] وقد أرسل إليهم نبي الله صالح ومعه الناقة، وأخبرهم بأن الماء قسمة بينهم وبينها، فللناقة يوم ولهم يوم، لها شرب ولهم شرب يوم معلوم. وكان اليوم الذي ترد فيه ثمود البئر، لا تأتي الناقة اليه ولا تشرب منه، ولكنها تسقيهم لبنا وفي اليوم التالي تحضر شربها وحدها. ومع وضوح هذه الآية، فإنّ ثمود ملّت هذه القسمة، وحرّضوا شقيّا من الأشقياء على قتل الناقة، فلما قتلها استحقّوا عقاب الله، وأرسل الله عليهم صيحة واحدة فكانوا كفتات الحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لغنمه. 4- قوم لوط [الآيات 33- 40] اشتهر قوم لوط، عليه السلام، بالشذوذ الجنسي، حيث استغنى

5 - حكمة الخالق

الرجال بالرجال، وهو انتكاس للفطرة وشرود في الرذيلة، ولقد حذرهم لوط مغبة فعلتهم، فكذبوه وجادلوا بالباطل، وجاءت الملائكة الى نبي الله لوط في صورة رجال عليهم مسحة الجمال والجلال، فرغب قوم لوط ان يفعلوا فعلتهم الشنعاء في الملائكة، وراودوه عن ضيفه ليفعلوا بهم اللّواط، فاستحقوا عقوبة السماء، وأرسل الله عليهم حاصبا أي ريحا تحمل الحجارة ليذوقوا العذاب. 5- ثم تعرض حلقة قصيرة عن فرعون وعناده وجحوده، وعقاب الله له حيث أخذه أخذ عزيز مقتدر. وفي الآيات الأخيرة من السورة [43- 55] تعقيب على هلاك السابقين، وتوجيه لأهل مكة بأنهم لن يكونوا أحسن حالا ممن سبقهم ثم إنّ السّاعة تنتظرهم وهي أدهى وأمرّ من كلّ عذاب شاهدوه فيما سبق، أو سمعوا وصفه فيما مرّ، من الطوفان الذي أصاب قوم نوح، الى الريح الصرصر مع عاد، الى الصاعقة مع ثمود، الى الحاصب مع قوم لوط، الى إغراق فرعون. 5- حكمة الخالق وتشير الآيات الى حكمة الله العالية وهذه الحكمة تظهر في خلق الكون، وفي خلق السماء والأرض، وفي خلق الإنسان، وفي خلق الطيور والحيوانات، وفي سائر خلق الله يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) [النور] . إنّ قدرة الله تعالى وراء طرف الخيط البعيد لكل حادث، ولكلّ نشأة ولكلّ مصير، ووراء كل نقطة وكل خطوة وكل تبديل أو تغيير، إنّه قدر الله سبحانه، النافذ الشامل الدقيق العميق. وأحيانا تخفى الحكمة على العباد، فيستعجلون أمرا، والله لا يعجّل لعجلة العباد فالواجب أن يرضى المؤمن بالقضاء والقدر، وأن يحني رأسه أمام حكمة الله ومشيئته. ثم يعرض الختام مشهد المجرمين يسحبون في النار على وجوههم ليذوقوا العذاب. ويعرض مشهد المتقين في نعيم الجنة، ورضوان الله العلي القدير.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"القمر"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القمر» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «القمر» بعد سورة «الطارق» ، ونزلت سورة «الطارق» بعد سورة «البلد» ، ونزلت سورة «البلد» بعد سورة «ق» ، وكان نزول سورة «ق» فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة «القمر» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وتبلغ آياتها خمسا وخمسين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة: بيان اقتراب الساعة التي أنذر المشركون بها، وقد جاء في آخر سورة «النجم» ، أن ساعتهم قد أزفت، فجاءت هذه السورة بعدها في هذا الغرض تأكيدا له، ورجوعا إلى سياق سورة «الذاريات» وسورة «ق» من الإنذار بالعذاب، وقد جاءت سورة «النجم» بعد سورة «الذاريات» ، للمناسبة المذكورة فيها فلما انتهت مناسبتها عاد السياق الى أصله قبلها. اقتراب ساعة العذاب الآيات [1- 55] قال الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) فذكر سبحانه أن ساعة عذابهم قد اقتربت، وأنهم مع

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....]

هذا مستمرون في إعراضهم وزعمهم أن ما ينذرون به سحر لا حقيقة له، وأنهم يتبعون في تكذيبهم بذلك أهواءهم، وسيعلمون أنه أمر مستقر، ولقد جاءهم في القرآن من أنباء من قبلهم ما فيه مزدجر وحكمة لهم ثم أمر النبي (ص) أن يتولى عنهم لأنهم لا يتبعون إلا أهواءهم، وأخذ السياق في تهديدهم بذلك اليوم الذي اقترب أجله، وانتقل هذا السياق من تهديدهم بهذا الى تهديدهم بما حصل لمن كذّب قبلهم، ففصّل في هذا ما أجمل في قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) . وذكر السياق ما حصل لقوم نوح، وما حصل لعاد، وما حصل لثمود، وما حصل لقوم لوط، وما حصل لآل فرعون، ثم ذكر أنهم ليسوا خيرا من أولئك المكذّبين قبلهم حتى يبقي الله عليهم، وأنه سبحانه سيهزم جمعهم ويهلكهم ثم يذيقهم عند قيام الساعة ما هو أدهى وأمرّ، وقد فصّل ما يحصل لهم فيها، ما يحصل فيها للمتقين، ليجمع بهذا بين الترهيب والترغيب، فقال سبحانه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"القمر"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القمر» «1» أقول: لا يخفى ما في توالي هاتين السورتين من حسن التناسق في التسمية، لما بين «النجم» و «القمر» من الملابسة. ونظيره توالي «الشمس» و «الليل» و «الضحى» ، وقبلها سورة «الفجر» . ووجه آخر: أن هذه السورة بعد «النجم» «كالأعراف» بعد «الأنعام» ، و «كالصافات» بعد «يس» : إنّها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم في قوله، تعالى، هناك: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) [النجم] «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . جاء تفصيل ذلك على الترتيب، وزيد عليه، في سورة القمر، من قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الآية 9] ، إلى قوله سبحانه فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"القمر"

المبحث الرابع مكنونات سورة «القمر» «1» 1- يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [الآية 6] . هو إسرافيل. 2- فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) . قال زرّ بن حبيش: يوم الأربعاء. أخرجه ابن أبي حاتم «2» . 3- فَنادَوْا صاحِبَهُمْ [الآية 29] . هو قدار بن سالف، ويلقّب بالأحمير.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . لم تصح الأحاديث الواردة في ذم يوم الأربعاء مطلقا.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"القمر"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «القمر» «1» 1- قال تعالى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) . أقول: ولولا خط المصحف لكان الرسم: فما تغني النذر، بالياء في «تغني» . وخطّ المصحف في حذف الياء هذه كان لغرض صوتي، هو أن المد الطويل الذي تحققه الياء يحدث ضربا من الثّقل، عند وصل الفعل بالفاعل «النذر» . فكأن اتصال الكسرة بضمة النون هو اتصال منسجم، لا يتحقّق لو رسمت الياء، فاقتضت ما تستحق من المدّ. 2- وقال تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) . في قوله تعالى: يَدْعُ الدَّاعِ، وحذفت الواو من الفعل، والياء من الاسم لقصر المدّ الذي يقتضيه إحسان وصل الكلمة بالكلمة التي تتلوها، إحسانا في الأداء لا يتوفّر مع وجود أصوات المدّ. وقوله تعالى: نُكُرٍ، أي: منكر، وهو من باب الوصف بالمصدر. 3- وقال تعالى: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [الآية 25] . والأشر: البطر المتكبر. أقول: وفي لغة المعاصرين يقال: مفترس أشر، أو طمّاع أشر أي: شديد الشراهة والإقبال على الافتراس والقتل والفتك.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

4- وقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) . وقوله تعالى: كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ، أي: الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به ييبس بطول الزمان، وتتوطّأه البهائم، فيتحطّم ويتهشم.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"القمر"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «القمر» «1» قال: خُشَّعاً [الآية 7] بالنصب على الحال، أي يخرجون من الأجداث خشعا. وقرأ بعضهم (خاشعا) لأنها صفة مقدّمة فأجراها مجرى الفعل نظيرها: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ [القلم: 43] [والمعارج: 44] . وقال تعالى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ [الآية 19] قرئت: (يوم نحس) على الصفة. وقال سبحانه: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [الآية 24] بنصب البشر لما وقع عليه حرف الاستفهام، وقد أسقط الفعل على شيء من سببه. وقال تعالى: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) بجعل المس يذاق في جواز الكلام، ويقال: «كيف وجدت طعم الضرب» ؟ وهذا مجاز. وأما نصب «كلّ» ، ففي لغة من قال: «عبد الله ضربته» وهو في كلام العرب كثير. وقد رفعت «كلّ» في لغة من رفع، ورفعت على وجه آخر. وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بجعل دبر واحد للجماعة في اللفظ. ومثل ذلك قوله جل جلاله: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [ابراهيم: 43] . وقال تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) بجعل الخبر واحدا على الكل.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"القمر"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «القمر» «1» إن قيل: ما الحكمة في إعادة التكذيب في قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الآية 9] لماذا لم يقل عزّ من قائل: كذبت قبلهم قوم نوح عبدنا؟ قلنا: معناه كذّبوا تكذيبا بعد تكذيب. وقيل إن التكذيب الأول منهم بالتوحيد، والثاني بالرسالة. وقيل التكذيب الأول منهم لله تعالى، والثاني لرسوله (ص) . فإن قيل: لم قال تعالى في وصف ماء الأرض والسماء: فَالْتَقَى الْماءُ [الآية 12] ولم يقل فالتقى الماءان؟ قلنا: أراد به جنس المياه. فإن قيل: الجزاء إنما يكون للكافر لا للمكفور، فلم قال تعالى: جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) ؟ قلنا: جزاء مفعول له فمعناه: ففتحنا أبواب السماء وما بعده ممّا كان يسبّب إغراقهم جزاء لله تعالى لأنه مكفور به، فحذف الجار وأوصل الفعل بنفسه، كقوله تعالى وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] والجزاء يضاف إلى الفاعل وإلى المفعول كسائر المصادر. الثاني: أنه نوح (ع) إما لأنه مكفور به بحذف الجار، كما مر من الكفر الذي هو ضد الإيمان، أو لأنّ كلّ نبيّ نعمة منّ الله بها على قومه، ومنه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء] . وقال رجل للرشيد: الحمد لله عليك، فقال ما

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

معنى هذا: فقال أنت نعمة حمدت الله عليها، فكأنه قال: جزاء لهذه النعمة المكفورة وكفران النعمة يتعدّى بنفسه، قال الله تعالى: وَلا تَكْفُرُونِ (152) [البقرة] . الثالث: أن «من» بمعنى «ما» ، فمعناه: جزاء لما كان كفر من نعم الله تعالى على العموم. وقرأ قتادة كفر بالفتح: أي جزاء للكافرين. فإن قيل: لم قال الله تعالى: أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) أي منقلع، ولم يقل منقعرة؟ قلنا: إنّما ذكر الصفة لأنّ الموصوف، وهو النخل، مذكّر اللفظ ليس فيه علامة تأنيث، فاعتبر اللفظ وفي موضع آخر اعتبر المعنى، وهو كونه جمعا، فقال سبحانه: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) [الحاقة] ونظيرهما قوله تعالى: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) [الواقعة] وقال أبو عبيدة: النخل يذكّر ويؤنّث، فجمع القرآن اللّغتين. وقيل إنّما ذكر رعاية للفواصل.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"القمر"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «القمر» «1» في قوله تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) استعارة والمراد، والله أعلم، بتفتيح أبواب السماء تسهيل سبل الأمطار حتى لا يحبسها حابس، ولا يلفتها لافت. ومفهوم ذلك إزالة العوائق عن مجاري العيون من السماء، حتى تصير بمنزلة حبيس فتح عنه باب، أو معقول أطلق عنه عقال. وقوله تعالى: فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) أي اختلط ماء الأمطار المنهمرة، بماء العيون المتفجرة، فالتقى ماءاهما على ما قدره الله سبحانه، من غير زيادة ولا نقصان. وهذا من أفصح الكلام، وأوقع العبارات عن هذه الحال. وفي قوله سبحانه: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) ولفظ إلقاء الذّكر مستعار: والمراد به أن القرآن لعظم شأنه، وصعوبة أدائه، كالعبء الثقيل الذي يشقّ على من حمله، وألقي عليه ثقله. وكذلك قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) [المزمّل] . وكذلك قول القائل: «ألقيت على فلان سؤالا، وألقيت عليه حسابا» أي سألته عمّا يستكدّ له هاجسه، ويستعمل به خاطره. وفي قوله سبحانه: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

استعارة، لأن المرارة لا يوصف بها إلا المذوقات والمتطعّمات ولكنّ الساعة لما كانت مكروهة عند مستحقّي العقاب، حسن وصفها بما يوصف به الشيء المكروه المذاق. ومن عادة من يلاقي ما يكرهه، ويرى ما لا يحبّه، أن يحدث ذلك تهيّجا في وجهه، يدلّ على نفور جأشه، وشدّة استيحاشه، فكذلك هؤلاء إذا شاهدوا أمارات العذاب، ونوازل العقاب، ظهر في وجوههم ما يستدلّ به على فظاعة الحال عندهم، وبلوغ مكروهها من قلوبهم، فكانوا كلائك «1» المضغة المقرة «2» ، وذائق الكأس الصّبرة، في فرط التقطيب، وشدة التهيج. وشاهد ذلك قوله سبحانه: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) [المؤمنون] .

_ (1) . اللائك: اسم فاعل من لاك يلوك أي مضغ. (2) . المقرة على وزن فرحة: المرّة الطعم يقال: مقر الشيء مقرّا إذا صار مرّا.

سورة الرحمن (55)

سورة الرّحمن (55)

المبحث الأول أهداف سورة"الرحمن"

المبحث الأول أهداف سورة «الرحمن» «1» سورة «الرحمن» سورة مدنية وآياتها 78 آية، نزلت بعد سورة «الرعد» . وتتميز سورة «الرحمن» بجرسها، وقصر آياتها، وتعاقب الآيات: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) . فنسمع هذا الرنين الأخّاذ، والإيقاع الصاعد الذاهب الى بعيد، والنعم المتعدّدة بتعليم القرآن، وخلق الإنسان، وتعليم البيان.. وكلّ هذه النعم مصدرها رحمة الرحيم الرحمن، صاحب الفضل والإنعام فإذا استرسلنا في قراءة السورة رأينا حشدا من مظاهر النعم، وآلاء الله الباهرة الظاهرة، في جميل صنعه، وإبداع خلقه، وفي فيض نعمائه، وفي تدبيره للوجود وما فيه، وتوجيه الخلائق كلّها الى وجهه الكريم ... وسورة «الرحمن» ، إشهاد عام للوجود كلّه على الثّقلين: الإنس والجن، إشهاد في ساحة الوجود، على مشهد من كلّ موجود، مع تحدّ للجن والإنس إن كانا يملكان التكذيب بآلاء الله، تحديا يتكرّر عقب بيان كلّ نعمة من نعمه، التي يعدّدها ويفصّلها، ويجعل الكون كلّه معرضا لها، وساحة الاخرة كذلك. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) . تكررت هذه الآية في السورة إحدى وثلاثين مرة، لتذكّر الإنس والجن، بنعم الله الجزيلة عليهم، بأسلوب معجز يتحدّى بلغاء العرب ولا شك

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

المعنى الإجمالي للسورة

في أنّ هذه النعم الضافية، التي أسبغها ربهم عليهم، تستحق من العباد الشكر والايمان، لا الكفر والطغيان. والآلاء جمع «ألى» ، أو «إلى» وهي النعمة، أي نعم الله عليكم وافرة، ترونها أمامكم، وخلفكم، وفوقكم، وتحتكم، فبأيّ هذه النعم تكذّبان؟ والخطاب هنا للجنّ والانس، لتذكيرهما بالإفضال المتلاحقة من الله تعالى، ولا يستطيعان أن يكذّبا، أو يجحدا، أيّ نعمة من هذه النعم. روي أنّ رسول الله (ص) خرج على أصحابه، فقرأ عليهم سورة «الرحمن» ، من أوّلها إلى آخرها، فسكتوا، فقال النبي (ص) : لقد قرأتها على الجنّ، فكانوا أحسن ردّا منكم، كنت كلما أتيت على قوله تعالى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) قالوا: لا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب، فلك الحمد. كما روي أن قيس بن عاصم المنقري، جاء الى رسول الله (ص) فقال له: يا محمد، اتل عليّ شيئا ممّا أنزل عليك، فتلا عليه سورة «الرحمن» ، فقال: أعدها فأعادها (ص) فقال: والله إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وأسفله مغدق، وأعلاه مسفر، وما يقول هذا بشر، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله. المعنى الإجمالي للسورة المنّة على الخلق بتعليم القرآن، وتلقين البيان، ولفت أنظارهم إلى صحائف الوجود الناطقة بآلاء الله: الشمس، والقمر، والنجم، والشجر، والسماء المرفوعة، والميزان الموضوع، وما فيها من فاكهة، ونخل، وحبّ، وريحان، والجن والإنس، والمشرقان، والمغربان، والبحران بينهما برزخ لا يبغيان، وما يخرج منهما، وما يجري فيهما. فإذا تمّ عرض هذه الصحائف الكبار، عرض مشهد فنائها جميعا، مشهد الفناء المطلق للخلائق، في ظل الوجود المطلق لوجه الله الكريم الباقي، الذي إليه تتوجّه الخلائق جميعا، ليتصرف في أمرها بما يشاء، قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) . وفي ظل الفناء المطلق للإنسان، والبقاء المطلق للرحمن، يجيء التهديد المروّع، والتحدّي الكوني للجن والإنس، ومن ثمّ يعرض السياق مشهد

تفسير النسفي للاية

النهاية، مشهد القيامة، يعرض في صورة كونية، يرتسم فيها مشهد السماء حمراء سائلة، ومشهد العذاب للمجرمين، ثم يعرض ألوان الثواب للمتقين، ويصف الجنة وما فيها من نعيم مقيم أعدّه الله للمتقين، ويبين أن منازل الجنات مختلفة، ونعيمها متفاوت، والجزاء على قدر العمل. كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) . قال المفسّرون: شؤون يبديها لا شؤون يبتديها «1» ، فهو سبحانه صاحب التدبير، الذي لا يشغله شأن عن شأن، ولا يندّ عن علمه ظاهر، ولا خاف والخلق كلهم يسألونه، فهو سبحانه مناط السؤال، وغيره لا يسأل، وهو معقد الرجاء ومظنة الجواب. وهذا الوجود، الذي لا تعرف له حدود، كله منوط بقدره، متعلّق بمشيئته، وهو سبحانه قائم بتدبيره. هذا التدبير الذي يتبع ما ينبت، وما يسقط من ورقة، وما يكمن من حبة في ظلمات الأرض، وكل رطب وكل يابس، يتبع الأسماك في بحارها، والديدان في مساربها، والوحوش في أوكارها، والطيور في أعشاشها، وكل بيضة وكل فرخ، وكل خلية في جسم حي. تفسير النسفي للاية في تفسير قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) ، قال النسفي: كل من في السماوات والأرض مفتقرون إليه، فيسأله أهل السماوات ما يتعلّق بدينهم، وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم. وكل وقت وحين، يحدث أمورا ويجدّد أحوالا كما روي أنه عليه السلام تلاها، فقيل له وما ذلك الشأن؟ فقال: من شأن أن يغفر ذنبا ويفرّج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين. وعن ابن عيينة: الدهر عند الله يومان، أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا، فشأنه فيه الأمر، والنهي، والإحياء، والإماتة، والإعطاء، والمنع واليوم الاخر، هو القيامة، فشأنه فيه الجزاء، والحساب. وقيل نزلت في اليهود حينما قالوا:

_ (1) . تفسير النسفي 4: 159، والمعنى يظهرها امام أعين الناس ولا يبتكرها اليوم بل يقضي بوقوعها، ومن أصول الإيمان أن نؤمن بالقضاء والقدر. والقضاء ما وقع أمام الناس والقدر ما قدّر الله وقوعه في الأزل.

إنّ الله لا يقضي يوم السبت شأنا. وسأل بعض الملوك وزيره عن الآية، فاستمهله الى الغد، وذهب كئيبا يفكّر فيها فقال غلام له أسود: يا مولاي أخبرني ما أصابك، فأخبره، فقال الغلام أنا أفسرها للملك فأعلمه، فقال أيها الملك: شأن الله أنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحيّ من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيما ويسقم سليما، ويبتلي معافى ويعافي مبتلى، ويعزّ ذليلا، ويذلّ عزيزا، ويغني فقيرا. فقال الملك: أحسنت، وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة، فقال: يا مولاي هذا من شأن الله. وقيل سوق المقادير إلى المواقيت. وقيل إن عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن الفضل، وقال له أشكلت علي آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) وقد صح أن القلم جفّ، بما هو كائن الى يوم القيامة. فقال الحسين: كل يوم هو في شأن، فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها «1» أي يظهرها لعباده في واقع الناس، على وفق ما قدّره في الأزل، من إحياء وإماتة، وإعزاز وإذلال، وإغناء وإعدام، وإجابة داع، وإعطاء سائل، وغير ذلك «2» فالناس يسألونه سبحانه بصفة مستمرّة، وهو سبحانه مجيب الدعاء، بيده الخلق والأمر، يغيّر ولا يتغيّر، يجير ولا يجار عليه، يقبض ويبسط ويخفض ويرفع، وهو بكل شيء عليم. قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) .

_ (1) . تفسير النسفي 4: 159. (2) . تفسير الجلالين ص 494. [.....]

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الرحمن"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الرحمن» «1» تاريخ نزولها وتسميتها نزلت سورة «الرحمن» بعد سورة «الرعد» ، ونزلت سورة «الرعد» ، فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة «الرحمن» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لافتتاحها به في قوله تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ 99 (2) وتبلغ آياتها ثماني وسبعين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة، الدعوة إلى الله تعالى، بطريق الترغيب، وذلك بتعداد نعمه على عباده، وقد أخذ المشركون في السورة السابقة، بطريق الإنذار والترهيب، فأخذوا في هذه السورة بطريق الترغيب، تفنّنا في السياق، وتجديدا لنشاط السامع، على أنها لم تخل مع هذا من الأخذ بالترهيب أيضا. تعداد نعم الله على عباده الآيات [1- 78] قال الله تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) فذكر سبحانه نعمته على عباده بإنزال القرآن لهدايتهم، وبخلقهم وتعليمهم البيان، وبخلق الشمس والقمر بحسبان، وبخلق النجم والشجر، وبرفع السماء ووضع الميزان، وبوضع الأرض وما فيها، من فاكهة ونخل وحبّ وريحان ثم ذكر سبحانه أنه خلق الإنسان من

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرخ.

صلصال، والجانّ من نار، وأنه ربّ المشرقين والمغربين، وأنه مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، ويخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، وتجري فيهما السفن كالأعلام ثم ختم السياق بقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) ليبين أن الإنسان يتمتّع بذلك الى أجل، فلا يصح أن يغتر به وينسى ربّه ثمّ عدّد سبحانه نعمه، فذكر أنه يسأله من في السماوات والأرض، ما يحتاج إليه في دينه ودنياه كل يوم، وأنه سيفرغ لهم ويحاسبهم على جحد هذه النعم، فلا يمكنهم أن يفلتوا من حسابه وأنه سيرسل عليهم شواظا من نار ونحاس، فلا يمنعهم منهما أحد، وأن ذلك سيكون إذا انشقت السماء فكانت وردة كالدّهان ثم ذكر سبحانه ما يكون من حسابهم وعقابهم في ذلك اليوم وأعقبه جلّ شأنه بذكر ما أعدّه لمن خاف مقامه فلم يجحد ما أنعم به عليه، ومضى السياق في تفصيل هذا إلى أن ختمه بقوله تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الرحمن"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الرحمن» «1» أقول: لمّا قال سبحانه وتعالى في آخر القمر: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) . ثم وصف حال المجرمين في سقر، وحال المتّقين في جنّات ونهر، فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتمّ تفصيل، على الترتيب الوارد في الإجمال. فبدأ بوصف مرارة الساعة، والإشارة الى إدهائها، ثم وصف النار وأهلها «2» ، والجنّة وأهلها «3» ، ولذا قال فيهم: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) . وذلك هو عين التقوى «4» . ولم يقل: لمن آمن وأطاع، أو نحوه، لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصّل. وعرف بذلك، أنّ هذه السورة بأسرها، شرح لآخر السورة التي قبلها، فلله الحمد، على ما ألهم وفهّم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وصف النار وأهلها جاء في قوله تعالى في سورة الرحمن: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) إلى يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) . (3) . وصف الجنة وأهلها جاء في قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) الى آخر السورة. (4) . التقوى هي: خوفه عزّ وجلّ. وبذلك يتفق التفصيل هنا مع الإجمال في قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الرحمن"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الرحمن» «1» 1- وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) . أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب، وعطاء: أنها نزلت في أبي بكر «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . وسبب ذلك جاء في رواية عطاء، التي أخرجها عنه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، في كتاب «العظمة» : أن أبا بكر، ذكر، ذات يوم، القيامة والموازين، والجنة والنار، فقال: وددت أني كنت خضراء من هذه الخضر، تأتي عليّ بهيمة تأكلني، وأني لم أخلق. فنزلت: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) . انظر «الباب النقول في أسباب النزول» للسيوطي ص 716 (بهامش تفسير الجلالين) .

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الرحمن"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الرحمن» «1» 1- وقال تعالى: يهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) . قوله تعالى: َّاخَتانِ (66) ، أي: فوّارتان بالماء. أقول: والنّضخ والنّضح واحد، إلّا أنّ الأوّل أكثر وهذه من فوائد الإبدال الصوتي في العربية، ومثل هذا الهدير والهديل. 2- وقال تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) . «الرفرف» : ضرب من البسط، وقيل الوسائد، وقيل: كلّ ثوب عريض رفرف. وقرئ «رفارف خضر» وقرئ: (وعباقري حسان) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الرحمن"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الرحمن» «1» قال تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) أي: بحساب. وأضمر الخبر. أظن، والله أعلم، كأنّه أراد يجريان بحساب «2» . وقال تعالى: ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وواحدها «الكمّ» . وقال سبحانه: ذَواتا أَفْنانٍ (48) وواحدها: «الفنن» «3» . وقال جلّ شأنه: مُدْهامَّتانِ (64) تقول «ازورّ» و «ازوارّ» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في زاد المسير 8: 106. (3) . في الهامش: «الفنن» جمعها «الأفنان» ثم «الأفانين» وهي «الأغصان» .

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الرحمن"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الرحمن» «1» إن قيل: أيّ مناسبة بين رفع السماء ووضع الميزان حتى قرن بينهما؟ قلنا: لما صدّرت هذه السورة بتعديد نعمه سبحانه على عبيده، ذكر سبحانه من جملتها وضع الميزان الذي به نظام العالم وقوامه، ولا سيّما أن المراد بالميزان العدل في قول الأكثرين، والقرآن في قول، وكل ما تعرف به المقادير في قول، كالمكيال والميزان والذراع المعروف، ونحوها. فإن قيل: قوله تعالى: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) أي لا تجاوزوا فيه العدل، مغن عمّا بعده من الجملتين، فما الحكمة في ورودهما؟ قلنا: المراد بالطغيان فيه أخذ الزائد، وبالإخسار فيه إعطاء الناقص، وأمر بالتوسط الذي هو إقامة الوزن بالقسط، ونهى عن الطرفين المذمومين. فإن قيل: لم قال تعالى هنا: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وهو الطين اليابس الذي لم يطبخ لكن له صلصلة: أي صوت إذا نقر وقال تعالى في موضع آخر: مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26 و 28] وقال تعالى: مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) [الصّافات] وقال تعالى: مِنْ تُرابٍ [الروم: 20] ؟ قلنا: الآيات كلها متفقة في المعنى. لأنّه تعالى خلق الإنسان من تراب، ثمّ جعله طينا، ثمّ حمأ مسنونا، ثم صلصالا. فإن قيل: لم قال تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فكرر ذكر الرب، ولم يكرره في سورة المعارج، بل أفرده فقال تعالى فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: 40] وكذا في سورة المزمّل: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) ؟ قلنا: إنما ذكر الرب تأكيدا، فكان التأكيد بهذا الموضع أليق منه بذينك الموضعين، لأنه موضع الامتنان وتعديد النعم، ولأنّ الخطاب فيه مع جنسين وهما الإنس والجن. فإن قيل: بعض الجمل المذكورة في هذه السورة، ليست من النعم، كقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وقوله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فكيف حسن الامتنان بعدها بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) ؟ قلنا: من جملة الآلاء دفع البلاء وتأخير العقاب، فإبقاء من هو مخلوق للفناء نعمة. وتأخير العقاب عن العصاة أيضا نعمة، فلهذا امتنّ علينا بذلك. فإن قيل: لم قال تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) والله تعالى لا يشغله شيء؟ قلنا: قال الزجّاج: الفراغ في اللغة على ضربين أحدهما الفراغ من شغل، والاخر القصد للشيء والإقبال عليه، وهو تهديد ووعيد، ومنه قولهم: سأتفرّغ لفلان: أي سأجعله قصدي، فمعنى الآية سنقصد لعقابكم، وعذابكم، وحسابكم. فإن قيل: لم وعد سبحانه الخائف جنّتين فقط؟ قلنا: لأن الخطاب للثّقلين، فكأنّه قيل لكلّ خائفين من الثقلين جنتان، جنة للخائف الإنسي، وجنة للخائف الجنّي. وقيل المراد به أن لكل خائف جنتين، جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي. وقيل جنة يثاب بها، وجنة يتفضّل بها عليه زيادة، لقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] أي الجنة وزيادة. فإن قيل: لم قال تعالى: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ [الآية 56] ولم يقل سبحانه فيهما، والضمير للجنتين؟ قلنا: الضمير لمجموع الآلاء المعدودة: من الجنتين، والعينين، والفاكهة، وغيرها، مما سبق ذكره. وقيل: هو للجنتين، وإنّما جمع لاشتمال الجنتين على قصور ومنازل.

وقيل: الضمير للمنازل والقصور، التي دل عليها ذكر الجنتين. وقيل: الضمير لمجموع الجنان، التي دل عليها ذكر الجنتين. وقيل: الضمير عائد الى الفرش، لأنها اقرب، وعلى هذا القول «في» بمعنى على، كما في قوله تعالى أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ [الطور: 38] . فإن قيل: لم قال الله تعالى لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) أي لم يفتضّهن، ونساء الدنيا لا يفتضّهن الجان، فما الحكمة في تخصيص الحور بذلك؟ قلنا: معناه أن تلك القاصرات الطرف إنسيّات للإنس وجنّيات للجنّ، فلم يطمث الإنسيات إنسي، ولا الجنيات جني وهذه الآية دليل على أن الجنّ يواقعون كما يواقع الإنس. وقيل فيها دليل، على أن الجني يغشى الإنسيّة في الدنيا.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الرحمن"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الرحمن» «1» في قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) ، استعارة: فالنجم هاهنا ما نجم من النبات. أي طلع وظهر. والمراد بسجود النبات والشجر، والله أعلم، ما يظهر عليها من آثار صنعة الصانع الحكيم، والمقدّر العليم، بالتنقّل من حال الإطلاع، الى حال الإيناع، ومن حال الإيراق الى حال الإثمار، غير ممتنعة على المصرّف، ولا آبية على المدبّر. وفي قوله سبحانه: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) ، نلاحظ أن لفظ الميزان هاهنا مستعار، على أحد التأويلين. وهو أن يكون معناه العدل الذي تستقيم به الأمور، ويعتدل عليه الجمهور. وشاهد ذلك قوله تعالى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء: 35] أي بالعدل في الأمور. وروي عن مجاهد «2» أنه قال: القسطاس: العدل بالرومية. ويقال: قسطاس، وقسطاس. بالضم والكسر، كقرطاس وقرطاس.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هو من المفسرين الأوّلين للقرآن الكريم، والمشهور أنه أول من دوّن في التفسير. وتفسيره غير موجود. ولعل الموجود هو تفسير ابن عبّاس رواه مجاهد. وذكر ابن عطية في «مقدمته» أن صدر المفسرين، والمؤيد فيهم، هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويتلوه عبد الله بن عبّاس، ويتلوه مجاهد وسيعد بن جبير وغيرهما، ويذكر ابن عطية أن مجاهدا قرأ على ابن عبّاس، قراءة تفهّم ووقوف، عند كل آية. وذكر جرجي زيدان، أن مجاهدا توفي سنة 104 هـ. انظر «تاريخ آداب اللغة العربية» ج 1 ص 205، و «مقدّمتان في علوم القرآن» بتحقيق المستشرق أرثر جفري، ونشر مكتبة الخانجي. [.....]

وفي قوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) استعارة. والمراد: أنه سبحانه أرسل البحرين طاميين، وأمارهما مائعين، وهما يلتقيان بالمقاربة، لا بالممازجة، فبينهما حاجز يمنعهما من الانحراف، ويصدّهما عن الاختلاط. ومعنى قوله تعالى: لا يَبْغِيانِ (20) أي لا يغلب أحدهما على الاخر، فيقلبه إلى صفته، لا الملح على العذب، ولا العذب على الملح. وكنى تعالى بلفظ البغي، عن غلبة أحدهما على صاحبه. لأن الباغي، في الشاهد، اسم لمن تغلّب من طريق الظلم بالقوة والبسطة، والتطاول والسطوة. وقد مضى الكلام على مثل هذه الاستعارة في ما تقدّم. إلّا أن فيها هاهنا زيادة، أوجبت إعادة ذكرها. وفي قوله سبحانه: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) استعارة. وقد تقدّم الكلام على نظيرها. والمراد: وتبقى ذات ربّك وحقيقته. ولو كان محمولا على ظاهره، لكان فاسدا مستحيلا، على قولنا وقول المخالفين. لأنه لا أحد يقول من المشبّهة والمجسّمة، الذين يثبتون لله سبحانه أبعاضا مؤلّفة، وأعضاء مصرّفة، إنّ وجه الله سبحانه يبقى، وسائره يبطل ويفنى. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. ومن الدليل على أن المراد بوجه الله هاهنا، ذات الله، قوله سبحانه: ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) ألا ترى أنه سبحانه، لمّا قال في خاتمة هذه السورة: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ قال: ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) ولم يقل (ذو) لأن اسم الله غير الله، ووجه الله هو الله، وهذا واضح البيان، وقد مضى الكلام على هذا المعنى فيما تقدم. وفي قوله سبحانه: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) استعارة. وقد كان والدي الطاهر الأوحد، ذو المناقب، أبو أحمد الحسين «1» ، ابن موسى

_ (1) . كان نقيب الأشراف في بغداد، وهو والد الشريفين: الرضي، والمرتضى، وقد تعرّض للقبض عليه من قبل عضد الدولة بن بويه سنة 369 هـ ثم أطلقه ابنه شرف الدولة ابن بويه، وعزل عن النقابة سنة 384 هـ ثم أعيد إليها سنة 394 هـ وأضيف إليه الحج والمظالم، فلم يزل على ذلك، الى أن توفي ضريرا سنة 400 هـ، فرثاه ولداه كما رثاه أبو العلاء المعري، ومهيار الديلمي، وجماعة من الشعراء.

الموسوي، رضي الله عنه وأرضاه، سألني عن هذه الآية في عرض كلام جرّ ذكرها، فأجبته في الحال بأعرف الأجوبة المقولة فيها. وهو أن يكون المراد بذلك: سنعمد لعقابكم، ونأخذ في جزائكم، على مساوئ أعمالكم، وأنشدته بيت جرير كاشفا عن حقيقة هذا المعنى. وهو قوله: ألان وقد فرغت الى نمير ... فهذا حين صرت لها عذابا فقال: فرغت إلى نمير، كما يقول: عمدت إليها. فأعلمنا أن معنى فرغت هاهنا معنى عمدت وقصدت. ولو كان يريد الفراغ من الشغل لقال: فرغت لها، ولم يقل فرغت إليها. وقال بعضهم: إنما قال سبحانه: سَنَفْرُغُ لَكُمْ (31) ولم يقل: سنعمد. لأنه أراد أي سنفعل فعل من يتفرغ للعمل من غير تجميع «1» فيه، ولا اشتغال بغيره عنه، ولأنه لما كان الذي يعمد الى الشيء ربّما قصّر فيه لشغله معه بغيره، وكان الفارغ له، في الغالب، هو المتوفّر عليه دون غيره، دللنا بذلك على المبالغة في الوعيد، من الجهة التي هي أعرف عندنا، ليقع الزجر بأبلغ الألفاظ، وأدلّ الكلام على معنى الإبعاد. وقال بعضهم: أصل الاستعارة موضوع على مستعار منه ومستعار له، فالمستعار منه أصل، وهو أقوى. والمستعار له فرع، وهو أضعف. وهذا مطّرد في سائر الاستعارات، فإذا تقرر ذلك كان قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) من هذا القبيل. فالمستعار منه هاهنا ما يجوز فيه الشغل، وهو أفعال العباد، والمستعار له مالا يجوز فيه الشغل، وهو أفعال الله تعالى. والمعنى الجامع لهما الوعيد، إلّا أن الوعيد بقول القائل: سأتفرّغ لعقوبتك، أقوى من الوعيد بقوله: سأعاقبك. من قبل أنه كأنما قال: سأتجرّد لمعاقبتك، كأنه يريد استفراغ قوّته في العقوبة له. ثم جاء القرآن على مطرح كلام العرب، لأن معناه أسبق الى النفس، وأظهر للعقل، والمراد به تغليظ الوعيد، والمبالغة في التحذير. ومثل

_ (1) . التمجيع: الممازحة والمماجنة في العمل، وعدم أخذه مأخذه الجد.

ذلك قوله تعالى في المدّثّر: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) فالمستعار منه هاهنا ما يجوز فيه المنع، وهو أفعال العباد، والمستعار له مالا يجوز فيه المنع، وهو أفعال القديم سبحانه كما قلنا أولا والمعنى الجامع لهما: التخويف والتهديد. والتهديد بقول القائل: «ذرني وفلانا» ، إذا أراد المبالغة في وعيده، أقوى من قوله: خوّف فلانا من عقوبتي، وحذّره من سطوتي. وهذا بيّن بحمد الله تعالى. وقد يجوز أن يكون لذلك وجه آخر، وهو أن يكون معنى قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أي سنفرّغ لكم ملائكتنا الموكّلين بالعذاب، والمعدين لعقاب أهل النار. ونظير ذلك قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر] أي جاء ملائكة ربّك. ويكون تقدير الكلام: وجاء ملائكة ربّك وهم صفّا صفّا. كما تقول: أقبل القوم وهم زحفا زحفا. والملك هاهنا لفظ الجنس، وإنما أعيد ذكر الملك ليدل على المحذوف الذي هو اسم الملائكة، لأنه ما كان يسوّغ أن يقول: وجاء ربك وهم صفّا صفّا، ويريد الملائكة على التقدير الذي قدّرناه، لأنّ الكلام كان يكون ملبسا، والنظام مختلا مضطربا. وقد يجوز أيضا أن يكون المعنى: وجاء أمر ربك، والملك صفّا صفّا. كلا القولين جائز. وقرأ «1» حمزة والكسائي: (سيفرغ لكم) ، بالياء وفتحها.

_ (1) . انظر القرطبي ج 17 ص 169.

سورة الواقعة (56)

سورة الواقعة (56)

المبحث الأول أهداف سورة"الواقعة"

المبحث الأول أهداف سورة «الواقعة» «1» سورة «الواقعة» سورة مكية آياتها 96 آية، نزلت بعد سورة «طه» . ثلاثة أصناف عند قيام القيامة يرتفع شأن المؤمنين، وينخفض قدر المكذّبين، وينقسم الناس الى ثلاثة اقسام: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسّابقون المقرّبون. وقد فصّلت الآيات [10- 26] ما أعدّ للسابقين في جنات النعيم، فهم عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) ، مشبكة بالمعادن الثمينة، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) في راحة وخلوّ بال من الهموم والمشاغل، ولهم في الجنة ما يشتهون، من المتعة والنعيم والحور العين، وحياتهم كلّها سلام: تسلّم عليهم الملائكة، ويسلّم بعضهم على بعض، ويبلغهم السلام من الرحمن. أصحاب اليمين تصف الآيات [27- 40] ما أعدّ لأصحاب اليمين، فهم في سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) والسّدر شجر النبق الشائك، ولكنه هنا مخضود شوكه ومنزوع، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) والطّلح شجر الموز، منضود معدّ للتداول، بلا كدّ ولا مشقة. يتمتع أصحاب اليمين بألوان البهجة وصنوف التكريم، فهم في حدائق من شجر نبق لا شوك فيه، وشجر موز منتظم الثمر، وفي ظل منبسط، وماء

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

أصحاب الشمال

يجري بين أيديهم كما يشاءون، ولديهم فاكهة كثيرة الكمّ والأنواع، لا تنقطع عنهم ولا يمنعون من تناولها، وقد أعدّ لهم في الجنة أسرّة عالية طاهرة، عليها زوجات طاهرات، قد خلقن خلقا جديدا يتّسم بالكمال والجمال، وأنشئن إنشاء جديدا من غير ولادة، وهنّ أبكار لم يمسسن عُرُباً [الآية 37] متحبّبات إلى أزواجهنّ أَتْراباً (37) كلهن في سن واحدة، في ريعان الشباب، وطراوة الصّبا. أصحاب الشمال تصف الآيات [41- 57] ما أعدّ لأصحاب الشمال، فهم في سَمُومٍ (42) وهو هواء ساخن ينفذ الى المسام، ويشوي الأجسام، وَحَمِيمٍ (42) وهو ماء متناه في الحرارة، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) ظل من دخان أسود ساخن، لا بارد كسائر الظلال، ولا كريم ينتفع به، لأنهم كفروا بالله، وانغمسوا في الشهوات، وأنكروا البعث والجزاء. آيات القدرة الالهية تعرض الآيات [58- 74] آثار القدرة الإلهية المبدعة، وتحرّك قلوب المشاهدين، لينظروا في أصل خلقتهم، وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم، وفي الماء الذي يشربون، وفي النار التي يوقدون. وهي طريقة فذة للقرآن الكريم، حين يلفت الإنسان الى أبسط مظاهر الحياة ومشاهدها، ليبني له أضخم عقيدة دينية، وأوسع تصوّر كوني. هذه المشاهدات التي تدخل في تجارب كلّ انسان، في النسل، في الزرع، في الماء، في النار فأيّ انسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ من هذه المشاهدات البسيطة الساذجة، ينشئ القرآن العقيدة، لأنه يخاطب كل إنسان في بيئته. وهذه المشاهدات البسيطة هي بذاتها أضخم الحقائق الكونية وأعظم الأسرار الربّانية: نشأة الحياة الإنسانية ... وهي سر الأسرار. نشأة الحياة النباتية معجزة كذلك، الماء أصل الحياة، النار ... المعجزة التي صنعت الحضارة الانسانية.

الزرع والماء والنار

أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) . «إنّ دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يودع الرجل ما يمني رحم امرأة، ثم ينقطع عمله وعملها، وتأخذ يد القدرة في العمل وحدها في هذا الماء المهين، تعمل وحدها في خلقه، وتنميته، وبناء هيكله، ونفخ الروح فيه، ومنذ اللحظة الأولى، وفي كل لحظة تالية، تتحقّق المعجزة، وتقع الخارقة التي لا يصنعها إلّا الله، والتي لا يدري البشر كنهها وطبيعتها، كما لا يعرفون كيف تقع، بله أن يشاركوا فيها» «1» . الزرع والماء والنار يتابع القرآن الكريم طرقاته على القلب البشري ليتأمّل، ويخاطب النفوس الإنسانية، ليرشدها الى مواطن القدرة فيما بين يديها. فهذا الزرع الذي ينبت ويؤتي ثماره، ما دورهم فيه؟ إنهم يحرثون، ويلقون الحب والبذور التي صنعها الله.. ثم تسير الحبة في طريقها للنمو، سير العاقل، العارف الخبير بمراحل الطريق، الذي لا يخطئ ولا يضل. إنّ يد القدرة هي التي تتولّى خطاها على طول الطريق، فإذا الحبة عود أخضر ناضر، وإذا النواة نخلة كاملة سامقة مثمرة. ويتابع القرآن لمساته لاستثارة التفكير والتأمّل، فيناقش المخاطبين: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) . أي أخبروني أيّها المنكرون الجاحدون عن الماء العذب الذي تشربونه، هل فكّرتم وتدبّرتم من الذي صعّده من البحار والمحيطات، وجعله بخارا، ثمّ سحابا متراكما، ثمّ صيّره ماء عذبا فراتا. ولو شاء الله سبحانه لجعل ذلك الماء ملحا مرّا، لا يحيي الزرع ولا الضّرع، ولا يستساغ لمرارته، فهلا تشكرون ربّكم على إنزال المطر، عذبا زلالا سائغا، لشرابكم أنتم وأنعامكم وزرعكم. ثم يذكّر هم بنعمة النار التي يوقدونها: من الذي أنبت شجرتها

_ (1) . في ظلال القرآن 27: 139.

مواقع النجوم

الخضراء من الأرض، وأودع في الشجرة العناصر الأوّلية القابلة للاشتعال لقد جعل الله، سبحانه، النار في الدنيا تذكرة للناس بنار الاخرة وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) أي للمسافرين فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) أي نزّه الله، سبحانه، وأنسب إليه، جلّ جلاله، العظمة والقدرة والخلق والإبداع، فهو الإله العلي القدير. مواقع النجوم في الآيات [75- 80] نلمس سموّ القرآن وطهارته، وعلوّ شأنه ومنزلته. وقد مهّدت الآيات ببيان آثار القدرة، في خلق النجوم، وتحديد أماكنها، وتنظيم سيرها، بحيث لا يصطدم نجم باخر. قال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) . «ويقول الفلكيون، إنّ من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدّة بلايين نجم، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة، وما لا يرى إلّا بالمجاهر والأجهزة، وما يمكن أن تحسّ به الأجهزة دون أن تراه هذه كلّها تسبح في الفلك الغامض، ولا يوجد أيّ احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم، من مجال نجم آخر، أو يصطدم بكوكب آخر، إلّا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط باخر في المحيط الهادي يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة، وهو احتمال بعيد وبعيد جدا ان لم يكن مستحيلا» «1» . إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) . وليس قول كاهن، كما تدّعون، ولا قول مجنون، ولا مفتر على الله من أساطير الأولين، ولا تنزّلت به الشياطين الى آخر هذه الأقاويل. إنما هو قرآن كريم، كريم بمصدره، وكريم بذاته، وكريم باتجاهاته، كريم على الله، كريم على الملائكة، كريم على المؤمنين. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) من دنس الشّرك والنفاق، ودنس الفواحش، أي لا تصل أنوار القرآن وبركاته وهدايته، إلّا إلى القلوب الطاهرة.

_ (1) . عبد الرزاق نوفل الله والعلم الحديث، ص 33.

نهاية الحياة

وروي عن علي رضي الله عنه، وابن مسعود، ومالك، والشافعي، أنّ المعنى: لا يمسّه من كان على جنابة، أو حدث، أو حيض. وروي عن ابن عبّاس، والشّعبي، وجماعة، منهم أبو حنيفة، أن المصحف، أو بعضه، يجوز للمحدث مسّه، وبخاصة للدرس والتعليم «1» . نهاية الحياة في الآيات [83- 96] نجد الإيقاع الأخير في السورة لحظة الموت، اللمسة التي ترتجف لها الأوصال، واللحظة التي تنهي كلّ جدال، واللحظة التي يقف فيها الحي بين نهاية طريق وبداية طريق، حيث لا يملك الرجوع ولا يملك النّكوص: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) . وإننا لنكاد نسمع صوت الحشرجة، ونبصر تقبّض الملامح، ونحسّ الكرب والضيق، من خلال قوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) ، كما نكاد نبصر نظرة العجز، وذهول اليأس، في ملامح الحاضرين، من خلال قوله تعالى: وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) . هنا، في هذه اللحظة، وقد فرغت الروح من أمر الدنيا، وخلّفت وراءها الأرض وما فيها وهي تستقبل عالما لا عهد لها به، ولا تملك من أمره شيئا، إلّا ما ادّخرت من عمل، وما كسبت من خير أو شر. فإن كان الميت المحتضر من السابقين في الإيمان، فروحه ترى علائم النعيم الذي ينتظرها: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) ، وهم دون المقرّبين السّابقين في المنزلة والدرجة، فإنّ الملائكة تبلّغه السلام من الله، ومن الملائكة ومن أقرانه أصحاب اليمين، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فنزله عند ذلك، الحميم الساخن، والماء الحار، وعذاب الجحيم. ثم تختم السورة في إيقاع عميق رزين، يفيد أن ما قصّه الله سبحانه في هذه السورة، حقّ ثابت، ويقين صادق لا شكّ فيه.

_ (1) . انظر المنتقى للشوكاني.

الأفكار العامة للسورة

إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) . الأفكار العامة للسورة قال الفيروزآبادي: معظم مقصود السورة: ظهور واقعة القيامة، وأصناف الخلق، بالإضافة الى العذاب والعقوبة، وبيان حال السّابقين بالطّاعة، وبيان حال قوم يكونون متوسّطين بين أهل الطّاعة، وأهل المعصية، ويذكر حال أصحاب الشمال، والغرقى في بحر الهلاك، وبرهان البعث من ابتداء الخلقة، ودليل الحشر والنشر من الحرث والزرع، وحديث الماء والنار، وما ضمنهما من النعمة والمنّة، ومن المصحف وقراءته في حالة الطهارة، وحال المتوفّى في ساعة السّكرة، وذكر قوم بالبشارة، وقوم بالخسارة، والشهادة للحق سبحانه بالكبرياء والعظمة «1» بقوله سبحانه: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) ، وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) ، أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) . بدئ بذكر خلق الإنسان، ثم بما لا غنى له عنه، وهو الحبّ الذي منه قوته وقوّته، ثم الماء الذي منه سوغه وعجنه، ثمّ النّار التي بها نضجه وصلاحه «2» . فضل السورة عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: «من قرأ سورة الواقعة في كلّ ليلة، لم تصبه فاقة أبدا» «3» .

_ (1) . بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي 1: 451. (2) . المصدر نفسه، الموضع نفسه. (3) . في شهاب البيضاوي: «هذا ليس بموضوع وقد رواه البيهقي وغيره» .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الواقعة"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الواقعة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «الواقعة» بعد سورة «طه» ، ونزلت سورة «طه» فيما بين الهجرة الى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة «الواقعة» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) وتبلغ آياتها ستّا وتسعين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة: تفصيل جزاء المؤمنين والكافرين في يوم القيامة، فهي من باب الدعوة بطريق الترغيب والترهيب، وبهذا تكون مناسبة للسّور التي ذكرت قبلها في هذا الغرض وهذا إلى أن سورة الرحمن قد اشتملت على تعداد النعم، ومطالبة الإنسان بالشكر عليها، ومنعه من جحدها، فجاءت سورة الواقعة بعدها، لبيان جزاء الشاكرين للنعم، والجاحدين لها. تفصيل الجزاء الأخروي الآيات [1- 96] قال الله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) فذكر سبحانه أنه إذا قامت القيامة لا يكذّبها أحد، وأنّها تخفض قوما وترفع آخرين. ثم ذكر تعالى أنها إذا وقعت، ترجّ الأرض

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

رجّا، وتبسّ الجبال بسّا، ويكون الناس ثلاثة أصناف: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسّابقون من أصحاب الميمنة، لأنّ أصحاب الميمنة على درجات، والسّابقون أعلاهم، وهم جماعة كثيرة من المهاجرين والأنصار وجماعة قليلة من التّابعين، ومن بعدهم ثم ذكر جلّ شأنه ما أعد لهم من الجزاء، وذكر بعده جزاء أصحاب اليمين ممّن لم يصل الى درجة السابقين، وذكر بعد جزائهم جزاء أصحاب الشمال، وأن سببه أنه أترفهم بنعمه، فكفروا به، وأنكروا أن يبعثهم بعد أن يصيروا ترابا وعظاما. وأجاب سبحانه عن هذه بأنه لا بدّ من جمعهم بعد موتهم، ولا بدّ من عقابهم على كفرهم، بالأكل من شجر الزّقّوم، إلى غير هذا مما أعدّه لهم، ثم ذكر من آياته ما يدل على قدرته على بعثهم، فذكر أنه خلقهم من تلك النّطف التي لا يمكنهم أن يزعموا أنهم الخالقون لها، وأنّه قدّر بينهم الموت، وليس بمسبوق عاجز عن إعادتهم في ما لا يعلمون من الأوصاف والأخلاق ثم ذكر جلّ وعلا أنه هو الذي يخرج نبات ما يحرثون، وأنه هو الذي ينزل من المزن الماء الذي يشربون، وأنه هو الذي أنشأ الشجرة التي يقدحون النار منها، وقد جعلها تذكرة لنار يوم القيامة، ومتاعا لمن يوقدها: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) . ثم أمر النبي (ص) أن يقوم بتسبيحه ليخالف طريق أولئك الكافرين، وأقسم لهم بمواقع النجوم، أن ما ينزله عليهم في ذلك قرآن كريم، يراد به خيرهم، ثم وبّخهم على تكذيبهم له، فيما حدّثهم به من تفصيل الجزاء الأخروي وذكر أنه لو صح ما يزعمون، من أنه لا جزاء بعد الموت، لأمكنهم أن يرجعوا أرواحهم إلى أبدانهم وقت خروجها، ليعوّقوا الجزاء الذي ينتظرهم وإذا لم يكن هذا في إمكانهم، فلا بد من ذلك الجزاء، ليلقى كل شخص ما يستحقه على عمله. فإن كان من المقربين (السّابقين) ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وإن كان من أصحاب اليمين (غير السابقين) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وإن كان من المكذّبين الضّالّين فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الواقعة"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الواقعة» «1» أقول: هذه السورة متاخية مع سورة الرحمن، في أن كلّا منهما في وصف القيامة، والجنة والنار. وانظر الى اتصال قوله تعالى هنا: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) بقوله سبحانه هناك: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ [الرحمن: 37] . ولهذا اقتصر في «الرحمن» على ذكر انشقاق السماء، وفي «الواقعة» على ذكر رجّ الأرض «2» . فكأن السورتين، لتلازمهما واتحادهما، سورة واحدة. ولهذا عكس الترتيب: فذكر في أول هذه السورة ما ذكر في آخر تلك، وفي آخر هذه ما في أول تلك، كما أشرت إليه في سورة آل عمران مع سورة البقرة. فافتتحت «الرحمن» بذكر القرآن، ثم ذكر الشمس والقمر، ثمّ ذكر النبات، ثمّ خلق الإنسان، والجان من مارج من نار، ثمّ صفة القيامة، ثم صفة النّار، ثم صفة الجنة. وابتدئت هذه بذكر القيامة ثمّ صفة الجنة، ثمّ صفة النار، ثمّ خلق الإنسان، ثمّ النبات، ثمّ الماء، ثمّ النار، ثمّ النّجوم، ولم تذكر في «الرحمن» ، كما لم تذكر هنا الشمس والقمر، ثم ذكر القرآن. فكانت هذه السورة كالمقابلة لتلك.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وذلك في قوله تعالى: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الواقعة"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الواقعة» «1» 1- وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) . قال محمّد بن كعب: هم الأنبياء. زاد مجاهد: وأتباعهم. وقال ابن عبّاس: يوشع بن نون سبق إلى موسى، ومؤمن آل ياسين سبق إلى عيسى، وعلي بن أبي طالب سبق إلى النبي (ص) . أخرج ذلك ابن أبي حاتم «2» . 2- وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) . قال بعضهم: في حواصل طير سود تكون ببرهوت «3» كأنها الزّرازير «4» ، أخرجه ابن أبي حاتم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....] (2) . وروى الطبري 27: 99 عن ابن سيرين: أنهم الذين صلّوا للقبلتين. وعن عثمان بن أبي سودة: أنهم أوّلهم رواحا الى المساجد، وأسرعهم خفوفا في سبيل الله. (3) . برهوت: واد أو بئر بحضر موت. «القاموس المحيط» . (4) . الزرازير: جمع زرزور، وهو نوع من العصافير.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الواقعة"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الواقعة» «1» 1- قال تعالى: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) . وقوله تعالى: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها، أي: لا يأخذهم من شربها صداع، وقيل: لا يتفرّقون عنها. ووَ لا يُنْزِفُونَ (19) ، أي: لا يسكرون. 2- وقال تعالى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) . وقوله تعالى: تَفَكَّهُونَ (65) ، أي: تعجبون. وعن الحسن: تندمون على تعبكم فيه، وإنفاقكم عليه، أو على ما اقترفتم من المعاصي، التي أصبتم بذلك من أجلها. وقرئ (يتفكّهون) ، أي: يتندّمون. 3- وقال تعالى: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) . وقوله تعالى: لِلْمُقْوِينَ (73) أي: الذين ينزلون القواء وهي القفر. وقيل: الذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام. ويقال: أقويت من أيام، أي: لم آكل شيئا. 4- وقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) . والمعنى فأقسم، و «لا» زائدة: وهي كقوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: 29] . والزيادة للتوكيد.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

5- وقال تعالى: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) . أي: متهاونون به، كمن يدهن في الأمر، أي: يلين جانبه، ولا يتصلّب فيه، تهاونا به. 6- وقال تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) . أي: بلغت النفس، وإضمار الفاعل هو لمعرفته واشتهاره.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الواقعة"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الواقعة» «1» قال تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) . فقوله تعالى: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وقوله جلّ وعلا: ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) هو الخبر. تقول العرب: «زيد وما زيد» تريد «زيد شديد» . وقال تعالى: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (26) إن شئت نصبت السلام بالقيل، وإن شئت جعلت السلام عطفا على القيل، كأنه تفسير له، وإن شئت جعلت الفعل يعمل في السلام، تريد «لا تسمع إلّا قيلا الخير» ، تريد: إلّا أنّهم يقولون الخير، والسلام هو الخير. وقال تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) على المدح، بنصبه على الحال، كأنّ السّياق: «لهم هذا متّكئين» . وقال تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) بإضمارهنّ من غير أن يذكرن قبل ذاك «2» . وأمّا (الأتراب) فواحدهنّ «الترب» وللمؤنّث: «التربة» هي «تربي» وهي «تربتي» مثل «شبه» و «أشباه» و «الترب» و «التربة» جائزة في المؤنث، ويجمع: ب «الأتراب» ، كما تقول «حيّة» و «أحياء» ، إذا عنيت المرأة و «ميتة» و «أموات» . وقال تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في المشكل 2: 712 وإعراب القرآن 3: 1227.

فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) ، أي: من الشجرة: فَشارِبُونَ عَلَيْهِ [الآية 54] لأنّ «الشجر» يؤنّث ويذكّر. والتأنيث حمل على «الشجرة» ، لأن «الشجرة» قد تدل على الجميع، تقول العرب: «نبتت قبلنا شجرة مرّة وبقلة رديّة» وهم يعنون الجميع. قال تعالى: فَشارِبُونَ شُرْبَ [الآية 55] و (شرب) «1» مثل «الضّعف» و «الضّعف» . وقال تعالى: وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) أي للمسافرين في الأرض القيّ «2» . تقول: «أقوى الشيء» إذا ذهب كلّ ما فيه. وقال تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) ثم قال سبحانه: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) أي: غير مجزيّين مقهورين، ترجعون تلك النفس، وأنتم ترون كيف تخرج عند ذلك: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) أنّكم تمتنعون من الموت. ثم أخبرهم سبحانه فقال: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ أي: فله روح وريحان» وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) أي: فيقال له: «سلام لك» . وقال تعالى: حَقُّ الْيَقِينِ (95) بإضافة «حق» الى «اليقين» كما في قوله تعالى دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) [البيّنة] أي: ذلك دين الملّة القيّمة، وذلك حقّ الأمر اليقين. وأما «هذا رجل السوء» فلا يكون فيه: هذا الرجل السوء. كما يكون في «الحقّ اليقين» لأن «السّوء» ليس ب «الرّجل» و «اليقين هو الحق» .

_ (1) . نسبها في معاني القرآن 3: 128 الى ابن جريج، وفي الطبري 37: 195 إلى بعض قرّاء مكة والبصرة والشام وفي السبعة 623 إلى ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر والكسائي، وفي الكشف 2: 305، والتيسير 207، والجامع 17: 214، إلى غير نافع وحمزة وعاصم. في معاني القرآن 3: 128 إلى سائر القراء، وفي الطبري 27: 195 إلى عامة قرّاء المدينة والكوفة، وفي السبعة 623، والكشف 2: 205، والتيسير 207، والجامع 17: 214، والبحر 210، إلى نافع وعاصم وحمزة. (2) . الأرض القيّ: الأرض المستوية الملساء.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الواقعة"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الواقعة» «1» إن قيل: ما الحكمة من التكرار في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) ؟ قلنا، فيه وجهان: أحدهما أنه تأكيد مقابل لما سبقه من التأكيد في قوله تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) . كأنه قال تعالى: والسابقون هم المعروف حالهم، المشهور وصفهم. ونظيره قول أبي النجم: «أنا أبو النّجم وشعري شعري» . الثاني: أنّ معناه: والسابقون إلى طاعة الله، هم السابقون إلى جنته وكرامته، ثم قيل المراد بهم السابقون إلى الإيمان من كلّ أمّة، وقيل الذين صلّوا إلى القبلتين، وقيل أهل القرآن، وقيل السابقون الى المساجد، وقيل السابقون الى الخروج في سبيل الله، وقيل هم الأنبياء صلوات الله عليهم، فهذه خمسة أقوال. فإن قيل: لم قال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) ، مع أن التخليد ليس صفة مخصوصة بالولدان في الجنة، بل كلّ أهل الجنة مخلّدون فيها، لا يشيبون ولا يهرمون، بل يبقى كلّ واحد أبدا على صفته التي دخل الجنة عليها؟ قلنا: معناه أنّهم لا يتحوّلون عن شكل الولدان. وقيل مقرّطون. وقيل مسوّرون، ولا إشكال على هذين القولين. فإن قيل: لم قال تعالى: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئله القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

بتأنيث ضمير الشجر ثم تذكيره؟ قلنا: قد سبق جوابه في سورة القمر. فإن قيل: لم قال تعالى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أي فهلا تصدّقون، مع أنهم مصدّقون أنه خلقهم، بدليل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87] ؟ قلنا: هم، وإن كانوا مصدّقين بألسنتهم، إلا أنهم لمّا كان مذهبهم على خلاف ما يقتضيه التصديق، فكأنهم مكذّبون به. الثاني: أنه تخصيص على التصديق بالبعث بعد الموت، بالاستدلال بالخلق الأول، فكأنه تعالى قال: هو الذي خلقكم أوّلا باعترافكم، فلا يمتنع عليه أن يعيدكم ثانيا، فهلا تصدّقون بذلك؟ فإن قيل: لم قال تعالى في الزرع: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً [الآية 65] ، «باللام» وقال تعالى في الماء: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً [الآية 70] بغير لام؟ قلنا: الأصل، لغة، أن تذكر اللام في الموضعين، إذ لا بد منها في جواب «لو» ، إلّا أنها حذفت في الثاني اختصارا، وهي مؤدّية لدلالة الأولى عليها. الثاني: أن أصل هذه اللام للتأكيد، فذكرت مع المطعوم دون المشروب، لأنّ المطعوم مقدّم وجودا ورتبة، لأنه إنما يحتاج إلى الماء تبعا له، ولهذا قدّمت آية المطعوم على آية المشروب فلما كان الوعيد بفقد المطعوم أشدّ وأصعب، أكّدت تلك الجملة مبالغة في التهديد. فإن قيل: التسبيح: التنزيه عن السوء، فما معنى بِاسْمِ في قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) لم لم يقل تعالى: «فسبح ربك العظيم» ؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها: أنّ الباء زائدة، والاسم بمعنى الذات، فصار المعنى ما قلتم. الثاني: أنّ الاسم بمعنى الذّكر، فمعناه فسبح بذكر ربك. الثالث: أن الذّكر فيه مضمر، فمعناه فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك. الرابع: قال الضّحّاك: معناه فصلّ باسم ربك: أي افتتح الصلاة بالتكبير. فإن قيل: إذا كان القرآن صفة من صفات الله تعالى، قديمة قائمة بذاته المقدّسة، فلم قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ

كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) أي اللوح المحفوظ، أو المصحف على اختلاف القولين؟ قلنا: معناه مكتوب في كتاب مكنون، ولا يلزم، من كتابة القرآن في الكتاب، أن يكون القرآن حالا في الكتاب، كما لو كتب إنسان على كفه: «ألف دينار» ، لا يلزم منه وجود ألف دينار في كفّه، وكذا لو كتب في كفّه العرش أو الكرسي، وكذا وكذا، قال تعالى في صفة النبي (ص) : يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] . الثاني: أن القرآن لو كان حالّا في المصحف، فإما أن يكون جميعه حالّا في مصحف واحد، أو في كلّ مصحف، أو في بعضه ولا سبيل إلى الأول، لأن المصاحف كلّها سواء في الحكم في كتابته فيها، ولأنّ البعض ليس أولى بذلك من البعض ولا سبيل إلى الثاني، وإلّا يلزم تعدّد القرآن، وإنّه متّحد ولا سبيل الى الثالث، لأنّه كلّه مكتوب في كلّ مصحف، ولأنّ هذا المصحف ليس أولى بهذا البعض من ذلك المصحف وكذا الباقي، فثبت أنه ليس حالا في شيء منها، بل هو كلام الله تعالى، وكلامه صفة قديمة قائمة به سبحانه لا تفارقه. فإن قيل: فإذا لم تفارقه، فلم سمّاه تعالى منزلا وتنزيلا، وقال سبحانه نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) [الشعراء] ونظائره كثيرة، وإذا فارقه، وباينه، يكون مخلوقا، لأنّ كل مباين له فهو غيره، وكلّ ما هو غيره هو مخلوق؟ قلنا: معنى إنزاله أنه، سبحانه وتعالى، علّمه لجبريل فحفظه، وأمره أن يعلّمه للنبي (ص) ويأمره أن يعلّمه لأمّته، مع أنه لم يزل، ولا يزال، صفة الله تعالى، قائمة به لا تفارقه.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الواقعة"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الواقعة» «1» في قوله تعالى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) استعارة. والمراد أنها إذا وقعت لم ترجع عن وقوعها، ولم تعدل عن طريقها، كما يقولون: قد صدق فلان الحملة ولم يكذب. أي ولم يرجع على عقبه، ويقف عن وجهة عزمه جبنا وضعفا، أو وجلا وخوفا. وكاذبة هاهنا مصدر، كقولك: عافاه الله عافية، فيكون كذب كذبا وكاذبة. وتلخيص المعنى: ليس لوقعتها كذب ولا خلف. وقيل أيضا: ليس لها قضيّة كاذبة، لإخبار الله سبحانه بها، وقيام الدلائل عليها، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه.. وذلك في كلامهم أظهر من أن يتعاطى بيانه. وقيل أيضا: ليس لها نفس كاذبة في الخبر عنها، والإعلام بوقوعها. والمعنيان واحد.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

سورة الحديد (57)

سورة الحديد (57)

المبحث الأول أهداف سورة"الحديد"

المبحث الأول أهداف سورة «الحديد» «1» سورة «الحديد» سورة مدنية آياتها 29 آية، نزلت بعد سورة «الزّلزلة» . مطلع السورة بدأت السورة ببيان قدرة الله العلي القدير، فهو الخالق الرازق مالك الملك، ذو الجلال والإكرام. وهو سبحانه أول بلا ابتداء، وآخر بلا انتهاء، وظاهر في كلّ ما تراه العين من سماء وأرض وجبال وبحار، وباطن فلا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار. وهو خالق الكون كلّه، القائم على حفظه، المهيمن على جميع أمره، المطّلع على خفايا النفوس، المحاسب على القليل والكثير، المجازي على الفتيل والقطمير. «ولما كان مدار السورة على تحقيق الإيمان في القلب، وما ينبثق عن هذه الحقيقة من خشوع وتقوى، ومن خلوص وتجرّد، ومن بذل وتضحية، فقد سارت في إقرار هذه الحقيقة في النفوس على نسق مؤثّر، أشبه ما يكون بنسق السور المكّية، حافل بالمؤثرات، ذات الإيقاع الاسر، للقلب والحس والمشاعر. «وكان مطلعها خاصة مجموعة إيقاعات بالغة التأثير، تواجه القلب البشري بمجموعة من صفات الله سبحانه، فيها تعريف به مع الإيحاء الاسر بالخلوص له، نتيجة للشعور بحقيقة الألوهية المتفرّدة، وسيطرتها المطلقة على الوجود، ورجعة كل شيء

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

أدلة التوحيد

إليها في نهاية المطاف، مع نفاذ علمها إلى خبايا القلوب وذوات الصدور» «1» . أدلة التوحيد الآيات الأولى من السورة [1- 6] يمكن أن تكون عناصر لأدلة التوحيد وصفات الله العلي القدير. فكل شيء في الكون يتّجه إليه وحده سبحانه بالعبادة، ويعلن خضوعه وانقياده لقدرة الله، فالسماء مرفوعة، والأرض مبسوطة، والبحار جارية، والهواء مسخّر، والشمس مسيّرة، والقمر باهر، والكوكب زاهر، وكلّ شيء في مداره يسير، معلنا قدرة القدير، مسبّحا بلسان الحال، مظهرا لله العبادة والخضوع. سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) . والقلب يهتزّ عند قراءة هذه الآيات وما بعدها، يهتزّ من جلال القدرة الإلهية، المؤثّرة المبدعة لكل شيء، المحيطة بكلّ شيء، المهيمنة على كلّ شيء، العلمية بكلّ شيء. يهتزّ إجلالا للخالق، القادر، العليم، الخبير، المطّلع على خفايا الصدور يهتزّ القلب حين يجول في الوجود كله، فلا يجد إلا الله، ولا يرى إلا الله، ولا يحسّ غير الله، ولا يعلم له مهربا من قدرته، ولا مخبأ من علمه، ولا مرجعا إلّا إليه، ولا متوجّها إلّا لوجهه الكريم. تثبيت الايمان الآيات [7- 11] دعوة الى صدق الإيمان وتأكيده، وحث على الإنفاق في سبيل الله. وظاهر من سياق السورة، أنّها كانت تعالج حالة في المجتمع المدني في فترة تمتد من العام الرابع الهجري، الى ما بعد فتح مكة فإلى جانب المهاجرين والأنصار، الذين ضربوا أروع الأمثال في تحقيق الإيمان، وفي البذل والتضحية بأرواحهم وأموالهم في إخلاص قادر، وتجرّد كامل. إلى جانب هذه الفئة الممتازة الفذّة، كانت

_ (1) . في ظلال القرآن 27: 151.

مشاهد الاخرة

هناك في الجماعة الاسلامية فئة أخرى، يصعب عليها البذل في سبيل الله، وتشقّ عليها تكاليف العقيدة في النفس والمال، وتزدهيها قيم الحياة الدنيا وزينتها، فلا تستطيع الخلاص من دعوتها وإغرائها. وهؤلاء بصفة خاصة، نجد هذه الآيات تدعوهم إلى الإيمان وتحثّهم عليه، وتهتف بهم تلك الهتافات الموحية، لتخلّص أرواحهم من الإغراء، والخلود الى الأرض، وترفعها إلى مستوى الإيمان الحقّ، فيخاطبهم القرآن الكريم بقوله جلّ وعلا: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) . مشاهد الاخرة تعرض الآيات [12- 15] صورة وضيئة للمؤمنين والمؤمنات يوم القيامة يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الآية 12] . والمشهد هنا جديد بين المشاهد القرآنية. إنه مشهد عجب. هؤلاء هم المؤمنون والمؤمنات نراهم، ولكننا نرى بين أيديهم وبأيمانهم إشعاعا لطيفا هادئا. ذلك نورهم يشعّ منهم، ويفيض بين أيديهم. فهذه الشخوص الإنسانية قد أشرقت وأضاءت، وأشعّت نورا يمتدّ منها فيرى أمامها ويرى عن يمينها. إنّه النور الذي أخرجها الله إليه، وبه، من الظلمات، والذي أشرق في أرواحها فغلت طينتها، أو لعلّه نور الأعمال الصالحة التي عملتها في الدنيا، ثم تبشّرهم ملائكة الرحمن بجنّات تجري من تحتها الأنهار ينعمون فيها بالخلود والفوز العظيم. ولكنّ المشهد لا ينتهي عند هذا المنظر الطريف اللطيف. إنّ هناك المنافقين والمنافقات، في حيرة وضلال، في مهانة وإهمال، وهم يتعلّقون بأذيال المؤمنين والمؤمنات، ويقولون لهم: أنظروا إلينا لنقتبس من نوركم فيجيب المؤمنون إن النور، هنا، هو نور العمل الصالح، الذي عمل في الدنيا، فالدنيا عمل ولا حساب، والاخرة حساب ولا عمل، والجزاء الحقّ هنا من جنس العمل، ولذلك يحال بين المؤمنين والكافرين، ويذهب المؤمنون الى الرحمة

القلوب الخاشعة

والرضوان، ويذهب المنافقون إلى عذاب النار وبئس المصير. القلوب الخاشعة الربع الثاني من سورة الحديد يشتمل على الآيات [16- 29] وفيها دعوة المؤمنين، إلى أن تكون قلوبهم خاشعة قانتة، تهتزّ لآيات الله وما نزل من الحق، وتستجيب لنداء السماء، وتؤثر الاخرة على الدنيا، والباقية على الفانية. ومضمون الآيات، كما نرى، امتداد لموضوع السورة الرئيسي: تحقيق الإيمان في النفس، حتّى ينبثق عنها البذل الخالص في سبيل الله. ويستهل هذا الرّبع برنّة عتاب من الله سبحانه للمؤمنين، الذين لم يصلوا إلى المرتبة السامية في الإيمان، وتلويح لهم بما كان من أهل الكتاب قبلهم من قسوة في القلوب وفسق في الأعمال، وتحذير من هذا المال الذي انتهى اليه أهل الكتاب بطول الأمد عليهم، مع إطماعهم في عون الله الذي يحيي القلوب كما يحيي الأرض بعد موتها، قال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الآية: 16] . وتتبع هذه الدعوة الى الخشوع والتقوى، دعوة تالية إلى إقراض الله قرضا حسنا، مع بيان ما أعدّه الله لمن يقرضونه في الدنيا من العوض المضاعف والأجر الكريم [انظر الآيتين] [18 و 19] . والآية 20 رسم رائع، وميزان عادل، يضع قيم الدنيا كلّها في كفّة، وقيم الاخرة في كفّة، حيث تبدو قيم الأرض لعبا، خفيفة الوزن، وترجّح كفة الاخرة، ويبدو فيها الجدّ الذي يستحقّ الاهتمام. ومن ثمّ تهتف الآية 21 بهم ليسابقوا إلى قيم الأخرى، في جنّة عرضها كعرض السماء والأرض أعدّت للمتّقين. والآيتان [22- 23] كلام مفيد في الايمان بالقضاء والقدر وبيان أن الأجل بيد الله جلّ جلاله، الذي خلق النفوس، وكتب أجلها ورزقها، حتّى لا نكثر الأسى على ما فاتنا، ولا نكثر الفرح بما جاءنا، فالقلب الموصول بالله، ثابت في المحن، راض في المنح.

وتعرض الآيات [25- 27] طرفا من تاريخ دعوة الله في الأرض، تبدو فيه وحدة المنهج واستقامة الطريق، وأن الذي يحيد عنه في كل عهد هم الفاسقون. وفي الآية الأخيرة من السورة، هتاف ودعوة للمؤمنين لتقوى الله، وصدق الإيمان برسوله، وبذلك يعطيهم الله نصيبين من رحمته ويجعل لهم نورا يمشون به ويغفر لهم، فضل الله ليس وقفا على أهل الكتاب كما يزعمون، إنّما هو بيد الله، سبحانه، يؤتيه من يشاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) . وهكذا تبدو السورة من أولها الى آخرها مترابطة الحلقات، في خط واحد ثابت، تتوالى إيقاعاتها على القلوب، منوّعة ومتشابهة، فيها من التكرار القدر اللازم، لتعميق أثر الإيقاع في القلب، وطرقه وهو ساخن، وتلوين هذه المؤثّرات أمام المخاطبين: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) . «وبعد فهذه السورة نموذج من النماذج القرآنية الواضحة، في خطاب القلوب البشرية، واستجاشتها بأسلوب عميق التأثير وهي في بدئها وسياقها وختامها، وفي طريقة تناولها للموضوع وسيرها فيه جولة بعد جولة، هي في هذا درس بديع للدعاة، يعلّمهم كيف يخاطبون الناس، وكيف يوقظون الفطرة، وكيف يستحيون القلوب» «1» . قال الفيروزآبادي: «معظم مقصود السورة: الإشارة إلى تسبيح جملة المخلوقين والمخلوقات، في الأرض والسماوات، وتنزيه الحقّ في الذات والصفات، وأمر المؤمنين بإنفاق النفقات والصدقات، وذكر حيرة المنافقين والمنافقات في ساحة القيامة، وبيان خسّة الدنيا وعزّ الجنّات، وتسلية الخلق عند هجوم النكبات والمصيبات» «2» في قوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) .

_ (1) . في ظلال القرآن 27: 180. (2) . بصائر ذوي التمييز للكتاب العزيز للفيروزآبادي 1: 453. [.....]

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الحديد"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحديد» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «الحديد» بعد سورة «الزّلزلة» ، ونزلت سورة «الزلزلة» بعد سورة «النساء» ، وكان نزول سورة «النساء» فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة «الحديد» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في الآية 25 منها: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وتبلغ آياتها تسعا وعشرين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله، والإنفاق في سبيله وقد ذكرت هذه السورة بعد السورة السابقة، لأنّها ختمت بأمر النبي (ص) بتسبيح ربّه العظيم، فجاءت هذه السورة بعدها، وأوّلها في بيان أنّ كل ما في السماوات والأرض يسبّح بحمده. الدعوة إلى الإيمان والإنفاق في سبيله الآيات [1- 29] قال الله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) فذكر، سبحانه، أن كل ذلك يسبّح بحمده، وأنّ له ملكه، وأنّه يحيي ويميت، إلى غير هذا ممّا يوجب

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

الإيمان به جلّ شأنه وبرسوله محمد (ص) . وذكر أن رسوله إنما يدعوهم ليؤمنوا به، وقد أخذ ميثاقهم بهذا منذ خلقهم، وأنه جاءهم بكتاب ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ثم دعاهم إلى الإنفاق في سبيله، وفضّل من أنفق وقاتل قبل الفتح، على من أنفق وقاتل بعده، ووعد من ينفق في سبيله بأن يضاعفه له يوم القيامة، ويكون لهم فيها نور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ويقول المنافقون والمنافقات ممّن لم ينفقوا في سبيله للذين آمنوا أو أنفقوا انظروا لنقتبس من نوركم، فيقال لهم: ارجعوا وراءكم، ويحال بينهم وبينهم إلى غير هذا من التحاور الذي يجري بينهم في ذلك اليوم ثم ذكر تعالى أنه حان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل، فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، ثمّ ذكر من آياته جلّ وعلا أنّه يحيي الأرض بعد موتها، لتخشع قلوبهم له، ورغّبهم في الإيمان به وبرسله، بأنّ الذين آمنوا به سبحانه، وبرسله، هم الصّديقون والشهداء، ولهم أجرهم ونورهم، والذين كفروا وكذّبوا بآياته هم أصحاب الجحيم، ثمّ هوّن لهم أمر الحياة الدنيا فذكر عزّ وجلّ أنها لعب ولهو إلى غير هذا مما هوّن به أمرها، وأمرهم أن يسابقوا إلى ما هو أعظم منها من نيل مغفرته وجنّته ثم ذكر أنّ ما يصيبهم في الأرض من قحط ونحوه، وفي أنفسهم من شرّ أو خير، فبقضائه وقدره. فلا يصحّ أن يحزنوا على ما فاتهم أو يفرحوا بما آتاهم، ليهوّن عليهم الإنفاق والجهاد في سبيله، ويحذّرهم من البخل والأمر به، ثم أشارت الآيات إلى أنّ ما يأمرهم به تعالى من ذلك، هو الذي أرسل به رسله بالبيّنات، وأنزل معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس، وليعلم من ينصره ورسله بالجهاد به في سبيله وذكر سبحانه من أولئك الرسل نوحا وإبراهيم (ع) وأنه جعل في ذرّيتهما النبوّة والكتاب، ثمّ قفّى على آثارهم برسله، وقفى بعدهم بعيسى ابن مريم (ع) ، فأخذ بهدايتهم قليل من أتباعهم، وفسق كثير منهم ثم أمر هذه الأمّة أن تؤمن بالله ورسوله، الذي جاء

مصدّقا لأولئك الرسل، وذكر أنه يعطيهم نصيبين من رحمته بإيمانهم برسالتهم ورسالة أهل الكتاب قبلهم ثم رغّبهم في ذلك بأنهم ينالون به فضلا، يرى أهل الكتاب أنّه خاص بهم، فقال تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الحديد"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحديد» «1» قال بعضهم: وجه اتصالها بسورة «الواقعة» : أنها قدّمت بذكر التسبيح، وتلك ختمت بالأمر به. قلت: وتمامه: أنّ أوّل «الحديد» واقع العلة للأمر به، وكأنه سبحانه قال: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) [الواقعة] لأنه سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية: 1] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الحديد"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الحديد» «1» 1- فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ [الآية 13] . قال مجاهد: هو الحجاب الذي في سورة الأعراف «2» . وقال قتادة: حائط بين الجنّة والنّار. أخرجهما ابن أبي حاتم «3» . 2- الْغَرُورُ (14) . هو الشيطان. 3- وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [الآية 27] . قال ابن حزم: وهو النبي (ص) أخرجه ابن أبي حاتم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . المذكور في قوله تعالى: وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ [الأعراف: 46] . (3) . والطبري 27: 129.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الحديد"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحديد» «1» 1- قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الآية 13] . أقول: وقوله تعالى: انْظُرُونا أي: انتظرونا. وهذا يعني أن الثلاثي «نظر» يعني انتظر ومنه قوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة: 280] . وقولهم: إن غدا لناظره قريب. 2- وقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ [الآية 16] . وقوله تعالى: يَأْنِ من أنى الأمر يأني إذا جاء إناه، أي: وقته. وهذا بمعنى مقلوبه «آن» ، أي «حان» ، وهذا القلب في الأفعال قد ورد في جملة مواد منها: رأى وراء، وعثا وعاث. 3- وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الآية 28] . وقوله تعالى: كِفْلَيْنِ أي نصيبين من رحمته لإيمانكم بمحمد (ص) وإيمانكم بمن قبله.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الحديد"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحديد» «1» قال تعالى: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الآية 12] . يريد، والله أعلم، عن أيمانهم كما قال سبحانه: يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 45] أي «بطرف» . وقال تعالى: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الآية 13] من «نظرته» أي «أنظره» ومعناه: أنتظره. وقال تعالى: إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الآية 22] . يريد، والله أعلم، «إلّا هو في كتاب» فجاز فيها الإضمار. وقد تقول: «عندي هذا ليس إلّا» تريد: ليس إلّا هو. وقال تعالى: بِسُورٍ لَهُ بابٌ [الآية 13] معناه: والله أعلم، «وضرب بينهم سور» . وقال تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) بالاستغناء بالأخبار التي في القرآن، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد: 31] ولم يكن في ذا الموضع خبر، والله أعلم بما ينزل هو، كما أنزل، وكما أراد ان يكون. وقال تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ [الآية 29] . يقول، والله أعلم: لأن يعلم. وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الآية 11] وليس هذا مثل

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

الاستقراض من الحاجة، ولكنّه مثل قول العرب: «لي عندك قرض صدق» و «قرض سوء» إذا فعل به خيرا او شرّا. قال الشاعر: [من الطويل وهو الشاهد التاسع والستون بعد المائتين] : سأجزي سلامان بن مفرج قرضهم ... بما قدّمت أيديهم وأزلت

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الحديد"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحديد» «1» إن قيل: لم قال تعالى: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الآية 8] ثم قال سبحانه: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) ؟ قلنا: معناه إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فإن شريعتهما تقتضي الإيمان بمحمد (ص) . الثاني: إن كنتم مؤمنين بالميثاق الذي أخذه عليكم يوم أخرجكم من ظهر آدم (ع) . الثالث: أن معناه: أيّ عذر لكم في ترك الإيمان، والرسول يدعوكم إليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج، وقد ركّب الله تعالى فيكم العقول، ونصب لكم الأدلّة، ومكّنكم من النظر وأزاح عللكم، فما لكم لا تؤمنون إن كنتم مؤمنين بموجب مّا، فإن هذا الموجب لا مزيد عليه. فإن قيل: لم قال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ [الآية 10] ، ولم يذكر مع من لا يستوي، والاستواء لا يكون إلا بذكر اثنين، كقوله تعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [المائدة: 100] ولا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر: 20] ؟ قلنا: هو محذوف تقديره: ومن أنفق وقاتل من بعد الفتح، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه. فإن قيل: كيف يقال إن أعلى الدرجات بعد درجة الأنبياء درجة الصّدّيقين، والله تعالى قد حكم لكلّ مؤمن بكونه صدّيقا، بقوله تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئله القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الآية 19] ؟ قلنا: قال ابن مسعود ومجاهد: كلّ مؤمن صدّيق. الثاني: أنّ الصّدّيق هو الكثير الصدق، وهو الذي كلّ أقواله وأفعاله وأحواله صدق، فعلى هذا يكون المراد به بعض المؤمنين لا كلّهم. وقد روي عن الضّحّاك أنّها نزلت في ثمانية نفر، سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر، وعثمان، وعلي، وحمزة بن عبد المطلب، وطلحة، والزبير، وسعد، وزيد وألحق بهم عمر، رضي الله عنهم فصاروا تسعة. فإن قيل: لم ذكر سبحانه هؤلاء المذكورين بكونهم شهداء، ومنهم من لم يقتل؟ قلنا: معناه أنّ لهم أجر الشهداء. الثاني: أنه جمع بمعنى شاهد، فمعناه أنهم شاهدوه عند ربّهم على أنفسهم بالإيمان. الثالث أنه مبتدأ منقطع عمّا قبله لا معطوف عليه معناه: والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم. فإن قيل: لم قال تعالى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الآية 21] والمسابقة من المفاعلة التي لا تكون إلا بين اثنين كقولك: سابق زيد عمرا؟ قلنا: قيل معناه سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في الميدان ويؤيّد هذا القول مجيئه بلفظ المسارعة في سورة آل عمران «1» . وقيل سابقوا ملك الموت، قبل أن يقطعكم بالموت، عن الأعمال التي توصلكم إلى الجنة وقيل سابقوا إبليس، قبل أن يصدّكم بغروره وخداعه عن ذلك. فإن قيل: لم قال تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الآية 21] . وقال تعالى في سورة آل عمران وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: 133] فكيف يكون عرضها كعرض السماء الواحدة، وكعرض السماوات السبع؟ قلنا المراد بالسّماء جنس السماوات لا سماء واحدة، كما أن المراد بالأرض في الآيتين جنس الأرضين، فصار التشبيه في الآيتين بعرض السماوات السبع، والأرضين السبع. فإن قيل: لم قال تعالى:

_ (1) . إشارة إلى الآية الكريمة وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران: 133] .

لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الآية 23] ولا أحد يملك نفسه عند مضرة تناله أن لا يحزن، ولا عند منفعة تناله أن لا يفرح، وليرجع كل واحد منا في ذلك إلى نفسه؟ قلنا: ليس المراد بذلك الحزن والفرح اللذين لا ينفك عنهما الإنسان بطبعه قسرا وقهرا بل المراد به الحزن المخرج لصاحبه، إلى الذهول عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى، ورجاء ثواب الصابرين، والفرح الطاغي الملهي عن الشكر، نعوذ بالله منهما. فإن قيل: لم قال تعالى: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ [الآية 25] والميزان لم ينزل من السماء؟ قلنا قيل المراد بالميزان هنا العدل. وقيل العقل. وقيل السلسلة التي أنزلها الله تعالى، على داود (ع) . وقيل هو الميزان المعروف، أنزله جبريل (ع) فدفعه إلى نوح (ع) وقال له: مر قومك يزنوا به. فإن قيل: لم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ [الآية 28] ، مع أن المؤمنين مؤمنون برسوله (ص) ؟ قلنا: معناه يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام، آمنوا بمحمد (ص) فيكون خطابا لليهود والنصارى خاصة، وعليه الأكثرون. وقيل معناه: يا أيها الذين آمنوا، يوم الميثاق اتّقوا الله، وآمنوا برسوله اليوم. وقيل معناه: يا أيها الذين آمنوا بالله في العلانية باللسان، اتّقوا الله وآمنوا برسوله في السر بتصديق القلب.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الحديد"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحديد» «1» في قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) استعارة عليه سبحانه، كإطلاقنا لذلك على غيره، لأنه سبحانه لا يأتي بالكلام المستعار، المجاز عليه، ولكن لأن ذلك اللفظ أبعد في البلاغة منزعا، وأبهر في الفصاحة مطلعا. والواحد منّا، في الأكثر، إنما يستعير أغلاق الكلام، ويعدل عن الحقائق إلى المجازات، لأن طرق القول ربما ضاق بعضها عليه فخالف إلى «2» ... بقية الكلام وربما استعصى بعضها على فكره فعدل إلى المطاوعة. معنى قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ أي الذي لم يزل قبل الأشياء كلها، لا عن انتهاء مدة، وَالْآخِرُ أي الذي لا يزال بعد الأشياء كلّها لا إلى انتهاء غاية. وَالظَّاهِرُ المتجلّي للعقول بأدلّته، وَالْباطِنُ أي الذي لا تدركه أبصار بريّته. وقال بعضهم: قد يجوز أن يكون معنى الظاهر هاهنا أي العالم بالأشياء كلها. من قولهم: ظهرت على أمر فلان أي علمته. ويكون الظاهر مخصوصا بما كان في الوجود والجهر، ويكون الباطن مخصوصا بما كان في العدم والسر. وتلخيص معنى الظاهر والباطن، أنه

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هنا لفظة غير واضحة.

العالم بما ظهر وما بطن، بما استسرّ وما علن. وفي قوله سبحانه: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 10] استعارة على ما تقدم في كلامنا من نظير ذلك. والمعنى: أن الخلائق إذا فنوا وانقرضوا، خلّوا ما كانوا يسكنونه، وزالت أيديهم عما كانوا يملكونه «1» إلّا الله سبحانه، وصار تعالى كأنه قد ورث عنهم ما تركوه «2» ... خلفوه. لأنه الباقي بعد فنائهم، والدائم بعد انقضائهم. وفي قوله سبحانه: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الآية 12] استعارة على أحد التأويلين. وفي قوله سبحانه: مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) استعارة. ومعنى مولاكم: أي أملك بكم، وأولى بأخذكم. وهذا بمعنى المولى من طريق الرّق، لا المولى من جهة العتق. فكأنّ النار، نعوذ بالله منها، تملكهم رقّا، ولا تحرّرهم عتقا. وفي قوله سبحانه: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) استعارة. ومعنى: بيد الله، أي ملك الله وقدرته، يبسطه إذا شاء على حسب المصالح والمفاسد، والمغاوي والمراشد. وقد مضى الكلام على نظائرها.

_ (1) . هنا ألفاظ ممحوّة. (2) . هنا بضعة أسطر مبتورة الأطراف غير واضحة المعالم ..

سورة المجادلة (58)

سورة المجادلة (58)

المبحث الأول أهداف سورة"المجادلة"

المبحث الأول أهداف سورة «المجادلة» «1» سورة «المجادلة» سورة مدنية وآياتها 22 آية نزلت بعد سورة «المنافقون» . تربية إلهية سورة «المجادلة» ، حافلة بآداب التربية، وتهذيب السلوك، وتحذير المسلمين من مكايد المنافقين. لقد نزلت هذه السورة بعد سورة «المنافقون» ، وكانت الجماعة الإسلامية في المدينة لا تزال في دور الإعداد والتكوين، وكان المسلمون يتألّفون من المهاجرين والأنصار وقد انضمّ إليهم، من لم يتلقّ من التربية الإسلامية القدر الكافي، ومن لم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة، كما دخل في الإسلام جماعة من المنافقين، حرصوا على الاستفادة المادية وأخذوا يتربّصون بالمسلمين الدوائر، ويعرضون ولاءهم على المعسكرات المناوئة للمسلمين، وهي معسكرات المشركين واليهود. وقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكبير المقدر لها في الأرض، جهودا ضخمة وصبرا طويلا، وعلاجا بطيئا في صغار الأمور وكبارها. ونحن نشهد في هذه السورة، وفي هذا الجزء كلّه، طرفا من تلك الجهود الضخمة وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس، وفي علاج الأحداث والعادات والنّزوات كما نشهد جانبا من الصراع الطويل، بين الإسلام وخصومه المختلفين، من مشركين ويهود ومنافقين.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....]

قصة المجادلة

«ونشهد في سورة المجادلة، بصفة خاصة، صورة موحية من رعاية الله جلّ جلاله للجماعة الناشئة، وهو يصنعها على عينه، ويربيها بمنهجه، ويشعرها برعايته، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده سبحانه معها، في أخصّ خصائصها، وأصغر شؤونها، وأخفى طواياها، وحراسته لها من كيد أعدائها، خفيّة وظاهرة، وأخذها في حماه وكنفه، وضمّها الى لوائه وظلّه، وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله، وتنتسب إليه، وترفع لواءه في الأرض» «1» . قصة المجادلة سمّيت سورة «المجادلة» بهذا الاسم لاشتمالها على قصة المرأة المجادلة، وقد افتتح الله بها السورة حيث قال سبحانه: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) . وقد روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في كتاب الطلاق من سننه، عن خولة بنت ثعلبة قالت: فيّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، قالت: فدخل عليّ يوما، فراجعته بشيء فغضب فقال، أنت عليّ كظهر أمي. وكان الرجل، في الجاهلية، إذا قال ذلك لامرأته حرّمت عليه وكان ذلك أول ظهار في الإسلام، فندم أوس لساعته ثم دعاها لنفسه (طلب ملامستها) فأبت وقالت: والذي نفسي بيده لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله، فأتت الى رسول الله (ص) فقالت: يا رسول الله إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابة غنية ذات أهل ومال، حتى إذا أكل مالي، وأفنى شبابي، وتفرّق أهلي، وكبرت سنّي ظاهر منّي، وقد ندم فهل من شيء تجمعني به وإياه تفتيني به؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه: حرّمت عليه، أوما أراك الّا حرمت عليه. فأعادت الكرّة، والرسول عليه الصلاة والسلام يعيد عليها الجواب نفسه، حتى قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، قد طالت له صحبتي،

_ (1) . في ظلال القرآن، بقلم سيّد قطب 28: 8.

أهداف السورة

ونثرت له بطني، وإنّ له صبية صغارا، ان ضممتهم إليّ جاعوا، وإن ضممتهم إليه ضاعوا وجعلت ترفع رأسها الى السماء، وتستغيث وتتضرّع، وتشكو الى الله، فنزلت الآيات الأربع من صدر سورة المجادلة. فقال رسول الله (ص) يا خولة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا، ثم تلا عليها الآيات. وقال لها (ص) مريه فليعتق رقبة، قالت يا رسول الله ليس عنده ما يعتق، قال فليصم شهرين متتابعين قالت والله إنه لشيخ ماله من صيام، قال: فليطعم ستين مسكينا وسقا «1» من تمر، قالت: والله يا رسول الله ما ذاك عنده، فقال رسول الله (ص) : «فإنّا سنعينه بعرق من تمر» . قالت: يا رسول الله وأنا سأعينه بعرق آخر. قال الرسول: «قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدّقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيرا» ، قالت: ففعلت. تلك قصة الظّهار، وهي تشير الى رعاية السماء لهذه الجماعة المؤمنة، ونزول الوحي يجيب عن أسئلتها ويحلّ مشاكلها، ويربّي نفوسها، ويهذّب أخلاقها، ويأخذ بيدها إلى الصراط القويم. وقد تضمّنت الآيات، إحاطة السميع البصير بكل صغيرة وكبيرة، واطّلاعه على جميع الأعمال وبينت أن المسارعة إلى ألفاظ الظّهار والطلاق منكر وزور وأنّ الزوجة غير الأم، فالأم حملت وأرضعت، وقد حرّم الله تعالى على الإنسان الزواج بأمه. والزوجة أحلّ الله زواجها. ثم رسم القرآن الكريم طريق الحل لمن بدرت منه بادرة بالظّهار، فقال لامرأته أنت عليّ كظهر أمي، ثم أراد أن يرجع عن ذلك، وأن يراجع زوجته فعليه أن يكفّر عن هذا الذنب، بتحرير رقبة فإن لم يجد، فبصوم ستين يوما، فإن لم يستطع، فعليه إطعام ستين مسكينا وفي ذلك نوع من التهذيب والتأديب، حتّى يضبط الناس أعصابهم ويحفظوا ألسنتهم في ساعة الغضب والتهوّر. أهداف السورة تبدأ السورة بهذه البداية الكريمة، وهي سماع الله العليّ القدير، شكوى امرأة فقيرة مغمورة، وقد استمع إليها

_ (1) . الوسق (بفتح الواو، وكسرها) : مكيلة معروفة.

جلّ جلاله من فوق سبع سماوات، وكان صوتها ضعيفا، لا يكاد يسمعه من يجلس بجوارها. وفي البخاري والنسائي عن عائشة (رض) قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله (ص) في جانب البيت ما أسمع ما تقول. فأنزل الله عزّ وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [الآية 1] الى آخر الآيات الأربع من صدر السورة. وفي [الآيتين 5- 6] توكيد أنّ الذين يحادّون الله ورسوله، وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله، مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض، والعذاب المهين في الاخرة، مأخوذون بما عملوا، أحصاه الله عليهم، ونسوه هم وهم فاعلوه: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) . و [الآية 7] تؤكّد سعة علم الله سبحانه، وإحاطته بما في السماوات والأرض، واطّلاعه على السّر والنّجوى، ورقابته لكلّ صغير وكبير، ثمّ محاسبة الجميع بما قدّموا يوم القيامة والآية تخرج هذه المعاني في صورة عميقة التأثير، تترك القلوب وجلة، ترتعش مرّة وتأنس مرّة، وهي مأخوذة بمحضر الله الجليل: هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) . وفي [الآيات 8- 10] يشهّر القرآن بموقف المنافقين، الذين يبيّتون الكيد والدّسّ للمؤمنين، ويهدّدهم بأنّ أمرهم مكشوف وأن عين الله مطّلعة عليهم ونجواهم بالإثم والعدوان، ومعصية الرسول مسجّلة، وسيحاسبون عليها، ويلقون جزاءهم، في جهنم وبئس المصير. ثم تستطرد الآيات الى تربية المسلمين، وتهذيب نفوسهم بهذا الخصوص، فتنهاهم عن الحديث الخافت المحتوي على الإثم والعدوان، ومعصية الرسول (ص) وذلك يؤكد أنه كان بين جماعة المسلمين قوم لم يترسّخ الإيمان في قلوبهم، وكانوا يقلّدون المنافقين، في التّناجي بالهمز واللّمز، والإثم والمعصية، وكان القرآن الكريم يواكب هؤلاء جميعا، فيكشف المنافقين، ويرشد المسلمين وينزل الهدى والرحمة أجمعين. و [الآيات 11- 13] استطراد في

المقصد الإجمالي للسورة

تربية المسلمين، وتعليمهم أدب السماحة والطاعة، في مجلس الرسول (ص) ومجالس العلم والذكر، وهو أدب رفيع قدّمه القرآن الكريم من عشرات القرون، ليحثّ الناس على التعاون، والتكافل، والسلوك المهذّب: إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا. كما تحثّ الآيات على توفير العلم، وترسّم أدب السؤال والحديث، مع رسول الله (ص) وتحثّ على الجد والتوقير في هذا الأمر. ويبدأ الربع الثاني في السورة بالآية 14، وقد تحدثت مع ما بعدها عن المنافقين، الذين يتولّون اليهود ويتامرون معهم، ويدارون تأمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين. وهم في الاخرة كذلك حلّافون كذّابون، يتقون بالحلف والكذب، ما يواجههم من عذاب الله، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا، ما يواجههم من غضب رسول الله، والمؤمنين، مع توكيد أن الذين يحادّون الله ورسوله، كتب الله عليهم أنّهم في الأذلّين، وأنهم هم الأخسرون، وأن الله ورسوله هم الغالبون. وفي ختام السورة نجد صورة كريمة للمؤمن، الذي يستعلي بإيمانه، ويجعل الإيمان هو النسب وهو الحياة، وهو العقيدة الغالية التي تصله بالمؤمنين والمسلمين، وتحجب مودّته عن أعداء الله، ولو كانوا أقرب الناس إليه. وكذلك كان المهاجرون والأنصار، الذين ضحّوا بكلّ شيء في سبيل العقيدة، فكتب الله في قلوبهم الإيمان، وأيّدهم بروح منه، وجعلهم قدوة لكل فئة مخلصة، ولكلّ مسلم مخلص، فمودّة المسلم، وحبه، وإخلاصه، وتعاونه، لا تكون إلّا للمسلمين الصادقين ثم هو في الوقت نفسه يحجب مودّته عن الخائنين، وإن كانوا أقاربه، أو أصهاره، أو عشيرته. ومن سمات هذا الدّين، أن تحبّ لله وأن تكره لله: أن تحبّ المتّقين، وتصل المؤمنين، وتتعاون مع الهداة الصالحين، وأن تحجب مودّتك عن الفاسقين، لأنك بهذا تنفّذ أمر الله عزّ وجلّ، وتهجر من عصى الله سبحانه فمن أحبّ من أحبّ الله، فكأنما يحبّ الله. المقصد الإجمالي للسورة قال الفيروزآبادي: «معظم مقصود

سورة المجادلة هو بيان حكم الظّهار وذكر النّجوى والسّرار، والأمر بالتوسّع في المجالس، وبيان فضل أهل العلم، والشكاية من المنافقين، والفرق بين حزب الرحمن وحزب الشيطان» «3» والحكم على الأول بالفلاح، وعلى الثاني بالخسران. قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) .

_ (3) . بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 1: 456.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"المجادلة"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المجادلة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «المجادلة» بعد سورة «المنافقون» ، ونزلت سورة «المنافقون» بعد غزوة بني المصطلق، في السنة الخامسة من الهجرة فيكون نزول سورة «المجادلة» ، فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [الآية 1] وتبلغ آياتها اثنتين وعشرين آية. الغرض منها وترتيبها نزلت هذه السورة في خولة بنت ثعلبة، امرأة أوس بن الصامت وكان قد ظاهر منها بقوله، أنت عليّ كظهر أمي، وكان الظّهار من أشدّ طلاق الجاهلية، لأنّه في التحريم أوكد، فأتت النبي (ص) فقالت له: إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابّة مرغوب فيّ، فلمّا خلا سنّي وكثر ولدي جعلني كأمّه، وإنّ لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا. فروى بعضهم أن النبي (ص) قال لها: ما عندي في أمرك شيء. وروى بعضهم أنه قال لها: حرّمت عليه. فقالت له: يا رسول الله، فاقتي ووجدي. فأنزل الله هذه السورة في تحريم الظّهار، وبيان حكمه، وأوعد، جلّ جلاله، من يخالف ذلك أشدّ وعيد وقد ناسب هذا السياق الكلام

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

بيان حكم الظهار الآيات [1 - 22]

على المنافقين، الذين يحادّون الله ورسوله، لتحذيرهم من مخالفة ما جاء في الظّهار وغيره من الأحكام، ولتوبيخهم على ما يتناجون به فيما بينهم، من الإثم والعدوان، ومعصية النبي (ص) وبهذا تشارك هذه السورة سورة «الحديد» ، في معالجتها أحوال أولئك المنافقين، ويكون ذكرها بعدها لهذه المناسبة. بيان حكم الظهار الآيات [1- 22] قال الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) ، فذكر أحكام الظّهار وختمها، بقوله تعالى: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) ثم أوعد، جلّ وعلا، الذين يحادّون في هذا ونحوه من المنافقين، بأنّه سبحانه سيخذلهم كما خذل أمثالهم من قبلهم، ولهم بعد هذا عذاب مهين، يوم يبعثهم فينبّئهم بما يكيدون به للإسلام في سرّهم، لأنه يعلم ما في السماوات والأرض، ولا يخفى عليه شيء مما يتناجى به الناس فيما بينهم. ثم ذكر عزّ وجلّ أنه نبأهم عمّا يفعلونه في نجواهم، فعادوا إليها، وتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية النبي (ص) ، فأعاد نهيهم عن هذه النّجوى الآثمة، وأمرهم أن يتناجوا بالبرّ والتقوى، وأن يتأدّبوا في مجالسهم مع النبي (ص) فإذا قيل لهم تفسّحوا فيها فسحوا، وإذا قيل لهم انشزوا منها نشزوا ثمّ أمرهم سبحانه، إذا أرادوا مناجاة النبي (ص) بشيء، أن يقدّموا بين يدي نجواه صدقة تطهّر قلوبهم، فلا يناجونه إلّا بما فيه خير ومصلحة لهم، فإذا لم يجدوا ما يتصدّقون به لفقرهم، فإنه سبحانه يعفو عنهم، وإذا أشفقوا أن يتصدّقوا حرصا على مالهم وتاب عليهم فلم يكلّفهم بذلك، فليحافظوا على ما وجب عليهم من الصلاة والزكاة ونحوهما، ولا يفرّطوا فيها كما فرّطوا في تلك الصدقة ثم وبّخ أولئك المنافقين على موالاتهم لليهود الذين يؤلّبونهم على إخوانهم، وهم أجانب لا يريدون بهم خيرا وذكر أنهم يوالونهم في السّر ويحلفون كذبا أنهم لا يوالونهم، وأوعدهم على ذلك بما أوعدهم به إلى أن ختم السورة

بتحذير المؤمنين منهم فقال تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"المجادلة"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المجادلة» «1» أقول: لما كان في مطلع «الحديد» ذكر صفاته الجليلة، ومنها: الظاهر والباطن، وقوله سبحانه في [الآية 4] منها: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، افتتح هذه بذكر أنه سبحانه سمع قول المجادلة التي شكت الى الرسول (ص) ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها، حين نزلت: «سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي ناحية البيت لا أعرف ما تقول» «2» . وذكر بعد ذلك قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [الآية 7] . وهو تفصيل لقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: 4] . وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين «الحديد» و «الحشر» ، مع تأخيهما في الافتتاح ب «سبح» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . أخرجه البخاري في التوحيد: 9: 144 وابن ماجة في المقدمة: 1: 67 والإمام أحمد في المسند: 6: 46 وابن جرير في التفسير: 28: 5، 6.

المبحث الرابع مكنونات سورة"المجادلة"

المبحث الرابع مكنونات سورة «المجادلة» «1» 1- قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ [الآية 1] هي خولة بنت ثعلبة. 2- فِي زَوْجِها [الآية 1] هو أوس بن الصّامت. كما في «المستدرك «2» » عن عائشة. وعند ابن أبي حاتم عن أبي العالية: خولة بنت دليج «3» . 3- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى [الآية 8] . هم اليهود. نهاهم النبي (ص) عمّا كانوا يفعلون في تناجيهم، «أي تحدّثهم» سرّا ناظرين إلى المؤمنين ليوقعوا في قلوبهم الريبة. 4- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً [الآية 14] . قال السّدّيّ: بلغنا أنها نزلت في عبد الله بن نبتل من المنافقين. أخرجه ابن أبي حاتم. 5- لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ [الآية 22] . أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عبد العزيز، عن عمر بن الخطاب

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . 2: 481 للحاكم وصحّحه، وأقرّه الذهبي. ووقع في رواية قتادة عند الطبري 28: 3: «خويلة» . وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» 13: 374: «وهذا يحمل على أن اسمها كان ربما صغّر» . (3) . قاله الحافظ في «فتح الباري» 13: 374.

قال: لو كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته «1» . قال سعيد: وفيه أنزلت هذه الآية، حينما قتل أباه. وأخرج عن ابن شوذب قال: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، حينما قتل أباه يوم بدر. وقال ابن عسكر: روى ابن فطيس، عن ابن عبّاس، أنّ الآية عنى بها جماعة من الصحابة. فقوله تعالى: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ [الآية 22] يريد أبا عبيدة، لأنه قتل أباه يوم أحد. أَوْ أَبْناءَهُمْ [الآية 22] يريد أبا بكر، لأنه دعى ابنه للبراز يوم بدر، فأمره رسول الله (ص) أن يقعد. أَوْ إِخْوانَهُمْ [الآية 22] يريد مصعب بن عمير، لأنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد. أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [الآية 22] يريد عليّا ونحوه ممن قتلوا عشائرهم.

_ (1) . قال ذلك عمر، حينما جعل الأمر شورى بعده، في أولئك الستة رضي الله عنهم، كما في «تفسير ابن كثير» 4: 329.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"المجادلة"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المجادلة» «1» 1- قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الآية 5] . وقوله تعالى: يُحَادُّونَ أي: يعادون ويشاقّون. أقول: الفعل «حادّ» على «فاعل» والإدغام واجب جرت عليه العربية، فأما قوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ [النساء: 115] ، فقد فكّ الإدغام فيه لحاجة صوتية يقتضيها حسن الأداء «2» ، والله أعلم. وأما قوله تعالى: كُبِتُوا فمعناه: أخزوا وأهلكوا. أقول: هذا معنى «الكبت» في لغة التنزيل، ولا أدري كيف أدرك المعاصرون من أصحاب علم النفس هذه المادة، فصنعوا منها مصطلحا، هو «الكبت» بمعنى أن الإنسان يكظم ويخفي من الأفكار والمعضلات والهموم، ما يدفعه إلى سلوك خاص أو تصرّف مشين. والذي أراه في هذه الحال أن يلجأ إلى كلمة أخرى، هي «الزّمّ» التي تفي بمعنى الإخفاء والكظم ... 2- وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [الآية 8] . أقول: «النّجوى» هي المسارّة، وتكون في الخير والشر، والمراد بها في الآية «النجوى» التي هي الإثم والكفر، ويدلّنا على ذلك الفعل في الآية الكريمة: وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . على أنه ورد قوله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) [الحشر] .

وإذا جئنا إلى الآية اللاحقة وجدنا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى [الآية 9] . 3- وقال تعالى: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [الآية 11] . وقوله تعالى: انْشُزُوا أي: انهضوا. أقول: كأنّ الفعل قد أخذ من «النّشز» ، وهو ما ارتفع من الأرض، والناهض من مكانه كأنه يرتفع. وعلى هذا قرئ قوله تعالى: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) [الملك] ، بزاي معجمة. كما جاء قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [البقرة: 259] . 4- وقال تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ [الآية 13] . وقوله تعالى: بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ استعارة ممّن له يدان. والمعنى: قبل نجواكم، كقول عمر: من أفضل ما أوتيت العرب الشعر، يقدّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم، ويستنزل به اللئيم. يريد: قبل حاجته.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"المجادلة"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المجادلة» «1» قال تعالى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ [الآية 2] خفيفة، ومن ثقّل جعلها من «تظهّر» ثم أدغم التاء في الظاء. وقوله تعالى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [الآية 3] المعنى: «فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا، فمن لم يجد فإطعام ستين مسكينا، ثمّ يعودون لما قالوا «2» : «أن لا نفعله» «فيفعلونه» هذا الظّهار، يقول «هي عليّ كظهر أمّي» وما أشبه هذا من الكلام، فإذا أعتق رقبة أو أطعم ستين مسكينا، عاد لهذا الذي قد قال: «إنّه عليّ حرام» ففعله «3» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . تسلسل الكلام في القرآن الكريم هو وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الآية 3] فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [.....] (3) . نقله في المشكل 2: 721، والجامع 17: 282.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"المجادلة"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المجادلة» «1» إن قيل: لأي معنى خص الله تعالى الثلاثة والخمسة بالذكر في النّجوى دون غيرهما من الأعداد في قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ [الآية 7] ؟ قلنا: لأنّ قوما من المنافقين، تخلّفوا للتّناجي على هذين العددين مغايظة للمؤمنين، فنزلت الآية على صفة حالهم، تعريضا بهم، وتسميعا لهم وزيد فيها ما يتناول كلّ متناجيين غير تينك الطائفتين، وهو قوله تعالى: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ [الآية 7] . فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) ؟ قلنا: فائدته الإخبار عن المنافقين أنّهم يحلفون على أنهم ما سبّوا رسول الله (ص) وأصحابه، مع اليهود، كاذبين متعمدين للكذب، فهي اليمين الغموس «2» ، فكان ذلك نهاية في بيان ذمّهم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. (2) . اليمين الغموس: اليمين الكاذبة تغمس صاحبها في الإثم. يقال: غموس، وغموص.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"المجادلة"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المجادلة» «1» يقول تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا [الآية 7] . ظاهر هذا الكلام: محمول على المجاز والاتساع لأنّ المراد به إحاطته تعالى بعلم نجوى المتناجين، ومعاريض المتخافتين فكأنّه سبحانه يعلم جميع ذلك، سامع للحوار، وشاهد للسّرار. ولو حمل هذا الكلام على ظاهره لتناقض. ألا ترى أنه تعالى لو كان رابعا لثلاثة في مكان على معنى قول المخالفين، استحال أن يكون سادسا لخمسة في غير ذلك المكان إلّا بعد أن يفارق المكان الأوّل، ويصير إلى المكان الثاني فينتقل كما تنتقل الأجسام، ويجوز عليه الزوال، والمقام، تنزّه سبحانه عن هذا السياق، وهذا واضح بحمد الله وتوفيقه. وفي قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [الآية 12] استعارة. وقد مضت لها نظائر كثيرة. والمراد بقوله تعالى: بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ أي أمام نجواكم، وذلك كقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف: 57] أي مطرقة أمام الغيث الوارد، ومبشّرة بالخير الوافد. وفي قوله سبحانه: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 16]

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

استعارة. والكلام وارد في شأن المنافقين. والمراد أنهم جعلوا إظهار الإيمان الذي يبطنون ضدّه جنّة، يعتصمون بها ويستلئمون «1» فيها تعوّذا بظاهر الإسلام الذي يسع من دخل فيه، ويعيذ من تعوّذ به. وفي قوله سبحانه: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) . استعارة. والمراد بالكتابة هاهنا الحكم والقضاء. وإنّما كنى تعالى عن ذلك بالكتابة، مبالغة في وصف ذلك الحكم بالثبات، وأنّ بقاءه كبقاء المكتوبات. وفي قوله سبحانه: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [الآية 22] استعارتان، إحداهما قوله تعالى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، ومعناه أنه ثبّته في قلوبهم، وقرّره في ضمائرهم، فصار كالكتابة الباقية، والرّقوم الثابتة، على ما أشرنا إليه من الكلام على الاستعارة المتقدّمة. وذلك كقول القائل: هو أبقى من النقش في الحجر، ومن النقش في الزّبر. والاستعارة الأخرى قوله تعالى: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ولذلك وجهان: إمّا أن يكون المراد بالروح هاهنا القرآن، لأنه حياة في الأديان، كما أنّ الروح حياة في الأبدان. وقال سبحانه: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] والمراد القرآن. والوجه الاخر أن يكون الروح هاهنا معنى النّصر والغلبة والإظهار للدّولة. وقد يعبّر عن ذلك بالريح. والرّوح والريح يرجعان إلى معنى واحد. وقال سبحانه: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46] أي دولتكم واستظهاركم.

_ (1) . يستلئم: أي يلبس الدرع.

سورة الحشر 59

سورة الحشر 59

المبحث الأول أهداف سورة"الحشر"

المبحث الأول أهداف سورة «الحشر» «1» سورة الحشر سورة مدنية، آياتها 24 آية، نزلت بعد سورة البيّنة. نزلت هذه السورة في بداية السنة الرابعة من الهجرة، بعد غزوة أحد، وقبل غزوة الأحزاب، وهي تحكي قصّة غزوة بني النضير، ولكنّها، على طريقة القرآن الكريم، تحكي أحداث الغزوة، وما صاحب هذه الأحداث وتربّي النفوس وتؤكد على معالم الإيمان، وبذلك يكون القصص هادفا، ورواية الأحداث وسيلة عملية لتقويمها، ومعرفة حكم الله فيها، واستنباط العظة والعبرة منها. والقرآن الكريم فيه القصة، وفيه أحداث التاريخ، وفيه العظة والعبرة، وفيه الحكم والتشريع، وفيه التهذيب والتربية، وقد استطاع أن يمزج ذلك كلّه بطريقته الخاصة، ليصل به إلى قلب المؤمن، وليسهم في بناء الفرد الصالح والأسرة الصالحة، والمجتمع الصالح والأمة الصالحة. قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] . غزوة بني النضير قدم رسول الله (ص) المدينة ومعه رسالته الهادية، وقد آمن به جمع من المهاجرين والأنصار، ثم عقد معاهدات مع يهود المدينة على حرّية الأديان، وعلى المعايشة السلمية في

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

المدينة، وعلى ألّا يكون اليهود لا عليه ولا له. «وكان يهود بنو النضير حلفاء الخزرج، وبينهم وبين المسلمين عهود خاصة يأمن بها كل منهم الاخرة» لكنّ بني النضير لم يوفوا بهذه العهود، حسدا منهم وبغيا، فقد ذهب رسول الله (ص) في عشرة من أصحابه الى محلة بني النضير، يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين، بحكم ما بينه وبينهم من عهود، فاستقبله اليهود بالبشر والتّرحاب، ووعدوا بأداء ما عليهم بينما كانوا يدبّرون أمرا لاغتيال رسول الله (ص) ومن معه، وكان (ص) ، جالسا إلى جدار من بيوتهم، فقال بعضهم لبعض: إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فهل من رجل منكم يعلو هذا البيت فيلقي صخرة عليه فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا لذلك، فصعد ليلقي صخرة على رسول الله (ص) ، فاطّلع (ص) على قصدهم، فقام كأنّما ليقضي أمرا فلما غاب استبطأه من معه، فخرجوا من المحلّة يسألون عنه، فعلموا أنه دخل المدينة. وأمر رسول الله (ص) ، بالتهيؤ لحرب بني النّضير، لظهور الخيانة منهم، ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم، وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف، من بني النضير، في هجاء رسول الله (ص) وما قيل من أنّ كعبا ورهطا من بني النضير، اتصلوا بكفار قريش اتصال تامر وتحالف وكيد، ممّا جعل رسول الله (ص) يأذن لمحمد ابن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف، فقتله. فلما كان التبييت للغدر برسول الله (ص) في محلة بني النضير، لم يبق مفر من نبذ عهدهم. ثم أرسل النبي (ص) إليهم، محمد بن مسلمة ليقول لهم اخرجوا من بلادي فقد هممتم بالغدر. وتجهز الرسول (ص) لقتال بني النضير، وحاصر محلّتهم، وأمهلهم ثلاثة أيام، وقيل عشرة، ليفارقوا المدينة، على أن يأخذوا أموالهم، ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم. وتهيّأ بنو النضير للرحيل ولكنّ المنافقين في المدينة، أرسلوا إليهم يحرّضونهم على الرفض والمقاومة، وقالوا لهم لا تخرجوا من دياركم، وتمنّعوا في حصونكم ونحن معكم إن

قوتلتم قاتلنا معكم وان أخرجتم خرجنا معكم وقد حكى القرآن عمل المنافقين وشهّر بنفاقهم وكذبهم، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) . وقد طمع اليهود في معونة المنافقين ومؤازرتهم، فتحصّنوا في حصونهم، وتأخروا عن الجلاء، وظنوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله، فحاصرهم (ص) وضيّق عليهم الخناق، ثم أمر بقطع نخيلهم ليكون ذلك أدعى الى تسليمهم، ثم قذف الله الرعب في قلوب اليهود، ولم يجدوا معونة من المنافقين، ويئسوا من صدق وعودهم، فسألوا رسول الله (ص) أن يجليهم ويكف عن دمائهم، وأنّ ما لهم ممّا حملت الإبل من أموالهم إلّا آلة الحرب. فأجابهم النبي (ص) إلى طلبهم، وصار اليهود يخرّبون بيوتهم بأيديهم، كي لا يسكنها المسلمون. ولمّا سار اليهود، نزل بعضهم بخيبر، ومن أكابرهم حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق. ومنهم من سار الى أذرعات بالشام، وقد أسلم منهم اثنان: يامين بن عمرو، وأبو سعد بن وهب. وكانت أموال بني النضير فيئا خالصا لله وللرسول، ولم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فقسّمها رسول الله (ص) بين المهاجرين خاصة، دون الأنصار، عدا رجلين من الأنصار فقيرين، هما سهل بن حنيف، وأبو دجانة سماك بن خرشة وكان المهاجرون قد تركوا بلادهم وأموالهم، وهاجروا فرارا بدينهم الى المدينة وقد استقبلهم الأنصار، بالبشر والتّرحاب، والمعونة الصادقة، والإيثار الكريم. فلما فاتت الفرصة، وزّع النبي (ص) الفيء على المهاجرين خاصة لتحسين أحوالهم المادّية، ولكي لا يكون المال متداولا بين الأغنياء وحدهم. قال تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ

تسلسل أفكار السور

وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) . تسلسل أفكار السور 1- وصفت سورة الحشر حصار بني النضير، وعناية الله بالمؤمنين، وانتهاء الحصار بجلاء اليهود وانتصار المؤمنين. [الآيات 1- 4] . 2- تحدّثت عن قطع المسلمين للنخيل، وبيّنت أنّ ذلك كان بأمر الله سبحانه، ليذلّ به اليهود، ويخزي الفاسقين. [الآية 5] . 3- ذكرت حكم الفيء والغنائم، التي غنمها المسلمون من بني النضير، وبينت أنّها توزع على المهاجرين لسدّ حاجتهم، ولا يعطى الأنصار منها شيئا، لأنها ليست غنيمة حرب، استخدم فيها الكر والفر وركوب الإبل والخيل، ولكنّها غنيمة حصار محدود، انتهى بتسليم اليهود، بعد أن ألقى الله سبحانه الرعب في قلوبهم. [الآيتان 6- 7] . 4- باركت السورة كفاح المجاهدين، وخروجهم من مكة إلى المدينة، حفاظا على الدين وفداء للعقيدة، كما باركت كرم الأنصار وأريحيّتهم، ووصفتهم بالسماحة والإيثار، والمحبة للبذل والعطاء. كما باركت الأجيال اللاحقة، التي ولدت في محاضن الدعوة، وكانت ثمرة كريمة، لتربط المهاجرين والأنصار [الآيات 8- 10] . 5- حملت السورة على المنافقين، وكشفت نفاقهم وكيدهم واتهمتهم بالجبن والصّغار. [الآيات 11- 13] . 6- بينت أن اللقاء بين المنافقين وأهل الكتاب، لقاء في الظاهر فقط، وبينهم من العداوة والإحن ما يظهر في الشدائد: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الآية 14] . 7- أشارت إلى قصة الشيطان مع عابد قيل إنّه يسمى برصيصا، أغراه الشيطان بارتكاب الفاحشة، ثم استدرجه الى الكفر، ثم تولى عنه وخذله، ومثله كمثل المنافقين، زيّنوا لليهود المقاومة، والتحصّن، ضد المسلمين، ثم خذلوهم. [الآية 16] . 8- في الجزء الأخير، تلتفت السورة الى المؤمنين، فتأمرهم بالتقوى

المقصد الإجمالي للسورة

والعمل الصالح، وتبيّن فضل القرآن الكريم وأثره في هداية القلوب. [الآيات 18- 21] . تختم السورة بذكر أسماء الله الحسنى، فهو سبحانه مالك الملك، الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ تقدّست أسماؤه، وتنزهت عن النقص السَّلامُ الذي يشمل عباده بالأمان والطمأنينة ويمنحهم السلامة والراحة، الْمُؤْمِنُ واهب الأمن وواهب الايمان، الْمُهَيْمِنُ الرقيب على كل شيء الْعَزِيزُ الغالب، الْجَبَّارُ القاهر، الْمُتَكَبِّرُ البليغ الكبرياء والعظمة، الْخالِقُ الْبارِئُ الموجد، الْمُصَوِّرُ خالق الصور للكائنات. ومن معناها إعطاء الملامح المتميزة، والسمات التي تمنح لكل شيء شخصيته الخاصة، لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الدالة على الصفات العالية، والكمال المطلق، فهو سبحانه متصف بكل كمال، ومنزّه عن كل نقص. المقصد الإجمالي للسورة قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة الحشر هو: الخبر عن جلاء بني النضير، وقسم الغنائم، وتفصيل حال المهاجرين والأنصار، والشكاية من المنافقين في واقعة بني قريظة وذكر برصيصا «1» والنظر الى العواقب وتأثير نزول القرآن الكريم وذكر أسماء الحق تعالى وصفاته وبيان أن جميع المخلوقات تدل على عظمته وكماله وتنزيهه، في قوله سبحانه: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) . النظام الاقتصادي في الإسلام أشارت الآية السابعة، من سورة الحشر، إلى الحكمة من توزيع الفيء على المهاجرين وحدهم، دون الأغنياء من أهل المدينة، بقوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي كي

_ (1) . حمل بعضهم عليه الآية 16 من سورة الحشر، حيث استدرجه الشيطان إلى المعصية ثم الى الشرك ثم تخلى عنه، وذلك أن الشيطان ذهب الى بنت فخنقها حتى مرضت. ثم أفهم أهلها أن شفاءها عند ذلك العابد، فتركها أهلها عنده في صومعته ليرقيها، فلما شفيت وسوس له الشيطان حتى ارتكب معها الفحشاء، فلما انكشف أمره، أخذ ليصلب، فطلب منه الشيطان أن يسجد له، حتى ينجو من الصلب، فسجد للشيطان، ثم مات كافرا.

لا يكون الفيء، أي الغنيمة، متداولا بين الأغنياء دون الفقراء. وهذه قاعدة هامة، من قواعد النظام الاقتصادي في الإسلام. وقد احترم الإسلام الملكية الفردية، لأنها حافز طبيعي للعمل والإنتاج، ولكنّه قلّم أظفار هذه الملكية، وحارب جبروت المال وطغيانه، بما يأتي: 1- فرض الإسلام الزكاة، وجعلها نسبة متفاوتة حسب التعب في كسب المال. فزكاة المال نسبتها 2: 21 في المائة، وكذلك زكاة التجارة 2: 21 في المائة من رأس المال، وزكاة الزراعة 5 في المائة، أو 10 في المائة. وقريب منها زكاة الماشية، وزكاة الرّكاز، وهو المال، أو البترول، أو المعادن والكنوز التي توجد في باطن الأرض، نسبتها 20 في المائة. وهكذا، كلما كان عمل العبد أظهر، كانت نسبة الزكاة أقل وكلّما كان عمل القدرة الإلهية أظهر كانت نسبة الزكاة أكثر، فكانت النسبة 20 في المائة في الرّكاز و 2: 21 في المائة في التجارة ... إلخ. 2- حرّم الإسلام الرّبا والاحتكار، وهما الوسيلتان الرئيستان، لجعل المال دولة بين الأغنياء، أي يتداوله الأغنياء، ولا يصل إليه الفقراء. 3- جعل للإمام الحقّ في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء، فيردّها على الفقراء وأن يفرض الضرائب في أموال الأغنياء، عند خلوّ بيت المال. 4- جعل هناك صدقات موسمية مثل صدقة الفطر، والأضحية والهدف في الحج، والكفّارات مثل كفّارة اليمين، والظّهار والفطر في رمضان، وكلّها تنتهي الى إطعام المساكين أو كسوتهم والتوسعة عليهم. 5- حث الإسلام على الصدقة والترحم والتكافل، والمودة والتعاطف بين الناس وبذلك نجد أن النظام الاقتصادي في الإسلام نظام متميز، ليس فيه مساوئ الرأسمالية أو الشيوعية، بل فيه محاسنهما مع التجرّد من عيوبهما، وذلك نظام العليم الخبير، البصير بالنفوس الذي أعطى الإنسان حقّ التملك، ثم جعله موظّفا في ماله، يجب عليه أن ينفق، وأن

يتصدّق عن طواعية، ورغبة في الثواب العاجل والآجل، قال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد: 7] وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) [البقرة] .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الحشر" تاريخ نزولها ووجه تسميتها

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحشر» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الحشر بعد سورة البيّنة ونزلت سورة البيّنة فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك فيكون نزول سورة الحشر في ذلك التاريخ أيضا والحقّ أنها من السّور التي نزلت فيما بين غزوة بدر وصلح الحديبية، لأنها نزلت في غزوة بني النّضير، وكانت هذه الغزوة في السنة الرابعة من الهجرة. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في [الآية 2] منها هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ وتبلغ آياتها أربعا وعشرين آية. الغرض منها وترتيبها نزلت هذه السورة، في غزوة بني النضير من يهود المدينة وكانوا قد نقضوا عهدهم مع النبي (ص) فأمرهم أن يخرجوا من المدينة فأبوا، وبعث إليهم عبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين ألّا يخرجوا، فإن قاتلهم المسلمون كانوا معهم عليهم، وإن أخرجوهم خرجوا معهم فحاصرهم المسلمون، حتى رضوا أن يخرجوا من المدينة، على أنّ لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلّا آلة الحرب، ولم يفعل المنافقون شيئا مما وعدوهم به، وبهذا يظهر وجه ذكر هذه السورة بعد سورة المجادلة، لأن الكلام فيهما يتناول ما كان من موالاة المنافقين لليهود.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

الكلام على غزوة بني النضير الآيات [1 - 4]

الكلام على غزوة بني النضير الآيات [1- 4] قال الله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) ، فذكر تسبيح ما في السماوات وما في الأرض له، وأنه سبحانه عزيز حكيم ومهّد بهذا لما أراده من بيان فضله على المسلمين في هذه الغزوة فذكر جلّ شأنه، أنه هو الذي أخرج بني النضير من ديارهم لأول الحشر، الذي سيكون بإخراج اليهود جميعهم من جزيرة العرب وكان المسلمون لا يظنّون أن يخرجوا، وكانوا هم يظنون أنّ حصونهم تمنعهم من الله، فقذف في قلوبهم الرعب حتى رضوا بالخروج ولولا هذا لعذّبوا في الدنيا بالقتل، ولهم في الاخرة عذاب النار ثم ذكر سبحانه أنّ ما قطعه المسلمون من أشجارهم قبل الصلح، وما تركوه منها كان بإذنه، وكان في أنفسهم شيء ممّا قطعوه منها، ولعلّهم ندموا على قطعها بعد أن صار ما بقي منها لهم ثم ذكر تعالى أنّ ما أفاءه عليهم من أموالهم لم يكن بقتال وأنّ حكم ما أفاءه عليهم بغير قتال أن يكون سهم منه لله والرسول، ينفق في عمارة المساجد ونحوها، وسهم لذوي القربى، وهم بنو هاشم وبنو المطّلب، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل، فلا يأخذ لأغنياء منه شيئا، وإنّما يأخذه فقراء المهاجرين، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم تعويضا لهم وقد أثنى سبحانه عليهم في هجرتهم وتضحيتهم بأموالهم، وأثنى بعدهم على الأنصار الذين آووهم في دار هجرتهم، وطابت نفوسهم بتوزيع أموال بني النّضير عليهم وأثنى بعد الفريقين على من يجيء بعدهم، ويسلك سبيلهم، في ما كان من تضحية وإيثار وتحابّ ثم ذكر ما كان من قول المنافقين لبني النضير لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الآية 11] وذكر سبحانه أنهم كاذبون في وعدهم لهم، فلئن أخرجوا لا يخرجون معهم، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولّنّ الأدبار جميعا لأنهم يرهبون المسلمين أشد من رهبتهم من الله، فلا يقاتلونهم إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر لأنهم ضعاف بسبب عداوة بعضهم لبعض، فيحسبهم من ينظر إليهم أنهم على وفاق، ولكنّ قلوبهم مختلفة

متفرّقة فمثلهم في ذلك كمثل أهل بدر من قبلهم، حينما ذاقوا وبال أمرهم، ولم يغن بعضهم عن بعض شيئا، وكمثل الشيطان حينما يغوي الإنسان على الكفر، ثم يتبرأ منه: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) . ثم أمر، سبحانه، المؤمنين بتقواه، وأن ينظر كل واحد منهم ما قدّمه لغده ونهاهم أن يكونوا كأولئك المنافقين واليهود، والذين نسوه فأنساهم أنفسهم. ثم يمضي السياق بعد ذلك إلى تعظيم شأن القرآن الذي ينزل بمثل هذه الآيات والمواعظ. فذكر تعالى أنه لو أنزله على جبل لتصدّع من خشية منزله، وأتبع ذلك بشرح عظمته، جلّت قدرته، فذكر من صفاته ما ذكر، إلى أن ختمها بقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الحشر"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحشر» «1» آخر سورة المجادلة نزل فيمن قتل أقرباؤه من الصحابة يوم بدر «2» ، وأوّل الحشر نزل في غزوة بني النضير «3» وهي عقبها، وذلك نوع من المناسبة والربط. وفي آخر المجادلة: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [الآية 21] . وفي أول هذه: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الآية 2] . وفي آخر المجادلة، الآية 22، ذكر من حادّ الله ورسوله «4» ، وفي أول هذه ذكر من شاقّ الله ورسوله «5» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وهو قوله تعالى من الآية 22: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ. وقيل هم: أبو عبيدة قتل أباه يوم بدر، وأبو بكر همّ بقتل ولده عبد الرحمن، ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيدا، وعمر قتل قريبا له، وحمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عقبة وشيبة والوليد بن عتبة (طبقات ابن سعد: 3: 1: 300) . (3) . وذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الآية 2] . وأخرج البخاري في التفسير: 6: 183، ومسلم في التفسير: 8: 245 عن ابن عباس، أنّ أول الحشر أنزلت في بني النضير. (4) . وذلك قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. (5) . وذلك قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الآية 4] .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الحشر"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الحشر» «1» 1- أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الآية 2] . هم بنو النّضير «2» . 2- لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الآية 2] . قال ابن عبّاس: هو الشّام. أخرجه ابن أبي حاتم «3» . 3- مِنْ أَهْلِ الْقُرى [الآية 7] . قال مقاتل: يعني قريظة والنّضير وخيبر. أخرجه ابن أبي حاتم. 4- إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ [الآية 16] . هو برصيصا العابد. ذكره ابن كثير «4» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....] (2) . أخرجه البخاري (4882) في التفسير عن ابن عبّاس موقوفا. (3) . والطبري في «تفسيره» 28: 19، عن عدد من الرواة. (4) . في «تفسيره» 4: 341.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الحشر"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحشر» «1» 1- قال تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ [الآية 6] . أقول: الإيجاف من الوجيف وهو السير السريع. ومعنى قوله تعالى: فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ، أي ما أوجفتم على تحصيله وغنمه، خيلا ولا ركابا، ولا تعبتم في القتال عليه، وإنّما مشيتم على أرجلكم. والمعنى: أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النّضير، لم تحصّلوه بالقتال والغلبة، ولكن سلّطه الله عليهم، وعلى ما في أيديهم، كما كان يسلّط رسله على أعدائهم. 2- وقال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الآية 9] . أقول: الخصاصة الخلّة، وأصلها خصاص البيت، أي: فروجه. وهذه الخلّة، أي: الفرجة استعيرت للحاجة أو الفقر، فكأن صاحبها به مثل هذا النقص.. 3- وقال تعالى: وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الآية 14] أي متفرقة. أقول: كأنّ قوله تعالى: شَتَّى جمع شتيت، وقد أنسي المفرد فاستعملت الكلمة استعمال المفرد صفة. ونظير هذا كلمة «فوضى» أقول: لعلها في الأصل فضّى جمع فضيض!

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الحشر"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحشر» «1» قال تعالى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ [الآية 2] أي: «فجاءهم أمر الله» ، وقال بعضهم أي: آتاهم العذاب، لأنك تقول: «أتاه» و «آتاه» كما تقول: «ذهب» و «أذهبته» . وقال تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [الآية 5] وهي من «اللّون» في الجماعة، وواحدته «لينة» ، وهو ضرب من النخل، ولكن لمّا انكسر ما قبلها انقلبت الى الياء. وقال تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ [الآية 6] تقول: «فاء عليّ كذا وكذا» و «أفاءه الله» كما تقول: «جاء» و «أجاءه الله» وهو مثل «ذهب» وأذهبته» . وقال تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً [الآية 7] و «الدّولة» في هذا المعنى أن يكون ذلك المال مرّة لهذا، ومرّة لهذا، وتقول: «كانت لنا عليهم الدّولة» . وأمّا انتصابها، فعلى تقدير «كي لا يكون الفيء دولة» و «كي لا تكون دولة» أي: «لا تكون الغنيمة دولة» ويزعمون أنّ «الدولة» أيضا في المال، لغة للعرب، ولا تكاد تعرف «الدولة في المال» . وقال تعالى: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الآية 9] أي: ممّا أعطوا. وقال تعالى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ [الآية 12] برفع الاخر لأنه معتمد لليمين، لأن هذه اللام التي في أول الكلام، إنّما تكون لليمين كقول

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

الشاعر «1» [من الطويل، وهو الشاهد السبعون بعد المائتين] : لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذن لا أقيلها وقال تعالى: أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها [الآية 17] بنصب «خالدين» على الحال و (في النار) خبر. ولو كان في الكلام «إنّهما في النار» كان الرفع في «خالدين» جائزا. وليس قولهم: إذا جئت ب «فيها» مرتين فهو نصب «بشيء» إنّما «فيها» توكيد جئت بها، أو لم تجئ بها، فهو سواء. ألا ترى أنّ العرب كثيرا ما تجعله حالا إذا كان «فيها» التوكيد، وما أشبهه. وهو في القرآن منصوب في غير مكان. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [البيّنة: 6] .

_ (1) . هو كثير بن عبد الرحمن ديوانه 305، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 412، والخزانة 3: 580.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الحشر"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحشر» «1» إن قيل: لم قال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الآية 9] . والإيمان ليس مكانا يتبوأ، لأن معنى التّبوّء اتخاذ المكان منزلا؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: وأخلصوا الإيمان، كقول الشاعر: علفتها تبنا وماء باردا أي وسقيتها ماء باردا. ثانيا: أنه على ظاهره بغير إضمار ولكنه مجاز، فمعناه أنهم جعلوا الإيمان مستقرّا وموطنا، لتمكّنهم منه واستقامتهم عليه، كما جعلوا دار الهجرة كذلك، وهي المدينة. فإن قيل: لم قال تعالى: وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ [الآية 12] بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم، وحرف الشرط إنّما يدخل على ما يحتمل وجوده وعدمه. قلنا: معناه: ولئن نصروهم على الفرض والتقدير، كقوله تعالى للنبي (ص) : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزّمر: 65] وقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] والله تعالى، كما يعلم ما يكون قبل كونه، فهو يعلم ما لا يكون، أن لو كان كيف يكون. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى للمؤمنين: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ [الآية 13] ، أي في صدور المنافقين أو اليهود، على اختلاف القولين، وظاهره: لأنتم أشدّ خوفا من الله، فإن كان «من» متعلّقا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

بأشدّ، لزم ثبوت الخوف لله تعالى، كما تقول: زيد أشدّ خوفا في الدار من عمرو. وذلك محال، وإن كان «من الله» متعلّقا بالخوف فأين الذي فضل عليه المخاطبون وأيضا فإن الآية تقتضي إثبات زيادة الخوف للمؤمنين، وليس المراد ذلك باتفاق المفسرين؟ قلنا: «رهبة» مصدر رهب، مبنيّ لما لم يسمّ فاعله فكأنه قيل أشدّ مرهوبية، يعني أنكم في صدورهم أهيب من الله فيها، كذا فسّره ابن عباس رضي الله عنهما، تقول زيد أشدّ ضربا في الدار من عمرو، يعني مضروبية. فإن قيل: كيف يستقيم التفضيل بأشدّية الرهبة، مع أنهم كانوا لا يرهبون الله، لأنهم لو رهبوه لتركوا النفاق والكفر؟ قلنا معناه أنّ رهبتهم في السر منكم أشدّ من رهبتهم من الله التي يظهرونها لكم وكانوا يظهرون للمؤمنين رهبة شديدة من الله تعالى. فإن قيل: لم ورد في التنزيل على لسان إبليس: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ [الآية 16] . وهو لا يخاف الله تعالى، لأنه لو خافه لما خالفه، ثم أضلّ عبيده؟ قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة الأنفال. فإن قيل ما الحكمة في تنكير النفس والغد، في قوله تعالى: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الآية 18] ؟ قلنا: أما تنكير النفس، فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدّمت للاخرة، كأنه تعالى قال: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، وأين تلك النفس. وأمّا تنكير الغد فلعظمته، وإبهام أمره، كأنه قال لغد لا يعرف كنهه لعظمه. فإن قيل: لم قال تعالى، لِغَدٍ وأراد به يوم القيامة، والغد عبارة عن يوم بينه وبيننا ليلة واحدة؟ قلنا: الغد له مفهومان: أحدهما ما ذكرتم. والثاني مطلق الزمان المستقبل ومنه قول الشاعر: وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنّني عن علم ما في غد عمي وأراد به مطلق الزمان المستقبل، كما أراد بالأمس مطلق الزمان الماضي، فصار لكل واحد منهما مفهومان ويؤيّده أيضا قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ

تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يونس: 24] وقيل إنما أطلق على يوم القيامة اسم الغد، تقريبا له، كقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1] وقوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل: 77] وكأنه تعالى قال: إن يوم القيامة لقربه يشبه ما ليس بينكم وبينه إلا ليلة واحدة، ولهذا روي عن النبي (ص) أنه قال «اعمل لليلة صبيحتها يوم القيامة» قالوا أراد بتلك الليلة ليلة الموت. فإن قيل: ما الفرق بين الخالق والبارئ، حتى عطف تعالى أحدهما على الاخر؟ قلنا: الخالق هو المقدّر لما يوجده، والبارئ هو المميّز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة. وقيل الخالق المبدئ، والبارئ المعيد.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الحشر"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحشر» «1» في قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الآية 9] . استعارة: لأن تبوّأ الدار هو استيطانها والتمكّن فيها، ولا يصحّ حمل ذلك على حقيقته في الإيمان. فلا بدّ إذن من حمله على المجاز والاتساع. فيكون المعنى أنهم استقرّوا في الإيمان، كاستقرارهم في الأوطان. وهذا من صميم البلاغة، ولباب الفصاحة. وقد زاد اللفظ المستعار هاهنا معنى الكلام رونقا. ألا ترى كم بين قولنا: استقرّوا في الإيمان، وبين قولنا: تبوّءوا الإيمان. وأنا أقول، أبدا، إن الألفاظ خدم للمعاني، لأنها تعمل في تحسين معارضها، وتنميق مطالعها. وقوله سبحانه: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الآية 21] هو على سبيل المجاز. والمعنى أن الجبل لو كان ممّا يعي القرآن، ويعرف البيان لخشع من سماعه، ولتصدّع من عظم شأنه، على غلظ أجرامه، وخشونة أكنافه. فالإنسان أحقّ بذلك منه، إذ كان واعيا لقوارعه، عالما بصوادعه.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

سورة الممتحنة (60)

سورة الممتحنة (60)

المبحث الأول أهداف سورة"الممتحنة"

المبحث الأول أهداف سورة «الممتحنة» «1» سورة الممتحنة سورة مدنية آياتها 13 آية، نزلت بعد سورة الأحزاب. قصة نزول السورة هاجر الرسول (ص) الى المدينة، واستطاع أن يؤلّف بين المهاجرين والأنصار، وأن يضع أسس الدعوة الإسلامية، وأن يصنع أمّة تميّزت بالأخلاق الكريمة، والصفات الحميدة. وقد وقف كفار مكّة في وجه الدعوة الإسلامية، ووقعت عدة معارك بين المسلمين والمشركين منها: بدر وأحد والخندق والأحزاب والحديبية. ثمّ توقّفت هذه المعارك بعد صلح الحديبية، وكان من أهم نصوص الصلح: وضع الحرب بين الفريقين عشر سنين، وأنّ من أراد أن يدخل في حلف محمد دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش دخل فيه. وعلى أثر ذلك دخلت قبيلة خزاعة في حلف رسول الله (ص) ودخلت قبيلة بكر في حلف قريش. ثمّ إنّ قريشا نقضت العهد بمساعدتها قبيلة بكر حليفتها على قتال خزاعة حليفة النبي حتّى قتلوا منهم عشرين رجلا، وقد لجأت خزاعة الى الحرم لتحتمي به، ولكنّ ذلك لم يمنع رجال بكر من متابعتها، فاستنصرت خزاعة برسول الله (ص) ، وذهب رجال منهم إلى المدينة فأخبروا رسول الله بما كان

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

حاطب يفشي السر

من غدر بكر بهم ومعاونة قريش عليهم، وأنشد عمرو بن سالم، بين يديه: يا ربّ إنى ناشد محمّدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا إنّ قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكّدا هم بيّتونا بالوتير هجّدا ... وقتلونا ركّعا وسجّدا فانصر هداك الله نصرا أيّدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فقال له رسول الله (ص) نصرت يا عمرو بن سالم. وأخذ رسول الله يتجهّز لفتح مكّة، وطوى الأخبار عن الجيش كي لا يشيع الأمر فتعلم قريش فتستعدّ للحرب، والرسول الأمين لا يريد أن يقيم حربا بمكّة، بل يريد انقياد أهلها مع عدم المساس بهم، فدعا الله قائلا: «اللهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها» . حاطب يفشي السر كان حاطب من كبار المسلمين، وقد شهد مع النبي غزوة بدر مخلصا في جهادها، ولكنّ في النفس الانسانية جوانب ضعف تطغى في بعض الأحيان عليها، وتهوي بها من المنازل العالية الى الحضيض. لقد كتب حاطب كتابا إلى قريش، يخبرهم فيه بعزم المسلمين على فتح مكّة، واستأجر امرأة من مزينة تسمّى سارة، وجعل لها عشرة دنانير مكافأة، وأمرها ان تتلطّف وتحتال حتّى توصل كتابه الى قريش، فأخذت المرأة الكتاب فأخفته، وسلكت طريقها الى مكة. ثم أخبر الله رسوله بما صنع حاطب، فأرسل النبيّ علي بن أبي طالب والزبير بن العوام في إثر المرأة، فأدركاها في الطريق، واستخرجا منها الكتاب، فأحضراه الى رسول الله (ص) فدعا رسول الله (ص) حاطبا، فأطلعه على الكتاب، ثم قال له: ما حملك على هذا؟ فقال حاطب: يا رسول الله لا تعجل عليّ، فو الله إنّي لمؤمن بالله ورسوله، ما غيّرت ولا بدّلت، ولكنّي كنت امّرأ ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم ولم أفعل ذلك ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإيمان. ورأى النبيّ صدق لهجة حاطب، وحسن نيّته في ما أقدم عليه من ذلك

فكرة السورة

الذنب، فقال لمن حوله: أما إنّه قد صدقكم في ما أخبركم به. ونظر النبيّ إلى ماضي الرجل في الجهاد، وحسن بلائه في الذود عن حرمات الإسلام، فرغب في العفو عنه. أمّا عمر بن الخطاب، فقد كبرت عليه هذه الخيانة، فنظر إلى حاطب وقال له: قاتلك الله، ترى رسول الله يخفي الأمر، وتكتب أنت إلى قريش؟ يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق. فتبسّم رسول الله، من حماسة عمر، وقال: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطّلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم. وفي هذه الحادثة أنزل الله صدر سورة الممتحنة يحذّر المؤمنين من أن يوالوا عدوّهم، أو يطلعوه على بعض أسرارهم مهما يكن السبب الذي يدفع الى ذلك، فإنّ العدوّ عدو حيثما كان، وموادّة العدوّ خيانة ليس بعدها خيانة. قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الآية 1] . فكرة السورة تسير السورة مع النفس الإنسانية، تحاول جاهدة أن تربي المسلمين تربية خاصة، عمادها الولاء للدعوة وحدها، والمودة لله، والمحبة لله، والتجمع على دعوة الله. على هذا المعنى قامت الدعوة الإسلامية، وظهر الإيثار والأخوّة بين المهاجرين والأنصار. ومن شعائر هذا الدين بغض الفاسقين والملحدين في دين الله، وقد انتهزت السورة فرصة ضعف حاطب، فجعلت ذلك وسيلة عملية لتهذيب النفوس، ورسم المثل الأعلى للمسلم. وقد عالجت السورة مشكلة الأواصر القريبة، والعصبيات الصغيرة، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة، ليخرج المسلم من الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني. «لقد كان القرآن بهذا الأسلوب في التربية ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة، وقيما جديدة، وموازين جديدة، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان ووظيفة المؤمنين في الأرض، وغاية الوجود الانساني.

تسلسل أفكار السورة

«وكان كأنما يجمع هذه النباتات الصغيرة الجديدة في كنف الله، ليعلمهم الله، ويبصّرهم بحقيقة وجودهم وغايته، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد، وليشعرهم أنّهم رجاله وحزبه، وأنه يريد بهم أمرا ويحقّق بهم قدرا، ومن ثمّ فهم يوسمون بسمته، ويحملون شارته، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا، في الدنيا والاخرة وإذن فليكونوا خالصين له، منقطعين لولايته، متجرّدين من كل وشيجة غير وشيجته في عالم الشعور وعالم السلوك» . تسلسل أفكار السورة سورة الممتحنة من أولها الى آخرها تنظم علاقة المسلمين بالمشركين، وتدعو إلى تقوية أواصر المودة بين المسلمين، وحفظ هذه الوشائج قوية متينة بين المؤمنين، وتبيّن أنّ عداوة الكافرين للمسلمين أصيلة قديمة، فقد أخرجهم كفّار مكّة من ديارهم وأهلهم وأموالهم [الآية 1] وإذا انتصر المشركون عليهم عاملوهم معاملة الأعداء، رجاء أن يعودوا بهم من الإيمان إلى الكفر، وحينئذ لا تنفعهم أرحامهم ولا أولادهم ولا تنجيهم من عقاب الله [الآيتان 1- 3] . ثم ترسم السورة قدوة حسنة بإبراهيم الخليل ومن معه من المؤمنين، حينما آمنوا بالله وأخلصوا له النية، وتجردوا من كل عاطفة نحو قومهم المشركين. وأعلنوا براءتهم من الشرك وأهله، وقد استغفر إبراهيم لأبيه، فلما تأكّد لإبراهيم إصرار أبيه على الشرك تبرّأ منه. ذلك ركب الإيمان، وطريق المؤمنين في تاريخ البشرية يتّسم بالتضحية والفداء، والاستعلاء على رغبات النفس في صلة الأقارب من المشركين فالمودّة لله وللمؤمنين [الآيات 4- 6] . ولعل الله أن يهدي هؤلاء المشركين فيدخلوا في دين الله، وبذلك تتحوّل العداوة إلى مودّة، وقد فتحت مكّة بعد ذلك، وعاد الجميع إخوة متحابّين [الآية 7] . وقد أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق، فهو نبي الهدى والسلام والإسلام في طبيعته دين سلام، فاسمه مشتقّ من السلام والله، تقدّست

أسماؤه، اسمه السلام والإسلام لا يمنع من موالاة الكفار، والبرّ بهم، وتحرّي العدل في معاملتهم، ما داموا لم يقاتلونا في الدين. ولكنّ الإسلام ينهى أشدّ النهي عن موالاة الكفّار المقاتلين أو الذين يستعدون لقتال المسلمين، ويرى كشف خطط المسلمين لهم خيانة للعقيدة وللأمة الاسلامية. «وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها الى إبراز قيمة العقيدة، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون فمن وقف معهم تحتها فهو منهم، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم، ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم، ودعوتهم، ولم يصدّ الناس عنها، ولم يحل بينهم وبين سماعها، ولم يفتن المؤمنين بها، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البرّ به والقسط معه» [الآيتان 8- 9] . وكان صلح الحديبية ينص على أنّ من جاء مسلما بدون إذن وليّه يردّه المسلمون إلى أهل مكّة، ومن جاء إلى مكّة مشركا لا يردّونه. ثمّ أسلمت نساء من أهل مكّة وجاء أزواجهنّ يطلبونهنّ، فنزلت هذه الآيات تؤيّد أنّ المرأة لا يصح أن تردّ إلى زوجها الكافر لأنها لا تحل له بعد أن آمنت بالله وبقي الزوج على الشرك، وكانت المرأة تمتحن، أي تحلف بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماسا للدنيا، وبالله ما خرجت إلّا حبّا لله ورسوله، فإذا حلفت، كان لنا الظاهر والله أعلم بالسرائر. عندئذ تعيش في المجتمع المسلم. فإن تزوجت أعاد زوجها المسلم إلى الزوج المشرك ما أنفقه عليها، وكذلك إذا ذهبت زوجة مسلمة الى المشركين مرتدّة، فإذا تزوّجت يردّ المشركون للمسلم المهر الذي دفعه لها [الآيات 10- 11] . ثمّ بيّن الله سبحانه لرسوله (ص) كيف يبايع النساء على الإيمان وقواعده الأساسية، وهي التوحيد، وعدم الشرك بالله إطلاقا، وعدم اقتراف المحرمات وهي السرقة، والزنا، وقتل الأولاد، والإتيان ببهتان يفترينه، ثم طاعة الرسول في كل ما يأمر به، أي امتثال المأمورات واجتناب المحرمات [الآية 12] . وفي ختام السورة تجد آية تجمع

مقصود السورة إجمالا

الهدف الكبير فتنهى عن موالاة من غضب الله عليهم من اليهود والمشركين [الآية 13] . مقصود السورة إجمالا قال الفيروزآبادي: معظم مقصود السورة: النهي عن موالاة الخارجين عن ملّة الإسلام، والاقتداء بالسلف الصالح في طريق الطاعة والعبادة، وانتظار المودّة بعد العداوة، وامتحان المدّعين بمطالبة الحقيقة، وأمر الرسول بكيفية البيعة مع أهل الستر والعفّة، والتجنّب من أهل الزيغ والضلالة، في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الممتحنة"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الممتحنة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الممتحنة بعد سورة الأحزاب، وكان نزولها بعد صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، فتكون من السّور التي نزلت فيما بين هذا الصلح وغزوة تبوك. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في [الآية 10] منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ وتبلغ آياتها ثلاث عشرة آية. الغرض منها وترتيبها يقصد من هذه السورة نهي المؤمنين عن موالاة المشركين بعد نهيهم عن موالاة اليهود، وكان المسلمون قد عقدوا مع قريش هدنة في صلح الحديبية لمدة أربع سنين، فنزلت هذه السورة بعد هذا الصلح ليفهمه المسلمون على حقيقته، لأنّه لم يقض على ما بين الفريقين من عداء، وإنّما كان اتّفاقا على وضع الحرب بينهم هذه المدّة، ولا شكّ في أنّ هذه السورة تشبه سورة الحشر في نهي المؤمنين عن موالاة غيرهم، وهذا هو وجه المناسبة بينهما. النهي عن موالاة المشركين الآيات [1- 13] قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الآية 1]

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

، فنهاهم عن موالاة المشركين الذين أخرجوهم من ديارهم، ووبّخ من يسرّ إليهم بالمودة من المنافقين، وذكر أنهم إن يلتقوا بهم يكونوا لهم أعداء ويؤذوهم بالفعل والقول، وهدّدهم إذا راعوا في ذلك ما بينهم من قرابة بأنها لن تنفعهم يوم القيامة، بل يفصل فيها بينهم، ولا ينتفع بعضهم بقرابة بعض، ثمّ أخبرهم، جلّ وعلا، بما كان من إبراهيم والذين معه إذ تبرّأوا من قومهم وعادوهم، ليكون لهم قدوة حسنة فيهم ثم ذكر أنهم إذا عادوهم ترجى مودّتهم بإسلامهم، لأنّ العداوة قد تكون سببا في المودّة، ثم ذكر، سبحانه، أنه لا ينهاهم عن موالاة الذين لم يقاتلوهم في الدّين، ولم يخرجوهم من ديارهم، وإنّما ينهاهم عن موالاة الذين فعلوا ذلك معهم. وكان في صلح الحديبية أن يردّ النبي (ص) على قريش من يهاجر إليه منهم، فجاءته سبيعة بنت الحارث مسلمة، وهو لا يزال بالحديبية، فأقبل زوجها يطلب ردّها إليه على ما جاء في الصلح بينهم، وكذلك فعل غيرها من النساء، فجاء أهلهن يطلبون ردّهن، فأجابهم النبي (ص) بأن هذا الشرط في الرجال دون النساء، وذكر الله تعالى في ذلك أنه إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات فليمتحنوهنّ، فإن علموهنّ مؤمنات لا يرجعوهنّ إلى الكفّار، لأنّهنّ محرّمات عليهم، وهم محرّمون عليهنّ وأحلّ للمسلمين أن ينكحوهنّ إذا دفعوا لهنّ مهورهنّ، إلى غير هذا ممّا ذكره في أمرهنّ ثمّ أمر النبي (ص) إذا جاءه المؤمنات مهاجرات يبايعنه، ألّا يشركن، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان من نميمة أو نحوها، ولا يعصينه في معروف أن يبايعهنّ ويستغفر لهنّ الله، إنّ الله غفور رحيم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الممتحنة"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الممتحنة» «1» أقول: لمّا كانت سورة الحشر في المعاهدين من أهل الكتاب، عقّبت بهذه لاشتمالها على ذكر المعاهدين من المشركين، لأنها نزلت في صلح الحديبية «2» . ولمّا ذكر، سبحانه، في سورة الحشر، موالاة المؤمنين بعضهم بعضا، ثمّ موالاة الذين من أهل الكتاب، افتتح هذه السورة بنهي المؤمنين عن اتّخاذ الكفّار أولياء، لئلا يشابهوا المنافقين في ذلك وكرّر ذلك وبسطه، إلى أن ختم به، فكانت في غاية الاتّصال ولذلك، كان الفصل بها بين الحشر والصف، مع تأخيهما في الافتتاح ب سَبَّحَ.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، لمّا أخبر المشركين بعزم النبي (ص) على فتح مكّة بعد أن نقض المشركون صلح الحديبية. (البخاري في التفسير: 6: 185، 186، والتّرمذي في التفسير: 9: 198. 202 بتحفة الأحوذي ومسند الإمام أحمد: 1: 79، 80) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الممتحنة"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الممتحنة» «1» 1- وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ [الآية 1] . نزلت في حاطب بن أبي بلتعة. 2- عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الآية 7] . قال ابن شهاب: نزلت في جماعة، منهم أبو سفيان. أخرجه ابن أبي حاتم. 3- لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ [الآية 8] . نزلت في قتيلة أمّ أسماء بنت أبي بكر، كما في «المستدرك» . 4- إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ [الآية 10] . أخرج الطبراني عن عبد الله: أنّها نزلت في أمّ كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط. وأخرج ابن أبي حاتم عن يزيد ابن أبي حبيب: أنّه بلغه أنّها نزلت في أميمة بنت بشر، امرأة أبي حسّان بن الدحداحة. وعن مقاتل: أنّها نزلت في سعيدة، امرأة صيفي بن الراهب. 5- وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ [الآية 11] . قال الحسن: نزلت في أمّ الحكم بنت أبي سفيان، ارتدّت فتزوّجها رجل ثقفي، ولم ترتدّ امرأة من قريش غيرها، فأسلمت مع ثقيف، حينما أسلموا، أخرجه ابن أبي حاتم. 6- لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الآية 13] . قال ابن مسعود: هم اليهود والنّصارى. أخرجه ابن أبي حاتم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الممتحنة"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الممتحنة» «1» 1- وقال تعالى: إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ [الآية 4] . أقول برآء مثل شركاء، جمع بريء، واجتماع الهمزتين مع المد يجعلها ثقيلة، ومن أجل ذلك قرئت «براء» بالضم، و «براء» بالكسر.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الممتحنة"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الممتحنة» «1» قال تعالى: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ [الآية 4] . استثناء خارج من أول الكلام.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الممتحنة"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الممتحنة» «1» إن قيل: ممّ استثني قوله تعالى: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ [الآية 4] ؟ قلنا: من قوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ [الآية 4] . لأنه سبحانه أراد بالأسوة الحسنة قوله الذي حكاه عنه وعن أتباعه وأشياعه، ليقتدوا به ويتخذوه سنّة يستنّون بها واستثنى سبحانه استغفاره لأبيه، لأنه كان عن موعدة وعدها إيّاه. فإن قيل: فإن كان استغفاره لأبيه، أو وعده لأبيه بالاستغفار مستثنى من الأسوة، فكيف عطف عليه قوله وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الآية 4] وهو لا يصح استثناؤه ألا ترى إلى قوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الفتح: 11] ؟ قلنا: المقصود بالاستثناء هو الجملة الأولى فقط، وما بعدها ذكر لأنه من تمام كلام إبراهيم صلوات الله عليه، لا بقصد الاستثناء كأنه قال: أنا أستغفر لك، وما في طاقتي إلّا الاستغفار. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الآية 12] ، ومعلوم أن النبي (ص) لا يأمر إلّا بمعروف، فلماذا لم يقتصر على قوله تعالى وَلا يَعْصِينَكَ؟ قلنا: الحكمة فيه سرعة تبادر الأفهام إلى قبح المعصية منهنّ لو وقعت، من غير توقّف الفهم على المقدّمة التي أوردتم في السؤال.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الممتحنة"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الممتحنة» «1» في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الآية 1] . استعارة على أحد التأويلين، وهو أن يكون المعنى: تلقون إليهم بالمودة ليتمسّكوا بها منكم. كما يقول القائل: ألقيت إلى فلان بالحبل ليتعلّق به، وسواء أقال: ألقيت بالحبل، أم ألقيت الحبل. وكذلك لو قال: ألقيت إلى فلان بالمودة، أو ألقيت إليه المودّة. وكذلك قولهم: رميت إليه بما في نفسي، وما في نفسي، بمعنى واحد. وقال الكسائي: تقول العرب: ألقه من يدك، وألق به من يدك، واطرحه من يدك، واطرح به من يدك، كلام عربي صحيح. وقد قيل: إن في الكلام مفعولا محذوفا، فكأنه تعالى قال: تلقون إليهم أسرار النبي (ص) بالمودة التي بينكم. وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين، كانوا يخالّون قوما من المنافقين، فيتسقّطونهم أسرار النبي (ص) ، استزلالا لهم، واستغمارا لعقولهم. وفي قوله سبحانه: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الآية 2] استعارة. لأنّ بسط الألسن على الحقيقة لا يتأتّى كما يتأتّى بسط الأيدي وإنّما المراد إظهار الكلام السيّئ فيهم بعد زمّ الألسن عنهم، فيكون الكلام كالشيء الذي بسط بعد انطوائه، وأظهر بعد إخفائه. وقد يجوز أيضا أن يكون تعالى إنّما

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

حمل بسط الألسن على بسط الأيدي، ليتوافق الكلام، ويتزاوج النظام لأنّ الأيدي والألسن مشتركة في المعنى المشار إليه: فللأيدي الأفعال، وللألسن الأقوال وتلك ضررها بالإيقاع، وهذه ضررها بالسّماع. وقوله سبحانه: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الآية 10] وقرأ أبو عمرو وحده (تمسّكوا) بالتشديد، وقرأ بقية السبعة تُمْسِكُوا بالتخفيف. وهذه استعارة. والمراد بها: لا تقيموا على نكاح المشركات، وخلاط الكافرات، فكنى سبحانه عن العلائق التي بين النساء والأزواج بالعصم، وهي هاهنا بمعنى الحبال، لأنّها تصل بعضهم ببعض، وتربط بعضهم إلى بعض. وإنما سميت الحبال عصما، لأنها تعصم المتعلق بها والمستمسك بقوّتها. قال الشاعر: وآخذ من كل حيّ عصما أي حبالا. وهي بمعنى العهود في هذا الشعر. وقال أبو عبيدة: العصمة: الحبل والسّبب وقال غيره: العصم: العقد. فكأنه تعالى قال: ولا تمسّكوا بعقد الكوافر، أي بعقود نكاحهن. وأبو حنيفة يستشهد بهذه الآية على أنه لا عدّة في الحربيّة إذا خرجت إلى دار الإسلام مسلمة، وبانت من زوجها بتخليفها له في دار الحرب كافرا. ويقول: إنّ في الاعتداد منه تمسّكا بعصمة الكافر التي وقع النهي عن التمسّك بها. ويذهب أنّ الكوافر هاهنا جمع فرقة كافرة، كما أن الخوارج جمع فرقة خارجة، ليصح حمل الكوافر على الذكور الإناث. ويكون قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا خطابا للنبي (ص) والمؤمنين. والمعنى: ولا تأمروا النساء بالاعتداد من الكفّار، فتكونوا كأنكم قد أمرتموهنّ بالتمسّك بعصمهم. وقال أبو يوسف «1» ، ومحمد «2» يجب عليها العدّة.

_ (1) . أبو يوسف هو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي، صاحب الإمام أبي حنيفة النعمان. تولّى القضاء ببغداد أيام المهدي والهادي والرشيد وهو أول من لقّب بقاضي القضاة في الإسلام، وأول من وضع الكتاب في الفقه الحنفي. توفي سنة 182 هـ. (2) . محمد هو محمد بن الحسن بن واقد الشيباني، كان إماما في الفقه والأصول، وهو صاحب أبي حنيفة وناشر علمه ومذهبه. وتولّى القضاء في زمن الرشيد، ثم صحبه إلى خراسان، فمات في الريّ سنة 189 هـ.

سورة الصف 61

سورة الصّف 61

المبحث الأول أهداف سورة"الصف"

المبحث الأول أهداف سورة «الصف» «1» سورة الصف سورة مدنية، آياتها 14 آية، نزلت بعد سورة التغابن. وهي سورة تدعو الى وحدة الصف، وتماسك الأمة، وتحثّ على الجهاد، وتنفّر من الرياء، وتبيّن أنّ الإسلام كلمة الله الأخيرة الى الأرض، وأنّ رسالات السماء كانت دعوة هادفة لبناء الإنسان والدعوة إلى الخير والعدل، وقد أرسل الله سبحانه موسى (ع) بالتوراة، فلما انحرف اليهود عن تعاليم السماء، أرسل الله عيسى (ع) مجدّدا لناموس التوراة، ومبشّرا برسالة محمد (ص) . وقد كانت رسالة محمد (ص) بالهدى ودين الحق، متممة للرسالات السابقة، مشتملة على مبادئ الحق واليسر والعدل والمساواة، وقد كره المشركون انتصار النور والخير، فحاولوا مقاومة هذه الدعوة وإطفاء نورها، ولكنّ الله أيّد الإسلام، حتّى طوى ممالك الفرس والروم، وعمّ المشارق والمغارب. وقد حاولت الصليبيّة الحاقدة اجتياح بلاد الإسلام في فترات متعددة، من بينها الحرب الصليبية التي انتهت بهزيمة المعتدين وانتصار المسلمين، ووجّهت الصليبيّة ضرباتها للمسلمين في الأندلس، وحاولت تصفية الإسلام أيّام الدولة العثمانية، وأطلقت على تركيا اسم «الرجل المريض» ، والبلاد التي تحت يدها «تركة الرجل المريض» . فلمّا قام كمال أتاتورك،

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

سبب نزول السورة

وأعلن إلغاء الخلافة الإسلامية، كبّر له الغرب وهلّل، وتراجعت الجيوش الغربية من أمام تركيا، وجعلوا من أتاتورك بطلا عملاقا لقضائه على الخلافة الإسلامية. وفي هذه الأيام، تقوى الحركة الإسلامية في تركيا، وتمتلئ المساجد والمدارس الإسلامية بالباحثين، وتشتد سواعد الحزب الإسلامي هناك، ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره ولو كره المشركون. سبب نزول السورة جمهور المفسرين على أن صدر هذه السورة نزل حينما اشتاق المسلمون إلى معرفة أحب الأعمال إلى الله، فأنزل الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) . فلمّا أخبرهم الله بأن أفضل الأعمال بعد الإيمان هو الجهاد في سبيل الله، كره الجهاد قوم، وشقّ عليهم أمره، فقال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) . هدفان للسورة لسورة الصف هدفان رئيسان: الهدف الأول: الدعوة إلى الجهاد والحثّ عليه، والتحذير من كراهيته، والفرار منه، وبيان ثوابه وفضله، وأنّه تجارة رابحة. وتبع ذلك ترسيخ العقيدة، ووجوب اتفاق الظاهر مع الباطن، ووجوب الطاعة للقائد، وتماسك الأمّة، وترابط بنيانها حتّى تصبح صفّا واحدا، محكم الأساس، قويّ الوشيجة والرّباط، كأنّه بنيان مرصوص. فالآيات الأربع الأولى: دعوة الجهاد، والتحذير من الخوف والجبن، وبيان أن العقيدة السليمة تستتبع التضحية والفداء، حتّى يصبح جيش الإسلام قويّ البنيان، متلاحم الصفوف. والآيات [10- 12] صورة رائعة لفضل الجهاد وثوابه، فهو أربح تجارة، وأفضل سبيل للمغفرة ودخول الجنة، وهو باب النصر والفتح، والبشرى للمؤمنين بالسيادة والعزّة. والهدف الثاني: بيان وحدة الرسالات. فالرسالات الإلهية كلّها

دعوة إلى التوحيد، وثورة على الباطل، وإصلاح للضمير، وإرساء لمعالم الفضيلة، ومحاربة للرذيلة. وقد دعا الرسل جميعا إلى توحيد الله، وتكفّل كلّ رسول بإرشاد قومه وهدايتهم، ونصحهم الى ما فيه الخير، وتحذيرهم من الانحراف والشر. وفي سورة الصف نجد الآية الخامسة تبيّن رسالة موسى (ع) لقومه، وتذكر عنت اليهود، وإيذاءهم لموسى، وتجريحهم له، وانصرافهم عن روحانيّة الدعوة إلى مادّية المال. وفي الآية السادسة، نجد عيسى (عليه السلام) يجدّد أمر الناموس، ويصيح باليهود صيحات ضارعة، ويعظهم ويدعوهم للإيمان، ويحثّهم على الصدقة، والعناية بالروح، وتقديم الخير لوجه الله. والمسيح يبشّر برسالة أحمد خاتم المرسلين. فالرسالات كلّها حلقات متتابعة في تاريخ الهداية والإصلاح، والإسلام كان ختام هذه الرسالات وآخرها، والمهيمن عليها فقد حفظ تاريخها في القرآن، ودعا إلى الإيمان بالملائكة والكتاب والرسل. قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) [البقرة] . وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله (ص) قال: «إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا فأتمّها وأكملها إلّا موضع لبنة، فجعل الناس يقولون لو وضعت هذه اللبنة، فأنا هذه اللبنة وأنا خاتم الرسل» . وقال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) [البقرة] . وفي آخر آية من السورة دعوة للمسلمين أن ينصروا دين الله، كما نصر الحواريون دين عيسى، أيّام كان دينه توحيدا خالصا والعاقبة دائما للمتقين. والعبرة المستفادة من هذه الدعوة: استنهاض همّة المؤمنين بالدين الأخير، الأمناء على منهج الله في الأرض، ورثة العقيدة والرسالة الإلهية، المختارين لهذه المهمّة الكبرى

المقصد الاجمالي للسورة

استنهاض همتهم لنصرة الله، ونصرة دينه، ونصرة رسالته وشريعته: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ [الآية 14] . المقصد الاجمالي للسورة قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة الصف هو: «عتاب الذين يقولون ولا يعلمون بمقتضى ما يقولون، وتشريف صفوف الغزاة والمصلّين، والتنبيه إلى جفاء بني إسرائيل، وإظهار دين المصطفى على سائر الأديان، وبيان التجارة الرابحة مع الرحمن الرحيم، والبشارة بنصر أهل الإيمان على الكفر والخذلان» .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الصف"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الصف» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الصفّ بعد سورة التّغابن، ونزلت سورة التغابن بعد سورة التحريم، ونزلت سورة التحريم بعد سورة الحجرات، ونزلت سورة الحجرات فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة الصف في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) . وتبلغ آياتها أربع عشرة آية. الغرض منها وترتيبها غرض هذه السورة الحثّ على الجهاد في سبيل الله، وتوبيخ المنافقين على تقاعسهم عنه، وقد كان هذا ناشئا من موالاتهم للمشركين، فكانوا يكرهون قتالهم لأنّهم يبطنون الشرك مثلهم، فالسياق فيها مع المنافقين كالسياق في السورة التي قبلها، ولهذا ذكرت بعدها. الحث على الجهاد الآيات [1- 14] قال الله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) ، فذكر تسبيح كل شيء له ليسبّحه أولئك المنافقون ويؤمنوا به ثمّ وبخهم على أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون، فيقولون ما لا يفعلون،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

ويتقاعسون عن الجهاد مع المسلمين. وذكر جلّ وعلا أنه يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّا، فيثبتون في قتالهم ولا يتقهقرون. ثمّ حذرهم عاقبة زيفهم، أن يزيغ قلوبهم فيصيروا إلى الكفر الصريح، كما أزاغ قلوب قوم موسى حينما زاغوا وآذوه، ثم رغّبهم في الإيمان بتبشير عيسى بالنبي الذي يدعوهم إليهم: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الآية 6] . ثم ذكر سبحانه أنهم يريدون إطفاء نوره، وأنه سيتمّ نوره ويظهر دينه على الدين كله ثم دلّهم على ما ينجيهم في أخراهم، وهو أن يصدقوا في إيمانهم، ويجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم، ليغفر لهم ذنوبهم في أخراهم وينيلهم نصرا قريبا في دنياهم، وهو فتح مكة ثم أمرهم أن يكونوا أنصارا لله مخلصين كحواريي عيسى حينما قال لهم: من أنصاري إلى الله؟ فقالوا: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الصف"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الصف» «1» أقول: في سورة الممتحنة ذكر، سبحانه، الجهاد في سبيل الله، وبسطه في هذه السورة أبلغ بسط.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"الصف"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الصف» «1» وقال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) . كأنّ أصله: «يريدون أن يطفئوا نور الله» كما جاء في سورة براءة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"الصف"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الصف» «1» قال تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ [الآية 3] أي: كبر مقتكم مقتا، ثم قال: أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) أي: قولكم. وقال: وَأُخْرى تُحِبُّونَها [الآية 13] أي: وتجارة أخرى

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الصف"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الصف» «1» إن قيل: ما فائدة (قد) في قوله تعالى: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الآية 5] . قلنا: فائدتها التأكيد، كأنه قال: وتعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه. هذا جواب الزمخشري: وقال غيره: فائدتها التكثير، لأن (قد) مع الفعل المضارع تارة تأتي للتقليل كقولهم: إن الكذوب قد يصدق، وتارة تأتي للتكثير كقول الشاعر: قد أعسف النّازح المجهود معسفة ... في ظلّ أخضر يدعو هامة البوم وإنما يتمدّح بما يكثر وجوده منه، لا بما يقلّ. فإن قيل: لم قال عيسى (ع) كما ورد في التنزيل: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الآية 6] ولم يقل محمّد، ومحمّد أشهر أسماء النبي (ص) ؟ قلنا: إنّما قال أحمد، لأنّه مذكور في الإنجيل بعبارة تفسيرها أحمد لا محمّد وإنما كان كذلك، لأنّ اسمه في السماء أحمد وفي الأرض محمد، فنزل في الإنجيل اسمه السماوي. وقيل إن أحمد أبلغ في معنى الحمد من محمّد، من جهة كونه مبنيّا على صيغة التفضيل. وقيل محمّد أبلغ من جهة كونه على صيغة التكثير. فإن قيل: لم قال تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) ولم يقل

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

سبحانه هذه، والمشار إليه البيّنات، وهي مؤنثة؟ قلنا: معناه هذا الذي جئت به، فالإشارة إلى المأتيّ به. فإن قيل: ما وجه صحّة التشبيه، وظاهره تشبيه كونهم أنصار الله، بقول عيسى عليه السلام كما ورد في التنزيل: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [الآية 14] . قلنا: التشبيه محمول على المعنى، تقديره: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصارا لعيسى (ع) حينما قال لهم من أنصاري إلى الله.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"الصف"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الصف» «1» في قوله سبحانه: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الآية 5] استعارة. وكنّا أغفلنا الكلام على نظيرها في آل عمران. وهو قوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [الآية 8] لأنّ ذلك أدخل في باب الكلام على الآي المتشابهة، وأبعد من الكلام على الألفاظ المستعارة. إلّا أنّنا رأينا الإشارة إلى هذا المعنى هاهنا، لأنّه ممّا يجوز أن يجري في مضمار كتابنا هذا، فنقول: إنّ المراد بقوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا أي لا تحمّلنا من التكاليف ما لا طاقة لنا به، فتزيغ قلوبنا، أي تميل عن طاعتك، وتعدل عن طريق مرضاتك، فتصادفها زائغة، أو يحكم عليها الزّيغ عند كونها زائغة. وقد يجوز أن يكون المراد بذلك: أي أدم لنا ألطافك وعصمك لتدوم قلوبنا على الاستقامة، ولا تزيغ عن مناهج الطاعة. وحسن أن يقال: لا تزغ قلوبنا بمعنى الرّغبة في إدامة الألطاف، لمّا كان إعدام تلك الألطاف في الأكثر يكون عنه زيغ القلوب، ومواقعة الذنوب. وأما قوله تعالى في هذه السورة: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، فهو أوضح فيما يذهب إليه من الأول، لأنه، سبحانه، لمّا زاغوا عن الحقّ، حكم عليهم بالزّيغ عنه، وحكمه بذلك أن يأمر أولياءه بذمّهم ولعنهم والبراءة منهم، عقوبة لهم على ذميم فعلهم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

وقد يجوز أن يكون معنى ذلك أنّهم لمّا زاغوا عن الحقّ خذلهم وأبعدهم وخلّاهم واختيارهم، وأضاف، سبحانه، الفعل إلى نفسه من طريق الاتّساع، لمّا كان وقوع الزّيغ منهم مقابلا لأمره لهم باتّباع الحقّ، وسلوك الطريق النهج. كما قال تعالى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي [المؤمنون: 110] أي وقع نسيانكم لذكري، في مقابلة أمر أولئك العباد النّاصحين لكم بأن تسلكوا الطريق الأسلم، وتتّبعوا الدين الأقوم.

سورة الجمعة 62

سورة الجمعة 62

المبحث الأول أهداف سورة"الجمعة"

المبحث الأول أهداف سورة «الجمعة» «1» سورة الجمعة سورة مدنية، وآياتها 11 آية. نزلت بعد سورة يوسف. وقد عنيت السورة بتربية المسلمين وجمعهم على الحق والإيمان، ودعوتهم إلى المحافظة على صلاة الجمعة، والامتناع عن الانشغال بغيرها من اللهو أو البيع، وقد مهّدت لذلك ببيان أنّ كلّ شيء يسبّح بحمد الله سبحانه. وقد منّ الله، جل جلاله، على العرب بإرسال نبيّ الهدى والرّحمة ليرشدهم إلى الخير، ويأخذ بأيديهم إلى الطهارة والفضيلة. وقارنت السورة بين المسلمين واليهود، وعيّرت اليهود بإهمالهم تعاليم التوراة وإعراضهم عنها، وشبّهتهم بالحمار يحمل كتب العلم ولا يفيد منها، وهو تشبيه رائع معناه أن التوراة بشّرت بنبيّ الله محمد (ص) ، ودعت أهلها إلى الإيمان به، لكنهم لم ينتفعوا بهداية التوراة، فحرموا أنفسهم الانتفاع بأبلغ نافع، مع قرب هذا الانتفاع منهم. تسلسل أفكار السورة بدأت السورة بمطلع رائع، يقرر حقيقة التسبيح المستمرّ يصدر عن كلّ ما في الوجود، بقوله تعالى يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) . جاء في تفسير النسفي: «التسبيح إمّا أن يكون تسبيح خلقة، يعني إذا نظرت الى كلّ شيء دلّتك خلقته على وحدانيّة الله، سبحانه، وتنزيهه عن الأشباه أو

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كلّ شيء ما يعرف به الله تعالى وينزّهه ألا ترى إلى قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] أو تسبيح ضرورة، بأن يجري الله التسبيح على كلّ جوهر من غير معرفته بذلك» . وبيّنت السورة أن الله قد اختار العرب ليرسل فيهم نبيّ آخر الزمان، ليطهّرهم ويعلّمهم القرآن والأحكام الشرعية، وحسن تقدير الأمور بعد أن كانوا في الجاهلية في ضلال وكفر وانحلال [الآية 2] . وقد وصف جعفر بن أبي طالب ضلال الجاهلية للنجاشي ملك الحبشة، فقال: «أيّها الملك، كنّا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويّ منا الضعيف. فكنّا على ذلك، حتّى بعث الله إلينا رسولا لنوحّده ولنعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الامانة، وصلة الرّحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء.. ونهانا عن الفواحش وقول الزّور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام» . لقد اختار الله الجزيرة العربية، لتحمل رسالة الإصلاح، وليمتدّ هذا النور الهادي إلى ممالك الفرس والروم، حيث كانت هذه البلاد العريقة قد انغمست في الترف والانحلال ... «وبين مظاهر الفساد الشامل، ولد الرجل الذي وحّد العالم جميعه، وقد كان اليهود يزعمون أنّهم شعب الله المختار، وأنّهم هم أولياؤه من دون الناس، فبيّنت الآيات أنّهم لم يعودوا صالحين لحمل رسالة السماء فقد أخلدوا إلى الدنيا وكرهوا الموت، لأنهم لم يقدّموا عملا صالحا، بل قدّموا الدّسّ والخداع والوقيعة: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ مطّلع عليهم، وسيجزيهم على عملهم [الآيات 5- 8] . والمقطع الأخير من السورة يتحدّث عن صلاة الجمعة، وهي فريضة أسبوعية يتلاقى المسلمون فيها لتعلّم أمور دينهم، وتنظيم حياتهم، وتفقّد

شؤونهم. وهي وسيلة للعبادة والطاعة، وصفاء النفس، وطهارة الروح. والإسلام دين ودنيا، عقيدة وسلوك، شرائع وآداب، علم وعمل، عبادة وسيادة. فإذا انتهت صلاة الجمعة خرج المسلم باحثا عن رزقه، نشيطا في عمله فعبادة الله تكون في المسجد بالصلاة، وتكون خارج المسجد بالتجارة والزراعة وطلب القوت من حلال. وفي الحديث الصحيح: «إنّ لربّك عليك حقّا، وإنّ لبدنك عليك حقّا، وإنّ لزوجك عليك حقّا، فأعط كلّ ذي حقّ حقّه» . وكان عراك بن مالك، إذا صلى الجمعة، انصرف فوقف على باب المسجد، فقال: «اللهمّ إنّي أحببت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين» .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الجمعة"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الجمعة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الجمعة بعد سورة الصفّ، ونزلت سورة الصف فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة الجمعة في ذلك التاريخ أيضا وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في الآية التاسعة منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ. وتبلغ آياتها إحدى عشرة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة الحثّ على العمل بالعلم، وتوبيخ من لا يعمل بعلمه من المنافقين واليهود، ولهذا- والله أعلم- جعلت هذه السورة بعد سورة الصفّ، لأنّها توافقها وتوافق السور التي قبلها في هذا السياق. الحث على العمل بالعلم الآيات [1- 11] قال الله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) ، فذكر سبحانه تسبيح ذلك له، وأنه بعث في الأمّيّين رسولا يعلّمهم ويزكّيهم، ليجمعوا بهذا بين العلم والعمل به. ثمّ ذمّ اليهود الذين يعلمون التوراة ولا يعملون بها، فجعل مثلهم في حملها وعدم الانتفاع بها، كمثل الحمار يحمل أسفارا ثمّ ذكر، جلّ وعلا، ما يتّكلون عليه في ترك العمل، وهو زعمهم أنهم أولياؤه من

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....]

دون الناس، فلا يؤاخذهم كما يؤاخذ غيرهم، فأمرهم إن كانوا صادقين في هذا أن يتمنّوا الموت ليثبتوا ما يزعمونه من حسن عاقبتهم وذكر أنّهم لا يتمنّونه أبدا لخوفهم من أعمالهم، وأنّه لا بدّ من هذا الموت الذي يفرّون منه لينبئهم بما كانوا يعملون ثم أمر المنافقين ومن يتباطأ مثلهم عن العمل، أن يسعوا إلى صلاة الجمعة عند النداء لها، وأن يتركوا عند سماعهم نداءها ما يتعاطونه من البيع، فإذا أدّوها خرجوا إلى ما كانوا عليه من أعمال الدنيا ثمّ ذمّ ما كان يحصل منهم من الخروج قبل أدائها، عند حضور تجارة أو نحوها، فقال تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الجمعة"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الجمعة» «1» أقول: ظهر لي في وجه اتّصالها بما قبلها: أنه تعالى لمّا ذكر في سورة الصفّ حال موسى (ع) مع قومه، وأذاهم له، ناعيا عليهم ذلك «2» ذكر في هذه السورة حال الرّسول (ص) ، وفضل أمّته، تشريفا لهم، ليظهر فضل ما بين الأمّتين، ولذا لم يعرض فيها لذكر اليهود. وأيضا لمّا ذكر، سبحانه، هناك حكاية عن قول عيسى (ع) : وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] . قال هنا: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) . إشارة إلى أنه (ص) هو الذي بشّر به عيسى (ع) . وهذا وجه حسن في الربط. وأيضا، لما ختم سبحانه تلك السورة بالأمر بالجهاد، وسمّاه تجارة، ختم هذه بالأمر بالجمعة، وأخبر أنها خير من التجارة الدنيوية. وأيضا: فتلك سورة الصفّ، والصفوف تشرع في موضعين: القتال، والصلاة، فناسب تعقيب سورة صف القتال بسورة صلاة تستلزم الصف ضرورة، وهي الجمعة، لأنّ الجماعة شرط فيها، دون سائر الصلوات. فهذه وجوه أربعة فتح الله بها.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وذلك في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي [الصف: 5] . وذكر في الصف عن بني إسرائيل: أنهم كذّبوا عيسى، وكذبوا على الله، وأرادوا يطفئوا نور الله وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ، في الآيات [6- 9] . ثم ذكر هنا تعليل هذا التكذيب بالغباء، وأبطل حجتهم في أنّهم شعب الله المختار [الآيات 5- 7] .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الجمعة"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الجمعة» «1» 1- وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) . أخرج البخاري عن أبي هريرة مرفوعا: أنهم قوم سلمان «2» . وأخرج أبن أبي حاتم عن مجاهد، قال: هم الأعاجم «3» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . الفارسي رضي الله عنه، والحديث في «صحيح البخاري» (4897) في التفسير. (3) . الأثر في «تفسير الطبري» 28: 62، وذكر أبو جعفر الطبري رحمه الله قولا آخر عن مجاهد وابن زيد: أن المعنيّ بذلك جميع من دخل في الإسلام من بعد النبي (ص) ، كائنا من كان إلى يوم القيامة وهذا القول هو الراجح عند الطبري، لأن الله تعالى لم يخصص منهم نوعا دون نوع، فكلّ لاحق بهم، أي من الصحابة، فهو من الآخرين الذين لم يكونوا في عداد الأولين، الذين كان رسول الله (ص) يتلو عليهم آيات الله جلّ جلاله.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"الجمعة"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الجمعة» «1» قال تعالى: أَسْفاراً [الآية 5] واحدها «السّفر» . وقال بعض النحويين لا يكون ل «الأسفار» واحد كنحو «أبابيل» و «أساطير» ، ونحو قول العرب: «ثوب أكباش» وهو الرديء الغزل، و «ثوب مزق» للمتمزّق. وقال تعالى: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الآية 9] أي والله أعلم، من صلاة يوم الجمعة..

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الجمعة"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الجمعة» «1» إن قيل: لم قال تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الآية 9] والسعي: العدو والعدو إلى صلاة الجمعة، وإلى كل صلاة، مكروه؟ قلنا: المراد بالسعي القصد. وقال الحسن: ليس هو السعي على الأقدام، ولكنه على النيّات والقلوب، ويؤيّد قول الحسن قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) [النجم] ، وقول الداعي في دعاء القنوت: وإليك نسعى ونحفد «2» ، وليس المراد به العدو والإسراع بالقدم. فإن قيل: لم قال تعالى: انْفَضُّوا إِلَيْها [الآية 11] . والمذكور شيئان اللهو والتجارة؟ قلنا: قد سبق جواب هذا في سورة التوبة في قوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 34] والذي يؤيّده هنا ما قاله الزّجّاج معناه: «وإذا رأوا تجارة انفضّوا إليها» «أو لهوا انفضّوا إليه» ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه (إليهما) بضمير التثنية، وعليه فلا حذف.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. (2) . حفد: خفّ في العمل، وأسرع.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"الجمعة"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الجمعة» «1» في قوله سبحانه: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) استعارة. والمراد: ولا يتمنّون الموت أبدا، خوفا مما فرط منهم من الأعمال السيئة، والقبائح المجترحة. ونسب تعالى تلك الأفعال إلى الأيدي، لغلبة الأيدي على الأعمال، وإن كان فيها ما يعمل بالقلب واللسان.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

سورة المنافقون 63

سورة المنافقون 63

المبحث الأول أهداف سورة"المنافقون"

المبحث الأول أهداف سورة «المنافقون» «1» سورة «المنافقون» سورة مدنيّة، آياتها 11 آية نزلت بعد سورة الحج. النفاق هو إظهار الإسلام أمام المسلمين، وإضمار غير الإسلام. والنفق بفتحتين سرب في الأرض يكون له مخرج من موضع آخر، ونافق اليربوع إذا أتى النّافقاء، أي دخل من مكان وخرج من مكان، ومنه قيل «نافق الرجل» إذا دخل في الإسلام أمام المسلمين، ودخل في عداوة الإسلام أمام غير المسلمين. والنفاق قسمان: القسم الأول: نفاق العقيدة، وهو إظهار الإيمان وإخفاء الكفر. والقسم الثاني: نفاق العمل، وهو الرياء والسمعة والتظاهر وإبراز الأمور على غير حقيقتها. النفاق في المدينة لم يظهر النفاق في مكّة، لأن المسلمين كانوا مستضعفين، وكان أهل مكة يعلنون لهم العداء، ويجابهونهم بالإيذاء. ثمّ هاجر النبيّ (ص) إلى المدينة، والتفّ حوله الأنصار والمهاجرون، وقويت شوكته بوحدة المسلمين وتماسكهم، وظلّ الإسلام يتفوّق يوما بعد يوم، ويدخل فيه وجوه أهل المدينة من رجال الأوس والخزرج ووجهائهم وأهل العصبية فيهم عندئذ رأى بعض المنافقين أن يدخلوا في

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

قصة نزول السورة

الإسلام مجاملة لأهله، وأن يبيّتوا الكيد والخداع للمسلمين. وقد قبل النبي (ص) من الناس ظواهرهم، وترك بواطنهم الى الله. ولكن الأحداث كانت تعرّف المسلمين بهؤلاء المنافقين، فإذا وقع المسلمون في شدة أو انهزموا في معركة، تجرّأ هؤلاء المنافقون على تجريحهم والتشهير بهم جهارا نهارا. وإذا أنعم الله على المؤمنين بالنصر، اختبأ المنافقون في جحورهم، وغيّروا طريقتهم، وانتقلوا من باب المواجهة إلى الكيد والدّسّ في الخفاء. وكان اليهود في المدينة يكوّنون جبهة قوية، وقد ساندوا المنافقين وشجّعوهم، وكوّن الطرفان جبهة متّحدة لمناوأة الإسلام والمسلمين. وكان عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم المنافقين بالمدينة، وكان من وجهاء الأنصار، وكان قومه ينظمون له الخرز ليتوّجوه ملكا عليهم. فلمّا جاء الإسلام للمدينة، وتعاظمت قوّة المسلمين يوما بعد آخر، وأصبح النبيّ الأمين صاحب الكلمة النافذة، والأمر المطاع، اشتدّ حقد عبد الله بن أبيّ لضياع الملك من بين يديه، وكوّن جبهة للنفاق تشيع السوء والفتنة، وتدبّر الكيد والأذى للمسلمين. وشاء الله، سبحانه، أن يمتحن المسلمين بوجود اليهود في المدينة، وبوجود المنافقين فترة طويلة صاحبت نشوء الدعوة بالمدينة. ولم يشأ الله، جل جلاله، أن يعرّف النبي (ص) بأسمائهم إلّا في آخر حياته، وقد أخفى النبي (ص) أسماءهم عن الناس، وأعلم واحدا فقط من الصحابة بها، هو النعمان بن مقرن، ليظلّ أمرهم مستورا. وكان بعضهم ينكشف أمره من سلوكه وفعله، وقوله، وقسمات وجهه، وتعبيراتها. قال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) [محمد] . قصة نزول السورة في كثير من كتب التفسير والسيرة: أن هذه السورة نزلت في أعقاب غزوة بني المصطلق، وقد انتصر فيها المسلمون، وغنموا غنائم كثيرة، وقد وقعت في شعبان من السنة الخامسة للهجرة (ديسمبر 626 م) . وبعد

المعركة ازدحم على الماء رجلان أحدهما أجير لعمر بن الخطاب، وهو «جهجاه بن سعيد» ، والثاني حليف بني عون بن الخزرج، وهو سنان الجهني وتضاربا. فقال جهجاه يا للمهاجرين، وقال سنان يا للأنصار، فاجتمع عليهما المتسرعون من المهاجرين والأنصار حتى كادوا يقتتلون، وأوشكت أن تقوم الفتنة بين المهاجرين والأنصار. فلمّا سمع رسول الله (ص) الصراخ، خرج مسرعا يقول: «ما بال دعوى الجاهلية» ؟ فأخبروه الخبر، فصاح غاضبا: «دعوا هذه الكلمة، فإنّها فتنة» وأدرك الفريقين، فهدّأ من ثورتهما، وكلّم المضروب حتّى أسقط حقّه وبذلك سكنت الفتنة، وتصافي الفريقان. ولكن عبد الله بن أبيّ عزّ عليه أن تنطفئ هذه الشرارة قبل أن تحدث حريقا بين المسلمين، وأن تموت هذه الفتنة قبل أن تذهب بما في صفوف المسلمين من وحدة وائتلاف، فأخذ يهيّج من معه من الأنصار، ويثير ضغينتهم ضدّ المهاجرين، وجعل يقول في أصحابه: «والله ما رأيت كاليوم مذلّة. لقد نافرونا وكاثرونا في بلدنا، وأنكروا منّتنا، والله ما عدنا وجلايب قريش هذه إلّا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك.. «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ» يقصد بالأعز نفسه، وبالأذلّ رسول الله (ص) . ثم أقبل ابن أبيّ على من حضره من قومه يلومهم ويعنّفهم فقال: «هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم في بلادكم، وأنزلتموهم منازلكم، وآسيتموهم في أموالكم حتّى استغنوا. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم. ثمّ لم ترضوا ما فعلتم حتّى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا، فقتلتم دونهم، فأيتمتم أولادكم وقللتم وكثروا، فلا تنفقوا على من حوله حتّى ينفضّوا» . وكان في القوم زيد بن أرقم، وهو يومئذ غلام لم يبلغ الحلم، أو قد بلغ حديثا، فنقل كلام ابن أبيّ إلى الرسول (ص) ، فتغيّر وجه رسول الله (ص) ، وتأثّر من معه من المهاجرين والأنصار، وشاع في الجيش ما قاله ابن أبيّ، حتّى ما كان للناس حديث غيره، وقال عمر للنبيّ (ص) : يا رسول الله مر بلالا فليقتله، وهنا

ظهر النبيّ (ص) - كدأبه- بمظهر القائد المحنّك والحكيم البعيد النظر، إذ التفت إلى عمر وقال: «فكيف إذا تحدّث النّاس أنّ محمّدا يقتل أصحابه» ؟ ولكنه قدّر في الوقت نفسه أنه إذا لم يتّخذ خطة حازمة فقد يستفحل الأمر. لذلك أمر أن يؤذّن في الناس بالرحيل، في ساعة لم يكن يرتحل فيها المسلمون. وترامى الى ابن أبيّ ما بلغ النبيّ (ص) عنه، فأسرع الى حضرته ينفي ما نسب إليه ويحلف بالله ما قاله ولا تكلّم به، ولم يغيّر ذلك من قرار النبيّ بالرحيل. قال ابن اسحق: «فلمّا استقلّ رسول الله (ص) وسار، لقيه أسيد بن الحضير، فحيّاه بتحية النبوّة وسلم عليه، ثمّ قال: يا نبيّ الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال رسول الله (ص) : أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: وأيّ صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبيّ. قال وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ. قال أسيد: فأنت يا رسول الله، والله، تخرجه منها إن شئت، هو، والله، الذليل وأنت العزيز، في عزّ من الرحمن ومنعة المسلمين. قال أسيد: يا رسول الله ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا. ثمّ مشى رسول الله (ص) بالناس يومهم ذاك حتّى أمسى، وليلتهم حتّى أصبح، وصدر يومهم ذاك حتّى آذتهم الشمس ثمّ نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياما. وإنّما فعل ذلك رسول الله ليشغل الناس عن كلام عبد الله بن أبيّ. ونزلت سورة (المنافقون) في ابن أبيّ، ومن كان على مثل أمره. ولمّا نزلت السورة قال رسول الله (ص) : يا غلام، إنّ الله قد صدّقك وكذّب المنافقين. ولما ظهر كذب عبد الله بن أبيّ، قيل له: قد نزلت فيك آي شداد، فاذهب الى رسول الله يستغفر لك، فلوى رأسه وقال: أمرتموني أن أؤمن فأمنت، وأمرتموني أن أزكّي مالي فزكّيت، وما بقي إلّا أن أسجد لمحمد، فنزل فيه قوله تعالى:

مع السورة

وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) . وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله، إنّه قد بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه فإن كنت لا بدّ فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني، وإنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر، فأدخل النار فقال رسول الله (ص) بل نترفّق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا. مع السورة وصفت الآيات الأربع الأولى من السورة رياء المنافقين، وكشفت خداعهم: إنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ويسارعون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية ولمحمد (ص) بالرسالة، وهم كاذبون في هذه الشهادة، لأنّها لا تطابق عقيدتهم، ولا توافق ما يضمرونه في قلوبهم [الآية 1] . وكانوا يحلفون بالله كذبا، ويتحصّنون بهذا الإيمان، وبئست أفعال الرجال، الكذب والأيمان الفاجرة [الآية 2] . لقد تكرّر نفاقهم، وطبع الله على قلوبهم، فلا ينفذ إليهم الهدى والإيمان [الآية 3] . وكان فيهم أقوام صباح الوجوه، أشدّاء البنية، فصحاء الألسنة فإذا تكلّموا أعجبوا السّامع بكلامهم المعسول، ولكنّ واقعهم لا يوافق ظاهرهم وإن عداوتهم ضاربة، فاحذرهم واتّق جانبهم في حياتك «1» ، فإنهم سيلقون مصيرهم المحتوم بالهلاك والنكال [الآية 4] . وتشير الآيات [4- 8] إلى ما حدث من عبد الله بن أبيّ بن سلول، في أعقاب غزوة بني المصطلق، وقد مرّت قصتها. ولمّا انكشف أمره، دعاه الناس ليستغفر له الرسول الأمين، فأعرض ولوى وجهه، خوفا من مواجهة الرسول بالحقيقة. [الآية 5] .

_ (1) . الخطاب موجه إلى الرسول محمد، عليه الصلاة والسلام.

المعنى الاجمالي للسورة

وكان ابن أبيّ قد طلب من بعض الأنصار أن يمسكوا نفقتهم ومساعدتهم عن المهاجرين، حتّى ينفضّوا عن النبيّ الكريم، فذكر القرآن أنّ خزائن الله عامرة، وخيره لا ينفد، وهو الرزّاق ذو القوّة المتين [الآية 7] . وكان ابن أبيّ يبيّت كيدا مع أتباعه، ويتوعّد بأن يخرج النبيّ من المدينة ذليلا فبيّن الله سبحانه أنّ العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين بالإيمان، وبمساعدة الرحمن، وبعون الله القويّ المتين ولكنّ المنافقين لا يفقهون هذه المعاني الكريمة [الآية 8] . أمّا المقطع الأخير في السورة، ويشمل الآيات [9- 11] ، فإنّه يتوجّه إلى المؤمنين بالنداء ألّا تشغلهم أموالهم ولا أولادهم عن تذكّر ربهم، والقيام بحقّه، جلّ وعلا، ومرضاته، وتأمرهم بالصدقة والزكاة وعمل الخير، فالله باعث الرزق، وله الحمد في الأولى والاخرة. فأنفق أيّها الإنسان وأنت صحيح ولا تمهل، حتّى إذا بلغت الروح الحلقوم تمنيت العودة للدنيا، لإخراج الصدقة وعمل الصالحات ولكن الأجل إذا جاء لا يتأخّر لحظة، بل يساق الإنسان الى الخبير العليم، جزاء ما قدّم. وهكذا تختم السورة بهذه الدعوة إلى الإخلاص لله سبحانه، وامتثال أوامره، فهو، جلّت قدرته، مطّلع وشاهد، وهو الحكيم العادل. المعنى الاجمالي للسورة قال الفيروزآبادي: معظم مقصود السورة: تقريع المنافقين وتبكيتهم، وبيان ذلّهم وكذبهم، وذكر تشريف المؤمنين وتبجيلهم، وبيان عزّهم وشرفهم، والنهي عن نسيان ذكر الحقّ تعالى، والغفلة عنه، والإخبار عن ندامة الكفّار بعد الموت، وبيان أنه لا تأخير ولا إمهال بعد حلول الأجل، في قوله تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"المنافقون"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المنافقون» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «المنافقون» بعد سورة الحجّ، وكان نزولها بعد غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة من الهجرة، فتكون من السّور التي نزلت فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [الآية 1] وتبلغ آياتها إحدى عشرة آية. الغرض منها وترتيبها نزلت هذه السورة، فيما كان من مؤامرة المنافقين على المهاجرين، في رجوعهم من غزوة بني المصطلق وذلك أنهم تأمروا على إخراجهم من المدينة بعد رجوعهم إليها، وكان زيد بن أرقم قد حضر مؤامرتهم فأخبر النبيّ (ص) بها. فلمّا بلغهم ذلك ذهبوا إليه، فأنكروها على عادتهم، فنزلت هذه السورة لفضح مؤامرتهم، وتصديق زيد بن أرقم. ولا شك في أنّ سياقها، في هذا، سياق سورة الجمعة والسور المذكورة قبلها، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعد سورة الجمعة. مؤامرة المنافقين على المهاجرين الآيات [1- 11] قال الله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1)

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

فكذّبهم في ذلك ثمّ ذكر سبحانه أنهم يتخذون هذه الأيمان الكاذبة وقاية لهم ثمّ ذكر أنّ من يراهم تعجبه أجسامهم، فإذا خبرهم وجدهم كالخشب المسنّدة في عدم العقل، وهم جبناء يحسبون كلّ صيحة عليهم ثم ذكر ما كان من مؤامرتهم حينما نهوا من حضرهم من الأنصار أن ينفقوا على المهاجرين حتّى ينفضّوا من المدينة، واتّفقوا على أنّهم إذا رجعوا إليها يخرجونهم منها ثمّ نهى المؤمنين أن تلهيهم أموالهم وأولادهم كما ألهت أولئك المنافقين، وأن ينفقوا ممّا رزقهم، سبحانه، ولا يسمعوا لهم، حتّى لا يأتي أحدهم الموت فيتمنّى لو يتأخّر أجله، ليتدارك ما فاته من الصدقة: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"المنافقون"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المنافقون» «1» أقول: وجه اتّصالها بما قبلها: أنّ سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون، وهذه ذكر فيها أضدادهم، وهم المنافقون. ولهذا أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة: أنّ رسول الله (ص) كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة، يحرّض بها المؤمنين، وبسورة «المنافقون» يفزّع بها المنافقين. وتمام المناسبة: أنّ السورة التي بعدها فيها ذكر المشركين والسورة التي قبل الجمعة فيها ذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى «2» والتي قبلها، وهي الممتحنة فيها ذكر المعاهدين من المشركين «3» والتي قبلها، وهي الحشر فيها ذكر المعاهدين من أهل الكتاب «4» ، فإنّها نزلت في بني النضير، حين نبذوا العهد وقوتلوا. وبذلك اتّضحت المناسبة في ترتيب هذه السور الستّ هكذا، لاشتمالها على أصناف الأمم، وفي الفصل بين المسبّحات بغيرها «5» لأنّ إيلاء سورة المعاهدين من أهل الكتاب بسورة المعاهدين من المشركين أنسب من

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وذلك في قوله تعالى من «التغابن» أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [الآية 5] الى وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) . [.....] (3) . وذلك في الآيات [5، 6، 7، 8، 9، 10] . (4) . وذلك في الآيتين [8، 9] . (5) . يعني الفصل بين الحشر، وأولها: سبّح. والتغابن وأولها: يسبّح، بالممتحنة والصف والجمعة والمنافقون.

غيره. وإيلاء سورة المؤمنين بسورة المنافقين أنسب من غيره. فظهر بذلك أن الفصل بين المسبّحات التي هي نظائر لحكمة دقيقة من لدن حكيم خبير، فلله الحمد على ما فهّم وألهم. هذا وقد ورد عن ابن عباس في ترتيب النزول: أنّ سورة «التغابن» نزلت عقب الجمعة «1» ، وتقدّم نزول سورة «المنافقون» فما فصل بينهما إلّا لحكمة، والله أعلم.

_ (1) . الإتقان: 1: 97 وهو عن جابر بن زيد أيضا. وجابر أحد علماء التابعين بالقرآن.

المبحث الرابع مكنونات سورة"المنافقون"

المبحث الرابع مكنونات سورة «المنافقون» «1» 1- لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الآية 7] . وأيضا: 2- لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [الآية 8] . قيل نزلت هاتان الآيتان حكاية على لسان عبد الله بن أبيّ بن سلول. كما أخرجه البخاري «2» وغيره، عن زيد بن أرقم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . انظر «صحيح البخاري» كتاب التفسير، سورة «المنافقون» باب قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ والأبواب السبعة التي بعده.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"المنافقون"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «المنافقون» «1» قال تعالى: خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [الآية 4] ويقرأ بعضهم «الخشب» . وقال تعالى: لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ [الآية 5] لأن كلام العرب إذا كان في السّخريّ أو في التكثير قيل (لوّى لسانه) و «رأسه» . وخفّف بعضهم، واحتج بقول الله عز وجل: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ [النساء: 46] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"المنافقون"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «المنافقون» «1» إن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [الآية 1] ؟ قلنا: لو قال تعالى: قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يشهد إنهم لكاذبون، لكان يوهم أنّ قولهم هذا كذب، وليس المراد أن شهادتهم هذه كذب، بل المراد أنهم كاذبون في غير هذه الشهادة. وقال أكثر المفسّرين: إنه تكذيب لهم في هذه الشهادة، لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا، ولم يعتقدوا أنه رسول الله بقلوبهم، فسمّاهم كاذبين لذلك، فعلى هذا يكون ذلك تأكيدا. فإن قيل: المنافقون ما برحوا على الكفر، فلم قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [الآية 3] ؟ قلنا: معناه ذلك الكذب الذي حكم عليهم به، أو ذلك الإخبار عنهم بأنّهم ساء ما كانوا يعملون، بسبب أنهم آمنوا بألسنتهم ثُمَّ كَفَرُوا [الآية 3] بقلوبهم فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ [الآية 3] كما قال تعالى في وصفهم: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) [البقرة] الثاني: أن المراد به أهل الرّدّة منهم. فإن قيل: لم قال تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [الآية 4] ولم يقل هي العدو؟ قلنا: عَلَيْهِمْ هو ثاني مفعولي يحسبون تقديره: يحسبون كل صيحة واقعة عليهم أي: لجبنهم وهلعهم،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

فالوقف على قوله تعالى عَلَيْهِمْ وقوله سبحانه: هُمُ الْعَدُوُّ ابتداء كلام. وقيل إن المفعول الثاني هو قوله تعالى هُمُ الْعَدُوُّ ولكن تقديره: يحسبون أهل كل صيحة عليهم هم العدو، الأول أظهر بدليل عدم نصب العدوّ.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"المنافقون"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «المنافقون» «1» في قوله تعالى: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) استعارة. والمراد بخزائن السماوات والأرض مواضع أرزاق العباد، من مدارّ السحاب، ومخارج الأعشاب، وما يجري مجرى ذلك من الأرفاق. وقال بعضهم: المراد بالخزائن، هاهنا، مقدورات الله سبحانه، لأنّ فيها كلّ ما يشاء إخراجه من مصالح العباد. ومنافع البلاد. وقد مضى الكلام على هذا المعنى فيما تقدّم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

الفهرس

الفهرس سورة «الذاريات» المبحث الأول أهداف سورة «الذاريات» 3 معاني السورة 3 آيات الله في الأرض والسماء 4 قصة ابراهيم 6 قصة لوط 6 إشارات الى قصص الأنبياء 7 المعنى الاجمالي للسورة 9 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الذاريات» 11 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 11 الغرض منها وترتيبها 11 إثبات الإنذار بالعذاب 11 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الذاريات» 13 المبحث الرابع مكنونات سورة «الذاريات» 15

سورة"الطور"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الذاريات» 17 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الذاريات» 19 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الذاريات» 21 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الذاريات» 25. سورة «الطور» المبحث الأول أهداف سورة «الطور» 29 القسم في صدر السورة 29 نعيم الجنة 31 أدلة القدرة 31 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الطور» 33 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 33 الغرض منها وترتيبها 33 إثبات الإنذار بالعذاب 33 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الطور» 35 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الطور» 37

سورة"النجم"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الطور» 39 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الطور» 41 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الطور» 43. سورة «النجم» المبحث الأول أهداف سورة «النجم» 47 1- تكريم الرسول 47 2- أوهام المشركين 48 3- الإعراض عن الملحدين 48 4- الصغائر من الذنوب 48 5- حقائق العقيدة 49 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النجم» 51 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 51 الغرض منها وترتيبها 51 نزول جبريل بالدعوة 52 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النجم» 53 المبحث الرابع مكنونات سورة «النجم» 55

سورة"القمر"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النجم» 57 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النجم» 59 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النجم» 61 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النجم» 63. سورة «القمر» المبحث الأول أهداف سورة «القمر» 67 انشقاق القمر 67 سياق السورة وافكارها 68 خمس حلقات من مصارع المكذبين 68 1- قوم نوح 68 2- عاد قوم هود 69 3- ثمود قوم صالح 69 4- قوم لوط 69 5- حكمة الخالق 70 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القمر» 71 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 71 الغرض منها وترتيبها 71 اقتراب ساعة العذاب 71

سورة"الرحمن"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القمر» 73 المبحث الرابع مكنونات سورة «القمر» 75 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «القمر» 77 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «القمر» 79 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «القمر» 81 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «القمر» 83. سورة «الرحمن» المبحث الأول أهداف سورة «الرحمن» 87 المعنى الإجمالي للسورة 88 تفسير النسفي للاية 89 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الرحمن» 91 تاريخ نزولها وتسميتها 91 الغرض منها وترتيبها 91 تعداد نعم الله على عباده 91

سورة"الواقعة"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الرحمن» 93 المبحث الرابع مكنونات سورة «الرحمن» 95 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الرحمن» 97 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الرحمن» 99 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الرحمن» 101 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الرحمن» 105. سورة «الواقعة» المبحث الأول أهداف سورة «الواقعة» 111 ثلاثة أصناف 111 أصحاب اليمين 111 أصحاب الشمال 112 آيات القدرة الالهية 112 الزرع والماء والنار 113 مواقع النجوم 114 نهاية الحياة 115 الأفكار العامة للسورة 116

سورة"الحديد"

فضل السورة 116 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الواقعة» 117 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 117 الغرض منها وترتيبها 117 تفصيل الجزاء الأخروي 117 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الواقعة» 119 المبحث الرابع مكنونات سورة «الواقعة» 121 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الواقعة» 123 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الواقعة» 125 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الواقعة» 127 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الواقعة» 131. سورة «الحديد» المبحث الأول أهداف سورة «الحديد» 135 مطلع السورة 135 أدلة التوحيد 136

سورة"المجادلة"

تثبيت الايمان 136 مشاهد الاخرة 137 القلوب الخاشعة 138 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحديد» 141 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 141 الغرض منها وترتيبها 141 الدعوة إلى الإيمان والإنفاق في سبيله 141 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحديد» 145 المبحث الرابع مكنونات سورة «الحديد» 147 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحديد» 149 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحديد» 151 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحديد» 153 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحديد» 157. سورة «المجادلة» المبحث الأول أهداف سورة «المجادلة» 161

سورة"الحشر"

تربية إلهية 161 قصة المجادلة 162 أهداف السورة 163 المقصد الإجمالي للسورة 165 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المجادلة» 167 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 167 الغرض منها وترتيبها 167 بيان حكم الظهار 168 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المجادلة» 171 المبحث الرابع مكنونات سورة «المجادلة» 173 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المجادلة» 175 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المجادلة» 177 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المجادلة» 179 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المجادلة» 181. سورة «الحشر» المبحث الأول أهداف سورة «الحشر» 185

سورة"الممتحنة"

غزوة بني النضير 185 تسلسل أفكار السور 188 المقصد الإجمالي للسورة 189 النظام الاقتصادي في الإسلام 189 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحشر» 193 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 193 الغرض منها وترتيبها 193 الكلام على غزوة بني النضير 194 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحشر» : 197 المبحث الرابع مكنونات سورة «الحشر» 199 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحشر» 201 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحشر» 203 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحشر» 205 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحشر» 209. سورة «الممتحنة» المبحث الأول أهداف سورة «الممتحنة» 213

قصة نزول السورة 213 حاطب يفشي السر 214 فكرة السورة 215 تسلسل أفكار السورة 216 مقصود السورة إجمالا 218 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الممتحنة» 219 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 219 الغرض منها وترتيبها 219 النهي عن موالاة المشركين 219 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الممتحنة» 221 المبحث الرابع مكنونات سورة «الممتحنة» 223 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الممتحنة» 225 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الممتحنة» 227 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الممتحنة» 229 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الممتحنة» 231.

سورة"الصف"

سورة «الصف» المبحث الأول أهداف سورة «الصف» : 235 سبب نزول السورة: 236 هدفان للسورة: 236 لسورة الصف هدفان رئيسان: 236 المقصد الإجمالي للسورة 238 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الصف» 239 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 239 الغرض منها وترتيبها 239 الحث على الجهاد 239 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الصف» 241 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الصف» 243 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الصف» 245 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الصف» 247 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الصف» 249.

سورة"الجمعة"

سورة «الجمعة» المبحث الأول أهداف سورة «الجمعة» 253 تسلسل أفكار السورة 253 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الجمعة» 257 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 257 الغرض منها وترتيبها 257 الحث على العمل بالعلم 257 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الجمعة» 259 المبحث الرابع مكنونات سورة «الجمعة» 261 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الجمعة» 263 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الجمعة» 265 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الجمعة» 267. سورة «المنافقون» المبحث الأول أهداف سورة «المنافقون» 271

النفاق في المدينة 271 قصة نزول السورة 272 مع السورة 275 المعنى الاجمالي للسورة 276 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المنافقون» 277 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 277 الغرض منها وترتيبها 277 مؤامرة المنافقين على المهاجرين 277 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المنافقون» 279 المبحث الرابع مكنونات سورة «المنافقون» 281 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «المنافقون» 283 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «المنافقون» 285 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «المنافقون» 287.

الجزء العاشر

الجزء العاشر توضيح ينبغي لنا الإشارة إلى أنّ بعض المباحث التي كانت مطردة في المجلدات السابقة ستغيب عن هذا المجلد وما سيليه من مجلدات. ومردّ ذلك إلى أنّ طبيعة السور القرآنية الكريمة التي غابت عنها تلك المباحث، لا تستجيب لدواعي بعض العناوين فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ سورة قرآنية كريمة، لا تشتمل على معان لغوية غامضة، أو لا يكتنفها شيء من التغاير في الفهم والتحليل، لا تحتاج إلى مبحث «المعاني اللغوية» . وكذلك، فإن سورة قرآنية كريمة لا يتضمّن نصّها مجازا، لا تستجيب، وفاقا لنمط بيانها، إلى مبحث «المعاني المجازية» ... وقس على ذلك. وغنيّ عن القول أنّ أصحاب المصادر والمراجع التي ارتكزت عليها هذه الموسوعة هم أهل معرفة ودراية، بل هم أهل الاختصاص في هذا الشأن ولم يتركوا هذه المباحث سهوا أو نشدانا لراحة، أو تخفيفا من عناء. وما كان لهم أن يغفلوها لو أنهم وجدوا ما يقتضيها ناهيك من أنّ بعض المباحث قد استوفت أغراضها في آيات متشابهات من سور تضمنتها المجلدات السابقة. فصار الكلام عليها، في هذا المجلد وما يليه، من قبيل التكرار.

سورة التغابن 64

سورة التغابن 64

المبحث الأول أهداف سورة"التغابن"

المبحث الأول أهداف سورة «التغابن» «1» سورة التغابن سورة مدنية، آياتها 18 آية، نزلت بعد سورة التحريم. والتغابن بمعنى الغبن، لأن أهل الجنّة يغبنون أهل النار، ويأخذون أماكنهم في الجنّة. أي ينتصر أهل الجنّة في ذلك اليوم، لأنهم نالوا حقّهم مضاعفا. وقال جار الله الزمخشري: التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضا، لنزول السّعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء في منازل السّعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء كما ورد في الحديث: «ما من عبد يدخل الجنّة إلّا ويرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلّا ويرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة» . قال النيسابوري: «يجوز أن يفسّر التغابن بأخذ المظلوم حسنات الظالم، وحمل الظالم خطايا المظلوم وإن صحّ مجيء التغابن بمعنى الغبن، فذلك واضح في حقّ كل مقصّر صرف شيئا من استعداده الفطريّ في غير ما أعطي لأجله» . وقال الشيخ مخلوف: «يوم التغابن يظهر فيه غبن الكافر بتركه الإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان» .

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع السورة

مع السورة [في الآيات 1- 4] ، نجد آيات تذكر جلال الخالق المبدع، وتصور قدرة الله القدير. 1- فهو سبحانه مالك الملك، وصاحب الفضل والنّعم، وهو القادر القاهر المتّصف بصفات الجلال والكمال، وقدرة الله لا حدود لها فهي محيطة بكلّ شيء، مهيمنة على كلّ شيء، مدبّرة لكلّ شيء، حافظة لكلّ شيء، لا يفتر عنها شيء، سواء في ذلك الكبير والصغير والجليل والحقير. والمؤمن يدرك آثار هذه القدرة، ويشعر بجلال الله وعظمته، وعلمه ووقايته، وقهره وجبروته، ورحمته وفضله، وقربه منه في كلّ حال. 2- وقد خلق الله الإنسان ومنحه الإرادة والاختيار، وميّزه بذلك من جميع الموجودات، وأرسل اليه الرسل وأنزل إليه الكتاب ليساعده على الإيمان. ومن الناس من يهديه الله للإيمان، ومنهم من يختار الكفر والجحود. 3- وقد أبدع الله خلق السماء فرفعها، وزيّنها بالنّجوم، وخلق الأرض، وأودع فيها الأقوات والأرزاق، والجبال والبحار والأنهار وخلق الإنسان في أبدع صورة وأحسن تركيبه، حيث يجتمع فيه الجمال الى الكمال، ويتفاوت الجمال بين شكل وشكل، ولكنّ الله، جلّ جلاله، متّع الجميع بكل ما يحتاجون إليه من الآلات الجسديّة، ومن المواهب المعنويّة، ومن الخصائص التي يتفوّق بها الإنسان على سائر الأحياء. 4- وقد أحاط علم الله، سبحانه، بالسماء والأرض والسر والعلن، والمؤمن يحسّ، من الله تعالى، إحاطة علمه به، ويشعر أنّه مكشوف كلّه لعين الله، فليس له سر يخفى عليه، وليست له نيّة غائرة في الضمير لا يراها، وهو العليم بذات الصدور. وبهذه المعاني يستقرّ الإيمان في القلب، ويستقرّ تعظيم الله، سبحانه، والشعور بجلاله ورقابته. أمّا الآيتان 5 و 6، فتذكّران بما أصاب مكذّبي الرّسل من الهلاك والدّمار. لقد جاءتهم الرّسل بالآيات الواضحة، فاستكثروا أن يكون النبيّ إنسانا من البشر، وأعرضوا عن الهدى

روابط الأسرة

فأعرض الله عنهم، وهو سبحانه غني عن عباده، محمود على نعمائه. و [الآيات 7- 13] تستعرض شبهة الكافرين في البعث وإنكارهم له، وتردّ عليهم بأنّ البعث حقيقة مؤكدة، ويتبع البعث الحساب والجزاء. والإيمان بالله ورسوله سبيل النجاة والهداية، فسيجمع الله المؤمنين والكفّار في يوم التغابن. والتغابن تفاعل من الغبن، وهو تصوير لما يقع من فوز المؤمنين بالنعيم، وحرمان الكافرين من كلّ شيء منه، ثمّ صيرورتهم الى الجحيم فهما نصيبان متباعدان، وكأنّما كان هناك سباق للفوز بكلّ شيء، ليغبن كلّ فريق مسابقه، ففاز فيه المؤمنون، وهزم فيه الكافرون. إنّ من آمن وعمل صالحا له جزاؤه في جنّة الخلد والفوز العظيم، ومن كفر بالله وكذّب بآياته، له عقابه وخلوده في النار وبئس المصير. وإنّ من أصول الإيمان أن تؤمن بالقضاء والقدر وأن ترى الله خالق كلّ شيء، وأن تفوّض إليه الأمر، وأن تحني رأسك إجلالا لعظمته، وتسليما لقضائه وقدره. وطاعة الله وطاعة الرسول طريق الفلاح، والإعراض عن طاعتهما نذير بالعقاب، وليس هناك في الكون إلّا إله واحد، يتوكّل عليه المؤمن، ويتيقّن بوجوده، ويوحّده ويعظّمه، وذلك أساس العقيدة الإسلامية: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) . روابط الأسرة تتّجه الآيات الأخيرة من السورة لبناء المجتمع، وتهذيب العاطفة، وتوجيه العلاقات الأسرية الوجهة السليمة. فالآيات الأولى من السورة شبيهة بالآيات المكّيّة في بناء العقيدة، وتأكيد معنى الألوهيّة، وبيان صفات الله وكمالاته أمّا الآيات الأخيرة من السورة فتتّجه لبناء مجتمع سليم. وفي تفسير مقاتل وابن جرير الطبري: أنّ الآية 14 نزلت في قوم كانوا أرادوا الإسلام والهجرة، فثبّطهم عن ذلك أزواجهم وأولادهم. وروى ابن جرير، عن عكرمة، أنّ رجلا سأل ابن عباس عن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [الآية

14] ، قال: هؤلاء رجال أسلموا فأرادوا أن يأتوا رسول الله (ص) بالمدينة، فلمّا أتوا رسول الله (ص) ورأوا الناس قد فقهوا في الدين، همّوا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وفيها: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) . فينبغي ألا تشغل المكلّف زوجته ولا أولاده عن طاعة الله، وأن تكون أسرته لمرضاة ربّه، معينة على الصلاح والإصلاح. إنّ الله يمتحن الإنسان بالمال والولد، فالمؤمن يتّخذ ماله وسيلة لمرضاة ربّه ويجعل من ولده أثرا صالحا وعند الله الأجر الأكبر لمن أحسن استخدام ماله وولده في طريق الخير والإحسان. روى الإمام أحمد: أنّ رسول الله (ص) كان يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله (ص) عن المنبر فحملهما، ووضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله ورسوله نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الآية 15] . «نظرت إلى هذين الصبيّين يمشيان ويعثران حتّى قطعت حديثي ورفعتهما» . وفي الأثر: الولد مجبنة مبخلة، أي يجعل والده جبانا وبخيلا، رغبة من الأب في توفير الحماية والمال لولده. والإسلام يهذّب الغرائز، وينمّي الفطرة ويوجّهها الوجهة السليمة، فيأمر بالاعتدال في حبّ المال والولد، ويحذّر من الافتتان بهما، وإذا طلبت الزوجة أو الأولاد، ما يغضب الله فحذار من طاعتهما، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وكلّ ما قد ترى تفنى بشاشته يبقى الإله ويفنى الأهل والولد وفي آخر السورة دعوة إلى تقوى الله قدر الطاقة والاستطاعة، وحثّ على الصدقة والإحسان، وتحذير من البخل والشّحّ: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الآية 17] . وإن تقدموا صدقة للفقراء، وعملا صالحا في مرضاة الله، فإنّ الله يضاعف الثواب لكم إلى سبعمائة ضعف، ويصفح عن سيئاتكم، ويشكر لكم أعمالكم، وهو سبحانه شكور حليم. فالله صاحب الفضل والنّعم يطلب من عبده فضل ما أعطاه، ثم يشكر لعبده ويعامله بالحلم والعفو عن التقصير ما أجمل الله وما أعظم حلمه، وما أوسع رحمته وفضله!

المعنى الإجمالي للسورة

وفي الآية الأخيرة تظهر صفات الجلال والكمال، فهو سبحانه عالِمُ الْغَيْبِ أي ما لا تراه العباد ويغيب عن أبصارهم. وَالشَّهادَةِ ما يشاهدونه فيرونه بأبصارهم. فكلّ شيء مكشوف لعلمه، خاضع لسلطانه، مدبّر بحكمته وهو العزيز الغالب، الحكيم في تدبير خلقه وصرفه إيّاهم فيما يصلحهم. المعنى الإجمالي للسورة قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة التغابن: بيان تسبيح المخلوقات، والحكمة في تخليق الخالق، والشكاية من القرون الماضية، وإنكار الكفّار البعث والقيامة، وبيان الثواب والعقاب، والإخبار عن عداوة الأهل والأولاد، والأمر بالتّقوى حسب الاستطاعة، وتضعيف ثواب المتّقين، والخبر عن اطّلاع الحقّ على علم الغيب في قوله سبحانه: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"التغابن"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التغابن» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة التّغابن بعد سورة التحريم، ونزلت سورة التحريم بعد سورة الحجرات، ونزلت سورة الحجرات فيما بين صلح الحديبية وغزوة بدر، فيكون نزول سورة التغابن في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في [الآية 9] منها: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وتبلغ آياتها ثماني عشرة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إنذار الكافرين، من المنافقين وغيرهم، بعذاب الدنيا والاخرة، ليدعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإنفاق في سبيله ولا شكّ في أنّ هذا الغرض قريب من الأغراض المقصودة من سورة «المنافقون» والسور السابقة عليها، وهذا هو وجه المناسبة في ذكر هذه السورة بعدها. الإنذار بعذاب الدنيا والاخرة الآيات [1- 18] قال الله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) فذكر، سبحانه، تسبيح كلّ شيء له واختصاصه بالملك والحمد، وأنه خلقنا فمنّا كافر ومنّا مؤمن، وهو بصير

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

بما نعمله وأنّه، جلّ جلاله، خلق السماوات والأرض بالحقّ، ولم يخلقهما عبثا وأنّه صوّرنا فأحسن صورنا وإليه مصيرنا وأنه يعلم ما نسرّ وما نعلن فيحاسبنا عليهما ثم ذكر ما أنزله من عذاب الدنيا بالكافرين السابقين وما أعدّه لهم من عذاب الاخرة، ليكون في هذا نذير لهم وذكر أنّهم يزعمون أنّهم لن يبعثوا، وردّ عليهم بأنّهم سيبعثون وسينبّأون بعملهم ثم أمرهم أن يؤمنوا به وبرسوله وحذّرهم اليوم الذي يجمعهم فيه وهو يوم التغابن، لأنّ أهل الحقّ يغبنون فيه أهل الباطل وذكر أن من يؤمن به ويعمل صالحا يكفّر عنه سيّئاته ويدخله جنّاته، ومن يكفر به يعذبه بناره، وكل هذا بإذنه وتقديره ثمّ أمرهم، بعد هذا، أن يطيعوه ويطيعوا رسوله، فإن أعرضوا عن طاعتهما فقد بلّغوا ما أمروا به، وليس على النبي (ص) إلّا أن يبلّغهم، ثمّ يتوكل بعد هذا عليه، سبحانه، هو ومن آمن به لينصرهم عليهم ثم ذكر لهم أنّ من أزواجهم وأولادهم عدوّا لهم، وحذّرهم أن يؤثروهم على دينهم ثمّ أمرهم أن يتقوه ما استطاعوا، وينفقوا في سبيله من أموالهم. ووعدهم بأن يضاعف لهم ما ينفقونه ويغفر لهم، لأنّه شكور حليم: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"التغابن"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التغابن» «1» أقول: لمّا وقع في آخر سورة «المنافقون» : وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [الآية 10] . عقّب بسورة التغابن، لأنه قيل في معناه: إن الإنسان يأتي يوم القيامة، وقد جمع مالا، ولم يعمل به خيرا، فأخذه وارثه بسهولة، من غير مشقّة في جمعه، فأنفقه في وجوه الخير، فالجامع محاسب معذّب مع تعبه في جمعه، والوارث منعّم مثاب، مع سهولة وصوله إليه، وذلك هو التغابن. فارتباطه باخر السورة المذكورة في غاية الوضوح. ولهذا قيل هنا: وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) . وأيضا ففي آخر «المنافقون» : لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الآية 9] . وفي هذه: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الآية 15] . وهذه الجملة كالتعليل لتلك الجملة، ولذا ذكرت على ترتيبها «2» . وقال بعضهم: لمّا كانت سورة «المنافقون» رأس ثلاث وستين سورة، أشير فيها إلى وفاة النبي (ص) بقوله تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [الآية 11] . فإنّه مات على رأس ثلاث وستين سنة، وعقّبها بالتغابن، ليظهر التغابن في فقده (ص) «3» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . يعني الأموال أوّلا، والأولاد ثانيا، وفي كلتا السورتين. (3) . أورد السيوطي هذا القول في الإتقان: 4: 30 غير معزو كما هو هاهنا، كدليل على أنه ما من شيء إلّا ويمكن استخراجه من القرآن. [.....]

المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة"التغابن"

المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «التغابن» «1» قال تعالى: فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا [الآية 6] بالجمع لأن «البشر» في المعنى جماعة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة"التغابن"

المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «التغابن» «1» إن قيل: لم قال تعالى: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [الآية 2] فقدّم الكافر في الذكر؟ قلنا: الواو لا تعني رتبة ولا تقتضي ترتيبا، كما قال تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) [هود] ، وقال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر: 20] ، وقال سبحانه: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: 32] ، وقال تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) [الشورى] . وقد ذكرنا في الآية الأخيرة معنى آخر في موضعها. فإن قيل: قوله تعالى: وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [الآية 6] يوهم وجود التولّي والاستغناء معا بعد مجيء رسلهم إليهم، والله تعالى لم يزل غنيا؟ قلنا: معناه: وظهر استغناء الله تعالى عن إيمانهم وعبادتهم حيث لم يلجئهم إلى الإيمان، ولم يضطرّهم إليه مع قدرته تعالى على ذلك. فإن قيل: لم قال تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [الآية 11] مع أنّ الهداية سابقة على الإيمان، لأنّه لولا سبق الهداية لما وجد الإيمان؟ قلنا: ليس المراد «يهد» قلبه للإيمان، بل المراد به «يهد» قلبه لليقين عند نزول المصائب، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. الثاني «يهد» قلبه للرّضا والتسليم عند نزول المصائب. الثالث

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

«يهد» قلبه للاسترجاع عند نزول المصائب، وهو أن يقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) [البقرة] . الرابع «يهد» قلبه: أي يجعله ممّن إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر. والخامس: «يهد» قلبه لاتّباع السّنّة إذا صحّ إيمانه، وقرئ (يهدأ) بفتح الدال وبالهمز، من الهدوّ، وهو السّكون، فمعناه: ومن يؤمن بالله إيمانا خالصا يسكن قلبه، ويطمئن عند نزول المصائب والمحن، ولا يجزع ويقلق.

المبحث السادس المعاني المجازية في سورة"التغابن"

المبحث السادس المعاني المجازية في سورة «التغابن» «1» في قوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [الآية 8] استعارة. والمراد بالنور هاهنا القرآن. وإنّما سمّي نورا لأنّ به يهتدى في ظلم الكفر والضلال، كما يهتدى بالنور الساطع، والشهاب اللامع. وضياء القرآن أشرف من ضياء الأنوار، لأن القرآن يعشو إليه القلب، والنور يعشو إليه الطّرف. وقوله سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ [الآية 9] . فذكر التغابن هاهنا مجاز، والمراد به، والله أعلم، تشبيه المؤمنين والكافرين بالمتعاقدين والمتبايعين فكأنّ المؤمنين ابتاعوا دار الثواب، وكأنّ الكافرين اعتاضوا منها دار العقاب، فتفاوتوا في الصّفقة، وتغابنوا في البيعة، فكان الربح مع المؤمنين، والخسران مع الكافرين. ويشبه ذلك قوله تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الصفّ] . وليس في السورة التي يذكر فيها «الطلاق» «2» شيء من الغرض الذي نقصده في هذا الكتاب.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . يرى المؤلّف أن سورة الطلاق ليس فيها شيء من مجازات القرآن.

سورة الطلاق 65

سورة الطّلاق 65

المبحث الأول أهداف سورة"الطلاق"

المبحث الأول أهداف سورة «الطلاق» «1» سورة الطلاق سورة مدنية وآياتها 12 آية، نزلت بعد سورة الإنسان. العناية بالأسرة عني الإسلام بنظام الأسرة، ودعا إلى تدعيم روابط المحبة والمودّة بين الزوجين، وجعل الألفة بينهما آية من آيات الله قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21] . وقد حفل القرآن الكريم بشأن العلاقات الزوجية والعائلية، فحرص على سلامة الأسرة وتأكيد مودة الأبناء للآباء، ورعاية الآباء للأبناء، ثمّ حثّ الزوج على إحسان معاملة زوجته، والتسامح معها، والصفح عن بعض هفواتها، وعدم التسرع في طلاقها. فلعلّ البغيض يصبح حبيبا، ولعلّ الله أن يرزق الزوجين ثمرة تقوّي الروابط المشتركة بينهما. قال تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) [النساء] . «إنّ الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها، وإنّما ينظّمها ويطهّرها، ويرفعها عن المستوي الحيواني، ويرقّيها حتّى تصبح هي المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية ويقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية، التي تجعل من التقاء جسدين،

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

الطلاق

التقاء نفسين وقلبين وروحين وبتعبير شامل التقاء إنسانين، تربط بينهما حياة مشتركة، وآمال مشتركة، وآلام مشتركة، ومستقبل مشترك، يلتقي في الذّرّيّة المرتقبة، ويتقابل في الجيل الجديد، الذي ينشأ في العشّ المشترك، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان» . وقد حظيت تشريعات الأسرة بعناية القرآن والسّنّة، والفقه الإسلامي والدراسات الإسلامية. وندرك، من روح الدين الإسلامي ومن تشريعاته، رغبته في استقرار الأسرة، واستمرار الرابطة الزوجية. «وقد أحاط الإسلام رابطة الزوجية بكل الضمانات التي تكفل استقرارها واستمرارها، وفي سبيل هذه الغاية يرفعها إلى مرتبة الطاعات، ويعين على قيامها بمال الدولة للفقراء والفقيرات، ويفرض الآداب التي تمنع التبرّج والفتنة، كي تستقرّ العواطف ولا تلتفّ القلوب على هتاف المتبرّجة ويفرض حد الزنا واحد القذف، ويجعل للبيوت حرمتها بالاستئذان عليها، والاستئذان بين أهلها في داخلها» . وفي كتب الصّحاح حشد رائع من الأحاديث النبوية الشريفة تتضمن التوصية بالنساء، وإحسان معاملتهن، وتطييب خواطرهنّ وتجعل طاعة المرأة لزوجها فريضة، ومحافظتها على بيته وسرّه وأولاده حقّا واجبا، ورعايتها لما تحت يدها أمانة وتحثّ الزوجين على تقوية الروابط بينهما، والتعاون من أجل وحدة الهدف واستبقاء الحياة الزوجية، وتربية الأبناء والذّرّيّة، فيقول النبي (ص) : «استوصوا بالنساء خيرا» . ويقول عليه الصلاة والسلام: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته. الرجل راع وهو مسؤول عن رعيّته، والمرأة في بيت زوجها راع وهي مسؤولة عن رعيّتها.. وكلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته» . الطلاق نزل القرآن الكريم من عند العليم الخبير، البصير بالنفوس وطبائعها، والعواطف وجموحها، والغرائز وتكوينها فقد تصاب سفينة الحياة الزوجية ببعض الصّدمات والاضطرابات، وعندئذ يوصي القرآن الرجل بالتريّث والترقّب، وعدم اتّباع الهوى ونزوات الغضب.

فإذا اشتد الخلاف بين الزوجين، وكثر النزاع بينهما، فلا مانع من التّفاهم بالمعروف على نقاط الخلاف، ودراسة أسباب النزاع، ليتعرّف كلّ طرف على ما يؤلمه من الطرف الاخر، وهذه المعرفة يمكن أن تكون وسيلة عملية إلى أن يتجنّب كلّ طرف ما يؤلم شريك حياته، أو يخفف من هذه الآلام وهذا نوع من استدامة العشرة أو تحمل المسيرة. فإذا لم يجد التفاهم الشخصيّ بين الزوجين، وتفاقمت الأمور وتحوّلت إلى النّفور والنشوز، والرّغبة في الإعراض والفرار، فليس الطلاق أوّل خاطر يهدي اليه الإسلام، بل لا بدّ من محاولة يقوم بها الآخرون، وتوفيق يحاوله أهل الخبرة والتجربة، أو أهل العلم والمعرفة بشئون الحياة الزوجية، أو بعض الأقارب المحنّكين. قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) [النساء] . وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء: 128] . وفي نصوص القرآن والسنة والآثار ما يحضّ على استبقاء الحياة الزوجية، والقناعة والرّضا، وعدم التطلّع إلى الآخرين. قال تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ [الحجر: 88] . ويقول النبي (ص) «إن الله لا يحبّ الذوّاقين ولا الذوّاقات، فإذا تزوّجتم فلا تطلّقوا» . وجاء رجل إلى سيّدنا عمر رضي الله عنه، يريد أن يطلّق زوجته، فسأله عمر عن السبب، فقال الرجل إنّي لا أحبّها، فقال له عمر: أو كلّ البيوت تبنى على الحبّ؟ فأين التذمّم وأين الوفاء؟ أي إنك أعطيت زوجتك أملا وعهدا صادقا، وذمّة بأن تكون لك، فاتق الله في هذا العهد، وهذه الذمة، وهذا الأمل فلا تهدم بيتك بيدك، ولا تخيّب آمالا تعلّقت بك. وقد سمّى الله الزواج ميثاقا غليظا، ثمّ حثّ على حسن العشرة، أو على الفراق بالمعروف، والإحسان إلى الزوجة ومكارمتها، وترك بعض الأموال والمهر تطييبا لخاطرها، وتعويضا لها عمّا أصابها من أضرار.

مع السورة

قال تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) [النساء] . مع السورة ممّا شرعه الله تعالى للحدّ من الطلاق، أنه سبحانه لم يبح الطلاق في كل وقت، بل أمر بالصبر والتريث والانتظار فقد يكون الرجل واقعا تحت تأثير غضب جامح، أو نزوة عارضة. كما أنّ المرأة إنسان مرهف الإحساس في حاجة إلى التلطّف وحسن المعاملة. ويتمثّل ذلك فيما يأتي: 1- ينبغي أن يكون الطلاق في طهر لم تجامع فيه المرأة حتّى تستقبل عدّتها بدون تطويل عليها. 2- ينبغي أن تقيم المرأة في بيت الزوجية، فهو بيتها ما دامت على ذمّة الزوج، ولا يجوز خروجها منه إلّا في حالة الضرورة، بأن يترتّب على بقائها في البيت نزاع لا يطاق، أو إساءة لأهل الزوج، أو ارتكاب لذنوب كبيرة. 3- أباح الله للزوج مراجعة زوجته في فترة العدّة، ولعلّ في بقائها في بيت زوجها ما يجعله يعدل عن الطلاق ثمّ إنّ القلوب بيد الله تعالى، وهو سبحانه مقلّب القلوب. قال تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) . 4- إذا أتمّت المرأة عدّتها فيجب أن يمسكها الزوج بالمعروف، أو يفارقها بالمعروف ولا بدّ من الإشهاد على الطلاق أو الرّجعة، حتّى تكون الحياة بين الزوجين ناصعة نزيهة. 5- حثّ القرآن على التّقوى ومراقبة الله تعالى، وإدراك أنّ الرزق بيده سبحانه والمال رزق، والتوفيق رزق، وينبغي أن يكون المؤمن متوكلّا على الله في كلّ حال فهو مقدّر الأمور وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) فلكلّ حياة ولكلّ أمر قدر، وكلّ شيء مقدّر بمقداره، وبزمانه وبمكانه وبملابساته، وبنتائجه وأسبابه، وليس شيء مصادفة، وليس شيء جزافا في هذا الكون كلّه، وفي نفس الإنسان وحياته.

6- لقد بيّن القرآن في سورة البقرة عدّة المطلّقة، بأنها ثلاث حيضات، فإذا حاضت المرأة ثلاث مرات تأكّدت من خلوّ رحمها من الحمل، ويباح لها الزواج بعد مدة العدة. قال تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] وفي الآية الرابعة من سورة الطلاق بيان عدة المرأة التي لا تحيض، إمّا لصغر سنّها أو لكبر سنّها فالمرأة قبل البلوغ لا تحيض، وبعد سن الخمسين سنة لا ينزل عليها الحيض. ومثل هذه المرأة عدّتها ثلاثة أشهر، أمّا المرأة الحامل فعدّتها وضع الحمل. وتتخلّل آيات الطلاق دعوة الى تقوى الله، وبيان أنّ هذه الأحكام من عند الله، ومن يتّق الله ويطع أوامره ويحسن معاملة الطرف الاخر، فله أجر عظيم، وثواب كبير. 7- وتفيد الآيتان 6 و 7 أنّ الزوجة في فترة العدة لا تزال على ذمة الزوج، ولذلك يجب أن تسكن في سكن مناسب لحالة الزوج، ولا يصحّ أن يحتال الزوج لينزل ضررا بزوجته ومهما طالت فترة الحمل فيجب على الزوج أن يساهم في نفقة الحامل حتّى تضع حملها، وفي فترة الرضاعة يجب على الزوج أن يساهم في نفقة الرضاعة، ودفع أجرتها للأم، وهذه النفقة تقدّر بحال الزوج ويساره أو إعساره. وبذلك وضع القرآن أصولا يلتزمها كلّ إنسان، فالفقير ينفق حسب حالته، والغني ينفق ممّا أعطاه الله، والأرزاق بيد الله فهو سبحانه الميسّر، وهو الرزّاق ذو القوّة المتين، قال تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) . 8- وقد عالجت السورة كل أنواع الكيد والحيل في إصابة الشريك بالأذى عند إنهاء الحياة الزوجية، بقوله تعالى وَلا تُضآرُّوهُنَّ وهذا القول يشمل كل أنواع العنت التي لا يحصرها نصّ قانوني مهما اتّسع وفي الحديث الشريف: «لا ضرر ولا ضرار» ، وهو أصل عامّ ينهى المؤمن عن ضرر الناس، فضلا عن إضراره بمن كانت زوجة له.

المعنى الإجمالي للسورة

وتفيد السورة أنّ الرزق بيد الله، وأنّ الأمل في وجه الله وبذلك تنتهي الحياة الزوجية بالأدب الجميل الرفيع، وبالأمل في استئناف حياة أفضل وأيسر سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) . وفي ختام سورة الطلاق تعرض السورة عددا من المؤثرات العاطفية تظهر فيها قدرة الله وجلاله، فإن تغلّب شريك على شريكه الاخر، أو استطاع أن يظلمه، فليتذكر قدرة الله وعقابه للظالمين. لا تظلمنّ إذا ما كنت مقتدرا ... الظّلم شيمته يفضي إلى الندم تنام عيناك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنم [فالآيات 8- 12] وإن كانت في غير موضوع الطلاق، إلّا أنّها تعزف على نغمة مؤثّرة، وتهتف بالقلوب حتّى ترقّ، وبالأفئدة حتّى ترعى جلال الله فالله تعالى أخذ القرى واحدة بعد أخرى، عند ما كذّبت برسلها وقد ساق القرآن هذه العبرة في مصير الذين عتوا عن أمر ربّهم ورسله، فلم يسمعوا ولم يستجيبوا، لتذكّر الناس بالمصير البائس الذي ينتظر من لا يتّقي ولا يطيع، كما تذكّرهم بنعمة الله على الناس في إرسال الرسل، وإنزال التشريع لهداية البشر، وإخراجهم من الظلمات الى النور. 10- والآية الاخيرة في السورة تشير إلى قدرة الله العالية الذي خلق السماوات السبع والأرضين السبع، وهو العليم بما يناسب كلّ المخلوقات والموجودات في السماء والأرض. ثمّ إنّ هذه الأحكام موكولة الى الضمائر، واليقين الجازم بسعة علم الله، واطّلاعه على جميع أفعال العباد. وهكذا تختتم السورة بما يدعو القلوب إلى الإخبات والإنابة فسبحان الحكيم العليم، الذي أحسن كلّ شيء خلقه، وهو الخبير بما يناسب عباده، والمطّلع على خفايا القلوب، وهو عليم بذات الصدور. المعنى الإجمالي للسورة قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة الطلاق ما يأتي: بيان طلاق السّنّة، وأحكام العدّة، والتوكّل على الله في الأمور، وبيان نفقة النساء حال الحمل والرضاعة، وبيان عقوبة المعتدين وعذابهم، وأنّ التكليف على

قدر الطاقة، وللصالحين الثواب والكرامة، وبيان إحاطة العلم والقدرة في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الطلاق"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الطلاق» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الطلاق بعد سورة الإنسان. ونزلت سورة الإنسان بعد سورة الرحمن، ونزلت سورة الرحمن فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك. فيكون نزول سورة الطلاق في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الآية 1] وتبلغ آياتها اثنتي عشرة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السّورة بيان أحكام الطلاق والعدّة، وكان المشركون يأخذون في ذلك بشرائع جائرة في حقّ النّساء، فنزلت هذه السّورة بإنصافهنّ في طلاقهنّ وعدّتهنّ، وتحذير المشركين من الإصرار على شرائعهم الجائرة في هذا وغيره وبهذا يكون سياق هذه السّورة قريبا من سياق السّور السّابقة، وتظهر المناسبة في ذكرها بعد سورة التغابن. حكم الطلاق والعدة الآيات [1- 12] قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فذكر سبحانه أحكام الطلاق والعدّة في سبع آيات من هذه السّورة وذكر، جلّ جلاله، في خلالها من الوعيد على مخالفتها ما ذكر، ثمّ ختم ذلك بذكر ما حصل للقرى السابقة حينما عتت عن أمر ربها من شدّة الحساب، ونكر العذاب، وخسر العاقبة، ليحذّرهم مخالفة ما ذكره من الأوامر والأحكام وليتّقي هذا، أولو الألباب من المؤمنين ثم ذكر تعالى أنه قد أنزل إليهم، بهذا، ما فيه شرف لهم، لأنه يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، وأنّ من يؤمن به، ويعمل صالحا يدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، قد أحسن الله له رزقا: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الطلاق"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الطلاق» «1» أقول: لمّا وقع في سورة التغابن: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ [الآية 14] ، وكانت عداوة الأزواج تفضي إلى الطلاق، وعداوة الأولاد قد تفضي إلى القسوة، وترك الإنفاق عليهم، عقّب ذلك بسورة فيها ذكر أحكام الطلاق، والإنفاق على الأولاد والمطلّقات بسببهم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.

المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة"الطلاق"

المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الطلاق» «1» قال تعالى: قَدْراً (3) وقرأ بعضهم (قدرا) وهما لغتان. وقال تعالى: مِنْ وُجْدِكُمْ [الآية 6] و «الوجد» : المقدرة ومن العرب من يكسر في هذا المعنى فأما «الوجد» إذا فتحت الواو فهو «الحبّ» . وهو في المعنى، والله أعلم، «أسكنوهنّ من حيث سكنتم ممّا تقدرون عليه» . وقال تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الآية 12] بجعل (الأرض) جماعة، كما تقول: «هلك الشاة والبعير» وأنت تعني جميع الشاء وجميع الإبل.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة"الطلاق"

المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الطلاق» «1» إن قيل: لم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الآية 1] أفرد الخطاب أولا، ثمّ جمعه ثانيا؟ قلنا: أفرد سبحانه النبيّ (ص) أولا بالخطاب، لأنه إمام أمّته وقدوتهم، إظهارا لتقدّمه ورئاسته، وأنه وحده في حكم كلّهم، وسادّ مسدّ جميعهم. الثاني: أن معناه: يا أيّها النبي قل لأمّتك إذا طلّقتم النساء. فإن قيل: لم قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. ونحن نرى كثيرا من الأتقياء مضيّقا عليهم رزقهم؟ قلنا معناه: يجعل له مخلّصا من هموم الدنيا والاخرة. وعن النبيّ (ص) أنّه قال: مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة. وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: ينجيه من كلّ كرب في الدنيا والاخرة. والصحيح أنّ هذه الآية عامّة، وأنّ الله يجعل لكلّ متّق مخرجا من كلّ ما يضيق على من لا يتّقي، ولذا قال النبيّ (ص) «إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ [الآية 2] . وجعل يقرأها ويعيدها» وأمّا تضييق رزق الأتقياء، فهو مع ضيقه وقلّته، يأتيهم من حيث لا يأملون ولا يرجون وتقليله لطف بهم ورحمة، ليتوفّر حظّهم في الاخرة ويخفّ حسابهم، ولتقلّ عوائقهم عن الاشتغال بمولاهم، ولا يشغلهم الرخاء والسّعة عمّا خلقوا له من الطاعة

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

والعبادة، ولهذا اختار الأنبياء والأولياء والصّدّيقون الفقر على الغنى. فإن قيل لم قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الآية 3] ، أي من يتق به فيما نابه كفاه الله شرّ ما أهمّه، وقد رأينا كثيرا من الناس يتوكّلون على الله في بعض أمورهم وحوائجهم، ولا يكفون همّها؟ قلنا: محال أنّه يتوكل على الله حقّ التوكّل ولا يكفيه همّه، بل ربما قلق وضجر واستبطأ قضاء حاجته بقلبه أو بلسانه أيضا، ففسد توكّله وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ [الآية 3] أي نافذ حكمه، يبلغ ما يريده ولا يفوته مراد، ولا يعجزه مطلوب، وبقوله تعالى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) أي جعل لكل شيء، من الفقر والغنى، والمرض والصحة، والشدة والرخاء، ونحو ذلك، أجلا، ومنتهى ينتهي إليه لا يتقدّم عنه ولا يتأخّر. فإن قيل: قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الآية 4] ، علّقه بشكّنا مع أنّ عدّتهنّ ذلك سواء أوجد شكّنا أم لا؟ قلنا: المراد بالشّكّ الجهل بمقدار عدة الآيسة والصغيرة، وإنما علّق به لأنّه، لمّا نزل بيان عدّة ذوات الأقراء في سورة البقرة، قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: قد بقي الكبار والصغار لا ندري كم عدّتهنّ، فنزلت هذه الآية على هذا السبب، فلذلك جاءت مقيّدة بالشّكّ والجهل. فإن قيل: إذا كانت المطلّقة طلاقا بائنا تجب لها النفقة عند بعض العلماء، فما الحكمة في قوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ [الآية 6] ؟ قلنا: الحكمة فيه، أن لا يتوهّم أنه إذا طالت مدّة الحمل بعد الطلاق حتّى مضت مدّة عدّة الحائل، سقطت النفقة فنفى سبحانه هذا الوهم، بقوله: حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الآية 6] . فإن قيل: لم قال هنا: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) ، وقال تعالى في موضع آخر: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) [الشرح] فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا: المراد بقوله تعالى «مع» بعده لأنّ الضّدّين لا يجتمعان. فإن قيل: لم قال تعالى:

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فنسب العتوّ إليها، وقال تعالى فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها بلفظ الماضي، مع أنّ الحساب والعذاب المرتّبين على العتوّ، إنّما هما في الاخرة لا في الدنيا؟ قلنا: معناه عتا أهلها، وإنّما جيء به على لفظ الماضي تحقيقا له وتقريرا، لأنّ المنتظر من وعد الله تعالى ووعيده آت لا محالة، وما هو كائن فكأنّه قد حصل، ونظيره قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ [الأعراف: 50] وما أشبهه.

سورة التحريم 66

سورة التّحريم 66

المبحث الأول أهداف سورة"التحريم"

المبحث الأول أهداف سورة «التحريم» «1» سورة التحريم سورة مدنية، آياتها 12 آية، نزلت بعد سورة الحجرات. شاء الله، سبحانه، أن يكون الرسول بشرا به قوّة الإنسان، وتجارب الإنسان، ومحاولات الإنسان، وضعف الإنسان، لتكون سيرة هذا الرسول الإنسان نموذجا عمليا للمحاولة الناجحة، يراها ويتأثّر بها من يريد القدرة الميسّرة العملية الواقعية، التي لا تعيش في هالات، ولا في خيالات. وهذه السورة فيها عتاب للرسول الأمين على تحريمه ما أحل الله له، ولو كتم النبيّ (ص) من أمر القرآن شيئا لكتم هذا العتاب. إن هذا القرآن كتاب الحياة بكلّ ما فيها، وقد شاء الله أن يواكب الوحي حياة الرسول الأمين، فيبارك الخطوات الناجحة، ويقوّم ما يحتاج الى تقويم، وبذلك تكون القدوة في متناول الناس، قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) . لقد عاتب القرآن رسول الله في قبوله الفداء من أسرى بدر، وفي إذنه للمخلّفين بالقعود عن الجهاد، وفي إعراضه عن الأعمى الذي ألحّ في السؤال، وفي تحريمه ما أحلّ الله له. كما عرض القرآن جوانب القوّة والجهاد والتربية والسلوك للنبيّ الأمين، وجعل حياته الخاصة والعامة كتابا مفتوحا لأمّته وللبشريّة كلّها، تقرأ فيه صورة العقيدة، وترى فيه تطبيقاتها

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

قصة التحريم

الواقعية، ومن ثمّ لا يجعل فيها سرّا مخبوءا ولا سترا مطويّا، بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العاديّ، حتّى مواضع الضعف البشريّ، الذي لا حيلة فيه لبشر، بل إنّ الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول (ص) للناس. إن حياة الرسول ملك للدعوة، وهي الصورة المنظورة الممكنة التطبيق من العقيدة، وقد جاء ليعرضها للناس في شخصه وفي حياته، كما يعرضها بقوله وفعله، ولهذا خلق، ولهذا جاء، لتكون السّنّة هي ما أثر عن الرسول (ص) من قول أو فعل أو تقرير، وليكون هو النموذج العمليّ الملموس في دنيا الناس، يتعرّض للأحزان، ويموت ابنه، ويصاب في غزوة أحد، وتنتشر الإشاعات عن زوجته عائشة، ويعيب المنافقون عليه بعض الأمور، لتكون الصورة كاملة للإنسان بكلّ ما فيه، وليكون الوحي بعد ذلك فيصلا، ودليلا هاديا في ما ينبغي سلوكه في هذه الحياة. قصة التحريم تزوّج النبيّ (ص) تسع نساء لحكم إلهية، ولتكون هذه الزوجات مبلّغات لشئوون الوحي في ما يخصّ النساء. وقد قضى النبيّ صدر حياته مع خديجة، وكان عمره، عند زواجه منها، 25 سنة وعمرها أربعين، وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنوات، ولم يتزوّج غيرها في حياتها، وكان وفيا لذكراها، وقد ماتت خديجة وعمره خمسون عاما. ثم تزوّج النبيّ عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر وأمّ سلمة، وقد مات زوجها شهيدا فضم النبي إليه عيالها من أبي سلمة وتزوجها وزينب بنت جحش زوج مولاه ومتبنّاه زيد، ليكون ذلك تشريعا للناس في إباحة زواج الإنسان من زوجة ابنه المتبنّى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) [الأحزاب] . ولمّا تزوّج النبيّ جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق، أعتق الصحابة أقاربها وأسلم أهلها، وكانت أيمن

امرأة على قومها ثمّ تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت مهاجرة إلى الحبشة، ثمّ ارتدّ زوجها وتنصّر، فخطبها النبيّ، وجاءت من الحبشة إلى المدينة ثمّ تزوّج، إثر فتح خيبر صفيّة بنت حيي بن أخطب زعيم بني النضير وكانت آخر زوجاته ميمونة بنت الحارث بن حزن، وهي خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عبّاس. وكانت لكل زوجة من أزواجه (ص) قصة وسبب في زواجه منها، ولم يكن معظمهنّ شابّات، ولا ممن يرغب فيهنّ الرجال لجمال، وكلّ نسائه قد سبق لهن الزواج ما عدا عائشة، فقد كانت البكر الوحيدة بين نسائه. وقد أنجب النبيّ (ص) جميع أبنائه من خديجة، فقد رزق منها صبيّين وأربع بنات، وقد مات الصبيان في صدر حياته، وبقيت البنات الى ما بعد الرسالة ثم ماتت ثلاث من بناته في حياته، وهن: رقيّة وزينب وأمّ كلثوم، وعاشت فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر بعد وفاة أبيها (ص) . ولم ينجب عليه الصلاة والسلام من زوجة أخرى غير خديجة. وكان المقوقس ملك مصر قد أهدى إليه جاريتين هما مارية وسيرين، فتسرّى بمارية، وأهدى سيرين إلى حسّان بن ثابت. ولما كانت مارية جارية، لم يكن لها بيت بجوار المسجد، فكان بيتها في عوالي المدينة، في المحلّ الذي يقال له الآن مشربة أمّ إبراهيم، وقد رزق النبي منها بمولود ذكر سمّاه إبراهيم تيمّنا بإبراهيم الخليل (ع) . وقد ماتت خديجة والنبيّ في الخمسين، ولم يرزق بمولود من نسائه جميعا طوال عشر سنوات، ثمّ رزق إبراهيم وقد تخطّى إلى الستّين، ففاضت نفسه بالمسرّة، وامتلأ قلبه الإنساني الكبير أنسا وغبطة، وارتفعت مارية بهذا الميلاد في عينيه الى مكانة سمت بها عن مقام مواليه إلى مقام أزواجه، وزادت عنده حظوة وقربا. كان طبيعيا أن يدسّ ذلك، في نفوس سائر زوجاته، غيرة تزايدت أضعافا بأنها أمّ إبراهيم، وبأنهنّ جميعا لا ولد لهنّ، وكان النبيّ (ص) يتردّد كل يوم على إبراهيم، ويحمله بين يديه، ويفرح لابتسامته البريئة، ويسرّ بنموّه وجماله. وكانت المرأة في الجاهلية تسام

تحريم مارية

الخسف صغيرة، وتمسك على الذّل كبيرة، فلمّا جاء الإسلام حرّم وأد البنات، وسما بالمرأة إلى منزلة عالية، ووصّى النبي بالنساء خيرا، وعامل نساءه معاملة حسنة، وجعل لنسائه من المكانة ما لم يكن معروفا قط عند العرب. قالت عائشة رضي اللَّه عنها: «كان النبي، إذا خلا بنسائه، ألين الناس، وأكرم الناس، ضحاكا بسّاما» . تحريم مارية حدث أن جاءت مارية القبطية من عوالي المدينة إلى رسول الله، وكانت حفصة في زيارة لبيت أبيها، فدخلت مارية في حجرة حفصة، وأقامت بها وقتا مع النبي (ص) ، وعادت حفصة فوجدت مارية في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها وهي أشدّ ما تكون غيرة، وجعلت كلّما طال بها الانتظار تزداد الغيرة بها شدّة، فلمّا خرجت مارية ودخلت حفصة قالت يا نبيّ الله «لقد جئت إليّ شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك بمثله، في يومي وفي دوري وعلى فراشي» . قال: «ألا ترضين أن أحرّمها فلا أقربها» قالت: بلى، فحرّمها وقال: «لا تذكري ذلك لأحد» فذكرته لعائشة، فأظهره الله عزّ وجلّ، فأنزل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ [الآية 1] ، فبلغنا أن النبيّ (ص) كفّر يمينه وأصاب جاريته. تحريم العسل روى البخاري عن عائشة قالت كان النبي (ص) ، يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها فتواطأت أنا وحفصة على أيّتنا دخل عليها، فلتقل له: أكلت مغافير «1» ؟ إني أجد منك ريح مغافير، قال: «لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود له وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا» .. فهذا هو ما حرّمه على نفسه وهو حلال له، وقد نزل بشأنه: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [الآية 1] . ويبدو أنّ التي حدّثها الرسول (ص)

_ (1) . المغافير: صمغ حلو الطعم، كريه الرائحة.

النبي (ص) يهجر نساءه

هذا الحديث وأمرها بستره، قالته لزميلتها، ثم اطلع الله رسوله على حديثهما. قال ابن جرير الطبري: «والصواب من القول في ذلك أن يقال: كان الذي حرمه النبيّ (ص) على نفسه شيئا كان الله قد أحلّه له، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته، وجائز أن يكون كان شرابا من الأشربة، وجائز أن يكون كان غير ذلك غير أنّه أيّ ذلك كان، فإنّه كان تحريم شيء كان له حلالا، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه» . النبيّ (ص) يهجر نساءه كان من جراء هذا الحادث، وهو تحريم مارية أو تحريم العسل، وما كشف عنه من مكايدات في بيت الرسول (ص) ، أن غضب النبي، فالى من نسائه لا يقربهن شهرا، وهمّ بتطليقهنّ، ثمّ نزلت هذه السورة وقد هدأ غضبه (ص) فعاد إلى نسائه. روى الإمام أحمد في مسنده، والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي، أن ابن عبّاس سأل عمر عن المرأتين اللتين قال الله تعالى لهما: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [الآية 4] فقال عمر: هما عائشة وحفصة، ثم قال عمر: كنّا معشر قريش قوما نغلب النساء فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، قال عمر: فبينما أنا في أمر، إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا كذا، فقلت لها: ومالك أنت، ولم هاهنا وما تكلّفك في أمر أريده؟ فقالت لي: عجبا لك يا ابن الخطّاب؟ ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله (ص) حتّى يظل يومه غضبان، وإن أزواج رسول الله (ص) ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل قال: فانطلقت، فدخلت على حفصة، فقلت أتراجعين رسول الله (ص) حتّى يظلّ يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنّا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله، يا بنيّة لا يغرّنك هذه التي أحذّرك عقوبة حسنها وحب رسول الله (ص) إيّاها. واعتزل رسول الله (ص) نساءه شهرا، منقطعا عنهنّ في مشربة منعزلة، واستأذن عمر على رسول الله (ص) ثلاث مرّات حتّى أذن له، قال عمر: فدخلت، فسلّمت على رسول الله (ص) ، فإذا هو متّكئ على رمل حصير قد أثّر في جنبه، فقلت:

اصطفاء الرسول (ص)

أطلّقت يا رسول الله نساءك، فرفع رأسه إليّ وقال: لا، فقلت: الله أكبر، ولو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فغضبت علي امرأتي يوما، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج النبي (ص) ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت؟ فتبسّم رسول الله (ص) ، فقلت يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرّنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحبّ إلى رسول الله (ص) منك، فتبسّم أخرى، فقلت: استأنس يا رسول الله؟ قال: نعم فجلست، فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت في البيت شيئا يردّ البصر إلّا هيبة مقامه، فقلت ادع الله يا رسول الله أن يوسّع على أمّتك فقد وسّع على فارس والروم، وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا وقال: أفي شكّ أنت يا ابن الخطّاب؟ أولئك قوم عجّلت لهم طيّباتهم في الحياة الدنيا. فقلت استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم ألا يدخل عليهنّ شهرا، من شدّة موجدته عليهنّ. اصطفاء الرسول (ص) يقول تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) [الحج] . لقد اصطفى الله سبحانه محمدا (ص) ليبلّغ الرسالة الأخيرة للناس، واختاره إنسانا تتمثّل فيه العقيدة الإسلامية بكلّ خصائصها، وتتجسّم فيه بكل حقيقتها «ويكون هو بذاته وبحياته الترجمة الصحيحة الكاملة لطبيعتها واتجاهها، إنسانا قد اكتملت طاقاته الإنسانية كلّها، ضليع التكوين الجسدي، قويّ البنية، سليم البناء، صحيح الحواسّ، يقظ الحس، يتذوّق المحسوسات تذوقا كاملا سليما، وهو في الوقت ذاته حيّ العاطفة والطبع، سليم الحساسية، يتذوق الجمال، منفتح للتلقّي، والاستجابة، وهو في الوقت ذاته كبير العقل، واسع الفكر، فسيح الأفق، قويّ الارادة، يملك نفسه ولا تملكه ثمّ هو، بعد ذلك كلّه، النبيّ الذي تشرق روحه بالنور الكلّيّ، والذي

مع السورة

تطيق روحه الإسراء والمعراج، والذي ينادى من السماء، والذي يرى نور ربّه، والذي تتصل حقيقته بحقيقة كلّ شيء في الوجود من وراء الأشكال والظواهر، فيسلم عليه الحصى والحجر، ويحنّ له الجذع، ويرتجف به جبل أحد ثمّ تتوازن في شخصيته هذه الطاقات كلّها، فإذا هي التوازن المقابل لتوازن العقيدة التي اختير لها» . مع السورة 1: حرّم النبي (ص) مارية القبطية على نفسه، أو حرم العسل على نفسه، مرضاة لزوجاته وتنزّل وحي السماء، يفيد أنّ ما أحلّه الله لا ينبغي أن يحرّمه الإنسان. 2: أباح الله للإنسان إذا حرّم حلالا أو أقسم على يمين ورأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ثم يكفّر عن يمينه. 3: أخبر النبي (ص) حفصة بتحريم مارية، وأنّ أبا بكر وعمر يليان أمر هذه الأمة من بعده، وأمرها أن تكتم ذلك، ولكنّها لم تكتمه، وأخبرت به عائشة، وعلم النبيّ بذلك، فلام حفصة على إفشاء سرّه، وأخبرها أنّه لم يعلم هذا السر من عائشة، ولكن من العليم الخبير. 4: أدّبت السورة عائشة وحفصة، وبيّنت أنّ التامر وإفشاء السر مؤلم للنبي، ومقلق لهذا القلب الكبير وهذا أمر يستحقّ التوبة والإنابة ثمّ بيّنت أنّ إيلام النبيّ أمر كريه، وسيرتدّ الكيد على صاحبه، لأنّ النبيّ معه قوة غالبة يكفي أنّ معه الله والملائكة وصالح المؤمنين. 5: هدّد الله نساء النبيّ بالطلاق، وبأن يعوّضه الله منهنّ بنساءهنّ المثل العليا في القنوت والعبادة والتوبة والجمال وقد أثمر هذا التهديد ثمرته، فعادت نساؤه إلى الطاعة والخضوع، واستأنف النبيّ حياته متفرّغا لرسالته، وتبليغ دعوته ومرضاة ربّه، قرير العين في بيته ومع أسرته. والآيات ترسم صورة من الحياة البيتية لهذا الرجل الذي كان ينهض بإنشاء أمّة، وإقامة دولة، على غير مثال معروف، وعلى غير نسق مسبوق، أمة تنهض بحمل أمانة العقيدة الإلهية في صورتها الأخيرة، وتنشئ في الأرض مجتمعا ربّانيّا في صورة واقعية يتأسّى بها الناس.

المعنى الإجمالي للسورة

وفي ظلال هذا الحادث، تهيب الآيات 6- 9: بالذين آمنوا ليؤدّوا واجبهم في بيوتهم، من التربية والتوجيه والتذكير، فيقوا أنفسهم وأهليهم النار، ويرسم لهم مشهدا من مشاهدها، وحال الكفار عندها. ثمّ تجدّد الدعوة إلى التوبة النصوح، وتصور لهم الجنّة التي تنتظر التائبين ثمّ تدعو النبي (ص) إلى جهاد الكفار والمنافقين وحماية المجتمع الإسلامي من الداخل والخارج. فالآيات الأولى [1- 5] : دعوة لتوبة نساء النبيّ وحماية بيته ونفسه. والآيات التالية [6- 9] : دعوة لتوبة المؤمنين ومحافظتهم على تربية أولادهم وبناتهم، لأنّ الأسرة هي قوام المجتمع. ثمّ تجيء الجولة الثالثة والأخيرة، وكأنّها التكملة المباشرة لتهديد عائشة وحفصة، فقد تحدّثت الآيات [10- 12] عن امرأة نوح (ع) وامرأة لوط (ع) ، كمثل للكفر في بيت مؤمن، وهو تهديد مستتر لكلّ زوجة تخون زوجها وتخون رسالته ودعوته، فلن ينجيها من العذاب أنّ أقرب الناس إليها نبيّ رسول، أو داعية كريم، ولا يضرّ المرأة المؤمنة أن يكون أقرب الناس إليها طاغية جبّارا، أو ملكا متسلّطا معتدّا وقد ذكرت امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر، وجعلت السورة في ختامها نموذجا رفيعا للمرأة المؤمنة، يتمثّل في آسية (ع) امرأة فرعون التي استعلت على المال والملك والجاه والسلطان، ورغبت في ما عند الله. ويتمثّل في مريم ابنة عمران (ع) ، المتطهّرة المؤمنة القانتة المصدقة بكلمات ربّها وكتبه. وبذلك نجد المرأة في ركب الإيمان، ويتحدّث القرآن عنها كنموذج للخير يتمثّل في أمّ موسى (ع) ، وفي أم عيسى (ع) ، وفي بلقيس التي أسلمت لله رب العالمين، وفي امرأة فرعون التي زهدت في ملك فرعون، ورغبت في ثواب الله ربّ العالمين. المعنى الإجمالي للسورة قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة التحريم ما يأتي: عتاب الرسول (ص) في التحريم والتحليل، قبل ورود وحي سماويّ، وتعيير الأزواج الطّاهرات على إيذائه

وإظهار سرّه، والأمر بالتحرّز والتجنّب من جهنّم، والأمر بالتوبة النصوح، والوعد بإتمام النور في القيامة، والأمر بجهاد الكفار بطريق السياسة، ومع المنافقين بالبرهان والحجّة، وبيان أن القرابة غير نافعة بدون الإيمان والمعرفة، وأنّ قرب المفسدين لا يضرّ مع وجود الصدق والإخلاص، والخبر عن صدق إيمان امرأة فرعون، وتصديق مريم بقوله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"التحريم"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التحريم» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة التحريم بعد سورة الحجرات، ونزلت سورة الحجرات فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة التحريم في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [الآية 1] ، وتبلغ آياتها اثنتي عشرة آية. الغرض منها وترتيبها نزلت هذه السورة في ما كان من عائشة وحفصة حين شرب النبي (ص) عسلا عند زينب بنت جحش، فتواطأتا وقالتا له: إنّا نشمّ منك ريح المغافير. وهو جمع مغفر، أو مغفر، أو مغفور، أو مغفار، أو مغفير، وهو شيء ينضحه الثّمام «2» يشبه العسل، وريحه كريهة منكرة. فلمّا سمع منهما ذلك حرّم العسل على نفسه، فنزلت هذه السورة لعتابه على تحريم ما أحلّ الله له، وتهديد نسائه بطلاقهنّ إن لم يتبن عن هذه الغيرة فيما بينهنّ والمناسبة بين هذه السورة وسورة الطلاق أنّها في شأن النساء أيضا. قصة التحريم الآيات [1- 12] قال الله تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ. (2) . الثّمام: نبت عشبيّ برّيّ وزراعي. واحدته ثمامة.

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) ، فعاتب النبي (ص) على تحريم العسل الذي أحلّه له ابتغاء مرضاة أزواجه، وذكر، سبحانه، أنه شرع لهم أن يتحلّلوا من أيمانهم بالكفّارة، ليتحلّل النبيّ (ص) من يمينه ويعود إلى شرب العسل وكان النبيّ (ص) قد أسرّ إلى حفصة بتحريمه لئلّا يحرّمه أصحابه على أنفسهم اقتداء به، فأخبرت به عائشة، وأطلعه الله على إفشائها سرّه ثم ذكر، جلّ وعلا، لهما أنهما إن يتوبا ممّا فعلا كان خيرا لهما لأنّ قلوبهما مالت عن الحق بما فعلا، وأنهما إن يستمرّا على تظاهرهما على النبي (ص) ، فإنه، جلّ شأنه، هو مولاه وجبريل والمؤمنون والملائكة، وعسى، إن طلقهنّ، أن يبدله أزواجا خيرا منهن ثم انتقل السياق منهنّ إلى المؤمنين عامّة، فأمرهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم من مثل هذا نارا وقودها الناس والحجارة، وذكر سبحانه أنه يقال لوقودها من الكفّار: لا تعتذروا اليوم، إنما تجزون ما كنتم تعملون ثم أمرهم أن يتوبوا إليه تعالى توبة نصوحا ليكفّر عنهم سيئاتهم ويدخلهم جناته، ويجعل لهم نورا يسعى بين أيديهم وأيمانهم، فيقولوا ربّنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا، إنّك على كل شيء قدير. ثم أمر النبي (ص) بمجاهدة الكفّار والمنافقين لئلّا تشغله تلك الأمور من نسائه عنها، وضرب مثلا لنسائه امرأة نوح وامرأة لوط حين خانتا زوجيهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا، ليحذرن هذا المصير إذا اخترن أن يتظاهرن على النبي (ص) . وضرب لهنّ مثلا آخر في الترغيب بعد الترهيب، اثنتين من المؤمنات السابقات: إحداهما، امرأة فرعون حينما طلبت منه، جلّ جلاله، أن يبني لها بيتا في الجنّة وينجيها من فرعون وقومه والثانية، مريم ابنة عمران، وقد ختمت السورة بها فقال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"التحريم"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التحريم» «1» أقول: هذه السورة متاخية مع التي قبلها بالافتتاح بخطاب النبي (ص) ، وتلك مشتملة على طلاق النساء، وهذه على تحريم الإيلاء. وبينهما من المناسبة ما لا يخفى. ولمّا كانت تلك في خصام نساء الأمّة، ذكر في هذه خصومة نساء النبي (ص) إعظاما لمنصبهنّ أن يذكرن مع سائر النسوة، فأفردن بسورة خاصة، ولهذا ختمت بذكر امرأتين في الجنة: آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. [.....]

المبحث الرابع مكنونات سورة"التحريم"

المبحث الرابع مكنونات سورة «التحريم» «1» 1- لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [الآية 1] . هي سرّيّته مارية. كما أخرجه الحاكم، والنّسائي من حديث أنس، والبزّاز من حديث ابن عبّاس، والطبراني من حديث أبي هريرة، والضّياء في «المختارة» من حديث عمر «2» . 2- وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ [الآية 3] . هي حفصة. 3- حَدِيثاً [الآية 3] . هو تحريم مارية. كما في الأحاديث المذكورة. 4- عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ [الآية 3] . قال مجاهد: الذي عرّف أمر مارية،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . النّسائي 7: 71 في عشرة النساء، و «المستدرك» للحاكم 2: 493 وفيهما أنها نزلت في أمة كانت له: والبزاز (2275) وفيه أنها سرّيّته ورجاله رجال الصحيح، غير بشر بن آدم الأصغر، وهو ثقة. وتعيين أنها مارية، جاء في رواية الطبراني في «المعجم الأوسط» من طريق موسى بن جعفر بن أبي كثير عن عمه، قال الذهبي: مجهول، وخبره ساقط. كما في «مجمع الزوائد» 7/. 127 وأخرج البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: أنها نزلت في شأن تحريمه على نفسه شرب العسل من عند زوجته زينب بنت جحش رضي الله عنها. قال ابن كثير: «والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العسل، كما قال البخاري عند هذه الآية» وقال ابن حجر في «فتح الباري» 8: 657: «فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معا» .

وأعرض عن قوله: «إنّ أباك وأباها يليان الناس بعدي» «1» مخافة أن يفشو. أخرجه ابن أبي حاتم. 5- إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ [الآية 4] . 6- وَإِنْ تَظاهَرا [الآية 4] . هما عائشة وحفصة، كما في «الصحيح» «2» عن عمر، لمّا سأله ابن عبّاس عنهما. 7- وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [الآية 4] . قال النبيّ (ص) : «أبو بكر وعمر» أخرجه الطبراني في «الأوسط» من حديث ابن مسعود «3» ، وأخرجه أيضا عن ابن عمر وابن عبّاس موقوفا، وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن الضّحّاك وغيره. وأخرج عن سعيد بن جبير، قال: نزلت في عمر خاصّة. 8- امْرَأَتَ نُوحٍ [الآية 10] . والعة. 9- وَامْرَأَتَ لُوطٍ [الآية 10] . والهة.

_ (1) . نحو هذا الحديث أخرجه الطبراني وفي إسناده نظر. قاله ابن كثير في «تفسيره» 4/. 390 (2) . البخاري (4914) في التفسير. وانظر ما قاله السيوطي، في أول هذا الكتاب، في فصل «مقدمة فيها فوائد» . (3) . وفي سنده عبد الرحيم بن زيد العمي، وهو متروك، كما في «مجمع الزوائد» 7/. 127 ولم ينصّ الهيثمي فيه على أنه في «الأوسط» .

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"التحريم"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «التحريم» «1» 1- وقال تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً [الآية 3] . أقول: ودلّت (بعض) على الواحد، وهي نظير قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ [الشعراء] . 2- وقال تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [الآية 4] . الخطاب إلى الاثنين، والفاعل جمع، وهذا شيء عرفناه في لغة التنزيل، اقتضته حكمة وبلاغة. 3- وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [الآية 8] . وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي، والنصح صفة التائبين، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم، فيأتوا بها على طريقها متداركة للفرطات، ماحية للسيئات. أقول: وهذا أسلوب من أساليب البلاغة العربية في الصفات والموصوفات.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"التحريم"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «التحريم» «1» قال: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [الآية 4] بجعل الفاعل جماعة، لأنهما اثنان من اثنين. وقال: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ [الآية 12] وامْرَأَتَ فِرْعَوْنَ [الآية 11] على: «وضرب الله امرأة فرعون ومريم مثلا» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"التحريم"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «التحريم» «1» إن قيل: قوله تعالى: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [الآية 4] ، إن كان المراد به الفرد فأيّ فرد هو، وأيضا فإنه لا يناسب مقابلة الملائكة الذين هم جمع وإن كان المراد به الجمع، فلماذا لم يكتب في المصحف بالواو؟ قلنا: هو فرد أريد به الجمع كقولك: لا يفعل هذا الفعل الصالح من الناس، تريد به الجنس كقولك: لا يفعله من صلح منهم، وقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) [المعارج] ، وقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) [العصر] ، وقوله تعالى: وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها [الحاقة: 17] ، وقوله تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر: 67] ونظائره كثيرة. الثاني أنه يجوز أن يكون جمعا، ولكنه كتب في المصحف بغير واو على اللفظ، كما جاءت ألفاظ كثيرة في المصحف على اللفظ دون اصطلاح الخط. فإن قيل: لم قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) ولم يقل ظهراء، وهو خبر عن الجمع، وهم الملائكة؟ قلنا: هو فرد وضع موضع الجمع كما سبق. الثاني: اسم على وزن المصدر كالزميل والدبيب والصليل، فيستوي فيه الإفراد والتثنية والجمع. الثالث: أن فعيلا يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، بدليل قوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) [ق] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

فإن قيل: قوله تعالى بعد ذلك تعظيم للملائكة ومظاهرتهم، وقد تقدّمت نصرة الله تعالى وجبريل وصالح المؤمنين، ونصرة الله سبحانه أعظم؟ قلنا: مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله تعالى، فكأنّه فضل نصرته بهم على سائر وجوه نصرته لفضلهم وشرفهم، ولا شكّ أنّ نصرته بجميع الملائكة أعظم من نصرته بجبريل وحده، أو بصالح المؤمنين. فإن قيل: كيف قال تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ [الآية 5] إلى آخر الآية، فأثبت الخيريّة لهنّ باتصافهنّ بهذه الصفات، وإنّما تثبت لهن الخيريّة بهذه الصفات لو لم تكن تلك الصفات ثابتة في نساء النبي (ص) وهي ثابتة فيهن؟ قلنا: المراد به «خيرا» منكن في حفظ قلبه ومتابعة رضاه، مع اتصافهن بهذه الصفات المشتركة بينكنّ، وبينهنّ. فإن قيل: لم أخليت الصفات كلها عن الواو، وأثبتت بين الثيبات والأبكار؟ قلنا: لأنهما صفتان متضادتان لا تجتمعان فيهن اجتماع سائر الصفات، فلم يكن بد من الواو، ومن جعلها واو الثمانية فقد سها، لأن واو الثمانية لا يفسد الكلام بحذفها بخلاف هذه. فإن قيل: هذه الصفات إنما ذكرت في معرض المدح، وأي مدح في كونهن ثيّبات؟ قلنا التثييب مدح من وجه، فإن الثّيب أقبل للميل بالنقل، وأكثر تجربة وعقلا، والبكارة مدح من وجه، فإنها أطهر وأطيب وأكثر مراغبة وملاعبة. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) ، بعد قوله سبحانه: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ؟ قلنا: قيل: المراد بالأمر الأول الأمر بالعبادات والطاعات، وبالأمر الثاني الأمر بتعذيب أهل النار، وقيل هو تأكيد. فإن قيل: لم قال تعالى: تَوْبَةً نَصُوحاً [الآية 8] ولم يقل توبة نصوحة؟ قلنا: لأن «فعولا» من أوزان المبالغة الذي يستوي في لفظه الذكور والإناث كقولهم: امرأة صبور وشكور ونحوهما.

فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: مِنْ عِبادِنا [الآية 10] بعد قوله تعالى: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ [الآية 10] . قلنا: مدحهما والثناء عليهما بإضافتهما إليه إضافة التشريف والتخصيص، كما في قوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ [الفرقان: 63] وقوله تعالى: فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) [الفجر] وهو مبالغة في المعنى المقصود، وهو أن الإنسان لا ينفعه إلا صلاح نفسه لا صلاح غيره، وإن كان ذلك الغير في أعلى مراتب الصلاح والقرب من الله تعالى. فإن قيل: لم قال تعالى: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) ولم يقل سبحانه من القانتات؟ قلنا: معناه كانت من القوم القانتين: أي المطيعين لله تعالى، يعني رهطها وأهلها، فكأنه تعالى قال: وكانت من بنات الصالحين. وقيل إن الله تعالى لمّا تقبلها في النذر وأعطاها مرتبة الذكور الذين كان لا يصلح النذر إلّا بهم، عاملها معاملة الذكور، في بعض الخطاب إشارة إلى ذلك، وقال تعالى: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) [آل عمران] وقال تعالى: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) ، أو رعاية للفواصل.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"التحريم"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «التحريم» «1» في قوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [الآية 4] استعارة ومعنى صغت قلوبكما: أي مالت وانحرفت. قال النضر بن شميل «2» : يقال قد صغوت إليه وصغيت، وصغيت، وأصغيت إليه، وهو الكلام. ولم تمل قلوبهما على الحقيقة، وإنما اعتقد قلباهما خلاف الاستقامة في إطاعة النبي (ص) ، فحسن أن يوصف بميل القلبين من هذا الوجه. وذلك كقول القائل: قد مال إلى فلان قلبي: إذا أحبّه. وقد نفر عن فلان قلبي إذا أبغضه. والقلب في الأمرين جميعا بحاله، لم يخرج عن نياطه، ولم يزل عن مناطه. وإنما قال سبحانه: قلوبكما، والخطاب مع امرأتين، لأن كل شيئين من شيئين تجوز العبارة عنهما بلفظ الجمع في عادة العرب. قال الراجز «3» :

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هو النضر بن شميل بن خرشة التميمي المازني وكان عالما بأيام العرب وراوية للحديث واللغة. اتصل بالخليفة المأمون العباسي فأكرمه وقربه إليه. توفي بمرو سنة 203 هـ. (3) . لم يذكر القرطبي اسم هذا الراجز. وقد نسبه محقق «الجامع لأحكام القرآن» للشاعر الخطام المجاشعي، ونبّه على ذلك في هامش الجزء الخامس ص 73 ولم يذكر ابن مطرف الكناني في «القرطين» اسم الشاعر واكتفى بقوله: أنشدني بعضهم وكذلك فعل العلامة محب الدين في «شرح شواهد الكشاف» ص 318. والخطام اسمه بشر، كما كتب ذلك بخطه عبد القادر البغدادي، على هامش «المؤتلف والمختلف» للامدي ص 112 وهو شاعر إسلامي اشتهر بالرجز. والقذف (بفتحتين وبضمتين) : البعيد من الأرض. والمرت (بفتح الميم وسكون الراء) : الأرض لا ماء فيها ولا نبات. والظهر: ما ارتفع من الأرض.

ومهمهين قذفين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور التّرسين وقال الله سبحانه في موضع آخر: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] وإنما أراد سبحانه قطع يمين السارق، ويمين السارقة. وذلك مشهور في اللغة. وفي قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [الآية 8] استعارة. لأن «نصوحا» من أسماء المبالغة. يقال: رجل نصوح. إذا كان كثير النصح لمن يستنصحه. وذلك غير متأتّ في صفة التوبة على الحقيقة. فنقول: إن المراد بذلك، والله أعلم، أنّ التوبة لمّا كانت بالغة غاية الاجتهاد في تلافي ذلك الذّنب، كانت كأنها بالغة غاية الاجتهاد في نصح صاحبها، ودلالته على طريق النجاة بها. فحسن أن تسمّى «نصوحا» من هذا الوجه. وقال بعضهم: النّصوح: هي التوبة التي يناصح الإنسان فيها نفسه، ويبذل مجهوده في إخلاص الندم، والعزم على ترك معاودة الذنب. وقرأ أبو بكر بن عياش «1» عن عاصم «2» : (نصوحا) بضم النون. على المصدر. وقرأ بقية السبعة (نصوحا) بفتح النون على صفة التوبة. وفي قوله سبحانه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما [الآية 10] استعارة: لأن وصف المرأة بأنها تحت الرجل ليس يراد به حقيقة الفوق والتّحت، وإنما المراد أنّ منزلة المرأة منخفضة عن منزلة الرجل، لقيامه عليها، وغلبته على أمرها. كما قال سبحانه:

_ (1) . أبو بكر بن عياش. واسمه شعبة، هو إمام في اللغة والقراآت، وكان راوي عاصم، وإماما من أئمة السّنة توفي سنة 193 هـ. له ترجمة موجزة في «الأعلام» ، و «النشر» ، و «القراآت واللهجات» لعبد الوهاب حمودة، و «الفهرست» لابن النديم. (2) . هو عاصم بن أبي النجود الكوفي الأسدي أحد القراء السبعة، كان ثقة في القراآت. وله اشتغال بحديث الرسول (ص) . توفي سنة 127 هـ وقد روى عنه أبو بكر بن عياش. وله ترجمة في «تهذيب التهذيب» و «الوفيات» و «الأعلام» للزركلي، و «القراآت واللهجات «لعبد الوهاب حمودة.

الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء: 34] . وكما يقول القائل: فلان الجندي تحت يدي فلان الأمير. إذا كان من شحنة عمله، أو متصرّفا على أمره. وكما يقول الاخر: لا آخذ رزقي من تحت يدي فلان. إذا كان هو الذي يلي إطلاق رزقه، وتوفية مستحقّه، وذلك مشهور في كلامهم.

سورة الملك 67

سورة الملك 67

المبحث الأول أهداف سورة"الملك"

المبحث الأول أهداف سورة «الملك» «1» سورة الملك سورة مكية، آياتها 30 آية، نزلت بعد سورة الطور. لها من اسمها أكبر نصيب. إنها سورة تعرض بركات الله في هذه الدنيا، وقدرته العالية، وحكمته السامية: فهو الخالق الرزاق المهيمن، المدبّر الحكيم المبدع الذي أبدع كل شيء خلقه. وتلفت السورة نظر الإنسان الى خلق الأرض، وخلق السماء والطير والرزق، والسمع والأبصار، والموت والحياة، والزرع والثمار، والماء والهواء والفضاء. وتحثّ القلب على التفكير والتأمّل، والنظر في ملكوت السماوات والأرض، وتهيج فيه البحث والاستنباط ليصل بنفسه الى التعرف على قدرة الله وجلاله، وسابغ فضله على الناس أجمعين. مطلع السورة مطلع السورة مطلع جامع يهزّ القلب هزّا، وينبّه إلى بركات الله ونعمه وقدرته. تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) . وعن حقيقة الملك والقدرة، تتفرّع مختلف الصور التي عرضتها السورة، ومختلف الحركات المغيبة والظاهرة، التي نبّهت القلوب إليها. «فمن الملك ومن القدرة كان خلق

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....]

مع آيات السورة

الموت والحياة، وكان الابتلاء بهما، وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح، وجعلها رجوما للشياطين، وكان إعداد جهنّم بوصفها وهيئتها وخزنتها، وكان العلم بالسّرّ والجهر، وكان جعل الأرض ذلولا للبشر، وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذّبين، وكان إمساك الطير في السماء، وكان القهر والاستعلاء، وكان الرزق كما يشاء، وكان الإنشاء، وهبة السمع والأبصار والأفئدة، وكان الخلق في الأرض والحشر، وكان الاختصاص بعلم الاخرة، وكان عذاب الكافرين، وكان الماء الذي به الحياة فكل حقائق السورة وموضوعاتها مستمدة من ذلك المطلع ومدلوله الشامل الكبير» «1» . مع آيات السورة [الآية 1] : تبدأ السورة بتمجيد الله سبحانه، بقوله: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ فهو جلّ جلاله كثير البركة تفيض بركته على عباده، وهو المالك المهيمن على الخلق، وهو القادر قدرة مطلقة بلا حدود ولا قيود، يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد، وهو على كلّ شيء قدير. [الآية 2] : ومن آثار قدرته، سبحانه، أنه خلق الموت السابق على الحياة واللاحق بها، والحياة التي تشمل الحياة الأولى والحياة الاخرة، ليمتحن الإنسان بالوجود والاختيار والعقل والكسب، حتّى يعمل في الحياة الأولى ليرى جزاء عمله في الحياة الاخرة. [الآية 3] : يوجّه القرآن النظر إلى خلق السماوات السبع، ويذكر أنها طبقات على أبعاد متفاوتة، وليس في خلقها خلل ولا اضطراب، وانظر إليها بعينيك فهل تستطيع أن تجد بها نقصا أو عيبا؟ [الآية 4] : تأمّل كثيرا في هذا الكون وشاهد عجائبه، فلن تجد فيه إلّا الإبداع والتنسيق، والضبط والإحكام. [الآية 5] : لقد رفع الله السماء الدنيا، وخلق فيها الكواكب والنجوم زينة للسماء، وهداية للمسافرين، وهذه النجوم منها الباهر الزاهر والخافت، والمفرد والمجتمع ولكلّ نجم مكان ومسار وطريق خاص، وهذه النجوم منها شهب تنزّل على الشياطين الذين

_ (1) . في ظلال القرآن 29: 184.

يحاولون استراق السمع، والتنصّت على كلام الملائكة، فيرجمون بالشهب التي تقتلهم أو تخبلهم. [الآية 6] : ومن كفر بالله فإنه يستحقّ عذاب جهنّم، وبئس هذا المصير. [الآية 7] : إن جهنّم تتميّز غيظا ممّن عصى الله، وتغلي وتفور حنقا على الكفّار. [الآية 8] : كلّما ألقي جماعة من الكفّار في النار، سألهم خزنة جهنّم: ألم يأتكم رسول ينذركم هول هذا اليوم؟ [الآية 9] : ويجيب الكفّار بأن الرسول قد جاءنا، ولكن العمى أضلّنا فكذّبنا بالرسول، وقلنا ما أنزل الله من وحي ولا رسالة، واتّهمنا الرسول بالضلال والكذب. [الآية 10] : ولو حكّمنا عقلنا وسمعنا، لاهتدينا إلى الحقّ وآمنّا، وحفظنا أنفسنا من هذا الهلاك ومن هذا العذاب. [الآية 11] : لقد جاء هذا الاعتراف بالذنب متأخّرا في غير وقته، فسحقا وعذابا لأصحاب جهنّم، حيث لا يؤمنون إلّا بعد فوات الأوان. [الآية 12] : إنّ المؤمن يحسّ رقابة الله عليه، ويخشى عقابه وإن لم يره بعينه، أو يخشى ربّه وهو في خفية عن الأعين غائبا عن الناس. وله مغفرة لذنبه وأجر كبير جزاء عمله. [الآية 13] : ما يفعله العبد مكشوف ظاهر أمام الله، وسيّان أجهرتم بأقوالكم، أم أسررتم بها، فالله مطلع عليها. [الآية 14] : ألا يعلم الخالق الأشياء التي خلقها؟ وهو سبحانه عالم بخفيّات الأمور ودقائقها، وهو اللطيف الخبير. [الآية 15] : ثم ينتقل بهم السياق من ذوات أنفسهم إلى الأرض التي خلقها الله لهم وذلّلها، وأودعها أسباب الحياة. فهذه الأرض تدور حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة، ثم تدور حول الشمس بسرعة حوالى خمسة وستين ألف ميل في الساعة. ومع هذه السرعة يبقى الإنسان على ظهرها آمنا مستريحا مطمئنّا. وقد جعل الله الهواء المحيط بالأرض محتويا للعناصر التي تحتاج إليها الحياة بالنسب الدقيقة اللازمة،

فنسبة الأكسجين 21 في المائة، ونسبة الأزوت أو النتروجين 78 في المائة، والبقيّة من ثاني أكسيد الكربون وعناصر أخرى. وهذه النسب هي اللّازمة لقيام الحياة على الأرض. وحجم الأرض وحجم الشمس وحجم القمر، وبعد الأرض عن الشمس والقمر، ذلك كلّه بنسب لازمة لاستمرار الحياة على ظهر الأرض. إن الحيوان يتنشّق الهواء فيمتصّ الأكسجين ويلفظ ثاني أكسيد الكربون، والنباتات تمتصّ ثاني أكسيد الكربون، وبكيمياء سحرية يغذّي النبات نفسه، ويلفظ الأكسجين الذي نتنفّسه، وبدونه تنتهي الحياة بعد خمس دقائق ولو كانت هذه المقايضة غير موجودة، فإن الحياة الحيوانية أو النباتية كانت تستنفد في النهاية كل الأكسجين، أو كل ثاني أكسيد الكربون تقريبا. ومتى انقلب التوازن تماما ذوى النبات، أو مات الإنسان. والأرزاق المخبوءة في جوف الأرض، من معادن جامدة وسائلة، كلّها ترجع الى طبيعة تكوين الأرض والأحوال التي لابستها، والله يتفضّل على الإنسان بتسخير الأرض والنبات والفضاء والهواء له: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الآية 15] وإلى الله النشور والرجوع في يوم الحساب. [الآيتان 16 و 17] : هذه الأرض الذّلول التي يأمن الإنسان عليها ويهدأ ويستريح، تتحوّل، إذا أراد الله، إلى دابّة جامحة فيها الزلازل والبراكين، كما يمكن أن ينزل الله الصواعق والعواصف الجامحة التي تعصف بالإنسان، وتدمّره: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ [الرعد: 13] . [الآية 18] : ولقد كذّب الكفّار السابقون رسلهم، فعاقبهم الله أشدّ العقاب: لقد غرق قوم نوح، وأهلكت ثمود بصاعقة، وأهلكت عاد بريح عاتية، وأهلك فرعون وقومه بالغرق في بحر القلزم (البحر الأحمر) . إنّ الإنسان قويّ بالقدر الذي وهبه الله من القوة، ولكنّ هذا الكون الهائل زمامه في يد خالقه، ونواميسه من صنعه، وما يصيب الإنسان منها مقدّر مرسوم: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) [القمر] . [الآية 19] : فليتأمل الإنسان أسراب الطير ترتفع وتنخفض، وتبسط أجنحتها

وتقبضها، في حركة ممتعة تدعو الى التأمّل والتدبّر، فقدرة الله ممسكة بهذا الطائر، في قبضه وبسطه، والله سبحانه ييسّر له أمره، ويهيّئ وينسّق ويعطي القدرة، ويرعى كلّ شيء في كلّ لحظة، رعاية الخبير البصير. [الآية 20] : من هذا الذي يحميكم من بطش الله وغضبه؟ من هذا الذي يدفع عنكم بأس الرحمن إلّا الرحمن؟ إنّ الكافر في غرور، يظنّ أنه آمن بعيد عن بطش الله به، وما هو ببعيد. [الآية 21] : من يرزق البشر إن أمسك الله الماء؟ أو أمسك الهواء، أو أمسك الحياة عنهم؟ إنّ بعض النفوس تعرض عن الله في طغيان وتبجّح ونفور، مع أنها تعيش عالة على الله في حياتها ورزقها. [الآية 22] : ترسم الآية مشهد جماعة يمشون على وجوههم لا هدف لهم ولا طريق، ومشهد جماعة أخرى تسير مرتفعة الهامات، مستقيمة الخطوات في طريق مستقيم لهدف مرسوم. ثم تستفهم أيّهما أهدى؟ [الآية 23] : لقد خلق الله الناس، وجعل لهم السمع ليسمعوا، والأبصار ليبصروا، والأفئدة ليتفكّروا في جليل قدرة الله ولكنّ الإنسان قلّما يفكّر في شكر نعمة الله عليه، وامتثال أمره واجتناب نواهيه، والاعتراف له بالفضل والمنّة. «ويذكر العلم أنّ حاسة السمع تبدأ بالأذن الخارجية، والصوت ينتقل منها إلى طبلة الأذن، ثم ينتقل إلى التّيه داخل الأذن والتيه يشتمل على أربعة آلاف قوس صغيرة، متّصلة بعصب السمع في الرأس. وفي الأذن مائة ألف خليّة سمعية، وتنتهي الأعصاب بأهداب دقيقة، دقة وعظمة تحيّر الألباب. «ومركز حاسّة الإبصار العين، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء، وهي أطراف أعصاب الإبصار، وتتكوّن العين من الصلبة والقرنية والمشيمة والشبكية، وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية» «1» . فأمّا الأفئدة، فهي هذه الخاصّيّة التي صار بها الإنسان إنسانا، وهي قوّة

_ (1) . الله والعلم الحديث، للأستاذ عبد الرزاق نوفل، ص 57.

الإدراك والتمييز، والمعرفة التي استخلف بها الإنسان في هذا الملك العريض. [الآية 24] : إنّ ربكم هو الذي برأكم في الأرض، وبعثكم في أرجائها على اختلاف ألسنتكم وألوانكم، وأشكالكم وصوركم، وكما بدأكم يعيدكم، وإليه تحشرون وترجعون. [الآية 25] : ويسألون سؤال الشاك المستريب، عن يوم الجزاء والحساب. [الآية 26] : قل علم هذا اليوم عند الله، وما عليّ إلّا البلاغ والبيان أما العلم فعند صاحب العلم، والواحد بلا شريك. [الآية 27] : ولو أذن الله لرأى البشر يوم الحساب واقعا لا محالة، وعند هذه المفاجأة ورؤية الحساب والجزاء، سيظهر الحزن والاستياء عليهم، وتؤنّبهم الملائكة، وتقول لهم: هذا هو اليوم الذي كنتم تستعجلون وقوعه والآية جرت على طريقة القرآن في عرض ما سيكون حاضرا مشاهدا، بمفاجأة شعورية تصويرية، توقف المكذّب والشاكّ وجها لوجه مع مشهد حاضر، لما يكذّب به أو يشكّ فيه. [الآية 28] : روي أن كفّار مكّة كانوا يتربّصون بالنبيّ (ص) أن يهلك فيستريحوا منه ومن دعوته، فقال لهم القرآن: سواء أهلك النبيّ (ص) حسب أمانيّهم، أو رحمه الله ومن معه، فلن يغيّر ذلك من وضعهم، لأنّ عذابا أليما ينتظرهم، ولن تجيرهم الأصنام، ولن يجيرهم من الرحمن إلّا الإيمان. [الآية 29] : إنّ المؤمنين في قربى مع الرحمن، فهم يؤمنون به ويتوكّلون عليه، وهم موصولون بالله منتسبون إليه، وسيتبيّن للكافرين من الضّالّ ومن المهتدي، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والاخرة. [الآية 30] : أخبروني إن ذهب ماؤكم في الأرض، ولم تصل إليه الدّلاء، من يأتيكم بماء جار نابع فائض متدفق، تشربونه عذبا زلالا. وهكذا تختم السورة بهذه اللمسة القريبة من القلب، تذكرة بفضل الله الذي أجرى المياه، ولو شاء لحرم الإنسان مصدر الحياة، ولا ينقذ الإنسان من الله إلّا الله قال تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: 50] .

المعنى الإجمالي للسورة

المعنى الإجمالي للسورة قال الفيروزآبادي: معظم مقصود السورة: بيان استحقاق الله تعالى الملك، وخلق الحياة والموت للتجربة والاختبار، والنظر إلى السماوات للعبرة، واشتعال النجوم والكواكب للزينة، وما أعدّ للمنكرين من العذاب والعقوبة، وما وعد به المتّقون من الثواب والكرامة، وتأخير العذاب عن المستحقّين بالفضل والرّحمة، وحفظ الطيور في الهواء بكمال القدرة، واتّصال الرزق إلى الخليقة بالنّوال والمنّة، وبيان حال أهل الضّلالة والهداية، وتعجّل الكفّار بمجيء يوم القيامة، وتهديد المشركين بزوال النعمة، بقوله جلّ وعلا: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) . أسماء السورة لسورة «تبارك» في القرآن والسنن سبعة أسماء: «سورة «الملك» لمفتتحها، «والمنجية» لأنّها تنجي قارئها من العذاب. و «المانعة» ، لأنها تمنع قارئها من عذاب القبر. «والدافعة» لأنها تدفع بلاء الدنيا وعذاب الاخرة عن قارئها. و «الشافعة» لأنها تشفع في القيامة لقارئها، «والمجادلة» لأنها تجادل منكرا ونكيرا، فتناظرهما كي لا يؤذيا قارئها، والسابع: «المخلّصة» ، لأنها تخاصم زبانية جهنم، لئلا يكون لهم يد على قارئها» «1» . وفي شأن السورة قال رسول الله (ص) «إن سورة من كتاب الله ما هي إلّا ثلاثون آية، شفعت لرجل فأخرجته من النار وأدخلته الجنّة، وهي سورة «تبارك» «2» .

_ (1) . بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي 1: 473. (2) . رواه أبو داود والترمذي وحسّنه غيرهما، انظر الترغيب والترهيب.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الملك"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الملك» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الملك بعد سورة الطّور، ونزلت سورة الطور بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الملك في ذلك التاريخ أيضا. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) . وتبلغ آياتها ثلاثين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى، وقد جمع فيها بين دعوتهم بالدليل ودعوتهم بالترهيب والترغيب، فاتّصل سياقها بما ختمت به سورة التحريم من ترهيب المخالفين وترغيبهم وهذا هو وجه المناسبة بين السورتين. الدعوة الى الإيمان بالله تعالى الآيات [1- 30] قال الله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) فذكر أنّ الملك بيده وحده، وأنه على كل شيء قدير، وأنه خلق الموت والحياة ليبلونا: أيّنا أحسن عملا، وأنه خلق سبع سماوات طباقا لا تفاوت في خلقها ولا فطور، وأنه زيّن السماء الدنيا بمصابيح من الكواكب وجعلها رجوما بالغيب لشياطين الإنس، وأعدّ لهم خاصّة عذاب السعير، وأعدّ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

للكافرين عامّة عذاب جهنم وبئس المصير. وقد فصّل السياق من هولها ما فصّل ثمّ ذكر، سبحانه، أن الذين يخشونه لهم مغفرة وأجر كبير، ليجمع بهذا بين الترهيب والترغيب ثمّ هدّدهم بأنّه يعلم سرّهم وجهرهم، فيحاسبهم على كلّ أعمالهم واستدلّ على علمه بخلقه لهم، وأنه لطيف خبير وذكر، على سبيل التهديد أيضا، أنّه مهّد لهم الأرض وهيّأ لهم فيها أسباب الرزق، فإذا أصرّوا على كفرهم فإنهم لا يأمنون أن يخسفها بهم، أو يرسل حاصبا من الريح فيهلكهم ثمّ أكّد ذلك التخويف بالمثال والدليل، وذكر المثال في ما فعله بمن أصرّ على الكفر قبلهم، وذكر الدليل في إمساكه الطير فوقهم ثم ذكر أنه، إن أراد عذابهم، فإنه لا ينجيهم منه ما يملكون من قوّة وجند، وإن أمسك رزقه فإنه لا يرزقهم ما يتّخذون من آلهة ثم ذكر أنهم يعلمون ذلك ولكنهم يلجّون في عتوّ ونفور وأيد ما ذكره من وضوح أمرهم بتمثيل حالهم بمن يمشي مليّا على وجهه، وتمثيل حال المؤمنين بمن يمشي سويّا على صراط مستقيم، ثم عاد السياق إلى ذكر الدليل، فذكر أنه، جلّ شأنه، هو الذي أنشأهم وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وأنه هو الذي ذرأهم في الأرض وإليه يحشرون. ثم ذكر أنهم يقولون على سبيل الاستهزاء متى هذا الوعد بالعذاب؟ وأمر النبي (ص) أن يجيبهم بأنّ علمه عنده، وليس عليه إلّا أن ينذرهم به، وبأنّهم حينما يرونه قريبا منهم تساء وجوههم، ويقال لهم توبيخا: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) أي تطلبون ثمّ أمره أن يخبرهم بأنه، إن مات هو ومن معه أو تأخّر أجلهم، فإنه لا بد من عذابهم، ولا أحد يجيرهم منه ثمّ ختم السورة بأمره أن يذكر لهم أنه آمن به هو ومن معه وتوكّلوا عليه وأنّهم سيعلمون من هو في ضلال مبين: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الملك"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الملك» «1» أقول: ظهر لي بعد الجهد: أنه، لمّا ذكر في آخر التحريم، امرأتي نوح ولوط الكافرتين، وامرأة فرعون المؤمنة، افتتحت هذه السورة بقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الآية 2] ، مرادا بهما الكفر والإيمان في أحد الأقوال، للإشارة إلى أن الجميع بخلقه وقدرته، ولهذا كفرت امرأتا نوح ولوط، ولم ينفعهما اتصالهما بهذين النبيّين الكريمين، وآمنت امرأة فرعون، ولم يضرّها اتصالها بهذا الجبّار العنيد، لما سبق في كلّ من القضاء والقدر. ووجه آخر: وهو أن «تبارك» متصل بقوله في آخر الطلاق: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الآية 12] . فزاد ذلك بسطا في هذه الآية: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) إلى قوله سبحانه: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ. [الآية 5] وإنّما فصلت بسورة التحريم لأنّها كالتتمة لسورة الطلاق.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"الملك"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الملك» «1» 1- قال تعالى: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الآية 8] . والكلام على النار، فكأنها كالمغتاظة على أهلها لشدة غليانها بهم. وقوله تعالى: تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ، أي: تتقطّع. ويقولون: فلان يتميّز غيظا ويتقصّف غضبا. أقول: وأصل الميز التمييز بين الأشياء، ومزت الشيء أميزه: عزلته وفرزته. وفي التنزيل: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179] . وامتاز القوم إذا تميّز بعضهم من بعض. أقول: وقد كنت تكلمت على قوله تعالى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) [يس] : أي تميّزوا وانفردوا عن المؤمنين. كما تكلّمنا على الفعل في العربية المعاصرة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"الملك"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الملك» «1» قال تعالى: طِباقاً [الآية 3] وواحدها «الطبق» . وقال: خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) تقول: «خسأته» ف «خسأ» فهو خاسئ. وقال تعالى: إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ [الآية 19] بالجمع لأنّ «الطير» جماعة مثل قولك «صاحب» و «صحب» و «شاهد» و «شهد» و «راكب» و «ركب» . وقال تعالى: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) لأنهم كانوا يقولون، كما ورد في التنزيل: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16] وائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت: 29] حينما رأوا العذاب. وقال تعالى: ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) أي: غائرا، ولكنه وصف بالمصدر، ومنها قولنا: «ليلة غمّ» أي: ليلة «غامّة» . وقال تعالى: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أي: إنكاري.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الملك"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الملك» «1» إن قيل: ما الحكمة في تقديم الموت على الحياة في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الآية 2] . قلنا: إنما قدّم سبحانه الموت لأنه هو المخلوق أوّلا. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: أراد به خلق الموت في الدنيا، والحياة في الاخرة ولو سلّم أنّ المراد به الحياة في الدنيا، فالموت سابق عليها، لقوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة: 28] . فإن قيل: لم قال تعالى: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الآية 3] ، مع أنّ في خلقه سبحانه تفاوتا عظيما، فإنّ الأضداد كلّها من خلقه عزّ وجلّ، وهي متفاوتة، والسماوات أيضا متفاوتة في الصغر والكبر والارتفاع والانخفاض، وغير ذلك؟ قلنا: المراد بالتفاوت هنا الخلل والعيب والنقصان في مخلوقه تعالى، ويؤيّده قوله تعالى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) أي: من شقوق وصدوع في السماء. فإن قيل: لم قال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الآية 16] والله سبحانه وتعالى ليس في السماء ولا في غير السماء، بل هو سبحانه منزّه عن كل مكان؟ قلنا: من ملكوته في السماء، لأنها مسكن ملائكته ومحل عرشه وكرسيّه واللوح المحفوظ، ومنها تنزّل أقضيته وكتبه وأوامره ونواهيه.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"الملك"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الملك» «1» في قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) استعارة. وقد مضت لها نظائرها فيما تقدّم. والمراد بذكر اليد هاهنا استيلاء الملك وتدبير الأمر. يقال: هذه الدار في يد فلان أي في ملكه. وهذا الأمر في يد فلان أي هو المدبّر له. فمعنى بِيَدِهِ الْمُلْكُ أي: هو مالك الملك، ومدبّر الأمر. وقوله سبحانه: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) هو من الاستعارات المشهورة. والمراد بها، والله أعلم، أي: كرّر أيّها الناظر بصرك إلى السماء مفكّرا في عجائبها، ومستنبطا غوامض تركيبها، يرجع إليك بصرك بعيدا ممّا طلبه، ذليلا بفوت ما قدّره. والخاسئ في قول قوم: البعيد. من قولهم: خسأت الكلب. إذا أبعدته. وفي قول قوم هو الذليل. يقال رجل خاس أي ذليل، وقد خسي أي خضع وذلّ. والحسير: البعير المعيى، الذي قد بلغ السير مجهوده، واعتصر عوده. فتلخيص المعنى أنّ البصر يرجع بعد سروحه في طلب مراده، وإبعاده في غايات مرامه، كالّا، معيى، بعيدا من إدراك بغيته، خائبا من نيل طلبته. وفي قوله سبحانه، في صفة نار جهنّم، نعوذ بالله منها: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ، استعارتان، إحداهما:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

قوله تعالى: سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) والشهيق: الصوت الخارج من الجوف عند تضايق القلب من الحزن الشديد، والكمد الطويل، وهو صوت مكروه السماع. فكأنه سبحانه وصف النار بأنّ لها أصواتا مقطّعة تهول من سمعها، ويصعق من قرب منها. والاستعارة الأخرى قوله سبحانه: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ من قولهم: تغيّظت القدر: إذا اشتدّ غليانها، ثمّ صارت الصفة به مخصوصة بالإنسان المغضب. فكأنه سبحانه وصف النار، نعوذ بالله منها، بصفة المغيظ الغضبان، الذي من شأنه إذا بلغ ذلك الحدّ أن يبالغ في الانتقام، ويتجاوز الغايات في الإيقاع والإيلام. وقد جرت عادتهم في صفة الإنسان الشديد الغيظ بأن يقولوا: يكاد فلان يتميّز غيظا، أي تكاد أعصابه المتلاحمة تتزايل، وأخلاطه المتجاورة تتنافى وتتباعد، من شدة اهتياج غيظه، واحتدام طبعه. فأجرى سبحانه هذه الصفة، التي هي أبلغ صفات الغضبان، على نار جهنّم لمّا وصفها بالغيظ، ليكون التمثيل في أقصى منازله، وأعلى مراتبه. وفي قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها [الآية 15] استعارة: لأنّ (الذّلول) من صفة الحيوان المركوب. يقال: بعير ذلول، وفرس ذلول: إذا أمكن من ظهره، وتصرّف على مراده راكبه. وضدّ ذلك وصفهم للمركوب المانع ظهره، والممتنع على راكبه بالصّعب والمصعب. والمعنى: أنه سبحانه جعل الأرض للناس كالمركوب الذلول، ممكنة من الاستقرار عليها، والتصرّف فيها، طائعة غير مانعة، ومذعنة غير مدافعة. والمراد بقوله تعالى: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها، أي في ظهورها وأعاليها، وأعلى كلّ شيء منكب له. وقال بعضهم: معنى ذلك أنه سبحانه، لمّا أصابنا في بعض الأحيان بالرّجفان والزلازل التي لا قرار معها على وجه الأرض، وخلق الجبال الخشن الملامس، الصعبة المسالك، لتكون للأرض ثقلا وللخلق معقلا، أعلمنا سبحانه أنه، لولا ما أنعم به علينا من تسكين الأرض وتوطئتها، ونفي الحزونة والوعوث عن أكثرها

حتى أمكنت من التصرّف على ظهرها، لما كان عليها مثبت قدم، ولا مسرح نعم. وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتابنا الكبير. وفي قوله سبحانه: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) استعارة، المراد بها صفة من يخبط في الضلال، وينحرف عن طريق الرّشاد. لأنّهم يصفون من تلك حاله بأنّه ماش على وجهه. فيقولون: فلان يمشي على وجهه، ويمضي على وجهه، إذا كان كذلك. وإنّما شبّهوه بالماشي على وجهه، لأنّه لا ينتفع بمواقع بصره، إذ كان البصر في الوجه. وإذا كان الوجه مكبوبا على الأرض كان الإنسان كالأعمى الذي لا يسلك جددا، ولا يقصد سددا. ومن الدليل على أن قوله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ هو من الكنايات عن عمى البصر، قوله تعالى في مقابل ذلك: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا: لأن السّويّ ضدّ المنقوص في خلقه، والمبتلى في بعض كرائم جسمه.

سورة القلم 68

سورة القلم 68

المبحث الأول أهداف سورة"القلم"

المبحث الأول أهداف سورة «القلم» «1» سورة القلم سورة مكّيّة، وآياتها 52 آية، نزلت بعد سورة العلق. وتشير الروايات الى أنها من أوائل السور نزولا. ونلمح، من سياق السورة، أنها نزلت بعد الجهر بالدعوة الإسلامية في مكّة، حيث تعرّض النبي الأمين للاتهام بالجنون، فنزلت السورة تنفي عنه هذه التهمة، وتصف مكارم أخلاقه، وتتهدّد المكذّبين وتتوعدهم، وتذكر قصة أصحاب الجنة الذين منعوا زكاة الثمار والفاكهة، فأهلك الله جنّتهم، وكذلك يهلك كلّ كافر معاند. وتوجهت السورة الى أهل مكة بهذا الاستفهام الإنكاري: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ؟ هل يستوي المستقيم والفاجر؟ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) ؟ هل تطلب منهم أجرا كبيرا على تبليغ الرسالة؟ إنهم يستطيعون أداءه ولذلك يتثاقلون عن اتّباعك. ثم تذكر السورة طرفا من قصة يونس (ع) من باب التسلية والاعتبار. وتختم السورة ببيان حقد الكافرين وحسدهم، حتّى إن عيونهم ينبعث منها شرار الحسد والغيظ، ويتّهمون النبيّ (ص) بالجنون، وما يحمل إليهم إلّا الذكر والهداية للعالمين. مع آيات السورة [الآية الأولى] أقسم الله، سبحانه، بالقلم والدواة والكتابة، ليدل على عظيم شأنها في نشر الرسالات والدعوات والعلم والمعرفة، وكانت

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

أول آية من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) [العلق] . [الآيتان 2 و 3] نفى القرآن عن النبي (ص) الاتّهام الكاذب بالجنون، ثم أثبت أنّ له أجرا كاملا غير منقوص على تبليغ الرسالة. [الآية 4] ومدحه الله، عزّ وجلّ، بحسن الخلق، فقال سبحانه وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) . لقد كان خلقه القرآن، وكان جامعا للصفات الكريمة، والقدوة الحسنة، فقد اتّصف بالفصاحة والشجاعة والكرم والحلم، والأدب والعفّة والنزاهة والأمانة، والصدق والرحمة والتسامح واللّين وحسن المعاملة. وكان حسن الصورة، معتدل القوام، جيّاش العواطف، قويّا في دين الله، حريصا على تبليغ الرّسالة، قائدا ومعلما ومربّيا وموجها، أمينا على وحي السماء. وكانت عظمة أخلاقه في أنّه تمثّل القرآن سلوكا وهديا وتطبيقا، فكان قرآنا متحرّكا، يجد فيه الصحابة القدوة العملية، والتطبيق الأمين للوحي، فيقتدون بخلقه وعمله وهديه وسلوكه. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) [الأحزاب] . [الآيتان 5 و 6] فسيكشف الغد عن حقيقة النبيّ وحقيقة مكذّبيه، ويثبت: أيّهم الممتحن بما هو فيه، وأيّهم الضالّ في ما يدّعيه، وستبصر ويبصرون غلبة الإسلام، واستيلاءك عليهم بالقتل والأسر، وهيبتك في أعين الناس أجمعين، وصيرورتهم أذلّاء صاغرين. [الآية 7] إنّ ربك هو الذي أوحى إليك، فهو يعلم أنك المهتدي والمكذّب بك ضالّ عن طريق الهدى وسيجازى كلّ إنسان بحسب ما يستحقّ. [الآيتان 8 و 9] وقد ساوم الكفار النبيّ، وعرضوا عليه أن يعبدوا إلهه يوما، وأن يعبد آلهتهم يوما، فيصيب كلّ واحد بحظّه من إله الاخر، فنزل قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) [الكافرون] . وفي كتب السيرة أنّ الكفّار حرّضوا أبا طالب على أن يكف عنهم محمّدا، وأن ينهاه عن عيب آلهتهم، فقال

النبي (ص) لعمّه: والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه. وقد نزل الوحي ينهاه عن طاعة المكذّبين، وينهاه عن قبول المساومة أو الحل الوسط، فإمّا إيمان أو لا إيمان: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) : الإدهان هو اللين والمصانعة، أي ودّ المشركون لو تلين لهم في دينك بالركون إلى آلهتهم، وتتخلّى عن مهاجمتها، حتّى يتركوا خصامك وجدالك. [الآيات 10- 13] نزلت هذه الآيات في الوليد بن المغيرة، وقيل في الأخنس بن شريق، وكلاهما كان ممّن خاصموا رسول الله (ص) ولجّوا في حربه. والآيات تصفه بتسع صفات كلّها ذميم: 1- فهو حلّاف، كثير الحلف. 2- مهين، لا يحترم نفسه ولا يحترم الناس قوله. 3- وهو همّاز، يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة. 4- وهو مشّاء بنميم، يمشي بين الناس بالنميمة والفتنة والفساد. 5- وهو منّاع للخير، بخيل ممسك وكان يمنع الناس من الإيمان، ويهدّد من يحسّ منه الاستعداد للإيمان. 6- وهو معتد، متجاوز للحقّ والعدل ثم هو معتد على النبيّ (ص) وعلى المسلمين. 7- وهو أثيم، كثير الآثام، لا يبالي بما ارتكب ولا بما اجترح. 8- عتلّ بعد ذلك، جامع للصفات المذمومة، وهو فظّ غليظ جاف. 9- زنيم، أي لصيق في قومه متّهم في نسبه، أو معروف بالشرور والآثام. [الآيات 14- 16] تذكر هذه الآيات موقفه من دين الله، وجحوده بنعمة الله عليه فلأنّه صاحب مال وولد، إذا تلي عليه القرآن استهزأ بآياته، وسخر من الرسول (ص) وهذه وحدها تعدل كلّ ما مرّ من وصف ذميم، سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) ، أي سنجعل له سمة وعلامة على أنفه والمراد أنّا سنبيّن أمره بيانا واضحا حتّى لا يخفى على أحد، أو سنذلّه في الدنيا غاية الإذلال، ونجعله ممقوتا مذموما مشهورا بالشّرّ.

[الآيات 17- 33] : هذه الآيات تتناول قصّة أصحاب الجنة، وهم قوم ورثوا عن أبيهم بستانا جميلا مثمرا يانعا، وكان أبوهم يخرج زكاة البستان، ويوزع مقدارا منه على الفقراء والمساكين، ولكنهم خالفوا أباهم ومنعوا حقّ الفقراء والمساكين، فعاقبهم الله بهلاك البستان، وكذلك يعاقب الكافرين يوم القيامة. وقد عرضتها الآيات عرضا رائعا يمثل خطوات القصة، وضعف تدبير الإنسان أمام تدبير الله الواحد الدّيّان، فلنسر مع الآيات. [الآيتان 17- 18] : لقد استقرّ رأي أصحاب الجنّة أن يقطعوا ثمرها عند الصباح، دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين، وأقسموا على هذا، وعقدوا النيّة عليه. [الآيتان 19 و 20] : فطرق تلك الجنة طارق من أمر الله ليلا، وهم نيام فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) أي كالبستان الذي صرمت ثماره أي قطعت، كأنّها مقطوعة الثمار، فقد ذهب الطائف الذي طاف عليها بثمرها كله. [الآيات 21- 24] : فنادى بعضهم بعضا في الصباح، وانطلقوا يتحدّثون في خفوت، زيادة في إحكام التدبير، ويوصي بعضهم بعضا أن يحتجزوا الثمر كله، ويحرموا منه المساكين. [الآية 25] : وغدوا مصمّمين على حرد «1» المساكين ومنعهم وحرمانهم، قادرين عند أنفسهم على المنع وحجب منفعتها عن المساكين. [الآيتان 26 و 27] : فلمّا شاهدوا بستانهم ورأوه محترقا أنكروه، وشكّوا فيه وقالوا: أبستاننا هذا أم نحن ضالون طريقه ثمّ تيقّنوا أنّه بستانهم، وقد حاق بهم الحرمان والندم. [الآيات 28 32] : وبعد أن حدث ما حدث، ألقى كلّ منهم تبعة ما وقع على غيره، وتشاحنوا، ثمّ تركوا التلاوم، واعترفوا بالخطيئة أمام العاقبة الرديئة، عسى أن يغفر الله لهم، ويعوّضهم من الجنّة الضائعة. [الآية 33] : هكذا يكون عذاب من خالف أمر الله، وبخل بما آتاه، وأنعم به عليه، ومنع حقّ البائس الفقير وفي الاخرة عذاب أكبر من هذا العذاب،

_ (1) . الحرد: المنع.

قصة يونس

لكلّ جاحد بنعمة الله، ولكلّ مكذّب بالدّين والإيمان. فليعلم ذلك المشركون وأهل مكة، وليحذروا عاقبة كفرهم وعنادهم. والقصة مسوقة لغاية معيّنة هي بيان عاقبة الجحود ومنع حقّ الله. إنّها عاقبة سيّئة في الدنيا وفي الاخرة وفي القصة تهديد للكافرين، وعظة للمؤمنين. [الآية 34] : وفي مقابل ما أعدّ للكافرين، بيان بالنعيم الذي أعد للمتّقين. [الآيات 35- 47] : وعند هاتين الخاتمتين يدخل القرآن معهم في جدل لا تعقيد فيه ولا تركيب، ويتحدّاهم، ويحرجهم بالسؤال تلو السؤال، عن أمور ليس لها إلّا جواب واحد تصعب فيه المغالطة ويهدّدهم في الاخرة بمشهد رهيب، وفي الدنيا بحرب من العزيز الجبّار القويّ الشديد. [الآيات 48- 50] : توجّه الآيات النبي الكريم إلى الصبر على تكاليف الرسالة، والصبر على الأذى والتكذيب وتذكر له تجربة أخ له من قبل ضاق صدره بتكذيب قومه، وهو يونس (ع) . قصة يونس أرسل الله يونس بن متى (ع) الى أهل قرية نينوى بجوار مدينة الموصل بالعراق، فاستبطأ إيمانهم وشقّ عليه تلكّؤهم، وضاق صدره بتكذيبهم، فهجرهم مغاضبا لهم. وقاده الغضب الى شاطئ البحر، حيث ركب سفينة مع آخرين فلمّا كانوا في وسط اللجة ثقلت السفينة، وتعرّضت للغرق، فأقرعوا بين الركاب للتخفّف من واحد منهم، لتخفّ السفينة، فكانت القرعة على يونس: فألقوه في اليم، فابتلعه الحوت، عندئذ نادى يونس وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) مملوء غيظا، لوقوعه في كرب شديد، في ظلمات البحر، وفي بطن الحوت، وفي وسط اللجة، نادى ربه قائلا: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) [الأنبياء] ، فتداركته نعمة من ربّه، فنبذه الحوت على الشاطئ مريضا سقيما، ثمّ يسّر الله له الأمور، واصطفاه وأوحى إليه، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا به وجعله الله من الصّالحين، حيث ردّ إليه الوحي، وشفّعه في نفسه وقومه. [الآيات 50- 52] : وفي ختام

المعنى الإجمالي للسورة

السورة نجد مشهدا للكافرين، وهم يتلقّون الدّعوة من الرسول الكريم، في غيظ عنيف، وحسد عميق، ينسكب في نظرات مسمومة قاتلة، يوجّهونها إليه. قال جار الله الزمخشري: قوله تعالى وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) ، يعني أنّهم، من شدّة تخوّفهم، ونظرهم إليك سرّا، بعيون العداوة والبغضاء، يكادون يزلّون قدمك، أو يهلكونك، من قولهم: نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني، أو يكاد يأكلني، أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله. وعن الحسن: دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية. وقد كان الكفار يريدون إصابة النبي (ص) بعيونهم وحسدهم، فعصمه الله تعالى وأنزل عليه الآية. وقد صح في الحديث من عدة طرق: «إنّ العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر» . وروى الإمام أحمد عن أبي ذر مرفوعا: «إن العين لتولع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالقا «1» ثمّ يتردّى منه» . وممّا يحفظ المؤمن من الحسد خمسة أشياء، هي: 1- قراءة قل أعوذ بربّ الفلق، وقل أعوذ بربّ النّاس. 2- إخراج صدقة. 3- أن نقول: (لا اله الا الله وحده لا شريك له) ثم نقرأ قوله تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) عشر مرات بعد صلاة المغرب، وعشر مرات بعد صلاة الصبح. 4- قراءة قوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) . 5- وأهم شيء في الوقاية من الحسد: الثقة الكاملة والاعتقاد اليقيني بأن الله هو النّافع الضّارّ، وأنّ أحدا لن ينفعك إلّا بإذن الله، ولن يضرّك إلّا بمشيئة الله. المعنى الإجمالي للسورة بيان محاسن الأخلاق النبوية، وسوء

_ (1) . الحالق: الجبل المرتفع.

أخلاق بعض الكفّار، وعذاب مانعي الزكاة، وضرب المثل بقصة أصحاب الجنة، وتقريع المجرمين وتوبيخهم، وإقامة الحجّة عليهم، وتهديد المشركين المكذّبين بالقرآن. وأمر الرسول (ص) بالصبر، والإشارة إلى حال يونس (ع) في قلّة الصبر. وقصد الكفار رسول الله (ص) ليصيبوه بالعين في قوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) . أسماء السورة: للسورة اسمان: سورة ن، وسورة القلم والاسم الثاني أشهر من الأول.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"القلم"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القلم» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة القلم بعد سورة العلق، وكانت سورة العلق أوّل ما نزل من القرآن، فيكون نزول سورة القلم فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) وتبلغ آياتها اثنتين وخمسين آية. الغرض منها وترتيبها لمّا نزل جبريل على النبي (ص) بغار حراء، رجع إلى خديجة متغيّر الوجه، فقالت له: ما لك؟ فذكر لها نزول جبريل عليه، فذهبت به إلى ابن عمّها ورقة بن نوفل، وكان نصرانيا فسأل النبي (ص) عما حصل له فأخبره، فقال له: والله لئن بقيت على دعوتك لأنصرنّك نصرا عزيزا. ووقعت تلك الواقعة في ألسنة قريش فقالوا إنه لمجنون فنزلت هذه السورة لتثبيته، وإنذارهم بالعذاب على كفرهم، وبهذا تشارك السورة السابقة في غرض الإنذار، ويظهر وجه المناسبة في ذكرها بعدها. تثبيت النبي (ص) الآيات [1- 52] قال الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) فأقسم، جلّ وعلا، بهذا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعالي الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....]

على أنّ النبيّ (ص) غير مجنون كما يزعمون، وأن له أجرا غير ممنون، وأنه على خلق عظيم ثمّ ذكر له أنّه سيبصر ويبصرون من هو المجنون وأنه، سبحانه، هو الذي يعلم الضالّ والمهتدي. ونهاه أن يطيع منهم كل همّاز مشّاء بالنّميمة منّاع للخير، إلى غير هذا ممّا ذكره من صفاتهم ومنها أن أحدهم يعطيه الله المال والبنين فيقابل هذا بتكذيب آياته أنفة وحمية ثمّ ذكر أنه سيصيبه بما يذهب بأنفته وحميته سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) وأنه يختبرهم بأموالهم وبنيهم كما اختبر أصحاب الجنّة حين أقسموا ليجنونها في الصّباح، ولم يقولوا إن شاء الله، فأصابها بآفة أتت على أثمارها. وقد ذهبوا إليها في الصباح، وهم يتنادون ألّا يدخلنّها مساكين عليهم فلما رأوها اعترفوا بضلالهم، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) ، ثمّ ذكر، سبحانه، أنّ عذاب أولئك المشركين في الدنيا سيكون كعذاب أصحاب هذه الجنّة، ولهم عذاب في الاخرة أكبر من عذاب الدنيا وأنّ للمتّقين عنده جنات النعيم. وأنكر أن يسوي في هذا بين المسلمين والمجرمين، وأنكر عليهم أن يحكموا بأنّهم في هذا مثلهم وذكر أنّه لا علم عندهم ولا أيمان تثبت هذا الحكم وأنه إذا أمكن شركاءهم أن يضمنوا لهم هذا، فليأتوا بهم يوم يكشف عن ساق، ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يدعون إليه وهم سالمون فيأبون. ثم ختمت السورة بأمر الله تعالى النبي (ص) أن يتركه هو ومن يكذب بما أنزل عليه وذكر له أنه سيملي لهم ليأخذهم بعذابه. ثمّ أمره أن يصبر لحكمه ولا يضيق به كما ضاق يونس (ع) حينما التقمه الحوت، لأنّه لولا أنّه تداركه بنعمته لأخرجه من بطنه وهو مذموم، ولكنه اجتباه وجعله من الصالحين. ثمّ ذكر أن أولئك المشركين إنّما يحملهم أشدّ العداوة عند سماع القرآن على قولهم إنه لمجنون وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"القلم"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القلم» «1» أقول: لمّا ذكر سبحانه في آخر «تبارك» التهديد بتغوير الماء «2» ، استظهر عليه في هذه السورة بإذهاب ثمر أصحاب البستان في ليلة يطاف عليه فيها، وهم نائمون، فأصبحوا لم يجدوا له أثرا، حتّى ظنوا أنّهم ضلّوا الطريق «3» . وإذا كان هذا في الثمار وهي أجرام كثيفة، فالماء الذي هو لطيف رقيق أقرب إلى الإذهاب، ولهذا قال سبحانه: وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) . وقال هناك: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الآية 30] ، إشارة إلى أنه يسري عليه، في ليلة، كما سرى على الثمرة، في ليلة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . ورد في قوله تعالى من سورة «الملك» : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) . وتغوير الماء: جفافه. (3) . جاء هذا في سورة القلم بقوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الآية 17] إلى إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"القلم"

المبحث الرابع مكنونات سورة «القلم» «1» 1- وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) . قال السّدّي: نزلت في الأخنس بن شريق. وقال مجاهد: في الأسود بن عبد يغوث. أخرجهما ابن أبي حاتم. وقيل: في الوليد بن المغيرة. حكاه الكرماني. 2- أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الآية 17] . كانت بصروان قرية باليمن بينها وبين صنعاء ستة أميال. أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. 3- أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ [الآية 22] . قال مجاهد: كان عنبا. أخرجه ابن أبي حاتم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"القلم"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «القلم» «1» 1- وقال تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) . العتلّ: الغليظ الجافي، وهو من: عتله إذا قاده بعنف وغلظة. والزّنيم: الدعيّ، قال حسان: وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما ... نيط خلف الراكب القدح الفرد المقصود بالعتلّ والزنيم وبنعوت أخرى في الآيات السابقات، هو الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان موسرا، وكان له عشرة بنين، فكان يقول لهم: من أسلم منعته رفدي. أقول: ولا نعرف «العتلّ» في العربية المعاصرة، ولكننا نعرف الزنيم في اللغة السائرة، وهي من ألفاظ السّبّ والشتم لدى العامّة، والزنيم عندهم الفاسد الساقط المروءة، وقد يكون ابن زنى. 2- وقال تعالى: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) . وقوله تعالى: كَالصَّرِيمِ، أي: كالمصروم، وقيل: الصريم الليل، أي: احترقت واسودّت. وقيل النهار، أي: يبست وذهبت خضرتها. أقول: والصريم ضرب من النبات ذو شوك، يعرفه أهل الزرع في العراق. 3- وقال تعالى: فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) ، أي: يتسارّون فيما بينهم. 4- وقال تعالى: وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

والحرد: المنع: وقرئ (على حرد) بفتحتين، أي: على غيظ وغضب. 5- وقال تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) . أقول: في الآية إشارة إلى مثل يضرب في شدّة الأمر، وصعوبة الخطب، ويتمثّل في الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام، (جمع خدمة وهي الخلخال) . وأصله في الروع والهزيمة، وتشمير المخدّرات عن سوقهن في الهرب وإبداء خدامهن، قال حاتم: أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا والمراد بقوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ: يوم يشتدّ الأمر ويتفاقم. 6- وقال تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) . واستدرجه إلى كذا إذا استنزله إليه درجة فدرجة، حتّى يورّطه فيه. وقوله تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) أي: من الجهة التي لا يشعرون منها أنّه استدراج، وهو الإنعام عليهم. وقوله جلّ وعلا: وَأُمْلِي لَهُمْ أي: أمهلهم. 7- وقال تعالى: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) . المغرم: الغرامة، أي: لم تطلب منهم على الهداية والتعليم أجرا، فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم، فيثبّطهم ذلك عن الإيمان.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"القلم"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «القلم» «1» قال تعالى: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) أي «أيّكم المفتون» . وقال: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 51] وهذه «إن» التي تكون للإيجاب، وهي في معنى الثقيلة، إلّا أنّها ليست بثقيلة، لأنك إذا قلت: «إن كان عبد الله لظريفا» فمعناه «إن عبد الله لظريف قبل اليوم» ف «إن» تدخل في هذا المعنى، وهي خفيفة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"القلم"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «القلم» «1» إن قيل: لم قال تعالى: وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) أي ولا يقولون إن شاء الله، فسمّى الشرط استثناء؟ قلنا: إنّما سماه استثناء لأنه في معناه، فإنّ معنى قولك «لأخرجن إن شاء الله» ، و «لا أخرج إلّا أن يشاء الله» قول واحد. وقال عكرمة: المراد به حقيقة الاستثناء: أي أنهم لا يستثنون حقّ المساكين، والجمهور على الأول. فإن قيل: لم سمّى أوسطهم الاستثناء تسبيحا، فقال كما ورد في التنزيل أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) ، أي لولا تستثنون؟ قلنا: إنّما سماه تسبيحا لاشتراكهما في معنى التعظيم، لأنّ الاستثناء تفويض إليه، وإقرار، بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلا إلّا بمشيئته سبحانه والتسبيح تنزيه عن السوء. الثاني: أنه كان استثناؤهم قول «سبحان الله» . الثالث: أن معناه لولا تنزّهون أنفسكم وأموالكم عن حق الفقراء. فإن قيل: لم قال تعالى: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ [الآية 43] ، ولا تكليف في الدار الاخرة؟ قلنا: لا يدعون إليه تكليفا وتعبّدا، ولكن توبيخا وتعنيفا على تركه في الدنيا. فإن قيل: لم قال تعالى: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، وهم إنّما كانوا يدعون إلى الصلاة. فإن المراد بالآية دعاؤهم إلى الجماعات بأذان المؤذن حينما يقول: حيّ على الصلاة؟

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

قلنا: عبّر سبحانه عن الصلاة بالسجود لأنه من أركانها، بل هو أعظم الأركان وغايتها، كما عبّر عنها بالركوع وبالقرآن. فإن قيل: لم قال تعالى: وَهُمْ سالِمُونَ (43) ، أي صحيحون، مع أنّ الصحة ليست شرطا لوجوب الصلاة؟ قلنا: وجوب الخروج إلى الصلاة بالجماعة مشروط بالصحة، وهو المراد.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"القلم"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «القلم» «1» في قوله سبحانه: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) استعارة. والمراد بها الكناية عن هول الأمر وشدّته، وعظم الخطب وفظاعته: لأنّ من عادة الناس أن يشمّروا عن سوقهم عند الأمور الصّعبة، التي يحتاج فيها إلى المعاركة، ويفزع عندها إلى الدّفاع والممانعة. فيكون تشمير الذيول عند ذلك أمكن للقراع، وأصدق للمصاع. وقد جاء في أشعارهم ذكر ذلك في غير موضع. قال قيس «2» بن زهير بن جذيمة العبسي: فإن شمّرت لك عن ساقها فويها ربيع فلا تسأم «3» وقال الاخر «4» : قد شمّرت عن ساقها فشدّوا وجدّت الحرب بكم فجدّوا وفي قوله سبحانه:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . قيس بن زهير هو صاحب الفرسين: داحس والغبراء بسببهما قامت الحرب بين عبس وذبيان ودامت أربعين سنة. وتجد أخباره في «اللسان» و «أيام العرب» و «الشعر والشعراء» و «شعراء النصرانية» وغيرها. (3) . هكذا بالأصل. وفي «شعراء النصرانية» ص 927 يروى هكذا: فإن شمرت لك عن ساقها ... فويها ربيع ولم يسأموا (4) . هو رويشد بن رميض العنبري المعروف بشريح بن ضبيعة، كما في هامش «العقد الفريد» ج 4 ص 120 طبع لجنة التأليف والترجمة. وفي «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي، بتحقيق أحمد أمين وعبد السلام هارون أن اسمه رشيد بن رميض، لا رويشد. ويرجّح الأستاذ هارون أنه العنزي، لا العنبري، نسبة إلى بني عنزة، ص 354.

فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) استعارة. ولها نظائر في القرآن. منها قوله تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) [المزّمّل] وقوله سبحانه: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) [المدّثّر] . ومعنى ذلك أن الكلام خرج على مذهب للعرب معروف، وغرض مقصود. يقول قائلهم لمخاطبه إذا أراد تغليظ الوعيد لغيره: ذرني وفلانا فستعلم ما أنزله به. فالمراد إذن بهذا الخطاب النبي (ص) . فكأنه تعالى قال له: ذر عقابي وهؤلاء المكذّبين. أي اترك مسألتي في التخفيف عنهم، والإبقاء عليهم. لأنّ الله سبحانه لا يجوز عليه المنع، فيصحّ معنى قوله تعالى لنبيّه (ص) : ذرني وكذا، لأنه المالك لا ينازع، والقادر لا يدافع. وفي قوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) استعارة. والمراد بالإزلاق هاهنا: إزلال القدم حتّى لا يستقر على الأرض. وذلك خارج على طريقة للعرب معروفة. يقول القائل منهم: نظر إليّ فلان نظرا يكاد يصرعني به. وذلك لا يكون إلا نظر المقت والإبغاض، وعند النزاع والخصام. وقال الشاعر: يتقارضون إذا التقوا في موقف نظرا يزيل مواقف الأقدام وقد أنكر بعض العلماء أن يكون المراد بقوله تعالى: لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ [الآية 51] الإصابة بالعين، لأنّ هذا من نظر السخط والعداوة، وذلك من نظر الاستحسان والمحبّة.

سورة الحاقة 69

سورة الحاقّة 69

المبحث الأول أهداف سورة"الحاقة"

المبحث الأول أهداف سورة «الحاقّة» «1» سورة الحاقّة سورة مكّيّة، آياتها 52 آية، نزلت بعد سورة الملك. هي نموذج للسورة المكّيّة، التي تستولي على القلوب، بأهوالها ومشاهدها، وأفكارها المتتابعة، وفواصلها القصيرة. في بداية السّورة نلحظ هذه الرهبة من اسمها، الحاقّة، لأنّ وقوعها حقّ يقينيّ ثمّ تصف مصارع المكذبين، من ثمود الى عاد الى فرعون ثمّ تنتقل الى مشاهد القيامة وأهوالها وصورها، وتنوّع الناس إلى فريقين، فريق يأخذ كتابه باليمين، وفريق يأخذ كتابه بالشّمال ويلقى كل فريق ما يستحق. وفي المقطع الأخير من السورة، تؤكّد الآيات صدق رسول الله، وتنفي عنه تهم المشركين، وتثبت أنّ القرآن حقّ يقين، من عند رب العالمين. مع آيات السورة [الآيات 1- 3] : الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) . القيامة ومشاهدها وأحداثها تشغل معظم هذه السورة، ومن ثمّ تبدأ السورة باسم من أسماء القيامة: (الحاقّة) : أي الساعة الواجبة الوقوع، الثابتة المجيء، وهي آتية لا ريب فيها، من «حقّ يحق» ، بالكسر، أي «وجب» . وهذا المطلع يوحي بقدرة القدير، وضعف الإنسان فهو لن يترك سدى، بل أمامه يوم كلّه حقّ وعدل.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

والألفاظ في السورة توحي بهذا المعنى وتؤكده: الْحَاقَّةُ ثم يتبعها باستفهام حافل بالاستهوال والاستعظام مَا الْحَاقَّةُ ما هي؟ أيّ شيء هي؟ أي حقّها أن يستفهم عنها لعظمها، وهذا أسلوب من الكلام يفيد التفخيم والمبالغة في الغرض الذي يساق له. وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) أيّ شيء أعلمك ما هي، فهي خارجة عن دائرة علم المخلوقات، لعظم شأنها، ومدى هولها وشدّتها ثم يسكت الأسلوب فلا يجيب عن هذا السؤال لتذهب النفس في هوله وشدته كل مذهب. ومن أسماء القيامة الحاقة، والقارعة لأنّها تقرع القلوب بأهوالها. [الآيتان 4- 5] : تصف ما أصاب ثمود من العذاب وثمود كانت تسكن الحجر في شمالي الحجاز، بين الحجاز والشام، وقد كذبوا نبيّهم، فأرسل الله عليهم صيحة أهلكتهم وسمّيت الصيحة هنا طاغية، لأنّها جاوزت الحدّ في الشّدّة وسمّيت، في سور أخرى، بالصاعقة وبالرجفة والزّلزلة وهي صفات للصيحة تبيّن أثرها فيمن نزلت بهم. [الآيات 6- 8] : تصف قصّة هلاك عاد، وقد كذبوا رسولهم، فأرسل الله عليهم ريحا باردة عاتية، استمرّت سبع ليال وثمانية أيام، حُسُوماً متتابعة، حتى هلك القوم أجمعون وقد كانوا يسكنون بالأحقاف، في جنوب الجزيرة بين اليمن وحضرموت، وكانوا أشدّاء بطّاشين جبّارين وكان الجزاء من جنس العمل. [الآيتان 9- 10] : تصفان مجيء فرعون ومن تقدّمه من الأمم التي كفرت بآيات الله، كقوم نوح وعاد وثمود، والقرى التي ائتفكت بأهلها، أي انقلبت بهم، وهي قرى قوم لوط. فقد عصى هؤلاء رسل الله، الذين أرسلوا إليهم، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. [الآيتان 11- 12] : ترسمان مشهد الطوفان والسفينة الجارية، وتشيران بهذا المشهد إلى مصرع قوم نوح حينما كذّبوا، وتمتنّان على البشر بنجاة أصولهم التي انبثقوا منها. والمشهور أن الناس كلهم من سلائل نوح وذريته. [الآيات 13- 18] : تصف أهوال القيامة وأحداثها، فإسرافيل ينفخ في الصور، وتسوّى الأرض والجبال،

وتدكّ كالكرة فيستوي عاليها بأسفلها عندئذ نزلت النازلة، وجاءت القيامة. وقد انفرط عقد الكون المنظور، واختلّت روابطه وضوابطه التي تمسك به، فترى السماء مشقّقة واهية مسترخية، ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة. والسماء مسكن الملائكة، فإذا انشقت تعلّق الملائكة بجوانبها وأطرافها، والعرش فوقهم يحمله ثمانية: ثمانية أملاك، أو ثمانية صفوف منهم، أو ثمانية أصناف، أو طبقات من طبقاتهم، أو ثمانية مما يعلم الله، ولا ندري نحن من هم ولا ما هم. يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فالكلّ مكشوف، مكشوف الجسد، مكشوف النفس، مكشوف الضمير، مكشوف المصير. ألا إنه لأمر عصيب، وقوف الإنسان عريان الجسد، عريان النفس، عريان المشاعر، عريان التاريخ، عريان العمل، ما ظهر منه وما استتر، أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله من الإنس والجن والملائكة، وتحت جلال الله وعرشه المرفوع فوق الجميع. [الآيات 19- 24] : تصف مشهد المؤمن الناجي، وهو ينطلق في فرحة غامرة بين الجموع الحاشدة، وتملأ الفرحة جوانحه فيهتف: اقرءوا كتابي فأنا من الناجين، لقد أيقنت بالجزاء والحساب. فيعيش حياة ناعمة، في جنّة عالية، ثمارها قريبة التناول، ويقول لهم ربّهم جل ثناؤه: كلوا وتمتّعوا جزاء عملكم السابق، وطاعتكم لربكم. [الآيات 25- 29] : تصف حسرة المشرك، وبؤسه ويأسه، فهو يتمنّى أنّه لم يأت للموقف، ولم يؤت كتابه، ولم يدر ما حسابه، كما يتمنّى أن لو كانت هذه القارعة هي القاضية، التي تنهي وجوده أصلا، فلا يعود بعدها شيئا. ثمّ يتحسّر أن لا شيء نافعه مما كان يعتز به أو يجمعه، فلا المال أغنى أو نفع، ولا السلطان بقي أو دفع، والرّنّة الحزينة الحسيرة المديدة في طرف الفاصلة الساكنة، وفي ياء العلة بعد المد بالألف، في تحزّن وتحسّر، تشعر بالحسرة والأسى والحزن العميق. [في الآيات 30- 32] : يقال لملائكة العذاب خذوه إلى جهنّم، فيبتدره سبعون ألف ملك، كلّهم يبادر إلى جعل الغلّ في عنقه، ويتقدّم

ليصطلي نار الجحيم ويشوى بها، ويدخل في سلسلة طولها سبعون ذراعا تلفّ على جميع جسمه وذراع واحد من سلاسل النار تكفيه، ولكن الآية تكشف عن شدة العذاب وهوله، حفظنا الله من عذاب النار. [الآيتان 33- 34] : تذكّران أسباب العذاب والسعير، فقد خلا قلب هذا الكافر من الإيمان بالله، كما خلا قلبه من الرحمة بالعباد، ومن العطف على المساكين، ومن الحثّ على إطعامهم والبرّ بهم. [الآيات 35- 37] : تخبرنا أنّ الكافر لا يجد له صديقا ولا حميما يؤنسه، ولا يأكل الا غسالة أهل جهنم من القيح والصديد، وهو طعام لا يأكله إلّا المذنبون، المتصفون بالخطيئة، فليتّق الله كلّ غنيّ في ماله، وليعلم أنّ للمساكين والأرامل والشيوخ والأطفال حقا في هذا المال، وسيترك المال لورثته ويسأل هو عن زكاته. [الآيات 38- 43] : تبيّن لنا أنّ الوجود أضخم بكثير ممّا يرى البشر، والكون مملوء بعقول فعّالة غير عقولنا. «إنّ الإنسان قد يكون جهازا، ولكن من الذي يدير هذا الجهاز؟ لأنه بدون أن يدار لا فائدة منه، والعلم لا يعلل من يتولى إدارته، وكذلك لا يزعم أنه مادي. لقد بلغنا من التقدم درجة تكفي لأن نوقن بأن الله سبحانه قد منح الإنسان قبسا من نوره» «1» . والآيات تقسم بما تشاهدون من المخلوقات وبما غاب عنكم. وقال عطاء: ما تبصرون من آثار القدرة، وما لا تبصرون من أسرار القدرة. إن القرآن كلام الله ومنهج الله وشريعة الله، وليس قول شاعر ولا قول كاهن انّما هو قول رسول أرسل به من عند الله، فحمله الى عباد الله بأمانة وإخلاص في تبليغ الرسالة. في [الآيات 44- 46] : أن قدرة الله قدرة بالغة، ولو تقوّل محمّد بعض الأقاويل، لعاجلناه بالعقوبة، وأزهقنا روحه، فكان كمن قطع وتينه. وهذا تصوير للهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه، إذ يأخذه السيّاف بيمينه، ويكفحه بالسيف ويضرب عنقه.

_ (1) . أ. كريسى موريسون. رئيس أكاديمية العلوم في نيويورك. في كتابه المترجم. بعنوان «العلم يدعو الى الايمان» .

المعنى الإجمالي للسورة

[في الآية 47] : أنّ أحدا لا يمنعنا من عقوبة محمد، والتنكيل به إذا افترى علينا. [الآيات 48- 52] : تخبرنا أنّ القرآن يذكّر القلوب التّقيّة فتتذكّر أنّ الحقيقة، التي جاء بها، كامنة فيها فهو يثيرها ويذكّرها فتتذكّر أما المطموسة قلوبهم فهم يكذّبون بهذا القرآن، والقرآن حجة على الكافرين في الدنيا، وحسرة عليهم إذا رأوا عذاب الاخرة. وهذا القرآن عميق في الحقّ، عميق في اليقين، تنزيل من ربّ العالمين، فعلينا أن نعظّم الله، وأن ننزّهه ونجلّه، ونعترف له بالقدرة والعظمة فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) . المعنى الإجمالي للسورة الخبر عن صعوبة القيامة، وهلاك الأمم المكذّبة لرسلها، وذكر نفخة الصور، وانشقاق السماوات، وحال السّعداء والأشقياء في وقت قراءة الكتاب، وذلّ الكفار مقهورين في أيدي الزبانية، وإثبات أن القرآن العظيم وحي من عند الله سبحانه، وليس بقول شاعر ولا كافر، والأمر بتسبيح الركوع «1» في قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) .

_ (1) . أنظر بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز. للفيروزآبادي. [.....]

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الحاقة"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحاقّة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الحاقّة بعد سورة الملك، ونزلت سورة الملك بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الحاقة في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) وتبلغ آياتها اثنتين وخمسين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إثبات يوم القيامة، وبيان ما فيه من ثواب وعقاب. وبهذا يكون سياقها في سياق الإنذار الذي جاء في السورة السابقة، وهذا هو وجه المناسبة بين السورتين. إثبات يوم القيامة الآيات [1- 52] قال الله تعالى: الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) والحاقّة الساعة الثابتة التي لا ريب فيها. وقد ذكر، سبحانه، أن ثمود وعادا كذّبا بها فأهلكا بما أهلكا به، وأنّ فرعون ومن قبله والمؤتفكات (قوم لوط) كذّبوا بها فأخذوا أخذة رابية وأنه، جلّ وعلا، نجّى من آمن بها من قوم نوح حينما طغى الماء، فحملهم في الجارية، وأغرق من كذّب بها، ليجعلها تذكرة لنا وتعيها آذاننا، فإذا جاء يومها بأهواله

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

من النّفخ في الصّور وغيره، يعرض الناس على ربّهم: فأمّا من أوتي كتابه بيمينه، فينال ما ذكره من الثواب، وأمّا من أوتي كتابه بشماله، فينال ما ذكره من العقاب ثم أقسم عزّ وجلّ، بما يبصرون وما لا يبصرون من خلقه، أنّ ذلك قول رسول كريم، لا يشكّ في صدقه، وليس بقول شاعر ولا كاهن يغلب الكذب فيه. ثم ذكر سبحانه أنه لو تقوّله الرسول (ص) عليه لأخذ بيمينه وقطع عنقه، ولم يمكّن أحدا أن يحجزه عنه ثم ذكر تعالى أن القرآن تذكرة للمتّقين، وأنه يعلم تكذيبهم له فيعاقبهم به ويجعله حسرة عليهم، وأنّه لحقّ اليقين: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الحاقة"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحاقّة» «1» أقول: لمّا وقع في سورة «ن» ، أي «القلم» ، ذكر يوم القيامة مجملا في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [الآية 42] ، شرح ذلك في هذه السورة بناء على هذا اليوم، وشأنه العظيم «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وذلك من أول السورة الى قوله: لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ (37) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الحاقة"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الحاقّة» «1» 1- وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ [الآية 7] . قال الرّبيع بن أنس: كان أوّلها الجمعة. أخرجه ابن أبي حاتم. 2- وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ [الآية 17] . أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لم يسمّ من حملة العرش إلّا إسرافيل. قال: وميكائيل ليس من حملة العرش. وأخرج عن أبي الزاهرية قال: أنبئت أنّ لبنان أحد حملة العرش الثمانية يوم القيامة. وذكر يحيى بن سلّام، قال: بلغني أن روفيل من حملة العرش.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الحاقة"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحاقّة» «1» 1- قال تعالى: وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها [الآية 17] . أقول والأرجاء جمع رجا، وهو الجانب. ولا نعرف من هذا إلا الجمع، أمّا المفرد فغير معروف في الاستعمال. ونظير «الأرجاء» هذه «آناء» في قوله تعالى: وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ [طه: 130] . والإناء جمع إنى.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الحاقة"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحاقّة» «1» قال تعالى: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) لأنك تقول: «وعت ذاك أذني» ، و «وعاه سمعي» ، و «أوعيت الزاد» ، و «أوعيت المتاع» كما قال الشاعر «2» [من البسيط، وهو الشاهد الحادي والسبعون بعد المائتين] : الخير يبقي وإن طال الزّمان به «3» ... والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد وقال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) : فالفعل وقع على النفخة إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع. وقال تعالى: وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها [الآية 17] وواحدها «الرّجا» وهو مقصور. وقال تعالى: إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) جعل، والله أعلم، من «الغسل» وزيد الياء والنون، بمنزلة «عفرين» و «كفرين» . وقال تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) على المعنى، لأنّ معنى (أحد) معنى جماعة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هو عبيد بن الأبرص. ديوانه. 49 واللسان «وعي» . (3) . من الديوان واللسان والصحاح «وعي» .

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الحاقة"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحاقّة» «1» قيل: لم قال تعالى: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ [الآية 6] ، ولم يقل «صرصرة» ، كما قال تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) (عاتية) وهو صفة لمؤنث، لأنها الشديدة الصوت أو الشديدة البرد؟ قلنا: لأنّ الصرصر وصف مخصوص بالرّيح لا يوصف به غيرها، فأشبه باب حائض وطامث وحامل، بخلاف عاتية فإنّ غير الريح من الأسماء المؤنّثة يوصف به. فإن قيل: لم قال تعالى: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى [الآية 7] أي في تلك الليالي والأيّام، والنبي (ص) ما رآهم ولا يراهم فيها؟ قلنا: «فيها» ظرف، لقوله تعالى (صرعى) ، لا لقوله تعالى (فترى) ، والرؤية هنا من رؤية العلم والاعتبار، فصار المعنى فتعلمهم صرعى في تلك الليالي والأيام، بإعلامنا حتّى كأنّك تشاهدهم. فإن قيل: لم قال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) إلى قوله سبحانه: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) والمراد بها هنا النفخة الأولى، وهي نفخة الصّعق، بدليل ما ذكر بعدها من فساد العالم العلويّ والسفليّ والعرض إنّما يكون بعد النفخة الثانية، وبين النفختين من الزمان ما شاء الله تعالى، فلم قال سبحانه: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الآية 18] . قلنا: وضع اليوم موضع الوقت

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

الواسع الذي يقع فيه النفختان وما بعدهما. فإن قيل: لم قال تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) ؟ قلنا: معناه تيقّنت، والظّنّ يطلق بمعنى اليقين، كما في قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) [البقرة] . فإن قيل: لم قال تعالى في وصف أهل النار: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) . وقال سبحانه في موضع آخر: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) [الغاشية] ، وفي موضع آخر إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) [الدخان] ، وفي موضع آخر: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) [الواقعة] ، وفي موضع آخر: أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة: 174] ؟ قلنا: معناه إلّا من غسلين وما أشبهه، أو وضع الغسلين موضع كل طعام مؤذ كريه. الثاني: أنّ العذاب ألوان والمعذّبون طبقات فمنهم أكلة الزّقّوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضّريع، لكل باب منهم جزء مقسوم. فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) يعني أن القرآن قول جبريل (ع) ، مع أنه قول الله تعالى لا قول جبريل؟ قلنا: معناه عند الأكثرين أن المراد به النبي (ص) ، والمعنى أنه يقوله ويتكلم به، على وجه الرسالة من عند الله، لا من تلقاء نفسه، كما تزعمون. فإن قيل: لم قال تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) أخبر عن الفرد بالجمع؟ قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في آخر سورة البقرة.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الحاقة"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحاقّة» «1» في قوله تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) استعارة. والمراد بالصّرصر الباردة. وهو مأخوذ من الصّرّ. والعاتية: الشديدة الهبوب التي ترد بغير ترتيب، مشبّهة بالرجل العاتي، وهو المتمرّد الذي لا يبالي على ما أقدم، ولا في ما ولج ووقع. وفي قوله سبحانه: فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) استعارة: المراد بالرّابية هاهنا: العالية القاهرة. من قولهم: ربا الشيء إذا زاد. والرّبا مأخوذ من هذا. فكأنّ تلك الأخذة كانت قاهرة لهم، وغالبة عليهم. وفي قوله سبحانه: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) استعارة. والمراد بها قريب من المراد بالاستعارتين الأوليين، وهو تشبيه للماء في طموّ أمواجه، وارتفاع أثباجه «2» بحال الرجل الطاغي، الذي علا متجبرا وشمخ متكبرا. وقال بعضهم: معنى طغى الماء أي كثر على خزّانه، فلم يضبطوا مقدار ما خرج منه كثرة، لأن للماء خزنة، وللرياح خزنة من الملائكة عليهم السلام، يخرجون منهما على قدر ما يراه الله سبحانه من مصالح العباد، ومنافع البلاد، على ما وردت به الآثار. وفي قوله تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) ، استعارة. وكان الوجه أن

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . الأثباج: جمع مفردة ثبج، وهو وسط الشيء الرّابي.

يقال في عيشة مرضيّة. ولكن المعنى خرج على مخرج قولهم: شعر شاعر، وليل ساهر. إذا شعر في ذلك الشعر وسهر في ذلك الليل، فكأنهما وصفا بما يكون فيهما، لا بما يكون منهما. فبان أنّ تلك العيشة، لما كانت بحيث يرضي الإنسان فيها حاله جاز أن توصف هي بالرضا. فيقال راضية. على المعنى الذي أشرنا إليه. وعلى ذلك قول أوس بن حجر: «2» جدلت على ليلة ساهرة بصحراء شرج إلى ناظره «3» وصف الليلة بصفة الساهر فيها، وظاهر الصفة أنها لها. وقال بعضهم: إنّما قال تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) لأنها في معنى ذات رضى، كما قيل: لابن وتامر. أي ذو لبن وتمر. وكما قالوا لذي الدّرع: دارع، ولذي النّبل: نابل، ولصاحب الفرس: فارس. وإنما جاءوا به على النّسب، ولم يجيئوا به على الفعل. وعلى ذلك قول النابغة الذبياني «4» : كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب أي: ذي نصب. قال فكأن العيشة أعطيت من النعيم حتّى رضيت، فحسن أن يقال: راضية، لأنّها بمنزلة الطالب للرضا، كما أنّ الشهوة بمنزلة الطالب المشتهى. وفي قوله سبحانه: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) استعارة على أحد التأويلات، وهو أن يكون المراد باليمين هاهنا القوّة والقدرة. فيكون المعنى: أنه لو فعل ما نكره فعله لانتقمنا منه عن قدرة، وعاقبناه عن قوّة. وقد يجوز أن تكون اليمين هاهنا

_ (2) . هو أوس بن حجر بن مالك التميمي، كان شاعر تميم في الجاهلية، وعمّر طويلا، ولم يدرك الإسلام وفي شعره رقة وحكمة. وهو صاحب الأبيات المشهورة التي أولها: أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا (3) . البيت في «الأغاني» ج 11 ص. 72 وفي مخطوطتنا هذه «حدلت» بالحاء المهملة، وفي أصول «الأغاني» خذلت بالخاء والذال المعجمتين. وجدلت: صرعت. وشرج، وناظرة: اسما مكان بأرض بني أسد. (4) . هو أشهر من أن نعرّف به هنا، وهو من شعراء الجاهلية المقدّمين، وأخباره مع النعمان بن المنذر واعتذاراته له معروفة متعالمة. [.....]

راجعة على النبي (ص) فيكون المعنى: لو فعل ذلك لسلبناه قدرته، وانتزعنا منه قوّته. ويكون ذلك كقوله سبحانه: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] أي تنبت الدّهن على بعض التأويلات. وكقول الشاعر «5» : نضرب بالسيف ونرجو بالفرج أي نرجو الفرج.

_ (5) . هو النابغة الجعدي، كما في «معجم ياقوت» و «تاج العروس» وقد نقل ذلك عنهما محقق «معجم ما استعجم» للبكري ص 1029، والبيت كاملا هو: نحن بنو جعدة أرباب الفلج ... نضرب بالبيض ونرجو بالفرج والفلج بفتحتين: اسم مكان لبني جعدة، من قيس، ببلاد نجد.

سورة المعارج 70

سورة المعارج 70

المبحث الأول أهداف سورة"المعارج"

المبحث الأول أهداف سورة «المعارج» «1» سورة المعارج سورة مكية، آياتها 44 آية، نزلت بعد سورة الحاقّة. تبدأ السورة بمطلع متميّز، وهو سؤال طرحه أحد الكافرين عن يوم القيامة، سؤال تهكّم او استعجال لهذا اليوم. وفي الإجابة عن هذا السؤال، وصفت السورة يوم القيامة وألوان الهوان النفسي والحسّي الذي يصيب الكافرين فيه، ثم وصفت هلع الإنسان وجزعه، واستثنت المؤمنين الموصولين بالله تعالى، فهم في يقين ثابت، وأدب كريم. تنوع أساليب القرآن سورة المعارج جولة من جولات المعركة الطويلة الشّاقّة، التي خاضها القرآن في داخل النفس البشرية، وخلال دروبها ومنحنياتها، ورواسبها وركامها، وهي أضخم وأشقّ من المعارك الحربية. لقد سلك القرآن الكريم كل سبيل، ليصل الى نفوس المشركين ويقنع الجاحدين، ويثبّت المؤمنين وقد لوّن القرآن في طرق الهداية والدعوة، ومواجهة النفوس الجامحة. «فتارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر، من الدلائل الموحية والمؤثّرات الجارفة وتارة يواجهها بما يشبه السياط اللاذعة وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة، والمسارّة الودود، التي تهفو لها المشاعر وتأنس

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع آيات السورة

بها القلوب وتارة يواجهها بالهول المرعب، والصرخة المفزعة، التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة ونصاعة وتارة يواجهها بالأمل والرجاء، الذي يهتف لها ويناجيها وتارة يتخيّل مساربها ودروبها ومنحنياتها، فيلقي عليها الأضواء الكاشفة.. ومئات اللمسات والمؤثّرات، يطلع عليها قارئ القرآن الكريم» «1» ، وهو يتابع تلك المعركة الطويلة، التي قادها القرآن على عادات الجاهلية وركامها حتى انتصر عليها. وسورة المعارج لون من ألوان البيان القرآني، في تقرير حقيقة الاخرة، وما فيها من جزاء، وموازين هذا الجزاء، وإقرار هذه الحقيقة في النفوس. وتكاد تكون لونا من ألوان السياط اللاذعة، والأضواء الكاشفة، التي ساقها القرآن الكريم لتفتح عيون المشركين على ما هم فيه من ضلال، وما ينتظرهم من حساب وعقاب. مع آيات السورة [الآيات 1- 5] : يسأل المشركون «2» رسول الله (ص) سؤال استهزاء عن العذاب الذي يخوّفهم به ويجيب الله سبحانه، بأنه واقع لا شك في وقوعه، ولا يستطيع أحد دفعه وهذا العذاب من الله ذي الدرجات العلى. ويأمر الله تعالى نبيه (ص) بالصبر الجميل الهادئ. [الآيات 6- 14] : كان الكفّار ينكرون حقيقة الاخرة، ويرونها بعيدة الوقوع، وقد لقيت منهم معارضة نفسية عميقة، وكانوا يتلقّونها ببالغ العجب والدهشة والاستغراب. وقد بيّنت الآيات أن ذلك اليوم قريب الوقوع، وكل آت قريب، ثم رسمت مشاهد هذا اليوم، في مجال الكون وأغوار النفس، وهي مشاهد توحي بالهول الشديد، في الكون وفي النفس. وفي يوم القيامة تكون السماء (كالمهل) والمهل: ذوب المعادن الكدر، أي كدرديّ «3» الزيت. وتكون

_ (1) . في ظلال القرآن 29: 96 بتصرف. (2) . رواية عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن الذي سأل هو النضر بن الحارث، وفي رواية أخرى عنه قال: ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع بهم. (3) . درديّ الزيت وغيره: ما يبقى في أسفله.

الجبال (كالعهن) : أي كالصوف الواهن المنتفش. ويتمنّى الكافر في ذلك اليوم لو يفتدى من العذاب ببنيه، وزوجته وأخيه، وقبيلته وجميع من في الأرض. وهي صورة للهول الشديد الذي يصيب الكافر فيتمنّى النجاة ولو قدّم أعز الناس إليه. ومن كان يفتديهم بنفسه في الحياة. [الآيات 15- 18] : تردع هذه الآيات هذا الكافر، عن تلك الأماني المستحيلة، في الافتداء بالبنين والعشيرة. وتبيّن للكافر أنّ ما أمامه هو النار، تتلظّى وتتحرّق، وتنزع الجلود عن الوجوه والرؤوس نزعا وهي غول مفزعة تنادي من أعرض عن الحق، وحرص على المال، وبخل به ليدخل فيها. [الآيات 19- 21] : جبل الإنسان على الهلع فهو قليل الصبر، شديد الحرص، يجزع إذا نزل به الضرّ والألم، فلا يتصوّر أن هناك فرجا ومن ثم يأكله الجزع، ويمزّقه الهلع، كما يغلبه الحرص والبخل عند وجود المال والعافية. [الآيات 22- 35] : تستثني هذه الآيات المصلّين، فإنّهم يحافظون على صلاتهم، فتمنحهم الصلاة الثبات والاستقرار، وتراهم صابرين في البأساء، شاكرين في النعماء، يخرجون زكاة أموالهم، ويتصدّقون على الفقراء، ويصدّقون بيوم الجزاء، ويخافون غضب الله وعقابه، ويتّسمون بالاستقامة والعفة، وحفظ الفروج عن الحرام، والتمتّع بالحلال من الزوجة وملك اليمين، وأداء الشهادة بالحق والعدل، والمحافظة على الصلاة في أوقاتها، وأداء سننها وآدابها وخشوعها تلك الصفات هي صفات هذا الفريق المؤمن، الذي يستحق الجنّة والتكريم، ويتمتّع بالنعيم الحسّي، والنعيم الروحي: أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) . [الآيتان 36- 37] : تعرض هاتان الآيتان مشهدا من مشاهد الدعوة في مكة، والمشركون يسرعون الخطى، الى المكان الذي يكون فيه الرسول (ص) يتلو القرآن الكريم ثم يتفرّقون حواليه جماعات وفئات، لا ليسمعوا ويهتدوا، ولكن ليستطلعوا ثم يتفرقوا، يدبرون الكيد والردّ على ما سمعوا. [الآية 38] : أيطمعون في دخول

مجمل ما تضمنته السورة

الجنة، وهم على هذه الحال من الإعراض والتكذيب؟. [الآيات 39- 41] : لقد خلقوا من ماء مهين، وهم يعلمون أصل خلقتهم والله سبحانه قادر على أن يخلق خيرا منهم، وهم لا يسبقونه ولا يفوتونه، ولا يهربون من مصيرهم المحتوم. ثم تتجه الآيتان 42 و 43 في الختام، الى وعيدهم وتهديدهم بيوم الجزاء، يوم يخرجون من القبور مسرعين، كأنّما هم ذاهبون الى نصب يعبدونه، وهم يُوفِضُونَ أي يسرعون. وترسم الآية الأخيرة [الآية 44] سماتهم، وتلمح صورة ذليلة عانية، في ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون به، فيستريبون فيه ويشكّون. مجمل ما تضمنته السورة «بيان جزاء الكافر في استعجال العذاب، وطول القيامة وهولها، وشغل الخلائق في ذلك اليوم المهيب، وتصوير النفس البشرية في السرّاء والضرّاء، وبيان محافظة المؤمنين على خصال الخير، وطمع الكفار في غير مطمع، وذلّ الكافرين يوم القيامة» «4» في قوله تعالى: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) .

_ (4) . بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي 1: 480، بتصرف.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"المعارج"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المعارج» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة المعارج بعد سورة الحاقّة، ونزلت سورة الحاقّة بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة المعارج في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى: مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) وتبلغ آياتها أربعا وأربعين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة، بيان قرب العذاب الذي أنذر به الكافرون، وبهذا يكون سياقها في سياق الإنذار المذكور في السّور السابقة وهذا هو وجه ذكر هذه السورة بعدها. بيان قرب العذاب الآيات [1- 44] قال الله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) ، فذكر سبحانه، أنهم يسألون تعجيل عذاب واقع بهم، توبيخا على سؤالهم ثم أمر النبي (ص) أن يصبر على استهزائهم بذلك السؤال، وذكر سبحانه أنهم يرون هذا العذاب بعيدا وأنه يراه قريبا، يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) ، إلى غير هذا مما ذكره من أحواله ثم ذكر أن الإنسان خلق هلوعا، فلا يقوى على ما أمره به من الصبر إلا قليل منهم، وهم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المصلّون الذين هم على صلاتهم دائمون، إلى غير هذا ممّا ذكره من صفاتهم، وقد ختمها تعالى بقوله: أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) . ثم وبّخ الكافرين على إقبالهم مسرعين نحو النبيّ (ص) يسألونه ذلك السؤال على سبيل الاستهزاء كأنّ كلّ واحد منهم، يطمع أن يدخل جنة نعيم، ولا يكون جزاؤه ذلك العذاب ثم ردعهم عن ذلك الطمع الكاذب، وذكر سبحانه أنه خلقهم من نطفة لا حياة فيها، فهو قادر على بعثهم وعذابهم، وعلى أن يبدّل خيرا منهم ثم أمر النبي (ص) أن يتركهم في لهوهم حتى يأتي ما يوعدون به، فيخرجوا من أجداثهم يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"المعارج"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المعارج» «1» أقول: هذه السورة كالتتمّة لسورة الحاقّة، في بقية وصف يوم القيامة والنار «2» . وقال ابن عباس: إنّها نزلت عقب سورة الحاقّة «3» وذلك أيضا من وجوه المناسبة في الوضع.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وذلك من أول السورة الى قوله تعالى: وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) . (3) . الإتقان: 1: 97.

المبحث الرابع مكنونات سورة"المعارج"

المبحث الرابع مكنونات سورة «المعارج» «1» 1- سَأَلَ سائِلٌ [الآية 1] . قال ابن عباس: هو النّضر بن الحارث. أخرجه ابن أبي حاتم وقيل: هو محمد (ص) . وقيل: نوح (ع) . حكاهما الكرماني.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"المعارج"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المعارج» «1» 1- وقال تعالى: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) . قوله تعالى: مُهْطِعِينَ (36) ، أي: مسرعين نحوك، مادّي أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك. 2- وقال تعالى: عِزِينَ (37) . وقوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) ، أي فرقا شتّى جمع عزة، وأصلها عزوة كأنّ كلّ فرقة، تعتزى إلى غير من تعتزي إليه الأخرى. أقول: وهذا الجمع ممّا ألحق بجمع المذكر السالم، ولهذه الألفاظ الملحقة بهذا الجمع كالسنين والثبين والمئين وغيرها دلالة تاريخية، وهي أنّ هذا الجمع كان عامّا لا يتصل بالعلم المذكر العاقل ولا صفته. 3- وقال تعالى: كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ. وقوله تعالى: يُوفِضُونَ (43) أي: يسرعون إلى الداعي، مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم. أقول: والفعل «أوفض» من الأفعال التي نجهلها في العربية المعاصرة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"المعارج"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المعارج» «1» قال تعالى: كَلَّا إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) بالنصب على البدل من الهاء «2» وخبر «إن» (نزّاعة) «3» وان شئت جعلت (لظى) رفعا على خبر (إنّ) ورفعت (نزّاعة) على الابتداء. وقال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) . ثم قال سبحانه: إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) فجعل (الإنسان) جميعا، ويدلّك على ذلك أنّ السّياق قد استثنى منه جميعا. وقال تعالى: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) كما تقول «ما لك قائما» وواحدة «العزين» العزة. مثل «ثبة» و «ثبين» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . في السبعة 650 نسبت الى عاصم وزاد في الجامع 18: 334 إلى ابن أبي عبلة وأبي حياة والزعفراني وابن مقسم واليزيدي في اختياره. [.....] (3) . في الطبري 29: 75 أنها إجماع قرّاء الأمصار وفي السبعة 651 إلى غير عاصم وإلى أبي بكر عن عاصم في رواية وفي الكشف 2: 335، والتيسير 214 إلى غير حفص وفي الجامع 18: 287 إلى أبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم في رواية أبي بكر والأعمش وأبي عمرو وحمزة والكسائي وفي البحر الى 8: 334 الجمهور.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"المعارج"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المعارج» «1» لم قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) ويفسّره ما بعده، والإنسان في حال خلقه ما كان موصوفا بهذه الصفات؟ قلنا: «هلوعا» حال مقدّرة. فالمعنى مقدرا فيه الهلع كما في قوله تعالى: مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ [الفتح: 27] وهم ليسوا محلّقين حال الدخول. فإن قيل: لم قال تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) ، ثم قال تعالى في موضع آخر من القرآن الكريم: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) [المؤمنون] فهل بينهما فرق؟ قلنا: المراد بالدوام المواظبة والملازمة أبدا. وقيل: المراد به سكونهم فيها بحيث لا يلتفتون يمينا ولا شمالا واختاره الزجّاج وقال: اشتقاقه من الدائم بمعنى الساكن، كما جاء في الحديث «أنه (ص) نهى عن البول في الماء الدائم» قلت: وقوله تعالى عَلى ينفي هذا المعنى فإنه لا يقال: هو على صلاته ساكن، بل يقال: هو في صلاته ساكن. والمراد بالمحافظة عليها أداؤها على أكمل وجوهها، جامعة لجملة سننها وآدابها، فالدوام يرجع إلى الصلاة نفسها والمحافظة على أحوالها.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"المعارج"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المعارج» «1» في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) استعارة. والمراد بدعائها من أدبر وتولّى، والله أعلم، أنّه لما استحقها بإدباره عن الحق، صارت كأنها تدعوه إليها، وتسوقه نحوها. وعلى ذلك قول ذي الرمّة «2» في صفة الثور: غدا بوهبين مجتازا لمرتعه بذي الفوارس تدعو أنفه الرّبب والرّبب جمع ربّة، وهي نبت من نبات الصيف. يقول لما وجد رائحة الرّبب، مضى نحوها، فكأنها دعته إلى أكلها. وقد يجوز أيضا، أن يكون المراد بذلك أنّها لا يفوتها ذاهب، ولا يعجزها هارب. فكأنها تدعو الهارب منها فيجيبها مدّا له بأسبابها، وردّا له إلى عذابها. وقال بعض المفسّرين: إنّه تخرج عنق من النار فتتناول الكافر حتّى تقحمه فيها، فكأنها بذلك الفعل داعية إلى دخولها. وقد يجوز أن يكون المراد أنّها تدعو من أدبر عن الحق. بمعنى أنّها تخوّفه، بفظاعة الخبر عنها، وتغليظ الوعيد بها، فكأنها تستعطفه الى الرشد، وتستصرفه عن الغيّ. وحكي عن المبرّد أنه قال: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هو أبو الحارث غيلان بن عاقبة. شاعر فحل اشتهر بالتشبيب وبكاء الأطلال، ذاهبا مذهب الجاهليين. توفي بأصبهان سنة 117 هـ.

أي تعذّبه. وحكي عن الخليل: أنّ أعرابيا قال لآخر: دعاك الله. أي عذّبك الله. وقال ثعلب: معنى دعاك الله. أي أماتك الله. فعلى هذا القول دخل الكلام في باب الحقيقة، ويخرج عن حيز الاستعارة.

سورة نوح 71

سورة نوح 71

المبحث الأول أهداف سورة"نوح"

المبحث الأول أهداف سورة «نوح» «1» سورة نوح سورة مكية، آياتها 28، نزلت بعد سورة النحل. فكرة السورة السورة قصة نبيّ من أولي العزم من الرسل، أرسله الله تعالى إلى قومه ليدعوهم إلى الإيمان، فقاوموا دعوته، وأنكروا رسالته، فلفت نوح (ع) نظرهم إلى التأمّل في خلق السماء والشمس والقمر، والأرض والنبات وسائر المخلوقات، ولكنّهم صمّوا آذانهم عن سماع الحق، وحجبوا عيونهم عن النظر في الأدلّة الواضحة والحجّة الدامغة، فاستحقّوا عقاب الله وأغرقوا بالطوفان في الدنيا، ولهم في الاخرة عذاب شديد. أهداف الرسالات السورة نموذج حيّ لمعاناة الرسل مع قومهم، وجهادهم في سبيل الدعوة، لقد مكث نوح (ع) مع قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما، وما آمن معه إلّا قليل ولقد كان عناد قومه سببا في هلاكهم. وكأن الله سبحانه أراد أن يحذّر أهل مكة من العناد، وأن يذكّرهم بمن أهلك من الكافرين قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) [الإسراء] . يعني لقد أهلك الله قوم نوح، وأهلك من بعده عددا كبيرا كعاد وثمود وفرعون وكان هلاكهم جزاء عادلا، وعقابا مناسبا، لقوم يعلم الله إصرارهم

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع آيات السورة

على الكفر، وبعدهم عن قبول الحق. لقد صبر الرسل، وصابروا، من أجل إبلاغ الدعوة إلى قومهم، وحملوا كلمة الله ناصعة نقية واضحة سليمة، وعرضوها أمام العيون والقلوب لتبصر وترى آثار قدرة الله وعظيم خلقه، وليكون إيمانها عن بيّنة ويقين، ولئلا يحتجّ إنسان يوم القيامة بأن الرسالة لم تبلغه قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] . ومن هؤلاء الرسل، خمسة كانوا أكثر معاناة مع قومهم، وهم سيدنا نوح، وسيدنا ابراهيم، وسيدنا موسى، وسيدنا عيسى، وسيدنا محمد عليهم الصلاة والسلام. وقد كان جهادهم مع قومهم، آية في تحمّل البلاء والصبر على الإيذاء والعناد، قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] . لقد صبر نوح (ع) دهرا طويلا على قومه، وألقي ابراهيم (ع) في النار، وأوذي موسى (ع) أبلغ الأذى فصبر، وحاول اليهود الإيقاع بالمسيح (ع) والإغراء بقتله فرفعه الله تعالى اليه، وكان خاتم الرسل محمد (ص) يتحمّل صنوف الأذى وألوان الاضطهاد في مكّة، ويتحمل نفاق المنافقين وكيد اليهود في المدينة. ولكنّ العاقبة كانت للمتقين. لقد أدّى الرسل واجبهم، وبلّغوا رسالتهم، ونجّاهم الله مع المؤمنين، ثم عاقب الجاحدين. وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) [الصافات] . مع آيات السورة [الآيات 1- 4] : أرسل الله نوحا (ع) ، ليدعو قومه إلى عبادة الله سبحانه وطاعته، وقد بلّغ نوح دعوة ربه إلى قومه، ولخّص دعوته في ثلاث كلمات: اعبدوا الله وحده واتقوه وآمنوا به عن يقين وأطيعوا رسولكم فيما يأمركم به، وينهاكم عنه. وبهذا الإيمان تستحقّون مغفرة الله لكم، والبركة في أعماركم، ولا شكّ أنّ للطاعات مدخلا في راحة البال واستقرار العيش، وهدوء النفس، وهذا بلا ريب، يطيل هناءة العمر، ويجعله مباركا حافلا بالأعمال النافعة.

[الآيات 5- 9] : تعبّر الآيات عن جهود نبيّ كريم، في دعوة قومه إلى الإيمان، فهو يؤدّي رسالته، وينهض بدعوة قومه ويناجي ربّه قائلا ما معناه: لقد دعوت قومي إلى عبادتك والإيمان بك في الليل والنهار، وانتهزت كلّ فرصة مناسبة، لدعوتهم وإرشادهم ولكنّهم لم يستجيبوا لدعوة الله، وقابلوها بالجحود والعناد، وأغلقوا في وجه الدعوة قلوبهم، وسدّوا منافذ العلم إلى نفوسهم، فجعلوا أصابعهم في آذانهم، ليمنعوها من السمع، وغطّوا عيونهم بثيابهم ليمنعوها من الإبصار واستمروا في عنادهم وكفرهم. وقد لوّن نوح (ع) في أساليب الدعوة، فدعاهم علنا في أماكن التجمّع فلم يستجيبوا، فدعا كل فرد على حدة، وحاول استمالة الأشخاص واقناعهم، فلم يلق قبولا. [الآيات 10- 12] : وقد دعاهم إلى التوبة والإنابة، وطلب المغفرة من الله فإذا صدقوا في توبتهم غمرهم الله بالنعم، وأنزل عليهم المطر، ورزقهم الأموال والذّريّة، والبساتين النضرة والمياه الجارية. [الآيات 13- 20] : لم لا تعظّمون الله وهو خالق الأوّلين والآخرين في أطوار وجودهم، وجميع ما في الكون يدلّ على الله؟ فالسماوات السبع المتطابقة بعضها فوق بعض، والشمس والقمر، وخلق الإنسان ونموّه كما ينمو النبات، ثم عودته إلى الأرض بعد الموت، والأرض الممهّدة، المهيّأة للانتفاع بما في باطنها من كنوز ومعادن، وما في ظاهرها من زراعة وصناعة وتجارة، هذه المخلوقات كلّها تدلّ على الإله الخالق. [الآيات 21- 25] : في هذا المقطع نسمع آلام نبيّ كريم، قدم لقومه مختلف الحجج والبراهين، ولكنّ قومه قابلوا دعوته بالتكذيب والعصيان، واتّبعوا الخاسرين الهالكين، والزعماء المضللين، وبيّتوا أمرهم بالكيد لنوح ودعوته، وتواصوا بالبقاء على كفرهم ومألوفهم وعبادة أصنامهم، وخصّوا بالذكر الأصنام الخمس الكبار وهي: ودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، وهي أصنام كان قوم نوح يعبدونها، ثم عبدتها العرب. وهنا ضاق نوح بقومه، وضلالهم الكثير، فدعا الله أن يزيدهم ضلالا جزاء

المعنى الإجمالي للسورة

عنادهم: لقد ارتكبوا كثيرا من الأخطاء، ولذلك أغرقهم الله بالطوفان، ثم أدخلوا في عذاب القبر، وعذاب النار، ولم يجدوا أحدا ينصرهم وينقذهم من عذاب الله. وهكذا يكون جزاء كلّ كافر معاند، أن يحلّ به بطش الله القويّ الغالب: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) [الفجر] . [الآيتان 26- 27] : وفي آخر السورة زفرات نبي مكلوم مكث ألف سنة، ثم قوبل بالجحود، فسأل ربّه أن يهلك جميع الكافرين، وألّا يترك منهم أحدا، وليس ذلك حبّا في الانتقام، ولكن رغبة في نظافة الأرض منهم، لأنّ بقاءهم كفّارا، يخشى منه أن يفتنوا المؤمنين، ويضلّوهم بالرغبة أو الرهبة ولا يخرج من أصلاب هؤلاء الكافرين إلّا فاجر كافر، فالإناء ينضح بما فيه. [الآية 28] : وفي آخر آية تبتّل نبي كريم بدعاء نديّ رضيّ، يطلب فيه مغفرة الله له ولوالديه، ولمن دخل في دعوته وآمن به، ولسائر المؤمنين والمؤمنات أمّا الظالمون فلا يستحقّون الهداية، التي أعرضوا عنها، بل يستحقون أن يزيدهم الله ضلالا إلى ضلالهم فمن أعرض عن الله سبحانه، سلب عنه تعالى الهدى والتوفيق، وتركه يتخبط في دياجير الظلام: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] . المعنى الإجمالي للسورة الهدف الرئيس للسورة، بيان دعوة نوح (ع) وحرصه على إيمان قومه، وقد حوت هذه الدعوة ما يأتي: (أ) طلب تركهم للذنوب، وأنهم إذا فعلوا ذلك، أكثر الله لهم المال والبنين. (ب) النظر في خلق السماوات والأرض، والأنهار والبحار. (ج) النظر في خلق الإنسان، وأنه سبحانه يخلق في الأرض كما يخلق النبات، وأنّ الأرض مسخّرة له، يتصرّف فيها، جلت قدرته، كما يشاء. وبيّنت السورة، كفر قوم نوح وعنادهم، وعقابهم في الدنيا والاخرة.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"نوح"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «نوح» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة نوح بعد سورة النحل، ونزلت سورة النحل بعد الإسراء وقبيل الهجرة فيكون نزول سورة نوح، في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) وتبلغ آياتها ثماني وعشرين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة: إنذار المشركين بما حصل لقوم نوح (ع) حينما عصوه. وبهذا تكون موافقة للسّور المذكورة قبلها في سياق الإنذار، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها. قصة نوح الآيات [1- 28] قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) ، فذكر تعالى أنه أرسل نوحا (ع) إلى قومه، لينذرهم قبل أن يعذّبهم على كفرهم وأن نوحا (ع) دعاهم إلى عبادة الله جل جلاله، ليغفر لهم ذنوبهم وكان كلّما دعاهم أصرّوا واستكبروا وأنه كان يكرر الدعوة، ويقيم لهم الأدلة على ألوهيّة الله

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعالي الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

سبحانه، إلى أن يئس نوح (ع) منهم ودعا ربه أن يهلكهم لأنه إن تركهم، يضلّوا عباده، ولا يلدوا إلا فاجرا كافرا. رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً (28) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"نوح"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «نوح» «1» أقول: أكثر ما ظهر في وجه اتصالها بما قبلها، بعد طول الفكر، أنه سبحانه لمّا قال في (سأل) : إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ [المعارج] . عقّبه بقصة قوم نوح (ع) المشتملة على إبادتهم عن آخرهم، بحيث لم يبق منهم ديّار، وبدّل خيرا منهم، فوقع الاستدلال لما ختم به تبارك. هذا مع تاخي مطلع السورتين في ذكر العذاب التي يوعد به الكافرين «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . العذاب في مطلع سأل من أول السورة: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) [المعارج] وفي سورة نوح: أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"نوح"

المبحث الرابع مكنونات سورة «نوح» «1» 1- اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [الآية 28] . قال سعيد بن جبير: يعني والده وجدّه. أخرجه أبن أبي حاتم. واسم أبيه: لمك بوزن ضرب. وجدّه متّوشلخ، بفتح الميم وتشديد المثناة الفوقية المضمومة، بعدها واو ساكنة، وفتح الشين المعجمة واللام، بعدها خاء معجمة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"نوح"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «نوح» «1» 1- قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) . وقرئ بالتخفيف أيضا، والكبار أكبر من الكبير، والكبّار أكبر من الكبار. كقولهم طوال وطوّال. أقول: ولا نعرف هذه الأبنية في العربية بالتخفيف والتثقيل.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"نوح"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «نوح» «1» قال تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) ، أي: لا تخافون لله عظمة. و «الرجاء» هاهنا خوف، و «الوقار» عظمة. وقال الشاعر «2» [من الطويل وهو الشاهد الثاني والسبعون بعد المائتين] : إذا لسعته النّحل «3» لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عواسل «4» وقال تعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) ، طورا علقة وطورا مضغة. وقال تعالى: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [الآية 16] وإنّما هو، والله أعلم، على كلام العرب، وإنما القمر في السماء الدنيا، فيما ذكر كما تقول «أتيت بني تميم» وإنما أتيت بعضهم «5» . وقال تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) . بجعل «النّبات» المصدر، والمصدر «الإنبات» لأن هذا يدل على المعنى. وقال تعالى: سُبُلًا فِجاجاً (20) . واحدها «الفجّ» وهو الطريق. وقال سبحانه: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ [الآية 24] ، لأن هذا حكاية من قول نوح (ع) دعاء عليهم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هو أبو ذؤيب الهذلي. ديوان الهذليين 1: 143 والصحاح واللسان ومختار الصحاح «رجا» . (3) . في الديوان: الدبر بدل النحل. (4) . البيت في معاني القرآن 1: 286 و 2: 265. والنّوب: النّحل. [.....] (5) . نقله في زاد المسير 8: 371، والجامع 18: 304.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"نوح"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «نوح» «1» إن قيل: لم قال تعالى: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الآية 4] فإن كان المراد به تأخيرهم عن الأجل المقدّر لهم في الأزل، فهو محال لقوله تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [المنافقون: 11] وقوله تعالى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ [الآية 4] . وإن كان المراد به تأخيرهم إلى مجيء الأجل المقدّر لهم في الأزل، فما فائدة تخصيصهم بهذا، وهم وغيرهم في ذلك سواء، على تقدير وجود الإيمان منهم، وعدم وجوده؟ قلنا: معناه ويؤخّركم عن العذاب، إلى منتهى آجالكم، على تقدير الإيمان، فلا يعذّبكم في الدنيا، كما عذّب غيركم من الأمم الكافرة فيها. الثاني: أنّه، سبحانه، قضى أنهم إن آمنوا عمّرهم ألف سنة، وإن لم يؤمنوا أهلكهم بالعذاب لتمام خمسمائة سنة، فقيل لهم: آمنوا يؤخركم إلى هذا الأجل. فإن قيل: لم أمرهم بالاستغفار، والاستغفار إنما يصح من المؤمن دون الكافر؟ قلنا: معناه: استغفروا ربّكم من الشرك، بالتوحيد. فإن قيل: لم قال تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) . والحيوان ضد النبات، فكيف ينطلق على الحيوان أنه نبات؟

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

قلنا. هو استعارة، للإنشاء والإخراج من الأرض، بواسطة آدم (ع) . فإن قيل: لم دعا نوح (ع) على قومه بقوله، كما ورد في التنزيل: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا، مع أنه أرسل ليهديهم ويرشدهم؟ قلنا: إنما دعا عليهم بذلك، بعد ما أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون. فإن قيل: لم قال نوح، كما ورد في التنزيل: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (27) وصفهم بالفجور والكفر في حال ولادتهم وهم أطفال وكيف علم أنهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا؟ قلنا: إنّهم لا يلدون إلا من يفجر ويكفر إذا بلغ، وإنما علم ذلك بإعلام الله تعالى أو وصفهم بما يؤولون إليه من الفجور والكفر، وعلم ذلك بإعلام الله إياه.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"نوح"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «نوح» «1» في قوله سبحانه: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) استعارة، لأنّ الوقار، هاهنا، وضع الحلم مجازا يقال: رجل وقور، بمعنى حليم. فأما حقيقة الوقار الذي هو الرزانة والثّقل، فلا يجوز أن يوصف بها القديم سبحانه، لأنها من صفات الأجسام، وإنما يجوز وصفه تعالى بالوقار، على معنى الحلم كما ذكرنا. والمعنى أنه يؤخّر عقاب المذنبين مع الاستحقاق، إمهالا للتوبة، وإنظارا للفيئة والرجعة. لأنّ الحليم في الشاهد، اسم لمن يترك الانتقام عن قدرة، ولا يسمى غير القادر إذا ترك الانتقام حليما، للعلّة الّتي ذكرناها. وقوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) هاهنا أي لا تخافون. فكأنه سبحانه قال: ما لكم لا تخافون الله حلما؟ وإنما أخّر عقوبتكم، إمهالا لكم، وإيجابا للحجة عليكم. وإلّا فعقابه من ورائكم، وانتقامه قريب منكم. وقد جاء في شعر العرب لفظ الرجاء، والمراد به الخوف. ولا يرد ذلك إلا وفي الكلام حرف نفي. لا يقال: فلان يرجو فلانا بمعنى يخافه، بل يقال: فلان لا يرجو فلانا. أي لا يخافه. وقال الهذلي أبو ذؤيب «2» :

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . أبو ذؤيب الهذلي: تقدمت الإشارة إليه والترجمة له في الحديث عن مجازات سورة الزمر.

إذا لسعته الدّبر «2» لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عواسل «3» أراد لم يخف لسعها. وقال الاخر «4» : لا ترتجي حين تلاقي الذائدا أخمسة لاقت معا أو واحدا أي لا تخاف. وقال بعض العلماء: إنما كنوا عن الخوف بالرجاء في هذه المواضع، لأن الراجي لا يستيقن، فمعه طرف من المخافة. وقال بعضهم: الوقار هاهنا بمعنى العظمة، وسعة المقدرة. وأصل الوقار: ثبوت ما به يكون الشيء عظيما، من الحلم والعلم، اللذين يؤمن معهما الخرق والجهل. ومن ذلك قول القائل: وقد وقر قول فلان في قلبي. أي ثبت واستقر، أو خدش وأثر. وفي قوله سبحانه: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) استعارة، لأن حقيقة الإنبات إنما تجري على ما تطلعه من نباتها، وتخرجه عند ازدراعها. ولمّا كان سبحانه، يخرج البريّة من مضايق الأحشاء، إلى مفاسح الهواء، ويدرجهم من الصّغر إلى الكبر، وينقلهم من الهيئات والصور كل ذلك على وجه الأرض، فقد قال: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) . وقال بعضهم، قد يجوز أن يكون المراد بذلك، خلق آدم عليه السلام من الطين، وهو أصل الخليقة. فإذا خلقه سبحانه من طين الأرض، كان نسله مخلوقين منها، لرجوعهم إلى الأصل المخلوق من طينها. فحسن أن يقول سبحانه: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) أي استخرجكم من طين الأرض. و «نباتا» هاهنا، مصدر وقع مخالفا لما يوجبه بناء فعله وكان الوجه أن يكون: إنباتا. لأنّه في الظاهر مصدر أنبتكم. وقد قيل إنّ هناك فعلا محذوفا جرى المصدر عليه، فكأنه

_ (2) . الدبر: جماعة النحل والواحدة دبرة. (3) . نقل ديوان الهذليين 1: 1431 معاني القرآن 1: 286 و 2: 265. (4) . لم ينسب في «أساس البلاغة» لقائله. وروي في الأساس هكذا: لا ترتجي حين تلاقي الذائدا ... أسبعة لاقت معا أم واحدا.

تعالى قال: والله أنبتكم من الأرض فنبتم نباتا. لأن أنبت يدل على نبت، من جهة أنه مضمّن به. وفي قوله سبحانه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً (20) استعارة. والمراد بالبساط هاهنا: المكان الواسع المستوي. مشبّه بالبساط، وهو النمط الذي يمدّ على الاستواء، فيجلس عليه. وقال الأصمعي «5» : وبنو تميم خاصة يقولون بساط، بفتح الباء. وقال الشاعر «6» : ودون يد الحجّاج من أن ينالني بساط لأيدي الناعجات «7» عريض وتصيير الأرض بساطا، كتصييرها فراشا ومهادا. وهذه الألفاظ الثلاثة ترجع إلى معنى واحد.

_ (5) . هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب، الراوية المشهور، وأحد علماء اللغة الأثبات. ونسب إلى جده «أصمع» وكان يتلقى الأخبار مشافهة من البوادي، ويتحف بها الخلفاء، فيكافأ عليها بأجزل الهبات. قال فيه الأخفش: ما رأينا أحدا أعلم بالشعر من الأصمعي. وقد انفرد برواية قصائد جمعها المستشرق الألمانى وليم أهلورت، وتوفي بالبصرة سنة 216. (6) . هو العديل بن الفرج، ولقبه العباب: والعباب اسم كلب له، فلقّب باسم كلبه. وكان هجا الحجاج بن يوسف، فطلبه، فهرب منه إلى قيصر ملك الروم، فقال أبياتا منها هذا البيت وأخباره في «الشعر والشعراء» ص 375، و «الأغاني» ج 20، و «الخزانة» ج 2. (7) . في «الشعر والشعراء «اليعملات» والناعجات هي النياق البيض. واليعملات: جمع يعملة، وهي الناقة المطبوعة على العمل.

سورة الجن 72

سورة الجنّ 72

المبحث الأول أهداف سورة"الجن"

المبحث الأول أهداف سورة «الجنّ» «1» سورة الجن سورة مكية، آياتها 28 آية، نزلت بعد سورة الأعراف. وهي سورة تصحّح كثيرا من المعلومات الخاطئة لأهل الجاهلية عن الجن، فقد كانوا يزعمون أن محمّدا (ص) ، يتلقّى من الجن ما يقوله لهم عنها، فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها، وبتكذيب دعواهم في استمداد محمّد (ص) من الجن شيئا. والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلّا حينما سمعوه من محمّد (ص) ، فهالهم وراعهم ومسّهم منه ما يدهش ويذهل، فانطلقوا يحدّثون عن هذا الحدث العظيم، الذي شغل السماء والأرض، والإنس والجن والملائكة والكواكب، وترك آثاره ونتائجه في الكون كلّه، وهي شهادة لها قيمتها في النفس البشريّة حتما. أوهام عن الجن كان العرب يبالغون في أهمّية الجن، ويعتقدون أنّ لهم سلطانا في الأرض، فكان الواحد منهم، إذا أمسى بواد أو قعر، لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض، فقال أعوذ بسيّد هذا الوادي من سفهاء قومه، ثم بات آمنا. كذلك كانوا يعتقدون أنّ الجنّ تعلم الغيب، وتخبر به الكهّان، فينبئون بما يتنبّأون وفيهم من عبد الجنّ، وجعل بينهم وبين الله نسبا وزعم أن له

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

الجن في القرآن

سبحانه وتعالى زوجة منهم، تلد له الملائكة. وهكذا نجد كثيرا من الأوهام والأساطير، تغمر قلوب الناس ومشاعرهم، وتصوّراتهم عن الجن في القديم، ولا تزال هذه الأوهام، تسود بعض البيئات إلى يومنا هذا. ونجد في الصف الاخر، منكرين لوجود الجنّ أصلا، يصفون أيّ حديث عن هذا الخلق المغيّب، بأنه حديث خرافة ... وبين الإغراق في الوهم، والإغراق في الإنكار، يقرّر الإسلام حقيقة الجن، ويصحّح التصوّرات العامة عنهم، ويحرّر القلوب من خوفها، وخضوعها لسلطانهم الموهوم. الجن في القرآن تحدث القرآن الكريم عن الجن في عدد من السور، وعالج الأخطاء الشائعة عن الجن، وأثبت الحقيقة المتعلقة بالجن، وقدّم للإنسان صورة واضحة دقيقة متحرّرة من الوهم والخرافة، ومن التعسّف في الإنكار الجامح فالجنّ عالم نؤمن به، وبخصائصه، كما وردت في القرآن الكريم ولا يظهرون للعين، ولا يراهم الإنسان بحاسّة البصر. والجنّ منهم الضّالّون المضلّون، ومنهم السذّج الأبرياء، الذين ينخدعون، ومنهم المستقيمون على الطريق القويم والمنهج السليم. وليس للجن معرفة بالغيب، وليس لهم قوة ولا حيلة مع قوة الله، وليس بينهم وبين الله صهر ولا نسب. وقد كان إبليس من الجن، ثم فسق عن أمر ربه، وتمحّض بالشرّ والفساد والإغراء. وقد خلق الجن من النار، كما خلق الإنسان من الطين. وقد سخّرت الجن لسليمان (ع) ، فمنهم من كان يبني له المساجد والمنازل والأبنية المختلفة، ومنهم من كان يغوص في البحر يستخرج له اللؤلؤ والياقوت والأحجار الكريمة، وسلّطه الله على المردة والخارجين على القانون، فكان يقيّدهم في السلاسل والأغلال، ويسخّرهم في الأعمال، ويرهقهم بألوان العذاب. وقد جعل الله سبحانه السيطرة على الجن منحة خاصة لسليمان (ع) ، فقد سأل ربه ملكا لا يتهيّأ لأحد من بعده،

استماع الجن للقرآن

فأعطاه الله ملك الريح والجن والشياطين والمردة: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) [ص] . «إن الكون من حولنا حافل بالأسرار، عامر بالأرواح، حاشد بالقوى، وهذه السورة من القرآن، كغيرها من السّور، تمنحنا جوانب من الحقائق في هذا الوجود، تعين على بناء تصور حقيقي صحيح للوجود، وما فيه من قوى وأرواح وحيوات تعجّ من حولنا، وتتفاعل مع حياتنا. وهذا التصوّر هو الذي يميّز المسلم، ويقف به وسطا بين الوهم والخرافة، وبين الادّعاء والتطاول، ومصدره هو القرآن والسنة، وإليهما يحاكم المسلم كلّ تصوّر آخر، وكلّ قول، وكلّ تفسير» «1» . استماع الجن للقرآن في كتب السنّة، ما يفيد أن الجن قد استمعت للقرآن عرضا دون قصد، فأسلمت وآمنت، وانطلقت تدعو قومها إلى الإسلام. وفي روايات أخرى، أن النبي (ص) انطلق متعمّدا ليبلّغ دعوته إلى الجن. وقد افتقده أصحابه ذات ليلة، فاشتدّ بهم القلق، وباتوا بشرّ ليلة بات بها قوم فلمّا أصبحوا جاءهم النبي (ص) من قبل حراء فقال: «أتاني داعي الجنّ فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن» . والروايتان السابقتان واردتان في الصحيح إحداهما عن ابن عبّاس، يقول: إنّ النبي (ص) لم يعرف بحضور النفر من الجن، والرواية الثانية عن ابن مسعود، تقول إنهم استدعوه (ص) ، ويوفّق البيهقي بين الروايتين، بأنهما حادثان لا حادث واحد. وفي رواية ثالثة لابن إسحاق: أنّ الجن استمعت إلى النبي (ص) ، ليلة عودته من الطائف قبل الهجرة. ولعلّ الجنّ قد استمعت للنبي (ص)

_ (1) . في ظلال القرآن 29: 151.

أسماء السورة

غير مرة، وكان في استماع الجن للنبي (ص) ، بمكّة قبل الهجرة، تطييبا لخاطره، وتصديقا لدعوته، وتحقيقا للحق بشأن الجن، وتصحيحا لمفاهيم الجاهلية عن الجن، وترشيدا للمسلمين ليكون إيمانهم عن بينة. وقد ساقت سورة الجنّ كثيرا من الحقائق عن الألوهيّة والعقيدة والوحدانية، وإخلاص العبادة لله سبحانه فهي سورة الجنّ، ولكنها توجيه وإرشاد وتعليم للخلق أجمعين. أسماء السورة نلاحظ أنّ السورة في القرآن، تسمّى بأغرب شيء فيها، أو أهمّ شيء فيها، فسورة البقرة اشتملت على قصة قتيل ضرب بقطعة من البقرة، فردّت إليه الحياة. وسورة آل عمران اشتملت على قصة مريم ابنة عمران، وسورة النساء اشتملت على ذكر أحكام النساء. وسورة المائدة اشتملت على قصة المائدة التي نزلت من السماء استجابة لدعاء عيسى (ع) . كما سمى الله سبحانه سور كتابه الكريم، بأسماء تبعث على النظر والاعتبار، وتوجب التفكير، فسمى بالأنعام وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت، وبما هو ألطف من ذلك كالنور كما سمى ببعض الأنبياء، كيوسف ويونس وهود عليهم السلام وببعض الأخلاق كالتوبة وببعض الكواكب العلوية كالشمس والقمر والنجم وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى وببعض المعادن كالحديد وببعض الأماكن كالبلد وببعض النبات كالتين وكل ذلك مما نراه. وهنا، سمّى هذه السورة بعالم لا نراه، وهو عالم الجن، وهو عالم لم يعرف في الإسلام إلّا من طريق الوحي، وليس للعقل دليل عليه فالمؤمن يؤمن بالغيب، ويؤمن بالملائكة وبالجن، على نحو ما ورد في القرآن. وسمّيت السورة سورة الجن، لأنّها تحدّثت عنهم، وبدأت بذكرهم، فقالت: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) . مع آيات السورة [الآيتان 1- 2] : تطالعنا السورة، بأنّ الجنّ فوجئت باستماع القرآن

الكريم، فقالوا لقومهم إنّا سمعنا كتابا بديعا يهدي إلى الحق، وإلى الطريق المستقيم، فصدّقنا به، ولن نعود إلى ما كنّا عليه من الإشراك بالله. [الآية 3] : ثم نزّهوا ربّهم عن الزوجة والولد، فقالوا: علا ملك ربنا وسلطانه، أن يكون ضعيفا ضعف خلقه، الذين تضطرّهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة، أو ملامسة يكون منها الولد وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله، جاءته من صهر مع الجن فجاءت الجنّ، تكذّب هذه الخرافة الأسطورية، في تسبيح لله وتنزيه. [الآية 4] : وأنّ الجهّال من الجن، كانوا يقولون قولا شططا بعيدا عن الصواب، بنسبة الولد والصاحبة إليه تعالى. [الآية 5] : وأنّهم، كانوا يستعظمون أن يجرأ أحد على الكذب على الله فلمّا قال لهم سفهاؤهم: إن لله صاحبة وولدا، صدّقوهم، لأنهم لم يتصوّروا أنهم يكذبون على الله. [الآية 6] : وأنّ رجالا من الإنس، كانوا يستعيذون في القفر برجال من الجن، فزادوا الجنّ بذلك طغيانا وغيّا وأنّهم لما استعاذوا بالجن خوفا منهم، ولم يستعيذوا بالله، استذّلوهم واجترءوا عليهم. [الآية 7] : ظنّت الطائفة الظالمة من الجن، أنّ الله لن يبعث رسولا إلى خلقه، يدعوهم إلى توحيده، والإيمان برسله، واليوم الاخر. أو ظنّوا أن لن يبعث الله أحدا بعد الموت، وهذا الظنّ مخالف للاعتقاد في حكمة الله وكماله. وهؤلاء النفر من الجنّ المؤمن، يصحّحون لقومهم ظنّهم والقرآن، في حكايته عنهم، يصحّح للمشركين أوهامهم. [الآيتان 8- 9] : كان الجن يحاولون الاتصال بالملإ الأعلى، واستراق شيء ممّا يدور فيه بين الملائكة، عن شؤون الخلائق في الأرض، ثم يوحون بما التقطوه لأوليائهم من الكهان والعرّافين، الذين يستغلّون الكثير من الحق، فيمزجونه بالكثير من الباطل، ويروّجونه بين جماهير الناس. وبعد رسالة النبي محمد (ص)

حاول الجن استراق السمع من السماء، فلم يتمكّنوا، لأنّ الحراسة شدّدت على السماء، ومن حاول استراق السمع ومعرفة الغيب، رجم بالشهب فقتلته، أو خبلته. [الآية 10] : إن الجن لا تعلم شيئا عن الغيب المقدّر للبشر، ولا يدرون الحكمة من حراسة السماء بالشهب، ولا ماذا قدّر الله لعباده في الأرض، أعذابا أراد الله أن ينزله بهم، أم أراد بهم ربهم الهدى، بأن يبعث منهم رسولا مرشدا، يهديهم إلى الحق، والى طريق مستقيم. [الآية 11] : من الجن الصالح والطالح، ومنهم المسلم والجائر، فهم مثلهم مثل الإنسان في طبيعته، لديهم استعداد للخير والشرّ، إلّا من تمحّض منهم للشر، وهو إبليس وقبيله. [الآية 12] : إن الله قادر علينا حيث كنا، فلا نفوته هربا فهم يقررون ضعف المخلوق أمام الخالق، ويشعرون بسلطان الله القاهر الغالب. [الآية 13] : لمّا سمعنا القرآن صدّقنا به، وأقررنا بأنه من عند الله. ومن يصدق بالله وبما أنزله على رسله، فلا يخاف نقصا من حسناته، ولا هوانا ولا جورا لأنّ المؤمن في حماية الله وعونه ورعايته، وسينال جزاءه وافرا كاملا. [الآية 14] : من الجن فريق مؤمن، أطاع الله واستقام على الهدى، وفريق قاسط جائر مائل عن الصواب. وقد وصل الفريق المؤمن إلى الصواب، حينما اختار الإسلام، وحرص على الرشد والاهتداء. [الآية 15] : أمّا الجائرون عن سنن الإسلام، فشأنهم أن يكونوا حطبا لجهنّم، تتلظّى بهم وتزداد اشتعالا، كما تتلظّى النار بالحطب. [الآية 16] : يلتفت القرآن في الخطاب، وينتقل من الحديث على لسان الجن، إلى مخاطبة الرسول (ص) والخلق أجمعين فيقول ما معناه: لو استقام الإنس والجن على ملّة الإسلام، لوسّعنا عليهم أرزاقهم، ولبسطنا لهم خيرات الحياة. [الآية 17] : وهذه النعم للاختبار والابتلاء، فمن شكر النعمة وأحسن

التصرّف فيها استحق بقاءها ومن أعرض عن منهج الله، دخل في العذاب الشاقّ الذي يعلوه، ويغلبه ولا يطيق له حملا. [الآية 18] : إنّ السجود، أو مواضع السجود، وهي المساجد، لا تكون إلا لله فهناك يكون التوحيد الخالص، ويتوارى كلّ ظلّ لأيّ كائن، ولكل قيمة، ولكل اعتبار وينفرد الجو للعبودية الخالصة لله. [الآية 19] : لمّا قام محمد (ص) يعبد الله، كاد الجن يكونون جماعات بعضها فوق بعض، تعجّبا مما شاهدوا من عبادته، وسمعوا من قراءته، واقتداء أصحابه، قياما وركوعا وسجودا. وأخذوا ودهشوا من جلال ما سمعوا، وروعة ما شاهدوا وهو دليل على انشغال السماء والأرض والملائكة والجنّ بهذا الوحي، وعلى الجد الذي يتضمّنه: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) [الطارق] . [الآية 20] : قل يا محمّد للناس: إنما أعبد الله وحده، ولا أشرك بعبادته صنما، ولا وثنا، ولا مخلوقا. [الآية 21] : قل إني لا أملك لكم نفعا ولا ضرّا فالله وحده هو الذي يملك الضرّ، ويملك الخير. [الآيتان 22- 23] : إنّي لا أجد ملجأ أو حماية من دون الله، إلّا أن أبلّغ هذا الأمر، وأؤدّي هذه الأمانة فهذا الأمر ليس أمري، وليس لي فيه إلّا التبليغ، ولا مفرّ لي من هذا التبليغ والرسالة ليست تطوّعا، وإنّما هي تكليف صارم جازم، لا مفرّ من أدائه، فالله من ورائه يقول سبحانه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة: 67] . ومن يكذّب برسالات الله، فإن له نارا يصلاها، خالدا فيها إلى غير نهاية. [الآية 24] : وإذا كان المشركون، يركنون إلى القوة والعدد، ويقيسون قوّتهم بقوة محمد (ص) والمؤمنين القلائل الذين معه فسيعلمون حينما يرون ما يوعدون: أيّ الفريقين هو الضعيف المخذول، والقليل المهزول. [الآية 25] : ويتجرّد الرسول (ص) وينفض يده من أمر الغيب، فالعذاب

المقصد الإجمالي للسورة

الذي يتوعّد به الكافرين ليس له فيه يد، ولا يعلم له موعدا، ولا يدري: أقريب هو أم بعيد، يجعل الله له أمدا ممتدّا، سواء عذاب الدنيا أو عذاب الاخرة، فكلّه غيب في علم الله. [الآية 26] : والله سبحانه هو المختصّ بالغيب، دون العالمين. [الآية 27] : والرسل الذين يرتضيهم الله لتبليغ دعوته، يطلعهم على جانب من غيبه، هو هذا الوحي: موضوعه وطريقته والملائكة الذين يحملونه، ومصدره، وحفظه في اللوح المحفوظ ... إلى آخر ما يتعلّق بموضوع رسالتهم، ممّا كان في ضمير الغيب، لا يعلمه أحد منهم. وفي الوقت عينه، يحيط هؤلاء الرسل الكرام، بالأرصاد والحراس من الحفظة، للحفظ وللرقابة، يحمونه من وسوسة النفس وتمنّياتها ومن الضعف البشري في أمر الرسالة، ومن النسيان أو الانحراف، ومن سائر ما يعترض البشر من النقص والضعف. والخلاصة: أنّه يدخل حفظة من الملائكة، يحفظون قوى الرسول الظاهرة والباطنة، من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم. [الآية 28] : وهذه الحراسة الشديدة ليظهر الله للناس، أجمعين، أن الملائكة قد أبلغوا رسالات ربهم، غير مشوبة بتخليط من الجن أو من الجنون. وهو، سبحانه، محيط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط، وهو، سبحانه، قد أحصى كل شيء عددا، فلا تقتصر إحاطته على ما لدى الرسل، بل يحيط بكل شيء إحصاء وعدّا، وهو أدق أنواع الإحاطة والعلم. وبهذا الإيقاع الهائل الرهيب، تختم السورة التي بدئت بروعة الجن من سماع القرآن، وختمت بإحاطة الله الشاملة لمن يؤدون رسالته، وحمايته سبحانه لمن يبلغون دعوته وقد وسع علمه تعالى السماوات والأرض، وكل ما في الوجود. المقصد الإجمالي للسورة اشتملت سورة الجن على مقصدين: 1- حكاية أقوال صدرت عن الجن حينما سمعوا القرآن، كوصفهم له بأنه كتاب يهدي إلى الرشد، وأن الله

سبحانه تنزّه عن الصاحبة والولد، وأنهم ما كانوا يظنون أنّ أحدا يكذب على الله، وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون في القفر برجال من الجن، وأن الجن طلبوا خبر العالم العلوي فمنعوا، وأنهم لا يدرون ماذا يحل بالأرض من هذا المنع، وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجار، ومنهم مسلمون وجائرون عادلون عن الحق. 2- ما أمر النبي (ص) بتبليغه إلى الخلق، ككونه لا يشرك بربه أحدا، وأنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا، وأنّه لا يمنعه أحد من الله إن عصاه، وأنه (ص) لا يدري متى يكون وقت تعذيبهم، فالعلم لله وحده.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الجن"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الجن» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الجنّ بعد سورة الأعراف، وكان نزولها في رجوع النبي (ص) من الطائف وكان قد سافر إليها، ليدعو أهلها في السنة العاشرة من البعثة، فيكون نزول سورة الجن، فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) وتبلغ آياتها ثماني وعشرين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة: ذكر قصة إيمان الجن، لما فيها من العظة والإنذار للمشركين وكذلك كان الغرض من ذكر قصة نوح (ع) في السورة السابقة، وهذا هو وجه المناسبة في ذكر هذه السورة بعدها. قصة إيمان بعض الجن الآيات [1- 28] قال الله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) ، فذكر قصة إيمان بعض الجن في خمس عشرة آية منها ثم ذكر سبحانه أنه لو استقام المشركون على طريقة الإيمان، كما استقام من آمن من الجن لأسقاهم ماء غدقا وأن من يكفر به يسلكه عذابا صعدا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وأن النبي (ص) ، لمّا قام يدعوه تظاهروا عليه، وقد أمره أن يخبرهم بأنه إنما يدعو إلى ربّه ويقوم بما يجب له عليه، وهو لا يملك شيئا من كفرهم أو إيمانهم وبأنه لن يجيره منه، إلّا أن يبلّغهم ما أرسله به إليهم ثم ذكر أن من يعصيه سبحانه ويعصي رسوله، يخلّده في نار جهنم فإذا رأوا ما يوعدون منها، يعلمون أنهم أضعف ناصرا وأقل عددا. ثم أمره أن يخبرهم، بأنه لا يدري متى يكون ما يوعدون به من ذلك، لأنه من علم الغيب الذي اختص به الله سبحانه، ولا يطلع عليه الا من يرتضيه من رسله، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الجن"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الجن» «1» أقول: قد فكرت مدة في وجه اتصالها بما قبلها، فلم يظهر لي سوى أنه قال تعالى في سورة نوح: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) . وقال في هذه السورة: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) . وهذا وجه بيّن في الارتباط «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. [.....] (2) . ومن المناسبة بين السورتين: أنه تعالى ذكر في نوح: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً (21) ومضى في بيان كفرهم وضلالهم، حتّى دعا عليهم نوح: ثم بيّن في أوّل الجن: أنهم كالإنس في الإيمان والكفر، وأن لكفّار الجن اتصالا بكفّار الإنس، فقال تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) . وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) . وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ [الآية 14] . فكانت هذه السورة لبيان الصلة بين الجن والإنس، وبيان المقارنة بينهما.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الجن"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الجن» «1» 1- سَفِيهُنا [الآية 4] . قال مجاهد: هو إبليس. أخرجه ابن أبي حاتم «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . والطبري في «تفسيره» 29: 67.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الجن"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الجن» «1» 1- وقال تعالى: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) . أي: ذوي مذاهب مختلفة، والقدد جمع قدّة من القدّ، كالقطعة من «قطع» . أقول: والوصف ب قِدَداً (11) ، أريد به البيان والتوكيد. 2- وقال تعالى: وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) . أقول: الهرب معروف، وهو مصدر هرب يهرب. غير أن العربية المعاصرة عرفت «الهروب» ، الذي لم يؤثر في نص قديم. 3- وقال تعالى: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) . أقول: وقوله تعالى يَسْلُكْهُ عَذاباً أي: يدخله، وسلكه وأسلكه. وأصل الفعل يتعدى إلى مفعول واحد، فلمّا تضمّن معنى «يدخل» تجاوزه إلى المفعول الثاني. وأصل الفعل: من قولنا سلك الخيط في الإبرة. 4- وقال تعالى: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) . والقاسطون هم الكافرون الجائرون عن طريق الحق. والقسط هو العدل، والفعل أقسط بمعنى عدل، وقسط بمعنى جار وظلم. وهذا من غرائب الأفعال في الدلالة بين المجرّد والمزيد.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الجن"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الجن» «1» قال تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ [الآية 1] . فتحت ألف (أنه) لاعتبار الاسميّة. وقال تعالى: وَشُهُباً [الآية 8] وواحدها: الشّهاب.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الجن"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الجن» «1» إن قيل: لم قال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) ولم يقل سبحانه رسول الله أو نبي الله، والمراد به النبي محمّد (ص) ؟ قلنا: لأنه (ص) ، لم يكن في ذلك المقام مرسلا إليهم، بل اتفق مرورهم به وجوازهم عليه فلو قال تعالى رسول الله، أو نبي الله، لأوهم ذلك قصد أداء الرسالة إليهم. فإن قيل: لم قال تعالى: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) مع أن الأمد اسم للغاية، والغاية تكون زمانا قريبا وزمانا بعيدا، ويؤيده قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) [آل عمران] ؟ قلنا: أراد بالقريب الحال، وبالمجعول له الأمد المؤجّل، سواء أكان الأجل قريبا أم بعيدا.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الجن"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الجن» «1» في قوله سبحانه: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) استعارة. والمراد بذلك، والله أعلم، كنا ضروبا مختلفة، وأجناسا مفترقة. والطرائق: جمع طريقة. وهي، في هذا الموضع، المذهب والنحلة. والقدد: جمع قدّة، وهي القطعة من الشيء المقدود طولا، مثل فلذة وفلذ، وقربة وقرب. وقد غلب على ما كان من القطع طولا لفظ القدّ، وعلى ما كان من القطع عرضا لفظ القطّ. فكأنه سبحانه شبّه اختلافهم في الأحوال، وافتراقهم في الآراء بالسّيور المقدودة، التي تتفرّق عن أصلها، وتتشعّب بعد ائتلافها. وفي قوله سبحانه: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) استعارة. والمراد أنّ نار جهنّم، ونعوذ بالله منها، يستدام وقودها بهم، كما يستدام وقود النار بالحطب، لأنّ كلّ نار لا بدّ لها من حشاش يحشّها، ووقود يمدّها. وفي قوله سبحانه: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) استعارة. واللّبد هاهنا، كناية عن الجماعات المتكاثرة، التي تظاهرت من الكفّار على النبي (ص) ، أي اجتمعوا عليه متألّبين، وركبوه مترادفين. فكانوا كلبد الشّعر، وهي طرائقه وقطعه التي يركب بعضها بعضا. وواحدتها لبدة. ومنه قيل: لبدة الأسد، وهي الشعر المتراكب على مناكبه. وذلك أبلغ ما شبّهت به

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

الجموع المتعاظلة، والأحزاب المتآلفة. وقال بعض أهل التأويل: المراد بذلك أن النبي (ص) ، لمّا صلّى الصبح ببطن نخلة منصرفا من حنين، وقد حضره الوفد من الجن، وخبرهم مشهور، كادوا يركبون منكبه، ويطئون أثوابه، لمّا سمعوا قراءته، استحسانا لها، وارتياحا إليها، وتعجّبا منها. روي عن ابن عباس في هذا المعنى، وهو أغرب الأقوال، أنّ هذا الكلام من صلة كلام الجن لقومهم، لما رجعوا إليهم فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً كما ورد في التنزيل وذلك أن النبي (ص) ، لما قام ببطن نخلة يصلي بأصحابه، عجب الجن الحاضرون من طواعيتهم له، في الركوع والسجود والقيام والقعود فلما رجعوا إلى قومهم، قالوا في جملة ما قصّوه عليهم: وأنّه لما قام عبد الله يدعوه، أي يصلي له، كادوا يكونون عليه لبدا. أي كاد أصحابه يركبونه تزاحما عليه، وتدانيا إليه، واحتذاء لمثاله، واستماعا لمقاله.

سورة المزمل 73

سورة المزّمّل 73

المبحث الأول أهداف سورة"المزمل"

المبحث الأول أهداف سورة «المزّمّل» «1» سورة المزّمّل سورة مكية، آياتها 20 آية، نزلت بعد سورة القلم. إنها تحمل النداء الإلهيّ، للنبيّ الكريم، بقيام الليل، وقد جعله الله فريضة في حقّه، نافلة في حق أمته، قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) [الإسراء] . وفي كتب السنّة، ما يفيد أن السورة من أوائل ما نزل من القرآن الكريم فقد كان (ص) يعيش بين قومه في الجاهلية، ثم حبّب الله اليه الخلوة، ليتأمّل في ملكوت السماوات والأرض، وليعدّ الله هذه النفس الطيّبة لتحمّل أعباء الرسالة. ثم فجأه الوحي وهو في غار حراء، قال له جبريل: اقرأ، قال النبي (ص) ما أنا بقارئ، ثلاث مرات، فقال جبريل، كما ورد في التنزيل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق] . وقد عاد النبي (ص) إلى خديجة رضي الله عنها وأخبرها الخبر، فقالت له: «أبشر يا ابن عمّ واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة» . ثم فتر الوحي مدة عن النبي (ص) ، إلى أن كان بالجبل مرة أخرى، فنظر فإذا جبريل، فأدركته منه رجفة، حتى جثا وهوى إلى الأرض وانطلق إلى

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع آيات السورة

أهله وهو يرتجف ويقول: «زمّلوني، دثّروني» ففعلوا، وظل يرتجف ممّا به من الرّوع، وإذا جبريل يناديه، كما ورد في التنزيل: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) . وسورة «المزّمّل» تعرض صفحة من تاريخ الدعوة الإسلامية. إنّها تنادي النبيّ الكريم، وتأمره بقيام الليل، والصلاة وترتيل القرآن، والذكر والخاشع المتبتّل، والاتكال على الله وحده، والصبر على الأذى، والهجر الجميل للمكذّبين، والتخلية بينهم وبين الجبّار القهّار. وتنتهي السورة بلمسة الرفق والرحمة، والتخفيف والتيسير، والتوجيه للطاعات والقربات، والتلويح برحمة الله ومغفرته: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) . والسورة 2 مثّل صفحة من جهاد النبي الكريم، وآله وصحبه الأبرار في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه، وحشد جميع الطاقات من أجل هذه الدعوة. فقد قام النبي (ص) في مكة والمدينة، داعيا إلى الله صابرا محتسبا، مهاجرا، مجاهدا، مربّيا، ناشرا لدعوة الله بكل ما يملك، منذ خاطبه تعالى بالقرآن: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) . وكان قيام الليل هو الزاد الروحيّ، والتعبئة الإلهية لهذا القلب الكريم، حتى يصدع بالدّعوة، ويتحمّل في سبيلها كل بلاء، وليصبر ويصابر، وليحتسب كل جهد في سبيل الله: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا (10) . مع آيات السورة [الآيات 1- 4] : أمر الله تعالى رسوله الأكرم أن يقوم، من الليل، ثلثه أو نصفه أو ثلثيه فهو مخيّر في ذلك، وأن يقرأ القرآن الكريم على مهل وتؤدة، مع حضور القلب، لتدبّر معانيه، وفهم مقاصده. [الآية 5] : والقرآن الكريم يسّره الله تعالى للقراءة، ولكنه ثقيل في ميزان الحق، ثقيل بأثره في القلوب، ثقيل بقيمته الراجحة، ومعانيه الراقية وما فيه من تكاليف وأعباء. [الآية 6] : إنّ قيام الليل هو أكبر موافقة بين القلب واللسان، وأعدل قولا. [الآية 7] : وفي النهار متّسع لشئوون المعاش، ولك فيه تصرف في مهام أمورك، واشتغال بمشاغلك.

[الآيتان 8- 9] : واتّجه إلى الله بالعبادة وحضور القلب، واذكره، وتضرّع إليه، في إنابة وطاعة وإخلاص سبحانه، ربّ الكون كلّه والتوكّل عليه هو التوكل الواجب في هذا الوجود. [الآية 10] : واصبر على ما يقولون في حقّك وحقّ ربك، واهجرهم هجرا جميلا، بأن تجانبهم وتغضي عن زلّاتهم ولا تعاتبهم. [الآية 11] : ثم توعّد المشركين وتهدّدهم، وقال لنبيه: اترك عقابهم لي وحدي، فأنا كفيل بهم، هؤلاء الذين تنعّموا في نعمائي، أمهلهم وقتا قليلا، وسترى ما يحلّ بهم. [الآية 12] : إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا أي قيودا ثقيلة توضع في أرجلهم، كلّما أرادوا أن يرتفعوا جذبتهم إلى أسفل، ثم هناك الجحيم. [الآية 13] : والطعام ذو الغصّة، الذي يمزّق الحلوق والعذاب الأليم، جزاء مناسب لمن كفر بنعمة الله. [الآية 14] : ويمتد الهول في يوم القيامة إلى الأرض، فتضطرب وتهتزّ وإلى الجبال فتتمزّق أجزاؤها، وتصير كالصوف المنفوش، أو كومة الرمل المهيلة، بعد أن كانت حجارة صمّاء متماسكة. [الآيتان 15- 16] : ويلتفت القرآن الكريم إلى أهل مكة فيخاطبهم، ويهزّ قلوبهم هزّا، ويخلعها خلعا بعد مشهد الأرض والجبال، وهي ترتجف وتنهار، فيحذّرهم ممّا أصاب فرعون الجبّار، وقد أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ومضمون القول: لقد أرسلنا إلى فرعون رسولا، فعصاه، فأخذناه أخذا وبيلا وأرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم، فاحذروا أن تعصوه، فيصيبكم مثل ما أصاب فرعون. [الآيتان 17- 18] : وهبوا أنكم لا تؤخذون في الدنيا، كما أخذ فرعون فكيف تتّقون عذاب يوم القيامة وهو هول يشيّب الولدان، وتنشق السماء من شدّته وكان وعد الله ثابتا مؤكّدا لا خلف فيه، وهو سبحانه فعّال لما يريد. [الآية 19] : وأمام هول الاخرة يقول لهم ما معناه: إن هذه الآيات تذكرة وعبرة، فمن شاء اعتبر بها، واتّخذ طريقا إلى الله وهو آمن سالم، قبل مجيء هذا الهول العصيب.

خلاصة أحكام السورة

وفي الآية الأخيرة من السورة، نجد لمسة التخفيف النديّة، ودعوة التيسير الإلهي فقد لبّى النبيّ (ص) الدعوة إلى قيام الليل، ولبّى المسلمون الدعوة، وتجافت جنوبهم عن المضاجع، وقاموا الليل حتّى تورّمت أقدامهم من طول القيام وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّ الله، سبحانه، يعلم أنّ الرسول (ص) يقوم الليل وأنّه سبحانه يرى تقلّبه (ص) في الساجدين وأنّه سبحانه يعلم أنكم لن تحصوا ساعات الليل إحصاء تاما، فإذا زدتم على المفروض ثقل ذلك عليكم وكلفتم ما ليس بفرض وإن نقصتم شقّ هذا عليكم، فتاب عليكم ورجع بكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر وطلب إليكم أن تصلّوا ما تيسّر من الليل، على قدر طاقتكم. وإن لهذا التخفيف حكمة أخرى، وهي أنه سبحانه علم أن سيكون منكم مرضى، وآخرون يسيحون في الأرض، يطلبون من فضل الله بالتجارة أو العلم، وآخرون يقاتلون في سبيل الله، فقد علم الله تعالى أن سيأذن لكم في الانتصار ممّن ظلمكم بالقتال، فصلّوا ما تيسّر لكم من صلاة الليل، بدون تقيّد بقدر محدّد، وأقيموا الصلاة المفروضة، وآتوا الزكاة الواجبة، وتصدّقوا بعد ذلك قرضا لله، يبق لكم خيره، ويردّه الله إليكم أضعافا مضاعفة. وما تقدّموا لأنفسكم من صدقة، أو عمل صالح في الدنيا، تجدوا ثوابه عند الله يوم القيامة، خيرا ممّا أوتيتم في دار الدنيا، وأعظم منه أجرا واتّجهوا إلى الله مستغفرين، إن الله غفور رحيم. إنّها لمسة الرحمة والتخفيف، بعد عام من الدعوة إلى القيام وقد خفّف الله سبحانه عن المسلمين فجعل قيام الليل لهم تطوّعا لا فريضة. أمّا رسول الله (ص) فقد مضى على نهجه مع ربّه، لا يقلّ قيامه عن ثلث الليل، يناجي ربّه ويستمدّ منه العون والتوفيق، في أداء رسالته. وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) [هود] . خلاصة أحكام السورة أمر الله عز وجل رسوله (ص) بما يأتي: 1- قيام ثلث الليل أو نصفه أو ثلثيه.

2- قراءة القرآن بتؤدة وتمهّل. 3- ذكر ربه ليلا ونهارا، بالتحميد والتسبيح والصلاة. 4- التوكّل على الله سبحانه، والاعتماد عليه. 5- الصبر على ما يقول الكفّار فيه، من أنّه ساحر أو شاعر وأن يهجرهم هجرا جميلا بمجانبتهم ومداراتهم وأن يكل أمرهم إلى ربّهم فهو الذي يكافئهم، وسيرى عاقبة أمرهم. 6- التخفيف من صلاة الليل، بعد أن شقّ ذلك عليهم لأعذار كثيرة والاكتفاء بما تيسّر من صلاة الليل ففي الصلاة المفروضة غنية للأمّة، مع إيتاء الزكاة ودوام الاستغفار.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"المزمل"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المزّمّل» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة المزمّل بعد سورة القلم، وكان نزول سورة القلم فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة المزمّل في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) وتبلغ آياتها عشرين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة تهيئة النبي (ص) للدعوة، وقد اقتضى هذا أمره بالصبر عليهم وإنذاره لهم. وقد ناسبت، بهذا الإنذار، سياق السورة السابقة في إنذارها، ولهذا ذكرت بعدها. تهيئة النبي (ص) للدعوة الآيات [1- 20] قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) فأمره بقيام الليل، وترتيل القرآن ليستعين بهذا على ما سيلقي إليه من القول الثقيل، والتكليف الشاق وينشئ نفسا أشدّ موافقة لدعوته وأقوم قيلا ثم أمره سبحانه أن يداوم على ذكره، ويصبر على ما يقولون في حقه، وأن يتركه، ومن أبطرتهم النعمة منهم، فإنّه سيمهلهم ثمّ يذيقهم من عذابه أنكالا وجحيما وسيهلكهم،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

كما أهلك فرعون حينما عصى رسوله، فأخذه أخذا وبيلا وهذه عظة لهم، ليدركوا أنفسهم قبل أن يحيق العذاب بهم ثم خفّف عليه وعلى أتباعه ما فرضه من قيام معظم الليل، ومداومة ترتيل القرآن، فكلّفهم من هذا بما يطيقون، ووعدهم عليه عظيم الأجر فقال سبحانه: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"المزمل"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المزّمّل» «1» أقول: لا يخفى وجه اتّصال أوّلها: قُمِ اللَّيْلَ [الآية 2] . بقوله تعالى في آخر تلك: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19] . وبقوله سبحانه: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الجن: 18] «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . من المناسبة أنه تعالى لمّا قال في نهاية الجن: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن] . افتتح المزمّل بذكر بداية إرسال النبي (ص) ، وما كلّف به من شعائر العبودية والعبادة والدعوة. وذلك لأنّ النبيّ (ص) بعث بين يدي الساعة، كما جاء في السنّة وقد قال تعالى في الجن: إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ [الآية 25] . فكأنه قال: هذه المزمّل علم من أعلامها، فهو الذي اصطفاه سبحانه، ليظهره على غيبه، وأنه بين يدي الساعة.

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"المزمل"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «المزّمّل» «1» 1- وقال تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) . وقوله تعالى: ناشِئَةَ اللَّيْلِ هي النفس، التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة، أي: تنهض وترتفع. أقول: ودلالة ناشِئَةَ اللَّيْلِ على النفس، من باب الصّفة التي حلّت محل الموصوف، فصارت نفسه. 2- وقال تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7) ، أي: تصرّفا وتقلّبا في مهمّاتك وشواغلك، ولا تفرغ إلّا بالليل، فعليك بمناجاة الله سبحانه، التي تقتضي فراغ البال وانتفاء الشواغل. 3- وقال تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) . أقول: كان ينبغي، لو كان الكلام في غير القرآن، أن يكون المصدر «تبتّلا» ، ولكن عدل عنه إلى غيره، بسبب من مراعاة تناسب الفواصل.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"المزمل"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «المزّمّل» «1» قال تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) والأصل: المتزمّل، ولكن أدغمت التاء في الزاي والْمُدَّثِّرُ مثلها. وقوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) فقال السائل عن هذا: قد قال تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) فلم قال، سبحانه: نِصْفَهُ؟ إنّما المعنى «أو نصفه أو زد عليه» لأن ما يكون في معنى تكلم به العرب بغير: «أو» ، تقول: «أعطه درهما درهمين ثلاثة» تريد: «أو درهمين أو ثلاثة» «2» . وقال تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) ومصدر تبتّل «التبتّل» كما قال سبحانه أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) [نوح] ، وقال الشاعر [من الوافر وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد المائتين] : وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبّعه اتّباعا وقال [من الرجز وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد المائتين] : يجري عليها أيّما إجراء وذلك أنّها إنّما جرت لأنّها أجريت. وقال تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ [الآية 9]

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في إعراب القرآن المنسوب للزجّاج 2: 705 والجامع 19: 35. [.....]

بالرفع على الابتداء «1» والجرّ على البدل «2» . وقال تعالى: مَهِيلًا (14) تقول: «هلته» ف «هو مهيل» . وقال تعالى: كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) بجعل يَجْعَلُ الْوِلْدانَ من صفة اليوم، من غير إضافة، لعلّة الإضمار. وقال تعالى: أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ [الآية 20] «3» وقد قرئت بالجر «4» وهو كثير، وليس المعنى عليه، فيما بلغنا، لأنّ ذلك يكون على «أدنى من نصفه» ، و «أدنى من ثلثه» وكان الذي افترض الثلث، أو أكثر من الثلث، لأنه قرأ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) . وأمّا الذي قرأ بالجرّ، فقراءته جائزة، على أن يكون ذلك، والله أعلم، أي أنكم لم تؤدّوا ما افترض عليكم، فقمتم أدنى من ثلثي الليل، ومن نصفه ومن ثلثه. وقال تعالى: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً [الآية 20] ف «هو» و «أنتم» و «أنتما» وأشباه ذلك صفات للأسماء مضمرة كما وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) [الزّخرف] . وأمّا من قرأ: (تجدوه عند الله خير) «5» فقد جعلها اسما مبتدأ كما تقول «رأيت عبد الله أبوه خير منه»

_ (1) . في معاني القرآن 2: 198 نسبت إلى أهل الحجاز وفي الجامع 19: 45 إلى أهل الحرمين، وابن محيصن، ومجاهد، وأبي عمرو، وابن إسحاق، وحفص وفي السبعة 658 إلى ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وحفص، عن عاصم وفي التيسير 216 إلى غير من أخذ بالأخرى. (2) . في معاني القرآن 3: 198 إلى عاصم، والأعمش وفي الجامع 19: 45 إلى غير من أخذ بالأخرى وفي السبعة 658 إلى عاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر، وحمزة، والكسائي وفي التيسير 216 إلى أبي بكر، وابن عامر، وحمزة، والكسائي. (3) . القراءة بالنصب في معاني القرآن 3: 199، نسبت إلى عاصم والأعمش وفي الطبري 29: 140 إلى بعض قرّاء مكة، وعامة قراء الكوفة وفي السبعة 657 إلى غير نافع، وأبي عمرو، وابن عامر، وفي البحر 8: 366 إلى زيد بن علي، وإلى السبعة عدا العربيين، ونافع وفي الكشف 2: 345، والتيسير 216، والجامع 19: 52، إلى ابن كثير والكوفيين. (4) . في معاني القرآن 3: 199 إلى أهل المدينة، والحسن البصري وفي الطبري 29: 139 إلى عامة قرّاء المدينة والبصرة وفي السبعة 657 إلى نافع، وأبي عمرو، وابن عامر وفي الكشف 2: 345، والتيسير 216، إلى غير الكوفيين وابن كثير وفي البحر 8: 366 إلى العربيين ونافع وفي الجامع 19: 52 إلى العامة، واختارها أبو عبيد وأبو حاتم. (5) . القراءة بالرفع هي في الشواذ 164 إلى أبي السمال وفي البحر 8: 367 زاد ابن السميفع. أمّا القراءة بالنصب فنسبت في البحر 8: 367 إلى الجمهور.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"المزمل"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «المزّمّل» «1» إن قيل: ما معنى وصف القرآن بالثّقل في قوله تعالى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) ؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها أنه كان يثقل نزول الوحي على النبي (ص) ، حتّى يعرق عرقا شديدا في اليوم الشاتي. الثاني: أن العمل بما فيه من التكاليف، ثقيل شاق. الثالث: ثقيل في الميزان يوم القيامة. الرابع: أنّه ثقيل على المنافقين. الخامس: أنه كلام له وزن ورجحان، كما يقال للرجل العاقل: رزين راجح. السادس: أنه ليس بسفساف، لأن السفساف من الكلام يكون خفيفا. فإن قيل: لم قال تعالى السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [الآية 18] ولم يقل سبحانه منفطرة به، والسماء مؤنثة؟ قلنا: هو على النسبة: أي ذات انفطار. وقيل ذكّرت السماء على معنى السقف. وقيل معناه السماء شيء منفطر به. وقيل السماء تذكر وتؤنث. فإن قيل: لم قال تعالى: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [الآية 20] ولم يقل تعالى أن لن تحصوهما: أي لن تعرفوا تحقيق مقادير ساعات الليل والنهار؟ قلنا: الضمير عائد إلى مصدر، يقدّر معناه: لن تحصوا تقديرهما.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"المزمل"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «المزّمّل» «1» في قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) استعارة: لأن القرآن كلام، وهو عرض من الأعراض، والثقل والخفّة من صفات الأجسام، والمراد بها صفة القرآن بعظم القدر، ورجاحة الفضل، كما يقول القائل: فلان رصين رزين. وفلان راجح ركين، إذا أراد صفته بالفضل الراجح، والقدر الوازن. وفي قوله سبحانه في إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) وقرئ: (وطاء) «2» استعارة. والمراد بناشئة الليل هاهنا، ما ينشأ فعله، أي يبتدأ به من عمل الليل، كالتهجّد في أثنائه، والتلاوة في آنائه. من قرأ وطئا بالقصر فالمعنى فيه أن قيام الليل أشد وطأ عليك أي أصعب وأشق، كما يقول القائل: هذا الأمر شديد الوطأة علي. إذا وصف بلوغه منه وصعوبته عليه ومع أن عمل الليل أشد كلفة ومشقة فهو أقوم صلاة وقراءة، للمعنى الذي قدمنا ذكره. ومن جعل «وطاء» هاهنا اسما لما يستوطأ ويفترش، كالمهاد وما يجري مجراه، فقد ذهب إلى أن عمل الليل أوعث مقاما، وأصعب مراما.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . قرأ أبو العالية، وأبو عمرو، ومجاهد، وابن أبي إسحاق، وحميد، وابن عامر، والمغيرة، وأبو حياة «وطاء» بالمد وقرأ الباقون وَطْئاً بفتح الواو، وسكون الطاء، على وزن بحر انظر «القرطبي» ج 19 ص 39. [والقراءة المثبتة في المصحف الشريف، هي قراءة القصر] .

وعندهم، أنّ كل ما ينشأ بالليل من قراءة، أو تهجّد، أو طروق، أو ترحّل أشقّ على فاعله، وأصعب على مستعمله، لأنّ الليل موحش هائل، ومخوف محاذر. فكل ما وقع فيه مما أومأنا إليه، كان كالنسيب له، والشبيه به. وفي قوله سبحانه: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7) استعارة. والمراد بها المضطرب الواسع، والمجال الفاسح. وذلك مأخوذ من السباحة في الماء، وهي الاضطراب في غمراته، والتقلّب في جهاته. فكأنه سبحانه قال: إن لك في النهار متصرّفا ومتّسعا، ومذهبا منفسحا، تقضي فيه أوطارك، وتبلغ آرابك. وفي قوله سبحانه: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) استعارة. والمراد بها: أن الولدان الذين هم الأطفال، لو جاز أن يشيبوا لرائع خطب، أو طارق كرب، لشابوا في ذلك اليوم لعظيم أهواله، وفظاعة أحواله. وذلك كقول القائل: قد لقيت، من هذا الأمر، ما تشيب منه النواصي، كناية عن فظيع ما لاقى، وعظيم ما قاسى.

سورة المدثر 74

سورة المدّثّر 74

المبحث الأول أهداف سورة"المدثر"

المبحث الأول أهداف سورة «المدّثّر» «1» سورة المدّثّر سورة مكية، آياتها 56 آية، نزلت بعد سورة المزّمّل. وينطبق على سورة المدّثّر، من ناحية سبب نزولها، ووقت نزولها، ما ينطبق على سورة المزّمّل فهناك روايات بأنها هي أول ما نزل بعد سورة العلق، ورواية أخرى بأنها نزلت بعد الجهر بالدعوة، وإيذاء المشركين للنبي (ص) . ويمكن التوفيق بين هذه الروايات، بأنّ صدر سورة المدّثّر أول ما نزل من القرآن الكريم بعد سورة العلق، وهو من أوّل السورة إلى قوله تعالى: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) . وأنّ الآيات التالية قد نزلت بعد الجهر بالدعوة، وربما كانت تعني شخصا معينا هو الوليد بن المغيرة «2» . وأيّا مّا كان السبب والمناسبة، فقد تضمّنت السورة في مطلعها ذلك النداء العلويّ، بانتداب النبي (ص) لهذا الأمر الجلل، وانتزاعه من النوم والتدثّر والدفء، إلى الجهاد والكفاح والمشقة [الآيات من 1- 7] . ثم تضمّنت بعد هذا تهديدا ووعيدا للمكذّبين بالآخرة، وبحرب الله المباشرة، كما تضمّنت ذلك سورة المزّمّل سواء بسواء، [الآيات من 8- 17] . وتعيّن سورة المدثر أحد المكذّبين بصفته، وترسم مشهدا من مشاهد كيده، على نحو ما ورد في سورة

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. (2) . في ظلال القرآن 29: 180

القلم، وربما كان الشخص المعني هنا وهناك واحدا، وقد قيل إنّه الوليد بن المغيرة [الآيات 18- 30] . ثمّ تتحدّث السورة عن عالم الغيب، ووصف سقر، والملائكة القائمين عليها، وعددهم وامتحان الله لعباده بذلك العدد، وذلك في آية واحدة طويلة هي الآية 31. ثمّ تتحدث عن مشاهد الكون، وأدلّتها على وجود الله [الآيات 32- 37] . كما تعرض مقام المجرمين، ومقام أصحاب اليمين، حيث يعترف المكذّبون اعترافا طويلا، بأسباب استحقاقهم للارتهان، والقيد في يوم الجزاء والحساب، يعقب عليه بكلمة الفصل في أمرهم، الذي لا تنفعهم فيه شفاعة شافع [الآيات 38- 48] . وفي ظلّ هذا المشهد المخزي، والاعتراف المهين، يفضي السّياق إلى استنكارا موقف المكذبين من الدعوة إلى التذكرة والنجاة من هذا المصير، ويرسم لهم مشهدا ساخرا، يثير الضحك والزراية، من نفارهم الحيواني الشّموس [الآيات 49- 51] . ويكشف السّياق عن حقيقة الغرور، الذي يساورهم فيمنعهم من الاستجابة لصوت المذكّر الناصح، ويبيّن أنّه الحسد للنبي (ص) ، والرغبة في أن يؤتى كل منهم الرسالة، والسبب الاخر هو قلّة التقوى [الآيتان 52- 53] . وفي الختام يجيء التقرير الجازم الذي لا مجاملة فيه، وردّ الأمر كلّه إلى مشيئة الله سبحانه وقدره [الآيات 54- 56] . وهكذا تمثّل السورة حلقة من حلقات الكفاح النفسي، الذي واجه به القرآن الجاهلية وتصوّراتها، في قلوب قريش، كما كافح العناد والكيد، والإعراض الناشئ عن العمد والقصد، بشتّى الأساليب. والمشابهات كثيرة بين اتجاهات هذه السورة، واتجاهات سورة المزّمّل، وسورة القلم، ممّا يدل على أنها جميعا نزلت متقاربة، لمواجهة حالات متشابهة. وسورة المدّثّر قصيرة الآيات، سريعة الجريان، منوّعة الفواصل والقوافي، يتّئد إيقاعها أحيانا، ويجري لاهثا أحيانا، وبخاصّة عند تصوير مشهد هذا المكذّب، وهو يفكّر ويقدّر ويعبس

مع آيات السورة

ويبسر.. وتصوير مشهد سقر، لا تبقي ولا تذر، لوّاحة للبشر. مع آيات السورة [الآيات 1- 7] : بدأت السورة بنداء النبي الكريم (ص) ليقوم بأمر جليل هو إنذار البشرية، وتخليصها من الشرّ في الدنيا، ومن النار في الاخرة. ثم يوجه الله سبحانه رسوله الأكرم في خاصة نفسه، بأن يكبّر ربه وحده، فهو سبحانه الكبير المتعالي، وهو القوي المتين، وهو على كل شيء قدير. ويوجّهه إلى التطهير بأنواعه، ويشمل طهارة الثوب، وطهارة البدن، وطهارة القلب، ليكون أهلا للتلقي عن الملأ الأعلى، ويوجهه إلى هجران الشرك، وموجبات العذاب والتحرّز، والتطهر من مس هذا الدّنس. ويوجهه إلى إنكار ذاته، وعدم المن بما يقدمه من الجهد أو استكثاره أو استعظامه، فكلّ ما يقدّمه الإنسان من خير هو بتوفيق الله وعونه، وذلك يستحق الشكر لله لا المنّ والاستكثار. ويوجهه سبحانه أخيرا إلى الصبر على الطاعة، والصبر على الأذى والتكذيب، وعدم الجزع من أذى المخالفين. [الآيات 8- 30] : حينما ينفخ إسرافيل في الصّور، يواجه الكافرين يوم عسير، لا يسر فيه ولا هوادة، بل يجدون الحساب السريع والجزاء العادل والعقاب الرادع. وقد روى ابن جرير الطبري أنّ الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة، حينما فكّر في تهمة يلصقها بالنبي (ص) ثم ادّعى أن النبي (ص) ساحر وقد كان الوليد يسمّى الوحيد، لأنه وحيد في قومه، فماله كثير، فيه الزرع والضّرع والتجارة، وله عشرة أبناء يشهدون المحافل والمجامع، أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام وعمارة، وقد بسط الله له الرزق، وطال عمره مع الجاه العريض والرياسة في قومه، وكان يسمّى ريحانة قريش. ويتّجه السياق إلى تهديد هذا المشرك، فيقول تعالى ما معناه: خلّ بيني وبين هذا المشرك، الذي أخرجته من بطن أمه وحيدا، لا مال له ولا ولد، ثمّ بسطت له الرزق والجاه العريض، فكفر بأنعم الله عليه. لقد أعطيته المال الكثير، ورزقته بنين

من حوله حاضرين شهودا، فهو منهم في أنس وعزوة، ومهّدت له الحياة ويسّرتها له تيسيرا ثمّ هو يطمع في مزيد من الثراء والجاه. كلا لن نزيده من نعمنا، بل سنذهب عنه كلّ ما أنعمنا به عليه، لأنّه كان معاندا ومعارضا لآيات القرآن الكريم سأكلّفه ما لا يطيق من كربة وضيق، كأنما يصعد في السماء، أو يصعد الجبال الوعرة الشاقة. إنّه فكّر وتروّى: ماذا يقول في القرآن، وبماذا يصفه حينما سئل عن ذلك، ثمّ لعن كيف قدّر، ثم نظر إلى قومه في جدّ مصطنع، وقطّب وجهه عابسا، وقبض ملامح وجهه باسرا ليستجمع فكره، فقال: ما هذا القرآن إلّا سحر، ينقله محمّد عن السحرة، كمسيلمة وأهل بابل، وليس هذا من كلام الله، وإنّما هو من كلام البشر. سأدخله سقر، وماذا تعلم عنها، إنّها شيء أعظم وأهول من الإدراك، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) فهي تكنس كنسا، وتبلغ بلعا وتمحو محوا، فلا يقف لها شيء، ولا يبقى وراءها شيء، ولا يفضل منها شيء، وهي لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) تلوّح الجلد فتحرقه وتغيّر لونه، على النار تسعة عشر، لا ندري: أأفراد من الملائكة الغلاظ الشداد هم، أم صفوف، أم أنواع من الملائكة وصنوف. [الآية 31] : ولم نجعل المدّبرين لأمر النار إلّا ملائكة، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم. وما جعلنا عددهم تسعة عشر إلّا امتحانا للذين كفروا، وليستيقن الذين أوتوا الكتاب بصحّة القرآن، لأنهم يرون أن ما يجيء فيه موافق لما في كتبهم. ويزداد الذين آمنوا ايمانا، وذلك بتصديق أهل الكتاب له. وتستشعر قلوب المؤمنين بحكمة الله في هذا العدد، وتقديره الدقيق في الخلق. وتثبت هذه الحقيقة في قلوب أهل الكتاب، وقلوب المؤمنين، فلا يرتابون بعدها فيما يأتيهم من عند الله. وليقول الذين في قلوبهم مرض النفاق، والكافرون: ماذا أراد الله بهذا العدد المستغرب استغراب المثل؟ كذلك يضلّ الله من يشاء من المنافقين والمشركين، لسوء استعدادهم، ويهدي من يشاء من المؤمنين، لتزكية نفوسهم، وتوجيه استعدادهم للخير، وما يعلم جموع

خلق الله إلّا هو. وإنّ خزنة النار، وإن كانوا تسعة عشر، فإن لهم من الأعوان والجنود من الملائكة، ما لا يعلمه إلّا الله سبحانه، وما هذه السورة إلّا تذكرة للبشر. [الآيات 32- 38] : كلا وحقّ القمر، والليل إذا تولّى، والصبح إذا تجلّى، إنّ الاخرة وما فيها، أو سقر والجنود التي عليها، هي إحدى الأمور الكبيرة العجيبة، المنذرة للبشر، بما وراءهم من الخطر ولكلّ نفس أن تختار طريقها، وأن تتقدم في سبيل الخير أو تتخلّف عنه. [الآيات 39- 48] : تعرض هذه الآيات مقام أصحاب اليمين، فهم في جنّات يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين. ويقال لهم: أيّها المجرمون ما الذي أدخلكم في جهنّم؟ فيعترفون اعترافا طويلا مفصّلا، يتناول الجرائر الكثيرة التي انتهت بالمجرمين إلى سقر. قالوا دخلنا جهنّم، لأننا لم نك من المؤمنين، ولم نك نطعم المساكين، وكنّا نخوض في الباطل مع الخائضين، وكنّا نكذّب بيوم الجزاء والحساب، حتّى جاءنا الموت الذي يقطع كلّ شكّ، وينهي كلّ ريب، فما تنفعهم بعد ذلك شفاعة الشافعين، لأنه يكون قد انقضى وقت الإمهال. [الآيات 49- 56] : فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) : إذا كان الحال في الاخرة سيكون كما وصفنا في الآيات السابقة، فما بالهم معرضين عن القرآن؟ كأنهم، في هربهم من سماع كلام الله ونفورهم منه، حمير نافرة، فرّت من أسد تطلب النجاة من بطشه. تلك هيئتهم الظاهرة. ثمّ يرسم القرآن نفوسهم من الداخل، وما يعتلج فيها من المشاعر فيبين أنّ الحسد هو الذي منعهم من الإيمان، بل يرغب كل منهم أن يكون في منزلة الرسول (ص) ، وأن يؤتى صحفا تنشر على الناس وتعلن، وإنّما حملهم على ذلك أنّهم لا يصدّقون بالآخرة، ولا يخافون أهوالها، وأن هذا القرآن تذكرة تنبّه وتذكّر، فمن أراد الانتفاع بالقرآن قرأه وانتفع به. وما يهتدون إلّا بمشيئة الله، هو سبحانه أهل بأن يتّقى عذابه، وترجّى مغفرته، وهو سبحانه صاحب المغفرة يتفضّل بها على عباده وفق مشيئته.

مقاصد السورة إجمالا

مقاصد السورة إجمالا أمر النبي (ص) بدعوة الخلق إلى الإيمان، وتقرير صعوبة القيامة على أهل الكفر والعصيان، وتهديد الوليد بن المغيرة الذي منحه الله مالا وفيرا، وعشرة من البنين، وبسط له في العيش لكنّه قابل هذه النعم بالجحود والعناد. وذكر (جل شأنه) كيف استهزأ الوليد برسول الله (ص) ، وكيف اتّهمه بالسحر، فأنذره تعالى بسقر ثمّ وصفها ووصف زبانية الجحيم، وعذاب أهل النار ثم ذكر تعالى الأبرار ونعيمهم، والمجرمين وصفاتهم، وهي البعد عن الصلاة والإيمان، والبخل بالمال، والخوض في إيذاء المؤمنين. لقد سلبوا هداية السماء، ففروا من سماع القرآن، فرار حمر الوحش إذا رأت أسدا. وحرمت قلوبهم بركة التقوى. والله تعالى هو الجدير بأن يتقيه العباد، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"المدثر"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المدّثّر» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة المدّثّر بعد سورة المزّمّل وكان الوحي قد انقطع بعد بدء نزوله مدّة، لم يتفق المؤرّخون عليها وأرجح أقوالهم أنها كانت أربعين يوما. وقد نزلت سورة المدّثّر بعد انقضاء هذه المدة. فيكون نزولها، فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وتبلغ آياتها ستا وخمسين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة: استنهاض النبي (ص) للدعوة، وقد اقتضى هذا أيضا إنذار المشركين بما ينتظرهم من العذاب، إذا لم يجيبوا ما يدعون إليه فكانت في هذا مثل السورة السابقة، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها. استنهاض النبي (ص) للدعوة الآيات [1- 56] قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) فأمره أن ينهض للقيام بإنذارهم، ويكبّره، ويطهّر ثيابه، ويهجر الرجز، والمنّ على من يحسن

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

إليه، ويصبر لما أمره بتبليغه. ثم ذكر سبحانه أنه إذا نقر في الناقور، كان يوم عسير عليهم وأمره أن يتركه ومن خلقه وحيدا، وجعل له مالا ممدودا وذكر أنه سيرهقه صعودا، لأنه زعم أن ما ينذر به سحر يؤثر وقد فصّل ما فصل في وعيده، إلى أن قال تعالى فيما أوعده به من سقر: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) ثم أنكر أن تكون لهم ذكرى، فأقسم بالقمر وما ذكر معه، أنها لهم إحدى الكبر، من دركات جهنم السبع، وأنها نذير للبشر فمن شاء أن يتقدّم إلى الخير فليتقدّم، ومن شاء أن يتأخّر عنه فليتأخّر فكل نفس مأخوذة بما كسبت إلا أصحاب اليمين، فهم في جنّات يتساءلون عمّا سلك المجرمين في سقر فيجيبونهم بأنهم لم يكونوا من المصلّين، إلى غير هذا مما يذكرونه من أفعالهم ثم أنكر عليهم (سبحانه) أن يعرضوا بعد هذا عن التذكرة، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) . وذكر أن كل واحد منهم يريد أن تنزل عليه صحيفة من السماء، تأمره باتّباع ما يدعى إليه ثم ردعهم عن هذه الإرادة، وذكر سبحانه أن عدم خوفهم من الاخرة هو السبب في إعراضهم عن الإيمان به، وردعهم أيضا عن هذا الإعراض، وذكر أنه تذكرة بليغة كافية فمن شاء ذكّره بها: وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"المدثر"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المدّثّر» «1» أقول: هذه السورة متاخية مع السورة التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي (ص) ، وصدر كليهما نازل في قصة واحدة. وقد ذكر عن ابن عباس في ترتيب نزول السّور: أن المدّثّر نزلت عقب المزّمّل. أخرجه ابن الضريس. وأخرجه غيره عن جابر بن زيد «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وفيها كذلك زيادة: إعلام بالساعة وأهوالها في قوله تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) إلى فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"المدثر"

المبحث الرابع مكنونات سورة «المدّثّر» «1» 1- ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) . أخرج الحاكم» عن ابن عبّاس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. 2- وَبَنِينَ شُهُوداً (13) . قال أبو مالك، وسعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ابنا. أخرجه ابن أبي حاتم «3» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....] (2) . في «المستدرك» 2: 506 قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه» ، وأقرّه الذهبي. والأثر أيضا في «تفسير الطبري» 29/. 96 (3) . وأخرج الطبري في «تفسيره» 29: 97 عن مجاهد، أنهم كانوا عشرة.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"المدثر"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المدّثّر» «1» 1- وقال تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) . أقول: وقوله تعالى: نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) بيان عن حلول يوم القيامة. (الناقور) : ما ينفخ فيه من أسماء الأدوات، وكثير من هذه الأسماء جاء على «فاعول» . 2- وقال تعالى: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) . أي: سأغشيه عقبة شاقّة المصعد. أقول: وبناء فعول للأسماء معروف في العربية، فمنه الصّعود والهبوط والحدور وغير ذلك. 3- وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) . أقول: وقد جاء قوله أيضا: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) [الطور] . وهذا يعني: أن «فعيل» بمعنى «مفعول» لا يستوي فيه المذكر والمؤنث دائما، فقد تلحقه الهاء، والآيتان شاهدان على ذلك. وليس من ذهب إلى أن «رهين» في الآيتين اسم وليس صفة بحجة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"المدثر"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المدّثّر» «1» قرأ بعضهم قوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) بالجزم «2» على أنّها جواب النهي. والقراءة المثبتة في المصحف بالرفع، أي: ولا تمنن مستكثرا وهو أجود المعنيين. قال تعالى: كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) أي: معاندا. وقال سبحانه: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) . و «دبر» في معنى «أدبر» . يقولون: «قبّح الله ما قبل منه وما دبر» «3» وقالوا «عام قابل» ، ولم يقولوا «مقبل» . وقال تعالى: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) . فانتصب نَذِيراً لأنه خبر ل إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) ، أي لأنه خبر للمعرفة، وقد حسن عليه السكوت، فصار حالا، وهي «النذير» كما تقول «إنّه لعبد الله قائما» ، وقال بعضهم إنّما هو: «قم نذيرا فأنذر» . وقال تعالى: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) أي: إنّ القرآن تذكرة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . في الشواذ 164، والمحتسب 2: 337، إلى الحسن، وزاد في الجامع 19: 69 و 67 ابن مسعود. أما في البحر 8: 372، فابدل، بابن مسعود، ابن أبي عبلة. (3) . في مجاز القرآن 2: 275 و 276، جاء بأمثلة، تدل على قوله: بتساوي الفعلين المزيد والمجرد في المعنى. ورآهما الفراء في معاني القرآن 3: 204، لغتين.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"المدثر"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المدّثّر» «1» إن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى: غَيْرُ يَسِيرٍ (10) بعد قوله سبحانه: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ. قلنا: قيل معناه: أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا، كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا. وقيل إنه تأكيد. فإن قيل: ما فائدة التكرار في قوله تعالى: لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) ومعناهما واحد؟ قلنا: معناه لا تبقي للكفّار لحما، ولا تذر لهم عظما. وقيل معناه لا تبقيهم أحياء، ولا تذرهم أمواتا. فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ [الآية 31] وما سبق من وصفهم، بالاستيقان وازدياد الإيمان، دلّ على انتفاء الارتياب والجمل كلّها متعلّقة بعدد خزنة النار. والمعنى يستيقن الذين أوتوا الكتاب أن ما جاء به محمّد (ص) حق، حيث أخبر عن عدد خزنة النار بمثل ما في التوراة، ويزداد الذين آمنوا من أهل الكتاب إيمانا بالنبي (ص) والقرآن، حيث وجدوا ما أخبرهم به مطابقا لما في كتابهم؟ قلنا فائدته التأكيد، والتعريض أيضا بحال من عداهم من الشاكّين، وهم الكفّار والمنافقون فمعناه: ولا يرتاب هؤلاء كما ارتاب أولئك. فإن قيل: لم قال تعالى: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [الآية 31] يعني حصر

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

عدد الخزنة في تسعة عشر، وذلك ليس بمثل. قلنا: هو استعارة، من المثل المضروب، ممّا وقع غريبا وبديعا في الكلام، استغرابا منهم لهذا العدد، واستبداعا له والمعنى: أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب، وأيّ حكمة قصد في جعل الخزنة تسعة عشر لا عشرين. الثاني: أنّ المثل هنا بمعنى الصفة، كما في قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: 35] ماذا أراد الله بهذا العدد، صفة للخزنة. فإن قيل: لم طابق قوله تعالى: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) ، وهو سؤال للمجرمين، قوله تعالى: يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) وهو سؤال عنهم، وإنما المطابق: يسألون المجرمين أو يتساءلون عن المجرمين ما سلكهم في سقر: أي يسأل أهل الجنة بعضهم بعضا عن أهل النار؟ قلنا. قوله تعالى: ما سَلَكَكُمْ [الآية 42] ليس بيانا للتساؤل عنهم، وإنما هو حكاية قول المسؤولين عن المجرمين فالمسؤولون من أهل الجنّة ألقوا إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين وذلك أنّ المؤمنين إذا أخرجهم الله تعالى من النار، بعد ما عذّبهم بقدر ذنوبهم، وأدخلهم الجنّة، يسألهم بعض أصحاب اليمين عن حال المجرمين، وسبب تخليدهم، فيقول المسؤولون: قلنا لهم: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) وهؤلاء المؤمنون بعد إخراجهم من النار وإدخالهم الجنّة، صاروا من أصحاب اليمين. وقيل المراد بأصحاب اليمين، الملائكة عليهم السلام. وقيل الأطفال، لأنهم لا يرتهنون بذنوب، إذ لا ذنوب لهم.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"المدثر"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المدّثّر» «1» في قوله سبحانه: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) استعارة على بعض التأويلات: وهو أن تكون الثياب هاهنا كناية عن النفس، أو عن الأفعال والأعمال الراجعة إلى النفس. قال الشاعر «2» : ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاري قيل: أراد فدى لك نفسي. وكذلك قول الفرزدق: سكّنت جروتها «3» وقلت لها اصبري ... وشددت في ضيق المقام إزاري أي شددت نفسي، وذمرت قلبي. والإزار والثياب يتقارب معناهما. وعلى هذا فسّروا قول امرئ القيس: فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل «4»

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هو بقيلة الأكبر الأشجعي، وكنيته أبو المنهال. شاعر إسلامي. وله خبر مع عمر بن الخطاب (رض) ، بشأن رجل كان واليا على مدينتهم اسمه جعدة بن عبد الله، وكان له شأن غير مرضي مع النساء. فأرسل الشاعر بقيلة أبياتا إلى عمر يستعديه على هذا الوالي. والقصة كاملة في «لسان العرب» . وذكر ابن مطرف الكناني في «القرطين» الأبيات في ص 80 ج 2، ولم ينسبها لقائلها، واكتفى بقوله: روي في بعض الحديث، أن رجلا كتب إلى عمر بن الخطاب. وفي مادة أزد في «لسان العرب» أن اسمه نفيلة، والتصويب عن «المؤتلف والمختلف» ص 62، حيث ورد في باب الباء لا النون. (3) . في ديوان الفرزدق ص 322. فضربت جروتها وقلت لها اصبري ... وشددت في ضيق المقام إزاري وضرب الجروة: كناية عن العزم والتصميم على الأمر. (4) . البيت بكماله هو: وإن تك قد ساءتك منّي خليقة ... فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل

أي نفسي من نفسك، أو قلبي من قلبك. ويقولون: فلان طاهر الثياب، أي طاهر النفس، أو طاهر الأفعال. فكأنّه سبحانه قال: ونفسك فطهّر، أو أفعالك فطهّر. وقد يجوز أن يكون للثياب هاهنا معنى آخر، وهو أن الله سبحانه سمّى الأزواج لباسا، فقال تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة: 187] واللّباس والثّياب بمعنى واحد. فكأنّه سبحانه أمره أن يستطهر النساء. أي يختارهن طاهرات من دنس الكفر، ودرن العيب، لأنهن مظانّ الاستيلاد، ومضامّ الأولاد. وفي قوله سبحانه: وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) استعارة، والمراد بها انكشاف الصبح بعد استتاره، ووضوحه بعد التباسه، تشبيها بالرجل المسفر الذي قد حطّ لثامه، فظهرت مجالي وجهه، ومعالم صورته.

سورة القيامة 75

سورة القيامة 75

المبحث الأول أهداف سورة"القيامة"

المبحث الأول أهداف سورة «القيامة» «1» سورة القيامة سورة مكية، آياتها 40 آية، نزلت بعد سورة القارعة. هي سورة تتحدث عن القيامة، وعن النفس اللوّامة وتحشد على القلب البشري، من الحقائق والمؤثّرات، والصور والمشاهد، ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلّت منه. ومن تلك الحقائق الكبيرة، التي تحشدها السورة في مواجهة القلب البشري، حقيقة الموت القاسية الرهيبة، التي تواجه كلّ حي، وتتكرّر كلّ لحظة، ويواجهها الكبار والصغار، والأغنياء والفقراء والأقوياء والضعاف، ويقف الجميع منها موقفا واحدا، هو الاستسلام والخضوع لقدرة العلي القدير إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) . ومن تلك الحقائق، التي تعرضها السورة، حقيقة النشأة الأولى وأن من خلق الإنسان، من نطفة، قادر على أن يعيده مرة أخرى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) . ومن المشاهد المؤثرة، في السورة، مشهد القيامة، وقد وقف الجميع للحساب، وزاغت الأبصار، واشتدّ الهول، ولقي كل إنسان جزاءه: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) ... إلخ. ومن هذه المشاهد: مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربّهم، المتطلعين إلى وجهه الكريم، ومشهد الآخرين المقطوعي الصلة بالله:

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع آيات السورة

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) . وهكذا يشعر القلب، وهو يواجه هذه السورة، أنه محاصر لا يستطيع الهروب، مأخوذ بعمله لا يستطيع الإفلات، لا ملجأ له من الله ولا عاصم. وهكذا تعالج السورة عناد المشركين وإصرارهم، وتشعر الإنسان بالجدّ الصارم الجازم، في شأن القيامة، وشأن النفس، وشأن الحياة المقدّرة بحساب دقيق. وقد لوّنت السورة وزاوجت بين حقائق الاخرة، وحقائق الخلق والإبداع، ومشاهد الموت والحساب، وتكفّل الله بشأن القرآن وحفظه. وتلك خصيصة من خصائص الأسلوب القرآني، حيث يخاطب القلب البشري بشتّى الأساليب والمؤثّرات والحقائق والمشاهد، ممّا يأخذ عليه كل طريق، ويقوده إلى الإذعان والتسليم. مع آيات السورة [الآيتان 1- 2] : يقسم الله تعالى بيوم القيامة وعظمة هوله، وبالنفس التي تلوم صاحبها على الخير والشر، وتندم على ما فات يقسم أن البعث حق. [الآيتان 3- 4] : يردّ سبحانه على بعض المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث، وقد كانت المشكلة الشعورية عند المشركين، صعوبة تصورهم لجمع العظام البالية، الذاهبة في التراب، المتفرّقة في الثرى، وإعادة بعث الإنسان حيا. والنّص يؤكّد عملية جمع العظام، بما هو أرقى من مجرد جمعها، وهو تسوية البنان، وتركيبه في موضعه كما كان وهي كناية عن إعادة التكوين البشري بأدق ما فيه، حتّى يتمثل الإنسان بشرا سويّا، لا ينقصه حتّى تسوية أصابعه، وما حملت من خاصّيّات مميزة. [الآيتان 5- 6] : لا يجهل ابن آدم أنّ ربه قادر على أن يجمع عظامه، ولكنه يريد أن يداوم على فجوره، ولا يتخلى عنه ومن ثم فهو يستبعد وقوع البعث، ويستبعد مجيء القيامة. [الآيات 7- 9] : ذكر سبحانه، من علامات يوم القيامة، أمورا ثلاثة:

1- فالبصر يخطف ويتقلّب سريعا سريعا، تقلّب البرق وخطفه. 2- والقمر يخسف ويطمس نوره. 3- والشمس تقترن بالقمر بعد افتراق، ويختل نظامها الفلكي المعهود، حيث ينفرط ذلك النظام الكوني الدقيق. [الآيات 10- 12] : يتساءل الإنسان المرعوب، أين المفرّ من جهنّم؟ وهل من ملجأ منها؟ لا ملجأ ولا وقاية ولا مفر من قهر الله وأخذه فالرجعة إليه والمستقرّ عنده، لا مستقر عند سواه. قال السّدّيّ: كانوا إذا فزعوا في الدّنيا تحصّنوا بالجبال، فقال الله لهم لا وزر يعصمكم مني. [الآية 13] : يخبر الإنسان حين العرض والحساب بجميع أعماله قديمها وحديثها، أوّلها وآخرها، صغيرها وكبيرها. وفي الحديث: «سبع يجري أجرها للعبد بعد موته وهو في قبره: من علّم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس ظلّا، أو بنى مسجدا، أو ورّق مصحفا، أو ترك وليّا يستغفر له بعد موته» . [الآيتان 14- 15] : بل الإنسان على نفسه بصيرة، بل الإنسان حجة بيّنة على نفسه، وفي ذلك اليوم تنطق جوارحه بما فعل فسمعه وبصره ويداه ورجلاه، وجميع أعضائه تشهد عليه، ويتضح الحق، ولو جاء بالأعذار كلها. [الآية 16] : تكفّل الله بالقرآن، وحيا وحفظا وجمعا وبيانا، وليس للرسول (ص) من أمره إلّا حمله وتبليغه. وقد كان الرسول الأمين شديد اللهفة والحرص على استيعاب القرآن وحفظه، ممّا كان يدعوه إلى متابعة جبريل (ع) في التلاوة آية آية، وكلمة كلمة. فلمّا نزلت هذه الآية، كان رسول الله (ص) إذا أتاه جبريل، أطرق وسكت، فإذا ذهب قرأه كما أمره الله. [الآيات 17- 19] : إن علينا جمعه في صدرك الشريف، وقراءته على لسانك، فلن تنساه أبدا، بل نحن سنجمعه في صدور المؤمنين، ونحفظ قراءته. فإذا تلاه عليك الملك فاستمع

له، ثم اقرأه كما أقرأك ثم إنّا بعد حفظه وتلاوته، نبينه لك ونلهمك معناه. [الآيتان 20- 21] : إنكم يا بني آدم خلقتم من عجل وطبعتم عليه، فتعجلون في كلّ شيء ومن ثمّ تحبون العاجلة، وتذرون الاخرة. [الآيتان 22- 23] : في ذلك اليوم، يوم القيامة، ستكون هناك وجوه حسنة ناعمة، تنظر إلى جلال الله، وتتمتّع برضوانه، وهي متعة دونها كل متعة. إن روح الإنسان لتستمتاع أحيانا بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس، تراها في الليلة القمراء، أو الليل الساجي، أو الفجر الوليد، أو الظل المديد، أو البحر العباب، أو الصحراء المنسابة، أو الروض البهيج، أو الطلعة البهية، أو القلب النبيل، أو الإيمان الواثق، أو الصبر الجميل ... إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود، فتغمرها النشوة، وتفيض بها السعادة. فكيف بها وهي تنظر إلى جمال ذات الله؟ وتستمتع بهذه السعادة الغامرة، التي لا يحيط بها وصف، ولا يتصوّر حقيقتها إدراك؟ [الآيتان 24- 25] : ووجوه الفجّار تكون يوم القيامة عابسة كالحة، مستيقنة أنّها ستصاب بداهية عظيمة تقصم ظهرها وتهلكها. [الآيات 26- 30] : تعرض الآيات مشهد الاحتضار، حينما تبلغ الروح أعالي الصدر، وتشرف النفس على الموت، ويقول أهل المحتضر: من يرقيه للشفاء ممّا نزل به؟ والتمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا وأيقن المحتضر أنّ ما نزل به نذير الفراق من الدنيا والمال والأهل والولد. وبطلت كل حيلة، وعجزت كل وسيلة، والتوت ساقه بساقه فلا يقدر على تحريكهما. ويتبيّن الطريق الواحد، الذي يساق إليه كلّ حي في نهاية المطاف: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) . إن المشهد يكاد يتحرّك وينطق، وكل آية ترسم حركة، إنه مشهد الموت الذي ينتهي إليه كلّ حي، الموت الذي يصرع الجبابرة، بالسهولة نفسها التي يصرع بها الأقزام، ويقهر المتسلّطين، كما يقهر المستضعفين، الموت الذي لا حيلة للبشر فيه، وهم مع هذا لا يتدبرون القوة القاهرة التي تجريه.

[الآيات 31- 33] : ورد أن هذه الآيات تعني شخصا معيّنا بالذات، قيل هو أبو جهل: (عمرو بن هشام) ، وكان يجيء أحيانا إلى رسول الله (ص) ، يسمع منه القرآن، ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدّب ولا يخشى. ويؤذي رسول الله (ص) بالقول، ويصدّ عن سبيل الله ثم يذهب مختالا بما فعل، فخورا بما ارتكب من الشر، كأنه لم يفعل شيئا يذكر، و (يتمطّى) أي يمط في ظهره ويتعاجب تعاجبا ثقيلا كريها. وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوة إلى الله، يسمع ويعرض، ويتفنّن في الصّدّ عن سبيل الله، والأذى للدعاة. [الآيتان 34- 35] : ويل لك مرة بعد أخرى، وأهلكك الله هلاكا أقرب لك من كلّ شر وهلاك وهو تعبير اصطلاحي يتضمن التهديد والوعيد، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) ، أي يتكرر هذا الدعاء عليك مرة أخرى. روى قتادة «أن النبي (ص) أخذ بيد أبي جهل، فقال: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) ، فقال عدو الله: أتوعدني يا محمّد، والله لا تستطيع أنت وربّك شيئا، وإنّي لأعزّ من مشى بين جبليها» . فأخذه الله يوم بدر بيد المؤمنين. [الآية 36] : أيحسب الكافر أن يترك مهملا، لا يؤمر ولا ينهى ولا يبعث ولا يجازى؟ لقد كانت الحياة في نظر القوم حركة لا علّة لها ولا هدف ولا غاية: أرحام تدفع، وقبور تبلع، وبين هاتين لهو ولعب، وزينة وتفاخر فلفتت الآية نظر الإنسان إلى التقدير والتدبير في حياته وأنّه لا بدّ من البعث والجزاء، ليتميّز الصالح من الطالح، والمؤمن من الكافر ثمّ يأتي ما بعدها بالدلائل الواقعية على هذا القول. [الآيات 37- 39] : فما هذا الإنسان؟ مم خلق؟ وكيف كان؟ ألم يك نطفة صغيرة من الماء من منيّ يراق؟ ألم تتحول هذه النطفة إلى علقة ذات وضع خاص في الرحم، تعلق بجدرانه لتعيش وتستمدّ الغذاء؟ فمن ذا الذي ألهمها هذه الحركة؟ ومن ذا الذي وجّهها هذا الاتجاه؟ ثم من ذا الذي خلقها بعد ذلك الحين جنينا معتدلا منسق الأعضاء؟ مؤلّفا جسمه من ملايين الملايين من الخلايا الحيّة، وهو في الأصل خليّة

مقصود السورة

واحدة مع بويضة؟ ومن ذا الذي قاد هذه الخلية، وهي خليقة صغيرة ضعيفة، لا عقل لها ولا مدارك ولا تجارب؟ ثمّ في النهاية: من ذا الذي جعل من الخلية الواحدة الذّكر والأنثى؟. إنّه لا مفر من الإحساس باليد اللطيفة المدبّرة، التي قادت النطفة المراقة في طريقها الطويل، حتى انتهت بها إلى ذلك المصير: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) . [الآية 40] : وفي ختام السورة يجيء هذا الاستفهام القوي الحاسم: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) ؟: أي أليس الذي أنشأ هذا الخلق السويّ، من هذه النطفة المراقة، بقادر على أن يعيده كما بدأه؟ أليس الفعّال، للتدبير والتقدير والنشأة الأولى، بقادر على البعث والإحياء مرة أخرى؟. قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] . وإذا سمع المؤمن هذه الآية الأخيرة من سورة القيامة فليقل: بلى قادر. أخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم، وصحّحه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص) من قرأ منكم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وانتهى إلى آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) ، فليقل بلى، وأنا على ذلكم من الشاهدين. ومن قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) ، فانتهى إلى آخرها: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) ، فليقل بلى، ومن قرأ المرسلات فبلغ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ، فليقل آمنا بالله» . مقصود السورة بيان هول القيامة، وهيبتها، وبيان إثبات البعث وتأثير القيامة في أعيان العالم، حيث يزوغ البصر، ويظلم القمر، وتتكدّر الشمس، ويفزع الإنسان ويقول أين المفر؟ وفي ذلك اليوم سينال كل إنسان جزاء عمله. وبيّنت السورة آداب سماع الوحي، والوعد باللقاء والرؤية وبيّنت هول الاحتضار، وقدرة الله تعالى على البدء والإعادة، وبعث الموتى وحسابهم وجزائهم، في قوله سبحانه: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"القيامة"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القيامة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة القيامة بعد سبع سور من سورة النجم، وكان نزول سورة النجم فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة القيامة في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) . وتبلغ آياتها أربعين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إثبات البعث وما يكون فيه من حساب وثواب وعقاب. وبهذا يكون سياقها في الإنذار والترهيب والترغيب أيضا، ويكون ذكرها مناسبا للسورة المذكورة قبلها. إثبات البعث الآيات [1- 40] قال الله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) ، فذكر سبحانه أنه لا يقسم بهذا على بعثهم لأنه أظهر من أن يحتاج إلى قسم، وأنكر ما يستبعدون من جمع العظام بعد تفريقها ثم ذكر جلّ وعلا، أنه قادر على جمع العظام وتسوية البنان كما كان قبل الموت وأبطل ما يريدونه من مضيهم في فجورهم ثم ذكر، جلّت قدرته، أنهم يسألون مستبعدين: أيّان يوم القيامة؟

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

وأجاب عن هذا بأنه إذا جاءت علامات هذا اليوم يتمنّون أن يفرّوا منه ولا مفرّ، وبأنه لا بد من مصيرهم إليه، لينبئ كل واحد بما قدّم وأخّر وتبصر كل نفس عملها في كتابها، فلا تقبل معذرة عنه. ثم ذكر، سبحانه، ما يكون من نهي الإنسان عن التعجل في قراءة كتابه قبل أن تجمع فيه أعماله وأمره أن ينتظر حتى يقرأ عليه، ثم يتبعه بالإقرار به. وذكر أن هذا التعجّل ناشئ من حبهم العاجلة ونسيانهم الاخرة وأنه، بعد عرض الأعمال، تكون وجوه أصحاب الحسنات ناضرة، وتكون وجوه أصحاب السّيئات باسرة. ثم ختم السورة بأنه لا بدّ، بعد موتهم، من أن يساقوا إليه وليس معهم صدقة ولا صلاة، ولكن تكذيب وإعراض وكبر وذكر، جلّ وعلا، أن من هذا شأنه أولى له فأولى، ثم أولى له فأولى، وأنه يحسب أن يترك من غير بعث وحساب، وقد كان نطفة ثم علقة، فخلقه فسوّاه، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) .

المبحث الثالث مكنونات سورة"القيامة"

المبحث الثالث مكنونات سورة «القيامة» «1» 1- فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) . قال مجاهد، وغيره: نزلت في أبي جهل. أخرجه ابن أبي حاتم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"القيامة"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «القيامة» «1» 1- قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) . والمراد: «قراءته» . 2- وقال تعالى: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) . والفاعل مضمر يراد به النفس، ولم تذكر للعلم بها، وهي نظير قوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) [الواقعة] . 3- وقال تعالى: ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) . وقوله تعالى: يَتَمَطَّى (33) ، أي: يتبختر، وأصله: يتمطّط أي يتمدّد، لأن المتبختر يمدّ خطاه، وقيل: هو من المطا، أي: الظهر لأنه يلويه.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"القيامة"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «القيامة» «1» قال تعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) أي: على أن نجمع بنانه. أي: بلى نجمعها قادرين. وواحد «البنان» : بنانة. وقال: أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) أي: أين الفرار. وقال الشاعر [من المديد وهو الشاهد الثالث والسبعون بعد المائتين] : يا لبكر أنشروا لي كليبا ... يا لبكر أين أين الفرار؟ لأنّ كلّ مصدر يبنى هذا البناء فإنما يجعل «مفعلا» . وإذا أراد المكان قال (المفرّ) : وقد قرئت (أين المفرّ) لأنّ كلّ ما كان فعله على «يفعل» كان «المفعل» منه مكسورا نحو «المضرب» ، إذا أردت المكان الذي يضرب فيه. قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) أي: حسنة: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) يعني، والله أعلم، بالنظر إلى الله إلى ما يأتيهم من نعمه ورزقه. وقد تقول: «والله ما أنظر إلّا إلى الله وإليك» أي: أنتظر ما عند الله وما عندك. وقال تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) فجعله هو البصيرة كما تقول للرجل: «أنت حجّة على نفسك» . وقال تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) أي: فلم يصدّق ولم يصلّ. كما تقول «ذهب فلا جاءني ولا جاءك» . وقال تعالى: عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) وقرأ بعضهم (يحي الموتى) فأخفى

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

وجعله بين الإدغام وغير الإدغام، ولا يستقيم أن يكون هاهنا مدغما لأنّ الياء الاخرة ليست تثبت على حال واحد، إذ تصير ألفا في قولك «يحيا» وتحذف في الجزم، فهذا لا يلزمه الإدغام، ولا يكون فيه إلّا الإخفاء، وهو بين الإدغام وبين البيان.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"القيامة"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «القيامة» «1» فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) والقارئ على النبي (ص) إنّما هو جبرائيل (ع) ؟ قلنا: معناه فإذا جمعناه في صدرك، ويؤيّده قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) أي: إن علينا جمعه وضمّه في صدرك فلا تعجل بقراءته قبل أن يتمّ حفظه. وقيل إنما أضيفت القراءة إلى الله تعالى، لأن جبريل (ع) يقرأه بأمره كما تضاف الأفعال إلى الملوك والأمراء بمجرد الأمر، مع أن المباشر لها أعوانهم أو أتباعهم. فإن قيل: لم قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) والذي يوصف بالنظر الذي هو الإبصار والإدراك، إنما هو العين دون الوجه؟ قلنا: قيل إن المراد بالوجوه هنا السعداء وأهل الوجاهة يوم القيامة لا الوجه الذي هو العضو ولا أرى هذا الجواب مطابقا لقوله تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) لأن العبوس والقطوب إنما يوصف به الوجه الذي هو العضو، ومما يؤيد أن المراد بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) الأعضاء المعروفة قوله تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) [المطففين] . فإن قيل: النطفة المنيّ، فما الحكمة في قوله تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ؟

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

قلنا: النطفة استعملت هنا بمعنى القطرة، لأن النطفة تطلق على الماء القليل والكثير ومنه الحديث «حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جوازا» أراد: بحر المشرق والمغرب.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"القيامة"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «القيامة» «1» في قوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) ، استعارة. والمراد، والله أعلم، أن الإنسان حجة على نفسه في يوم القيامة، وشاهد عليها بما اقترفت من ذنب، واحتملت من وزر. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) (وإن ألقى معاذيره) . أي هو، وإن تعلّق بالمعاذير، ولفّق الأقاويل، شاهد على نفسه بما يوجب العقاب، ويجرّ النكال. وقال الكسائي: المعنى: بل على نفس الإنسان بصيرة. فجاء على التقديم والتأخير. أي عليه من الملائكة رقيب يرقبه، وحافظ يحفظ عمله. وقال أبو عبيدة: جاءت هذه الهاء في بصيرة، والموصوف بها مذكّر، كما جاءت في علّامة، ونسّابة، ورواية، وطاغية. والمراد بها المبالغة في المعنى الذي وقع الوصف به. ووجه المبالغة في صفة الملك المحصي لأعمال المكلّف بأنه بصيرة، أنّ ذلك الملك يتجاوز علم الظواهر إلى علم السرائر، بما جعل الله تعالى له على ذلك من الأدلة، وأعطاه من أسباب المعرفة. فهو، للعلة التي ذكرناها، يوفي على كل رقيب حافظ، ومراع ملاحظ. والتأويل الاخر يخرج به الكلام عن حيّز الاستعارة. وهو أن تكون المعاذير هاهنا من أسماء السّتور، لأن أهل اليمن يسمّون السّتر بالمعذار، فكأن المراد أن الإنسان رقيب على نفسه، وعالم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

بمستسرّ غيبه، في ما يقارفه من معصية، أو يقاربه من ريبة، وإن ألقى ستوره مستخفيا، وأغلق أبوابه متواريا. وفي قوله سبحانه: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) استعارة على أكثر الأقوال. والمراد بها، والله أعلم، صفة الشّدّتين المجتمعتين على المرء من فراق الدنيا، ولقاء أسباب الاخرة. وقد ذكرنا فيما تقدم مذهب العرب في العبارة عن الأمر الشديد، والخطب الفظيع، بذكر الكشف عن الساق، والقيام عن ساق. فلا فائدة في تكرير ذلك وإعادته. وقد يجوز أن يكون السّاق هاهنا جمع ساقة كما قالوا: حاجة وحاج. وغاية وغاي وآية وآي. والساقة: هم الذين يكونون في أعقاب الناس يحفّزونهم على السير، وهذا في صفة أحوال الاخرة وسوق الملائكة السابقين بالكثرة، حتى يلتفّ بعضهم ببعض من شديد الحفز، وعنيف السير والسّوق. ومما يقوّي ذلك قوله تعالى: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) . والوجه الأول أقرب، وهذا الوجه أغرب.

سورة الإنسان 76

سورة الإنسان 76

المبحث الأول أهداف سورة"الإنسان"

المبحث الأول أهداف سورة «الإنسان» «1» سورة الإنسان سورة مكيّة، وقيل مدنية، آياتها 31، نزلت بعد سورة الرحمن. وقد اختلف في مكّيتها ومدنيّتها. وفي المصحف المتداول أنها مدنية، ولكن آيات السورة وسياقها وموضوعاتها تحمل الطابع المكّي، وهي أقرب إلى أن تكون مكّية. والمكّي من القرآن هو ما نزل بمكّة قبل الهجرة، والمدنيّ هو ما نزل بالمدينة بعد الهجرة. وهناك سور متفق على مكّيتها، وسور متفق على مدنيّتها، وسور مختلف فيها: من العلماء من يرى أنها مدنيّة، ومنهم من يرى أنها مكّية. ومن هذه السور سورة الإنسان. وقد غلب على السور المكّية الحديث عن الألوهيّة، والتحذير من عبادة الأصنام، والتذكير بالبعث والجزاء، ولفت الانظار إلى مشاهد الكون ونواميسه، وآيات الله في الآفاق، ودلائل القدرة الإلهية في الخلق والنفس. وغلب على السور المدنيّة وصف غزوات الرسول (ص) ، وحالات المجتمع المدنيّ، والحديث عن المنافقين واليهود، والعناية بتشريع الأحكام، ونظام المجتمع ودعائم الحكم السليم. والقرآن، في مجموعه، كتاب هداية، ودعوة إلى القيم، ومكارم الأخلاق، وحثّ على الإيمان بالله

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

تسلسل أفكار السورة

وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر، ودعوة إلى تهذيب النفس، وحث على الفضيلة والاستقامة، وتقوى الله ومراقبته. وهذه المعاني نجدها في السور المكّية والمدنيّة، وفي السور المختلف في مكّيتها ومدنيّتها، كسورة الإنسان. ولا نملك نحن إلّا أن نقول: سورة الإنسان سورة من القرآن الكريم، يختلف الترجيح في مكّيتها ومدنيّتها، ونرى أنّ أسلوبها أقرب إلى أسلوب القرآن المكّي، وبذلك تكون جميع سور جزء تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ سورا مكّية. تسلسل أفكار السورة سورة الإنسان نداء رخيّ نديّ للإنسان أن يتذكّر أصله الذي خلق منه، ويتذكّر فضل الله عليه، إذ خلقه بشرا سويا، ويسّر له طريق الخير والشر، ليختار بإرادته وكسبه، وعقله وطاقاته ومداركه. وبذلك تذكر السورة أصل الخلق، والمدارك والطاقات التي منحها الله للإنسان، وميّزه بهذا على جميع المخلوقات، فمنحه الإرادة والاختيار، والسمع والبصر، ليسمع ويرى ويفكّر ويتدبّر، ثمّ يختار بإرادته وكسبه وهذه ميزة خاصة بالإنسان وحده في هذا الكون. فالملاك مطيع طاعة مطلقة، والحيوان مزوّد بالإدراك من دون الاختيار، والكون كله مسخر بمشيئة الله، وخاضع لنواميسه خضوع القهر والغلبة. والإنسان زوّد بالعقل ليختار الطاعة لله أو المعصية، وهذا هو أساس الابتلاء والاختبار، فإن أطاع صار أهلا لرضوان الله وجنّته، وإن عصى صار أهلا لغضبه وناره. وقد ذكرت السورة عذاب أهل النار في آية واحدة، هي الآية الرابعة. واستسرسالات في وصف نعيم أهل الجنة وثوابهم، في الآيات [5- 22] ، أي في جزء كبير من السورة. ثمّ يتجه الخطاب إلى الرسول الأمين، لتثبيته على الدعوة، وتوجيهه إلى الصبر، وانتظار حكم الله في الأمر، والاتّصال بربّه، والاستمداد منه كلما طال الطريق، وذلك في الآيات [23- 26] .

مع آيات السورة

وفي الجزء الأخير من السورة، تذكير للكافرين باليوم الثقيل، الذي لا يحسبون حسابه، والذي يخافه الأبرار ويتّقونه، والتلويح لهم بهوان أمرهم على الله الذي خلقهم، ومنحهم ما هم فيه من القوّة، وهو قادر على الذهاب بهم، والإتيان بقوم آخرين، لولا تفضّله عليهم بالبقاء، لتمضي مشيئته في الابتلاء ويلوّح السياق في ختام السورة بعاقبة هذا الابتلاء، وذلك في الآيات [27- 31] . مع آيات السورة [الآية الأولى] : قد أتى على هذا النوع، نوع الإنسان، زمن لم يكن موجودا حتى يعرف ويذكر. والحين طائفة من الزمان غير محدودة. وعن ابن عبّاس وابن مسعود: أنّ الإنسان هاهنا آدم، والحين المحدود، وذلك أنه مكث أربعين سنة طينا، إلى أن نفخ فيه الروح فصار شيئا مذكورا، بعد كونه كالمنسي «1» . [الآية 2] : إنا خلقنا الإنسان من نطفة اختلط فيها ماء الرجل بماء المرأة، مريدين ابتلاءه واختباره، بالتكليف فيما بعد، إذا شبّ وبلغ الحلم، فجعلناه سميعا بصيرا، ليتمكّن من استماع الآيات، ومشاهدة الدلائل والتعقّل والتفكّر. ومقصود الآية: نحن نعامل الإنسان معاملة المختبر له: أيميل إلى أصله الأرضي فيكون حيوانا نباتيّا معدنيّا شهوانيّا، أم يكون إلهيّا معتبرا بالسمع والبصر والفكر؟ [الآية 3] : بيّن الله للإنسان الطريق السوي، بإرسال الرسل وإنزال الكتاب، وهو بالخيار: إما أن يكون شاكرا لنعماء الله، فيسير في الطريق الواضح المرسوم، وإمّا أن يكون كافرا فيعرض ويكفر، ويختار الضلال على الهدى. [الآية 4] : إنّا هيّأنا لمن كفروا بنعمتنا، سلاسل للأقدام، وأغلالا تشدّ بها أيديهم إلى أعناقهم، كما يفعل بالمجرمين في الدنيا، ونارا تتسعّر يلقى فيها بالمسلسلين المغلولين. ثمّ تصف الآيات بعد ذلك نعيم المتّقين، وصفا طويلا لم نجد مثله في سورة سابقة ويستمر هذا الوصف من

_ (1) . تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري 29: 109.

الآية الخامسة إلى الآية الثانية والعشرين، أي 18 آية من مجموع آيات السورة وهي 31، أي أن أكثر من نصف السورة، يصف نعيم المتقين، وحليّهم وملابسهم وخدمهم، وما هم فيه من نعمة ورضوان وملك كبير. ولنسر مع هذه الآيات التي تصف نعيم المتقين. [الآيتان 5- 6] : إنّ شراب الأبرار في الجنّة ممزوج بالكافور، يشربونه في كأس تغترف من عين تفجّر لهم تفجيرا في كثرة ووفرة، وينتفعون بها كما يشاءون، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان، يحبون وصولها إليه. قال مجاهد: يقودونها حيث شاءوا، وتتبعهم حيث مالوا «1» . [الآية 7] : كانوا يوفون بالنذر فيفعلون ما اعتزموا من الطاعات، وما التزموا من الواجبات، أي أنهم يؤدون ما أوجبه الله عليهم بأصل الشرع، وما أوجبوه على أنفسهم بالنذر. وهم يستشعرون الخشية من يوم القيامة، ذلك يوم شديد عذابه، عظيم خطره، كالنار يتطاير شررها فيعمّ شرّها. [الآية 8] : وكانوا يطعمون الطعام، ويقدّمون المعونة النافعة لكلّ مساكين عاجز عن الاكتساب، ولكل يتيم مات كاسبه، ولكل أسير لا يملك لنفسه قوّة ولا حيلة. [الآية 9] : وحين يقدّمون الطعام والمعونة النافعة لكلّ مساكين عاجز عن الاكتساب، ولكلّ يتيم مات كاسبه، لا يترفّعون على عباد الله، ولا يشعرون بالاستعلاء والعظمة، بل يقدّمون المعونة في إخلاص وتجرّد لوجه الله، ولا ينتظرون شكرا ولا إعلانا. قال مجاهد وسعيد بن جبير: أمّا والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم، فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب «2» . [الآية 10] : لقد أخرجوا الصدقة لوجه الله، ولسان حالهم يقول: إنّا نفعل ذلك ليرحمنا ربنا، ويتلقّانا بلطفه في يوم عبوس تعبس فيه الوجوه، قمطرير شديد العبوس. قال النسفي: «وصف اليوم بصفة

_ (1) . تفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي 29/. 164 وانظر تفسير النسفي 4: 338. (2) . تفسير المراغي 29: 166.

أهله من الأشقياء، نحو نهارك صائم، والقمطرير شديد العبوس، الذي يجمع ما بين عينيه» «1» . [الآية 11] : فحفظهم الله من شر ذلك اليوم، وكسا وجوههم نضرة ونضارة، وتنعّما، وفرحا، وسرورا. [الآية 12] : وجزاهم بصبرهم على الإيثار، والتزامهم بأمر الله جنّة يسكنونها، وحريرا يلبسونه. ثمّ تصف الآيات مساكن أهل الجنة، وشرابهم وأوانيه وسقاته، وما تفضّل به عليهم ربهم، من فاخر اللباس والحلي، وأصناف النعيم فتقول: [الآية 13] : هم في جلسة مريحة مطمئنة، الجو حولهم رخاء ناعم، دافئ في غير حر، نديّ في غير برد، فلا شمس تلهب النسائم، ولا زمهرير، أي: لا برد قارس. [الآية 14] : ظلال الجنة قريبة من الأبرار مظلّلة عليهم، وقطوفها وثمارها قريبة دانية في متناول أيديهم، ينالها القائم والقاعد والمتكئ. [الآيات 15- 19] : يطاف عليهم بانية من فضة بيضاء، في صفاء الزجاج، فيرى ما في باطنها من ظاهرها، ممّا لم تعهده الأرض في آنية الفضة، وهي بأحجام مقدّرة تقديرا، يحقّق المتاع والجمال. ثم هي تمزج بالزّنجبيل كما مزجت مرّة بالكافور، وهي كذلك تملأ من عين جارية تسمى سلسبيلا، لشدة عذوبتها واستساغتها للشاربين. وزيادة في المتاع، فإن الذين يطوفون بهذه الأواني والأكواب، هم غلمان صباح الوجوه، لا يفعل فيهم الزمن، ولا تدركهم السن، فهم مخلّدون في سن الصّباحة والصّبا والوضاءة، وهم هنا وهناك كاللؤلؤ المنثور. [الآية 20] : تحمل هذه الآية خطوط هذا النعيم، وتلقي عليه نظرة كاملة فاحصة، تلخّص وقعه في القلب والنظر. فإذا نظرت في الجنة رأيت نعيما عظيما، وملكا كبيرا لا يحيط به الوصف. [الآية 21] : ثم تخصص هذه الآية مظهرا من مظاهر النعيم، والملك الكبير فتقول: إن لباس أهل الجنة السّندس، وهو الحرير الرقيق،

_ (1) . تفسير النسفي 4: 338.

والإستبرق وهو الحرير السميك المبطن، وقد حلّوا أساور من فضّة وتدرج نعيمهم في الارتقاء إلى مدارج الكمال، حتى وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ [الآية 21] وأضاف السقي إلى ذاته للتشريف والتخصيص، شَراباً طَهُوراً (21) مبالغة في طهارته ونظافته بخلاف خمر الدنيا. فهو عطاء كريم من معط كريم، وهذه تضاف إلى قيمة ذلك النعيم. [الآية 22] : ثم ختم وعدهم بالود والتكريم، فقال جلّ وعلا: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) . أي يقال لهؤلاء الأبرار هذا القول، زيادة في سرورهم، إنّ هذا الذي أعطيناكم من الكرامة، كان ثوابا على أعمالكم الصالحة، وكان عملكم في الدنيا مشكورا، حمدكم عليه ربّكم ورضيه لكم، فأثابكم بما أثابكم به من الكرامة. وهذا النطق من الملأ الأعلى، يعدل هذه المناعم كلّها، ويمنحها قيمة أخرى فوق قيمتها، لأنّها جزاء على عمل، وثواب لإنسان اختار الهدى والطريق المستقيم والعمل الصالح، فاستحقّ النعيم والتكريم. [الآية 23] : وبعد أن بيّن الله سبحانه ما في الجنّة من نعيم، ذكّر نبيّه بنعمة الرسالة تسلية لفؤاده، وحثّا له على الصبر والثبات، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) : إنّ القرآن من عند الله أنزله منجّما مفصلا، في ثلاث وعشرين سنة، ليكون أسهل لحفظه وتفهمه ودراسته، ولتكون الأحكام آتية وفق الحوادث التي تجد في الكون، فتكون تثبيتا لإيمان المؤمنين وزيادة في تقوى المتقين. [الآية 24] : اصبر على أمر الله واثبت على الحق، ولا تتبّع أحدا من الآثمين إذا دعاك إلى الإثم، ولا من الكافرين إذا دعاك إلى الكفر إنّ الأمور مرهونة بقدر الله، وهو يمهل الباطل ويملي للشر، كلّ أولئك لحكمة يعلمها، يجري بها قدره، وينفذ بها حكمه. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) . ونهيه (ص) عن طاعة الإثم والكفور، وهو لا يطيع واحدا منهما، إشارة إلى أن الناس محتاجون إلى مواصلة الإرشاد، لما ركّب في طباعهم من الشهوة الداعية إلى اجتراح السيّئات، وأن أحدا لو استغنى عن توفيق الله وإرشاده لكان

أحقّ الناس بذلك هو الرسول المعصوم (ص) . [الآيتان 25- 26] : ودم على ذكره في الصباح والمساء، والخلوة والجلوة، وصلّ بعض الليل كصلاة المغرب والعشاء، واسجد له بالليل وسبّحه طويلا، لأنه مصدر القوة والعناية، وينبوع العون والهداية ومن وجد الله وجد كلّ شيء، فالصلة به سبحانه هي السعادة الكبرى، والعناية العظمى، والزاد الحقيقي الصالح لهذه الرحلة المضنية في طريق الحياة. [الآية 27] : إنّ هؤلاء المشركين بالله يحبّون الدنيا، وتعجبهم زينتها، وينهمكون في لذّتها الفانية، ويتركون اليوم الثقيل، الذي ينتظرهم هناك بالسلاسل والأغلال والسعير، بعد الحساب العسير. والآية تثبيت للنبي (ص) والمؤمنين في مواجهة المشركين، إلى جانب أنّها تهديد ملفوف، لأصحاب العاجلة باليوم الثقيل. [الآية 28] : يتلو ذلك التهديد التهوين من أمرهم عند الله جلّ جلاله، الذي أعطاهم ما هم فيه من قوة وبأس، وهو قادر على الذهاب بهم فهم لا يعجزونه بقوتهم، وهو الذي خلقهم وأعطاهم إيّاها، وهو قادر على أن يخلق أمثالهم في مكانهم، فإذا أمهلهم ولم يبدل أمثالهم فهو فضله ومنّته، وهو قضاؤه وحكمته. [الآية 29] : إنّ هذه السورة بما فيها من ترتيب بديع، ونسق عجيب، ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب، تذكرة وتبصرة لكل ذي عقل وبصيرة. فمن شاء الخير والنجاة لنفسه في الدنيا والاخرة، فليتقرّب إلى ربّه بالطاعة، وليصدّق بالقرآن والرسول الكريم فذلك هو الطريق إلى الله. [الآية 30] : ويعقب على ذلك بإطلاق المشيئة، وردّ كل شيء إليها، ليكون الاتّجاه الأخير إليها، والاستسلام الأخير لحكمها. وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) أي وما تشاؤون اتّخاذ السبيل الموصلة إلى النجاة، ولا تقدرون على تحصيلها، إلّا إذا وفّقكم الله لاكتسابها، وأعدكم لنيلها. ذلك كي تعلم قلوب البشر أن الله هو الفاعل المختار، المتصرّف القهّار: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً (30) بما يصلح العباد، حَكِيماً (30) وضع كل انسان

مجمل ما تضمنته السورة

في موضعه من الهداية والضلال، فهو يعين المتقين على القيام بواجبهم، ويسلب عونه عن المشركين، فيتيهون في بيداء الضلال. [الآية 31] : يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ فيهديه ويوفّقه للطاعة بحسب استعداده، وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) وقد أملى لهم وأمهلهم، لينتهوا إلى هذا العذاب الأليم. وهذا الختام يلتئم مع المطلع، ويصور نهاية الابتلاء، الذي خلق الله له الإنسان من نطفة أمشاج، ووهبه السمع والأبصار، وهداه السبيل إما إلى جنة وإما إلى نار. مجمل ما تضمنته السورة اشتملت سورة الإنسان على خمسة مقاصد: 1- خلق الإنسان. 2- جزاء الشاكرين والجاحدين. 3- وصف النار وصفا قصيرا في آية واحدة، ووصف الجنّة وصفا مسهبا في ما يقرب من 18 آية. 4- ذكر المنّة على رسول الله (ص) ، وأمره بالصبر وقيام الليل. 5- المنّة على الخلق بإحكام خلقهم، وإضافة كلّيّة المشيئة إلى الله تعالى. أسماء السورة لهذه السورة ثلاثة أسماء: 1- سورة هَلْ أَتى لمفتتحها. 2- سورة الإنسان لقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) . 3- سورة الدهر لقوله تعالى: حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الإنسان"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الإنسان» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الإنسان بعد سورة الرحمن، وكان نزول سورة الرحمن فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة الإنسان في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) ، وتبلغ آياتها إحدى وثلاثين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة بيان أثر الشرائع في رفعة الإنسان. وقد اقتضى هذا أن يجري سياقها في شيء من الترغيب والترهيب، فأشبه سياقها بهذا سياق السورة المذكورة قبلها، ولهذا ذكرت بعدها. أثر الشرائع في رفعة الإنسان الآيات [1- 31] قال الله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) ، فذكر أن الإنسان لم يكن شيئا مذكورا قبل أن يرفع شأنه بما أنزله من شرائعه، وأنه، سبحانه، خلقه من نطفة مختلطة بالدم وغيره، ولم يزل ينقله من حال إلى حال حتى جعله سميعا بصيرا، وأنه، جلّ وعلا، هداه السبيل، فمنهم من اهتدى به ومنهم من كفر به فمن كفر به أعدّ له سلاسل وأغلالا وسعيرا، ومن آمن به يشرب

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

من كأس كان مزاجها كافورا إلخ. ثم ذكر، تعالى، أنه نزّل القرآن بهذا على النبي (ص) ، وأمره أن يصبر لحكمه، ونهاه أن يطيع منهم آثما أو كفورا ثم أمره أن يذكره بكرة وأصيلا، وأن يسجد له جزءا من أول الليل، ويسبّح بعد هذا ليلا طويلا ثم ذكر له أن من نهاه عن طاعتهم يحبون العاجلة وينسون يوما ثقيلا، وأنه هو الذي خلقهم وشدّ أسرهم وإذا شاء بدّل أمثالهم تبديلا ثم ذكر أن هذه السورة تذكرة، فمن شاء اهتدى بها وأنهم لا يشاءون شيئا إلّا أن يشاءه، سبحانه، إنه كان عليما حكيما: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الإنسان"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الإنسان» «1» أقول: وجه اتصالها بسورة القيامة في غاية الوضوح: فإنه تعالى ذكر في آخر تلك مبدأ خلق الإنسان من نطفة، ثمّ ذكر مثل ذلك في مطلع هذه السورة، مفتتحا بخلق آدم أبي البشر. ولمّا ذكر هناك خلقه منهما، قال: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) . ولما ذكر هناك خلقه منهما، قال هنا: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) ، فعلّق به غير ما علق بالأول، ثمّ رتب عليه هداية السبيل، وتقسيمه إلى شاكر وكفور، ثمّ أخذ في جزاء كلّ. ووجه آخر: أنّه، لما وصف حال يوم القيامة في تلك السورة، ولم يصف فيها حال النّار والجنّة، بل ذكرهما على سبيل الإجمال، فصّلهما في هذه السورة، وأطنب في وصف الجنّة «2» ، وذلك كله شرح لقوله تعالى هناك: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) . وقوله هنا: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً (4) : شرح لقوله هناك: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) . وقد ذكر هناك: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وذكر هنا في هذه السورة:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . وصف أحوال المؤمنين في الجنّة فصل هنا من قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) الى: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) .

إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا (27) وهذا من وجوه المناسبة «2» .

_ (2) . ومن وجوه المناسبة بين سورة الإنسان وسورة القيامة: أنه تعالى فصّل في «القيامة» أحوال الكافرين عند الموت، وما يعانون من قهر وندم، في قوله عزّ وجلّ: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) إلى: ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) وفي هذه السورة فصّل أحوال المؤمنين في حياتهم، والتي استوجبوا بها النعيم الموصوف في السورة. وذلك من قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) ، إلى فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الإنسان"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الإنسان» «1» 1- هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الآية 1] . قال قتادة: هو آدم (ع) . أخرجه ابن أبي حاتم «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....] (2) . والطبري في «تفسيره» 29: 125.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الإنسان"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الإنسان» «1» 1- وقال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الآية 2] . ونمط التركيب في قوله تعالى: نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ كنمط التركيب في قولهم: برمة أعشار، وبرد أكياش فقد وصف المفرد بهذه الصفات على «أفعال» ، فقالوا: هي ألفاظ مفردة غير جموع. على أنه سمع «مشج» مفرد أمشاج. 2- عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الآية 6] . أقول: والمعنى يشرب منها، ولا عبرة لما قيل ب «التضمين» أي: إن الباء تضمنت معنى «من» ، وذلك لأن كلام الله جرى على لغة العرب، والعرب قد تصرفت بلغتها تصرفا واسعا. ولله حكمة بالغة في وضع كلامه على هيئة لم يدركها البشر. 3- وقال تعالى: وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) . أقول: من أجل حسن الأداء وتناسب الفواصل جاءت قَوارِيرَا (15) بالمد الناجم عن سقوط التنوين المفترض، فإذا ذهب السبب عادت «قوارير» غير ممدودة. ومن أجل شيء آخر وردت (سلاسلا) على الصورة التي جاءت عليها «قواريرا» في قوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً (4) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

وذلك ليتناسب قوله سبحانه سَلاسِلَ (4) مع قوله: وَأَغْلالًا وَسَعِيراً (4) فالتناسب مقصود يقتضيه تجويد الأداء.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الإنسان"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الإنسان» «1» قال تعالى: أَمْشاجٍ [الآية 2] واحدها: «المشج» . وقال: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) كذلك إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ [مريم: 75] بالنصب، كأن السياق لم يذكر «إمّا» . وإن شئت ابتدأت ما بعدها فرفعته. وقال تعالى: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الآية 6] بالنصب من ثلاثة أوجه، إن شئت فعلى قوله يَشْرَبُونَ [الآية 5] عَيْناً وإن شئت، فعلى يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً [الآية 6] وإن شئت فعلى وجه المدح، كما يذكر لك الرجل فتقول أنت: «العاقل اللبيب» أي: ذكرت العاقل اللبيب. على «أعني عينا» . وقال تعالى: وَلا شُكُوراً، إن شئت جعلته جماعة «الشكر» وجعلت «الكفور» جماعة «الكفر» مثل «الفلس» و «الفلوس» . وإن شئت جعلته مصدرا واحدا في معنى جميع مثل: «قعد قعودا» و «خرج خروجا» . وقال تعالى: مُتَّكِئِينَ [الآية 13] على المدح، أو على: «جزاهم جنّة متّكئين فيها» على الحال وقد تقول «جزاهم ذلك قياما وكذلك وَدانِيَةً [الآية 14] على الحال أو على المدح، إنّما انتصابه بفعل مضمر. وقد يجوز في قوله تعالى وَدانِيَةً أن يكون على وجهين على «وجزاهم دانية ظلالها»

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

تقول: «أعطيتك جيدا طرفاه» و «رأينا حسنا وجهه» . وقال: كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا (17) ، بنصب العين على أربعة أوجه على «يسقون عينا» أو على الحال، أو بدلا من الكأس، أو على المدح والفعل مضمر. وقال بعضهم إن «سلسبيل» صفة للعين بالسلسبيل. وقال بعضهم: إنّما المراد: «عينا تسمّى سلسبيلا» أي: تسمى من طيبها، أي: توصف للناس كما تقول: الأعوجيّ» و «الأرحبيّ» و «المهريّ من الإبل» . وكما تنسب الخيل إذا وصفت إلى هذه الخيل المعروفة والمنسوبة، كذلك تنسب العين إلى أنها تسمّى سَلْسَبِيلًا (18) لأنّ القرآن يدل على كلام العرب. قال الشاعر وأنشدناه يونس «1» هكذا من الكامل وهو الشاهد الرابع والسبعون بعد المائتين: صفراء من نبع يسمّى سهمها من طول ما صرع الصّيود الصّيّب فرفع «الصيّب لأنه لم يرد «يسمى سهمها بالصيّب» إنما «الصيّب» من صفة الاسم والسهم. وقوله «يسمى سهمها» : يذكر سهمها. وقال بعضهم: لا بل هو اسم العين، وهو معرفة ولكن لما كان رأس آية، وكان مفتوحا، زيدت فيه الالف كما كانت قَوارِيرَا (15) . وفي قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً [الآية 20] رَأَيْتَ لا تتعدى كما يقول: «ظننت في الدار خير» لمكان ظنّه، وأخبر بمكان رؤيته.

_ (1) . هو يونس بن حبيب البصري، وقد مرت ترجمته.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الإنسان"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الإنسان» «1» إن قيل: لم قال الله تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الآية 2] فوصف المفرد وهي النطفة بالجمع وهو الأمشاج جمع مشج، والأمشاج الأخلاط، والمراد أنه مخلوق من نطفة مختلطة من ماء الرجل والمرأة؟ قلنا: قال الزمخشري رحمة الله تعالى عليه: أمشاج لفظ مفرد لا جمع كقولهم: برمة أعشار، وبيت أكباش، وبر أهدام. وقال غيره الموصوف به أجزاء النطفة وأبعاضها. فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الآية 21] مع أن ذلك في الدنيا إنما هو عادة الإماء، ومن في مرتبتهنّ؟ قلنا: القرآن أول من خوطب به العرب، وكان من عادة رجالهم ونسائهم التحلي بالذهب والفضة منفردين ومجتمعين. الثاني: أنّ الاسم، وإن كان مشتركا بين فضة الدنيا والاخرة، ولكن شتان ما بينهما. قال النبي (ص) «المثقال من فضة الاخرة خير من الدنيا وما فيها» . وكذا الكلام في السندس والإستبرق وغيرهما مما أعده الله تعالى في الجنّة. فإن قيل: أيّ شرف لتلك الدار يسقي الله تعالى عباده الشراب الطهور فيها، مع أنه تعالى في الدنيا سقاهم ذلك، بدليل قوله تعالى: وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) [المرسلات] وقوله تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) [الحجر] . قلنا: المراد به في الاخرة سقيهم بغير واسطة، وشتان ما بين الشرابين والآنيتين أيضا والمنزلتين. فإن قيل: في قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) الضمير لمشركي مكة بلا خلاف، فما معنى تقسيمهم إلى الإثم والكفور، وكلّهم آثم وكلّهم كفور؟ قلنا: المراد بالإثم عتبة بن ربيعة، فإنه كان ركّابا للمآثم متعاطيا لأنواع الفسوق والمراد بالكفور الوليد بن المغيرة، فإنه كان مغاليا في الكفر، شديد الشكيمة فيه مع أن كليهما آثم وكافر، والمراد به نهيه عن طاعتهم فيما كانوا يدعونه إليه من ترك الدعوة، وموافقتهم فيما كانوا عليه من الكفر والضلال. فإن قيل: ما معنى النهي عن طاعة أحدهما، ولماذا لم ينه عن طاعتهما؟ قلنا: قال بعضهم: إن «أو» هنا بمعنى الواو، كما في قوله تعالى: أَوِ الْحَوايا [الأنعام: 146] . الثاني: أنه لو قال تعالى: ولا تطعهما، جاز له أن يطيع أحدهما، وأما إذا قيل له ولا تطع أحدهما كان منهيّا عن طاعتهما بالضرورة. فإن قيل: لم قال تعالى: نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) . والابتلاء متأخّر عن جعله سميعا بصيرا؟ قلنا: قال الفرّاء: فيه تقديم وتأخير تقديره فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه. وقال غيره: معناه ناقلين له من حال إلى حال: نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة، فسمى ذلك ابتلاء من باب الاستعارة. فإن قيل: لم قال الله تعالى: قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ والقوارير اسم لما يتخذ من الزجاج؟ قلنا: معناه أن تلك الأكواب مخلوقة من فضة، وهي مع بياض الفضّة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو ضربت فضّة الدنيا حتى جعلتها جناح الذباب، لم ير الماء من ورائها. وقوارير الجنّة من فضّة ويرى ما فيها من ورائها. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: كانَتْ قَوارِيرَا (15) ؟ قلنا: معناه تكوّنت، فهي من قوله

تعالى: كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس] وكذا قوله تعالى: كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) . فإن قيل: لم شبه الله تعالى الولدان باللؤلؤ المنثور دون المنظوم؟ قلنا: إنما شبّههم سبحانه وتعالى باللؤلؤ المنثور لأنه أراد تشبيههم باللؤلؤ الذي لم يثقب بعد، لأنه إذا ثقب نقصت مائيّته وصفاؤه، واللؤلؤ الذي لم يثقب لا يكون إلّا منثورا. وقيل: إنّما شبههم الله تعالى باللؤلؤ المنثور، لأنّ اللؤلؤ المنثور على البساط أحسن منظرا من المنظوم. وقيل إنما شبههم باللؤلؤ المنثور، لانتشارهم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم وتفريقهم في الخدمة، بدليل قوله تعالى وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ [الآية 19] ولو كانوا وقوفا صفّا لشبهوا بالمنظوم. فإن: قيل لم قال الله تعالى هنا: وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ [الآية 28] أي خلقهم، وقال تعالى في موضع آخر: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء: 28] ؟ قلنا: قال ابن عباس رضي الله عنهما والأكثرون: المراد به أنه ضعيف عن الصبر عن النساء، فلذلك أباح الله تعالى له نكاح الأمة كما سبق قبل هذه الآية. وقال الزجّاج: معناه أنه يغلبه هواه وشهوته، فلذلك وصف بالضعف. وأمّا قوله تعالى: وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ [الآية 28] فمعناه ربطنا أوصالهم بعضها إلى بعض، بالعروق والأعصاب. وقيل المراد بالأسر العصعص، فإنّ الإنسان في القبر يصير رفاتا إلا عصعصه فإنه لا يتفتّت. وقال مجاهد: المراد بالأسر مخرج البول والغائط، فإنه يسترخي حتى يخرج منه الأذى، ثم ينقبض ويجتمع ويشتدّ بقدرة الله تعالى.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الإنسان"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الإنسان» «1» في قوله سبحانه: وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) استعارة. وحقيقة الاستطارة من صفات ذوات الأجنحة. يقال: طار الطّائر، واستطرته أنا إذا بعثته على الطّيران. ويقولون أيضا من ذلك على طريق المجاز: استطار لهيب النّار، إذا انتشر وعلا، وظهر وفشا. فكأنه سبحانه قال: يخافون يوما كان شرّه فاشيا ظاهرا، وعاليا منتشرا. وفي قوله سبحانه: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) استعارة. لأن «العبوس» من صفة الإنسان القاطب المعبّس. فشبّه سبحانه ذلك اليوم لقوّة دلائله على عظيم عقابه، وأليم عذابه، بالرجل العبوس الذي يستدلّ بعبوسه وقطوبه على إرصاده بالمكروه، وعزمه على إيقاع الأمر المخوف. وأصل العبوس تقبيض الوجه، وهو دليل السخط، وضده الاستبشار والتطلّق وهما دليلا الرضا والخير. وكما سمّت العرب اليوم المحمود طلقا، فكذلك سمّت اليوم المذموم عبوسا. ويقال: يوم قمطرير وقماطر إذا كان شديدا ضرّه، طويلا شرّه. وفي قوله سبحانه: وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا (14) استعارة. والمراد بتذليل القطوف، وهي عناقيد الأعناب وواحدها قطف «2» أنها جعلت قريبة من أيديهم، غير ممتنعة على مجانيهم، لا يحتاجون إلى معاناة في

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . القطف بكسر القاف: العنقود ساعة يقطف، أو اسم للثمار المقطوفة. والجمع قطوف، وقطاف.

اجتنائها، ولا مشقّة في اهتصار أفنانها، فهي كالظّهر الذلول الذي يوافق صاحبه، ويواتي راكبه. والتذليل هاهنا مأخوذ من الذّلّ بكسر الذال، وهو ضد الصعوبة. والذّل، بضم الذال، ضدّ العز والحميّة. وقوله سبحانه: إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا (27) استعارة. وقد مضى الكلام على نظيرها فيما تقدّم. والمراد باليوم الثقيل هاهنا: استثقاله من طريق الشدّة والمشقّة، لا من طريق الاعتماد بالأجزاء الثقيلة. وقد يوصف الكلام بالثقيل على هذا الوجه، وهو عرض من الأعراض، فيقول القائل: قد ثقل عليّ خطاب فلان، وما أثقل كلام فلان.

الفهرس

الفهرس سورة «التغابن» المبحث الأول أهداف سورة «التغابن» 3 مع السورة 4 روابط الأسرة 5 المعنى الإجمالي للسورة 7 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التغابن» 9 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 9 الغرض منها وترتيبها 9 الإنذار بعذاب الدنيا والاخرة 9 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التغابن» 11 المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «التغابن» 13 المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «التغابن» 15

سورة"الطلاق"

المبحث السادس المعاني المجازية في سورة «التغابن» 17. سورة «الطلاق» المبحث الأول أهداف سورة «الطلاق» 21 العناية بالأسرة 21 الطلاق 22 مع السورة 24 المعنى الإجمالي للسورة 26 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الطلاق» 29 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 29 الغرض منها وترتيبها 29 حكم الطلاق والعدة 29 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الطلاق» 31 المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الطلاق» 33 المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الطلاق» 35.

سورة"التحريم"

سورة «التحريم» المبحث الأول أهداف سورة «التحريم» 41 قصة التحريم 42 تحريم مارية 44 تحريم العسل 44 النبيّ (ص) يهجر نساءه 45 اصطفاء الرسول (ص) 46 مع السورة 47 المعنى الإجمالي للسورة 48 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التحريم» 51 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 51 الغرض منها وترتيبها 51 قصّة التحريم 51 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التحريم» 53 المبحث الرابع مكنونات سورة «التحريم» 55 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «التحريم» 57 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «التحريم» 59

سورة"الملك"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «التحريم» 61 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «التحريم» 65. سورة «الملك» المبحث الأول أهداف سورة «الملك» 71 مطلع السورة 71 مع آيات السورة 72 المعنى الإجمالي للسورة 76 أسماء السورة 77 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الملك» 79 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 79 الغرض منها وترتيبها 79 الدعوة الى الإيمان بالله تعالى 79 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الملك» 81 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الملك» 83 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الملك» 85

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الملك» 87 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الملك» 89 «سورة «القلم» المبحث الأول أهداف سورة «القلم» 95 مع آيات السورة 95 قصة يونس 99 المعنى الإجمالي للسورة 100 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القلم» 103 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 103 الغرض منها وترتيبها 103 تثبيت النبي (ص) 103 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القلم» 105 المبحث الرابع مكنونات سورة «القلم» 107 المبحث الخامس لغة التنزيل في «سورة القلم» 109 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «القلم» 111

سورة"الحاقة"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «القلم» 113 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «القلم» 115. سورة «الحاقة» المبحث الأول أهداف سورة «الحاقّة» 119 مع آيات السورة 119 المعنى الإجمالي للسورة 123 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحاقّة» 125 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 125 الغرض منها وترتيبها 125 إثبات يوم القيامة 125 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحاقّة» 127 المبحث الرابع مكنونات سورة «الحاقّة» 129 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحاقّة» 131 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحاقّة» 133

سورة"المعارج"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحاقّة» 135 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحاقّة» 137. سورة «المعارج» المبحث الأول أهداف سورة «المعارج» 143 تنوع أساليب القرآن 143 مع آيات السورة 144 مجمل ما تضمنته السورة 146 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المعارج» 147 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 147 الغرض منها وترتيبها 147 بيان قرب العذاب 147 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المعارج» 149 المبحث الرابع مكنونات سورة «المعارج» 151 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المعارج» 153 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المعارج» 155

سورة"نوح"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المعارج» 157 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المعارج» 159. سورة «نوح» المبحث الأول أهداف سورة «نوح» 163 فكرة السورة 163 أهداف الرسالات 163 مع آيات السورة 164 المعنى الإجمالي للسورة 166 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «نوح» 167 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 167 الغرض منها وترتيبها 167 قصة نوح 167 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «نوح» 169 المبحث الرابع مكنونات سورة «نوح» 171 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «نوح» 173

سورة"الجن"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «نوح» 175 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «نوح» 177 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «نوح» 179. سورة «الجن» المبحث الأول أهداف سورة «الجن» 185 أوهام عن الجن 185 الجن في القرآن 186 استماع الجن للقرآن 187 أسماء السورة 188 مع آيات السورة 188 المقصد الإجمالي للسورة 192 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الجن» 195 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 195 الغرض منها وترتيبها 195 قصة إيمان بعض الجن 195 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الجن» 197

سورة"المزمل"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الجن» 199 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الجن» 201 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الجن» 203 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الجن» 205 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الجن» 207. سورة «المزمل» المبحث الأول أهداف سورة «المزمّل» 211 مع آيات السورة 212 خلاصة أحكام السورة 214 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المزمّل» 217 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 217 الغرض منها وترتيبها 217 تهيئة النبي (ص) للدعوة 217 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المزمّل» 219

سورة"المدثر"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «المزمّل» 221 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «المزمّل» 223 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «المزمّل» 225 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «المزمّل» 227. سورة «المدثر» المبحث الأول أهداف سورة «المدّثّر» 231 مع آيات السورة 233 مقاصد السورة إجمالا 236 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المدّثّر» 237 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 237 الغرض منها وترتيبها 237 استنهاض النبي (ص) للدعوة 237 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المدّثّر» 239 المبحث الرابع مكنونات سورة «المدّثّر» 241

سورة"القيامة"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المدّثّر» 243 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المدّثّر» 245 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المدّثّر» 247 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المدّثّر» 249. سورة «القيامة» المبحث الأول أهداف سورة «القيامة» 253 مع آيات السورة 254 مقصود السورة 258 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القيامة» 259 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 259 الغرض منها وترتيبها 259 إثبات البعث 259 المبحث الثالث مكنونات سورة «القيامة» 261 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «القيامة» 263

سورة"الإنسان"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «القيامة» 265 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «القيامة» 267 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «القيامة» 269. سورة «الإنسان» المبحث الأول أهداف سورة «الإنسان» 273 تسلسل أفكار السورة 274 مع آيات السورة 275 مجمل ما تضمنته السورة 280 أسماء السورة 280 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الإنسان» 281 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 281 الغرض منها وترتيبها 281 أثر الشرائع في رفعة الإنسان 281 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الإنسان» 283 المبحث الرابع مكنونات سورة «الإنسان» 285

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الإنسان» 287 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الإنسان» 289 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الإنسان» 291 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الإنسان» 294..

الجزء الحادي عشر

الجزء الحادي عشر توضيح ينبغي لنا الإشارة إلى أنّ بعض المباحث التي كانت مطّردة في المجلدات السابقة ستغيب عن هذا المجلد وما سيليه من مجلدات. ومردّ ذلك إلى أنّ طبيعة السور القرآنية الكريمة التي غابت عنها تلك المباحث، لا تستجيب لدواعي بعض العناوين فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ سورة قرآنية كريمة، لا تشتمل على معان لغوية غامضة، أو لا يكتنفها شيء من التغاير في الفهم والتحليل، لا تحتاج إلى مبحث «المعاني اللغوية» . وكذلك، فإن سورة قرآنية كريمة لا يتضمّن نصّها مجازا، لا تستجيب، وفاقا لنمط بيانها، إلى مبحث «المعاني المجازية» ... وقس على ذلك. وغنيّ عن القول أنّ أصحاب المصادر والمراجع التي ارتكزت عليها هذه الموسوعة هم أهل معرفة ودراية، بل هم أهل الاختصاص في هذا الشأن ولم يتركوا هذه المباحث سهوا أو نشدانا لراحة، أو تخفيفا من عناء. وما كان لهم أن يغفلوها لو أنهم وجدوا ما يقتضيها ناهيك من أنّ بعض المباحث قد استوفت أغراضها في آيات متشابهات من سور تضمنتها المجلدات السابقة. فصار الكلام عليها، في هذا المجلد وما يليه، من قبيل التكرار.

سورة المرسلات 77

سورة المرسلات 77

المبحث الأول أهداف سورة"المرسلات"

المبحث الأول أهداف سورة «المرسلات» «1» سورة المرسلات سورة مكّية، آياتها خمسون آية، نزلت بعد سورة الهمزة. وسورة المرسلات سورة قصيرة الآيات، عاصفة الملامح، شديدة الإيقاع، كأنها سياط لاذعة تلهب صدور المنكرين، توقف القلب البشري وقفة المحاكمة الرهيبة، فتواجهه بسيل من الاستفهامات والاستذكارات، والتهديدات، تنفذ إليه كالسهام المسنونة. «وتعرض السورة عددا من المشاهد المتنوّعة عن الكون وخلق الإنسان واليوم الآخر، وعذاب المجرمين ونعيم المتّقين. وعقب كلّ مشهد تلفح المذنب لفحة من التهديد والوعيد، حين تقول وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة، وهو لازمة الإيقاع فيها، وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادّة، ومشاهدها العنيفة، وإيقاعها الشديد، وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة الرحمن، عقب عرض كل نعمة من نعم الله على العباد فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) . كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة القمر، عقب كل حلقة من حلقات العذاب: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ وتكرارها هنا على هذا النحو يجعل للسورة سمة خاصة، وطعما مميّزا حادّا» «2» .

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. (2) . في ظلال القرآن 29/ 231، بتصرف.

تسلسل أفكار السورة

تسلسل أفكار السورة تبدأ السورة بقسم عاصف ثائر، بمشهد الرياح أو الملائكة، يتبعه عشر جولات متتابعة، تثير في النفس طائفة من التأملات، والمشاعر، والخواطر، والتأثّرات والاستجابات. 1-[فالآيات 8- 15] تصف مشاهد القيامة وتصوّر الانقلابات الكونيّة الهائلة في السماء والأرض. وفي هذا اليوم تنتهي حسابات الرسل مع البشر، ويتبيّن الصادق من الكاذب. 2-[والآيات 16- 19] تصف مصارع الغابرين، وتشير إلى سنن الله تعالى في المكذّبين، فكما أهلك قوم نوح بالغرق، وأهلك أمم عاد وثمود وفرعون، فهو يفعل ذلك بكل مكذّب برسالات السماء، وهدي الأنبياء. 3-[والآيات 20- 24] تصف النشأة الأولى، وما تشير إليه من تقدير وتدبير. 4-[والآيات 25- 28] تصف الأرض التي تضم أبناءها إليها، أحياء وأمواتا، وقد جهّزت لهم بالاستقرار والجبال والمياه. 5-[والآيات 29- 34] تصف حال المكذّبين يوم القيامة، وما يلقونه من تقريع وتأنيب. 6-[والآيات 35- 37] استطراد مع موقف المكذّبين، وبيان ألوان العذاب والهوان الذي يتعرّضون له. 7-[والآيات 38- 40] تصف ضعف الإنسان، وفقدان حيلته، أمام الجمع والحشر والحساب والجزاء. 8-[والآيات 41- 45] تصف نعيم المتّقين، وطعامهم وشرابهم وتكريمهم. 9-[والآيتان 46- 47] خطفة سريعة مع المكذّبين، في موقف التأنيب. 10-[والآيات 48- 50] وصف لحال المكذّبين، وامتناعهم عن الإيمان. والاستجابة لآيات القرآن. وبعض هذه المشاهد قد سبق ذكره، وتكرّر وروده في القرآن الكريم، وفي السور المكية بوجه خاص. ولكنها تعرض هنا سريعة أخّاذة، لها رنين وجدّة في مشاهد جهنّم، وفي مواجهة المكذّبين بهذه المشاهد، وفي أسلوب

مع آيات السورة

العرض والخطاب كلّه ومن ثمّ تبرز شخصية خاصة للسورة حادّة الملامح، متنوّعة في أساليب الخطاب، متنقّلة من قسم إلى خبر إلى استفهام إلى أمر، فذلك كلام الله، ومن أحسن من الله حديثا؟ مع آيات السورة [الآيات 1- 7] : يقسم الله تعالى بطوائف الملائكة، يرسلهنّ بالمعروف والإحسان، وأوامره الكريمة، فيعصفن عصف الرياح مسرعات وينشرن شرائعه في الأرض، فيفرقن بها بين الحقّ والباطل، ويلقين إلى أنبيائه ذكرا يريد تبليغهم إيّاه، عذرا للمحقّين، ونذرا للمبطلين يقسم بهذه الملائكة على أن ما توعدون من مجيء القيامة واقع لا محالة. وقيل إن القسم في هذه الآيات بالرّياح، وآثارها في الكون، ونشرها السحاب في الأفق. وقيل إن القسم في الآيات الثلاث الأولى بالرياح متتابعة كعرف الفرس، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) الشديدة المهلكة، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) التي تنشر المطر، فأقسم سبحانه بالرياح النافعة والضارة. والقسم في الآيات [4- 6] بالملائكة: فإنها تنزل بأمر الله على الرسل، تفرق بين الحق والباطل، وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق وإنذار. ولعل من إعجاز القرآن أنّ الآية تشير إلى معنى وتحتمل معنى، وتستتبع معنى آخر ولعل هذا التجهيل والخلاف في مفهوم الآية مقصود لله سبحانه، ليكون أثرها أقوى في النفس. وقد ذكر ابن جرير الطبري تفسير هذه الآيات، وعند تفسير وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) بيّن أن بعض المفسّرين قال هي الرياح، وبعضهم قال: هي المطر، وبعضهم قال: هي الملائكة. ثم عقّب الطبري بقوله: «وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره أقسم بالناشرات نشرا، ولم يخصّص شيئا من ذلك دون شيء، فالرياح تنشر السحاب، والمطر ينشر الأرض، والملائكة تنشر الكتب، ولا دلالة من وجه يجب التسليم له، على أن المراد من ذلك بعض دون بعض، فدل ذلك

على أن المراد بالآية كل ما كان ناشرا» «1» . [الآيات 8- 15] : يوم تطمس النجوم فيذهب نورها، وتفرج السماء أي تشقّ، وتنسف الجبال فهي هباء. وإلى جانب هذا الهول في مشاهد الكون، تعرض السورة أمرا مؤجّلا، هو موعد الرسل لعرض حصيلة الدعوة والشهادة على الأمم، والقضاء والفصل بين كل رسول وقومه، يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة/ 109] . وفي هذا اليوم عذاب وخزي لمن كذّب بالله ورسله وكتبه، وبكلّ ما ورد على ألسنة أنبيائه وأخبروا به. [الآيات 16- 19] : تجول هذه الآيات في مصارع الأوّلين والآخرين، وفي ضربة واحدة تكشف مصارع الأوّلين، من قوم نوح ومن بعدهم، وتتكشّف مصارع الآخرين، ومن لفّ لفّهم. وعلى مد البصر تتبدّى المصارع والأشلاء، فهي سنّة الله التي لا تتبدّل، من سيادة الصالحين، وهلاك المجرمين. وفي الآخرة هلاك وعذاب شديد للمكذّبين. [الآيات 20- 24] : هذه الآيات جولة في الإنشاء والإحياء، مع التقدير والتدبير، فهي تصف خلق الإنسان من نطفة مراقة، تستقرّ في حرز مكين وهو الرّحم، حتى تصير جنينا مكتملا فَقَدَرْنا وقت ولادته فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [الآية 23] ، نحن، على التدبير وإحكام الصنعة. وفي الآخرة عذاب شديد للمكذّبين بآيات الله وقدرته وحكمته. [الآيات 25- 28] : وهذه الآيات جولة في خصائص الأرض، وتقدير الله فيها لحياة البشر، وإيداعها الخصائص الميسرة لهذه الحياة: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) «2» تحتضن بنيها وتجمعهم أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) ، وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ [الآية 27] ثابتات سامقات، تتجمّع على قممها السحب، وتنحدر عنها مساقط الماء العذب، أفيكون هذا إلّا عن قدرة وتقدير، وحكمة وتدبير؟ .. أفبعد هذا يكذّب المكذّبون؟ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) . [الآيات 29- 34] : تنتقل الآيات في وصف مشهد من مشاهد القيامة، والكفّار ينطلقون بعد طول احتباس إلى

_ (1) . تفسير الطبري 29/ 142 مطبعة بولاق، الطبعة الأولى، 1329 هـ. (2) . الكفات: ما يكفت أي يضمّ ويجمع.

العذاب الذي كانوا يكذّبون به في الدنيا. إنّه انطلاق خير منه الارتهان والاحتباس، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) ، وهو دخان جهنّم يتشعّب لعظمه ثلاث شعب، وتمتدّ ألسنته إلى أقسام ثلاثة، بعضها أشد من بعض، ولكنه ظلّ خير منه الوهج لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) ، إنه ظلّ خانق حارّ لافح، وتسميته بالظّلّ من باب التهكّم والسخرية، فهو لا يظلّ من حرّ ذلك اليوم، ولا يقي من لهب جهنّم «1» . إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) أي أن هذه النار يتطاير منها شرر متفرّق في جهات كثيرة، كأنه القصر عظما وارتفاعا، وكأنه الجمال الصفر لونا وكثرة وتتابعا وسرعة حركة وفي اللحظة التي يستغرق فيها الحس بهذا الهول، يجيء التعقيب المعهود: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) . [الآيات 35- 37] : هذا يوم لا يتكلّمون فيه بحجّة نافعة تنقذهم ممّا هم فيه، ولو كانت لهم حجّة لما عذّبوا هذا العذاب، ولا يؤذن لهم بالاعتذار ولا يقبل منهم، فالهلاك لمن كذّب بعذاب يوم القيامة. «وقد سئل ابن عبّاس رضي الله عنهما عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) [الزمر] ، فقال: في ذلك اليوم مواقف، في بعضها يختصمون، وفي بعضها لا ينطقون، أو لا ينطقون بما ينفعهم فجعل نطقهم كلا نطق» «2» والعرب تقول لمن ذكر ما لا يفيد: ما قلت شيئا. [الآيات 38- 40] : هذا يوم الفصل

_ (1) . في الشعر العربي: والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار والرمضاء هي الرمل الساخن من شدة الحر، أي من قصد عمرا وهو في كربة فلن يجد ما يخفف عنه، بل سيجد ما يزيده ألما، وينقله إلى ما هو أشدّ، كمن ينتقل من حرارة الرمال إلى حرارة النار. وكذلك الكفّار ينتقلون من حرارة المحشر، إلى ظل خانق لا يحمي من الحر ولا يقي من النار، وهو ظلّ مؤلم لا مريح. (2) . تفسير النسفي 4/ 242، 243.

لا يوم الاعتذار، وقد جمعناكم والأوّلين أجمعين، فإن كان لكم تدبير فدبّروه، وإن كانت لكم حيلة في دفع العذاب عنكم فاحتالوا لتخليص أنفسكم من العذاب. وفي هذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا، وإظهار لعجزهم وقصورهم حينئذ، فهم في صمت كظيم، وتأنيب أليم. والويل الشديد في ذلك اليوم للمكذّبين بالبعث والجزاء. [الآيات 41- 45] : إنّ المتّقين في ظلال حقيقية، هي ظلال الأشجار على شواطئ الأنهار، فلا يصيبهم حرّ ولا قرّ، ويتمتّعون بما تشتهيه أنفسهم من الفواكه والمآكل الطيّبة. ومع التكريم الحسي يلقون ألوان التكريم المعنوي، فيقال لهم على مرأى ومسمع من الجموع: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) : جزاء بما عملتم في الدنيا من طاعة ربكم، واجتهدتم في ما يقرّبكم من رضوانه، فهل جزاء الإحسان في الدنيا إلّا الإحسان في الجنة؟. وبمثل هذا الجزاء نجزي كل الذين يحسنون في أعمالهم وأقوالهم، وشأنهم الإحسان، ويقابل هذا النعيم الويل للمكذّبين. [الآيتان 46- 47] : كلوا وتمتعوا قليلا في هذه الدار بقيّة أعماركم، وهي قليلة المدى إذا قيست بالآخرة، وهناك ستحرمون، وتعذّبون طويلا: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) . [الآيات 48- 50] : وإذا قيل لهؤلاء المكذّبين اعبدوا الله وأطيعوه، لا يستجيبون ولا يمتثلون، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) بأوامر الله ونواهيه، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) : أي إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل على تجلّيها ووضوحها، فبأيّ كلام بعد هذا يصدّقون؟ والذي لا يؤمن بهذا الحديث الذي يهزّ الرواسي، وبهذه الهزّات التي تزلزل الجبال، لا يؤمن بحديث بعده أبدا، إنّما هو الشقاء والتعاسة والمصير البائس، والويل المدّخر لهذا الشقيّ المتعوس. إن هذه السورة ببنائها التعبيري، وإيقاعها المتناسب، ومشاهدها العنيفة، ولذعها الحاد، حملة لا يثبت لها كيان، ولا يتماسك أمامها إنسان فسبحان الذي نزّل القرآن وأودعه ذلك السلطان.

مقاصد السورة

مقاصد السورة من مقاصد سورة المرسلات ما يأتي: 1- القسم بالملائكة على أن البعث حقّ، وأنّ القيامة آتية. 2- الإخبار عن هلاك القرون الماضية، ووعيد المكذّبين بالمصير نفسه. 3- المنّة على الخلائق بنعمة الخلق والتكوين، وسائر النعم في الأنفس والآفاق. 4- وصف عذاب المكذّبين بما تشيب من هوله الولدان. 5- وصف نعيم المتّقين وما يلقونه من الكرامة في جنات النعيم، وبيان عظمة الخالق وكمال قدرته. والحمد لله الذي بنعمته تكون الصالحات، وصلّ اللهمّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"المرسلات"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المرسلات» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة المرسلات بعد سورة الهمزة، ونزلت سورة الهمزة بعد سورة القيامة، وكان نزول سورة القيامة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة المرسلات في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) ، وتبلغ آياتها خمسين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة: إثبات وقوع ما يوعدون به من العذاب، وبهذا جاء سياقها في الإنذار والترهيب والترغيب، كما جاء سياق السورة السابقة ولهذا جاء ذكرها بعدها مناسبا لها. إثبات وقوع العذاب الآيات [1- 50] قال الله تعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فأقسم، سبحانه، بهذا على وقوع ما يوعدون به من العذاب، ثمّ ذكر أنّه إذا طمست النجوم وحصل غير هذا مما ذكره، فإنه يكون يوم الفصل في عذابهم وويل يومئذ لهم، ثم ذكر، جلّ وعلا، أنه كما أهلك الأولين

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....]

والآخرين يهلكهم هم، وويل يومئذ لهم ثم ذكر أنه قد خلقهم من ماء مهين، وجعل الأرض كفاتا، إلى غير هذا مما يدل على قدرته على عذابهم. ثم انتقل السياق إلى الترغيب بعد الترهيب، فذكر، سبحانه، أنّ المتقين في ظلال وعيون، إلى غير هذا مما ذكره في ترغيبهم، ثم عاد السياق إلى ترهيب المكذّبين، فأمرهم، على سبيل التهديد، أن يأكلوا ويتمتعوا، إنهم مجرمون وذكر أنهم، إذا قيل لهم اركعوا، لا يركعون: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"المرسلات"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المرسلات» «1» أقول: وجه اتّصالها بالسورة السابقة: أنّه تعالى، لمّا أخبر في خاتمتها، أنّه يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) ، افتتح هذه بالقسم على أن ما يوعدون واقع، فكان ذلك تحقيقا لما وعد به هناك المؤمنين، وأوعد الظالمين. ثم ذكر وقته وأشرطه بقوله سبحانه: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) إلى آخره. ويحتمل أن تكون الإشارة بما يوعدون إلى جميع ما تضمنته السورة من وعيد للكافرين، ووعد للأبرار «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . وهناك مناسبة بين «القيامة» و «الإنسان» و «المرسلات» من ناحية خلق الإنسان. ففي «القيامة» قال تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) ، فذكر بداية الخلق. وفي «الإنسان» تدرّج إلى الحديث عن إتمام بناء الإنسان حتّى صار شديد الأسر: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ [الآية 28] . ولمّا كانت قوة الإنسان مظنّة كبريائه، ذكّره، في «المرسلات» ، بمهانة أصله: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) . ومعاني السور الثلاث تدور حول الأصول. ولذلك قال تعالى في «المرسلات» : فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) ، إعلاما بقهره للعباد.

المبحث الرابع مكنونات سورة"المرسلات"

المبحث الرابع مكنونات سورة «المرسلات» «1» أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة، قال: 1- وَالْمُرْسَلاتِ [الآية 1] : الملائكة «2» . وعن أبي صالح، أنه قال في: 2- وَالنَّاشِراتِ [الآية 3] . 3- فَالْفارِقاتِ [الآية 4] . 4- فَالْمُلْقِياتِ [الآية 5] : الملائكة «3» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . وأخرج الطبري 29/ 140 عن ابن مسعود وابن عبّاس ومجاهد وغيرهم: أنّها الرياح، ثمّ قال: «ولا دلالة تدل على أنّ المعنيّ بذلك أحد الحزبين دون الآخر، وقد عمّ جلّ ثناؤه بإقسامه بكل ما كانت صفته ما وصف، فكل من كان صفته كذلك فداخل في قسمه ذلك، ملكا أو ريحا أو رسولا من بني آدم مرسلا» . (3) . وأخرجه الطبري 29/ 142، وروى عن آخرين: أنها الرياح، وقال آخرون: هي المطر. قال أبو جعفر الطبري: «وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالناشرات نشرا ولم يخصّص شيئا من ذلك دون شيء فالرياح تنشر السحاب، والمطر ينشر الأرض، والملائكة تنشر الكتب. ولا دلالة من وجه، يجب التسليم له، على أن المراد من ذلك بعض دون بعض، فذلك على كلّ من كان ناشرا» .

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"المرسلات"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المرسلات» «1» 1- قال تعالى: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) . قرئ: (جملت) بكسر الجيم بمعنى جمال (جمع جمل) ، و (جمالة) بالضم، وهي القلس «2» للجسور أو السفينة. وقرئ (جمالات) و (جمالات) بالضم والكسر، للقلوس.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . القلس: الحبل الضّخم.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"المرسلات"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المرسلات» «1» قال تعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) كلها قسم على إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) . وقال: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) فأضمر الخبر والله أعلم. وقال سبحانه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) على الحال. وقال تعالى: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) بالرفع لأنه قطع من الكلام الأوّل، وإن شئت جزمته إذا عطفته على نُهْلِكَ . وقال تعالى: وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) أي: جعلنا لكم ماء تشربون منه. وقال: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ [الإنسان/ 21] للشفة، وما كان للشفة فهو بغير ألف وفي لغة قليلة قد يقول للشفة أيضا «أسقيناه» قال لبيد «2» [من الوافر، وهو الشاهد الخامس والسبعون بعد المائتين] : سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال «3» وقال تعالى: إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) ثم استأنف السياق:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هو لبيد بن ربيعة العامري أحد شعراء المعلّقات، وأحد مخضرمي الجاهلية والإسلام. ترجمته في طبقات فحول الشعراء 1/ 135، والشعر والشعراء 1/ 274، والأغاني 14/ 93 و 15/ 136. (3) . الشاهد في ديوانه 93 والصحاح واللسان (سقي) .

إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) أي: كالقصور «1» وقرأ بعضهم (كالقصر) أي: كأعناق الإبل. وقال تعالى: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) ، بعض العرب يجمع «الجمال» على «الجمالات» «2» كما تقول «الجزرات» وقرأ بعضهم (جمالات) «3» وليس يعرف هذا الوجه. وقال تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) فرفع «4» ، ونصب بعضهم «5» على قوله: «هذا الخبر يوم لا ينطقون» وكذاك هذا يَوْمُ الْفَصْلِ «6» [الآية 38] ، وترك التنوين للاضافة، كأنّ السياق: «هذا يوم لا نطق» وان شئت نوّنت اليوم إذا أضمرت فيه، كأنّك قلت «هذا يوم لا ينطقون فيه» .

_ (1) . القراءة بفتح القاف وسكون الصاد هي في الطبري 29/ 239 إلى قرّاء الأمصار وابن عبّاس، وفي البحر 8/ 407 إلى الجمهور. (2) . هي في معاني القرآن 3/ 225 إلى عمر بن الخطّاب، وفي الطبري 29/ 242 الى عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيّين، وفي السبعة 666 الى ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي بكر عن عاصم، وفي الكشف 2/ 358، والتيسير 218، والجامع 19/ 165 الى غير حفص والكسائي، وفي البحر 8/ 407 الى الجمهور ومنهم عمر بن الخطاب. (3) . في الطبري 29/ 243 الى ابن عبّاس، وزاد في الجامع 19/ 165 مجاهدا وحميدا، وزاد في البحر 408 قتادة وابن جبير والحسن وأبا رجاء، وأهمل حميدا ومجاهدا، وكذلك في المحتسب 2/ 347. (4) . في معاني القرآن 3/ 225 هي إجماع القراء. وفي البحر 8/ 407 إلى الجمهور. [.....] (5) . في الشواذ 167 إلى الأعرج والأعمش، وزاد في البحر 8/ 407 زيد بن علي وعيسى وأبا حيوة وعاصما في رواية. (6) . الصافات 37/ 21 أيضا.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"المرسلات"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المرسلات» «1» إن قيل: قوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) ينفي وجود الاعتذار منهم لأن الاعتذار إنما يكون بالنطق، فما فائدة نفي الاعتذار بعد نفي النطق؟ قلنا: معناه أنهم لا ينطقون، بعذر مقبول وحجة صحيحة، لا ابتداء ولا بعد أن يؤذن لهم في الاعتذار، فإنّ الأسير والجاني الخائف، عادة، قد لا ينطق لسانه بعذره وحجته، ابتداء، لفرط خوفه ودهشته، ولكن إذا أذن له في إظهار عذره وحجته، انبسط وانطلق لسانه، فكانت الفائدة في الجملة. الثاني: نفي هذا المعنى: أي لا ينطقون بعذر، ابتداء ولا بعد الإذن. فإن قيل: قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [غافر/ 52] يدلّ على وجود الاعتذار منهم، فكيف التوفيق بينه وبين ما نحن فيه؟ قلنا: قيل: المراد، بتلك، الظالمون من المسلمين، وبما نحن فيه يراد الكافرون وآخر تلك الآية يضعف هذا الجواب: أي قوله تعالى: وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) [غافر] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"المرسلات"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المرسلات» «1» قوله سبحانه: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) هو استعارة. والمراد بطمس النجوم، والله أعلم، محو آثارها، وإذهاب أنوارها، وإزالتها عن الجهات التي كان يستدلّ بها، ويهتدى بسمتها. فصارت كالكتاب المطموس الذي أشكلت سطوره، واستعجمت حروفه. والطمس في المكتوبات حقيقة. وفي غيرها استعارة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

سورة النبأ 78

سورة النّبأ 78

المبحث الأول أهداف سورة"النبأ"

المبحث الأول أهداف سورة «النبأ» «1» سورة «النبأ» سورة مكّية، آياتها أربعون آية، نزلت بعد سورة «المرسلات» . تبدأ سورة النبأ بسؤال موح، مثير للاستهوال والاستعظام، وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه ولا شبهة، ثم يأتي تهديدهم بأنهم سيعلمون حقيقة هذا النبأ [الآيات 1- 5] . ثم يلفت السياق الأنظار الى عدد من المشاهد والحقائق، المتمثّلة في خلق الأرض، وإرساء الجبال، وخلق الذكر والأنثى للتناسل والتكاثر وإشباع الرغبة وحاجة كل طرف الى الآخر، وخلق الليل سكنا، والنوم راحة وأمنا، والنهار سعيا ومعاشا، وخلق السماء والشمس، وإنزال المطر وإنبات النبات والبساتين [الآيات 6- 16] . ثم يعود السياق الى مشهد القيامة والبعث في [الآيات 17- 20] ويصف جهنم وأهوالها وعذابها، وجحود أهلها وتكذيبهم بآيات الله [الآيات 21- 30] . ثم يصف نعيم المتّقين في الجنّة وصنوف التكريم والحسّ المعنويّ [الآيات 31- 36] . وتختم السورة بمشهد جليل، في يوم القيامة، يوم تقوم الملائكة صفّا، ويشتدّ الهول، ويلقى كل إنسان جزاء عمله [الآيات 37- 40] .

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع آيات السورة

مع آيات السورة كان المشركون، كلّما اجتمعوا في ناد من أنديتهم، أخذوا يتحدّثون ويسأل بعضهم بعضا، ويسألون غيرهم، فيقولون: أساحر هو أم شاعر، أم كاهن، أم اعتراه بعض آلهتنا بسوء؟ ويتحدّثون في شأن القرآن: أسحر هو، أم شعر، أم كهانة؟ ويقول كلّ واحد ما شاء له هواه، والرسول سائر قدما في تبليغ رسالته، وأمامه مصباحه المنير الذي يضيء للناس سبيل الرشاد، وهو الكتاب الكريم. كما كانوا يتحدّثون في شأن البعث، ويأخذ الجدل بينهم كلّ مأخذ، فمنهم من ينكره البتّة، ويزعم أنه إذا مات انتهى أمره، وما هي إلّا أرحام تدفع، وأرض تبلع وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ. ومنهم من كان يزعم أنّ البعث للأرواح دون الأجساد، لأنّ الأجساد تأكلها الأرض وتعبث بها يد البلى وربما لقي أحدهم بعض من آمن بالنبي (ص) ، فيسائله عن ذلك استهزاء وسخرية. وفي هؤلاء وأشباههم نزلت هذه السورة، للرّدّ عليهم، وإقامة للحجّة على أن الله سبحانه قادر على أن يبعثهم بعد موتهم، وإن صاروا ترابا، أو أكلتهم السباع، أو أحرقتهم النيران، لأنّ الله أحصى كل شيء عددا، وأحاط بكلّ شيء علما. معنى الآيات [الآيات 1- 3] : عن أي شيء يتساءل مشركو مكة؟ إنهم يتساءلون عن الخبر العظيم الشأن، وهو البعث أو نزول الوحي على النبيّ الأمين، الخبر الذي اختلفوا فيه فمن قائل إنه مستحيل، ومن شاكّ فيه متردّد يقول، كما ورد في التنزيل: وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) [الجاثية] . [الآيتان 4 و 5] : تردّ الآيتان على تساؤلهم وشكّهم، بالتهديد الملفوف، وهو أوقع من الجواب المباشر وأعمق في التأثير، وتقول: فليزدجروا عمّا هم فيه، فإنّهم سيعلمون عمّا قليل حقيقة الحال، إذا حلّ بهم العذاب والنّكال، وأن ما يتساءلون عنه، ويضحكون منه حقّ لا شكّ فيه، ولا ريب في وقوعه. [الآيات 6- 16] : تنتقل الآيات من موضوع النبأ العظيم، لتعرض أمام

الأبصار والبصائر، مظاهر القدرة الإلهيّة في خلق هذا الكون، فتذكر تسعة مشاهد، يبصرونها بأعينهم، ولا يخفى عليهم شيء منها: 1- انبساط الأرض وتمهيدها لتحصيل المعاش، وإثراء الحياة. 2- سموّ الجبال لتثبيت الأرض وحفظ التوازن. 3- خلق الناس ذكورا وإناثا، ليتحقق الائتناس والتعاون، ويعم النفع. 4- جعل النوم راحة للأجسام، وسكنا للأرواح، وانقطاعا عن الإدراك والنشاط. 5- جعل الليل لباسا ساترا، يكون فيه السّبات والانزواء. 6- جعل النهار معاشا، تحدث فيه الحركة والنشاط. 7- ارتفاع السموات فوقنا، مع إحكام الوضع، ودقّة الصنع، وقوّة البناء وشدّته وتماسكه. 8- وجود الشمس المنيرة المتوهجة، تسكب الأشعة والضوء والحرارة. 9- نزول المطر وما ينشأ عنه من الحبّ والنبات، والجنات الألفاف، الكثيفة، الكثيرة الأشجار، الملتفّة الأغصان. وتوالي هذه الحقائق والمشاهد على هذا النظام البديع، والتقدير المحكم، يوحي بأن وراء هذا الكون قوّة تدبّره، وحكمة تنظّمه، وتشعر بالخالق الحكيم القدير، الذي أبدع كلّ شيء خلقه، فتبارك الله أحسن الخالقين. [الآيات 17- 20] : الناس لم يخلقوا عبثا، ولن يتركوا سدى، والذي قدّر حياتهم ذلك التقدير المحكم، الذي يظهره المقطع الماضي من السياق، قد جعل لهم يوما مؤقّتا، للفصل والقضاء بينهم. في ذلك اليوم ينفخ إسرافيل (ع) في البوق، فيأتي الناس جميعا مسرعين، جماعات جماعات، والسماء المبنية المتينة فتحت، وانشقّت وتصدّعت على هيئة لا عهد لنا بها، فكانت طرقا وأبوابا. والجبال الراسية الثابتة تصبح هباء مثارا في الهواء، ومن ثمّ فلا وجود لها، كالسراب الذي ليس له حقيقة. [الآيات 21- 30] : تمضي الآيات خطوة وراء النفخ والحشر، فتصوّر مصير الطغاة، وتذكر ما يأتي:

إنّ جهنّم خلقت ووجدت مكانا مترصّدا للطاغين، ينتظر حضورهم، ويترقّب وصولهم. إنّ جهنّم مرجع الطغاة ومكان إيابهم وعودتهم. روى ابن جرير عن الحسن أنه قال: لا يدخل أحد الجنة حتّى يجتاز النار، فإن كان معه جواز نجا، وإلّا احتبس. وسيمكث الطغاة في النار دهورا متلاحقة، يتبع بعضها بعضا، فكلّما انقضى زمن تجدّد لهم زمن آخر. إنّهم لن يذوقوا في جهنّم طعاما إلّا الحميم، وهو الماء المغلي، والغسّاق، وهو الصديد الذي يسيل من جراح أهل النار، جَزاءً وِفاقاً (26) . قال مقاتل: وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار إنّهم كانوا لا يتوقّعون الحساب، وكذّبوا بجميع البراهين الدّالّة على التوحيد والنبوّة والمعاد، وبجميع ما جاء في القرآن بينما كان الله يحصي عليهم كلّ شيء إحصاء دقيقا لا يفلت منه شيء، وسجّل أعمالهم في اللوح المحفوظ، أو كتبها في صحف أعمالهم. ويقال لهم على ألسنة خزنة جهنّم من باب التأنيب الميئس من كل رجاء: ذوقوا أشد العذاب بما كسبت أيديكم، ولن نزيدكم إلّا عذابا من جنسه. [الآيات 31- 36] : تعرض هذه الآيات المشهد المقابل، مشهد الأتقياء في النعيم، بعد مشهد الطغاة في الجحيم: إنهم يفوزون بالنعيم والثواب، ومن بعض مظاهره: الحدائق الكثيرة، والبساتين والأعناب، وَكَواعِبَ وهن الفتيات الناهدات، اللواتي استدارت أثداؤهن، أَتْراباً (33) متوافقات السن والجمال، وَكَأْساً دِهاقاً (34) مترعة بالشراب، ولا يجري بينهم حين يشربون لغو الكلام، ولا يكذّب بعضهم بعضا. هذه النعم جزاء من الله على أعمالهم، وهي عطاء وتفضّل من الله على حسب أعمالهم، وفي الحديث الشريف: «إنّكم تدخلون الجنّة بفضل الله، وتقتسمونها بحسب أعمالكم» . [الآيات 37- 40] : هذا الجزاء السّابق للطّغاة وللتّقاة، من مالك السماوات والأرض، والمدبّر لشئونهما، والمالك لما بينهما من عوالم، وهو الرحمن، ومن رحمته يكون الجزاء العادل المناسب للأشرار وللأخيار، ومع الرحمة الجلال، فلا

موضوعات السورة

يملك أحد مخاطبته في ذلك اليوم المهيب. يوم يقف جبريل والملائكة جميعا مصطفّين، لا يتكلّمون إجلالا لربّهم، ووقوفا عند أقدارهم، إلّا إذا أذن لهم ربّهم وقالوا صدقا وصوابا. ذلك اليوم هو الحقّ الموعود به، فلا مجال للتساؤل والاختلاف في شأنه. والفرصة لا تزال سانحة، فمن شاء عمل صالحا يقرّبه من ربّه، ويدنيه من ثوابه. إنّا نحذركم عذاب يوم القيامة، وهو قريب ليس بالبعيد، فجهنّم تنتظركم، وتترصّد لكم، على النحو الذي سمعتم، والدّنيا كلّها رحلة قصيرة، وكل آت قريب. وفي ذلك اليوم يجد الإنسان جزاء عمله، ولقاء ما صنعه في الدنيا من الأعمال، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزّلزلة] . في ذلك اليوم يشعر الكافر بالندم والحسرة، فيقول: يا ليتني كنت ترابا أو حجرا، لا يجري عليه تكليف حتّى لا يعاقب هذا العقاب. موضوعات السورة اشتملت سورة النبأ على الموضوعات الآتية: 1- سؤال المشركين عن البعث، ورسالة محمد (ص) . 2- تهديد المشركين إنكارهم إيّاه. 3- إقامة الأدلّة على إمكان حصوله. 4- أحداث يوم القيامة. 5- ما يلاقيه المكذّبون من العذاب. 6- فوز المتّقين بجنّات النعيم. 7- أنّ هذا اليوم حقّ لا ريب فيه. 8- ندم الكافر بعد فوات الأوان.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"النبأ"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النبأ» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة النبأ بعد سورة المعارج، ونزلت سورة المعارج بعد الإسراء وقبيل الهجرة فيكون نزول سورة النبأ في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) وتبلغ آياتها أربعين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إثبات البعث، وقد اقتضى هذا تهديدهم على إنكارهم له، وترغيبهم في الإيمان به، فكان سياقها في هذا مشابها لسياق سورة المرسلات، وهذا هو وجه ذكرها بعدها. إثبات البعث الآيات [1- 40] قال الله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) فذكر أنهم يتساءلون عمّا أخبرهم به من البعث، ويختلفون فيه بين منكر ومستبعد وشاكّ، وهدّدهم بأنّهم سيعلمون صدق هذا النبأ. واستدل على قدرته عليه، بأنه، سبحانه، هو الذي جعل الأرض مهادا، إلى غير هذا مما يدل على كمال قدرته. ثمّ ذكر سبحانه أنّ لهذا النبأ وقتا معلوما، وأنّ له علامات كالنفخ في الصّور ونحوه وأنّ جهنم تكون فيه

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

مرصادا للطاغين، فيلاقون فيها ما فصّله من العذاب وأنّ للمتّقين مفازا من حدائق وأعناب وغيرها. ثم ذكر عزّ وجلّ أنه لا يملك أحد أن يخاطبه في ذلك اليوم، وأنه يقوم فيه الروح والملائكة صفّا لا يتكلمون إلا بإذنه، ولا يشهدون إلّا بالحق على عباده، فمن شاء أن يتّخذ إليه مآبا حسنا كان خيرا له. ثم ختمت السورة بقرب ما أنذرهم به، بقوله تعالى: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"النبأ"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النبأ» «1» أقول: وجه اتصالها بالسورة التي قبلها، سورة «المرسلات» : تناسبها معها في الجمل. ففي تلك: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) . أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) . إلى آخره. وفي هذه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) إلى آخره. فذلك نظير تناسب جمل: «الضحى» و «ألم نشرح» ، بقوله تعالى في الضحى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) إلى آخره. وقوله: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) ، مع اشتراك هذه السورة، والأربع التي قبلها، في الاشتمال على وصف يوم القيامة وأهواله، وعلى ذكر بدء الخلق، وإقامة الدليل على البعث. وأيضا في سورة المرسلات: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) . وفي هذه السورة: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) إلى آخره. فكأن هذه السورة شرح ليوم الفصل، المجمل ذكره في السورة التي قبلها «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . لم يذكر المؤلف سورة النازعات، ومناسبتها لما قبلها. ونرى، والله أعلم: أنه طال وصف يوم القيامة في «النبأ» ، ثم ذكر في «النازعات» حجة من أنكرها، وردّ عليها، فقال: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) وذكر ندامتهم على تفريطهم بقوله سبحانه: قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) . ثمّ أكّد قدرته على إحياء الموتى، وأقام الدليل عليها في بقيّة السورة.

المبحث الرابع مكنونات سورة"النبأ"

المبحث الرابع مكنونات سورة «النبأ» «1» 1- يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [الآية 40] . قال أبو قاسم بن حبيب «2» : رأيت في بعض التفاسير أنّ الكافر هنا إبليس. ذكره ابن عسكر.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . أبو قاسم بن حبيب: هو الحسن بن محمد بن حبيب بن أيوب النّيسابوري الواعظ المفسّر، إمام عصره في معاني القرآن وعلومه، مع الأدب والنحو، وكان عارفا بالمغازي والقصص والسير، وانتشر عنه بنيسابور العلم الكثير صنف «التفسير» و «عقلاء المجانين» وغير ذلك في القراءات والآداب، توفي سنة 406. ترجمته في: «طبقات المفسرين» للسيوطي: 45، و «شذرات الذهب» لابن العماد 3/ 181، و «الأعلام» للزّركلي 2/ 213.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"النبأ"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «النبأ» «1» قال تعالى: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) وواحدها «اللّفّ» . وقال تعالى: جَزاءً وِفاقاً (26) أي: «وافق إهمالهم وفاقا» كما تقول: «قاتل قتالا» . وقال تعالى: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) لأن فعله على أربعة من باب «أفعلت» «إفعالا» . وعلى هذا القياس تقول: «قاتل» «قيتالا» وهو من كلام العرب. وقال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) بنصب (كل) ، وقد شغل الفعل بالهاء لأن ما قبله قد عمل فيه الفعل، فأجري عليه، وأعمل فيه فعل مضمر. وقال تعالى: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ [الآية 40] فإن شئت جعلت التقدير «ينظر أيّ شيء قدّمت يداه» وتكون صفته (قدمت) وقال بعضهم: «إنّما هو» ينظر إلى ما قدّمت يداه، فحذف «إلى» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"النبأ"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «النبأ» «1» إن قيل: كيف اتصل قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) بما قبله؟ قلنا: لمّا كان النبأ العظيم الذي يتساءلون عنه هو البعث والنشور، وكانوا ينكرونه، قيل لهم: ألم يخلق من وعد بالبعث والنشور هذه المخلوقات العظيمة العجيبة الدّالّة على كمال قدرته على البعث؟ فإن قيل: لو كان النبأ العظيم الذي يتساءلون عنه ما ذكرتم لما قال الله تعالى: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) : لأنّ كفّار مكّة لم يختلفوا في أمر البعث، بل اتّفقوا على إنكاره؟ قلنا: كان فيهم من يقطع القول بإنكاره، وفيهم من يشكّ فيه ويتردّد فثبت الاختلاف لأنّ جهة الاختلاف لا تنحصر في الجزم بإثباته والجزم بنفيه. الثاني: أنّ بعضهم صدّق به فآمن، وبعضهم كذّب به فبقي على كفره، فثبت الاختلاف بالنفي والإثبات. الثالث: أن الضمير في يَتَساءَلُونَ وفي هُمْ عائد إلى الفريقين من المسلمين والمشركين وكلّهم كانوا يتساءلون عنه لعظم شأنه عندهم، فصدّق به المسلمون فأثبتوه، وكذّب به المشركون فنفوه. فإن قيل: قوله تعالى: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) هو جزاء الشرط فأين الشرط و «شاء» وحده لا يصلح شرطا لأنه لا يفيد

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

بدون ذكر مفعوله وإن كان المذكور هو الشرط، فأين الجزاء؟ قلنا: معناه فمن شاء النجاة من اليوم الموصوف، اتّخذ إلى ربّه مرجعا بطاعته. الثاني: أنّ معناه: فمن شاء أن يتّخذ إلى ربّه مآبا، كقوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف/ 29] أي فمن شاء الإيمان فليؤمن، ومن شاء الكفر فليكفر.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"النبأ"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «النبأ» «1» في قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) استعارتان. وقد مضى الكلام على الأولى منهما. أما معنى كون الجبال أوتادا، فلأنّ بها مساك الأرض وقوامها، واعتدالها وثباتها، كما يثبت البيت بأوتاده، والخباء على أعماده.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

سورة النازعات 79

سورة النّازعات 79

المبحث الأول أهداف سورة"النازعات"

المبحث الأوّل أهداف سورة «النازعات» «1» سورة النازعات سورة مكيّة، آياتها 46 آية، نزلت بعد سورة النبأ. وهي نموذج من نماذج هذا الجزء، لإشعار القلب البشريّ بحقيقة الآخرة، بهولها وضخامتها. وفي الطريق إلى ذلك تمهيد بمطلع غامض مثير، في إيقاع سريع [الآيات 1- 5] . وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف، يجيء المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم في الآيات [6- 14] . ثم يجري السياق في عرض حلقة من قصّة موسى (ع) مع فرعون، فيهدأ الإيقاع، ويسترخي شيئا مّا ليناسب جو الحكاية والعرض، وذلك في الآيات [15- 26] . ثمّ ينتقل الكلام من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح، ومشاهد الكون الهائلة، الشاهدة بالقوّة والتدبير، والتقدير للألوهيّة المنشئة للكون، المهيمنة على مصائره في الدنيا والآخرة، في تعبيرات قويّة الأثر، تأخذ بالألباب، وذلك في الآيات [27- 33] . ثمّ يجيء مشهد الطّامّة الكبرى، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة الدنيا، [الآيات 34- 41] . ثمّ يرتدّ الكلام إلى المكذّبين بهذه الساعة، الذين يسألون الرسول (ص) ، عن موعدها، يرتدّ إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها وضخامتها، [الآيات 42- 46] .

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....]

مع آيات السورة

مع آيات السورة [الآيات 1- 5] : أقسم الله تعالى بالملائكة، الذين ينزعون أرواح الكفار إغراقا، أي مبالغة في النزع وبالملائكة الذين يخرجون أرواح المؤمنين برفق، فيسبحون في إخراجها سبح الغواص، الذي يخرج الشيء من أعماق البحر، فيسبقون بأرواح الكفّار إلى النار، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة، أو يسبقون للإيمان أو للطاعة لأمر الله، فيدبّرون ما يوكل إليهم من الأمور. وقيل: أقسم الله تعالى بالنجوم، تنزع في مداراتها وتتحرّك، وتنشط منتقلة من منزل إلى منزل، وتسبح سبحا في فضاء الله وهي معلّقة بهذا الفضاء، وتسبق سبقا في جريانها ودورانها، وتدبّر من النتائج والظواهر ما أوكله الله إليها، ممّا يؤثّر في حياة الأرض ومن عليها. وقيل: النّازعات والنّاشطات والسّابحات والسّابقات هي النجوم والمدبّرات هي الملائكة. وجملة القول: أن هذه أوصاف لموصوفات، أقسم الله بها، لعظم شأنها وكل ما يصدق عليه الوصف، يصحّ أن يكون تفسيرا للآيات، وهذا من إعجاز القرآن الكريم. [الآيات 6- 9] : اذكر يا محمّد يوم تضطرب الأرض، ويرتجف كل من عليها وتنشقّ السماء ويصعق كل من في السماوات ومن في الأرض إلّا من شاء الله وهذه هي الرّاجفة أو النفخة الأولى في الصور يتبع ذلك النفخة الثانية، التي يصحون عليها ويحشرون وهذه هي الرادفة «1» . قلوب الكافرين تكون يوم القيامة شديدة الاضطراب، بادية الذّلّ، يجتمع عليها الخوف والانكسار، والرجفة والانهيار. [الآيات 10- 14] : يقول الكافرون المنكرون للبعث: أصحيح أننا إذا متنا راجعون إلى الأرض أحياء كما كنّا؟ أنعود للحياة بعد تحلّل أجسادنا في التراب؟ إن صح هذا فهو الخسران

_ (1) . ورد هذا المعنى في سورة الزمر قوله تعالى، في: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) .

الخالص، والرجعة الخاسرة، التي لم نحسب حسابها. لا تستبعدوا ذلك أيّها الكافرون، فإنّما هي صحيحة واحدة ينفخ فيها إسرافيل (ع) في الصور، فإذا الناس جميعا أحياء على سطح أرض القيامة. [الآيات 15- 26] : تحكي هذه الآيات قصة موسى عليه السلام، وهي قصة تكررت في القرآن الكريم، لما لقيه موسى من شدّة المعاناة مع قومه، فأصبح نموذجا للصّبر والثبات. وفي الحديث الصحيح يقول النبي (ص) : «يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا، فصبر» . تقول الآيات: وهل جاءك يا محمد خبر موسى وقصته العجيبة؟ حيث تفضّل الله عليه فناداه، وكلّمه من وراء حجاب، بالوادي المبارك من طور سيناء (طوى) «1» ، فقال له ما معناه: اذهب إلى فرعون فإنّه طغى وتجاوز الحد، فتلطّف معه في القول، وقل له: هل ترغب في أن تطهّر نفسك من الآثام التي انغمست فيها، وهل لك في الإيمان بالله، واستشعار الجلالة والجبروت وخشية عقاب الله وحسابه. بيد أنّ هذا القول لم يفلح في هداية قلب الطاغية الجبار، فأظهر له موسى المعجزة الكبرى، وهي انقلاب العصا حية، وإخراج يده بيضاء بياضا ساطعا، يغلب ضوء الشمس. فأنكر فرعون رسالة موسى (ع) ، وعصى أمر ربّه، ثم أعرض عن موسى، وسعى في إيذائه، وحثّ الناس على مقاومة دعوته، ثم جمع السحرة الذين هم تحت إمرته وسلطانه، فقام فيهم يقول، كما ورد في التنزيل: فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) الذي لا يدانيه أحد في القوّة والعظمة، وما زال في عتوّه وتطاوله، حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر (بحر القلزم) عند خروجهم من مصر، فأغرق فيه هو وجنوده، تنكيلا به على ما صنع، وله في الآخرة عذاب السعير، وسيكون مثلا للأوّلين والآخرين. وفي قصة فرعون عبرة لمن له عقل يتدبّر به في عواقب الأمور، فيثوب إلى رشده ويتّقي ربه.

_ (1) . طوى علم للوادي، وهو واد بأسفل جبل طور سيناء.

[الآيات 27- 33] : يخاطب الله سبحانه منكري البعث، ويرشدهم إلى أنّ بعثهم هيّن على الله، بدليل ما يشاهدون من آثار قدرته في هذا الكون فيقول لهم ما معناه: هل أنتم أشدّ خلقا أم خلق السماء أصعب وأشقّ؟. إنكم لا تنازعون في أنّها أشدّ منكم خلقا، ومع ذلك لم نعجز عن إبداعها، فما الذي تستصعبونه من أمر بعثكم؟ والذي بنى السماء وأبدعها قادر على إعادتكم. قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) [غافر] . لقد رفع الله (سمك) السماء أي بناءها وسمك كلّ شيء قامته وارتفاعه. والسماء مرفوعة في تناسق كامل، وتنسيق بين حركاتها وآثارها وتأثراتها، وقد جعل الله، سبحانه، ليلها مظلما بمغيب كواكبها، وأنار نهارها بظهور الضحى. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) ، ودحو الأرض تميهدها، وبسط قشرتها بحيث تصبح صالحة للسير عليها، وتكوين تربة تصلح للإنبات: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) ، أي فجّر منها العيون والينابيع والأنهار، وأنبت فيها النبات، وثبّت الجبال في أماكنها وجعلها كالأوتاد، لئلّا تميد بأهلها، وتضطرب بهم: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) ، أي إنّما جعلنا ذلك كله ليتمتّع به الناس والأنعام. وليتنبّه الإنسان على عظمة التدبير والتقدير، فإنّ بناء السماء على هذا النحو، وإظلام الليل، وإضاءة النهار، وتمهيد الأرض، وإخراج النبات والماء، وإرساء الجبال لم يكن كلّ ذلك سدّى، وإنّما كان متاعا لكم ولأنعامكم. وهذا المدبّر الحكيم سبحانه، وفّر لكم هذا الخير الكثير، لتتمتّعوا به ومن الحكمة والتدبير أن يكون هناك بعث وجزاء، لإثابة الطائع، ومعاقبة الطّغاة والعصاة. [الآيات 34- 41] : فإذا جاءت الداهية العظمى، التي تعلو على سائر الدواهي، وتشغل الإنسان عن ولده ونفسه، غطّت على كل شيء، وطمت على كل شيء. عندئذ يتذكّر الإنسان سعيه ويستحضره أمامه، حينما يرى

موضوعات سورة النازعات

أعماله مدوّنة في كتابه. وظهرت النار إلى مكان بارز، حتّى يراها كلّ ذي نظر، عندئذ تختلف المصائر والعواقب، فأمّا من تكبّر وعصى ربّه وجاوز حدّه، وآثر شهوات الحياة الدنيا على ثواب الآخرة، فالنّار مثواه ومستقرّه. وأمّا من استحضر في قلبه دائما عظمة الله تعالى، ونهى النفس عمّا تهواه، وتميل إليه بحسب طبيعتها، فإنّ الجنّة ستكون له مستقرا ومقاما. [الآيات 42- 46] : يسألك كفّار قريش والمتعنّتون من المشركين عن القيامة يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) : متى قيامها وظهورها؟ وأين موعدها؟ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) : إنّها لأعظم من أن تسأل أو تسأل عن موعدها، فأمرها إلى ربّك، وهي من خاصّة شأنه، وليست من شأنك، إلى ربك ينتهي علم الساعة، فلا يعلم وقت قيامها غيره سبحانه، ولم يعط علمها لملك مكرّم، ولا لنبيّ مرسل. إنما أنت رسول مبعوث لتنذر من ينفعه الإنذار، وهو الذي يشعر قلبه بحقيقتها فيخشاها، ويعمل لها ويتوقعها. وإذا جاءت الساعة، ورأوا أهوالها وحسابها وجزاءها، استهانوا بالدنيا ومتاعها وأعمارها، ورأوا الدنيا بالنسبة للآخرة قصيرة عاجلة، هزيلة ذاهبة، زهيدة تافهة. وتنطوي الدنيا في نفوس أصحابها، فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها فكأنما الدنيا ساعة من نهار، أفمن أجل ساعة من نهار، يضيّع الإنسان الجنّة والخلود في رضوانها؟ قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) [الروم] أي أنّ الدنيا أو الحياة الفانية، ليست إلّا وقتا قصيرا بالنسبة للآخرة. قال تعالى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) [الأعلى] . موضوعات سورة النازعات 1- إثبات البعث. 2- مقالة المشركين في إنكاره، والردّ عليهم.

3- قصة موسى (ع) مع فرعون، وفيها عاقبة الطغاة. 4- آيات الله في الآفاق. 5- أهوال يوم القيامة. 6- الناس في هذا اليوم فريقان: سعداء وأشقياء. 7- تساؤل المشركين عن الساعة وميقاتها. 8- نهي الرسول (ص) عن البحث عنها. 9- ذهول المشركين من شدّة الهول، والاستهانة بالدنيا حينما يرون الآخرة.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"النازعات"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النازعات» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة النازعات بعد سورة النبأ، ونزلت سورة النبأ بعد الإسراء وقبيل الهجرة فيكون نزول سورة النازعات في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وتبلغ آياتها ستا وأربعين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إثبات البعث أيضا، فهي توافق سورة النبأ في الغرض المقصود منها، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها. إثبات البعث الآيات [1- 46] قال الله تعالى: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) فأقسم سبحانه، بما ذكره على أنهم سيبعثون وذكر جلّ شأنه أنه يوم ترجف الراجفة بعد بعثهم، تجفّ قلوبهم وتخشع أبصارهم ثم ذكر استبعادهم لبعثهم، وقولهم على سبيل الاستهزاء: إنه لو صح لكانت كرّتهم خاسرة، وأجاب بأنّ أمره لا يقتضي إلّا زجرة واحدة، فإذا هم بالساهرة أي (القيامة) ثم ذكر أن فرعون كذّب بهذا قبلهم، وكان أشدّ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

منهم، فأخذه بنكال الآخرة والأولى ثم ذكر أنهم ليسوا أشدّ خلقا من السماء وغيرها من خلقه حتى يعجز عن إعادتهم وأنه إذا جاء يوم القيامة يتذكّر كلّ إنسان ما عمله، وتكون الجحيم مأوى الطاغين، وتكون الجنة مأوى المتّقين ثم ذكر تعالى أنهم يسألون عن الساعة أيّان مرساها استهزاء بها، وأجاب بأنه لا يعلمها إلّا هو، وإنّما ينذر النبي (ص) بها من يخشاها: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) .

المبحث الثالث مكنونات سورة"النازعات"

المبحث الثالث مكنونات سورة «النازعات» «1» أخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح أنّه، بقوله: 1- وَالنَّازِعاتِ [الآية 1] ، 2- ووَ النَّاشِطاتِ [الآية 2] ، 3- ووَ السَّابِحاتِ [الآية 3] ، 4- وفَالسَّابِقاتِ [الآية 4] ، 5- وفَالْمُدَبِّراتِ [الآية 5] ، عنى الملائكة 6- أما بقوله بِالسَّاهِرَةِ (14) ، فإن عثمان بن أبي العاتكة قال: إنه يعني بالسفح الذي بين جبل أريحا، وجبل حسان «2» . أخرجه ابن أبي حاتم «3» . وقال وهب بن منبّه: هي بيت المقدس. أخرجه البيهقي في «البعث» «4» . وقال ابن عسكر: قيل: هي أرض الشام «5» . وقيل: جبل بيت المقدس «6» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . كذا في «تفسير الطبري» 30/ 24 ووقع اسم هذا الجبل: «حسان» في موضع آخر من «تفسير الطبري» 9/ 86 عند قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) [الأعراف] . (3) . والطبري 30/ 24. (4) . والطبري في «تفسيره» 30/ 24، بلفظ: جبل إلى جنب بيت المقدس. (5) . أخرجه الطبري في «تفسيره» 30/ 24 عن سفيان قال: أرض بالشام. (6) . راجع التعليق رقم (3) السابق.

7- وقيل: هي جهنّم «1» . فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) . هي قوله، كما ورد في التنزيل: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) [القصص] . قال عكرمة، وعبد الله بن عمرو: قال، وكان بين الكلمتين «2» أربعون سنة. أخرجه ابن أبي حاتم.

_ (1) . أخرجه الطبري في «تفسيره» 30/ 25 عن قتادة. (2) . المراد بالكلمتين قوله جلّ ثناؤه: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص/ 38] ، الأولى، والثانية قوله سبحانه، حكاية عن فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) ، انظر «تفسير الطبري» 30/ 41 ط الحلبي، وذكر فيه تفسيرا آخر.

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"النازعات"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «النازعات» «1» 1- وقال تعالى: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) . والسّاهرة: الأرض البيضاء المستوية، سمّيت بذلك لأن السّراب يجري فيها. وهذا من قولهم: عين ساهرة، جارية الماء، وفي ضدّها نائمة، قال الأشعث بن قيس: وساهرة يضحي السراب مجلّلا لأقطارها قد جبتها متلثّما 2- وقال تعالى: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) . وقوله تعالى: الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) أي: الداهية التي تطمّ الدواهي، أي: تعلو وتغلب. أقول: والعبارة في الآية ممّا ورثناه في العربية المعاصرة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"النازعات"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «النازعات» «1» قال تعالى: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) فأقسم، والله أعلم، على إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أو على: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) ، وَالنَّازِعاتِ [الآية 1] ، أو على وَالنَّازِعاتِ ل يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) فحذفت اللام وهو كما قال جل ذكره، وشاء أن يكون في هذا، وفي كلّ الأمور. وقال تعالى: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً كأنه سبحانه أراد: «أنردّ إذا كنّا عظاما» . وقال تعالى: إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) . فمن لم يصرفه «2» جعله بلدة أو بقعة ومن صرفه «3» جعله اسم واد أو مكان. وقال بعضهم: «لا بل هو مصروف وإنما يراد ب طُوىً (16) : طوى من الليل، لأنّك تقول: «جئتك بعد طوى من الليل» ويقال «طوى» منوّنة مثل «الثّنى» وقال الشاعر «4» [من

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نسبها الطبري 30/ 39 إلى عامّة قرّاء المدينة والبصرة وفي السبعة 671 إلى ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو وفي الجامع 19/ 201 إلى غير ابن محيصن، وابن عامر، والكوفيين، والحسن، وعكرمة وبكسر الطاء إلى الحسن، وعكرمة وروي عن أبي عمرو. [.....] (3) . هي قراءة نسبها الطبري 30/ 39 إلى بعض أهل الشام، والكوفة وفي السبعة 671 إلى ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي وفي الجامع 19/ 201 إلى ابن محيصن، وابن عامر، والكوفيين. (4) . هو أوس بن مفواء القرفعي، الصحاح واللسان «ثنى» والمخصص 15/ 138 وطبقات فحول الشعراء 1/ 79.

البسيط وهو الشاهد السابع والسبعون بعد المائتين] : ترى ثنانا إذا ما جاء بدأهم وبدأهم إن أتانا كان ثنيانا «4» والثّنى: هو الشيء المثنيّ. وقال تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) . لأنّه حينما قال (أخذه) كأنه قال «نكّل له» فأخرج المصدر على ذلك. وتقول «والله لأصرمنّك تركا بيّنا» .

_ (4) . في المصادر السابقة، والمخصص 2/ 159، والمقاييس 1/ 213 و 391 ب «بدوهم» وفي طبقات فحول الشعراء 1/ 79 كذلك، وصدره فيها: ثنياننا إن أتاهم كان بدأهم.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"النازعات"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «النازعات» «1» إن قيل: لم قال الله تعالى في الآيتين الأولى والثانية: وَالنَّازِعاتِ وَالنَّاشِطاتِ بلفظ التأنيث، وكذا ما بعده، والكلّ أوصاف الملائكة، والملائكة ليسوا إناثا؟ قلنا: هو قسم بطوائف الملائكة وفرقها، والطوائف والفرق مؤنثة. فإن قيل: لم أضاف الله تعالى الأبصار إلى القلوب في قوله سبحانه: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) ، أي ذليلة لمعاينة العذاب، والمراد بها الأعين بلا خلاف؟ قلنا: المراد أبصار أصحابها، بدليل قوله تعالى يَقُولُونَ [الآية 10] . فإن قيل: لم قال الله تعالى: فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) ، مع أن موسى عليه الصلاة والسلام أراه الآيات كلّها، بدليل قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ [طه/ 56] وكلّ آية كبرى؟ قلنا: الإخبار في هذه الآية عن أوّل ملاقاته إيّاه، وإنّما أراه في أوّل ملاقاته العصا واليد، فأطلق عليهما الآية الكبرى لاتّحاد معناهما. وقيل أراد بالآية الكبرى العصا، لأنّها كانت المقدّمة، والأصل، والأخرى كالتّبع لها لأنه كان يتبعها بيده، فقيل له أدخل يدك في جيبك. فإن قيل: لم أضاف الله تعالى الليل

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

إلى السماء، بقوله جلّ وعلا: وَأَغْطَشَ لَيْلَها [الآية 29] مع أن الليل إنّما يكون في الأرض لا في السماء؟ قلنا: أضافه إليها، لأنه أول ما يظهر عند غروب الشمس، إنّما يظهر من أفق السماء من موضع الغروب وأمّا قوله تعالى: وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) فالمراد به ضوء الشمس بدليل قوله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) [الشمس] أي: وضوئها، فلا إشكال في إضافته إليها.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"النازعات"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «النازعات» «1» في قوله سبحانه: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) استعارة: لأنّ المراد بالساهرة هاهنا، على ما قال المفسّرون، والله أعلم، الأرض. قالوا إنما سمّيت ساهرة على مثال: عيشة راضية، كأنه جاء على النسب: ذات السّهر وهي الأرض المخوفة. أي يسهر في ليلها، خوفا من طوارق شرّها. وقيل أيضا: إنما سمّيت الأرض ساهرة لا تنام عن إنماء نباتها وزروعها فعملها في ذلك ليلا، كعملها فيها نهارا.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

سورة عبس 80

سورة عبس 80

المبحث الأول أهداف سورة"عبس"

المبحث الأول أهداف سورة «عبس» «1» سورة «عبس» سورة مكية، آياتها 42 آية نزلت بعد سورة النجم وهي سورة تصحّح القيم الإنسانية، وتضع الأسس الإسلامية لأقدار الناس وأوزانهم، وتؤكّد أن قيمة الإنسان بعمله وسلوكه، ومقدار اتّباعه لهدى السماء قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات/ 13] . وقد نزلت سورة عبس في عبد الله بن أمّ مكتوم، وأمّ مكتوم أمّ أبيه، وأبوه شريح بن مالك ربيعة الزهري. «وذلك أنه أتى رسول الله (ص) ، وعنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم. فقال يا رسول الله أقرئني وعلّمني ممّا علّمك الله، وكرّر ذلك وهو لا يعلم شغله بالقوم فكره رسول الله (ص) قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت فكان رسول الله (ص) بعد ذلك، يكرمه، ويقول: إذا رآه، مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، ويقول له: هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين» «2» . فقرات السورة تعاتب الآيات الأولى النبي (ص) على إعراضه عن عبد الله بن أمّ مكتوم، وقد جاء يطلب الهدى،

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. (2) . تفسير النيسابوري 30/ 36.

مع آيات السورة

ويلحف في طلب العلم، [الآيات 1- 16] . ويعالج المقطع الثاني جحود الإنسان، وكفره الفاحش لربّه، وهو يذكّره بمصدر وجوده وأصل نشأته، وتيسير حياته، وتولّي ربّه له في موته ونشره، ثمّ تقصير الإنسان بعد ذلك في أمر ربّه [الآيات 17- 23] . والمقطع الثالث يعالج توجيه القلب البشري إلى أمسّ الأشياء به، وهو طعامه وطعام حيوانه، وما وراء ذلك الطعام من تدبير الله وتقديره له: [الآيات 24- 32] . والمقطع الأخير يعرض الصّاخّة التي يشتد هولها، ويذهل الإنسان بها عمّا عداها، وتنقسم الوجوه إلى ضاحكة مستبشرة، وعابسة مغبرّة: [الآيات 33- 42] . وتسكب السورة الإحساس بقدرة هذا الكتاب الخارقة على تغيير موازين الجاهلية، وتصحيح القيم، وتغيير المثل الأعلى، فبعد أن كان احترام الإنسان لجاهه أو ماله، أو منصبه ومركزه، أو مظاهر سطوته وجبروته وقوّته، أصبح المثل الأعلى في الإسلام طلب الحق والهدى، والتزام هدى السماء، ومراقبة الله والتزام أوامره، والعمل بأحكامه، وصدق الله العظيم: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات/ 13] . وتبين آية أخرى أن الله جلّ جلاله يأمرنا بمكارم الأخلاق وينهانا عن المنكرات، فيقول سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) [النحل] . مع آيات السورة [الآيتان 1 و 2] : قطّب الرسول (ص) وجهه وأعرض، لأنّ الأعمى جاءه وقطع كلامه. وفي العدول عن الخطاب للغيبة التفات بلاغي، سرّه عدم توجيه اللوم والعتاب إلى الرسول (ص) . ثم التفت الى الخطاب بعد هاتين الآيتين، عند ما هدأت ثورة العتاب، وبدأ التلطّف. [الآيتان 3 و 4] : وما يعلمك لعلّ هذا الرجل الأعمى الفقير يتطهر، ويتحقّق منه خير كبير، ويشرق قلبه بنور الايمان، فتنفعه الموعظة:

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) [الزمر] . [الآيات 5- 7] : أمّا من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك، وعمّا عندك من الخير والإيمان، فأنت تتصدّى له، وتحفل بأمره، وأنت مبلّغ عن الله، عليك البلاغ، وليس عليك هداهم، ولا يضيرك إعراضهم. [الآيات 8- 10] : وأمّا عبد الله بن أمّ مكتوم، الذي جاءك طائعا مختارا ساعيا يخشى ويتوفّى، فأنت تتشاغل عنه بهؤلاء الأشراف من قريش ثم تتصاعد نبرة العتاب لتبلغ حدّ الردع والزجر. [الآيات 11- 16] : (كلا) ، لا يكن ذلك أبدا. إنّ هداية القرآن غالية عالية، فمن شاء اهتدى بها وتذكّر أحكامها، واتّعظ بها وعمل بموجبها. وهذا الوحي كريم على الله، كريم في كل اعتبار، منزّه عن النقص والضلالة، قد دوّن في صحف مكرّمة ذات شرف ورفعة، مطهّرة من النقائص والضلالات، تنزّل بواسطة الملائكة على الأنبياء، وهم يبلّغونها للناس. والملك سفير لتبليغ وحي السماء، والرسول سفير لتبليغ الدعوة إلى الناس، وهم كرام أبرار أطهار لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وقد بلّغ النبي الكريم وحي السماء، وغيّر كثيرا من المفاهيم السائدة، وجعل أسامة بن زيد أميرا على جيش به أجلّاء الصحابة، ووضع في نفوس أصحابه تقدير الناس بأعمالهم فقط لا بأحسابهم وأنسابهم يقول عمر بن الخطاب (رض) : «لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته» . ويقول عمر أيضا: «أبو بكر سيّدنا وأعتق سيّدنا» أي أنّ أبا بكر (رض) أعتق بلالا (رض) مؤذّن الرسول الأمين (ص) . [الآيات 17- 23] : قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) دعاء على الكافر، فإنه ليستحقّ القتل على شدة كفره وجحوده، ونكرانه لنعم الله عليه، لماذا يتكبّر وهو مخلوق من أصل متواضع زهيد، يستمدّ كلّ قيمة من فضل الله ونعمته، ومن تقديره وتدبيره. لقد خلقه الله من نطفة، فمرّت النطفة بأطوار كثيرة، في بطن الأم، ومرّ هو

بأطوار عدّة خارج بطنها، رضيعا فطفلا فشابّا فكهلا فشيخا. ثمّ يسّر الله له سبيل الهداية، ومنحه العقل والإرادة، ومكّنه من القدرة على الاختيار، وعرّفه عاقبة كلّ عمل ونتيجته قال تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) [الإنسان] ، أي بيّنّا له الطريق ومنحناه القدرة على الاختيار، وبيّنا له سبيل الهدى والضلال، فإمّا أن يشكر ربه ويمتثل لأمره، وإمّا أن يكفر بنعمه ويخالف أمره حتّى إذا انتهت حياة الإنسان سلب الله روحه، ومنّ عليه بالموت وهو نعمة كبرى، ولولا الموت لأكل الناس بعضهم بعضا، ولضاقت الأرض بمن عليها. ومن نعم الله أن شرّع دفن الميت، وحفظه في باطن الأرض، حتّى لا يترك على ظهرها للجوارح والكواسر. ومن نعم الله، أيضا، أن يبعث الموتى، وينشرهم ويخرجهم من قبورهم، لمكافأة الطائع ومعاقبة العاصي. عجبا للإنسان الجاحد، فإنه بالرغم من النعم الظاهرة والباطنة، التي أحاطه الله تعالى بها، لم يمتثل ما أمره به. [الآيات 24- 33] : فليتأمل الإنسان تدبير الله، لإمداده بأسباب الحياة والنموّ، ولينظر إلى ألصق شيء إليه، وألزم شيء له، وهو الطّعام، كيف يسّر الله الحصول عليه فقد أنزل له سبحانه المطر من السماء، فانتفعت به الأرض، وانشقّت عنه ثمانية أنواع من النبات هي: 1- الحبّ كالحنطة والشعير والأرزّ. 2- العنب والفاكهة. 3- القضب، وهو ما يؤكل من النبات رطبا وغضّا طريّا. 4 و 5- الزيتون والنخل، وفيهما من القيمة الغذائية الشيء الكثير، والبلح طعام الفقير وحلوى الغنيّ، وزاد المسافر والمقيم. 6- بساتين ذات أشجار ضخمة مثمرة، وذات حوائط تحيط بها، غُلْباً (30) جمع غلباء أي ضخمة عظيمة، ملتفّة الأشجار. 7- وفاكهة يتمتّع الإنسان بأكلها، كالتّين والتّفّاح والخوخ وغيرها. 8- والأبّ، أي مرعى الحيوان خاصة. تلك قصّة الطّعام الذي أنبتته يد

مقاصد السورة

القدرة، ويسّرت لذلك المطر والرياح والشمس والهواء، وعديدا من العوامل والأسرار الخفيّة، حتّى قضيّة النبات، فيتمتّع بأكله الإنسان والحيوان. [الآيات 33- 42] : فإذا جاءت القيامة التي تصخّ الآذان بسماع أهوالها، في ذلك اليوم يشتدّ الهول، وينشغل الإنسان بنفسه عن أقرب الناس إليه، ويفرّ من أخيه، وأمّه وأبيه، وزوجته وبنيه لقد اشتدّ الفزع النفسيّ ففرّ الإنسان ممّن يفديهم بنفسه في الدّار الدّنيا، وقد شغله خوف الحساب، ومشاهد القيامة، ومظهر البعث والحشر والجزاء، عن كلّ شيء. في ذلك اليوم، ترى وجوها مستنيرة مشرقة، ترجو ثواب ربّها، مطمئنّة بما تستشعره من رضاه عنها وترى وجوها أخرى، يغشاها غبرة الحزن والحسرة، ويعلوها سواد الذلّ والانقباض، هؤلاء هم الذين جحدوا آيات ربّهم، ولم يؤمنوا بالله ورسله، وانتهكوا الحرمات، وتعدّوا حدود الله، فاستحقّوا كلمة العذاب. مقاصد السورة 1- عتاب الرسول (ص) على ما حدث منه مع ابن أمّ مكتوم الأعمى. 2- ذكر شرف القرآن، وبيان أنه موعظة لمن عقل وتدبّر. 3- إقامة الأدلّة على وحدانية الله، بخلق الإنسان، والنظر في طعامه وشرابه. 4- أهوال يوم القيامة. 5- انقسام النّاس في الآخرة إلى سعداء وأشقياء.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"عبس"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «عبس» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «عبس» بعد سورة النجم، ونزلت سورة النجم فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة عبس في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) . وتبلغ آياتها اثنتين وأربعين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة، التسوية بين الناس في الدعوة، وكان عبد الله بن أمّ مكتوم أتى النبيّ (ص) وعنده صناديد قريش يدعوهم إلى الإسلام، فطلب منه أن يقرئه ويعلّمه ممّا علّمه الله، فعبس وأعرض عنه لقطعه كلامه، فنزلت هذه السورة عتابا له، وقد انتقل فيها من عتابه إلى سياق الترهيب والترغيب، فوافقت في هذا سياق سورة النازعات، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها. التسوية بين الناس في الدعوة الآيات [1- 42] قال الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) فذكر سبحانه أن الرسول (ص) عبس للأعمى ولعلّه ينتفع بما يعظه به، وأنه تصدّى لمن استغنى فأبطره غناه وأطغاه وليس عليه

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

شيء من أمره، وأعرض عمّن سعى إليه وهو يخشى ربه، ثمّ زجره عن العود إليه لأنه ليس عليه إلّا أن يبلّغ ويذكّر فمن شاء أن يتذكّر ذكره في صحف مكرّمة، ومن لم يشأ ذلك فلا قيمة له، وإن بلغ في الغنى ما بلغ. ثمّ عجب ممّن كفر من أولئك الصناديد واغترّ بغناه وهو لا يدري أنه خلقه من نطفة قذرة، فقدّره ويسّر له الخروج من الرّحم، ثمّ أماته فأقبره وصيّره إلى جيفة مذرة، ثمّ إذا شاء أنشره، وحاسبه على طغيانه وتكبّره فما أحقّه أن يرتدع عن ذلك، وهو لمّا يقض شيئا ممّا أمره ثم أمر الواحد منهم أن ينظر إلى طعامه الذي أبطره، فإنّه لم يحصل إلّا بعد أن صبّ الله المطر وشقّ الأرض، فأنبت فيها حبّا وعنبا وغيرهما، ممّا هو متاع لهم ولأنعامهم فإذا جاءت الصّاخّة (القيامة) ، يوم يفرّ المرء من أهله الذين كان يعتزّ بهم في دنياه، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"عبس"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «عبس» «1» أقول: وجه وضعها عقب النازعات مع تآخيهما في المقطع، لقوله تعالى هناك: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ [النازعات/ 34] . وقوله سبحانه هنا: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) . وهما من أسماء يوم القيامة «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . لم يذكر المؤلف سرّ الترتيب، ونقول: إنّ الطّامّة من الطّمّ، من طمّ البئر، إذا غمرها وسميت به القيامة لأنها تطمّ كل شيء. والصّاخّة من الصّخّ، وهو الصوت الشديد، وسميت به لأنه بشدة صوتها يجثو لها الناس. وخصّت «النازعات» بالطّمّ لأنه قبل الصّخ، فكانت «عبس» لاحقة للنازعات بطبعها. انظر (أسرار التكرار في القرآن 201) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"عبس"

المبحث الرابع مكنونات سورة «عبس» «1» 1- الْأَعْمى (2) . هو عبد الله بن أم مكتوم، كما أخرجه التّرمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها «2» . 2- أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) . هو أميّة بن خلف. أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة وعن مجاهد. وأخرج من وجه آخر عن مجاهد: أنه عتبة بن ربيعة «3» . وأخرج من طريق العوفي، عن ابن عبّاس: أنّه عتبة، وأبو جهل، والعبّاس بن عبد المطلب «4» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . الترمذي (3328) وقال: حسن غريب، والحاكم 2/ 514 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، فقد أرسله جماعة من هشام بن عروة، قال الذهبي: وهو الصواب. (3) . رواية مجاهد في «الطبري» 30/ 34 جاءت بزيادة: «وشيبة بن ربيعة» . (4) . إسناده ضعيف. [.....]

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"عبس"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «عبس» «1» 1- وقال تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) . والأبّ المرعى لأنه يؤبّ، أي: يؤمّ وينتجع. قال الزمخشري: «2» وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الأبّ فقال: أيّ سماء تظلّني، وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به؟ وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية فقال: كل هذا قد عرفناه، فما الأبّ؟ ثم رفض عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلّف، وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدري ما الأبّ، ثم قال: اتبعوا ما تبيّن لكم من هذا الكتاب، وما لا، فدعوه. فإن قلت: فهذا يشبه النهي عن تتبّع معاني القرآن، والبحث عن مشكلاته. قلت: لم يذهب إلى ذلك، ولكنّ القوم أكبر همتهم عاكفة على العمل، ولكن التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلّفا عندهم، فأراد أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه، واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أنّ الأبّ بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له، أو لأنعامه فعليك بما هو أهم، من النهوض بالشكر لله على ما تبيّن لك، ولم يشكل، ممّا عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأبّ، ومعرفة النبات الخاص الذي هو

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . الكشاف: 4/ 704- 705.

اسم له، واكتف بالمعرفة الجمليّة إلى أن يتبيّن لك في غير هذا الوقت. 2- وقال تعالى: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) . وصفت النفخة ب «الصّاخّة» مجازا لأن الناس يصخّون لها أي: يصيخون. وهذا من باب أن المضاعف والأجوف من مادة واحدة، ولعل المضاعف أصل.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"عبس"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «عبس» «1» قال تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) وواحدهم «السّافر» مثل «الكافر» و «الكفرة» . وقال سبحانه: كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) وواحدهم «البارّ» و «البررة» جماعة «الأبرار» . وقال تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) معناه على وجهين: قال بعضهم: «على التعجّب» ، وقال بعضهم: «أيّ شيء أكفره» ؟ قال تعالى: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) تقول «الطريق هداه» أي: «هداه الطريق» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"عبس"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «عبس» «1» إن قيل: لم قال الله تعالى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) ثم قال سبحانه وتعالى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) ، ولم يقل «ذكرها» ؟ قلنا: الضمير المؤنث لآيات القرآن أو لهذه السورة، والضمير في قوله تعالى ذَكَرَهُ (12) راجع إلى القرآن. وقيل راجع إلى معنى التذكرة وهو الوعظ والتذكير لا إلى لفظها. فإن قيل: في قوله تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ هذه الآية وقال: كل هذا قد عرفناه فما الأبّ؟ ثم قال: هذا لعمر الله التكلّف، وما عليك يا عمر أن لا تدري ما الأبّ، ثم قال: اتّبعوا ما تبيّن لكم من هذا الكتاب، وما لا، فدعوه وهذا شبيه النهي عن تتبّع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته؟ قلنا: لم يرد بقوله ما ذكرت، ولكنّ الصحابة رضي الله عنهم كانت أكثر هممهم عاكفة على العمل وكان الاشتغال بعلم لا يعمل به تكلّفا عندهم فأراد أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه، واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أن الأبّ بعض ما أنبته الله تعالى للإنسان متاعا له ولأنعامه، فكأنه قال: عليك بما هو الأهم، فالأهم، وهو الشكر على ما تبيّن لك ولم يشكل، ممّا عدد من نعمه تعالى، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأبّ معرفة النبات الخاص، واكتف بمعرفته منه جملة إلى

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

أن يتبين لك في وقت آخر. وعن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، أنه سئل عن الأبّ فقال: أيّ سماه تظلّني وأيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله بما لا علم لي به. وأكثر المفسّرين قالوا: الأبّ كل ما ترعاه البهائم.

سورة التكوير 81

سورة التّكوير 81

المبحث الأول أهداف سورة"التكوير"

المبحث الأول أهداف سورة «التكوير» «1» سورة التكوير سورة مكية. آياتها 29 آية نزلت بعد سورة المسد، وتشتمل على ثروة ضخمة من المشاهد، حينما تنتهي الحياة، ويختلّ نظامها، وينفرط عقد الكون، وتتناثر أجزاؤه، ويذهب عنه التماسك الموزون، والحركة المضبوطة، والصنعة المتينة. والسورة تشتمل على مقطعين اثنين، تعالج في كل مقطع منهما تقرير حقيقة ضخمة من حقائق العقيدة. الأولى: حقيقة القيامة، وما يصاحبها من انقلاب كونيّ هائل كامل، يشمل الشمس والنجوم، والجبال والبحار، والأرض والسماء، والأنعام والوحوش، كما يشمل بني الإنسان. والثانية: حقيقة الوحي، وما يتعلّق به من صفة الملك الذي يحمله، وصفة النبي (ص) الذي يتلقّاه، ثمّ شأن المخاطبين بهذا الوحي معه، ومع المشيئة الكبرى التي فطرتهم، وأنزلت لهم الوحي. مع آيات السورة بدأ سبحانه هذه السورة الكريمة بذكر يوم القيامة، وما يكون فيه من أحداث هائلة وحينما تقع هذه الأحداث تعلم كل نفس ما قدّمت من عمل، خيرا كان أو شرا. [الآية 1] : إذا كورت الشمس وسقطت وتدهورت، وانطفأت شعلتها، وانكمشت ألسنتها الملتهبة، وذهب ضوؤها، واختلّ نظام الكون.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

[الآية 2] : وإذا تناثرت النجوم، وأظلم نورها، وذهب لألاؤها. [الآية 3] : وإذا انفصلت الجبال عن الأرض، وسارت في الجوّ كما يسير السحاب، وتبع ذلك نسفها وبسّها وتذريتها في الهواء، كما جاء في سور أخرى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) [طه] . [الآية 4] : وإذا تركت العشار وأهملت، و (العشار) : هي النوق الحبالى في شهرها العاشر، وهي أجود ما يملكه العربي وأثمنه فإذا انشغل الناس عنها بأهوال القيامة عطّلت وأهملت. [الآية 5] : وإذا اجتمعت الوحوش الكاسرة، ذليلة هادئة قد نسيت غريزتها، مضت هائمة على وجوهها لا تأوي إلى جحورها، ولا تنطلق وراء فرائسها، وقد حشرها هول الموقف ذاهلة متغيّرة الطباع، فكيف بالناس في ذلك اليوم العصيب؟ [الآية 6] : وإذا التهبت البحار وامتلأت نارا، أو فجّرت الزلازل ما بينها حتى اختلطت وعادت بحرا واحدا. [الآية 7] : وإذا اقترنت الأرواح بأبدانها، أو إذا قرن كلّ شبيه بشبيهه، وضمّت كلّ جماعة من الأرواح المتجانسة في مجموعة. [الآيتان 8 و 9] : وإذا سئلت الموؤدة بين يدي قاتلها عن الذنب الذي قتلت به، ليكون جوابها أشدّ وقعا على الوائد، فإنها ستجيب أنها قتلت بلا ذنب جنته. وكان الوأد عند العرب الجاهليين يجري بصورة قاسية، إذ كانت تدفن البنت حية، أو تجلس المرأة عند المخاض فوق بئر محفورة فإذا كان المولود بنتا، رمت بها فيها وردمتها وإن كان ذكرا، قامت به معها وبعضهم كان إذا عزم على استبقاء ابنته، فإنه يمسكها إلى أن تقدر على الرعي، ثمّ يلبسها جبة من صوف أو شعر، ويرسلها الى البادية ترعى له إبله فلمّا جاء الإسلام سما بالمرأة وكرّمها، وليدة، وناشئة، وزوجة، وأمّا. حرّم وأد البنات، وشفع ذلك بالتشنيع على من يفعله، قال تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) [النحل] [الآية 10] :.

وإذا نشرت صحف الأعمال، وكشفت وعرفت، فلم تعد مستورة بل صارت منشورة مشهورة. [الآية 11] : وإذا السماء كشطت وأزيلت، فلم يبق غطاء ولا سماء. [الآيتان 12 و 13] : وإذا أوقدت النار، واشتد لهيبها، ووهجها وحرارتها وإذا أدنيت الجنّة من المتقين، تكريما وإيناسا لهم. [الآية 14] : عند ما تقع هذه الأحداث الهائلة في كيان الكون، وفي أحوال الأحياء والأشياء، تعلم كل نفس ما قدّمت من خير أو شر، وما تزوّدت به لهذا اليوم وما حملت معها للعرض، وما أحضرت للحساب. وهي لا تستطيع أن تغيّر فيه ولا أن تبدّل، فالدنيا عمل ولا حساب، والآخرة حساب ولا عمل. وهنا ينتهي المقطع الأول من السورة، وقد امتلأ الحس، وفاض، بمشاهد اليوم الذي يحصل فيه هذا الانقلاب. المقطع الثاني بعد أن ذكرت السورة من أحوال القيامة وأهوالها ما ذكرت، أتبعت ذلك ببيان أن ما يحدّثهم به الرسول (ص) ، هو القرآن الذي أنزل عليه وهو آيات بيّنات من الهدى وأنّ ما رميتموه به من المعايب كقولكم: إنه ساحر أو مجنون، أو كذّاب، أو شاعر، ما هو إلّا محض افتراء. [الآيتان 15 و 16] : يقسم الله تعالى قسما مؤكدا بالكواكب، بِالْخُنَّسِ (15) : التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية، الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) : التي تجري وتعود الى أماكنها. [الآية 17] : والليل إذا أدبر وولّى، وزالت ظلمته، أو إذا أقبل ظلامه. [الآية 18] : والصبح إذا أسفر، وظهر نوره، وفي ذلك بشرى للأنفس، بحياة جديدة في نهار جديد ومن الجمال في هذا التعبير إضفاء الحياة على النهار والوليد فإذا الصبح حيّ ينتفس. «وأكاد اجزم أن اللغة العربية لا تحتوي نظيرا لهذا التعبير عن الصبح: رؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتّح

أنه بالفعل يتنفّس، ثم يجيء هذا التعبير، فيصوّر هذه الحقيقة التي يشعر بها» «1» . [الآيات 19- 22] : وجواب القسم: أنّ هذا القرآن، وهذا الوصف لليوم الآخر إنما هو قول رسول كريم، وهو جبريل (ع) الذي حمل هذا القول وأبلغه، فصار قوله باعتبار تبليغه. ويذكر صفة هذا الرسول الذي اختير لحمل هذا القول وإبلاغه، فينعته بخمسة أوصاف هي: 1- كَرِيمٍ (19) أي عزيز على ربّه. 2- ذِي قُوَّةٍ [الآية 20] في الحفظ والبعد عن النسيان والخطأ. 3- عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) أي ذي جاه ومنزلة عند ربّه. 4- مُطاعٍ ثَمَّ [الآية 21] أي هناك في الملأ الأعلى، عند الله في ملائكته المقرّبين فهم يصدرون عن أمره ويرجعون اليه. 5- أَمِينٍ (21) على وحي ربّه ورسالاته، قد عصمه تعالى من الخيانة فيما يأمره به، وجنّبه الزلل فيما يقوم به من الأعمال. هذه صفة الرسول المبلّغ وهو جبريل عليه السلام، أمّا الرسول الذي حمله إليكم وخاطبكم بالقرآن، فهو صاحبكم الذي عرفتموه حق المعرفة عمرا طويلا، وعرفتم عنه الصدق والأمانة، وليس مجنونا كما تدّعون. [الآية 23] : ولقد رأى سيدنا محمد، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، جبريل عليه السلام، وهو بالأفق الأعلى، عند سدرة المنتهى بالأفق المبين، أي رآه رؤية واضحة عند الأفق الواضح. [الآية 24] : وليس محمد (ص) بالمتّهم على القرآن، وما فيه من قصص وأنباء وأحكام بل هو ثقة أمين لا يأتي به من عند نفسه، ولا يبدّل منه حرفا بحرف، ولا معنى بمعنى، إذ لم يعرف عنه الكذب في ماضي حياته، فهو غير متّهم في ما يحكيه عن رؤية جبريل (ع) ، وسماع الشرائع منه. [الآية 25] : وليس القرآن قول شيطان، ألقاه على لسان محمد (ص) حين خالط عقله كما تزعمون، فالشياطين لا توحي بهذا النهج القويم.

_ (1) . سيد قطب، في ظلال القرآن 30/ 482 .

[الآية 26] : ثم يسألهم مستنكرا: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) ؟ أي: فأيّ سبيل تسلكونها، وقد سدّت عليكم السبل، وأحاط بكم الحق من جميع جوانبكم، وبطلت مفترياتكم فلم يبق لكم سبيل تستطيعون الهرب منها. [الآية 27] : ثم بيّن حقيقة القرآن، فقال: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) ، أي ليس القرآن إلّا عظة للخلق كافّة، يتذكّرون بها ما غرز في طباعهم من حبّ الخير، وهو ذكر يستحضرهم حقيقة نشأتهم، وحقيقة وجودهم، وحقيقة الكون من حولهم، وهو أعظم عظة للعالمين جميعا. [الآيتان 28 و 29] : وإنّ على مشيئة المكلّف تتوقّف الهداية، فمن أراد الحق واتّجه بقلبه إلى الطريق القويم، هداه الله إليه ويسّر له أمره، وأمدّه بالعون والتوفيق. وبذلك يستقرّ في قلب كل إنسان، أنّ مشيئته طرف وخيط، راجع في أصله إلى مشيئة الله الكبرى، وإرادته المطلقة، فليلجأ كل إنسان إلى ساحة مولاه، وإلى عناية خالقه، فعنده سبحانه العون والتوفيق، والهدى والسداد: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) . موضوعات السورة 1- وصف أهوال القيامة. 2- القسم بالنجوم وبالليل وبالصبح، على أنّ القرآن منزل من عند الله، بواسطة ملائكته. 3- إثبات نبوّة محمد (ص) . 4- بيان أن القرآن عظة وذكر، لمن أراد الهداية. 5- مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، وليس لها استقلال بالعمل.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"التكوير"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التكوير» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة التّكوير بعد سورة المسد، ونزلت سورة المسد بعد سورة الفاتحة، ونزلت سورة الفاتحة فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة التكوير في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وتبلغ آياتها تسعا وعشرين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة: إثبات الحساب على الأعمال، وما يتبع هذا من ثواب وعقاب وبهذا يكون سياقها أيضا في الترهيب والترغيب، ويكون ذكرها بعد السورة السابقة، لموافقتها لها في هذا السياق. إثبات الحساب على الأعمال الآيات [1- 29] ذكر تعالى أنه إذا حصل تكوير الشمس، وما ذكره بعد التكوير مما يكون يوم القيامة، تعلم كل نفس ما أحضرت من خير أو شرّ، فتحاسب عليه وهو حاضر أمامها ثم أقسم سبحانه بالنجوم الخنّس وما ذكر معها، على أن أمر هذا الحساب قول رسول كريم هو «جبريل» (ع) وذكر أن صاحبهم محمدا (ص) ليس بمجنون،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

وأنه رأى «جبريل» بالأفق المبين، وأنه غير متّهم في ما أخبرهم به من ذلك الحساب، وأن ما أخبرهم به منه ليس بقول شيطان رجيم، فأين يذهبون مع هذا كلّه عنه ثم ذكر سبحانه أنّ هذا ليس إلّا تذكرة وهداية لمن شاء منهم أن يستقيم: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"التكوير"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التكوير» «1» أقول: لمّا ذكر في عبس: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) ، ذكر يوم القيامة كأنه رأي العين. وفي الحديث: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) [الانفطار] . وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) [الانشقاق] «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/ 72، والتّرمذيّ في التفسير 9/ 252، 253 بتحفة الأحوذي.

المبحث الرابع مكنونات سورة"التكوير"

المبحث الرابع مكنونات سورة «التكوير» «1» 1- بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) . أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب (ع) قال: هي خمسة أنجم: زحل، وعطارد، والمشتري، وبهرام «2» ، والزهرة ليس في الكواكب شيء يقطع المجرة غيرها. وأخرج عن ابن مسعود قال: هي بقر الوحش. وعن سعيد بن جبير قال: هي الظّباء «3» . 2- إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) . قال الضّحّاك، والرّبيع، والسّدّي، وغيرهم: جبريل (ع) أخرجه ابن أبي حاتم «4» . وقال آخرون: هو محمد (ص) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . «تاج العروس» 8/ 208، وهو اسم للمرّيخ. (3) . قال ابن جرير الطبري في «تفسيره» 30/ 49: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنّ الله. تعالى ذكره، أقسم بأشياء تخنس أحيانا- أي تغيب- وتجري أحيانا وتكنس أخرى، وكنوسها أن تأوي في مكانسها، والمكانس عند العرب: هي المواضع التي تأوي إليها بقر الوحش والظباء، واحدها مكنس وكناس» . ثم قال أيضا: «وغير منكر أن يستعار ذلك في المواضع التي تكون بها النجوم من السماء فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أنّ المراد بذلك النجوم دون البقر، ولا البقر دون الظباء، فالصواب أن يعمّ بذلك كل ما كانت صفته الخنوس أحيانا، والجري أخرى، والكنوس بآنات على ما وصف، جلّ ثناؤه، من صفتها. (4) . أخرجه الطبري في «تفسيره» 30/ 51 عن قتادة.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"التكوير"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «التكوير» «1» 1- وقال تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) . وقرئ بالتخفيف: سجرت، وهو من سجر التنور إذا ملأته حطبا، والمعنى: وإذا البحار ملئت، وفجّر بعضها إلى بعض، حتى تعود بحرا واحدا. 2- وقال تعالى: وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) . وقرأ ابن مسعود: قشطت، واعتقاب الكاف والقاف كثير. والمعنى كشفت وأزيلت. أقول: والفعل مما نعرف الآن في العامية الدارجة، وليس في الفصيحة المعاصرة. - وقال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) . وعسعس الليل، وسعسع، إذا أدبر.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"التكوير"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «التكوير» «1» قال تعالى: وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) ، واحدتها «العشراء» مثل «النفساء» و «النفاس» للجميع. قال الشاعر «2» : [من الرجز، وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد المائتين] : ربّ شريب لك ذي حساس ... ريّان يمشي مشية النّفاس ويقال: «النّفاس» . وقال تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) «وأده» «يئده» «وأدا» مثل «وعده» «يعده» «وعدا» العين نحو الهمزة. وقال تعالى: سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وقرأ بعضهم (سألت) «3» هي. وقال تعالى: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) لأنّ حرّها شدّد عليهم. وقرأ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . لم تفد المراجع شيئا عن القائل، أمّا الرجز فجاء المصراع الأول في المخصّص 11/ 98 وحده، وجاء مع مصراع آخر شاهد فيه هو: شرابه كالحز في المواسي. في الصحاح واللسان «حسن» واللسان والتاج «شرب» . (3) . في الطبري 30/ 71 نسبت الى ابن الضحى (مسلم بن صبيح) وفي الشواذ 169 إلى الأمام علي بن ابي طالب وابن مسعود وابن عبّاس (رضي الله عنهم) وغيرهما عشرة من أصحاب رسول الله (ص) وفي الجامع 19/ 233 الى الضّحّاك، وابن الضّحّاك، عن جابر بن زيد، وأبي صالح وفي البحر 8/ 433 إلى الإمام علي بن ابي طالب، وابن مسعود، وابن عبّاس، وجابر بن زيد، وأبي الضحى، ومجالد، وأبي الربيع بن خيثم، وابن يعمر.

بعضهم «1» سُعِّرَتْ (12) خفيفة (سعرت) «2» . وقال تعالى: الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) فواحدها «كانس» والجمع «كنّس» كما تقول: «عاطل» و «عطّل» . وقال تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) «3» : «أي: ببخيل» وقرأ بعضهم (بظنين) «4» أي: بمتّهم لأن بعض العرب يقول «ظننت زيدا» ف «هو ظنين» أي: اتّهمته ف «هو متّهم» . وقرأ بعضهم سُجِّرَتْ «5» وخفّفها بعضهم «6» ، واحتج ب وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) [الطور] والوجه التثقيل لأن ذلك إذا كسر جاء على هذا المثال يقال «قطّعوا» و «قتّلوا» ولا يقال للواحد «قطّع» يعني يده ولا «قتّل» .

_ (1) . نسبت هذه القراءة في معاني القرآن 3/ 241 إلى غير الأعمش وأصحابه، وفي الطبري 30/ 73 إلى عامّة قرّاء المدينة، وفي السبعة 673 إلى نافع، وابن عمر، وحفص، عن عاصم وكذلك في البحر 8/ 434، وفي الكشف 2/ 363، والتيسير 220، إلى نافع وحفص وابن ذكوان، وفي الجوامع 19/ 225 أبدل بحفص رويسا. (2) . نسبت في معاني القرآن 3/ 241 إلى الأعمش وأصحابه وفي الطبري 30/ 73 إلى عامّة قرّاء الكوفة وفي السبعة 673 الى ابن كثير، وأبي عمرو وحمزة، والكسائي، وأبي بكر، عن عاصم وفي الكشف 2/ 363، والتيسير 220، إلى غير نافع، وحفص، وابن ذكوان وفي البحر 8/ 434 إلى الإمام علي، والسبعة ما عدا نافعا وابن عامر وحفصا. (3) . نسبت في معاني القرآن 3/ 242 الى عاصم، وأهل الحجاز، وزيد بن ثابت وفي الطبري 30/ 81 إلى عامّة قرّاء المدينة والكوفة وفي السبعة 673 الى ابن مجاهد، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة وفي الكشف 2/ 364 إلى غير ابن كثير، وأبي عمرو، والكسائي وكذلك في التيسير 220 وفي البحر 8/ 435 إلى عثمان، وابن عبّاس، والحسن، وأبي رجاء، والأعرج، وأبي جعفر، وشيبة. (4) . نسبت في معاني القرآن 3/ 242 إلى زرين بن حبيش، وفي الطبري 30/ 81 إلى بعض المكّيين، وبعض البصريين وفي السبعة 673، والكشف 2/ 364، والتيسير 220، والجامع 19/ 242 الى ابن كثير وأبي عمرو والكسائي وفي البحر 8/ 435 الى عبد الله، وابن عبّاس، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وابن الزبير، وعائشة، وعمر بن عبد العزيز، وابن جبير، وعروة، وهشام بن جندب، ومجاهد وغيرهم من السبعة. (5) . نسبها الطبري 30/ 69 إلى عامّة قرّاء المدينة والكوفة، ونسبت في السبعة 673 إلى ابن عامر، ونافع، وحفص عن عاصم، وأبي بكر عن عاصم، وحمزة، والكسائي وفي الكشف 2/ 363، والتيسير 220 إلى غير ابن كثير، وأبي عمرو وفي البحر 8/ 432 إلى السبعة، عدا ابن كثير، وأبي عمرو. (6) . في الطبري 30/ 69 إلى بعض قرّاء البصرة، وفي السبعة، والكشف 2/ 363، والتيسير 220، والبحر 8/ 432 الى ابن كثير، وأبي عمرو.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"التكوير"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «التكوير» «1» إن قيل: لم قال الله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) والسؤال إنما يحسن للقاتل لا للمقتول؟ قلنا: إنّما سؤالها لتبكيت قاتلها، وتوبيخه بما تقوله من الجواب، فإنّها تقول: قتلت بغير ذنب ونظيره في التبكيت والتوبيخ قوله تعالى لعيسى عليه السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي [المائدة/ 116] حتى قال، كما ورد في التنزيل: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة 116] . فإن قيل: لم قال الله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) فأثبت العلم لنفس واحدة، مع أن كل نفس تعلم ما أحضرت يوم القيامة، بدليل قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمران 30] ؟ قلنا: هذا ممّا أريد به عكس مدلوله، ومثله كثير في كلام الله تعالى وكلام العرب، كقوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) فإنّ ربّ هنا بمعنى كم للتكثير، وقوله تعالى حكاية عن موسى (ع) لقومه: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف/ 5] وقول الشاعر: قد أترك القرن مصفرّا أنامله كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد «2»

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. (2) . الفرصاد: ثمر التوت الأحمر.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"التكوير"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «التكوير» «1» قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) استعارة. والمراد، والله أعلم، أنها سئلت، لا لاستخراج الجواب منها، ولكن لاستخراج الجواب من قاتلها. ويكون ذلك على جهة التوبيخ للقاتل إذ قتل من لا يعرب عن نفسه، ولم يأت ذنبا يؤخذ بجريرته. وقيل معنى سئلت أي طلب بدمها، كما يقول القائل: سألت فلانا حقّي عليه، أي طالبته به. وإنّما سميت موؤودة للثّقل الذي يلقّى عليها من التراب، وتقول: آدني هذا الأمر أي أثقلني. ومنه قوله تعالى: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة/ 155] أي لا يثقله ذلك، كما يثقل أحدنا في الشاهد حفظ المتشعّبات وضبط المنتشرات. وفي قوله سبحانه: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) استعارتان، فهما جميعا في صفة النجوم. فأمّا الخنّس فالمراد بها التي تخنس نهارا، وتطلع ليلا. والخنّس جمع خانس، وهو الذي يقبع ويستسرّ، ويخفى ويستتر. وأمّا الكنّس فجمع كانس، وهو أيضا المتواري المستخفي، مشبّها بانضمام الوحشية إلى كناسها، وهو الموضع الذي تأوي إليه من ظلال شجر، وألفاف ثمر، وجمعه كنّس. فشبه سبحانه انقباع النجوم في بروجها، بتواري الوحوش في كنسها. وقوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18)

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

وهذه من الاستعارات العجيبة. والتنفّس هاهنا عبارة عن خروج ضوء الصبح من عموم غسق الليل. فكأنّه متنفّس من كرب، أو متروّح من همّ. ومن ذلك قولهم: قد نفّس عن فلان الخناق. أي انجلى كربه، وانفسح قلبه. وقد يجوز أن يكون معنى إِذا تَنَفَّسَ أي إذا انشقّ وانصدع. من قولهم تنفّس الإناء إذا انشقّ، وتنفّست القوس إذا انصدعت. وهذا التأويل يخرج اللفظ من باب الاستعارة. وقد استقصينا الكلام على هذا المعنى، في كتابنا الكبير عند موضع اقتضى ذكره.

سورة الانفطار 82

سورة الانفطار 82

المبحث الأول أهداف سورة"الانفطار"

المبحث الأول أهداف سورة «الانفطار» «1» سورة «الانفطار» سورة مكية، وآياتها 19، نزلت بعد «النازعات» . وقد بدأت سورة «الانفطار» ، مثل سورة «التكوير» ، بالحديث عن أهوال القيامة، لكنّها تحدثت عنها بأسلوب مختصر، وإيقاع هادئ عميق، ويمكن تقسيم السورة الى ثلاث فقرات: الفقرة الأولى من بداية السورة إلى الآية الخامسة: وتتحدّث عن انفطار السماء، وانتثار الكواكب، وتفجير البحار، وبعثرة القبور كحالات مصاحبة لعلم كل نفس بما قدّمت وأخّرت، في ذلك اليوم الخطير. والفقرة الثانية من الآية 6 إلى الآية 8: وتبدأ بلمسة العتاب المبطّنة بالوعيد، لهذا الإنسان الذي يتلقّى من ربّه فيوض النعمة في ذاته وخلقته، ولكنّه لا يعرف للنعمة حقّها، لا يعرف لربّه قدره، ولا يشكره على الفضل والنعمة والكرامة. والفقرة الثالثة من الآية 9 إلى الآية 19: تقرّر علة هذا الجحود والنكران، فهي التكذيب بالدين، أي بالحساب، وعن هذا التكذيب ينشأ كل سوء وكل جحود ومن ثمّ تؤكد هذا الحساب توكيدا، وتؤكّد عاقبته وجزاءه المحتوم، وتصوّر ضخامة يوم الحساب وهوله، وتجرّد النفوس من كل حول فيه، وتفرّد الله سبحانه بأمره الجليل. مع آيات السورة تبدأ السورة بتصوير نهاية العالم

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

واختلال نظامه، وانفراط عقده، ويتمثّل ذلك في أمرين علويين وأمرين سفليين. أمّا الأمران العلويان، فهما انفطار السماء وانتثار الكواكب وأمّا الأمران السفليان، فهما تفجير البحار وبعثرة القبور. [الآية 1] : إذا انشقت السماء وتغيّر نظامها، فلم يبق نظام الكواكب على ما نرى، وهذا عند خراب العالم بأسره، قال تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) [الفرقان] . [الآية 2] : وفي هذا اليوم تتساقط الكواكب وتتفرّق وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) ، أي تساقطت متفرّقة، والكواكب تجري الآن في أفلاكها بسرعات هائلة، وهي ممسكة في داخل مداراتها لا تتعدّاها، فإذا انشقّت السماء تبع ذلك سقوط الكواكب وانتثارها، وذهابها في الفضاء بددا، كما تذهب الذرّة التي تنفلت من عقالها. [الآية 3] : وفي هذا اليوم تزول الحواجز بين البحار، فيختلط العذاب بالملح، وتغمر البحار اليابسة، وتطغى على الأنهار، كما يحتمل أن يكون تفجيرها تحويل مائها إلى عنصريه: الأوكسجين والهيدروجين. [الآية 4] : وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) أي أثيرت وقلب أعلاها أسفلها، وباطنها ظاهرها، ليخرج من فيها من الموتى أحياء للحساب والجزاء. [الآية 5] : عند حدوث كل هذه الظواهر، تعلم كل نفس ما قدّمت من الطاعات، وما أخّرت من الميراث. [الآيات 6- 8] : يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) أي شيء خدعك حتّى ضيّعت ما أوجب عليك ربّك، وصرت تقصّر في حقّه، وتتهاون في أمره، ويسوء أدبك في جانبه، وهو ربّك الكريم الذي أغدق عليك من كرمه وفضله وبرّه، فخلقك سويّا، معتدل القامة، متناسب الخلق، من غير تفاوت فيه، «فلم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا إحدى العينين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود» » . فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) أي

_ (1) . تفسير النسفي 4/ 253 [.....] .

ركّبك في صورة هي من أعجب الصور وأتقنها وأحكمها، وقد كان قادرا أن يركّبك في أيّ صورة أخرى يشاؤها، فاختار لك هذه الصورة السويّة المعتدلة الجميلة. وإنّ الإنسان لمخلوق جميل التكوين، سويّ الخلقة، معتدل التصميم وإنّ عجائب الإبداع في خلقه، لأضخم من إدراكه هو، وأعجب من كل ما يراه حوله وأنّ الجمال والاعتدال ليظهر في تكوينه الجسدي، وفي تكوينه العقلي، وفي تكوينه الروحي سواء، وهي تتناسق في كيانه بجمال واستواء. وهناك مؤلّفات كاملة في وصف كمال التكوين الإنساني العضوي، ودقّته وإحكامه وتؤكّد جلال القدرة المبدعة، التي أبدعت خلق الإنسان في أحسن تقويم، ويسّرت خلقه من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة، ثمّ سوّته خلقا كاملا فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون/ 14] . «وهذه الأجهزة العامّة لتكوين الإنسان الجسدي.. الجهاز العظمى، والجهاز العضلي، والجهاز الجلدي، والجهاز الهضمي، والجهاز الدموي، والجهاز التنفّسي، والجهاز التناسلي، والجهاز اللمفاوي، والجهاز العصبي، والجهاز البولي، وأجهزة الذوق والشمّ والسمع والبصر كلّ منها عجيبة، لا تقاس إليها كل العجائب الصناعية، التي يقف الإنسان مدهوشا أمامها، وينسى عجائب ذاته، وهي أضخم وأعمق وأدق بما لا يقاس» «1» . وتقول مجلة العلوم الإنجليزية: «إنّ يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعيّة الفذة، وإنه من الصعب جدّا، بل من المستحيل أن تبتكر آلة تضارع اليد البشرية، من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكيّف، فحينما تريد قراءة كتاب تتناوله بيدك، ثم تثبته في الوضع الملائم للقراءة، وهذه اليد هي التي تصحح وضعه تلقائيا، وحينما تقلّب إحدى صفحاته تضع أصابعك تحت الورقة، وتضغط عليها بالدرجة التي تقلّبها بها، ثمّ يزول الضغط بقلب الورقة واليد تمسك القلم وتكتب به، وتستعمل كافّة الآلات التي تلزم الإنسان من ملعقة إلى السّكّين، إلى آلة

_ (1) . في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب 30/ 491.

الكتابة، وتفتح النوافذ وتغلقها، وتحمل كلّ ما يريده الإنسان واليدان تشتملان على سبع وعشرين عظمة، وتسع عشرة مجموعة من العضلات لكل منهما» «1» . «وإنّ جزءا من أذن الإنسان (الأذن الوسطى) هو سلسلة من نحو أربعة آلاف حنيّة (قوس) دقيقة معقّدة، متدرّجة بنظام بالغ، في الحجم والشكل. ويمكن القول بأن هذه الحنيّات تشبه آلة موسيقية، ويبدو أنها معدّة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخ بشكل ما، كل وقع صوت أو ضجّة، من قصف الرعد إلى حفيف الشجر، فضلا عن المزيج الرائع من أنغام كلّ اداة موسيقية في الأوركسترا ووحدتها المنسجمة» «2» . «ومركز حاسّة الإبصار في العين، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء، وهي أطراف الأعصاب، ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلا ونهارا، والذي تعتبر حركته لا إراديّة ليمنع عنها الأتربة والذّرات والأجسام الغريبة، كما يكسر من حدّة الشمس بما تلقي الأهداب على العين من ظلال، وحركة الجفن علاوة على هذه الوقاية، تمنع جفاف العين. أمّا السائل المحيط بالعين، والذي يعرف باسم الدموع، فهو أقوى مطهّر..» «3» . «وجهاز الذوق في الإنسان هو اللسان، ويرجع عمله الى مجموعات من الخلايا الذوقيّة القائمة في حلمات غشائه المخاطي ... » . «ويتكوّن الجهاز العصبي الذي يسيطر على الجسم سيطرة تامة من شعيرات دقيقة، تمرّ في كافة أنحاء الجسم، وتتّصل بشعيرات أكبر منها، وهذه بالجهاز المركزي العصبي، فإذا ما تأثّر أيّ جزء في الجسم، نقلت الشعيرات العصبية هذا الإحساس إلى المخ، حيث يمكنه أن يتصرّف.. «ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على أنه عمليّة في معمل كيماوي، وإلى الطعام الذي نأكله على أنه موادّ غفل، فإنّنا

_ (1) . تفسير في ظلال القرآن نقلا عن كتاب: «الله والعلم الحديث» للأستاذ عبد الرزاق نوفل. (2) . تفسير في ظلال القرآن نقلا عن كتاب: «العلم يدعو إلى الإيمان» . (3) . تفسير في ظلال القرآن نقلا عن كتاب: «الله والعلم الحديث» .

ندرك توّا أنّه عملية عجيبة، إذ نهضم تقريبا كل شيء يؤكل ما عدا المعدة نفسها» «1» . وكلّ جهاز من أجهزة الإنسان الأخرى يقال فيه الشيء الكثير، فالإدراك العقلي، واختزان المعلومات، والإدراك الروحي لجلال الله، كلّها تدلّ على سعة عطاء الله وحكمته، وكرمه وفضله على الإنسان. [الآيات 9- 12] : كلّا: ارتدعوا عن الاغترار بكرم ربّكم لكم. بل تكذّبون بالحساب والمؤاخذة والجزاء، وهذه هي علّة الغرور وعلّة التقصير، وإنّه لموكل بكم ملائكة يحفظونكم، ويسجّلون أقوالكم وأعمالكم، ويحصونها عليكم، وهؤلاء الملائكة كرام فلا تؤذوهم بما ينفّرهم من المعاصي وإنّ الإنسان ليحتشم ويستحي وهو بمحضر الكرام، من أن يسفّ أو يتبذّل، في لفظ، أو كلمة، أو حركة، أو تصرّف فكيف به حينما يشعر أنه في كلّ لحظاته، في حضرة حفظة من الملائكة كرام لا يليق أن يطلعوا منه إلا على كل كريم من الخصال أو الفعال؟. وهؤلاء الملائكة يكتبون كلّ شيء، ولا تخفى عليهم خافية من أعمالكم، فإنهم يعلمون ما تفعلون سرّا أو علنا والملائكة قوى من قوى الخير منهم الحفظة والكتبة، ومنهم من ينزل بالوحي على الرسل وقد أمدهم الله سبحانه بقوّة خاصة، يستطيعون بها إنجاز ما يوكل إليهم من مهام. وليس علينا أن نبحث عن كنه هؤلاء الحفظة، ولا عن كيفيّة كتابتهم لأعمالنا، ويكفي أن يشعر القلب البشريّ أنّه غير متروك سدى، وأنّ عليه حفظة كِراماً كاتِبِينَ (11) يعلمون ما يفعله، ليرتعش ويستيقظ ويتأدّب. وهذا هو المقصود. [الآية 13] : إنّ الأبرار صدقوا في إيمانهم بأداء ما فرض عليهم، واجتناب ما نهوا عنه، سيكونون ممتّعين في نعيم الجنة. وليس البرّ مقصورا على الصلاة والصيام، ولكن البرّ عقيدة صادقة، وسلوك مستقيم، ويتمثل ذلك في القيام بالواجب، ومعاونة المحتاج، والاهتمام بأمر المسلمين، والحرص على نفع

_ (1) . في ظلال القرآن: نقلا عن كتاب: «الله والعلم الحديث» مع التلخيص والتصرّف.

مقاصد السورة

العباد، وكفّ الأذى، وصلة الرحم، وزيادة المريض، ومواساة البائس، وتعزية المحزون، والتخلّق بآداب الدّين. قال تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) [آل عمران] . [الآيات 14- 16] : إنّ الفجرة العصاة لفي نيران متأجّجة، يدخلونها يوم القيامة، بعد أن يحاسبوا على كل صغيرة وكبيرة، وما هم عن جهنّم بغائبين أبدا لخلودهم فيها. [الآيات 17- 19] : ولمّا كان يوم الدين هو موضوع التكذيب، فإنّ السياق يعود لتعظيمه وتضخيمه يقول تعالى: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) فهو فوق كلّ تصوّر، وفوق كلّ توقّع، وفوق كلّ مألوف وتكرار السؤال يزيد في وصف الهول ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) أي ثمّ عجيب منك أن تتهاون بنبإ هذا اليوم، وهوله الشديد. هو يوم لا تستطيع نفس أن تنفع نفسا أخرى، فكلّ نفس بهمّها وحملها عن كل من تعرف من النفوس، والأمر كله في ذلك اليوم لله وحده، فهو القاضي والمتصرّف فيه دون غيره. مقاصد السورة 1- وصف أهوال يوم القيامة. 2- تقصير الإنسان في مقابلة الإحسان بالشّكران. 3- بيان أعمال الإنسان، موكل بها كرام كاتبون. 4- بيان أن الناس في هذا اليوم: إمّا بررة منعّمون، وإمّا فجرة معذّبون.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الانفطار"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الانفطار» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الانفطار بعد سورة النازعات، ونزلت سورة النازعات بعد الإسراء، وقبيل الهجرة فيكون نزول سورة الانفطار في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وتبلغ آياتها تسع عشرة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إثبات الحساب على الأعمال، وما يتبع هذا من ثواب وعقاب فيكون الغرض المقصود منها هو الغرض المقصود من سورة التكوير، وهذا هو وجه المناسبة بين السورتين. إثبات الحساب على الأعمال الآيات [1- 19] ذكر تعالى أنّه، إذا حصل انفطار السماء وما ذكر بعده، تعلم كل نفس ما قدمت وأخرت من أعمالها، فتثاب أو تعاقب عليه ثم نادى الإنسان ما غرّه بكرمه، وجرّأه على معصيته، وهو الذي خلقه، فسوّاه فعدله، فركّبه في أحسن صورة، ثمّ زجره عن غروره وذكر سبحانه أنّ هذا الإنسان يكذّب بالحساب، مع أن عليه حافظين يكتبون ما يعمله وأنه جلّ شأنه سيجازي الأبرار بالنعيم، والفجّار بالجحيم ثم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

سأل سبحانه الإنسان عن يوم الحساب، سؤال تهويل ما أدراه ما هو؟ وأجاب عنه فقال جلّ وعلا: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الانفطار"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الانفطار» «1» أقول: قد عرف مما ذكرت وجه وضعها هنا، مع زيادة تآخيهما في المقطع «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . مقطع التكوير: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) . ومقطع الانفطار: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) وهما بمعنى.

المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة"الانفطار"

المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الانفطار» «1» قال تعالى فَعَدَلَكَ [الآية 7] أي: كذا خلقك، ومنهم من يثقّلها، فمن ثقّل «2» فقال: (عدّلك) ، فإنما على معنى «عدّل خلقك» و (عدلك) أي: عدل بعضك ببعضك فجعلك مستويا معتدلا، وهو في معنى «عدّلك» . وقال تعالى: خَلَقَكَ [الآية 7] ورَكَّبَكَ [الآية 8] كَلَّا [الآية 9] وإن شئت قرأت: (خلقك) و (ركّبك) (كلّا) فأدغمت لأنهما حرفان مثلان. والمثلان يدغم أحدهما في صاحبه، وإن شئت، إذا تحرّكا جميعا، أن تسكّن الأول وتحرّك الآخر «3» . وإذا سكن الأول لم يكن الإدغام وإن تحرك الأول وسكن الآخر، لم يكن الإدغام. وقال تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ [الآية 19] بجعل اليوم حينا كأنه سبحانه، والله أعلم، حين قال: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) قال ما معناه:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نسبت في معاني القرآن 3/ 244 إلى أهل الحجاز وفي الطبري 30/ 87 إلى عامّة قراء المدينة، ومكّة، والشام، والبصرة وفي السبعة 674 إلى ابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر وفي الكشف 2/ 364 و 220 إلى غير الكوفيين وفي الجامع 19/ 246 إلى العامة وفي اختيار أبي عبيد، وأبي حاتم، وفي البحر 8/ 437، إلى السبعة عدا من أخذ بالأخرى والقراءة بالتخفيف هي القراءة المثبتة في المصحف الشريف. (3) . نسبت في السبعة 674 إلى خارجة، عن نافع وفي البحر 8/ 437 إلى خارجة عن نافع كأبي عمرو ونسب إظهار الكافين في السبعة 674، إلى غير خارجة عن نافع.

«في حين لا تملك نفس» . وقرأ بعضهم (يوم لا تملك نفس) «1» بجعله تفسيرا لليوم الأول، كأنّ المعنى: «هو يوم لا تملك» .

_ (1) . نسبت في السبعة 674، والتيسير 220، والجامع 19/ 249، إلى ابن كثير وأبي عمرو وفي البحر 8/ 437، زاد ابن أبي إسحاق، وعيسى بن جندب.

المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة"الانفطار"

المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الانفطار» «1» إن قيل: لأي فائدة تخصيص ذكر صفة الكرم، دون سائر صفاته، في قوله تعالى: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الآية 6] ؟ قلنا: قال بعضهم: إنّما قال تعالى ذلك لطفا بعبده، وتلقينا له حجته وعذره، ليقول: غرّني كرم الكريم. وقال الفضيل رحمه الله: لو سألني الله تعالى هذا السؤال لقلت: غرّني ستورك المرخاة وروي أن عليا كرم الله وجهه صاح بغلام له مرات فلم يلبّه، ثم أقبل فقال: مالك لم تجبني؟ فقال: لثقتي بحلمك وأمني عقوبتك فاستحسن جوابه وأعتقه. ولهذا قالوا: من كرم الرجل، سوء أدب غلمانه. والحق أنّ الواجب على الإنسان أن لا يغترّ بكرم الله تعالى وجوده، في خلقه إيّاه، وإسباغه النعمة الظاهرة والباطنة عليه فيعصيه ويكفر نعمته اغترارا بتفضيله الأوّل، فإن ذلك أمر منكر خارج عن حدّ الحكمة، ولهذا قال رسول الله (ص) ، لمّا قرأها: غرّه جهله. وقال عمر رضي الله تعالى عنه: غرّه حمقه وجهله. وقال الحسن: غره، والله، شيطانه الخبيث الذي زيّن له المعاصي، فقال له: افعل ما شئت، فإنّ ربّك كريم. فإن قيل: لم قال الله تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً [الآية 19] والنفوس المقبولة الشفاعة، تملك لمن شفعت فيه شيئا، وهو الشفاعة؟ قلنا: المنفي ثبوت النصرة بالملك

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

والسلطنة، والشفاعة ليست بطريق الملك والسلطنة، فلا تدخل في النفي، ويؤيّده قوله تعالى: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) وقال مقاتل: المراد بالنفس الثانية الكافرة، والأصحّ، والله أعلم، أنه على العموم في النفسين.

سورة المطففين 83

سورة المطفّفين 83

المبحث الأول أهداف سورة"المطففين"

المبحث الأول أهداف سورة «المطفّفين» «1» سورة المطفّفين سورة مكية آياتها 36 آية، وهي آخر سورة نزلت في مكّة. وهي سورة تعالج طغيان الغني، واستغلال الفقراء، وتحارب تطفيف الكيل والميزان، وتبيّن أنّ صحف أعمال الفجّار في أسفل سافلين، وأنّ كتاب أعمال الأبرار في أعلى عليّين كما وصفت السورة النعيم المقيم الذي يتمتّع به الأبرار في الجنّة، وبيّنت أن المجرمين كانوا يسخرون من المؤمنين في الدنيا وفي يوم القيامة يتغيّر الحال، فيسخر المؤمن من الكافر، ويتمتّع المؤمن بألوان النعيم. مقاطع السورة تتألّف سورة المطفّفين من أربعة مقاطع، يبدأ المقطع الأول منها بإعلان الحرب على المطفّفين، وتهديدهم بالجزاء العادل، عند البعث والحساب [الآيات 1- 6] . ويتحدّث المقطع الثاني عن الفجّار في شدّة وردع وزجر، وتهديد بالويل والهلاك، ودمغ بالإثم والاعتداء وبيان لسبب هذا العمى، وعلة هذا الانطماس، وتصوير لجزائهم يوم القيامة، وعذابهم بالحجاب عن ربهم، كما حجبت الآثام في الأرض قلوبهم [الآيات 7- 17] . والمقطع الثالث يعرض الصفحة المقابلة، صفحة الأبرار، ورفعة مقامهم، والنعيم المقرر لهم، ونضرته التي تفيض على وجوههم، والرحيق

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....]

من أسباب نزول السورة

الذي يشربون وهم على الأرائك ينظرون، وهي صفحة ناعمة وضيئة. [الآيات 18- 28] . والمقطع الرابع يصف ما كان الأبرار يلقونه من استهزاء الفجار، وسخريتهم، وسوء أدبهم في دار الغرور ثم يقابل ذلك بما لقيه المؤمنون من التكريم، وما لقيه المجرمون من عذاب الجحيم في يوم الدين. [الآيات 29- 36] . من أسباب نزول السورة كان تطفيف الكيل منتشرا في مكّة والمدينة، وهو يعبّر عن جشع التّجار وطمعهم، ورغبتهم في بخس حق المشتري. روي أنه كان بالمدينة رجل يقال له أبو جهينة، له كيلان أحدهما كبير والثاني صغير، فكان إذا أراد أن يشتري من أصحاب الزروع والحبوب والثمار، اشترى بالكيل الكبير وإذا باع للناس كال للمشتري بالكيل الصغير. هذا الرجل وأمثاله ممّن امتلأت نفوسهم بالطمع، واستولى عليهم الجشع والنهم، هم المقصودون بهذا الوعيد الشديد، وهم الذين توعّدهم النبي (ص) ، وتهدّدهم بقوله: «خمس بخمس، قيل يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلّا سلّط الله عليهم عدوّا وما حكموا بغير ما أنزل الله إلّا فشا فيهم الفقر وما ظهرت الفاحشة في قوم يتعامل بها علانية، إلّا فشا الطاعون والأوجاع التي لم تكن فيمن قبلهم ولا طفّف قوم المكيال والميزان إلّا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور الحكام وما منع قوم الزكاة إلّا حبس عنهم المطر» . مع آيات السورة [الآية 1] : هلاك وعذاب عظيم لهؤلاء الذين يبخسون الكيل والميزان والتطفيف، لغة، التقليل، فالمطفّف هو المقلّل حق صاحبه بنقصانه، لأنّه لا يكاد يسرق في المكيال، والميزان، إلّا الشيء اليسير الطفيف. [الآية 2] : إذا كان لهم عند الناس حقّ في شيء يكال أو يوزن، وأرادوا أخذه منهم لا يأخذونه إلّا تامّا كاملا. [الآية 3] : وإذا كان للناس حقّ عندهم في مكيل أو موزون، أعطوهم ذلك الحق مع النقص والخسارة. ويلحق بالمطفّفين كل عامل لا يؤدّي

عمله، وإنما يحرص على الأجر كاملا، ويلحق بهم من يتسلّم العمل كاملا، ويبخس حقّ العامل أو ينقص أجره، وكذلك كل من يقصر في أداء واجبه. وعن ابن عباس «الكيل أمانة، والوزن أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، فمن وفى وفى له، ومن طفّف فقد علمتم ما قاله الله في المطفّفين» . [الآيتان 4- 6] : ألا يخطر ببال هؤلاء أنّ هناك يوما للبعث، تظهر فيه هذه الأعمال التي يخفونها على الناس، وأنهم سيبعثون في هذا اليوم الشديد الأهوال، الذي يقوم فيه الناس من قبورهم ليعرضوا على ربّ العالمين الذي خلقهم، ويعلم سرّهم وعلانيتهم. [الآيات 7- 9] : إن للشر سجلّا دونت فيه أعمال الفجّار، وهو كتاب مسطور بيّن الكتابة. وهذا السّجلّ يشتمل عليه السجل الكبير المسمّى بسجّين كما تقول إن كتاب حساب قرية كذا في السّجلّ الفلانيّ المشتمل على حسابها، وحساب غيرها من القرى. والفجّار هم المتجاوزون للحدّ في المعصية والإثم ولكلّ فاجر من هؤلاء الفجّار صحيفة وهذه الصحائف في السّجلّ العظيم المسمّى سجّين، وهو عظيم الشأن وهو كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) أي قد أثبتت فيه العلامات الدالة على الأعمال. [الآيات 10- 13] : هلاك وعذاب عظيم لهؤلاء المكذّبين، الذين يكذّبون الرسول (ص) ، ولا يؤمنون بيوم الحساب والجزاء، الذي أخبرهم به عن ربّ العلمين. وما يكذّب بهذا اليوم، إلّا من اعتدى على الحقّ، وعمي عن الإنصاف، واعتاد ارتكاب الآثام، والإعراض عن الحق والهدى، ولذلك إذا تليت عليه آيات القرآن، أو أخبار البعث والجزاء أنكرها، وقال هذه أباطيل السابقين. [الآية 14] : كَلَّا ليس كما يقولون بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) أي غطّى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية والقلب الذي يتعوّد المعصية ينطمس ويظلم، ويرين عليه غطاء كثيف، يفقده الحساسية شيئا فشيئا، حتى يتبلّد ويموت.

روى التّرمذيّ «1» ، والنسائي، وابن ماجة: «أنّ العبد إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع، واستغفر، وتاب، صقل قلبه وإن عاد زيد فيها، حتّى تعلو، فهو الران، الذي قال الله تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) . وقال الحسن البصري: هو الذنب على الذنب يعمي القلب فيموت. ثم يذكر السياق شيئا عن مصيرهم يوم القيامة، بقوله تعالى: [الآيات 15- 17] : كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) . فهم في يوم القيامة مطرودون من رحمة الله، محرومون من رؤيته في الآخرة، ثم إنّهم يصلون عذاب جهنّم، مع التأنيب والتقريع على تكذيبهم الحق، وإنكارهم البعث والجزاء فيقال لهم: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) . [الآيات 18- 21] : إن كتاب الأبرار محفوظ في سجلّ ممتاز في أعلى مكان في الجنّة، وما أعلمك ما هذا المكان، فهو أمر فوق العلم والإدراك، كتاب مسطور فيه أعمالهم، وهو موضع مشاهدة المقرّبين من الملائكة، ومتعتهم بما فيه من كرائم الأفعال والصفات. [الآيات 22- 28] : إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) إنّ الأبرار المتّقين الذين يؤمنون بالله، ويعملون أنواع البر من القربات والطاعات، هؤلاء ينعمون بنعيم الجنة، وهم على الأسرّة في الحجال «2» ينظرون إلى ما أعدّ لهم من النعيم وترى على وجوههم آثار النعمة وبهجتها، يسقون خمرا مختومة بالمسك، وهي لا تسكر كخمر الدنيا وفي ذلك النعيم فليتسابق المتسابقون، وليرغب الراغبون بالمبادرة الى طاعة ربهم، باتّباع أوامره واجتناب نواهيه. وهذا الشراب المعدّ لهم ممزوج بشراب آخر ينصبّ عليهم من عين

_ (1) . قال التّرمذي حسن صحيح، وللحديث روايات أخرى بألفاظ قريبة في المعنى (2) . الحجال: جمع حجلة والحجلة ستر يضرب في جوف البيت.

عالية، يشرب منها المقربون إلى رضوان ربهم. وقد سئل ابن عبّاس عن هذا فقال: هذا ممّا قال الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) [السجدة] . «وقصارى ما سلف، أنّه، سبحانه، وصف النعيم الذي أعدّه للأبرار في دار كرامته بما تتطلع اليه النفوس، وبما يشوّقها اليه، ليكون حضّا للذين يعملون الصالحات على الاستزادة من العمل، والاستدامة عليه وحثّا لهمم المقصرين، واستنهاضا لعزائمهم أن يحرصوا على التزوّد من العمل الصالح، ليكون لهم مثل ما لأولئك» «1» . [الآيات 29- 33] : إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) : كانوا يضحكون منهم استهزاء بهم وسخرية منهم، إمّا لفقرهم ورثاثة حالهم، وإمّا لضعفهم عن ردّ الذي، وإمّا لترفّعهم عن سفاهة السفهاء فكلّ هذا ممّا يثير ضحك الذين أجرموا، وهم يتّخذون المؤمنين مادّة لسخريتهم، أو فكاهتهم المرذولة. وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) يغمز بعضهم لبعض بعينه، أو يشير بيده، أو يأتي بحركة متعارف عليها بينهم للسخرية من المؤمنين، وإذا انقلب هؤلاء الضالّون إلى أهلهم، ورجعوا إلى بيوتهم، رجعوا إليها فكهين ملتذّين بحكاية ما يعيبون به أهل الايمان، إذ يرمونهم بالسّخافة وقلّة العقل، وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) أي وإذا رأوا المؤمنين نسبوهم الى الضلال لأنهم نبذوا العقائد الفاسدة، وتركوا عبادة الأصنام. ولم يرسل الله، سبحانه، الكفّار رقباء على المؤمنين، ولا كلّفهم بمحاسبتهم على أفعالهم، فما لهم وهذا الوصف، وهذا التقرير. روي أن عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، جاء في نفر من المسلمين، فرآه بعض هؤلاء الكفّار، فسخروا منه وممّن معه، وضحكوا منهم، وتغامزوا بهم، ثمّ رجعوا إلى جماعتهم من أهل الشرك، فحدّثوهم بما صنعوا به، وبأصحابه. والآيات ترسم مشهدا لسخرية

_ (1) . تفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي، ط 3، مصطفى البابي الحلبي، 30/ 82.

مقاصد السورة

المجرمين من المؤمنين، وقد يكون لنزولها سبب خاص، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ففي الآيات تعبير واقعي عن سخرية القويّ الفاجر من المؤمن الصابر، ممّا يدل على أن طبيعة الفجّار المجرمين واحدة، متشابهة، في موقفها من الأبرار، في جميع البيئات والعصور. يقول الإمام محمد عبده: «من شأن القويّ المستعز بكثرة أتباعه وقدرته، أن يضحك ممن يخالفه في المنزع، ويدعوه إلى غير ما يعرفه وهو أضعف منه قوّة وأقلّ عددا كذلك كان شأن جماعة من قريش، كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأتباعهم وهكذا يكون شأن أمثالهم في كلّ زمان متى عمّت البدع، وتفرّقت الشيع، وخفي طريق الحق بين طرق الباطل، وجهل معنى الدين، وأزهقت روحه من عباراته وأساليبه، ولم يبق الا ظواهر لا تطابقها البواطن» «1» . [الآيات 34- 36] : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) أي في يوم القيامة والكفّار محجوبون عن ربهم، يقاسون ألم هذا الحجاب يضحك المؤمنون، ضحك من وصل به يقينه الى مشاهدة الحق، فسرّ به وينكشف للمؤمنين ما كانوا يرجون من إكرام الله لهم، وخذلان أعدائهم، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) وهمّ على سررهم في الجنة ينظرون إلى صنع الله بأعدائهم، وإذلاله لمن كان يفخر عليهم، وتنكيله بمن كان يهزأ بهم، جزاء وفاقا. هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) ؟ أي أنهم ينظرون ليتحقّقوا: هل جوزي الكفّار، بما كانوا يفعلون بهم في الدنيا وإنما سمّي الجزاء على العمل ثوابا، لأنه يرجع الى صاحبه نظير ما عمل من خير أو شر. و (ثوّب) مثل أثاب، بمعنى جازى، يقع في الخير وفي الشر، وإن كان قد غلب الثواب في الخير. أي هل جوزي الكفّار بما كانوا يفعلون؟ مقاصد السورة 1- وعيد المطفّفين.

_ (1) . تفسير جزء عمّ، للأستاذ الإمام محمد عبده، الطبعة السادسة، مطابع الشعب، ص 37.

2- بيان أن صحائف أعمال الفجّار في أسفل سافلين. 3- الإرشاد إلى أنّ صحائف أعمال الأبرار في أعلى علّيّين. 4- وصف نعيم الأبرار، في مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم. 5- استهزاء المجرمين بالمؤمنين في الدنيا. 6- تضاحك المؤمنين منهم يوم القيامة. 7- نظر المؤمنين إلى المجرمين وهم يلقون جزاءهم وما أعدّ لهم من النّكال.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"المطففين"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المطفّفين» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة المطفّفين بعد سورة العنكبوت، وهي آخر سورة نزلت بمكّة، فيكون نزولها بعد الإسراء وقبيل الهجرة. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) وتبلغ آياتها ستا وثلاثين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة تحريم التّطفيف في المكيال والميزان، وإنذار من يفعل ذلك، بأنه مبعوث لحساب لا تساهل فيه بتطفيف أو نحوه. وبهذا سار سياقها في الترهيب كما سارت السورة قبلها، وهذا هو وجه ذكرها بعدها. تحريم التطفيف الآيات [1- 36] قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) فأنذر المطفّفين بالويل وذكر سبحانه أنهم الذين يستوفون إذا اكتالوا على الناس، وإذا كالوهم أو وزنوهم ينقصون والتطفيف البخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية ثمّ أنذرهم جلّ وعلا بأنهم مبعوثون ليوم عظيم، وبأن كتاب أعمالهم في سجّين، وهي الأرض السّفلى فإذا أتى هذا اليوم، فويل لهم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

على تكذيبهم به ... إلخ ثم انتقل السياق من هذا الترهيب إلى الترغيب، بذكر أنّ كتاب الأبرار في علّيّين، وهي السماء السابعة وذكر تعالى ما ذكر ممّا أعده لهم ثمّ ذكر أنّ أولئك المجرمين، كانوا يضحكون من هؤلاء الأبرار في الدنيا، وأنّ هؤلاء الأبرار يضحكون منهم في الآخرة، وهم على الأرائك ينظرون: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"المطففين"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المطفّفين» «1» أقول: الفصل بهذه السورة، بين الانفطار والانشقاق، التي هي نظيرتها من خمسة أوجه: الافتتاح ب إِذَا السَّماءُ [الانفطار/ 1] والتخلص ب يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ [الانفطار/ 6] ، وشرح حال يوم القيامة ولهذا ضمّت بالحديث السابق، والتناسب في المقدار، وكونها مكّيّة. وهذه السورة مدنيّة، ومفتتحها ومخلصها غير مآلها، لنكتة ألهمنيها الله. وذلك أن السور الأربع، لمّا كانت في صفة حال يوم القيامة، ذكرت على ترتيب ما يقع فيه. فغالب ما وقع في التكوير، وجميع ما وقع في الانفطار، وقع في صدر يوم القيامة، ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل، ومقاساة العرق والأهوال، فذكره في هذه السورة بقوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) . ولهذا ورد في الحديث: «يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» «2» . ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى، فتنشر الكتب، فأخذ باليمين، وأخذ بالشمال، وأخذ من وراء الظهر، ثم بعد ذلك يقع الحساب. هكذا وردت بهذا الترتيب الأحاديث فناسب تأخير سورة الانشقاق التي فيها إتيان الكتب

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . أخرجه البخاري في التفسير 6/ 207 عن ابن عمر، وأحمد في المسند مع اختلاف في اللفظ 2/ 13، 19 وعلى المطابقة 2/ 31.

والحساب «1» ، عن السورة التي قبلها، والتي فيها ذكر الموقف عن التي فيها مبادئ يوم القيامة. ووجه آخر، وهو: أنه جلّ جلاله لما قال في الانفطار: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) . وذلك في الدنيا، ذكر في هذه السورة حال ما يكتبه الحافظان، وهو: كتاب مرقوم جعل في علّيّين، أو في سجّين، وذلك أيضا في الدنيا، لكنّه عقّب بالكتابة، إمّا في يومه، أو بعد الموت في البرزخ كما في الآثار. فهذه حالة ثانية في الكتاب ذكرت في السورة الثانية. وله حالة ثالثة متأخّرة فيها، وهي أخذ صاحبه باليمين أو غيرها، وذلك يوم القيامة، فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك، عن السورة التي فيها الحالة الثانية، وهي الانشقاق، فلله الحمد على ما منّ بالفهم لأسرار كتابه. ثم رأيت الإمام فخر الدين قال في سورة المطفّفين أيضا: اتصال أوّلها بآخر ما قبلها ظاهر، لأنّه تعالى بيّن هناك أن يوم القيامة من صفته: لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار/ 19] وذلك يقتضي تهديدا عظيما للعصاة، فلهذا أتبعه بقوله سبحانه: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) .

_ (1) . وذلك في قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) [الانشقاق] ، إلى قوله: وَيَصْلى سَعِيراً (12) [الانشقاق] .

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"المطففين"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «المطفّفين» «1» 1- قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) . التّطفيف: هو البخس في الكيل والوزن، لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير. أقول: كأنّ المطفّف: هو الذي ينقص وضع الطفافة، وهي الزيادة بعد الكيل وفاء لما نقص منه في أثناء الكيل، وعلى هذا كان «المطفّف» من يمنع «الطّفافة» سرقة وغشّا، محاباة للبائع الذي يكيل لمصلحته، وكما يكون في الكيل يكون ذلك في الوزن. ثم قال تعالى: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) . والمعنى واضح، والأصل: كالوا لهم ووزنوا لهم ثم حذف وأوصل. 2- وقال تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) . وقوله تعالى: سِجِّينٍ، أي كتاب جامع هو ديوان الشّرّ، دوّن الله فيه أعمال الشياطين، وأعمال الكفرة، والفسقة من الجن والإنس وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة. 3- وقال تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) . وعلّيّون: علم لديوان الخير، الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثّقلين. أقول: و «علّيون» مما ألحق بجمع المذكر السالم لا واحد له وهو ممّا يشير إلى أن هذا الجمع قد شمل طائفة

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

كبيرة من الكلم، عاقلا كان أم غير عاقل. وقالوا أيضا: العلّيّون الغرف العالية في الجنة. 4- وقال تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) . وقوله تعالى: تَسْنِيمٍ (27) علم بعينها في الجنة. 5- وقال تعالى: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) . أي: ملتذّين بذكرهم. أقول: وجميع ما جاء من المعاني في (فكهين) ، في هذه الآية وغيرها، من أصل «الفاكهة» فاللذّة والتعجّب استفيدا من نعمة «الفاكهة» . وكذلك «الفكاهة» الشائعة في عصرنا.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"المطففين"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «المطفّفين» «1» قال تعالى: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أي: «إذا كالوا النّاس أو وزنوهم» ، فأهل الحجاز يقولون «كلت زيدا» و «وزنته» أي: «كلت له» و «وزنت له» . قال تعالى: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ بجعله في الحين، كما تقول «فلان اليوم صالح» تريد به الآن في هذا الحين، وتقول هذا بالليل «فلان اليوم ساكن» أي: الآن، أي: هذا الحين، ولا نعلم أحدا قرأها جرا والجرّ جائز. وقال تعالى كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [الآية 14] تقول: «ران» «يرين» «رينا» . وقال سبحانه: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا [الآية 28] بجعله على يُسْقَوْنَ [الآية 25] عَيْناً [الآية 28] وإن شئت جعلته على المدح، فتقطع من أول الكلام، كأنك تقول: «أعني عينا» . وقال تعالى: هَلْ ثُوِّبَ [الآية 36] فإن شئت أدغمت «2» وإن شئت لم تدغم، لأن اللام «3» مخرجها بطرف اللسان قريب من أصول الثنايا، والثاء بطرف اللسان وأطراف الثنايا، إلّا أنّ اللام بالشّقّ الأيمن أدخل في الفم، وهي قريبة المخرج منها ولذلك قرئ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نسب الإدغام في السبعة 676 إلى أبي عمرو وفي البحر 8/ 443 إلى النحويين، وحمزة، وابن محيصن. (3) . نسب عدم الإدغام إلى غير أبي عمرو وفي السبعة 676 إلى الجمهور وفي البحر 8/ 443.

بَلْ تُؤْثِرُونَ [الأعلى/ 16] فأدغمت اللام في التاء «1» ، لأنّ مخرج التاء والثاء قريب، من مخرج اللام.

_ (1) . هي قراءة نسبت في إعراب ابن خالويه 62 إلى حمزة وقيل قراءة حمزة، والكسائي، وهشام، والتيسير 43.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"المطففين"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «المطفّفين» «1» إن قيل: لم لم يقل الله تعالى إذا اكتالوا أو اتّزنوا على الناس يستوفون كما قال سبحانه في مقابلة وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) . قلنا: لأنّ المطفّفين كانت عادتهم، أنهم لا يأخذون ما يكال وما يوزن إلّا بالمكيال، لأن استيفاء الزيادة بالمكيال كان أمكن لهم، وأهون عليهم منه بالميزان، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكّنهم من البخس فيهما. فإن قيل: لم فسّر سبحانه وتعالى «سجّينا» بكتاب مرقوم، فقال تعالى: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وكذا فسّر تعالى «علّيّين» به، مع أن سجّينا اسم للأرض السابعة، وهو فعّيل من السجن وعلّيّين اسم للجنة أو لأعلى الأمكنة، أو للسماء السابعة، أو لسدرة المنتهى؟ قلنا: قوله تعالى: كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وصف معنوي لكتاب الفجّار ولكتاب الأبرار لا تفسير لسجّين ولعلّيّين، تقديره: وهو كتاب مرقوم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....]

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"المطففين"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «المطفّفين» «1» قوله سبحانه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) استعارة، لأنّ الحجاب لا يطلق إلّا على من يصحّ عليه الظهور والبطون، والاستتار والبروز. وذلك من صفة الأجسام المحدثة، والأشخاص المؤلّفة. والمراد بذكر الحجاب هاهنا، أنهم ممنوعون من ثواب الله سبحانه، مذودون عن دخول جنته، ودار مقامته. وأصل الحجب المنع. ومنه قولنا في الفرائض: الإخوة يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس. أي يمنعونها من الثلث، ويردّونها إلى السدس. ومن ذلك أيضا قولهم: حجب فلان عن باب الأمير. أي ردّ عنه، ودفع دونه. ويجوز أن يكون كذلك معنى آخر، وهو أن يكون المراد أنهم غير مقرّبين عند الله سبحانه بصالح الأعمال، واستحقاق الثواب. فعبّر سبحانه عن هذا المعنى بالحجاب. لأنّ المبعد المقصى يحجب عن الأبواب، ويبعد من الجناب.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

سورة الانشقاق 84

سورة الانشقاق 84

المبحث الأول أهداف سورة"الانشقاق"

المبحث الأول أهداف سورة «الانشقاق» «1» سورة الانشقاق سورة مكّيّة آياتها 25 آية، نزلت بعد سورة الانفطار. وهي سورة هادئة الإيقاع يغلب عليها هذا الطابع، حتى في وصف مشاهد القيامة، التي عرضتها سورة التكوير في جوّ عاصف. «وتطوف سورة الانشقاق بالقلب البشري في مجالات كونيّة وإنسانيّة شتّى، متعاقبة تعاقبا مقصودا، فمن مشهد الاستسلام الكوني، إلى لمسة لقلب الإنسان، إلى مشهد الحساب والجزاء، إلى مشهد الكون الحاضر وظواهره الموحية، إلى لمسة أخرى للقلب البشري، إلى التعجّب من حال الذين لا يؤمنون بعد ذلك كلّه، إلى التهديد بالعذاب الأليم، واستثناء المؤمنين من العذاب» «2» . مقاطع السورة يمكن أن تقسم سورة الانشقاق إلى أربعة مقاطع: المقطع الأول: وفيه مطلع السورة، ذلك المطلع الخاشع الجليل، الذي يفيد نهاية الكون واستجابة السماء والأرض لأمر الله في خشوع وطواعية (وذلك في الآيات 1- 5) . والمقطع الثاني: يبيّن أن الإنسان محاسب على عمله، وسيجازى عليه، فالمؤمن يأخذ كتابه باليمين، ويلقى السرور وحسن الجزاء والكافر يأخذ

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. (2) . في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب 30/ 98.

مع آيات السورة

كتابه من وراء ظهره، ويلقى الهلاك والسعير (وذلك في الآيات 6- 15) . والمقطع الثالث يعرض مشاهد الكون، في صورة تأخذ بالألباب (وذلك في الآيات 16- 19) . والمقطع الرابع يتعجّب من حال هؤلاء الذين يعرضون عن الإيمان، ويهدّدهم بالجزاء العادل (وذلك في الآيات 20- 25) . وهذه اللمسات المتعدّدة تطوف بالقلب البشريّ، وتنتقل بالنفس خلال مشاهد الآخرة والدنيا، والحساب والجزاء، في آيات قصيرة وحيّز محدود، ممّا لا يمكن لبشر أن يفعله ولكنّه القرآن الذي يسّره الله للذّكر، وأنزله لهداية العالمين. مع آيات السورة [الآيات 1- 5] : يصف الله سبحانه وتعالى ما يحدث من الأهوال يوم القيامة عند خراب الدنيا، فيذكر سبحانه أن السماء تنشقّ وتصبح ذات فروج وفتحات، وتنقاد هذه السموات لأمر ربّها وتخضع لتأثير قدرته، حينما يريد انشقاقها، فهي أشبه بالمطيع الذي يذعن لأمر سيده والأرض تسوّى وتبسط باندكاك جبالها وتخرج ما فيها من الموتى حتى لا يبقى بداخلها شيء وتنقاد كذلك لأمر ربها، وتخضع لتأثير قدرته، لأنها في قبضة القدرة الإلهية، تصرّفها في الفناء، كما صرفتها في الابتداء. وجواب «إذا» التي صدّرت بها السورة محذوف، وتقدير الكلام، والله أعلم: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) ترون جزاء ما عملتم من خير أو شر. وخلاصة ذلك: وصف أحوال يوم القيامة، وفيه تبدّل الأرض غير الأرض، والسماوات غير السماوات ويبرز الناس للحساب، على ما قدّموا في حياتهم من عمل وعلينا أن نؤمن بذلك كله، ونكل علم حقيقته، ومعرفة كنهه الى الله تعالى. [الآيات 6- 15] : يا أيّها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحا تحمل عبئك، وتجهد جهدك، وتشقّ طريقك لتصل في النهاية إلى ربّك فإليه المرجع وإليه المآب، بعد الكدّ والكدح والجهاد، وفي يوم البعث ينكشف الالتباس، ويعرف كل عامل ما جرّ إليه عمله، والناس حينئذ صنفان: 1- الذي يعرض عليه سجلّ

أعماله، ويتناول كتابه بيمينه، فإنه يحاسب أيسر الحساب، إذ تعرض عليه أعماله فيعرف بطاعته وبمعاصيه، ثم يثاب على ما كان منها طاعة، ويتجاوز له عما كان منها معصية. عن عائشة (رض) قالت: «سمعت رسول الله (ص) يقول في بعض صلاته: «اللهم حاسبني حسابا يسيرا» فلمّا انصرف قلت: يا رسول الله، وما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك» » . فهذا هو الحساب اليسير الذي يلقاه من يؤتى كتابه بيمينه، ثم ينجو وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وأهله هم الناجون الذين سبقوه الى الجنة. 2- وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) ، والذي ألفناه في تعبيرات القرآن من قبل هو كتاب اليمين، وكتاب الشمال، فهذه صورة جديدة: صورة إعطاء الكتاب من وراء الظهر، وليس يمتنع أن يكون الذي يعطى كتابه بشماله، يعطاه كذلك من وراء ظهره، فهي هيئة الكاره المكره، الخزيان من المواجهة. والذي نخلص اليه، أنّ إيتاء الكتاب باليمين، أو باليسار أو من وراء الظهر، تصوير لحال المطّلع على أعماله في ذلك اليوم، فمن الناس من إذا كشف له عمله ابتهج واستبشر، وتناول كتابه بيمينه ومنهم من إذا انكشفت له سوابق أعماله عبس وبسر، وأعرض عنها وأدبر، وتمنّى لو لم تكشف له، وتناولها باليسار أو من وراء الظهر، وحينئذ يدعو ووا ثبوراه، أي يا هلاك أقبل، فإنّي لا أريد أن أبقى حيّا. ولا يفعل الإنسان ذلك، إلّا إذا كان في شدّة التعاسة والشقاء، كما يقول المتنبي: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا وتناول الكافر لكتابه بشماله أو من وراء ظهره علامة على سخط الله عليه، وهو يدعو على نفسه بالهلاك والويل، ويدخل نار جهنم التي سعّرت وأوقدت، ليحترق بنارها لأنه كان في الدنيا بين عشيرته من الكافرين، لاهيا في شهواته، منقادا لأهوائه، لا يخطر الموت على باله، ولا البعث،

_ (1) . رواه الإمام أحمد بإسناده عن عبد الله بن الزبير عن عائشة، وهو صحيح على شرط مسلم، لم يخرجه.

إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) إلى ربه، ولن يرجع إلى بارئه ولو ظن الرجعة في نهاية المطاف، لقدّم بعض العمل، وادّخر شيئا للحساب. بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) : أي بلى ليحورنّ وليرجعن إلى ربّه، وليحاسبنّه على عمله، فهو سبحانه كان مطّلعا على أمره، محيطا بحقيقته، عالما بحركاته وخطواته. وتصوّر الآيات هذا التعيس، وهو مسرور بين أهله في حياة الدنيا القصيرة ولكنّه في الآخرة حزين يتمنّى الموت والهلاك، تقابلها صورة ذلك السعيد المؤمن، وهو ينقلب إلى أهله مسرورا، في حياة الآخرة المديدة، لقاء ما قدّم من سعي حميد، وعمل صالح. وتعود الآيات إلى لمحات من الكون، تجمع بين الخشوع الساكن، والجلال المرهوب: [الآيات 16- 19] : فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) والشفق هو الوقت الخاشع المرهوب بعد الغروب، وبعد الغروب تأخذ النفس روعة ساكنة عميقة، ويحسّ القلب معنى الوداع، وما فيه من أسى صامت، وشجّى عميق، كما يحس رهبة الليل القادم، ووحشة الظلام الزاحف، ويلفّه في النهاية خشوع، وخوف خفيّ، وسكون. وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) : هو الليل وما جمع وما حمل من الظلام والنجوم، أو ما عمل فيه من التهجّد، أو ما جمع من مخلوقات كانت منتشرة بالنهار، فإذا جنّها الليل أوت إلى مأواها. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) : أي اكتمل واستدار وصار بدرا، وهو مشهد رائع للقمر في ليالي اكتماله، يفيض على الأرض بنوره الحالم الخاشع، الموحي بالصمت الجليل. يقسم القرآن الكريم بهذه الأشياء التي إذا تدبّر الإنسان أمرها، استدلّ بجلالها وعظمة شأنها على قدرة مبدعها. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) : أي لتلاقن أيها الناس أمورا بعد أمور، وأحوالا بعد أحوال من الموت والبعث والحشر، إلى أن تصيروا إلى ربّكم وهناك تلقون جزاء أعمالكم. [الآيات 20- 25] : فلماذا لا

مقاصد السورة

يؤمنون بالبعث والنشور، وهم يرون آثار قدرة الله وبدائع صنعه، وما لهم لا يخضعون لآيات القرآن، وفيها من اللّمسات والموحيات ما يصل القلب البشري بالوجود الجميل، وببارئ الوجود الجليل، وإذا قرأ المؤمن هذه الآية، سجد لله سجود التلاوة، عند قوله: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) . ولكنّ الكافرين قوم معاندون فالتكذيب طابعهم، والله أعلم بما يكنّون في صدورهم، ويضمّون عليه جوانحهم، من بغي وحسد، وإشراك بالله، وحقد للرسول (ص) ولذلك أمر الله نبيه (ص) أن يبشّرهم جميعا، بالعذاب المؤلم الموجع يوم القيامة ... ويا لها من بشرى لا تسرّ. أما الذين آمنوا بالله تعالى ورسوله (ص) ، وامتثلوا أوامر الله فعملوا الأعمال الصالحة، فلهم الأجر الحسن، والثواب الدائم الذي لا ينقطع ولا يزول. مقاصد السورة 1- وصف مشاهد القيامة. 2- الإنسان كادح عامل في الدنيا، وسيلقى الجزاء في الآخرة. 3- المؤمن يأخذ كتابه باليمين، فيجد السعادة والسرور. 4- الكافر يأخذ كتابه من وراء ظهره، فيجد الشقاء والسعير. 5- القسم بالشّفق والليل والقمر، تنبيها لجلالها وبديع صنعها. 6- النّاس تنتقل من الحياة الى الموت ثمّ إلى البعث والحساب والجزاء، فهم ينتقلون في أحوالهم طبقة بعد طبقة، ليستقرّوا في نعيم مقيم، أو في عذاب أليم.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الانشقاق"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الانشقاق» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الانشقاق بعد سورة الانفطار، ونزلت سورة الانفطار بعد الإسراء، وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الانشقاق، في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وتبلغ آياتها خمسا وعشرين آية. الغرض منها وترتيبها يقصد من هذه السورة، إثبات المعاد، وما يكون فيه من حساب وثواب وعقاب فهي أيضا في سياق الإنذار، والترهيب، والترغيب، كسورة المطفّفين وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها. إثبات المعاد الآيات [1- 25] ذكر سبحانه، أنه، إذا حصل انشقاق السماء، وما ذكر بعده يرى كل إنسان ما عمل وأنه كادح اليوم حتّى يلاقيه ثم فصّل ما يكون فيه من أخذ بعضهم كتابه بيمينه، ومحاسبته حسابا يسيرا، ومن أخذ بعضهم كتابه وراء ظهره ... إلخ. ثم أقسم، جلّ وعلا، بالشفق وما ذكر معه، على أنهم سيركبون في الشّدّة طبقا بعد طبق، ووبّخهم على عدم إيمانهم مع هذه النّذر وذكر

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

سبحانه أنهم يكذبون مع قيام هذه الدلائل، وهو أعلم مما يوعون في صدورهم ثم أمر جلّت قدرته، بتبشيرهم بعذاب أليم: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الانشقاق"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الانشقاق» «1» قد استوفي الكلام فيها في سورة المطفّفين.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"الانشقاق"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الانشقاق» «1» 1- قال تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) . أي: لن يرجع إلى الله تعالى، تكذيبا بالمعاد يقال: لا يحور ولا يحول. أي لا يرجع ولا يتغيّر. أقول: والفعل «حار يحور» من الأفعال المعروفة في عاميّتنا في العراق، وليس في الفصيحة المعاصرة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"الانشقاق"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الانشقاق» «1» قال تعالى: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) أي: وحقّ لها. وقال سبحانه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) تقول: «أوعيت في قلبي كذا وكذا» ، كما تقول: «أوعيت الزّاد في الوعاء» ، وتقول: «وعت أذني» قال تعالى: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) [الحاقّة] . وأمّا: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) فعلى معنى يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) على التقديم والتأخير.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الانشقاق"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الانشقاق» «1» إن قيل: أين جواب إِذَا في قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) ؟ قلنا. فيه وجوه: أحدها أنه متروك لتكرّر مثله في القرآن. الثاني: أنه أَذِنَتْ [الآية 2] والواو فيها زائدة. الثالث: أنه محذوف تقديره بعد قوله تعالى: وَحُقَّتْ (2) بعثتم أو جوزيتم أو لاقيتم ما عملتم، ودلّ على هذا المحذوف قوله تعالى: فَمُلاقِيهِ (6) . الرابع: أنّ فيه تقديما وتأخيرا تقديره: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"الانشقاق"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الانشقاق» «1» في قوله تعالى: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) استعارة. والمراد بها بعث الأموات، وإعادة الرفات. فكأنّ الأرض كانت حاملا بهم فوضعتهم، أو حاملة لهم فألقتهم، فكانوا كالجنين المولود، والثّقل المنبوذ. وفي قوله سبحانه: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) استعارة. ومعنى (وسق) هاهنا أي ضمّ وجمع. فكأنه يضم الحيوانات الإنسانية إلى مساكنهم، والحيوانات الوحشية إلى موالجها، والطيور إلى أوكارها ومواكنها «2» فكأنّه ضمّ ما كان بالنهار منتشرا، وجمع ما كان متبدّدا متفرّقا. والأوساق مأخوذة من ذلك، لأنها الأحمال التي يجمع فيها الطعام، وما يجري مجراه ويقال: طعام موسوق أي مجموع في أوعيته. وقد قيل: إنّ معنى (وسق) أي طرد. والوسيقة: الطريدة. فكأنّ الليل يطرد الحيوانات كلّها إلى مثاويها، ويسوقها إلى مخافيها. وقوله سبحانه: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) استعارة على بعض التأويلات. والمراد بها لتنقلبنّ من حال شديدة إلى حال مثلها، من حال الموت وشدّته إلى حال الحشر وروعته.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . الموكن والموكنة: عشّ الطائر.

وقيل: لتركبنّ سنّة من كان قبلكم من الأمم. وقيل: المراد بذلك تنقّل الناس في أحوال الأعمار، وأطوار الخلق والأخلاق. والعرب تسمّي الدواهي «بنات طبق» وربما سمّوا الداهية: أمّ طبق. قال الشاعر «1» : قد طرّقت ببكرها أمّ طبق فنتجوها خبرا ضخم العنق موت الإمام فلقة من الفلق والفلق أيضا من أسماء الدواهي. واحدها فلقة. وفي قوله سبحانه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) استعارة. والمراد بها ما يسرّون في قلوبهم، ويكنّون في صدورهم. يقول القائل أوعيت هذا الأمر في قلبي. أي جعلته فيه كما يجعل الزاد في وعائه، ويضمّ المتاع في عيابه «2» فالقلوب أوعية لما يجعل فيها من خير أو شر، وعلم أو جهل أو باطل أو حق.

_ (1) . هو خلف الأحمر. وأصله مولى لأبي بردة من فرغانة، ولكنّه حفظ كلام العرب وشعرهم وأخبارهم، حتى صار يقول الشعر، فيجيده وينحله الشعراء المتقدّمين. وكان الأصمعي من رواته، كما سمع هو من حمّاد الراوية. وأخباره في «طبقات الأدباء» و «الشعر والشعراء» و «العقد الفريد» و «الفهرست» . توفي سنة 180 هـ. وأمّ طبق: هي الداهية. والخبر: الناقة الغزيرة اللبن، والفلقة: الداهية. وفي ثمار القلوب» للثعالبي: قال الأصمعي: أول من نعى المنصور بالبصرة خلف الأحمر، وكنّا في حلقة يونس، فجاء خلف الأحمر فسلّم، ولم يكن الخبر فشا، ثم قال: «قد طرّقت ببكرها أمّ طبق» . فقال يونس: وما ذاك يا أبا محرز؟ فقال «فنتجوها خبرا ضخم العنق» . فقال: لم أدر بعد! فقال: «موت الإمام فلقة من الفلق» . فارتفعت الضجة بالبكاء والاسترجاع- ص 207 من «الثمار» . وانظر الخبر في «لسان العرب» مادة طبق. وفي الورقة 60 من كتاب «المعوّل عليه في المضاف والمضاف إليه» للمحبّي، وهو مخطوط مصور بمجمع اللغة العربية. (2) . العياب: الأوعية واحدها: العيبة.

سورة البروج 85

سورة البروج 85

المبحث الأول أهداف سورة"البروج"

المبحث الأول أهداف سورة «البروج» «1» سورة البروج سورة مكّيّة، آياتها 22 آية، نزلت بعد سورة الشمس. هذه السورة القصيرة تعرض حقائق العقيدة، وقواعد التصور الإيماني، وتمجّد الثبات على الحقّ، وتبشّر المؤمن بنصر الدنيا ونعيم الآخرة، وتهدّد الجبّارين المعتدين بنقمة الله ولعنته في الدنيا والآخرة. أصحاب الأخدود الأخدود: الشق في الأرض يحفر مستطيلا، وجمعه أخاديد، وأصحاب الأخدود قوم كافرون ذوو بأس وقوة، رأوا قوما من المؤمنين فغاظهم إيمانهم، فحملوهم على الكفر فأبوا، فشقّوا لهم شقّا في الأرض وحشوه بالنار، وألقوهم فيه، وكان هؤلاء الغلاظ الأكباد على جوانب الشّقّ يشهدون الإحراق. فقرات السورة تبدأ الفقرة الأولى بالقسم، وتربط بين السماء ويوم القيامة، وبين حادث الأخدود، ونقمة الله على أصحابه في الآيات [1- 4] . 2- ثم تعرض الفقرة الثانية المشهد المفجع في لمحات خاطفة تظهر بشاعة الحادث، بدون تفصيل ولا تطويل، مع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدّتها، وانتصرت على النار وعلى الحياة ذاتها في الآيات [5- 10] .

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....]

مع آيات السورة

3- ثم يجيء التعقيب بعد ذلك بفوز المؤمنين، وبشدّة بطش الله بالمجرمين، وبقدرته وهيمنته على الكون، ثمّ اشارة سريعة الى سوابق من أخذ من الطغاة كفرعون وثمود في الآيات [11- 22] . مع آيات السورة [الآيات 1- 3] : يقسم الله سبحانه بالسماء ذات الكواكب، والنجوم الكثيرة، التي تنتشر في أرجائها، ويقسم بيوم القيامة، ويقسم بالشاهد والمشهود، والشاهد هو الملائكة تشهد على الناس يوم القيامة، والمشهود عليه هو الخلائق أو الأنبياء تشهد على أممهم يوم القيامة، أو بجميع ما خلق الله في هذا الكون مما يشهده الناس، ويرونه رأي العين. وخلاصة ذلك أنه سبحانه أقسم بالعوالم كلها، ليلفت الناظرين إلى ما فيها من العظم والفخامة. [الآية 4] : قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) أي أخذوا بذنوبهم، ونزل بهم نكال الدنيا وعذاب الآخرة. ومن حديث ذلك أنه قد وقع إلى نجران من أرض اليمن، رجل ممّن كانوا على دين عيسى بن مريم (ع) ، فدعا أهلها الى دينه، وكانوا على اليهودية، وأعلمهم أنّ الله بعث عيسى (ع) بشريعة ناسخة لشريعتهم، فآمن به قوم منهم، وبلغ ذلك ذا نواس ملكهم، وكان يتمسك باليهودية، فسار إليهم بجنود من حمير، فلمّا أخذهم، خيّرهم بين اليهودية والإحراق بالنار، وحفر لهم حفيرة ثم أضرم فيها النار، وصار يؤتى بالرجل منهم فيخيّره: فمن جزع من النار، وخاف العذاب، ورجع عن دينه، ورضي اليهودية، تركه ومن استمسك بدينه، ولم يبال بالعذاب الدنيوي، لثقته بأن الله يجزيه أحسن الجزاء، ألقاه في النار. ثم بيّن من أصحاب الأخدود فقال: [الآية 5] : النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) أي أن أصحاب الأخدود هم أصحاب النار، التي لها من الحطب الكثير ما يشتدّ به لهيبها، وجرم يكون حريقها عظيما. [الآية 6] : إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) أي قتلوا ولعنوا حينما أحرقوا المؤمنين بالنار، وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم، وهم يعذّبون ويحرقون فيها. [الآية 7] :

وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وهو تعبير يصوّر قسوة قلوبهم، وتمكّن الكفر منهم. فإنّ التعذيب كان يجري بأمرهم، وكانوا يقعدون على مقربة من النار، ويشاهدون أطوار التعذيب وفعل النار في الأجسام بلذّة وسعار، كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع. [الآيتان 8 و 9] : وما أنكر أصحاب الأخدود على هؤلاء الذين أحرقوهم بالنار إلا أنهم آمنوا بربهم، الموصوف بالغلبة والقهر، المحمود على نعمه وأفضاله، الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما، وهو رقيب على الجميع شاهد على أعمالهم وأحوالهم. [الآية 10] : إنّ هناك جزاء عادلا في الآخرة. وهؤلاء الذين عذّبوا المؤمنين وأحرقوهم في الدنيا، ولم يندموا على ما فعلوا، سيلقون عقابهم في جهنم، وفي حريق شديد، لقد أحرقوا المؤمنين بنار الدنيا، وهي جزء يسير من نار الآخرة، إذ نارها شديدة ومعها غضب الله على العصاة. [الآية 11] : وهؤلاء المؤمنون الصادقون، يلقون جزاءهم في جنّات تجري من تحتها الأنهار، مع رضوان الله، وذلك هو الفوز الكبير. وبهذا يتمّ الأمر، وينال كل طرف جزاءه العادل، فالظالمون الطّغاة يلقون عذاب الحريق، والمؤمنون الصادقون يلقون الجنة ورضوانا من الله وذلك هو الفوز الكبير. [الآيات 12- 16] : ان انتقام الله من الظالمين لشديد، فهو يمهلهم حتّى إذا أخذهم لم يفلتهم، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده يوم القيامة. ثم ذكر سبحانه خمسة أوصاف من صفات الرحمة والجلال فقال: 1- وَهُوَ الْغَفُورُ [الآية 14] لمن يرجع اليه بالتوبة. 2- الْوَدُودُ (14) كثير الود والعطاء والمحبة لمن أخلصوا له. 3- ذُو الْعَرْشِ [الآية 15] ذو السلطان الكبير والقدرة الكاملة. 4- الْمَجِيدُ (15) العظيم الكرم والفضل. 5- فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويختار. وهو صاحب الإرادة الطليقة والقدرة المطلقة وراء الأحداث، ووراء الحياة، ووراء كل شيء في الوجود. [الآيتان 17 و 18] :

مقاصد السورة

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) الجنود تطلق تارة على العسكر، وتطلق تارة أخرى على الأعوان والمراد بهم هنا الجماعات الذين تجنّدوا على أنبياء الله واجتمعوا على أذاهم، هل أتاك حديثهم؟ وكيف فعل ربك بهم ما يريد. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) لقد أهلك الله فرعون وجنده، ونجا موسى ومن آمن معه وقصّة ثمود مع صالح معروفة، فقد عقرت ثمود الناقة التي جعلها الله لهم آية، وقد أهلكهم الله عن بكرة أبيهم، ونجّى صالحا ومن معه من المؤمنين. وخلاصة ذلك: أنّ الكفّار في كلّ عصر متشابهون، وأنّ حالهم مع أنبيائهم لا تتغيّر ولا تتبدّل، فهم في عنادهم سواء، ولكنّ العاقبة دائما للمتّقين، وبطش الله شديد بالطغاة الظالمين. [الآيات 19- 22] : وفي الختام تقرّر السورة أنّ الكفّار في كل عصر يكذّبون الرسالات، وهم غافلون عما يحيط بهم من قهر الله وقدرته، وهو سبحانه محيط بهم وعالم بجميع أحوالهم، وسوف يؤاخذهم على عملهم، وهذا الذي كذّب به قومك كتاب شريف، متفرّد في النظم والمعنى، محفوظ من التحريف، مصون من التغيير والتبديل. مقاصد السورة 1- إظهار عظمة الله وجليل صفاته. 2- قصة أصحاب الأخدود. 3- عاقبة المتّقين الجنّة والرضوان، ونهاية المعتدين الهلاك والحريق. 4- يبيد الله الأمم الطاغية في كلّ حين، ولا سيّما الذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات. 5- القرآن مجيد شريف، وكفى شرفا أنه كلام الله.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"البروج"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «البروج» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة البروج بعد سورة الشمس، ونزلت سورة الشمس بعد سورة القدر، ونزلت سورة القدر بعد سورة عبس، وكان نزول سورة عبس فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة البروج في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وتبلغ آياتها اثنتين وعشرين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على تعذيب أهل مكّة لهم، وتذكيرهم بما جرى من التعذيب لمن آمن قبلهم وقد اقتضى هذا إنذار من يعذّبهم، فسارت به هذه السورة في سياق الإنذار كالسورة التي قبلها وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها. تثبيت المؤمنين على إيذاء المشركين الآيات [1- 22] قال الله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) فأقسم بهذا على قتل أصحاب الأخدود من الأوّلين، وهم الذين حفروا أخاديد ووضعوا فيها

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

نارا وألقوا فيها من آمن منهم ثمّ ذكر سبحانه أن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات من كفّار قريش، كما فتن هؤلاء من آمن منهم لهم عذاب جهنّم، وأن المؤمنين لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثم ذكّر جلّ وعلا أن بطشه شديد، إلى غير هذا مما ذكره من صفات نقمته ورحمته بعد ما ذكّر من عقابه وثوابه، ثم ذكّر النبي (ص) بما فعله بفرعون وثمود، وذكر أن هؤلاء المشركين مع هذا مستمرون في تكذيبهم، وهدّدهم بأنه محيط بهم، وذكّر أن ما أنذرهم به من ذلك إنّما هو قرآن مجيد: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورتي"البروج" و"الطارق"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورتي «البروج» و «الطارق» «1» أقول: هما متآخيتان فقرنتا، وقدمت الأولى لطولها، وذكرتا بعد الانشقاق للمؤاخاة في الافتتاح بذكر السماء، ولهذا ورد في الحديث ذكر السموات مرادا بها السور الأربع «2» كما قيل المسبّحات.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . أخرجه الامام أحمد في المسند 2/ 327 عن أبي هريرة ان النبي (ص) أمر أن يقرأ بالسموات في العشاء. يعني: السور الأربع المفتتحة بذكر السماء.

المبحث الرابع مكنونات سورة"البروج"

المبحث الرابع مكنونات سورة «البروج» «1» أخرج ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا: 1- وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) : يوم القيامة. 2- وَشاهِدٍ [الآية 3] : يوم الجمعة. 3- وَمَشْهُودٍ يوم عرفة. وقال النّخعي: الشاهد يوم النحر. وقال مجاهد: الشاهد: آدم (ع) . وقال الحسن والحسين رضي الله عنهما. الشاهد: محمد (ص) . أخرج ذلك ابن أبي حاتم. وأخرج ابن جرير. عن عكرمة قال: الشاهد محمد، والمشهود يوم الجمعة. 4- أَصْحابُ الْأُخْدُودِ [الآية 4] . أخرج ابن أبي حاتم من طريق قتادة، قال: كنّا نحدّث أنّ عليا قال: هم أناس كانوا بمدارع اليمن. وأخرج من طريق الحسن عنه قال: هم الحبشة «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . انظر قصّة أصحاب الأخدود في «صحيح مسلم» كتاب الزهد، باب قصة أصحاب الأخدود والسامر والراهب. و «سنن التّرمذي» في التفسير، حديث رقم: (3337) . وجاء في «الإتقان» 2/ 150 أن أصحاب الأخدود: ذو نواس، وزرعة بن أسد الحميري وأصحابه.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"البروج"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «البروج» «1» موضع قسمها، والله أعلم، على: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) بإضمار اللام كما قال: وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) [الشمس] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) [الشمس] أي: إن شاء الله «لقد أفلح من زكّاها» بإلقاء اللّام. وإن شئت على التقديم، كأنّ السياق: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) . وأما قوله تعالى: النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) فعلى البدل. وقال تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) ف الْمَجِيدُ (15) جر كذلك على (العرش) «2» والرفع على قوله ذُو «3» وكذلك مَحْفُوظٍ (22) جر على (اللّوح) «4» ورفع على

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نسبت في معاني القرآن 3/ 254 إلى يحيى وأصحابه، وفي الطبري 30/ 913 إلى عامّة قرّاء الكوفة، وفي الكشف 2/ 369، والتيسير 221 إلى حمزة والكسائي، وفي السبعة 678 زاد عاصما وفي الجامع 9/ 296 إلى الكوفيّين عدا عاصما، وفي البحر 8/ 452 إلى الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضّل عن عاصم والأخوين. (3) . في الطبري 30/ 139 إلى عامّة قرّاء المدينة ومكّة والبصرة وبعض الكوفيّين، وفي الكشف 2/ 369، والتيسير 221 إلى غير حمزة والكسائي، وفي الجامع 19/ 296 إلى عاصم وغيره مما عدا الكوفيّين، وفي السبعة 678 إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم. (4) . نسبت في السبعة 678، وحجة ابن خالويه 340، والكشف 2/ 369، والجامع 19/ 299 إلى غير نافع، وفي البحر 8/ 452 إلى الجمهور، وفي الطبري 30/ 140 الى ابي جعفر القارئ وابن كثير من أهل الحجاز وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي من أهل الكوفة.

(القرآن) «1» وأما الْوَقُودِ (5) فالحطب و «الوقود» الفعل وهو الاتّقاد» .

_ (1) . نسبت في معاني القرآن 3/ 254 إلى شيبة وأبي جعفر، وفي الطبري 30/ 140 إلى ابن محيصن ونافع، وفي السبعة 678، وحجّة ابن خالويه 340، والكشف 2/ 369، والجامع 19/ 299 إلى نافع، وفي البحر 8/ 453 إلى الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"البروج"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «البروج» «1» إن قيل: أين جواب القسم؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها أنه متروك. الثاني: أنه قوله تعالى: قُتِلَ [الآية 4] أي لقد قتل: أي لعن. الثالث: أنه قوله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) . الرابع: أنه محذوف تقديره: لتبعثنّ أو نحوه. الخامس: أنه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [الآية 10] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

سورة الطارق 86

سورة الطّارق 86

المبحث الأول أهداف سورة"الطارق"

المبحث الأول أهداف سورة «الطارق» «1» سورة الطارق سورة مكية، آياتها 17 آية، نزلت بعد سورة البلد. وهي سورة تشترك في خصائص سور هذا الجزء، التي تمثل طرقات متوالية على الحس، طرقات عنيفة قويّة عالية، وصيحات بقوم غارقين في النوم، تتوالى على حسّهم تلك الطرقات تناديهم: تيقظوا، تنبّهوا، انظروا، تفكّروا، تدبّروا: إن هناك إلها وحسابا وجزاء، وعذابا شديدا، ونعيما كبيرا. وبين المشاهد الكونية، والحقائق الموضوعية في السورة تناسق مطلق، دقيق ملحوظ، يتّضح من استعراض السورة في سياقها القرآني الجميل. مع آيات السورة [الآيات 1- 4] : وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) : أي السماء ونجومها الثاقبة للظلام، النافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء. وقد كثر في القرآن الحلف بالسماء وبالشمس وبالقمر وبالليل، لأنّ في أحوالها وأشكالها ومسيرها ومطالعها ومغاربها، سمات القدرة وآيات الإبداع والحكمة. والطَّارِقِ: الذي يطرق ليلا، والنَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) هو النجم المضيء الذي يثقب الظلام، ويهتدى به في ظلمات البر والبحر، وهو الثريّا عند

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

جمهرة العلماء، أو جنس الشهب التي يرجم بها الشياطين ويرى الحسن أنّ المراد كلّ كوكب، لأنّ له ضوءا ثاقبا لا محالة. يقسم بالسماء ونجمها الثاقب، أنّ كلّ نفس عليها من أمر الله رقيب إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) وفي هذا التعبير بهذه الصيغة معنى التوكيد، ما من نفس إلّا عليها حافظ يراقبها ويحصي عليها، ويحفظ عنها، وهو موكل بها بأمر الله. وقد خصّ النفس هنا لأنها مستودع الأسرار والأفكار، وهي التي يناط بها العمل والجزاء. [الآيات 5- 7] : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) . فلينظر الإنسان من أيّ شيء خلق، والى أيّ شيء صار، إنّه خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل، وهو عظام ظهره الفقارية، ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلويّة. ولقد كان هذا سرّا مكنونا في علم الله لا يعلمه البشر، حتّى كان القرن العشرون، حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته، وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكوّن ماء الرجل، وفي عظام الصدر العلويّة يتكوّن ماء المرأة، حيث يلتقيان في قرار مكين، فينشأ منهما الإنسان. «وقد ثبت في علم الأجنّة أنّ البويضة ذات الخليّة الواحدة تصير علقة ذات خلايا عدّة، ثمّ تصير العلقة مضغة ذات خلايا أكثر عددا، ثمّ تصير المضغة جنينا صغيرا وزّعت خلاياه الى طبقات ثلاث، يخرج من كل طبقة منها مجموعة من الأنسجة المتشابهة في أوّل الأمر، فإذا تمّ نموّها كوّنت جسم الإنسان. «وما وراء هذه اللمحة الخاطفة عن صور الرحلة الطويلة العجيبة بين الماء الدافق والإنسان الناطق، حشود لا تحصى من العجائب والغرائب، في خصائص الأجهزة والأعضاء، تشهد كلها بالتقدير والتدبير، وتشي باليد الحافظة الهادية المعينة، وتؤكّد الحقيقة الأولى التي أقسم عليها سبحانه وتعالى بالسماء والطارق، كما تمهّد للحقيقة التالية، حقيقة النشأة الآخرة التي لا يصدّقها المشركون، المخاطبون أوّل مرة بهذه السورة» .

[الآيات 8- 10] : إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) : إنّ الذي قدر على خلق الإنسان وأنشأه ورعاه، لقادر على رجعه إلى الحياة بعد الموت، وإلى التجدّد بعد البلى فالنشأة الأولى تشهد بقدرته وحكمته، هذه النشأة البالغة الدقة والحكمة، تذهب كلّها عبثا إذا لم تكن هناك رجعة لتختبر السرائر، وتجزى جزاءها العادل. يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) تبلى: أي تختبر وتمتحن، والمراد تظهر. والسَّرائِرُ (9) ما يسرّ في القلوب من العقائد والنّيّات، وما خفي من الأعمال، واحدها سريرة. وقال الأحوص: سيبقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة ودّ يوم تبلى السرائر إنّ الله سبحانه قادر على إعادة الإنسان للحياة يوم تتكشّف السرائر، وتظهر الخفايا، ويتجرّد الإنسان من كل قوة ومن كل عون. فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) فلا يكون للإنسان قوّة ذاتيّة أو منعة من نفسه يمتنع بها، وما له من ناصر خارج ذاته ينصره ويحميه ممّا حتّم أن يقع عليه. والخلاصة: أنّ القوة التي بها يدافع الإنسان عن نفسه، إمّا من ذاته، وقد نفاها بقوله تعالى: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ [الآية 10] ، وإمّا من غيره وقد نفاها بقوله: وَلا ناصِرٍ (10) . وبذلك يحشر الإنسان منفردا، مكشوف السرائر، متجرّدا من القوة والنصير. [الآيات 11- 14] : يقسم الله سبحانه وتعالى بالسماء ذات المطر الذي ينزل منها، وقد كان أصله ماء الأرض فتبخّر وصعد إلى السماء، ثم رجع منها مطرا إلى الأرض، ليحييها بعد موتها ويقسم بالأرض التي تتشقّق عن النبات والعيون، يقسم بذلك على أنّ القرآن تنزيل من رب العالمين، وهو القول الفاصل بين الحق والباطل، وليس بالهزل ولا باللهو واللعب. أخرج التّرمذي والدارمي عن عليّ كرم الله وجهه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: «إنّها ستكون فتن. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من

مقاصد السورة

جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق على كثرة الرّدّ، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي قال فيه الجن لمّا سمعوه: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجن] . من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن اعتصم به هدي الى صراط مستقيم» . [الآيات 15- 17] : إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) . إنهم هؤلاء الذين خلقوا من ماء دافق، يمكرون مكرا شديدا، ويتآمرون على إطفاء نور القرآن، والله سبحانه يقابل كيدهم وتآمرهم بما يحبطه ويبطله، وشتّان ما بين عمل الإنسان وعمل الواحد الدّيّان فالمعركة ذات طرف واحد، وإن صوّرت ذات طرفين لمجرّد المشاكلة، انهم يكيدون ... وانا الله أكيد كيدا. أنا المنشئ المبدئ الهادي الحافظ الموجّه المعيد المبتلي القادر القاهر، خالق السماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع، أنا الله أكيد كيدا، وفي هذا تهديد ووعيد للكافرين، وبشارة للمؤمنين بأن الله معهم يدبّر أمرهم وإذا كان الله معنا فمن علينا؟ فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) لا تستعجل نزول العذاب بهم، ولا تستبطئ نهايتهم، بل أمهلهم قليلا، وسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال. وفي الآيات إيناس للنبيّ (ص) وللمؤمنين، وبعث للطمأنينة في قلوبهم، وتأكيد لهم بأنّ عناية الله ترعاهم، وأنّ كيد الكافرين ضعيف، وأنّ العاقبة للمتقين: قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) [لقمان] . مقاصد السورة 1- إثبات حفظ الله للإنسان ورعايته له. 2- إقامة الأدلّة على أنّ الله قادر على بعث الخلق كرّة أخرى. 3- أن القرآن منزل من عند الله سبحانه، وأن محمدا (ص) رسول الله. 4- تهديد الكافرين بالعذاب والنّكال.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الطارق"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الطارق» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الطارق بعد سورة البلد، ونزلت سورة البلد بعد سورة ق، وكان نزول سورة ق فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة الطارق في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وتبلغ آياتها سبع عشرة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إثبات حفظ الأعمال على كلّ نفس، وما يتبع هذا من حساب وعقاب، وبهذا توافق السورة السابقة في أنّها في سياق الإنذار أيضا، وقد ذكرت بعدها لهذه المناسبة. إثبات حفظ الأعمال الآيات [1- 17] قال الله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فأقسم بهذا على أن كل نفس عليها حافظ من الملائكة يحفظ أعمالها ثمّ أمر الإنسان أن ينظر في بدء خلقه ليعرف أنّه خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) ، يعني صلب الرجل وترائب المرأة، وهي عظام الصدر والنّحر، وليعرف أيضا أنه قادر على

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

رجعه ليحاسبه على أعماله ثم أقسم جلّ وعلا بالسماء ذات الرّجع أي المطر، والأرض ذات الصّدع أي الانشقاق عن النبات، أن ما أنذر به من هذا لقول فصل لا هزل فيه ثم ذكر سبحانه أنّهم يكيدون لدينه وأنه يكيد لهم كيدا: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) .

المبحث الثالث مكنونات سورة"الطارق"

المبحث الثالث مكنونات سورة «الطارق» «1» 1- النَّجْمُ [الآية 3] . قيل: زحل. وقيل: الثّريّا. حكاه ابن عسكر «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....] (2) . انظر «تفسير الطبري» 30/ 91.

المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة"الطارق"

المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «الطارق» «1» إن قيل: أين جواب القسم؟ قلنا إِنْ كُلُّ نَفْسٍ [الآية 4] . فإن بمعنى ما. ولمّا بالتشديد بمعنى: إلا فيكون المعنى ما كل نفس إلّا عليها حافظ ولما بالتخفيف ما فيه زائدة، وإن هي المخففة من الثقيلة، فيكون المعنى إن كل نفس لعليها حافظ. فإن قيل: ما وجه ارتباط قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ [الآية 5] بما قبله؟ قلنا: وجهه أنه لما ذكر سبحانه أنّ على كل نفس حافظا أتبعه بوصية الإنسان بالنظر في أوّل أمره ونشأته الأولى، ليعلم أنّ من أنشأه قادر على إعادته ومجازاته، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، فلا يملى على حافظه إلّا ما يسرّه في عاقبته. فإن قيل: ما الحكمة في الجمع بين مهّل و «أمهل» ومعناهما واحد؟ قلنا: التأكيد، وإنما خولف بين اللفظين طلبا للخفّة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني المجازية في سورة"الطارق"

المبحث الخامس المعاني المجازية في سورة «الطارق» «1» في قوله سبحانه: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) استعارة. لأنّ الطارق هاهنا كناية عن النجم. فحقيقة الطارق: الإنسان الذي يطرق ليلا. فلمّا كان النجم لا يظهر إلّا في حال الليل حسن أن يسمّى طارقا. وأصل الطّرق: الدقّ. ومنه المطرقة. قالوا: وإنّما سمّي الآتي بالليل طارقا، لأنّه يأتي في وقت يحتاج فيه إلى الدّقّ أو ما يقوم مقامه للتنبيه على طروقه، والإيذان بوروده. وفي قوله سبحانه: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) استعارة. وحقيقة هذا الماء أنه مدفوق لا دافق. ولكنه خرج على مثل قولهم: سرّ كاتم، وليل نائم. وقد مضت لهذه الآية نظائر كثيرة. وعندي في ذلك وجه آخر، وهو أنّ هذا الماء لمّا كان في العاقبة يؤول إلى أن يخرج منه الإنسان المتصرّف، والقادر المميز، جاز أن يقوى أمره فيوصف، بصفة الفاعل لا صفة المفعول، تمييزا له عن غيره من المياه المهراقة، والمائعات المدفوقة. وهذا واضح لمن تأمّله. وقوله سبحانه: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) استعارة. والمراد بها صفة السماء بأنها ترجع بدرور «2» الأمطار، وتعاقب الأنواء،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . درت الأمطار درورا: هطلت.

مرّة بعد مرة وتعطي الخير حالة بعد حالة. وقد قيل: إنّ الرّجع الماء نفسه. وأنشدوا للمتنخل «1» الهذلي يصف السيف: أبيض كالرّجع رسوب إذا ما ثاخ في محتفل يختلي والمراد بالأرض ذات الصّدع: انصداعها عن النبات، وتشقّقها عن الأعشاب وأنشد صاحب «العين» «2» لبعض العرب: وجاءت سلتم لا رجع فيها ولا صدع فتحتلب الرّعاء فالرجع: المطر والصّدع: العشب، والسّلتم: السنة المجدبة.

_ (1) . هو مالك بن عويمر الهذلي، من أشهر شعراء بني هذيل. والبيت في «ديوان الهذليين» ج 2 ص 120 والرجع الغدير فيه ماء المطر. وثاخ مثل ساخ: أي غاب. والمحتفل: معظم الشيء ويختلي: يقطع. والرسوب: الذي إذا وقع غمض مكانه لسرعة قطعه. (2) . هو الخليل بن أحمد الفراهيدي إمام اللغة والأدب وواضع علم العروض، وكان أستاذا لسيبويه النحوي المشهور، ولد في البصرة ومات بها سنة 170 هـ. وعاش حياته فقيرا صابرا. قال فيه النضر بن شميل: ما رأى الراؤون مثل الخليل، ولا رأى الخليل مثل نفسه. واشتهر بكتاب «العين» في اللغة.

سورة الأعلى 87

سورة الأعلى 87

المبحث الأول أهداف سورة"الأعلى"

المبحث الأول أهداف سورة «الأعلى» «1» سورة الأعلى سورة مكّيّة، آياتها 19 آية، نزلت بعد سورة التكوير. وهي أنشودة سماوية فيها تسبيح بحمد الله، وبيان دلائل قدرته، وإثبات الوحي الإلهي، وتقرير الجزاء في الآخرة، وبيان الوحدة بين الرسالات السماوية، واشتمال الرسالة المحمدية على اليسر والسماحة، وكل واحدة من هذه تحتها موحيات شتّى، ووراءها مجالات بعيدة المدى. وفي صحيح مسلم: أنّ رسول الله (ص) كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) ، وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) [الغاشية] ، وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما. وفي رواية للإمام أحمد عن الإمام علي كرم الله وجهه: «أن رسول الله (ص) كان يحبّ هذه السورة، سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) . مع آيات السورة [الآيات 1- 5] : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) . التسبيح هو التمجيد والتنزيه، واستحضار معاني الصّفات الحسنى لله، والحياة بين إشعاعاتها وفيوضها، وإشراقاتها ومذاقاتها الوجدانية بالقلب والشعور. يقول الامام محمد عبده: «واسم الله

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

هو ما يمكن لأذهاننا أن تتوجّه إليه به، والله يأمرنا بتسبيح هذا الاسم، أي تنزيهه عن أن يكون فيه ما لا يليق به من شبه المخلوقات أو ظهوره في واحد منها بعينه، أو اتّخاذه شريكا أو ولدا أو ما ينحو هذا النحو، فلا نوجه عقولنا إليه إلّا بأنه خالق كل شيء، المحيط علمه بدقائق الموجودات» . والخطاب في السورة موجّه إلى رسول الله (ص) ، وفيه من التلطّف والإيناس ما يجلّ عن التعبير، وقد كان (ص) ينفّذ هذا الأمر فور صدوره. وحينما نزل قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) [الواقعة] قال النبي (ص) : اجعلوها في ركوعكم، أي قولوا في الركوع: سبحان ربي العظيم، ولما نزل قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) قال النبي (ص) : اجعلوها في سجودكم، أي قولوا في السجود: سبحان ربي الأعلى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) الذي خلق كلّ شيء فسوّاه وأكمل صنعته، وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه بلا تفاوت ولا اضطراب، كما تراه يظهر لك من خلق السماوات والأرض. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) أي قدّر لكلّ حيّ ما يصلحه مدة بقائه، وهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع بما فيه منفعة له، ووجه الهرب بما يخشى غائلته. «وكلّ شيء في الوجود سويّ في صنعته، كامل في خلقته، معدّ لأداء وظيفته، مقدّر له غاية وجوده، وهو ميسّر لتحقيق هذه الغاية من أيسر طريق. والأشياء جميعها مجتمعة كاملة التنسيق، ميسّرة لكي تؤدّي في تجمّعها دورها الجماعي، مثلما هي ميسّرة فرادى لكي تؤدّي دورها الفردي» . جاء في كتاب «العلم يدعو إلى الايمان» ما يأتي: «إنّ الطيور لها غريزة العودة إلى الوطن، فعصفور الهزار الذي عشّش ببابك يهاجر جنوبا في الخريف، ولكنّه يعود إلى عشّه في الربيع التالي، وفي شهر سبتمبر تطير أسراب من معظم الطيور إلى الجنوب، وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق أرض البحار، ولكنّها لا تضل طريقها والنحلة تجد خليّتها مهما طمست الريح في هبوبها على الأعشاب والأشجار كل دليل يرى وأنت إذا تركت حصانك العجوز وحده فإنه يلزم الطريق مهما اشتدت ظلمة الليل، وهو يقدر أن يرى ولو في غير وضوح

والبومة تستطيع أن ترى الفأر الدافئ اللطيف، وهو يجري على العشب البارد مهما تكن ظلمة الليل، ونحن نقلب الليل نهارا بإحداث إشعاع في تلك المجموعة التي نسمّيها الضوء» . «والكلب بما أوتي من أنف فضولي، يستطيع أن يحس الحيوان الذي مرّ» . «وسمك (السلمون) يمضي سنوات في البحر، ثم يعود إلى نهره الخاص به، والأكثر من ذلك أنّه يصعد إلى جانب النهر الذي يصبّ عنده النّهير الذي ولد فيه. فما الذي يجعل السمك يرجع الى مكان مولده بهذا التحديد؟» . إنه الله الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) . وقد سجل البشر كثيرا من إبداع الخلقة، في عوالم النبات والحشرات والطيور والحيوان، في هذا الوجود المشهود الذي لا نعرف عنه إلا أقلّ القليل، ووراءه عالم الغيب بما فيه من كمال وجلال فسبحان الله الخلاق العظيم. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) والمرعى كلّ نبات، وما من نبات إلّا وهو صالح لخلق من خلق الله. فهو هنا أشمل ممّا نعهده من مرعى أنعامنا، فالله خلق هذه الأرض، وقدّر فيها أقواتها لكلّ حيّ يدب فوق ظهرها أو يختبئ في جوفها، أو يطير في جوّها، والنبات يتحايل على استخدام وكلاء لمواصلة وجوده، دونما رغبة من جانبهم، كالحشرات التي تحمل اللّقاح من زهرة الى أخرى، والرياح، وكل شيء يطير أو يمشي، ليوزّع بدوره. فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) والغثاء هو الهشيم، أو الهالك البالي، والأحوى: الذي يميل لونه إلى السواد، فهو سبحانه قد أحكم كل شيء خلقه، ما يبقى وما يفنى. «فنحن مأمورون أن نعرف الله جل شأنه، بأنه القادر العالم الحكيم، الذي شهدت بصفاته هذه آثاره في خلقه، التي ذكرها في وصف نفسه بقوله: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) إلخ، وأن لا ندخل في هذه الصفات معنى ممّا لا يليق به، كما أدخل الملحدون الذين اتّخذوا من دونه شركاء أو عرفوه بما يشبه به خلقه وإنّما توجّه إلينا الأمر بتسبيح الاسم، دون تسبيح الذات، ليرشدنا الى أن مبلغ جهدنا، ومنتهى ما تصل إليه عقولنا، أن نعرف الصفات

يسر الشريعة الإسلامية

بما يدلّ عليها أمّا الذات فهي أعلى وأرفع من أن تتوجّه عقولنا إليها إلّا بما نلحظ من هذه الصفات التي تقوم عليها الدلائل، وترشد إليها الآيات، ولهذا أمرنا بتسبيح اسمه تكليفا لنا بما يسعه طوقنا، والله أعلم» . [الآيتان 6 و 7] : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ سننزل عليك كتابا تقرأه، ولا تنسى منه شيئا بعد نزوله عليك. وهي بشرى للنبي (ص) ، تريحه وتطمئنه على هذا القرآن العظيم الجميل الحبيب إلى قلبه، الذي كان يندفع بعاطفة الحبّ له، وبشعور الحرص عليه، وبإحساس التبعة العظمى فيه، إلى ترديده آية آية وراء جبريل، وتحريك لسانه به خيفة أن ينسى حرفا منه، حتّى جاءته هذه البشائر المطمئنة بأنّ ربّه سيتكفّل بهذا الأمر عنه. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الآية 7] أن تنساه بنسخ تلاوته وحكمه، أما ما لا ينسخ فإنّه محفوظ في قلبك. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وكأنّ هذا تعليل لما مرّ في هذا المقطع من الإقرار والحفظ والاستثناء، فكلّها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى، ويطّلع على الأمر من جوانبه جميعا، فيقرّر فيها ما تقتضيه حكمته، المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعا. [الآية 8] : وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) أي نوفّقك للشريعة السمحة التي يسهل على النفوس قبولها، ولا يصعب على العقول فهمها. يسر الشريعة الإسلامية يسّر الله سبحانه القرآن للقراءة وللعمل بأحكامه، ويسّر الشريعة، ويسّر الأحكام وجعلها في طاقة الناس، ولا حرج فيها ولا عنت، قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) [القمر] . وقال سبحانه: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج/ 78] . وقال تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة/ 6] . وقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة/ 286] . وكان النبيّ (ص) سهلا سمحا مؤلّفا محبّبا، وما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فكان أبعد الناس عنه، وكان سلوك النبي (ص)

وهديه يعبّران عن اختيار اليسر، وقلة التكلف في اللباس والطعام والفراش وكل أمور الحياة، فكان (ص) يلبس لكل موطن ما يناسبه، فلبس العمامة والقلنسوة في السلم، ولبس المغفر وغطى رأسه ووجهه بحلقات الحديد في الحرب. جاء في «زاد المعاد» لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزيه عن هديه (ص) في ملابسه: «والصواب أنّ أفضل الطرق طريق رسول الله (ص) ، التي سنها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها، وهي أنّ هديه في اللباس أن يلبس ما تيسّر من اللباس من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتّان تارة، ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر، ولبس الجبة والقباء، والقميص والسراويل، والإزار والرداء، والخف والنعل، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة وتركها تارة ... إلخ» . وقال عن هديه (ص) في نومه وانتباهه: «كان ينام على فراشه تارة، وعلى النطع «1» تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة بين رماله، وتارة على كساء أسود» . وقال في هديه في الطعام: «وكذلك كان هديه (ص) وسيرته في الطعام، لا يردّ موجودا، ولا يتكلّف مفقودا، فما قرّب إليه شيء من الطيّبات إلّا أكله، وما عاب طعاما قط: إن اشتهاه أكله، وإلّا تركه. فقد أكل الحلوى والعسل- وكان يحبّهما- وأكل الرّطب والتمر، وأكل الثريد بالسمن وأكل الجبن، وأكل الخبز بالزيت، وأكل البطيخ بالرطب، وأكل التمر بالزبد- وكان يحبه-، ولم يكن يردّ طيّبا ولا يتكلّفه، بل كان هديه أكل ما تيسّر، فإن أعوزه صبر ... إلخ» . والأحاديث النبوية التي تحضّ على اليسر والسماحة، والرفق في تناول الأمور كثيرة جدا يصعب تقصيها، منها قوله (ص) : «إنّ هذا الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه» ، أخرجه البخاري. «لا تشدّدوا على أنفسكم فيشدّد عليكم فإن قوما شدّدوا على أنفسهم فشدّد عليهم» أخرجه أبو داود.

_ (1) . النطع: البساط. .

«إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» أخرجه البخاري. وفي التعامل يقول (ص) : «رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى وإذا اقتضى» أخرجه البخاري. «المؤمن يألف ويؤلف» ، أخرجه الدارقطني. «إن أبغض الرجال الى الله الألدّ الخصم» ، أخرجه الشيخان. وسيرة الرسول (ص) كلّها صفحات من السماحة واليسر، والهوادة واللين، والتوفيق إلى اليسر في تناول الأمور جميعا. «اختلف معه أعرابيّ، فأخذ النبيّ الأعرابيّ إلى بيته وزاده في العطاء حتّى رضي، وأعلن عن رضاه أمام الصحابة أجمعين» . ولقد كان النبيّ كريم النفس، ميسّرا لحمل الرسالة في أمانة ويسر، ومودّة ورحمة، وعطف على الناس وحكمة، قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء] وقال سبحانه: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) [التوبة] . وكان عليه الصلاة والسلام رحمة مهداة، فقد حارب لصدّ العدوان، وتبليغ الدعوة، ومنع الاضطهاد والفتنة عن الضعفاء والمستضعفين ومع ذلك كان آية في الإنسانية، فكان ينهى عن قتل النساء والأطفال، وينهى عن الغدر والخيانة، ويحثّ على الوفاء بالعهد في السلم والحرب، ولا عجب فقد جمع المكارم والمحامد، وصدق الله العظيم إذ قال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) [القلم] . [الآية 9] : فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) لقد يسّره الله لليسرى، لينهض بالأمانة الكبرى، ليذكّر الناس فلهذا أعدّ، ولهذا بشّر، فذكّر حيثما وجدت فرصة للتذكير، ومنفذا للقلوب ووسيلة للبلاغ. قال النيسابوري في تفسير الآية: إن تذكير العالم واجب في أوّل الأمر، وأمّا التكرير فالضابط فيه هو العرف، فلعلّه إنّما يجب عند رجاء حصول المقصود، فلهذا أردف بالشرط حيث قال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) . وقال الإمام محمد عبده: «وليس الشرط قيدا في الأمر فقد أجمع أهل الدين- سلفهم وخلفهم- على أنّ

الأمر بالتذكير عامّ، نفعت الذكرى أم لم تنفع، وعمله (ص) شاهد على ذلك» . [الآية 10] : سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) ، ذلك الذي يستشعر قلبه التقوى فيخشى غضب الله وعذابه، فإذا ذكّر ذكر، وإذا بصّر أبصر، وإذا وعظ اعتبر. [الآيتان 11 و 12] : وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) أي ويبتعد عن هذه التذكرة، المعاند المصرّ على الجحود عنادا واستكبارا، حتى مات قلبه وشقيت روحه، فسيلقى النار الكبرى، وهي نار جهنم، وهي كبرى إذا قيست بنار الدنيا، أي هي كبرى لشدّتها ومدّتها وضخامتها، حيث يمتد بقاؤه فيها، فلا هو ميت يجد طعم الراحة، ولا هو حي فيحيا حياة السعادة. تقول العرب: لمن ابتلي بمرض أقعده: لا هو حيّ فيرجى، ولا ميت فينعى. [الآيتان 14 و 15] : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) ، قد أدرك الفلاح من تطهّر من كلّ رجس ودنس، وأيقن بالحقّ وسعد بالإيمان، فهو في فلاح وسعادة بذكره اسم الله، وبصلاته وخشوعه لله، واعتماده عليه فهو في فلاح في الدنيا لأنّه عاش موصولا بالله، مؤدّيا للصلاة، مراقبا مولاه، وهو في فلاح في الآخرة، بنجاته من النار الكبرى، وفوزه بالنعيم والرضا. [الآيتان 16 و 17] : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) ، بل أنتم، لقصر أنظاركم، تؤثرون الفانية على الباقية. والحال أنّ الآخرة أفضل من الدنيا في نوعها، وأبقى في أمدها، ولو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لوجب إيثار ما يبقى على ما يفنى فكيف الحال والدنيا من خزف يفنى، والآخرة من ذهب يبقى. [الآيتان 18 و 19] : إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) ، أصول هذه الشريعة العادلة، وقواعد المؤاخذة والحساب، وما ورد في هذه السورة من أصول العقيدة الكبرى، هو الذي في الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى، فدين الله واحد، وإنّما تتعدّد صوره ومظاهره. ومجمل ذلك أنّ الرسول (ص) ما

مقاصد سورة الأعلى

جاء إلّا مذكّرا بما نسيته الأجيال من شرائع المرسلين، وداعيا إلى وجهها الصحيح، الذي أفسده كرّ الغداة ومرّ العشيّ، كما طمس معالمه اتّباع الأهواء، واقتفاء سنن الآباء والأجداد. مقاصد سورة الأعلى 1- تسبيح الله وتنزيهه وبيان قدرته. 2- وعد الرسول بحفظ القرآن وعدم نسيانه. 3- وعده بالتوفيق الى الطريقة السهلة الميسرة في الدعوة. 4- تكليفه أن يذكر الناس. 5- الناس صنفان امام الدعوة: (أ) مستجيب ناج. (ب) ومعرض هالك. 6- قواعد العدل وأصول الشريعة متشابهة في القرآن وفي الكتب السماوية السابقة.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الأعلى"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأعلى» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الأعلى بعد سورة التكوير، وكان نزول سورة التكوير فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الأعلى في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) وتبلغ آياتها تسع عشرة آية. الغرض منها وترتيبها نزلت هذه السورة في أوائل ما نزل من السّور بمكة، والغرض منها بيان منهاج الدعوة، ليرغّب الناس في الإيمان بها ويحذّرهم من مخالفتها، فسلكت بهذا مسلك الإنذار والترغيب والترهيب كما سلكته السورة السابقة، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها. منهاج الدعوة الآيات [1- 19] قال الله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) فأجمل منهاج الدعوة في ثلاثة أمور: تنزيهه عمّا لا يليق به من الشرك ونحوه، وإنزال القرآن ليكون أصلا لتلك الدعوة، والهداية للشريعة اليسرى الصالحة للناس جميعا. ثمّ أمر النبي (ص) أن يعظ بهذا من تنفعه العظة، وذكر أنّه سيتّعظ بها من يخشاه، ويتجنّبها الأشقى الذي يصلى

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

النار الكبرى، ثمّ ذكر أن من يعرض عنها يؤثر الحياة الدنيا عليها مع أن الآخرة خير وأبقى، وأن ما ذكره من هذا موجود في الصحف الأولى: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الأعلى"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأعلى» «1» أقول: في سورة الطارق ذكر خلق النبات والإنسان في قوله تعالى: وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) ، وقوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) إلى إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) . وذكره في هذه السورة في قوله سبحانه: خَلَقَ فَسَوَّى (2) . وقوله في النبات: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) . وقصة النبات في هذه السورة أبسط، كما أنّ قصة الإنسان هناك أبسط. نعم، ما في هذه السورة أعمّ، من جهة شموله للإنسان وسائر المخلوقات.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.

المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة"الأعلى"

المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «الأعلى» «1» إن قيل: لم قال الله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) مع أنه كان (ص) مأمورا بالذكرى، نفعت أو لم تنفع؟ قلنا: معناه إذ نفعت. وقيل: معناه قد نفعت. وقيل: إن نفعت وإن لم تنفع، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وذكر الماوردي أنّها بمعنى «ما» ، وكأنه أراد معنى ما الظرفية و «إن» بمعنى «ما» الظرفية ليس بمعروف. وإن قيل: لم قال الله تعالى: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) . مع أن الحيوان لا يخلو عن الاتصاف بأحد هذين الوصفين؟ قلنا: معناه لا يموت موتا يستريح به، ولا يحيا حياة ينتفع بها. وقال ابن جرير رحمة الله تعالى عليه: تصعد نفسه إلى حلقومه ثم لا تفارقه فيموت، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

سورة الغاشية 88

سورة الغاشية 88

المبحث الأول أهداف سورة"الغاشية"

المبحث الأول أهداف سورة «الغاشية» «1» سورة «الغاشية» سورة مكّيّة، وآياتها 26 آية نزلت بعد سورة الذاريات، وهي سورة قصيرة الآيات، متناسقة الفواصل، تطوف بالقلب البشري أمام الآخرة وأحوالها، فأصحاب الجحيم يلقون أشدّ ألوان الألم والعذاب، وأهل الجنة يتمتّعون بألوان النعيم، وصنوف التكريم، ثم تعرض أمام الناظرين مشاهد الكون، وآيات الله المبثوثة في خلائقه، المعروضة للجميع. ثم تذكّر الناس بحساب الآخرة، وسيطرة الله، وحتمية الرجوع إليه في نهاية المطاف، ذلك كله بأسلوب عميق الإيقاع، هادئ، ولكنه نافذ رصين، ولكنه رهيب. مع آيات السورة [الآية 1] : الغاشية هي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها، وتغمرهم بأهوالها، والمراد منها هنا يوم القيامة، وقد سبق في هذا الجزء وصف القيامة بالطّامة والصّاخّة، وسيأتي وصفها بالقارعة، بما يناسب طبيعة التذكير والتهديد للمعاندين. والاستفهام هنا لتعظيم الأمر وتقريره، أي هل سمعت قصة يوم القيامة وما يقع فيه؟ وعن عمر بن ميمون، قال: مر النبي (ص) على امرأة تقرأ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) فقام يستمع ويقول: «نعم قد جاءني» .

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

والخطاب مع ذلك عام لكل من يسمع القرآن. [الآيات 2- 7] : إن وجوه الكفّار في هذا اليوم تكون ذليلة، لما يظهر عليها من الحزن والكآبة، وسوف يلقون تعبا وإرهاقا في النار، بسبب أعمالهم السيّئة، وسيدخلون النار المتأجّجة التي تلتهمهم، وإذا عطشوا من شدة حرّها، وطلبوا ما يطفئ ظمأهم، سقوا مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ: أي من ينبوع شديد الحرارة، وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) [الكهف] . وليس لهم طعام في النار إلّا من ضريع، والضريع: شجر ذو شوك لائط بالأرض، فإذا كان رطبا سمّي بالشّبرق، وإذا جني صار اسمه الضريع. ولم تستطع الإبل مذاقه فهو عندئذ سامّ، والأكل منه لون من ألوان العذاب الشديد، يضاف الى ذلك الغسلين والغسّاق، وباقي الألوان التي لا تسمن ولا تغني من جوع. [الآيات 8- 11] : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) . هنا وجوه يبدو عليها النعيم، ويفيض منها الرضى، وجوه تنعم بما تجد، وتشعر بالرضى عن عملها، حينما ترى رضى الله عنها، وهذا النعيم في جنة عالية المقام، مرتفعة على غيرها من الأماكن، لأنّ الجنّة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض، كما أن النّار دركات بعضها أسفل من بعض. لا يسمع أهل الجنة لغوا ولا باطلا، وإنّما يعيشون في جو من السكون والهدوء، والسلام والاطمئنان، والودّ والرضى، والنجاء والسمر بين الأحبّاء، والتنزّه والارتفاع عن كل كلمة لاغية، لا خير فيها ولا عافية، وهذه وحدها نعيم وسعادة وتوحي الجملة بأن المؤمنين في الأرض حينما ينأوون عن اللغو والباطل، إنّما ينعمون بطرف من حياة الجنة، ويتشبّهون بأهلها. [الآية 12] : فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) ، والعين الجارية: الينبوع المتدفّق، والمياه الجارية متعة للنفس وللنظر، وقد افتخر بمثلها فرعون فقال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) [الزخرف] . [الآية 13] : فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وفيها سرر عالية المكان والمقدار،

ليرى المؤمن وهو عليها ما خوّله الله من النعم. [الآية 14] : وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) مصفوفة مهيّأة للشرب، لا تحتاج الى طلب ولا إعداد. [الآية 15] : وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) . والنمارق الوسائد والحشايا، قد صفّت بعضها الى بعض، للاتّكاء في ارتياح. [الآية 16] : وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) و (الزرابيّ) البسط (أي السّجاجيد) (مبثوثة) أي مبسوطة أو مفرقة هنا وهناك، كما تراه في بيوت أهل النعمة. ذلك كلّه لتصوير النعمة والرفاهية واللذة، وتقريبها لتصوّر الناس في الدنيا، وإلّا فنعيم تلك الدار نعيم لا يشبهه في هذه الدار نعيم، فمتاع الدنيا قليل، ومتاع الآخرة لا شبيه له ولا مثيل، وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) [الزخرف] . فيها النعيم والرضى فيها السرور بالنجاة، والأنس برضوان الله فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. [الآية 17] : أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) . يلفت القرآن الأنظار الى دلائل قدرة الله سبحانه، وبديع صنعته، فلينظر الإنسان إلى الجمال كيف خلقت؟ وليتدبّر كيف وجدت على هذا النحو المناسب لوظيفتها، المحقّق لغاية خلقها، المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعا. إنّ الناس لم يخلقوها، وهي لم تخلق نفسها، فلا يبقى إلّا أن تكون من إبداع المتفرّد بصنعته، التي تدل عليه وتقطع بوجوده، كما تشي بتدبيره وتقديره. [الآية 18] : وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) أفلا ينظرون إليها كيف رفعت؟ من ذا رفعها بلا عمد، ونثر فيها النجوم بلا عدد، وجعل فيها هذه البهجة وهذا الجمال؟ [الآية 19] : وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) والجبل ملجأ وملاذ، وأنيس وصاحب، ومشهد يوحي إلى النفس الإنسانية جلالا واستهوالا، حيث يتضاءل الإنسان إلى جواره ويستكين، ويخشع للجلال السّامق الرّزين، «ونصب الجبال إقامتها علما للسّائر، وملجأ من الجائر، وهي في

الأغلب نزهة للناظر» ، وأمان وحفظ لتوازن الأرض، قال تعالى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الأنبياء/ 31] وقال سبحانه: وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) [النبأ] أي وسيلة لحفظ نظام الأرض من الزلازل والبراكين وغيرها. [الآية 20] : وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) والأرض مسطوحة أمام النظر، ممهّدة للحياة والسير والعمل، والناس لم يسطحوها كذلك، فقد سطحت قبل أن يكونوا هم، أفلا ينظرون إليها؟ ويتدبّرون ما وراءها، ويسألون من سطحها ومهّدها هكذا للحياة تمهيدا؟ «وقد أيقظ القرآن الحس، ولفت النظر، إلى مشهد كلّي يضم منظر السماء المرفوعة، والأرض المبسوطة، وفي هذا المدى المتطاول تبرز الجبال منصوبة السّنان، لا رأسية ولا ملقاة، وتبرز الجمال منصوبة السّنام: خطّان أفقيان، وخطان رأسيّان، في المشهد الهائل، في المساحة الشاسعة، وهي لوحة متناسقة الأبعاد والاتّجاهات، على طريقة القرآن في عرض المشاهد، وفي التعبير بالتصوير على وجه الإجمال» . والآن بعد الجولة الأولى في عالم الآخرة، والجولة الثانية في مشاهد الكون المعروضة، يخاطب القرآن النبيّ الكريم، بقول الله تعالى: [الآيات 21- 24] : فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) . فعظهم يا محمّد بآيات القرآن، وذكّرهم بالدعوة إلى الإله الواحد القهّار فالإنسان بفطرته ميسّر للإذعان بقدرة الله جلّ جلاله وبديع صنعته وإنّما قد تتحكّم الغفلات، فتحتاج النفوس إلى مذكّر يردّها إلى الحقّ والصواب. إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) أي إنما بعثت للتذكير فحسب، وليس عليك هداهم إن عليك إلا البلاغ، وتبليغ الدعوة وترك الناس أحرارا في اعتقادهم، فلا إكراه في الدين، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) والمسيطر: المتسلّط، فأنت لا تجبرهم على الايمان. قال تعالى: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) [ق] . فمن تولّى عن الحق، وكفر بآيات

مقاصد السورة

الله، وأنكر الدعوة، فإنّ حسابه، إلى الله المطّلع على القلوب، وصاحب السلطان على السرائر، وسوف يعذّبه الله العذاب الأكبر في الآخرة، وقد يضمّ إلى عذاب الآخرة عذاب الدنيا. [الآيتان 25 و 26] : إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) وتختم السورة بهذا الإيقاع المناسب، لتؤكّد دور الرسول في البلاغ. أمّا الجزاء والحساب فسيكون في يوم الدين، يوم يقوم النّاس لربّ العالمين، إن إلينا إيابهم ورجوعهم، ثمّ إنّ علينا وحدنا حسابهم وجزاءهم، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) [آل عمران] . قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) [الأنبياء] . مقاصد السورة 1- وصف أهل النار وأهل الجنة. 2- وصف مشاهد الكون وبدائع الصنعة الإلهية. 3- تحديد مهمّة الرسول (ص) بالبلاغ والدعوة إلى الهداية.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الغاشية"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الغاشية» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الغاشية بعد سورة الذاريات، ونزلت سورة الذاريات بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الغاشية في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) ، وتبلغ آياتها ستا وعشرين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة تفصيل الثواب والعقاب في يوم القيامة، وهذا هو سياق الإنذار والترهيب والترغيب، وبهذا تشبه هذه السورة سورة الأعلى في سياقها، وتكون هناك مناسبة في ذكرها بعدها. تفصيل الثواب والعقاب الآيات [1- 26] قال الله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) فسأل سؤال تهويل عما يكون في يوم القيامة، وأجاب عنه بأنه يكون فيها وجوه خاشعة عاملة ناصبة، تصلى نارا حامية إلخ إلخ ووجوه ناعمة، لسعيها راضية، في جنة عالية إلخ ثمّ أمرهم سبحانه أن ينظروا كيف خلق الإبل ورفع السماء، إلى غير هذا مما ذكره ليستدل به على قدرته على بعثهم،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

ليلقوا ما ذكره من عقابهم وثوابهم ثمّ أمر النبي (ص) أن يقتصر على تذكيرهم بهذا، ولا يهمّه أن يؤمنوا أو يكفروا لأنه ليس بمسيطر عليهم، ولكن من كفر منهم فيعذّبهم العذاب الأكبر: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الغاشية"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الغاشية» «1» أقول: لما أشار سبحانه في سورة الأعلى بقوله تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) إلى قوله: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) ، إلى المؤمن والكافر، والنار والجنة إجمالا، فصّل ذلك في هذه السّورة، فبسط صفة النار والجنة مستندة إلى أهل كلّ منهما، على نمط ما هنالك، ولذا قال هنا: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) ، في مقابل: َْشْقَى (11) هناك وقال هنا: تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) إلى: لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) ، في مقابل: يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) هناك. ولما قال هناك في الآخرة: خَيْرٌ وَأَبْقى (17) وبسط هنا صفة الجنة أكثر مما بسط صفة النار، تحقيقا لمعنى الخيرية.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. [.....]

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"الغاشية"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الغاشية» «1» قال تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) . والضّريع: نبات أخضر منتن. أقول: وما زال القرويّون في العراق يصفون طعامهم كالتمر والسمك بأنه «مضرّع» أي: منتن فاسد.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"الغاشية"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الغاشية» «1» واحد «نمارق» في الآية 15: النمرقة. وقال تعالى: لاغِيَةً/ 11 [الآية 11] أي: لا تسمع كلمة لغو، وجعلها (لاغية) . والحجة في هذا أنّك تقول: «فارس» لصاحب الفرس، و «دارع» لصاحب الدّرع، و «شاعر» لصاحب الشّعر. وقال الشاعر «2» [من مجزوء الكامل وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد المائتين] : أغررتني وزعمت أنّك ... لابن بالصّيف تامر «3» أي: صاحب لبن، وصاحب تمر.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هو الحطيئة. ديوانه 168، والكتاب وتحصيل عين الذهب 2/ 90، وإعراب القرآن 3/ 1479. (3) . في إعراب القرآن والخصائص ب «غررتني» وفي الكتاب وتحصيل عين الذهب ب «فغررتني» .

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الغاشية"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الغاشية» «1» فإن قيل: لم قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) مع أن جميع أبدانهم أيضا تصلى النار؟ قلنا: الوجه يطلق ويراد به جميع البدن، كما في قوله تعالى وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه/ 111] وقيل: إنّ المراد بالوجوه هنا الأعيان والرؤساء، كما يقال: هؤلاء وجوه القوم، ويا وجه العرب: أي ويا وجيههم، ويؤيّد هذا القول ما روي عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن المراد به الرهبان وأصحاب الصوامع. فإن قيل: كيف ارتبط قوله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) بما قبله، وأيّ مناسبة بين السماء والإبل والجبال والأرض حتّى جمع بينهما؟ قلنا: لما وصف الله تعالى الجنّة بما وصف، عجب من ذلك الكفار، فذكّرهم بعجائب صنعه. وقال قتادة: لمّا ذكر ارتفاع سرر الجنة قالوا: كيف نصعدها؟ فنزلت هذه الآية: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ [الآية 17] اعتبار كيف (خلقت) للنهوض بالأثقال وحملها إلى البلاد البعيدة، وجعلت تبرك حتّى تحمل وتركب عن قرب ويسر، ثمّ تنهض بما حملت، فليس في الدّواب ما يحمل عليه وهو بارك ويطيق النهوض إلا هي، وسخّرت لكل من قادها حتّى الصبيّ الصغير، ولمّا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

جعلت سفائن البر أعطيت الصبر على احتمال العطش عشرة أيام فصاعدا، وجعلت ترعى كلّ نبات في البراري والمفاوز ممّا لا يرعاه سائر البهائم، وإنّما لم يذكر الفيل والزّرافة وغيرهما ممّا هو أعظم من الجمل لأن العرب لم يروا شيئا من ذلك ولا كانوا يعرفونه، ولأنّ الإبل كانت أنفس أموالهم وأكثرها لا تفارقهم ولا يفارقونها وإنما جمع بينها وبين ما بعدها لأن نظر العرب قد انتظم هذه الأشياء في أوديتهم وبواديهم، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم وكثرة ملابستهم ومخالفتهم ومن فسّر الإبل بالسحاب والماء، قصد بذلك طلب المناسبة بطريق تشبيه الإبل بالسحاب في السير وفي النّشط أيضا في بعض الأوقات، لا أنه أراد أن المراد من الإبل السحاب حقيقة وقد جاء في أشعار العرب تشبيه السحاب بالإبل كثيرا، وقد شبّهه ابن دريد أيضا بالسحاب في قصيدته. وقرأ أبيّ بن كعب وعائشة رضي الله عنهما الإبل بتشديد اللام. قال أبو عمرو وهو اسم للسحاب الذي يحمل الماء، والله أعلم.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"الغاشية"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الغاشية» «1» في قوله سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) استعارة. والمراد بالوجوه هاهنا أرباب الوجوه. ومثل ذلك قوله تعالى: في السورة التي يذكر فيها القيامة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) [القيامة] . والدليل على ما قلنا إضافته سبحانه النظر إليها، والنّظر إنما يصح من أربابها لا منها: لأنه تعالى قال عقب ذلك: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) [القيامة] وكذلك قوله تعالى هاهنا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) ، والرّضا والسّخط إنما يوصف به أصحاب الوجوه. فانكشف الكلام على الغرض المقصود. وقوله تعالى: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) استعارة. وقد مضت لها نظائر كثيرة جدّا فيما تقدّم من كلامنا. أي لا تسمع فيها كلمة ذات لغو. فلمّا كان صاحب تلك الكلمة يسمّى لاغيا بقولها، سمّيت هي لاغية، على المبالغة في وصف اللّغو الذي فيها. وقال بعضهم: معنى ذلك: لا يسمع فيها نفس حالفة على كذب، ولا ناطقة برفث. لأنّ الجنة لا لغو فيها ولا رفث، ولا فحش ولا كذب.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

سورة الفجر 89

سورة الفجر 89

المبحث الأول أهداف سورة"الفجر"

المبحث الأول أهداف سورة «الفجر» «1» سورة «الفجر» سورة مكّيّة، آياتها 30 آية، نزلت بعد سورة «الليل» . تبدأ السورة بالقسم، فتقسم بالفجر، والليالي العشر، والشفع والوتر، على أن الإسلام حقّ، وأنّ البعث والحساب حق. وقد ضربت أمثلة بمن أهلكه الله تعالى من المعاندين كعاد وثمود، وذكرت تصوّرات الإنسان غير الإيمانيّة، وسوء فهمه لاختبار الله له بهذه النعم. ثم ردّت على هذه التصوّرات، ببيان الحقيقة التي تنبع منها هذه التصورات الخاطئة، وهي الجحود والأثرة وحبّ المال والمتعة. ثمّ وصفت مشهدا عنيفا مخيفا من مشاهد الآخرة، ويظهر فيها جلال الله سبحانه، وتظهر الملائكة للحساب، وتظهر جهنّم أمام العصاة وفي الختام نداء نديّ رخيّ للنفس المطمئنة، بأن تعود الى رضوان الله وجنته. ومن هذا الاستعراض السريع، تبدو الألوان المتعدّدة في مشاهد السورة، كما يبدو تعدّد نظام الفواصل، وتغيّر حروف القوافي، بحسب تنوّع المعاني والمشاهد. [فالآيات 1- 5] تنتهي بالراء مثل وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) والآيات [6- 14] تنتهي بحرف الدال مثل أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) . [والآيتان 15 و 16] : تنتهيان بحرف النون، والآيات الباقية متنوّعة فيها الميم والتاء والهاء.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع آيات السورة

والقسم الأول من السورة فيه نداوة الفجر وجماله. وفضل الليالي العشر، وثواب الشفع والوتر من الصلاة. والقسم الثاني ينتهي بالدال، وفيه بيان القوة في الانتقام من الظالمين. وقد ذكر الفيروزآبادي أن معظم مقصود السورة ما يأتي: «تشريف العيد وعرفة، وعشر المحرّم، والإشارة الى هلاك عاد وثمود وأضرابهم، وتفاوت حال الإنسان في النعمة، وحرصه على جمع الدنيا والمال الكثير، وبيان حال الأرض في القيامة، ومجيء الملائكة، وتأسّف الإنسان يومئذ على التقصير والعصيان وأنّ مرجع العبد المؤمن عند الموت إلى الرحمن والرّضوان ونعيم الجنان» . مع آيات السورة [الآية 1] : أقسم الله سبحانه وتعالى بالفجر، وهو الوقت الذي يدبر فيه الليل، ويتنفّس الصباح في يسر وفرح وابتسام، وإيناس ودود نديّ، ويستيقظ الوجود رويدا رويدا. [الآية 2] : وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) قيل هن العشر الأوائل من المحرّم، وقيل العشر الأواخر من رمضان، وفيها ليلة القدر، وقيل هي العشر الأوائل من ذي الحجة وفيها يوم عرفة وعيد الأضحى. [الآية 3] : وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) أي الزوج والفرد من الأعداد، والشفع والوتر من الصلاة، أو أيّام التشريق وفيها رمي الجمار بمنى، فمن شاء رمى في يومين ومن شاء مكث ثلاثة أيام. واليومان: شفع، والثلاثة: وتر، قال تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة/ 203] . [الآية 4] : وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) أي يسرى فيه، كما يقال ليل نائم، أي ينام فيه. وقيل معنى وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) أي ينصرم وينقضي مسافرا بعيدا، ويسري راحلا، وأصله يسري فحذفت الياء لدلالة الكسرة عليها في الوصل، وحذفت الياء، مع الكسرة في الوقف. [الآية 5] : هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) : أي هل في ما أقسمت به، من جمال الفجر، وجلال الأيّام العشر، وثواب الشفع والوتر، ولطف الليل إذا يسر، مقنع لذي لبّ وعقل. وسمّي العقل حجرا لأنه يمنع صاحبه عن الشر، ويحجره عمّا لا يليق.

[الآيات 6- 8] : ألم تعلم يا محمّد، أو ألم تعلم أيّها المخاطب، كيف فعل ربّك بعاد، وهم الذين أرسل إليهم هود عليه السلام فكذّبوه، ومن قبيلة عاد «إرم» وكانوا طوال الأجسام، أقوياء الشكيمة، يقطنون ما بين عمان وحضرموت واليمن، وكانوا بدوا ذوي خيام تقوم على عماد، وقد وصفوا في القرآن بالقوة والبطش، فقد كانت قبيلة عاد أقوى قبيلة في وقتها وأميزها: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) في ذلك الأوان. [الآية 9] : وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وكانت ثمود تسكن بالحجر، في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام، وقد قطعت الصخر وشيّدته قصورا، كما نحتت في الجبال ملاجئ ومغارات. [الآية 10] : وَفِرْعَوْنَ [الآية 10] وهو حاكم مصر في عهد موسى عليه السلام، وهو صاحب المباني العظيمة والهياكل الضخمة، التي تمثّل شكل الأوتاد المقلوبة. وقيل الأوتاد تعني القوّة والملك الثابت، لأنّ الوتد هو ما تشدّ إليه الخيام لتثبيتها، واستعمل هنا مجازا إشارة إلى بطشه، وحكمه الوطيد الأركان. وقد جمع الله، سبحانه، في هذه الآيات القصار، مصارع أقوى الجبارين، الذين عرفهم التاريخ. [الآيات 11- 14] : الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) أي هؤلاء الذين سلف ذكرهم، من عاد وثمود وفرعون وجنده، جميعا تجاوزوا الحدّ وكفروا بنعمة الله عليهم، وأكثروا في البلاد الفساد، وارتكاب المعاصي، فكفروا وقتلوا وظلموا، فأنزل الله عليهم العذاب بشدّة مع توالي ضرباته. وقد شبه الله تعالى ما يصبّه عليهم من ضروب العذاب بالسّوط، من قبل أنّ السّوط يضرب به في العقوبات، وما وقع بهم من ألوان العذاب، كان عقوبة لأنواع الظلم والفساد. إنّ الله سبحانه وتعالى يرى ويحسب ويحاسب، ويجازي وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم، وقد سجّل الله عليهم أعمالهم كما يسجّل الراصد الذي يرقب فلا يفوته شيء. [الآيتان 15 و 16] : إنّ الإنسان إذا اختبره الله سبحانه وتعالى: فوسّع عليه في الرزق، وبسط له في النعمة، ظنّ

غرورا أنّ الله راض عنه، وتخيّل أنه لن يحاسبه على ظلمه وأفعاله. وإذا امتحنه بالفقر فضيّق عليه رزقه وقتره، فلم يوسع عليه، فيقول إنّ ربي أذلّني بالفقر، ولم يشكر الله على ما وهبه له، من سلامة الجوارح، وما رزقه من الصّحة والعافية. قال الإمام محمد عبده: «وأنت ترى أنّ أحوال الناس إلى اليوم لا تزال كما ذكر الله في هذه الآية الكريمة، فإنّ أرباب السلطة والقوة يظنون أنهم في أمن من عقاب الله، ولا يعرفون شيئا من شرعه يمنعهم عن عمل ممّا تسوق إليه شهواتهم، وإنّما يذكرون الله بألسنتهم، ولا تتأثّر قلوبهم بهذا الذكر. وقريب من هذه المعاني قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) [المعارج] . «تعلم أن المخاطبين بهذه الآيات كانوا يزعمون أنهم على شيء من دين إبراهيم (ع) ، أو أنهم كانوا يدّعون أنّ لهم دينا يأمرهم وينهاهم، ويقرّبهم إلى الله زلفى، فإذا سمعوا هذا التهديد وذلك الوعيد، وسوست لهم نفوسهم بأن هذا الكلام إنّما ينطبق على أناس ممّن سواهم أمّا هم، فلم يزالوا من الشاكرين الذاكرين غير الغافلين» ، فالله جلّ جلاله يردّ عليهم زعمهم ويقيم لهم دليلا واضحا على كذب ما تحدّثهم به أنفسهم، ويقول: [الآية 17] : كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) أي لو كان غنيّكم لم يعمه الطّغيان، وفقيركم لم يطمس بصيرته الهوان، لشاطرتم اليتيم إحساسه، فواسيتموه وعطفتم عليه، حتّى ينشأ كريم النفس. [الآية 18] : وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وقد كان مجتمع مكّة مجتمع التكالب على جمع المال بكافّة الطرق، فورثت القلوب القسوة والبخل، وانصرفت عن رحمة اليتيم، وعن التعاون على رحمة المسكين. [الآية 19] : وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) والتراث هو الميراث الذي يتركه من يتوفّى، أي إنّكم تشتدّون في أكل الميراث حتّى تحرموا صاحب الحقّ حقّه. [الآية 20] : وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) وتميلون إلى جمع المال ميلا شديدا، يصل الى حدّ الشراهة.

«وخلاصة ذلك: أنتم تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، إذ لو كنتم ممّن غلب عليهم حب الآخرة لانصرفتم عمّا يترك الموتى ميراثا لأيتامهم، ولكنّكم تشاركونهم فيه، وتأخذون شيئا لا كسب لكم فيه، ولا مدخل لكم في تحصيله وجمعه ولو كنتم ممّن استحبّوا الآخرة، لما ضربت نفوسكم على المال، تأخذونه من حيث وجدتموه من حلال أو من حرام. فهذه أدلّة ترشد إلى أنّكم لستم على ما ادّعيتم من صلاح وإصلاح، وأنكم على ملّة إبراهيم خليل الرحمن» . [الآيات 21- 24] : كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) ، ودكّ الأرض تحطيم معالمها وتسويتها، وهو أحد الانقلابات الكونيّة، التي تقع في يوم القيامة. يرد الله سبحانه وتعالى عن مقالتهم وفعلهم، وينذرهم أهوال القيامة، إذا دكّت الأرض وأصبحت هباء منبثّا، وزلزلت زلزالا شديدا، وتجلّت عظمة الله سبحانه، ونزلت ملائكة كلّ سماء فيصطفّون صفّا بعد صفّ، بحسب منازلهم ومراتبهم، وكشفت جهنّم للناظرين، بعد أن كانت غائبة عنهم، قال تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) [النازعات] . حينئذ تذهب الغفلة، ويندم الإنسان على ما فرّط في حياته الدنيا، ويتذكّر معاصيه، ويتمنّى أن يكون قد عمل صالحا في دنياه، لينفعه في حياته الآخرة، التي هي الحياة الحقيقية. «وترى من خلال هذه الآيات، مشهدا ترتجف له القلوب وتخشع له الأبصار، والأرض تدكّ دكّا، والجبّار المتكبّر يتجلّى ويتولّى الحكم والفصل، وتقف الملائكة صفّا صفّا، ثمّ يجاء بجهنّم فتقف متأهّبة هي الأخرى» «1» . وتتبع الحسرة والذكرى الأليمة من فرّط في حقوق الله، فيتذكّر بعد فوات الأوان، ويتمنّى أن يكون قد عمل الصالحات. [الآيتان 25 و 26] : فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) الوثاق: الشّدّ بالأغلال. في هذا اليوم العصيب نرى لونا متفردا من ألوان العذاب، لقد كان

_ (1) . في ظلال القرآن للأستاذ سيّد قطب، 30/ 157، بتصرّف.

خلاصة أهداف السورة

الجبّارون يملكون أن يعذّبوا من خالفهم في الدنيا، لكن العذاب اليوم في الآخرة لا يملكه إلا الله، وهو سبحانه القهّار الجبّار. الذي يعذّب يومئذ عذابه الفذّ الذي لا يملك مثله أحد، والذي يوثق وثاقه الفذّ، ويشدّ المجرمين بالأغلال شدا لا يملك مثله أحد. وعذاب الله ووثاقه يفصّلهما القرآن في مواضع أخرى، وفي مشاهد كثيرة، ولكنّه يجملهما هنا، حيث يصفهما بالتفرّد بلا شبيه من عذاب الخلق جميعا ووثاقهم، وكأنّ الآية تشير إلى ظلم عاد وثمود وفرعون ذي الأوتاد، وتنبّه إلى أنّ عذاب الطغاة ووثاقهم للنّاس مهما اشتدّ في الدنيا، فسوف يعذّب الطغاة ويوثّقون، عذابا ووثاقا وراء التصوّرات والظنون. وفي وسط هذا الهول المروّع، وهذا العذاب، والوثاق الذي يتجاوز كل تصوّر، تنادى النفس المؤمنة من الملأ الأعلى: [الآيات 27- 30] : يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) ، ينادي الله، عزّ وجلّ، النفس الثابتة على الحق، أن تعود الى جوار الله، راضية عن سعيها، مرضيّا عنها، فتدخل مع العباد الصالحين، ومع الرفقة المؤمنين، حيث يدخلون جميعا جنة الله، في تكريم ورضوان. وفي هذا النداء الرّضيّ ما يمسح آلام هذه النفس، وما يشعرها بالغبطة مع عباد الله، وجنة الله ورضوانه، فنعم الجزاء، ونعم الثواب، وحسنت مرتفقا. خلاصة أهداف السورة تشتمل سورة الفجر على الأهداف والمقاصد الآتية: 1- القسم على أنّ عذاب الكافرين واقع لا محالة. 2- ضرب المثل بالأمم البائدة كعاد وثمود. 3- كثرة النّعم على إنسان ليست دليلا على إكرام الله له، ولا البلاء دليلا على إهانته وخذلانه. 4- وصف يوم القيامة وما فيه من أهوال. 5- تمنّي الأشقياء العودة إلى الدنيا. 6- كرامة النفوس الراضية المرضيّة، وما تلقاه من النعيم بجوار ربّه.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الفجر"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفجر» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الفجر بعد سورة الليل، ونزلت سورة الليل بعد سورة الأعلى، ونزلت سورة الأعلى فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الفجر في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وتبلغ آياتها ثلاثين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إثبات عذاب الكافرين، وقد جاء أكثرها في إنذارهم وتهديدهم، إلى أن ختمت بشيء من الترغيب لتجمعهما معا، وبهذا يشبه سياقها سياق سورة الغاشية، ويكون ذكرها بعدها مناسبا لها. إثبات العذاب الآيات [1- 30] أقسم تعالى بالفجر وما ذكر بعده على أنهم سيعذبون، وانتقل من إثباته بالقسم إلى إثباته بما حصل لأسلافهم من عاد وثمود وفرعون ثمّ ذكر سبحانه أنه لهم بالمرصاد، فلا يريد منهم إلّا السعي للمصلحة العامّة في الدّنيا والآخرة وأمّا هم، فلا يريد الواحد منهم إلّا مصلحته الخاصّة، فإذا أكرمه ونعّمه رضي، وإذا أقتر عليه سخط، ثمّ يبلغ في الحرص إلى حدّ

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

أنّه لا يكرم اليتيم، ولا يحضّ على طعام المسكين، ويجمع المال من حيث يتهيّأ له من حلال أو حرام وسيعرف عاقبة ذلك إذا جاء يوم القيامة، فيومئذ يندم على ما فعل، ويرى عذابا لا يعذّبه أحد، ووثاقا لا يوثقه أحد أمّا النفس المطمئنة، فيقال لها: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الفجر"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفجر» «1» أقول: لم يظهر لي من وجه ارتباطها سوى أنّ أوّلها كالإقسام على صحّة ما ختم به السورة التي قبلها، من قوله جل جلاله: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) [الغاشية] . وعلى ما تضمّنه من الوعد والوعيد. كما أنّ أوّل «الذاريات» قسم على تحقيق ما في «ق» ، وأول «المرسلات» قسم على تحقيق ما في «عمّ» . هذا، مع أنّ جملة: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) هنا، مشابهة لجملة أَفَلا يَنْظُرُونَ [الآية 17] في سورة الغاشية «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . بل هناك وجوه ارتباط أوضح ممّا ذكر المؤلّف. وذلك: أنه تعالى ذكر في «الغاشية» صفة النار والجنّة مفصلة على ترتيب ما ذكر في سورة الأعلى. ثمّ زاد الأمر تفصيلا في «الفجر» بذكر أسباب عذاب أهل النار، فضرب لذلك مثلا بقوم عاد، وقوم فرعون، في قوله جلّ وعلا: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إلى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) . ثمّ ذكر بعض عناصر طغيانهم في قوله سبحانه: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وما بعدها. فكأنّ هذه السورة إقامة الحجّة عليهم. وكذلك جاء في الغاشية: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) [الغاشية] . ثم ذكر في «الفجر» مادة تذكير من كان قبلهم من الكفّار، وأنّه سيعذبهم في الآخرة، وأنّ الندم لن ينفعهم شيئا، فقال تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"الفجر"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الفجر» «1» أخرج سعيد بن منصور عن ابن عبّاس قال: 1- وَالْفَجْرِ (1) . المحرّم، هو فجر السنة «2» . 2- وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) . هي عشر الأضحى. كما أخرجه أحمد والنّسائي عن جابر مرفوعا. وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس «3» . وأخرج عنه أيضا أنّها العشر الأواخر «4» من رمضان. 3- فَأَمَّا الْإِنْسانُ [الآية 15] . قال ابن جريح: نزلت في أمية بن خلف أخرجه ابن أبي حاتم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . ذكر الطبري في «تفسيره» 30/ 107 أقوالا أخرى في معنى «الفجر» هنا، فقيل: هو النهار، وقيل: صلاة الصبح، وقيل: فجر الصباح. (3) . والطبري 30/ 107. [.....] (4) . وذكر الطبري في «تفسيره» أقوالا في بعض السلف قالوا: بأن «العشر» أوّل السنة من محرّم. قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: «والصواب من القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى لإجماع الحجّة من أهل التأويل عليه» .

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الفجر"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفجر» «1» 1- قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) . هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) . حذفت الياء من يَسْرِ (4) اكتفاء بالكسرة، ذلك أمر يقتضيه تناسب الفواصل والفجر، وليال عشر، والشفع والوتر وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) ... وقوله تعالى: «حجر» أي: عقل. أقول: ومن المفيد أن نشير إلى أنّ «الحجر» و «الحصاة» من كلمات العقل. ألا يكون هذا لأن العقل وصف عندهم بالرزانة والرسوخ فاستعير له شيء من مادة صلبة قويّة هي الحجر والحصى! لعل شيئا من هذا! وليس كما قالوا لأن العقل «يحجر» عن التهافت فيما لا ينبغي. وعندي أن الفعل «حجر» ، بمعنى: منع ونهى «ولد» بعد استعارة كلمة «الحجر» للعقل، والله أعلم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الفجر"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفجر» «1» قال تعالى: بِعادٍ (6) إِرَمَ [الآية 7] فجعل بعضهم إِرَمَ «2» اسم عاد وبعضهم قرأ بِعادٍ (6) فأضافه إلى إِرَمَ «3» فإمّا أن يكون اسم أبيهم إضافة إليهم، وإمّا بلدة والله أعلم. وقال تعالى: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الآية 16] . وقرأ بعضهم (قدّر) «4» مثل (قتّر) وأمّا (قدر) فمعناه: يعطيه بالقدر.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نسبت في إعراب ابن خالويه 76 إلى الضّحّاك، وفي المحتسب 2/ 359 الى ابن الزّبير، وفي الجامع 20/ 44، والبحر 8/ 469 إلى العامّة والجمهور. (3) . في الشواذ 173 الى ابن الزّبير، وكذلك في المحتسب 2/ 359، وفي الجامع 20/ 44 إلى الحسن وأبي العالية، وفي البحر 8/ 469 إلى الحسن وحده. (4) . نسبت في معاني القرآن 3/ 261 إلى أبي جعفر ونافع، وفي الطبري 30/ 182 إلى أبي جعفر وأبي عمرو بن العلاء، وفي الجامع 20/ 51 إلى ابن عامر، وفي البحر 8/ 470 إلى أبي جعفر وعيسى وخالد والحسن بخلاف عنه، وابن عامر.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الفجر"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفجر» «1» إن قيل: لم نكّرت الليالي العشر دون سائر ما أقسم به الله تعالى، ولم لم تعرّف بلام العهد وهي ليال معلومة فإنّها ليالي عشر ذي الحجّة في قول الجمهور؟ قلنا: لأنّها مخصوصة من بين جنس الليالي العشر بفضيلة ليست لغيرها، فلم يجمع بينها وبين غيرها بلام الجنس، وإنما لم تعرّف بلام العهد لأنّ التنكير أدلّ على التفخيم والتعظيم، بدليل قوله تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الحج/ 34] ونظيره قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) [البلد] بالتعريف، ثم قال تعالى: وَوالِدٍ بالتنكير، والمراد به آدم وإبراهيم أو محمد صلى الله عليهم أجمعين، ولأنّ الأحسن أن تكون اللّامات كلّها متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الإلغاز والتعمية، وهي في الباقي للجنس. فإن قيل: لم ذم الله تعالى الإنسان على قوله: رَبِّي أَكْرَمَنِ [الآية 15] مع أنه صادق فيما قال، لأن الله تعالى أكرمه بدليل قوله تعالى فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ [الآية 15] ثم إنّ هذا تحدّث بالنعمة، وهو مأمور به؟ قلنا: المراد به أن يقول ذلك مفتخرا على غيره، متطاولا به عليه، معتقدا استحقاق ذلك على ربّه، كما في قوله تعالى: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

[القصص/ 78] ، مستدلا به على علوّ منزلته في الدّار الآخرة وكل ذلك منهيّ عنه. وأمّا إذا قاله على وجه الشكر والتحدّث بنعمة الله، فليس بمذموم ولا منهيّ عنه. فإن قيل: لم قال الله تعالى في الجملة الأولى: فَأَكْرَمَهُ [الآية 15] ولم يقل في الجملة الثانية «فأهانه» ؟ قلنا: لأنّ بسط الرزق إكرامه لأنّه إنعام وإفضال من غير سابقة، وقبضه ليس بإهانة لأنّ ترك الإنعام لا يكون إهانة بل هو واسطة بين الإكرام والإهانة، فإنّ المولى قد يكرم عبده وقد يهينه، وقد لا يكرمه ولا يهينه وتضييق الرزق ليس إلّا عبارة عن ترك إعطاء القدر الزائد، ألا ترى أنه يحسن أن تقول: زيد أكرمني إذا أهدى لك هدية، ولا يحسن أن تقول: أهانني إذا لم يهد لك؟ فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ [الآية 22] والحركة والانتقال على الله محالان لأنهما من خواصّ الكائن في جهة؟ قلنا: قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: وجاء أمر ربك لأنّ في القيامة تظهر جلائل آيات الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ [النحل/ 33] وقيل معناه وجاء ظهور ربّك لضرورة معرفته يوم القيامة ومعرفة الشيء بالضرورة تقوم مقام ظهوره ورؤيته فمعناه: زالت الشكوك وارتفعت الشّبه كما ترتفع عند مجيء الشيء الذي كان يشكّ فيه.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الفجر"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفجر» «1» في قوله سبحانه: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) استعارة. والمراد بسرى الليل دوران فلكه، وسيران نجومه حتى يبلغ غايته، ويسبق في قاصيته، ويستخلف النهار موضعه. وفي قوله سبحانه: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) استعارة. والمراد وفرعون ذي الملك المتقرّم «2» والأمر المتوطّد، والأسباب المتمهّدة التي استقرّ بها بنيانه، وتمكّن سلطانه، كما تثبت البيوت بالأوتاد المضروبة، والدعائم المنصوبة. وقد مضى نظير ذلك. وقوله سبحانه: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) هو من مكشوفات الاستعارة. والمراد بها العذاب المؤلم، والنّكال المرمض. لأنّ السّوط في عرف عادة العرب يكون على الأغلب سببا للعقوبات الواقعة، والآلام الموجعة. وقال بعضهم: يجوز أن يكون معنى سَوْطَ عَذابٍ أي أوقع عذاب يخالط اللحوم والدماء، فيسوطها سوطا، إذا حرّك ما فيها وخلطه. فالسّوط على هذا القول هاهنا مصدر وليس باسم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . المتقرّم: المتأصّل بالسيادة والمجد.

سورة البلد 90

سورة البلد 90

المبحث الأول أهداف سورة"البلد"

المبحث الأول أهداف سورة «البلد» «1» سورة «البلد» آياتها عشرون، نزلت بعد سورة «ق» . وقد اشتملت على تعظيم البلد الحرام، والرسول الأمين، وتكريم آدم وذريته، وبيان أن الإنسان خلق في معاناة ومشقة، في حمله وولادته ورسالته في الحياة، وحسابه في الآخرة. وجابهت السورة أحد المشركين، وكشفت سوء أفعاله، ورسمت الطريق الأمثل للوصول إلى رضوان الله. مع آيات السورة [الآية 1] : لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) : أقسم الله عزّ وجل بمكّة، وفيها البيت الحرام والكعبة، وعندها قبلة المسلمين، وفيها زمزم والمقام، والأمن والأمان، قال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ [المائدة/ 97] . معنى قياما: قواما، أي يقوم عندها أمر الدين، حيث يقدم الحجيج فيطوفون ويسعون، ويؤدّون المناسك، ويشاهدون مهبط الوحي، ويصير الرجل آمنا بدخوله الحرم: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران/ 97] . وقد ذكر القرآن تكريم مكّة في آيات كثيرة، فقد ولد بها النبي (ص) ، وبدأ بها نزول الوحي، ومنها انبثق فجر الإسلام، وإليها يحجّ الناس، قال تعالى:

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) [الشورى] . [الآية 2] : وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وأنت مقيم بهذا البلد، يكرم الله تعالى نبيه محمدا (ص) ، الذي جعله خاتم المرسلين، وأرسله هداية للعالمين، وجعل مولده بمكّة وهذا الميلاد يزيد مكّة شرفا وتعظيما: لأن أفضل خلق الله يقيم بها، ويحل بين شعابها، ويتنقّل بين أماكنها داعيا الى دين الله، حاملا وحي السماء، وهداية الناس. [الآية 3] : وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) أقسم الله بآدم وذريته لكرامتهم على الله، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء/ 70] وقيل: كل والد ومولود، «والأكثرون على أنّ الوالد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، والولد محمد (ص) ، كأنه أقسم ببلده ثمّ بوالده ثمّ به» . [الآية 4] : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) (الكبد) : المشقّة والتّعب، أي أوجدت الإنسان في تعب ومعاناة في هذه الحياة، فهو في مشقة متتابعة (من وقت احتباسه في الرحم إلى انفصاله، ثمّ إلى زمان رضاعه، ثم إلى بلوغه، ثمّ ورود طوارق السّرّاء وبوارق الضّرّاء، وعلائق التكاليف، وعوائق التمدّن والتعيّش عليه إلى الموت، ثم إلى البعث، من المساءلة وظلمة القبر ووحشته، ثم إلى الاستقرار في الجنة أو النار، من الحساب والعتاب والحيرة والحسرة) ونظير الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) [الانشقاق] وقوله سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك/ 2] . [الآيات 5- 10] : أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) . (لبدا) : أي كثيرا، (النجدين) : الطريقين، وهما طريقا الخير والشر. روي أن هذه الآيات نزلت في بعض صناديد قريش، الذين كان رسول الله (ص) ، يكابد منهم ما يكابد، وهو أبو الأشدّ أسيد بن كلدة الجمحي، وكان مغترّا بقوّته البدنيّة، وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة. وسواء أكانت هذه الآيات نزلت في أحدهما أم في غيرهما فإنّ معناها عام.

والمعنى: أيظنّ ذلك الصنديد في قومه، المفتون بما أنعمنا عليه، أن لن يقدر أحد على الانتقام منه، وأن لن يكون هناك حساب وجزاء، فتراه يجحد القيامة، ويتصرّف تصرّف القويّ القادر، فيطغى ويبغي، ويبطش ويظلم، ويفسق ويفجر، دون أن يتحرّج، وهذه هي صفات الإنسان الذي يتعرّى قلبه من الايمان. ثمّ إنه إذا دعي للخير والبذل يقول: أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً (6) وأنفقت شيئا كثيرا، فحسبي ما أنفقت وما بذلت، أيحسب أنّ عين الله لا تراه، وتعلم أن ما أعطاه الله له أكثر ممّا أنفقه، وتعلم أنه إنّما أنفق رياء وسمعة، وطلبا للمحمدة بين الناس. ثمّ بيّن الله، سبحانه، جلائل نعمه على هذا الإنسان، وعلى كل إنسان فقال: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) يبصر بهما المرئيات، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) ليعبّر عمّا في نفسه، وليتمكّن من الأكل والشراب، والنفخ والنطق. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) ليختار أيّهما شاء، ففي طبيعته الاستعداد لسلوك طريق الخير أو طريق الشر، لأن الله منحه العقل والتفكير، والارادة والاختيار، وميّزه على المخلوقات جميعها، فالكون كله خاضع لله خضوع القهر والغلبة، والإنسان هو المتميّز بالاختيار والحرية، ليكون سلوكه متّسما بالمسؤولية. مفردات الآيات 11- 20: اقتحم الشيء: دخل فيه بشدة. العقبة: هي الطريق الوعرة في الجبل يصعب سلوكها. المسغبة: المجاعة. مقربة: قرابة. متربة: يقال ترب الرجل إذا افتقر. المرحمة: الرحمة. أصحاب الميمنة: السعداء. أصحاب المشأمة: الأشقياء. مؤصدة: مطبقة عليهم، من أوصدت الباب إذا أغلقته. [الآيات 11- 13] : فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) بعد أن بيّن السياق جليل نعم الله تعالى على الإنسان، وبخاصة الأغنياء، أخذ يحثّ أغنياء مكة على صلة الرحم، والعطف على المساكين، والمشاركة في عتق الرقاب، والتخفيف عن العبيد والإماء.

وقد بدأت الآيات بالحثّ والتحريض على اقتحام العقبة، ثمّ استفهم عنها في أسلوب يراد به التفخيم والتهويل، ثم أجاب بأنها فك رقبة، وهي عتق العبد أو الإعانة على عتقه، والمشاركة في نقله من عالم الأرقّاء الى عالم الأحرار. [الآية 14] : أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) أو إطعام في أيام عوز ومجاعة. [الآية 15] : يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) : إطعام يتيم في يوم المجاعة. [الآية 16] : أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) أو إطعام مسكين عاجز عن الكسب، لصقت بطنه بالتراب من شدة فقره. [الآية 17] : ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) ، أي جمع الى الصفات المتقدّمة الإيمان الصادق، والصبر الجميل وحثّ الناس عليه والوصية به، والتواصي بالرحمة والعطف. ونلحظ أن التواصي بالصبر أمر زائد على الصبر، ومعناه إشاعة الثبات واليقين والطمأنينة بين المؤمنين. وكذلك التواصي بالمرحمة، فهو أمر زائد على المرحمة، ويتمثّل في إشاعة الشعور بواجب التراحم، في صفوف الجماعة، من طريق التواصي به، والتحاض عليه، واتّخاذه واجبا جماعيا فرديا في الوقت ذاته، يتعارف عليه الجميع، ويتعاون عليه الجميع. فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه، لأنّ الإسلام دين جماعة، ومنهج أمة، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحا كاملا. [الآية 18] : أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) أولئك الذين يقتحمون العقبة، كما وصفها القرآن وحدّدها، هم أصحاب الميمنة، وأهل الحظ والسعادة، وهم أصحاب اليمين الفائزون. [الآية 19] : وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا وجحدوا دلائل قدرتنا، وأنكروا آيات الله العظام، من بعث وحساب، ونشور وجزاء، وكذّبوا بآيات القرآن هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) هم أصحاب الشمال، أو هم أصحاب الشؤم والنحس والخسران. [الآية 20] : عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) يصلون نارا مطبقة عليهم، ومغلقة أبوابها لا يستطيعون الفرار منها،

مقاصد السورة

وسيخلدون فيها. هذه هي الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني، وفي التصوّر الإيماني، تعرض في هذه السورة الصغيرة، بهذه القوة وبهذا الوضوح، وهذه هي خاصّيّة التعبير القرآني الفريد. مقاصد السورة 1- القسم بمكّة وبالنبيّ الكريم بيانا لفضله. 2- ما ابتلي به الإنسان في الدنيا من النّصب والتعب. 3- اغترار الإنسان بقوته. 4- تعداد أنعم الله على الإنسان، كالعين واللسان والعقل والفكر. 5- بيان سبيل النجاة الموصلة إلى السعادة. 6- كفران الآيات سبيل الشقاء.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"البلد"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «البلد» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة البلد بعد سورة «ق» ، ونزلت سورة «ق» فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة البلد في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وتبلغ آياتها عشرين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة ذمّ الحرص على الدنيا، وإنذار من يحرص عليها بأنه من أصحاب المشأمة، وتبشير من لا يحرص عليها بأنه من أصحاب الميمنة، وهذا هو وجه ذكرها بعد السورة السابقة، لأنها تأخذ في سياقها، وتسلك في الترغيب والترهيب مسلكها. ذم الحرص على الدنيا الآيات [1- 20] قال الله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) . فأقسم بمكّة وما ذكر بعدها على أنّ الإنسان خلق في تعب وشدّة، وأنكر عليه أن يغترّ بقوّته وهذه حاله في الدنيا، وأن يستكثر ما ينفقه من القليل فيها، كأنّه يحسب أنه لا يرى ما ينفقه، ثم ذكر جلّ وعلا أنه أنعم عليه بنعمة البصر والكلام والعقل ليتبصّر بها،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

ويقتحم عقبة الحرص على الدنيا ببذل المال في فكّ رقبة، أو إطعام في مجاعة، ويجمع إلى هذا أن يكون من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر والمرحمة، وأولئك أصحاب الميمنة، والذين كفروا هم أصحاب المشأمة: عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"البلد"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «البلد» «1» أقول: وجه اتصالها بما قبلها، أنه لمّا ذمّ فيها من أحبّ المال، وأكثر التراث، ولم يحضّ على طعام المسكين، ذكر في هذه السورة الخصال التي تطلب من صاحب المال، من فك الرقبة، والإطعام في يوم ذي مسغبة «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . ومن التناسب أيضا بين هذه السور وسابقتها: أنه تعالى لما ذكر في تلك ابتلاء الإنسان بضيق الرزق بسبب عدم إطعام المسكين، وعدم إكرام اليتيم، ونعى عليه حبّ المال، ذكر في هذه ندمه يوم القيامة، وتذكّره حبس المال، وذلك حين يقول: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) [الفجر] .

المبحث الرابع مكنونات سورة"البلد"

المبحث الرابع مكنونات سورة «البلد» «1» 1- لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) . قال ابن عبّاس: هو مكّة. أخرجه ابن أبي حاتم. 2- وَوالِدٍ. قال أبو صالح: آدم. أخرجه ابن أبي حاتم «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....] (2) . والطبري في «تفسيره» 30/ 125.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"البلد"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «البلد» «1» 1- قال تعالى: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) . و (المتربة) : الفقر، وترب إذا افتقر، والأصل التصق بالتراب. وأمّا «أترب» فمعناه استغنى، أي صار ذا مال كالتراب في الكثرة. وهذا شيء من فوائد استعمال الهمزة في الأفعال. ومن المفيد أن نشير إلى أن العربية جرت على فهم خاص، في اختراع المعاني: ألا ترى أن شيئا من هذا ولد الفعل «أدقع» ، أي: صار مدقعا، أي: فقيرا. والأصل: التصق بالدّقعاء أي: الأرض أو التراب.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"البلد"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «البلد» «1» قال تعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ [الآية 2] فمن العرب من يقول «أنت حلّ» و «أنت حلال» و «أنت حرم» و «أنت حرام» و «هو المحلّ» و «المحرم» وتقول: «أحللنا» و «أحرمنا» وتقول «حللنا» وهي الجيّدة. وقال تعالى: فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أي: «العقبة فكّ رقبة» أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) وقرأ بعضهم (فكّ رقبة) «2» ، وليس هذا بذاك وفَكُّ رَقَبَةٍ (13) «3» هو الجيّد. وقال تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً بنصب «اليتيم» على «الإطعام» . وقال تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) أي: «فلم يقتحم» كما في قوله تعالى: فَلا صَدَّقَ [القيامة/ 31] أي: «فلم يصدّق» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نسبها في معاني القرآن 3/ 265 إلى الحسن البصري، وابن كثير، وأبي عمرو، والكسائي، وفي السبعة 686، والكشف 2/ 375، والتيسير 223، والجامع 20/ 70، إلى أبي عمرو والكسائي وابن كثير، وفي البحر 8/ 476 كذلك. (3) . نسبت في معاني القرآن 3/ 265 إلى العوام، وفي السبعة 686 الى ابن عامر ونافع وعاصم وحمزة وأبي عمرو في رواية، وفي الكشف 2/ 375، والتيسير 223، والجامع 20/ 70 إلى غير ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، وفي البحر 8/ 476 إلى بعض التابعين.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"البلد"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «البلد» «1» إن قيل: لم قال تعالى: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) ولم يقل سبحانه وتعالى «ومن ولد» ؟ قلنا: لأن في «ما» من الإبهام ما ليس في «من» ، فقصد به التفخيم والتعظيم، كأنه تعالى قال: وأي شيء عجيب غريب ولد، ونظيره قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران/ 36] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"البلد"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «البلد» «1» في قوله سبحانه: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً (6) استعارة. وقد مضى نظير لها. والمراد باللّبد هاهنا المال الكثير الذي قد تراكب بعضه على بعض، كما تلّبدت طرائق الشّعر، وسبائخ «2» القطن. وقد يجوز أن يكون ذلك مأخوذا من قولهم: رجل لبد. إذا كان لازما لبيته لا يبرحه. وبه سمّي نسر لقمان لبدا، لمماطلته للعمر، وطول بقائه على الدهر. فكأنه قال: أهلكت مالا كان باقيا لي، وثابتا عندي. وفي قوله سبحانه: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) استعارة. والمراد بالنّجدين هاهنا الطريقان المفضيان إلى الخير والشر. والنّجد: المكان العالي، وإنما سمّى تعالى هذين الطريقين بالنجدين، لأنه بيّنهما للمكلّفين بيانا واضحا ليتّبعوا سبيل الخير، ويجتنبوا سبيل الشر. فكأنه تعالى بفرط البيان لهما، قد رفعهما للعيون، ونصبهما للناظرين. وقوله سبحانه: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) استعارة أخرى. وفسّر تعالى المراد بالعقبة، فقال: فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) . فشبه سبحانه هذا الفعل- إذا فعله الإنسان- باقتحام العقبة، أي صعودها أو قطعها. لأن الإنسان ينجو بذلك

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . سبائخ القطن: ما تناثر أو انتفش منه. يقال: طارت سبائخ القطن. انظر «المحيط» .

كالناجي من الطريق الشاق، إذا اقتحم عقبته، وتجاوز مخافته. وحسن تمثيل هذا الفعل هاهنا بالعقبة لمّا شبّه سبحانه سبيلي الخير والشر بالنّجدين اللذين هما الطريقان الواضحان والعقاب «1» إنما تكون في طريق السالكين، وسبيل المسافرين. وعليها يكون بهر الأنفاس، وشدة الضغاط والمراس.

_ (1) . العقاب أي العقبات.

سورة الشمس 91

سورة الشّمس 91

المبحث الأول أهداف سورة"الشمس"

المبحث الأول أهداف سورة «الشمس» «1» سورة «الشمس» سورة مكّيّة، آياتها 15 آية، نزلت بعد سورة «القدر» . وهي سورة قصيرة ذات قافية واحدة، وإيقاع موسيقي واحد، تتضمّن عدة لمسات وجدانية تنبثق من مشاهد الكون وظواهره التي تبدأ بها السورة، والتي تظهر كأنها إطار للحقيقة الكبيرة التي تتضمنها السورة، حقيقة النفس البشرية واستعدادها الفطري، ودور الإنسان في شأن نفسه، وتبعته في مصيرها. هذه الحقيقة التي يربطها سياق السورة بحقائق الكون، ومشاهده الثابتة. «كذلك تتضمّن قصة ثمود وتكذيبها بإنذار رسولها، وعقرها للناقة، ومصرعها بعد ذلك وزوالها، وهي نموذج من الخيبة التي تصيب من لا يزكّي نفسه، فيدعها للفجور» . ولا يلزمها تقواها: كما جاء في الفقرة الأولى من السورة: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) . مع آيات السورة [الآيات 1- 6] : المفردات: ضحاها: ضحى الشمس ضوؤها. تلاها: جاء بعدها. جلّاها: أظهرها. يغشاها: يغطّيها ويحجب نورها. طحاها: وطأها وجعلها فراشا. دسّاها: التدسية النقص والإخفاء.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

لله تعالى كتابان: كتاب مقروء، وهو القرآن الكريم، وكتاب مفتوح، وهذا هو الكون العظيم، ومشاهد الكون تأسر القلوب، وتبهج النفس، وتوقظ الحس، وتنبّه المشاعر. «ومن ثم يكثر القرآن من توجيه القلب الى مشاهد الكون بشتّى الأساليب في شتّى المواضع، تارة بالتوجيهات المباشرة، وتارة باللمسات الجانبية، كهذا القسم بتلك الخلائق والمشاهد، ووضعها إطارا لما يليها من الحقائق» . [الآية 1] : أقسم الله بالشمس، وبنورها الساطع في وقت الضحى، وهو الوقت الذي يظهر فيه ضوء النهار، ويتجلّى نور الشمس، ويعمّ الدفء في الشتاء، والضياء في الصيف، قبل حر الظهيرة وقيظها. [الآية 2] : وأقسم الله بالقمر إذا جاء بعد الشمس، بنوره اللطيف الهادئ الذي يغمر الكون بالضياء والأنس والجمال. [الآية 3] : وأقسم بالنهار إذا أظهر الشمس، وأتمّ وضوحها، وللنهار في حياة الإنسان آثار جليلة، ففيه السعي والحركة والنشاط. [الآية 4] : وأقسم الله بالليل إذا غشي الكون، فغطى ظلامه الكائنات، وحجب نور الشمس وأخفاه. [الآية 5] : وأقسم الله بالسماء ومن قدّر خلقها، وأحكم صنعها على النحو الذي نشاهده. [الآية 6] : وأقسم الله بالأرض، والذي بسطها ومهّدها للسّكنى. لقد جمع القسم بين ضياء الشمس ونور القمر، وضوء النهار وظلام الليل، وارتفاع السماء وبسط الأرض، وتلحظ في هذا القسم المقابلة بين النور والظلام، بين السماء والأرض، مما يلفت النظر إلى بديع صنع الله، وجليل وحيه وإعجاز كتابه. [الآيات 7- 10] : وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) . خلق الله الإنسان مزودا باستعدادات متساوية للخير والشر والهدى والضلال، فهو قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر. لقد خلق الله الإنسان بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وزوّده

بالعقل والإرادة، والحرية والاختيار. وقد بين الله للإنسان طريق الهدى وطريق الضلال، وأودع في النفس البشرية أصول المعرفة، والتمييز بين الحق والباطل، فمن حمل نفسه على الاستقامة، وصانها عن الشر، فقد رزق الفلاح والسداد. ومن أهمل نفسه واتّبع شهواته، وأرخى العنان لنزواته، فقد خاب، لأنه هوى بنفسه من سموّ الطاعة إلى حضيض المعصية. [الآيات 11- 15] : كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) . ثمود: قوم من العرب البائدة، بعث الله إليهم نبيّا اسمه صالح عليه السلام. بطغواها: بطغيانها. انبعث: قام بعقر الناقة. أشقاها: أشقى رجل في قوم ثمود، وهو قدار بن سالف. سقياها: شرابها الذي اختصّها به في يومها. فعقروها: فذبحوها، والعاقر واحد، ونسب إليهم جميعهم لرضاهم به. دمدم عليهم: أطبق عليهم بالعذاب. سوّاها: فسوّى القبيلة في العقوبة، فلم يفلت منها أحد. عقباها: عاقبة الدمدمة وتبعتها. ذكرت قصة ثمود في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وقد ذكر هنا طغيانها وعتوّها على أمر الله، وقد أعطى الله نبيهم صالحا الناقة آية مبصرة، فكانت تشرب وحدها من الماء في يوم، وتحلب لهم لبنا يكفيهم جميعا في ذلك اليوم، ثم يشربون من الماء في اليوم التالي. وقد حذرهم رسول الله صالح من الإساءة إلى الناقة، ولكنّهم خالفوا أمره، وذهب شقي منهم فعقر الناقة، ولمّا سكتوا عنه صاروا كأنّهم قد اشتركوا معه، لأنهم أهملوا التناصح، ولم يأخذوا على يد الظالم فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) فأطبق عليهم العذاب، وسوى الله القبيلة بالأرض، أي دمر مساكنها على ساكنيها. وَلا يَخافُ عُقْباها (15) أي أن الله أهلك القبيلة دون أن يخشى عاقبة ما فعل، لأنه عادل لا يخاف عاقبة ما فعل، قويّ لا يخاف أن يناله مكروه من أحد، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

مقاصد السورة

مقاصد السورة 1- القسم بالشمس والقمر، والنهار والليل، والسماء والأرض والنفس، على أنّ من طهّر نفسه بالأخلاق الفاضلة، فقد أفلح وفاز ومن سلك طريق الهوى والغواية، فقد خاب وشقي. 2- ذكر ثمود مثلا لمن دسّى نفسه فاستحق عقاب الله.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الشمس"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الشمس» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الشمس بعد سورة القدر، ونزلت سورة القدر بعد سورة عبس، ونزلت سورة عبس فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة الشمس في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وتبلغ آياتها خمس عشرة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة الترغيب في الطاعات، والتحذير من المعاصي، فهي في سياق الترغيب والترهيب كسورة البلد، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها. الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي الآيات [1- 15] قال الله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) الآيات إلى قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) ، فأقسم بالشمس وما ذكر بعدها على فلاح من زكّى نفسه بالطاعات، وخيبة من دسّاها بالمعاصي، ثم أثبت هذا بعد القسم بما حصل لثمود بمعصيتها حينما أمرهم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

صالح أن يتركوا ناقة الله وشربها، فكذّبوه في رسالته وذبحوا هذه الناقة. فدمدم عليهم ربهم أي أطبق عليهم عذابه فسوّاها: وَلا يَخافُ عُقْباها (15) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الشمس"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الشمس» «1» أقول: هذه الثلاث حسنة التناسق جدا، لما في مطالعها من المناسبة، لما بين الشمس والليل والضحى من الملابسة، ومنها سورة الفجر، لكن فصلت بسورة البلد لنكتة أهم، كما فصل بين الانفطار والانشقاق وبين المسبّحات، لأن مراعاة التناسب بالأسماء والفواتح وترتيب النزول، إنّما يكون حيث لا يعارضها ما هو أقوى وآكد في المناسبة. ثم إن سورة الشمس ظاهرة الاتصال بسورة البلد، فإنه سبحانه لمّا ختمها بذكر أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، أراد الفريقين في سورة الشمس على سبيل الفذلكة «2» . فقوله، في الشمس: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) ، هم أصحاب الميمنة في سورة البلد وقوله تعالى: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) في سورة الشمس، هم أصحاب المشأمة في سورة البلد، فكانت هذه السورة فذلكة تفصيل تلك السورة: ولهذا قال الإمام: المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات، والتحذير من المعاصي. ونزيد في سورة الليل: أنها تفصيل إجمال سورة الشمس، فقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) [الليل] وما بعدها، تفصيل قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) . وقوله تعالى

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. (2) . الفذلكة: خلاصة ما فصّل من أمر ما.

وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) [الليل] الآيات، تفصيل قوله: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) . ونزيد في سورة الضحى: أنها متصلة بسورة الليل من وجهين. فإنّ فيها وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) [الليل] . وفي الضحى: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) . وفي الليل: وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) وفي الضحى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) . ولمّا كانت سورة الضحى نازلة في شأنه (ص) فقد افتتحت بالضحى، الذي هو نور. ولما كانت سورة الليل سورة أبي بكر، يعني: ما عدا قصة البخيل «1» ، وكانت سورة الضحى سورة محمد (ص) ، عقّب بها، ولم يجعل بينهما واسطة، ليعلم ألّا واسطة بين محمد (ص) وأبي بكر.

_ (1) . الذي نزل في أبي بكر من هذه السورة قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) [الليل] الى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) [الليل] . أخرج ابن جرير أنه كان يغدق على الإسلام بمكّة عجائز ونساء إذا أسلمن، فلامه أبوه، فنزلت. تفسير ابن جرير الطبري: 30/ 142. [.....]

المبحث الرابع مكنونات سورة"الشمس"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الشمس» «1» 1- إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) . هو قدار «2» . وقال الفرّاء «3» والكلبي: هما رجلان: قدار بن سالف ومصدع بن دهر ولم يقل: (أشقياها) للفاصلة «4» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . قدار بن سالف. انظر «تفسير الطبري» 30/ 136- 137. (3) . في «معاني القرآن» 3/ 268. (4) . في «الإتقان» 2/ 148 في قوله تعالى في هذه السورة: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ [الآية 13] هو صالح.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الشمس"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الشمس» «1» قال تعالى: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) . قالوا: معنى (دسّاها) دسّها في أهل الخير، وليس منهم. ويقال: قد خاب من دسّى نفسه فأخملها بترك الصدقة والطاعة. وإذا كان أصل (دسّاها) دسّها، فقد بدّلت بعض سيناتها ياء كما قالوا: تظنّيت من الظن. أقول: إذا كان ذلك، فالمراد هو المراعاة للفواصل التي اقتضت تبديل بناء الفعل.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الشمس"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الشمس» «1» قال تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) أي: «والذي سوّاها» فأقسم الله تبارك وتعالى بنفسه، وأنّه ربّ النفس التي سوّاها. ووقع القسم على قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) . وقال تعالى: ناقَةَ اللَّهِ [الآية 13] أي: ناقة الله فاحذروا أذاها.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الشمس"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الشمس» «1» إن قيل: لم نكّر الله تعالى النفس دون سائر ما أقسم به حيث قال تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) . قلنا: لأنه لا سبيل إلى لام الجنس، لأن نفوس الحيوانات غير الإنسان خارجة عن ذلك، بدليل قوله تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) . ولا سبيل إلى لام العهد، لأنّ المراد ليس نفسا واحدة معهودة، وعلى قول من قال: المراد منه نفس آدم عليه السلام، فالتنكير للتفخيم والتعظيم كما سبق في سورة الفجر. فإن قيل: أين جواب القسم؟ قلنا: قال الزّجّاج وغيره: إنه قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وحذفت اللام لطول الكلام. وقال ابن الأنباري: جوابه محذوف. وقال الزمخشري: تقديره ليدمدمنّ الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله (ص) ، كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا عليه السلام. قال: وأما قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) ، فكلام تابع لما قبله على طريق الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

سورة الليل 92

سورة اللّيل 92

المبحث الأول أهداف سورة"الليل"

المبحث الأول أهداف سورة «الليل» «1» سورة «الليل» سورة مكّيّة، آياتها إحدى وعشرون آية، نزلت بعد سورة «الأعلى» . وتصف السورة مشاهد الكون، ومظاهر القدرة، وتقرير حقيقة العمل والجزاء، وتبيّن أنّ الجزاء الحق من جنس العمل. ونلاحظ في السورة التقابل بين الليل والنهار، والذكر والأنثى، ومن أعطى واتقى، ومن بخل واستغنى، وبين الأشقى الذي كذّب وتولّى، والأتقى الذي يؤتي ماله يتزكّى، وهذا من بدائع التناسق في التعبير القرآني. مع آيات السورة [الآيات 1- 4] : وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) . يغشى: يغطي كل شيء فيواريه بظلامه. تجلّى: ظهر وانكشف بظهوره كل شيء. وما خلق: والذي خلق. شتّى: واحدها شتيت، وهو المتباعد بعضه عن بعض. يقسم الله سبحانه وتعالى بالليل حينما يغشى البسيطة، ويغمرها ويخفيها، وبالنهار حينما يتجلّى ويظهر، فيظهر في تجلّيه كل شيء ويسفر. ويقسم بالقادر العظيم الذي خلق

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

الذكر والأنثى، وميّز بين الجنسين مع أن المادة التي تكوّنا منها مادة واحدة، والمحلّ الذي تكوّنا فيه محل واحد. يقسم الله بهذه الظواهر، والحقائق المتقابلة في الكون وفي الناس، على أن سعي الناس مختلف، وعملهم متباعد ومتفرّق، فمنه السّيئ ومنه الحسن، ومنه التقوى ومنه الفجور، ومنه ما يجازى عليه بالنعيم المقيم، ومنه ما يعاقب عليه بالعذاب الأليم. [الآيات 5- 11] : فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) . أعطى: بذل ماله. اتقى: خاف عذاب الرحمن واجتنب المحارم. الحسنى: الكلمة الحسنى وهي مؤنث الأحسن فسنيسّره: فسنهيّئه. لليسرى: لليسر والسهولة. العسرى: العسر والعنت والمشقة. تردّى: هلك، وهو تفعّل من الردى. فأما من أعطى الفقراء، وأنفق المال في وجوه الخير، وراقب الله وابتعد عن المحرّمات، وأيقن أنّ الله سيخلف عليه ما أنفق، مصدّقا بالفضيلة، ومميّزا بينها وبين الرذيلة، وابتعد من طريق الغواية، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) فسنجعل اليسر يفيض من نفسه على كل ما حوله، وعلى كلّ من حوله، اليسر في خطوه، واليسر في طريقه، واليسر في تناوله للأمور كلها، والتوفيق الهادئ المطمئن في كليّاتها وجزئيّاتها. وأمّا من بخل بماله، واستغنى عن ربّه وهداه، وكذّب بالدين الحقّ، ولم يصدّق بأنّ الله سيخلف على المنفقين، وسيجزي المحسنين، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) فيسلب الله منه الهدى واليسر، ويحرمه كلّ تيسير، وبجعل في كلّ خطوة من خطاه مشقّة وحرجا، ينحرف به عن طريق الرشاد، فإذا تردّى وسقط في نهاية العثرات والانحرافات، لم يغن عنه ماله الذي بخل به، والذي استغنى به كذلك عن الهدى والسداد. [الآيات 12- 21] : تلظّى: أصله تتلّظى، أي تتوقّد وتلتهب. لا يصلاها: لا يحترق بها.

الأشقى: من هو أشدّ شقاء من غيره. كذّب: كذّب الرسول فيما جاء به عن ربه. تولّى: أعرض عن طاعة ربه. يتزكّى: يتطهّر. تجزى: تجازى وتكافأ. [الآية 12] : إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) أي أنّا خلقنا الإنسان وألهمناه التمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، ثم أرسلنا له الرسل، وأنزلنا له الكتب لترشده الى الهداية والإيمان. [الآية 13] : وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) وأنّا المالكون لكل ما في الآخرة ولكلّ ما في الأولى، فأين يذهب من يريد أن يذهب بعيدا من الله؟ [الآيتان 14 و 15] : فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (15) وأنّ من هداية الله للبشر، أن خوّفنا رسوله الكريم محمد (ص) نارا تلظّى: تتسعّر، وتشتدّ ألسنة لهبها، هذه النار لا يقاسي حرها إلّا أشدّ الناس شقاوة، وهو الكافر. [الآية 16] : الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) الذي كذّب بالدعوة، وكذّب الرسول (ص) فيما جاء به عن ربّه من الآيات، وأعرض أيضا عن اتّباع شرائعه، وانصرف عن الحق دون دليل يستند إليه، حتّى صار التكذيب والإعراض أبرز أوصافه. [الآيتان 17 و 18] : وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وسيبعد عن النار من اتقى الله، وابتعد عن الموبقات، الذي ينفق أمواله في وجوه البر، طالبا بذلك طهارة نفسه، وقربها من ربه، ولا يريد بذلك رياء على معروف، وانّما يقدم الخير ابتغاء مرضاة الله، وحبّا في ذاته سبحانه. ولسوف يرضى من فعل ذلك بأحسن ثواب، في أفضل مكان وفي أحسن جوار. روي أنّ هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق (رض) ، وقد كان من أمره أنّ بلال بن رباح، وكان مولى لعبد الله بن جدعان، دخل في الإسلام، فكان سيده يعذّبه، ويخرجه إلى الرمضاء في حرّ الظهيرة، ويضع الحجر على بطنه، ويقول له لا تزال كذلك حتى تموت، أو تكفر بمحمّد، فلا يزيد بلال على أن يقول أحد أحد.

مقاصد السورة

وكان رسول الله (ص) يمرّ به وهو يعذّب فيقول له ينجيك أحد أحد ثمّ أخبر رسول الله (ص) أبا بكر (رض) بما يلقى بلال في الله، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، فقال المشركون ما فعل ذلك أبو بكر إلّا ليد كانت لبلال عنده، فنزل قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الى آخر السورة. مقاصد السورة 1- بيان أن الناس في الدنيا فريقان: (أ) فريق يهيّئه الله للخصلة اليسرى، وهم الذين أعطوا الأموال لمن يستحقها وصدقوا بما وعد الله من الأخلاف على من أنفق. (ب) وفريق يهيئه الله للخصلة المؤدية الى العسر والشدة، وهم الذين بخلوا بالأموال، واستغنوا بالشهوات وأنكروا ما وعد الله به من ثواب الجنة. 2- الجزاء في الآخرة من جنس العمل، فالأشقى له النار، والأتقى له الجنة والرّضوان.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الليل"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الليل» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الليل بعد سورة الأعلى، ونزلت سورة الأعلى فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الليل في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وتبلغ آياتها إحدى وعشرين آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة الترغيب في بذل المال في سبيل الله، والتحذير من البخل، فهي في سياق السورة السابقة أيضا، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها. الترغيب في البذل والتحذير من البخل الآيات [1- 21] قال الله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) ، فأقسم، بالليل وما ذكر بعد، على أنّ سعيهم مختلف في الجزاء. فأمّا من بذل من ماله في سبيل الله مع التقوى والتصديق بما جاء به النبي (ص) ، فسيكون جزاؤه الجنّة وأما من بخل ولم يتّق ولم يصدّق بذلك فجزاؤه النار، ولا يغني عنه ماله شيئا ثم ذكر أنه قد قضى بذلك حقّهم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

في الإرشاد، وأنّ له ملك الدّارين فلا يضرّه تركهم الاهتداء، ثمّ أنذرهم النار التي لا يصلاها إلّا غير المهتدي، وسيجنّبها من اهتدى فبذل ماله ليطهّر نفسه، ولا يبتغي بذلك إلّا وجه ربه الأعلى وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) .

المبحث الثالث مكنونات سورة"الليل"

المبحث الثالث مكنونات سورة «الليل» «1» 1- الْأَشْقَى (15) . هو أميّة بن خلف. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود. 2- الْأَتْقَى (17) . هو أبو بكر الصديق. كما في أحاديث في «المستدرك» وغيره «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . أنظر «المستدرك» للحاكم 2/ 525 و «تفسير الطبري» 30/ 142، و «سيرة ابن هشام» 1/ 219، و «تفسير ابن كثير» 4/ 521.

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"الليل"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الليل» «1» 1- قال تعالى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) . أقول: اليسرى والعسرى مصدران كالحسنى والبقيا وغير ذلك. أو قل هي أسماء من اليسر والعسر والحسن والبقي. والأصل كما أرى أنها مؤنثة الوصف ب «أفعل» وهو الأيسر والأعسر والأحسن والأبقى.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"الليل"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الليل» «1» قال تعالى: وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) فهذه الواو واو عطف عطف بها على الواو التي في القسم الأول. وقال بعضهم في قوله تعالى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إنه جعل القسم بالخلق، كأنه جلّ جلاله أقسم بما خلق، ثم فسّره بجعله بدلا من (ما) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الليل"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الليل» «1» إن قيل: لم قال الله تعالى: لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (15) مع أن الشقيّ أيضا يصلاها: أي يقاسي حرها وعذابها؟ قلنا: قال أبو عبيدة: الأشقى هنا بمعنى الشقي، والمراد كلّ كافر، والعرب تستعمل أفعل في موضع فاعل ولا تريد به التفضيل، وقد سبق تقرير ذلك والشواهد عليه في سورة الروم في قوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الآية 27] . وقال الزجاج: هذه نار موصوفة معيّنة، فهو درك مخصوص ببعض الأشقياء، ورد عليه ذلك بقوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) والأتقى يجنّب عذاب أنواع نار جهنّم كلّها، والمراد بالأتقى هنا أبو بكر الصديق (رض) بإجماع المفسّرين، ولهذا قال الزمخشري: إنّ الأشقى ليس بمعنى الشقي بل هو على ظاهره، والمراد به أبو جهل أو أميّة بن خلف. فالآية واردة للموازنة بين حالتي أعظم المؤمنين وأعظم المشركين، فبولغ في صفتيهما المتناقضتين، وجعل هذا مختصّا بالصّلى (أي بالنار) ، كأن النار لم تخلق إلا له لوفور نصيبه منها، وجاء قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) على موازنة ذلك ومقابلته، مع أنّ كلّ تقي يجنّبها.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....]

الفهرس

الفهرس سورة «المرسلات» المبحث الأول أهداف سورة «المرسلات» 3 تسلسل أفكار السورة 4 مع آيات السورة 5 مقاصد السورة 9. المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المرسلات» 11 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 11 الغرض منها وترتيبها 11 إثبات وقوع العذاب 11. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المرسلات» 13. المبحث الرابع مكنونات سورة «المرسلات» 15. المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المرسلات» 17

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المرسلات» 19. المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المرسلات» 21. المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المرسلات» 23. سورة «النبأ» المبحث الأول أهداف سورة «النبأ» 27 مع آيات السورة 28 معنى الآيات 28 موضوعات السورة 31. المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النبأ» 33 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 33 الغرض منها وترتيبها 33 إثبات البعث 33. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النبأ» 35. المبحث الرابع مكنونات سورة «النبأ» 37. المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «النبأ» 39

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «النبأ» 41. المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «النبأ» 43. سورة «النازعات» المبحث الأول أهداف سورة «النازعات» 47 مع آيات السورة 48 موضوعات سورة النازعات 51. المبحث الثاني 53 ترابط الآيات في سورة «النازعات» 53 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 53 الغرض منها وترتيبها 53 إثبات البعث 53. المبحث الثالث مكنونات سورة «النازعات» 55. المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «النازعات» 57. المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «النازعات» 59. المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «النازعات» 61

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «النازعات» 63. سورة «عبس» المبحث الأول أهداف سورة «عبس» 67 فقرات السورة 67 مع آيات السورة 68 مقاصد السورة 71. المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «عبس» 73 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 73 الغرض منها وترتيبها 73 التسوية بين الناس في الدعوة 73. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «عبس» 75. المبحث الرابع مكنونات سورة «عبس» 77. المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «عبس» 79. المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «عبس» 81 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «عبس» 83.

سورة «التكوير» المبحث الأول أهداف سورة «التكوير» 87 مع آيات السورة 87 المقطع الثاني 89. المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التكوير» 93 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 93 الغرض منها وترتيبها 93 إثبات الحساب على الأعمال 93. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التكوير» 95. المبحث الرابع مكنونات سورة «التكوير» 97. المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «التكوير» 99. المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «التكوير» 101. المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «التكوير» 103. المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «التكوير» 105

سورة «الانفطار» المبحث الأول أهداف سورة «الانفطار» 109 مع آيات السورة 109 مقاصد السورة 114. المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الانفطار» 115 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 115 الغرض منها وترتيبها 115 إثبات الحساب على الأعمال 115. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الانفطار» 117. المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الانفطار» 119. المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الانفطار» 121. سورة «المطفّفين» المبحث الأول أهداف سورة «المطفّفين» 125 مقاطع السورة 125 من أسباب نزول السورة 126 مع آيات السورة 126 مقاصد السورة 130

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المطفّفين» 133 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 133 الغرض منها وترتيبها 133 تحريم التطفيف 133. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المطفّفين» 135. المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «المطفّفين» 137. المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «المطفّفين» 139. المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «المطفّفين» 141. المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «المطفّفين» 143. سورة «الانشقاق» المبحث الأول أهداف سورة «الانشقاق» 147 مقاطع السورة 147 مع آيات السورة 148 مقاصد السورة 151. المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الانشقاق» 153

تاريخ نزولها ووجه تسميتها 153 الغرض منها وترتيبها 153 إثبات المعاد 153. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الانشقاق» 155. المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الانشقاق» 157. المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الانشقاق» 159. المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الانشقاق» 161. المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الانشقاق» 163. سورة «البروج» المبحث الأول أهداف سورة «البروج» 167 أصحاب الأخدود 167 فقرات السورة 167 مع آيات السورة 168 مقاصد السورة 170. المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «البروج» 171 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 171

الغرض منها وترتيبها 171 تثبيت المؤمنين 171. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورتي «البروج» و «الطارق» 173. المبحث الرابع مكنونات سورة «البروج» 175. المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «البروج» 177. المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «البروج» 179. سورة «الطارق» المبحث الأول أهداف سورة «الطارق» 183 مع آيات السورة 183 مقاصد السورة 186. المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الطارق» 187 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 187 الغرض منها وترتيبها 187 إثبات حفظ الأعمال 187. المبحث الثالث مكنونات سورة «الطارق» 189

المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «الطارق» 191. المبحث الخامس المعاني المجازية في سورة «الطارق» 193. سورة «الأعلى» المبحث الأول أهداف سورة «الأعلى» 197 مع آيات السورة 197 يسر الشريعة الإسلامية 200 مقاصد سورة الأعلى 204. المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأعلى» 205 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 205 الغرض منها وترتيبها 205 منهاج الدعوة 205. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأعلى» 207. المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «الأعلى» 209. سورة «الغاشية» المبحث الأول أهداف سورة «الغاشية» 213

مع آيات السورة 213 مقاصد السورة 217. المبحث الثاني 219 ترابط الآيات في سورة «الغاشية» 219 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 219 الغرض منها وترتيبها 219 تفصيل الثواب والعقاب 219. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الغاشية» 221. المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الغاشية» 223. المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الغاشية» 225. المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الغاشية» 227. المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الغاشية» 229. سورة «الفجر» المبحث الأول أهداف سورة «الفجر» 233 مع آيات السورة 234 خلاصة أهداف السورة 238

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفجر» 239 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 239 الغرض منها وترتيبها 239 إثبات العذاب 239. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفجر» 241. المبحث الرابع مكنونات سورة «الفجر» 243. المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفجر» 245. المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفجر» 247. المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفجر» 249. المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفجر» 251. سورة «البلد» المبحث الأول أهداف سورة «البلد» 255 مع آيات السورة 255 مقاصد السورة 259

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «البلد» 261 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 261 الغرض منها وترتيبها 261 ذم الحرص على الدنيا 261. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «البلد» 263. المبحث الرابع مكنونات سورة «البلد» 265. المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «البلد» 267. المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «البلد» 269. المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «البلد» 271. المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «البلد» 273. سورة «الشمس» المبحث الأول أهداف سورة «الشمس» 277 مع آيات السورة 277 مقاصد السورة 280

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الشمس» 281 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 281 الغرض منها وترتيبها 281 الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي 281. المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الشمس» 283. المبحث الرابع مكنونات سورة «الشمس» 285. المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الشمس» 287. المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الشمس» 289. المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الشمس» 291. سورة «الليل» المبحث الأول أهداف سورة «الليل» 295 مع آيات السورة 295 مقاصد السورة 298. المبحث الثاني 299 ترابط الآيات في سورة «الليل» 299 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 299

الغرض منها وترتيبها 299 الترغيب في البذل والتحذير من البخل 299. المبحث الثالث مكنونات سورة «الليل» 301. المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الليل» 303. المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الليل» 305. المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الليل» 307

الجزء الثاني عشر

الجزء الثاني عشر توضيح ينبغي لنا الإشارة إلى أن بعض المباحث التي كانت مطّردة في المجلدات السابقة ستغيب عن هذا المجلد. ومردّ ذلك إلى أنّ طبيعة السور القرآنية الكريمة التي غابت عنها تلك المباحث، لا تستجيب لدواعي بعض العناوين فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ سورة قرآنية كريمة، لا تشتمل على معان لغوية غامضة، أو لا يكتنفها شيء من التغاير في الفهم والتحليل، لا تحتاج إلى مبحث «المعاني اللغوية» . وكذلك، فإن سورة قرآنية كريمة لا يتضمّن نصّها مجازا، لا تستجيب، وفاقا لنمط بيانها، إلى مبحث «المعاني المجازية» ... وقس على ذلك. وغنيّ عن القول أنّ أصحاب المصادر والمراجع التي ارتكزت عليها هذه الموسوعة هم أهل معرفة ودراية، بل هم أهل الاختصاص في هذا الشأن ولم يتركوا هذه المباحث سهوا أو نشدانا لراحة، أو تخفيفا من عناء. وما كان لهم أن يغفلوها لو أنهم وجدوا ما يقتضيها ناهيك من أنّ بعض المباحث قد استوفت أغراضها في آيات متشابهات من سور تضمنتها المجلدات السابقة. فصار الكلام عليها، في هذا المجلد، من قبيل التكرار.

سورة الضحى 93

سورة الضّحى 93

المبحث الأول أهداف سورة"الضحى"

المبحث الأول أهداف سورة «الضّحى» «1» سورة «الضحى» سورة مكّية، آياتها إحدى عشرة آية، نزلت بعد سورة «الفجر» . والسورة بموضوعها، وتعبيرها ومشاهدها، لمسة من حنان، ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع، وتسكب الرّضا والأمل، إنها كلّها خالصة للنبي (ص) . كلها نجاء له من ربه وتسرية وتسلية وترويح وطمأنة. ورد في روايات كثيرة، أن الوحي فتر عن رسول الله (ص) ، وأبطأ عليه جبريل (ع) فقال المشركون: إنّ إله محمّد ودّعه وقلاه. عندئذ نزلت هذه السورة، نزل هذا الفيض من الود والحب، والرحمة والإيناس والقربى، والطمأنينة واليقين. وَالضُّحى (1) أي وحي الضحى، وهو وقت ارتفاع الشمس، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) أي سكن، والمراد سكون الناس والأصوات فيه. أقسم الله سبحانه بالضحى الرائق، الذي ينتشر فيه الضوء والنور، وتخف فيه حدة الشمس وأقسم بالليل الساكن الهادئ، ليربط بين القسم وجوابه وهو: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) ، ما تركك ربّك ولا جفاك كما زعم المشركون، وهو ربّك وراعيك وكافلك. وللدّار الاخرة خير لك من هذه الدنيا، ولسوف يعطيك ربك من الكمالات، وظهور الأمر، وبقاء الذكر ما يجعلك ترضى.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشقّ له من اسمه ليجلّه فذو العرش محمود وهذا محمّد ويمضي سياق السورة في تذكير الرسول (ص) بنعم الله عليه فيقول: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآواك إليه، وعطف عليك القلوب؟ ولقد كنت ضالا غير عالم بمعالم النبوة وأحكام الشريعة، متحيّرا لا تجد طريقا واضحا مطمئنّا، لا في ما عند أهل الجاهلية، ولا في ما عند أتباع الأنبياء الذين حرّفوا وبدّلوا، ثمّ هداك الله بالأمر الذي أوحى به إليك، وعلّمك أحكام الشريعة والرسالة، ولقد كنت فقيرا فأغناك الله بكسبك، وبمال خديجة، وبما أفاء عليك من الربح في التجارة. وبمناسبة ما ذكره الله سبحانه من النّعم، يوجّه الرسول (ص) ويوجه المسلمين من ورائه الى رعاية كلّ يتيم، وإلى كفاية كل سائل، وإلى التحدّث بنعم الله التي لا تحصى، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) ، أي فلا تغلبه على ماله لضعفه، فتسلبه إياه، وأمّا السائل فلا تزجره. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) : وحدّث الناس بما عندك من علم، بسبب إنعام الله عليك بالنبوّة، وكن هاديا دائما إلى طريق الفوز والفلاح. والتحدّث بالنّعمة صورة من صور الشكر للمنعم، يكملها البر بالعباد، وهو المظهر العملي للشكر، ولذلك يقول أبو حامد الغزالي: «شكر النعمة هو استغلالها فيما خلقت له» . فشكر نعمة البصر: التأمل في ملكوت السماوات والأرض، وغضّ البصر عن المحرّمات. وشكر نعمة السمع: سماع الحق والعلم والقرآن، والامتناع عن سماع الزور والإثم. وشكر نعمة اليد: أن تكتب بها العلم والحق، وأن تساعد بها، وأن تضرب بها في سبيل الله، وأن تجاهد أعداء الدين، وألّا تؤذي بها أحدا من المستضعفين. ونلاحظ أن البيئة العربية في الجاهلية كانت تجحد حق الضعيف، وتهمل اليتيم والمساكين، وترى أن السيف هو القوة القادرة، وهو الحكومة المنفذة، حتى جاء الإسلام بأحكامه العادلة، وشريعته السمحة، فدعا إلى الحق

مقاصد سورة الضحى

والعدل، والتحرّج والتقوى، والوقوف عند حدود الله، الذي يحرس حدوده ويغار عليها، ويغضب للاعتداء على حقوق عباده الضعاف، الذين لا يملكون قوّة ولا سيفا، يذودون به عن هذه الحقوق. مقاصد سورة الضحى 1- القسم بالضحى والليل، على أن الله ما قلا رسوله وما تركه. 2- وعد الرسول بأنه سيكون في مستقبل أمره خيرا من ماضيه. 3- تذكيره بنعمة الله عليه فيما مضى، وأنه سيواليها عليه. 4- طلب الشكر منه على هذه النعم.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الضحى" تاريخ نزولها ووجه تسميتها

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الضحى» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الضحى بعد سورة الفجر، ونزلت سورة الفجر فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الضحى في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) وتبلغ آياتها إحدى عشرة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة تثبيت النبي (ص) وإيناسه، وكان الوحي قد أبطأ عليه بعد نزوله، فقلق لإبطائه وحزن، وقد ذكر سبحانه في تثبيت الرسول (ص) أنه عليه الصلاة والسلام كان يتيما فآواه، وفقيرا فأغناه، ثمّ أمره بمواساة اليتيم والفقير، وبهذا أشبهت سورة الضحى سورة الليل في بعض سياقها. تثبيت النبي (ص) قال الله تعالى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) فأقسم بالضحى، وما بعده أنه لم يودعه، ولم يقله بإبطاء الوحي عليه، وضمن له حسن العاقبة، وأنه سيعطيه حتّى يرضى ثمّ أمره أن يذكر ماضيه في يتمه وأمّيّته وفقره، ويذكر حاله الآن

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

في زوج صالحة بعد يتم، ورسالة كريمة بعد أمِّيّة، وغنى بعد فقر، ليرضى ويقابل ذلك بالشكر، ثمّ بيّن له شكره بقوله: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) .

المبحث الثالث لكل سؤال جواب في سورة"الضحى"

المبحث الثالث لكل سؤال جواب في سورة «الضحى» «1» إن قيل: لم وصف (ص) بالضّالّ، والنبي (ص) معاذ الله أن يكون ضالا: أي كافرا لا قبل النبوة ولا بعدها، والضالّ أكثر ما ورد في القرآن بمعنى الكافر؟ قلنا: المراد به هنا أنه تعالى وجده ضالًّا عن معالم النبوّة وأحكام الشريعة فهداه إليها، هذا قول الجمهور. الثاني: أنه ضل وهو صغير في شعاب مكة فرده الله تعالى إلى جده عبد المطلب. الثالث: أن معناه ووجدك ناسيا فهداك إلى الذكر، لأنّ الضلال جاء بمعنى النسيان، ومنه قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى (ج) [البقرة: 282] . فإن قيل: لو كان الضلال بمعنى النسيان، لما جمع بينهما في قوله تعالى: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه: 52] . قلنا: لا ندّعى أنه حيث ذكر كان بمعنى النسيان، فهو في تلك الآية بمعنى الخطأ، وقيل بمعنى الغفلة. الرابع: أن معناه: ووجدك جاهلا فعلّمك. فإن قيل: لم منّ سبحانه عليه بإخراجه من الفقر إلى الغنى، بقوله تعالى: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (8) ؟ قلنا: قال ابن السائب، واختاره الفرّاء: أنه لم يكن غناه بكثرة المال، ولكن الله أرضاه بما آتاه، ولم يكن ذلك الرضا قبل النبوة وذلك حقيقة الغنى، ويؤيّده قوله (ص) : «الغنى غنى

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرخ.

القلب» . وقال غيره: المراد به أنه أغناه بمال خديجة عن مال أبي طالب، والمراد به الإغناء بتسهيل ما لا بد منه وتيسيره، لا الإغناء بفضول المال الذي لا يجامع صفة الفقر.

المبحث الرابع المعاني المجازية في سورة"الضحى"

المبحث الرابع المعاني المجازية في سورة «الضحى» «1» قوله تعالى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) فيه استعارة. ومعنى سجى، أي سكن. والليل لا يسكن، وإنما تسكن حركات الناس فيه، فأجرى سبحانه صفة السكون عليه لمّا كان السكون واقعا فيه. وقد مضى الكلام على نظائر ذلك.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

سورة الشرح 94

سورة الشّرح 94

المبحث الأول أهداف سورة"الشرح"

المبحث الأول أهداف سورة «الشرح» «1» سورة «الشرح» سورة مكّيّة، آياتها 8 آيات، نزلت بعد سورة الضحى. مجمل ما تضمّنته السورة 1- هيأ الله سبحانه وتعالى نبيّه لتلقّي الرسالة الكريمة، وأفاض عليه من نعمه الجزيلة، فشرح صدره بما أودع فيه من العلوم والحكم، حتّى حمل أعباء النبوّة، وجعل أمر التبليغ عليه سهلا هيّنا. 2- قرن الله عزّ وجلّ اسم النبي (ص) ، باسم الله العظيم في الشهادة والأذان والإقامة والتشهّد. 3- بين الله سبحانه أن ما يصيب النبي صلوات الله وسلامه عليه من شدة، سيعقبها اليسر والفرج. 4- طلب الله تعالى من نبيه الأمين، إذا ما انتهى من تعليم الناس وإرشادهم، أن يشغل نفسه بعبادة الله. 5- أمره ألا يسأل أحدا غيره، لأنه سبحانه وتعالى هو السيّد القادر وحده على إجابة دعوة العبد السائل. مع السورة نزلت سورة الشرح بعد سورة الضحى، وكأنّها تكملة لها، فيها مظاهر الرعاية والعناية الإلهية، وفيها البشرى باليسر والفرج: ألم نفسح صدرك لهذه الدعوة ونيّسر لك أمرها؟ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) : ووضعنا عنك عبئك الذي أثقل ظهرك حتى كاد يحطمه من ثقله،

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

وضعناه عنك بشرح صدرك له فخفّ وهان، وبتيسيرك وتوفيقك للدعوة ومداخل القلوب. وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) : رفعناه في الملأ الأعلى، ورفعناه في الأرض، ورفعناه في هذا الوجود جميعا، ورفعناه فجعلنا اسمك مقرونا باسم الله، كلّما تحركت به الشفاه: لا إله إلا الله محمّد رسول الله. قال مجاهد في معناه: «أي لا أذكر إلا ذكرت معي» . فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) ومع الشدة فرجا، ومع قلة ذات اليد السهولة والغنى، فخذ في أسباب اليسر والتيسير، فإذا فرغت من مهمّة تبليغ الرسالة، فانصب واتعب في القيام بواجبات العبادة لنا: وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) واجعل رغبتك إليه سبحانه، ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التغابن: 13] . «وتنتهي سورة الشرح كما انتهت سورة الضحى، وقد تركت في النفس شعورين ممتزجين: الشعور بعظمة الود الحبيب الجليل، الذي ينسم على روح الرسول (ص) ، من ربّه الودود الرحيم، والشعور بالعطف على شخصه (ص) . ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم، في هذه الآونة، التي اقتضت ذلك الود الجميل. إنها الدعوة، هذه الأمانة الثقيلة، وهذا العبء الذي ينقض الظهر، وهي مع هذا وهذا مشرق النور الإلهي ومهبطه، ووصلة الفناء بالبقاء والعدم بالوجود» .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الشرح"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الشرح» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الشّرح بعد سورة الضّحى، ونزلت سورة الضحى فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الشرح في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) . وتبلغ آياتها ثماني آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة تثبيت النبي (ص) وإيناسه أيضا، فهي توافق سورة الضحى في الغرض المقصود منها، ولهذا ذكرت بعدها، ويروى عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يريان أن السورتين سورة واحدة. تثبيت النبي (ص) الآيات [1- 8] قال الله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) ، فذكر أنه شرح له صدره بالرسالة، وأنه وضع عنه بها ما كان يثقله قبل البعثة من الحيرة في أمر الناس وضلالهم، وأنه رفع بها ذكره على من سبقه من الرسل، ثم ذكر له أن مع العسر الذي يجده من إعراض قومه يسرا، ثم أمره بما يجعله يصبر على أذاهم فقال: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الشرح"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الشرح» «1» أقول: هي شديدة الاتّصال بسورة الضحى، لتناسبهما في الجمل. ولهذا ذهب بعض السلف إلى أنهما سورة واحدة بلا بسملة بينهما «2» . قال الإمام: والذي دعاهم إلى ذلك هو: أن قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ كالعطف على: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) [الضحى] «3» . قلت: وفي حديث الإسراء أن الله تعالى قال: «يا محمد، ألم أجدك يتيما فاويت، وضالا فهديت، وعائلا فأغنيت، وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر الا ذكرت» الحديث أخرجه ابن أبي حاتم «4» وفي هذا أوفى دليل على اتصال السورتين معنى.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . نقل هذا القول فخر الدين الرازي في تفسيره عن طاوس وعمر بن عبد العزيز (تفسير سورة الضحى) . (3) . هي كالعطف في المعنى لا في اللفظ. ثم إن هذه السورة شرح لسابقتها، فشرح الصدر هناك: مفصّل هنا ببيان عناصره وأسبابه التي هي: الإيواء بعد اليتم، والهداية بعد الضلال، والغنى بعد العيلة. فتلك كلها من عوامل انشراح الصدر للإيمان، لا سيّما وقد جاءت بعد وعد بالعطاء حتّى يرضى الرسول (ص) . (4) . الحديث ذكره ابن كثير في تفسيره عن ابن أبي حاتم: 8: 452.

المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة"الشرح"

المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «الشرح» «1» إن قيل: ما الحكمة في زيادة ذكر لك وعنك، والكلام تامّ بدونهما؟ قلنا: فائدته الإبهام ثمّ الإيضاح، وهو نوع من أنواع البلاغة، فلمّا قال تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) فهم أنّ ثمّ مشروحا له، ثم قال: صَدْرَكَ (1) فأوضح ما علم مبهما بلفظ لك، وكذا الكلام في: وَوَضَعْنا عَنْكَ. فإن قيل: قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) وكلمة مع للمصاحبة والقران، فما معنى اقتران العسر واليسر؟ قلنا: سبب نزول هذه الآية أنّ المشركين عيّروا رسول الله (ص) وأصحابه (رض) بالفقر والضائقة التي كانوا فيها، فوعدهم الله تعالى يسرا قريبا من زمان عسرهم، وأراد تأكيد الوعد لتسليتهم وتقوية قلوبهم، فجعل اليسر الموعود كالمقارن للعسر في سرعة مجيئه. فإن قيل: ما معنى قول ابن عمر وابن عباس (رض) وابن مسعود (رض) : لن يغلب عسر يسرين، ويروى ذلك عن النبي (ص) أيضا؟ قلنا: هذا عمل على الظاهر وبناء على قوّة الرجاء، وإنّ وعد الله لا يحمل إلا على أحسن ما يحتمله اللفظ وأكمله وأما حقيقة القول فيه فهو أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تأكيدا

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

للأولى، كما في قوله تعالى: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) [المرسلات] . وما أشبهه، وكما في قولك: جاءني رجل جاءني رجل وأنت تعني واحدا في الجملتين، فعلى هذا يتّحد العسر واليسر، أو يكون تعريف العسر لأنه حاضر معهود، وتنكير اليسر لأنه غائب مفقود، وللتفخيم والتعظيم ويحتمل أن تكون الجملة الثانية وعدا مستأنفا فيتعدد اليسر حينئذ على ما قيل. وعن معنى: «لن يغلب عسر يسرين» قلنا: كأنّه نزل ما فيه من التفخيم والتعظيم بالتنكير منزلة التثنية، لأن المعنى يسرا وأىّ يسر، وأما من فسره بيسرين فإنه قال: أحد اليسرين ما تيسّر من الفتوح في زمن النبي (ص) . والثاني ما تيسّر بعده في زمن الخلفاء. وقيل هما يسر الدنيا ويسر الاخرة، كقوله تعالى: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة: 52] وهما حسن الظفر وحسن الثواب.

المبحث الخامس المعاني المجازية في سورة"الشرح"

المبحث الخامس المعاني المجازية في سورة «الشرح» «1» في قوله سبحانه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) مجاز واستعارة، لأن النبي (ص) لا يجوز أن ينتهي عظم ذنبه إلى حال إنقاض الظّهر، وهو صوت تقعقع العظام من ثقل الحمل. لأن هذا القول لا يكون إلّا كناية عن الذنوب العظيمة، والأفعال القبيحة. وذلك غير جائز على الأنبياء عليهم السلام، في قول من لا يجيز عليهم الصغائر ولا الكبائر، وفي قول من يجيز عليهم الصغائر دون الكبائر. لأن الله سبحانه قد نزّههم عن موبقات الآثام، ومسحقات الأفعال، إذ كانوا أمناء وحيه، وألسنة أمره ونهيه، وسفراؤه إلى خلقه. فنقول: إن المراد هاهنا بوضع الوزر ليس على ما يظنه المخالفون من كونه كناية عن الذنب، وإنّما المراد به ما كان يعانيه النبي (ص) من الأمور المستصعبة في أداء الرسالة، وتبليغ النذارة «2» ، وما كان يلاقيه عليه السلام من مضارّ قومه، ويتلقّاه من مرامي أيدي معشره. وكلّ ذلك حرج في صدره، وثقل على ظهره. فقرّره الله سبحانه بأنه أزال عنه تلك المخاوف

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . أي الإنذار، كالبشارة، وهي تقديم البشرى.

كلّها، وحطّ عن ظهره تلك الأعباء بأسرها، وأداله من أعدائه «1» ، وفضّله على أكفائه، وقدّم ذكره على كل ذكر، ورفع قدره على كل قدر، حتى أمن بعد الخيفة، واطمأنّ بعد القلقلة.

_ (1) . أي جعل له الكرّة عليهم، ونصره وأظفره بهم. [.....]

سورة التين 95

سورة التّين 95

المبحث الأول أهداف سورة"التين"

المبحث الأول أهداف سورة «التين» «1» سورة التين سورة مكية، آياتها 8 آيات، نزلت بعد سورة البروج. والحقيقة الرئيسة التي تعرضها سورة التين، هي حقيقة الفطرة القويمة التي فطر الله الإنسان عليها. يقسم الله سبحانه على هذه الحقيقة، بالتين والزيتون وطور سينين، وهذا البلد الأمين. وقد كثرت أقوال المفسّرين في التين والزيتون، فقيل هما جبلان بالشام، وقيل: هما هاتان الثمرتان اللتان نعرفهما بحقيقتهما، وقد أقسم الله تعالى بهما لأنهما عجيبتان من بين الأشجار المثمرة. وَطُورِ سِينِينَ (2) هو الطور الذي نودي موسى (ع) من جانبه، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) ، هو مكّة بيت الله الحرام. لقد خلقنا الإنسان في أحسن صورة، بانتصاب قامته، وأحسن وجهه، واستجماعه لخواصّ الكائنات في تركيبه. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) : أي ثمّ كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة الله عليه، أن رددناه أسفل سافلين، حيث تصبح البهائم أرفع منه وأقوم، لاستقامتها على فطرتها، وإلهامها تسبيح ربها، وأداء وظيفتها على هدى بينما هو المخلوق في أحسن تقويم يجحد ربه، ويرتكس مع هواه. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مجمل ما تضمنته السورة

فطرة واستعدادا، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) ، حينما ينحرف بهذه الفطرة، عن الخطّ الذي هداه الله اليه، وبيّنه له. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فلهم أجر دائم غير مقطوع، ولا منقوص، ولا ممنون. فمن يكذّبك بالدين بعد ظهور هذه الحقيقة؟ وبعد إدراك قيمة الإيمان في حياة البشرية؟ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) : أليس الله بأعدل العادلين، حينما يحكم في أمر الخلق على هذا النحو؟ أو أليست حكمة الله بالغة؟ والعدل واضح والحكمة بارزة، ومن ثم ورد في الحديث المرفوع: إذا قرأ أحدكم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) فأتى آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) ، فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. مجمل ما تضمنته السورة أقسم الله تعالى، بأنه أحسن خلق الإنسان، فجعله منتصب القامة، متّسق الأعضاء والخواصّ، وقد يردّه إلى أرذل العمر، فيصير ضعيفا هرما. أو أنه فطر الإنسان أحسن فطرة نفسا وبدنا وعقلا، إلّا أنه تمشّيا مع رغباته الأثيمة، ونزواته الشريرة انحطّت منزلة بعض أفراده، فصيّرهم الله الى منازل الخزي والهوان واستثنى الله تعالى من هذا المصير، أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم أجر غير منقطع وأشارت السورة أيضا إلى أن الله تعالى هو أعدل الحاكمين، وأعلى المدبّرين حكما.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"التين"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التين» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة التين بعد سورة البروج، ونزلت سورة البروج فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء فيكون نزول سورة التين في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وتبلغ آياتها ثماني آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة، إثبات أن الإسلام دين الفطرة، وتوبيخ من يكذّب به وينحرف عنه وبهذا ناسبت هذه السورة سورة الشرح، لأنها كانت في تثبيت النبي (ص) على تكذيب قومه له، وانحرافهم عن دينه. الإسلام دين الفطرة الآيات [1- 8] قال الله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ، فأقسم بهذا، على أنه خلق الإنسان في أوّل أمره، في أكمل عقل ودين وعلم وذكر سبحانه أن هذا الإنسان انحرف عن هذا، فردّه أسفل سافلين، إلّا من استقام في دينه، فلهم أجر غير ممنون ثمّ وبّخه على انحرافه، وهدّده بقوله تعالى: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"التين"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التين» «1» أقول: لمّا تقدّم، في سورة الشمس: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) [الشمس] فصّل في هذه السورة بقوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إلى آخره. وأخّرت هذه السورة، لتقدّم ما هو أنسب بالتقديم، من السور الثلاث «2» ، واتّصالها بسورة البلد لقوله تعالى: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) وأخّرت لتقدّم ما هو أولى بالمناسبة، مع سورة الفجر «3» . من اللطائف نقل الشيخ تاج الدين بن عطاء الله السكندري في «لطائف المنن» عن الشيخ أبي العباس المرسي، قال قرأت مرة وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) ، إلى أن انتهيت إلى قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) ففكّرت في معنى هذه الآية، فألهمني الله أنّ معناها: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم روحا وعقلا، ثم رددناه أسفل سافلين نفسا وهوى «4» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . يعني: (الليل، والضحى، والشرح) . فإنّ مناسباتها متوالية هكذا، أهم من تقديم التين بعد الشمس. (3) . يعني أنّ اتّصال سورة الشمس بالبلد، واتّصال البلد بالفجر، أولى من اتّصال التين بالبلد لمجرد ذكر (البلد) في كليهما. (4) . لطائف المنن ص. 118 المطبعة الفخرية. 1972. القاهرة.

قلت: تظهر من هذه المناسبة وضعها بعد أَلَمْ نَشْرَحْ. فإنّ تلك أخبر فيها عن شرح صدر النبي (ص) ، وذلك يستدعي كمال عقله وروحه، فكلاهما في القلب الذي محلّه الصدر وعن خلاصه من الوزر الذي ينشأ من النفس والهوى، وهو معصوم منهما، وعن رفع الذّكر، حيث نزّه مقامه عن كل موهم. فلمّا كانت هذه السورة في هذا العلم الفرد من الإنسان، أعقبها بسورة مشتملة على بقيّة الأناسي، وذكر ما خامرهم في متابعة النفس والهوى.

المبحث الرابع مكنونات سورة"التين"

المبحث الرابع مكنونات سورة «التين» «1» أخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال: 1- وَالزَّيْتُونِ (1) . دمشق «2» 2- وَالزَّيْتُونِ: بيت المقدس. وعن قتادة: التين: الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون: جبل عليه بيت المقدس «3» . وعن الرّبيع: جبل عليه التّين والزّيتون. وعن محمد بن كعب: التين جبل أصحاب الكهف، والزيتون: مسجد إيليا «4» . ومن طريق العوفي، عن ابن عبّاس: التين: مسجد نوح الذي على الجودىّ. وعن عكرمة: في هذا عشرون قولا. 3- الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) : مكّة. وأخرج ابن عساكر عن عمرو بن الدّرفس «5» الغسّاني قال: والتين مسجد دمشق كان بستانا لهود (ع) ، فيه تين والزيتون مسجد بيت المقدس.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . في «تفسير الطبري» 30: 153: «مسجد دمشق» . (3) . الطبري 30: 153. (4) . إيلياء: بيت المقدس. (5) . بفتح الدال المهملة والراء، وسكون الفاء، وآخره سين مهملة، كما في «خلاصة تهذيب الكمال» : 282، ويقال: إن «الدرفس» كان مولى معاوية، يحمل علما يسمى «الدرفس» فلقّب به، كما في «تهذيب التهذيب» 7: 443.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"التين"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «التين» «1» قال تعالى: وَطُورِ سِينِينَ (2) وواحدها «السّينينة» «2» . وقال سبحانه: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ [الآية 7] ، بجعل (ما) للإنسان. وفي هذا القول يجوز «ما جاءني زيد» في معنى «الذي جاءني زيد» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في المشكل 2: 499، والجامع 20: 113، والبحر 8: 490. والسّينية: شجرة.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"التين"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «التين» «1» فإن قيل: ما وجه الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) . قلنا: قال الأكثرون: المراد بالإنسان هنا الجنس، وبردّه أسفل سافلين بإدخاله النار، فعلى هذا يكون الاستثناء متّصلا ظاهر الاتّصال، ويكون قوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، قائما مقام معنى قوله تعالى فلا نردّهم أسفل سافلين، وأمّا على قول من فسّر أسفل سافلين بالهرم والخرف، وقال: السافلون هم الضعفاء، والزّمنى «2» ، والأطفال، والشيخ الهرم أسفل هؤلاء كلهم، فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا بمعنى لكن، ومعنى قوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، أي غير مقطوع بالهرم، والضعف الحاصل من الكبر: أي إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال شبابهم وقوّتهم، فإنّهم إذا عجزوا عن العمل كتب لهم ثواب ما كانوا يعملونه من الطاعات والحسنات إلى وقت موتهم وهذا معنى قول ابن عباس (رض) : من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر، وقال بعض العلماء: الذين آمنوا وعملوا الصالحات في شبابهم وقوّتهم، فإنهم لا يردون إلى الخرف وأرذل العمر، وإن عمّروا طويلا وتمسّك بظاهر قول ابن عباس رضي الله عنهما.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....] (2) . الزّمنى: مفردة «زمن» ، وهو من ضعف بكبر سنّه.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"التين"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «التين» «1» في قوله سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) استعارة، والمراد بها انعكاس صحة أحوال الإنسان، ورجوعه بعد الشباب إلى الهرم، وبعد الصحة إلى السقم، وبعد الحفظ إلى النسيان، وبعد الزيادة إلى النقصان، فكأنّه قد حطّ من عال إلى سافل، وردّ إلى أرذل العمر، لكي لا يعلم من بعد علم شيئا.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

سورة العلق 96

سورة العلق 96

المبحث الأول أهداف سورة"العلق"

المبحث الأول أهداف سورة «العلق» «1» سورة العلق سورة مكية، عدد آياتها 19 آية، وهي أول ما نزل من القرآن الكريم. اقْرَأْ [الآية 1] : أي ما يوحى إليك، ويتلى. بِاسْمِ رَبِّكَ [الآية 1] : مبتدئا، ومستعينا باسمه تعالى. عَلَقٍ (2) : واحده علقة، وهي قطعة من الدم جامدة، هي أصل البويضة، في القاموس: علقت المرأة حبلت. الْأَكْرَمُ (3) : له كمال الكرم. عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) جعل الكتابة وسيلة العلم. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) : أوجد فيه قوة إدراك المعلومات، وطاقات تحصيلها، ويسّر له الدرس. كَلَّا [الآية 6] : للزجر والردع. لَيَطْغى (6) : يتجاوز حدود ما شرع، فيكفر ويظلم. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) : أي بسبب غناه، فأبطرته النعم. الرُّجْعى (8) : الرجوع والمصير إلى الله. الَّذِي يَنْهى (9) : إشارة الى أبي جهل. عَبْداً إِذا صَلَّى (10) : يريد النبي (ص) . أَرَأَيْتَ [الآيات 9 و 11 و 13] : استخبارية، بمعنى أخبرني.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

لَنَسْفَعاً [الآية 15] : لنأخذنّه بعنف. بِالنَّاصِيَةِ (15) : مقدّم شعر الرأس. نادِيَهُ (17) : مجتمع القوم، والمراد من به. الزَّبانِيَةَ (18) : ملائكة العذاب. وَاقْتَرِبْ (19) : تقرّب إلينا بالطاعة. [الآيات 1- 5] : ورد في كتب الصحيح أن النبي (ص) ، كان يتعبّد في غار حراء، فجاءه الملك فضمّه ضمّا شديدا حتى بلغ منه الجهد ثلاث مرات، ثمّ قال كما ورد في التنزيل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) . اقرأ باسم الله وقدرته، الذي أحكم الخلق، وهو بديع السماوات والأرض، خلق الإنسان من دم متجمّد، يعلق بجدار الرحم، فسوّاه من نطفة إلى علقة، إلى مضغة، إلى عظام، فكسى العظام لحما ثمّ أنشأه خلقا آخر، فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) [المؤمنون] . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) ، الذي له الكمال في زيادة كرمه على كلّ كريم، ينعم على عباده بالنعم، ويحلم عنهم فلا يعاجلهم بالعقوبة. ومن الله يستمد الإنسان كلّ ما علم، وكلّ ما يعلم. والله سبحانه هو الذي خلق وهو الذي علّم فمنه البدء والنشأة، ومنه التعليم والمعرفة. وقد كان (ص) ، أكمل الخلق ذكرا لله وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه، وفي مشيته وركوبه، وسيره ونزوله، وسفره وإقامته، ولقد كان واجب كل إنسان أن يعرف ربّه ويشكره، ولكن الذي حدث غير هذا. [الآيات 6- 8] : كلا إنّ الإنسان ليتجاوز الحدّ في التعدي، أن رأى نفسه مستغنيا، إنّ إلى ربّك الرجوع والحساب، فليس هناك مرجع سواه، إليه جلّت قدرته يرجع الغنيّ والفقير، والصالح والشرير، ومنه النشأة، وإليه المصير. وكان أبو جهل يقول: لو رأيت محمّدا ساجدا لوطئت عنقه، فأنزل الله عز وجل قوله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أي أرأيت أبا جهل ينهى محمدا (ص) عن الصلاة. أرأيت إن كان هذا الذي يصلّي على الهدى أو

مقاصد سورة العلق

أمر بالتقوى، ثمّ ينهاه من ينهاه مع أنّه على الهدى، آمر بالتقوى؟. أرأيت إن كان ذلك الناهي مكذّبا بالحق، متولّيا عنه: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) ويطّلع على أحواله، ويرى نهيه للعبد المؤمن إذا صلّى، وسيؤاخذه على ذلك، وقد وردت روايات صحيحة تفيد أنّ أبا جهل نهى النبي (ص) عن الصلاة، فأغلظ له الرسول (ص) القول، فقال أبو جهل: أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا أي مجلسا يجتمع فيه القوم والأعوان. [الآيات 15- 19] : وأمام مشهد الطغيان، يجيء التهديد الحاسم الرادع الأخير: كَلَّا لئن لم يرجع عمّا هو فيه، لنقبضنّ على ناصيته، ولنجذبنّها جذبا شديدا عنيفا، فهي ناصية كذّبت الحقّ، وأخطأت الطريق، فليدع أهل ناديه لينتصروا له وليمنعوه منّا سندعو الزبانية الشداد الغلاظ، كلا: لا تطع هذا الطاغي، واسجد لربك واقترب منه، بالطاعة والعبادة، فهو الحصن والملجأ، وهو نعم المولى ونعم النصير. مقاصد سورة العلق تشتمل سورة العلق على المقاصد الآتية: 1- حكمة الله تعالى: في خلق الإنسان من قطعة لحم علقت بجدار الرحم، ثمّ تكوينه خلقا كاملا، يبسط سلطانه على كثير من الكائنات. 2- من كرم الله وإنعامه: أنه علّم الإنسان البيان، وأفاض عليه الكثير من النّعم، ممّا جعل له القدرة على غيره ممّا في الأرض. 3- لقد غفل الإنسان عن هذه النعم، فإذا رأى نفسه غنيّا صلف وتجبّر واستكبر.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"العلق"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «العلق» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها سورة العلق أوّل ما نزل من القرآن عند جمهور المفسّرين وذهب آخرون إلى أنّ الفاتحة هي أوّل ما نزل منه، ثمّ سورة العلق. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) . وتبلغ آياتها تسع عشرة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة: إعلام النبي (ص) بالدعوة، ليقوم بتبليغها لمن أرسل إليهم، وهي دعوة الدّين الذي ذكر في السورة السابقة، أنّه الفطرة التي فطر الناس عليها وهذا هو وجه المناسبة في ذكر هذه السورة بعدها. إعلام النبي بالدعوة الآيات [1- 19] قال الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) فأمر تعالى نبيه أوّلا أن يقرأ ما أوحي إليه من دعوة التوحيد ليتعلّمها ثمّ أمره ثانيا أن يقرأها ليبلّغها الناس وذكر من صفاته أوّلا: أنه جلّ وعلا خلق الإنسان من علق، وثانيا: أنه سبحانه هو الأكرم الذي كان من أهمّ نعمه على الإنسان، تعليمه القراءة والكتابة، ليهذّب نفسه ويعلّمه ما لم يعلم، ثم سجّل، على هذا الإنسان،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

أنه لم يقابل نعمه بالشكر، بل أطغاه الغنى وأبطره وهدّده بأنّ إليه الرّجعى، ليعاقبه على طغيانه ثم ذكر من طغيانه أنه ينهى عن الصلاة إليه، وأنه يكذّب ويعرض عن دعوته ثم هدّده بأنه سيأخذ بناصيته إلى النار وأمره أن يدعو حينئذ أعوانه لنصرته، وأين هم من الزبانية اللذين سيدعوهم سبحانه لعذابه ثم ختمت السورة بنهي النبي (ص) عن طاعة هذا الإنسان، وأمره بالمضي، في دعوته، فقال تعالى: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"العلق"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «العلق» «1» أقول: لمّا تقدّم في سورة التين بيان خلق الإنسان في أحسن تقويم، بيّن هنا أنه تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) وذلك ظاهر الاتّصال، فالأوّل بيان العلّة الصورية، وهذا بيان العلة المادية «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . أقول: ومن المناسبة بين التين والعلق: (أ) انه تعالى لما قال في آخر التين: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) بيّن، في أول العلق، أنه تعالى مصدر علم العباد بحكمته. فبيّن أنه سبحانه: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) . وصدّر ذلك بالأمر بالقراءة، واستفتاحها باسمه دائما، لتكون للإنسان عونا على كمال العلم بحكمة أحكم الحاكمين. (ب) لمّا ذكر في التين خلق الإنسان في أحسن تقويم، وردّه إلى أسفل سافلين. بيّن في العلق تفصيل الحالين وأسبابهما من أوّل قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) . الى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) .

المبحث الرابع مكنونات سورة"العلق"

المبحث الرابع مكنونات سورة «العلق» «1» 1- كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) إلى آخر السورة. نزلت في أبي جهل «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . انظر تفسير الطبري 30: 163.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"العلق"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «العلق» «1» 1- وقال تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) . والمراد أهل النادي، وهذا كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] أي: أهلها ومثله قول جرير: لهم مجلس صهب السّبال أذلّه على من يعاديهم أشدّاء فاعلم

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"العلق"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «العلق» «1» قال تعالى: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) ثم قال سبحانه: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) فهي بدل منها، والخبر أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) . وقال سبحانه: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) ف (ناديه) هاهنا عشيرته، وإنما هم أهل النادي، والنادي مكانه ومجلسه. وأما (الزّبانية) فقال بعضهم: واحدهم «الزباني» وقال بعضهم: «الزابن» «2» سمعت «الزابن» من عيسى ابن عمر. وقال بعضهم «الزبنية» . والعرب لا تكاد تعرف هذا، وتجعله من الجمع الذي لا واحد له مثل «أبابيل» تقول: «جاءت إبلي أبابيل» أي: فرقا. وهذا يجيء في معنى التكثير مثل «عباديد» و «شعارير» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في الصحاح «زبن» ، والجامع 20: 126.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"العلق"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «العلق» «1» إن قيل: أين مفعول خلق في الآية الأولى؟ قلنا: يحتمل وجهين: أحدهما أن لا يقدر له مفعول، بل يكون المراد الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه كما قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك: 14] في أحد الوجهين، وقولهم: فلان يعطي ويمنع، ويصل ويقطع. الثاني: أن يكون مفعوله مضمرا، تقديره: الذي خلق كلّ شيء، ثم أفرد الإنسان بالذكر تشريفا له وتفضيلا. فإن قيل: لم قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) على الجمع ولم يقل: من علقة؟ قلنا: لأن الإنسان في معنى الجمع، بدليل قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [العصر] ، والجمع إنّما خلق من جمع علقة لا من علقة. فإن قيل: هذا الجواب يردّه قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ [الحج: 5] . قلنا: المراد فإنّا خلقنا أباكم من تراب، ثمّ خلقنا كل واحد من أولاده من نطفة. وقيل إنّما قال تعالى: مِنْ عَلَقٍ (2) رعاية للفاصلة الأولى وهي خلق.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"العلق"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «العلق» «1» كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) . هذه استعارة، لأنّ صفة الناصية بالكذب والخطأ مجاز، والمراد بذلك صاحب الناصية، وذلك نظير قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) [الغاشية] وقد مضى الكلام على هذا المعنى، وجاء في الآية إبدال النكرة من المعرفة، وهو قليل في القرآن والكلام، لأنّ الناصية الأولى معرفة، والناصية الثانية نكرة وهي بدل من الأولى.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

سورة القدر 97

سورة القدر 97

المبحث الأول أهداف سورة"القدر"

المبحث الأول أهداف سورة «القدر» «1» سورة القدر سورة مكية، آياتها 5 آيات نزلت بعد سورة عبس. والحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة، التي سجّلها الوجود كله، في فرح وغبطة وابتهال، ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى، ليلة بدء نزول القرآن الكريم على قلب محمد (ص) ، ليلة ذلك الحدث العظيم، الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته وفي دلالته، وفي آثاره في حياة البشرية جميعا، العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري. هي ليلة نزل فيها قرآن ذو قدر، على نبيّ ذي قدر، لأمّة ذات قدر. هي ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك. قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة: 185] . وقد وردت في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة، منها ما ورد في البخاري أن رسول الله (ص) قال: «إنّي رأيت ليلة القدر، ثم نسيتها، أو أنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان» . ويتوقّع طلبها في أوتار العشر الأواخر، أي ليلة 21، 23، 25، 27، 29 وفي كثير من الروايات أنّها ليلة 27 رمضان. وعظمة هذه الليلة مستمدّة من نزول القرآن الكريم فيها، ذلك الكتاب

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....]

الخالد الذي وصل الأرض بالسماء، وكان هداية رب العباد للعباد، وكان النور والهدى، والسلامة والسلام للخلق أجمعين. المفردات: لَيْلَةِ الْقَدْرِ (2) : القدر: الشرف والقيامة والمقام. وَما أَدْراكَ: المراد بالاستفهام تقرير عظيم شأنها. خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) : ثواب العبادة فيها، خير من ألف شهر، والعدد لا يفيد التحديد، وإنما يفيد التكثير فهي خير من آلاف الشهور في حياة البشر. وَالرُّوحُ: جبريل (ع) . سَلامٌ هِيَ: خير كلّها. حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) : لا تزال الملائكة متنزّلة بالرحمة والمغفرة، حتى مطلع الفجر. [الآية 1] : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) نزل القرآن الكريم من اللوح المحفوظ، إلى سماء الدنيا جملة واحدة ثم نزل منجّما على ثلاث وعشرين سنة، وبدأ الإنزال في ليلة مقدّرة، لها شرفها عند الله، وزادها شرفا بدء نزول القرآن فيها. [الآية 2] : وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) : إن شأنها لعظيم، عظمة لا تقدّر، ففيها فاض النور على الوجود كلّه، وأسبغ الله تعالى فيها السلام والبشرى على البشرية، بما تضمّنه هذا القرآن، من عقيدة وتصوّر، وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير. [الآية 3] : لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) أي هي، بما نزل فيها من ذكر وقرآن وهداية، أفضل من ألف شهر، من شهور الجاهلية أو العبادة والعمل الصالح فيها أفضل من العبادة في ألف شهر. روي عن مجاهد أنّ النبيّ (ص) ، ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فتعجّب المسلمون من ذلك، فأنزل الله عز وجل إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) . [الآية 4] : تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) . تنزّل الملائكة وجبريل الأمين في هذه

الليلة، بالسلام والأمان، والرحمة لعباد الله، وتنزّل بأمر الله وتقديره، من أجل كلّ أمر، قضاه الله لتلك السنة إلى عام قابل. [الآية 5] : سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) : هي سلام وأمان وثواب موصول، وعبادة مضاعفة الثواب إلى طلوع الفجر. وفي الصحيحين: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» . فهي ليلة التجرّد والإخلاص لله ليلة نزول القرآن، وعبادة الرحمن ليلة تغمر الملائكة الأرض بالسلام والأمان من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"القدر"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القدر» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة القدر بعد سورة عبس، ونزلت سورة عبس، فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة القدر في ذلك التاريخ أيضا. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وتبلغ آياتها خمس آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة بيان فضل الليلة التي أنزل فيها القرآن، وهذا للتنويه بشأنه في اختيار تلك الليلة لنزوله ولا تخفى مناسبة هذا لذكر ابتداء نزوله في سورة العلق، ولهذا ذكرت بعدها هذه السورة. فضل ليلة نزول القرآن الآيات [1- 5] قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) فذكر سبحانه أنه أنزله في هذه الليلة وذكر أنها خير من ألف شهر وأنّ الملائكة، تتنزّل فيها بما قدّر من خير أو شرّ ثم ختمها سبحانه، بقوله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"القدر"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القدر» «1» قال الخطابي «2» لمّا اجتمع أصحاب النبي (ص) على القرآن، ووضعوا سورة القدر عقب العلق، استدلوا بذلك على أنّ المراد بهاء الكناية في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) الإشارة إلى قوله سبحانه اقْرَأْ [العلق: 1] . قال القاضي أبو بكر بن العربي. وهذا بديع جدا «3» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . الخطابي هو: أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو سليمان. له شرح سنن أبي داود، وبيان إعجاز القرآن. توفي سنة 388 (وفيات الأعيان: 1: 166) . والنقل من (البرهان لأبي جعفر بن الزبير) كما قال السّيوطي «الإتقان» : 3: 383. (3) . أقول: وهناك مناسبة أخرى خفيّة، هي أنّه تعالى لمّا ختم العلق بالأمر بالسجود والاقتراب من الله، وكان المقصود من الاقتراب: التعرّض للرحمة الفائضة من الله على المصلّي، والصلاة لا تكون إلّا بقرآن، ذكر في أوّل هذه السورة أن القرآن رحمة في ذاته، ورحمة في الزمان الذي نزل فيه، وهو ليلة القدر، التي تتنزّل الملائكة فيها، بالروح والسلام على الكون.

المبحث الرابع مكنونات سورة"القدر"

المبحث الرابع مكنونات سورة «القدر» «1» 1- فيها أقوال كثيرة تزيد على الأربعين، وحاصلها أقوال عشرة: ليالي العشر الأخيرة «2» وليلة أول الشهر، ونصفه، والسابعة عشرة، وثلاثة تليها، ونصف شعبان، وقيل: بالإبهام، والتنقّل كلّ عام، في كلّ رمضان، وفي كلّ السنة، فهذه عشرة أقوال «3» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . قال الفيومي في «المصباح المنير» مادة (آخرة) : وقولهم في العشر «الاخر» على فاعل أو «الأخير» أو الأوسط» أو «الأوّل» بالتشديد عامّيّ لأن المراد بالعشر الليالي، وهي جمع مؤنث، فلا توصف بمفرد بل بمثلها» انتهى. وقال أيضا في مادة «العشر» : والعامّة تذكّر العشر على معنى أنه جمع الأيام. وهو خطأ فإنه تغيير المسموع» وصحيح العربية أن يقال «العشر الأخر» جمع أخرى و «العشر الأواخر» أيضا جمع آخرة. (3) . «وأخرج البيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عبّاس: أنّ رجلا قال: يا نبيّ الله، إنّي شيخ كبير، يشقّ عليّ القيام، فمرني بليلة لعلّ الله أن يوفقني فيها لليلة القدر. قال: «عليك بالسابعة» . وأخرج أبو داود وغيره، عن معاوية بن أبي سفيان، عن النبي (ص) في ليلة القدر قال: «ليلة سبع وعشرين» انتهى. انظر في ليلة القدر: «أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي المالكي 4: 1962، و «تفسير الطبري» 30: 166، و «تفسير ابن كثير» 4: 532، و «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» ، لابن حجر العسقلاني 4: 255 (كتاب فضل ليلة القدر) ، و «الدر المنثور» للسّيوطي 6: 371.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"القدر"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «القدر» «1» قال تعالى: سَلامٌ هِيَ [الآية 5] ، أي: هي سلام، يريد: مسلّمة. وقال سبحانه: حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) ، أي طلوع الفجر والمصدر هاهنا لا يبنى إلّا على «مفعل» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"القدر"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «القدر» «1» إن قيل: ما معنى قوله تعالى: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) وتنزّلهم من الأمر لا معنى له. قلنا: «من» هنا بمعنى الباء، كما في قوله تعالى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] وقوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ [غافر: 15] ، أي لكلّ أمر قضاه الله تعالى، في تلك السنة من ليلة القدر، إلى مثلها: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ به من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وقيل إلى الأرض.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

سورة البينة 98

سورة البيّنة 98

المبحث الأول أهداف سورة"البينة"

المبحث الأول أهداف سورة «البيّنة» «1» سورة البيّنة سورة مدنية، آياتها 8 آيات نزلت بعد سورة الطلاق. تعرض السورة أربع حقائق تاريخية وإيمانية: الحقيقة الأولى: هي أنّ بعثة الرسول (ص) كانت ضرورية، لتحويل الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين، عمّا كانوا قد انتهوا إليه من الضلال والاختلاف، وما كانوا ليتحوّلوا عنه بغير هذه البعثة. قال تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) . الحقيقة الثانية: أنّ أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم عن جهل، ولا عن غموض فيه، وإنّما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم، وجاءتهم البيّنة: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) . الحقيقة الثالثة: أنّ الدّين في أصله واحد، وقواعده بسيطة واضحة، لا تدعو الى التفريق والاختلاف في ذاتها وطبيعتها البسيطة اليسيرة: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) . الحقيقة الرابعة: أنّ الذين كفروا من بعد ما جاءتهم البيّنة هم شرّ البريّة، وأنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع آيات السورة

خير البريّة، ومن ثم يختلف جزاء هؤلاء عن هؤلاء اختلافا بيّنا. المفردات: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الآية 1] : اليهود والنصارى. وَالْمُشْرِكِينَ [الآية 1] : عبدة الأصنام. مُنْفَكِّينَ [الآية 1] : منتهين عمّا هم عليه. الْبَيِّنَةُ (1) : الحجّة الواضحة، أو محمد (ص) الموعود به في كتبهم. رَسُولٌ [الآية 2] : بدل من البيّنة، وعبّر عنه بالبيّنة للإشارة إلى ظهور أمره، ووضوح دينه. صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) : مبرّأة من الزور والضلال، والمراد بها القرآن. فِيها [الآية 3] : في صحف القرآن. كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) : مضمون الكتاب السماوية الأخرى، وهي بلا شك لها قيمتها. وَما تَفَرَّقَ [الآية 4] : اختلفوا إلى طوائف في الدين. مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) : يتحقّق الموعود برسالة محمد (ص) . وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) . وَما أُمِرُوا: أي في كتبهم. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: جاعلين الدّين، خالصا لله. حُنَفاءَ: مائلين عن زائف العقائد، إلى الإسلام دين الحق. الْبَرِيَّةِ [الآيتان 6 و 7] : الخليقة. جَنَّاتُ عَدْنٍ [الآية 8] : بساتين خلد، ومقام أبدي. الْأَنْهارُ [الآية 8] : المراد الأنهار الموعود بها، من لبن وعسل، وخمر «1» . خَشِيَ رَبَّهُ (8) : خافه في الدّنيا فأطاعه، ونجا في الاخرة من عذابه. مع آيات السورة [الآية 1] :

_ (1) . من النافل القول إن خمرة الجنّة ليست كخمر الدّنيا، قال تعالى في وصفها: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) [الواقعة] .

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) : كانت الأرض في حاجة ماسّة إلى رسالة جديدة، كان الفساد قد عمّ أرجاءها كلّها، بحيث لا يرتجى لها صلاح، إلا برسالة جديدة، ومنهج جديد، وحركة جديدة، وكان الكفر قد تطرّق إلى عقائد أهلها جميعا، سواء في ذلك أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماويّة من قبل ثم حرّفوها، والمشركون في الجزيرة العربية، وفي خارجها. وما كانوا لينفكّوا، ويتحوّلوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه، إلّا بهذه الرسالة الجديدة، وإلّا على يد رسول، يكون هو ذاته بيّنة واضحة، فارقة فاصلة. [الآية 2] : رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) أي محمّد (ص) ، وهو بدل من البيّنة، يقرأ عليهم من صفحات كتابه المطهّرة، وآياته المقدّسة، ما يشتمل على المضمون الصحيح لكتبهم المنزّلة على أنبيائهم، موسى وعيسى وغيرهما، عليهم جميعا الصلاة والسلام. [الآية 3] : فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) : يطلق الكتاب على الموضوع، كما تقول كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب الزكاة.. أي يشتمل القرآن على موضوعات وحقائق قيّمة تحتاج إليها البشرية، ولا تصلح إلّا بها. كان الفساد قد استشرى في الأرض، وطمست معالم الحق، وبهتت حقائق الأديان، وانسحب رجال الدّين من ميدان الحياة، واستبدّ الحكّام والملوك، وعظمت نكايات اليهود بالنصارى، واشتدّ تدبير الكيد من النصارى لليهود. واختلف المسيحيون حول طبيعة المسيح (ع) ، وعذّب الحكام طوائف المخالفين. [الآية 4] : وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) فلم يكن ينقصهم العلم والبيان، وإنّما كان يجرفهم الهوى والانحراف. [الآية 5] : وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) . وهذه هي قاعدة دين الله على الإطلاق، عبادة الله وحده، وإخلاص الدين له، والميل عن الشرك وأهله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) وهذا هو الدين الذي جاء في الكتاب

ملخص السورة

القيّمة، «وقصارى ما سلف أن أهل الكتاب افترقوا في أصول الدين وفروعه، مع أنهم ما أمروا إلّا بأن يعبدوا الله، ويخلصوا له في عقائدهم وأعمالهم، وألّا يقلدوا فيها أبا ولا رئيسا، وأن يردّوا إلى ربّهم وحده كلّ ما يعرض لهم من خلاف» «2» [الآية 6] : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) . لقد كانت الرسل تتوالى كلّما فسدت الأرض، لتردّ الناس إلى الإصلاح. أما وقد شاء الله أن يختم الرسالات إلى الأرض بهذه الرسالة الأخيرة الجامعة، الشاملة الكاملة، فقد تحدّد الموقف أمام الجميع بصفة قاطعة. فمن كفر بهذه الرسالة أو أشرك بالله، فهو في نار جهنم يصلى نارها، وهو من شرار الخلق، جزاء إعراضه عن دعوة الحق، وعن رسالة الله. [الآية 7] : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) . أمّا من اهتدى قلبه للإيمان، وكان إيمانه عن يقين وصدق، فأتبع الإيمان بالأعمال الصالحات، من عبادة وخلق، وعمل وتعامل، والتزام بشريعة الله والحفاظ عليها، أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وهم صفوة الله من خلقه، الذين منحهم الهدى، ويسّر لهم العمل بأحكام هذا الدين. قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] . [الآية 8] : جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) . لقد أحسن الله جزاءهم في جنّات إقامة دائمة تجري من تحتها الأنهار، في جمال ونعمة ولذّة دائمة وأسمى من ذلك سعادتهم برضا الله عنهم، ومحبّته لهم، ثمّ اطمئنانهم ورضاهم العميق عن ربّهم، وثوابه ونعيمه. وذلك كلّه متوقّف على خشية الله، والخوف منه والالتزام بأمره. ملخّص السورة لمّا بعث الله سيدنا محمدا (ص) تغيّر حال اليهود والنصارى والمشركين، فمنهم من آمن به، ومنهم

_ (2) . تفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي، 30: 215، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثالثة.

من تردّد في صحة الدين، ومنهم من عاند وتكبّر، مع أن الله تعالى ما أمرهم إلّا ليعبدوه مخلصين له الدّين، ولكنّ الفساد كان قد استشرى بين أتباع الدّيانات السابقة، وكانت البيّنة الواضحة والنور الهادي هو بعثة محمد (ص) ، وقد أوضح الله تعالى أنّ من كفر به سيصلى نار جهنّم، وأن من آمن به سيتمتّع برضوان الله في جنات النعيم.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"البينة"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «البيّنة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة البيّنة بعد سورة الطلاق ونزلت سورة الطلاق، فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك فيكون نزول سورة البيّنة في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) وتبلغ آياتها ثماني آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة: بيان فضل القرآن. وقد كانت السورة السابقة في بيان فضل الليلة التي أنزل فيها فجاءت هذه السورة بعدها، لبيان فضله في نفسه. بيان فضل القرآن الآيات [1- 8] قال الله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) ، فذكر سبحانه أن أهل الكتاب والمشركين لم يكونوا منفكّين عمّا هم عليه، حتى تأتيهم البيّنة على فساده، وأنّ هذه البيّنة قد جاءهم بها رسول يتلوها عليهم، وهي صحف مطهّرة، فيها سور قيّمة، وأنّ أهل الكتاب لم يختلفوا في أمرها، إلّا بعد أن قامت الحجّة بها عليهم، لأنهم لم يؤمروا فيها إلّا بإخلاص العبادة له

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

سبحانه، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وذلك هو الدين القيّم، الذي بعث الأنبياء به ثم أخذت السورة في الترهيب والترغيب فذكرت أنّ أولئك الكافرين في نار جهنم، وأنهم شر البريّة، وأن المؤمنين خير البريّة جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"البينة"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «البيّنة» «1» أقول: هذه السورة واقعة موقع العلّة لما قبلها، كأنه لما قال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [القدر 1] ، قيل: لم أنزل؟ فقيل. لأنه لم يكن الذين كفروا منفكّين عن كفرهم، حتى تأتيهم البيّنة، وهو رسول من الله يتلو صحفا مطهّرة. وذلك هو المنزّل. وبذلك تشتد المناسبة بين هذه السورة وبين ما قبلها.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. [.....]

المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة"البينة"

المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «البيّنة» «1» إن قيل: المراد بالرسول هنا محمد (ص) بلا خلاف، فلم قال تعالى يَتْلُوا صُحُفاً [الآية 2] وظاهره يدلّ على قراءة المكتوب من الكتاب، وهو منتف في حقّه (ص) ، لأنّه كان أمّيا؟ قلنا: المراد يتلو ما في الصحف عن ظهر قلبه، لأنه هو المنقول عنه بالتواتر. فإن قيل: ما الفرق بين الصحف والكتاب، حتّى قال تعالى: صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ؟ قلنا: الصحف القراطيس، وقوله تعالى: مُطَهَّرَةً: أي من الشرك الباطل، وقوله تعالى: فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) أي مكتوبة مستقيمة، ناطقة بالعدل والحق، يعني الآيات والأحكام. فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) . أي النبي (ص) أو القرآن، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وهم ما زالوا متفرّقين يكفّر كلّ فريق منهم الاخر، قبل مجيء البيّنة وبعدها؟ قلنا: المراد به تفرّقهم عن تصديق النبيّ (ص) والإيمان به قبل أن يبعث، فإنّهم كانوا مجتمعين على ذلك، متّفقين عليه بأخبار التوراة والإنجيل فلمّا بعث إليهم تفرّقوا فمنهم من

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

آمن، ومنهم من كفر. وقال بعض العلماء: المراد بالبيّنة ما في التوراة والإنجيل من الإيمان بنبوّته (ص) ، ويؤيّد هذا القول، أنّ أهل الكتاب أفردوا بالذكر في هذا التفرّق، مع وجود التفرّق من المشركين أيضا، بعد ما جمعوا مع المشركين في أوّل السورة، فلا بد أن يكون مجيء البيّنة أمرا يخصّهم ومجيء النبيّ (ص) والقرآن العزيز لا يخصّهم.

سورة الزلزلة 99

سورة الزّلزلة 99

المبحث الأول أهداف سورة"الزلزلة"

المبحث الأول أهداف سورة «الزّلزلة» «1» سورة الزلزلة سورة مدنية آياتها 8 آيات، نزلت بعد سورة النساء. إنها سورة تهزّ القلب هزّا عنيفا، يشترك في هذه الهزّة الموضوع والمشهد، والإيقاع اللفظي، وصيحة قويّة مزلزلة للأرض ومن عليها، فما يكادون يفيقون حتى يواجههم الحساب، والوزن، والجزاء، في بضع فقرات قصار وهذا هو طابع الجزء كلّه، يتمثّل في هذه السورة تمثّلا قويا. المفردات زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ [الآية 1] اهتزّت واضطربت بعنف وشدة. زِلْزالَها (1) : المقدّر لها، وذلك عند النفخة الثانية. أَثْقالَها (2) : ما في باطنها من الموتى. الْإِنْسانُ [الآية 3] : الكافر، أو كلّ إنسان. ما لَها (3) : ماذا أصابها من شدّة ما يرى. تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) : ما كان فيها من أعمال العباد من خير أو شرّ. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) : تحدّث بالأخبار بوحي من الله بما تقول. يَصْدُرُ النَّاسُ [الآية 6] : يرجعون إلى ربّهم. أَشْتاتاً [الآية 6] : جمع شتيت أي متفرقين. مِثْقالَ [الآيتان 7 و 8] : المثقال ما

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع آيات السورة

يوزن به، ومثقال الشيء ميزانه من مثله. ذَرَّةٍ [الآيتان 7 و 8] : مثل في تناهي الصّغر. يَرَهُ [الآيتان 7 و 8] : المراد يجازى به. مع آيات السورة [الآيات 1- 5] : إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) . تصف الآيات مشهد القيامة حينما تضطرب اضطرابا شديدا وترتجف الأرض الثابتة ارتجافا وتزلزل زلزالا وتنفض ما في جوفها نفضا وتخرج ما يثقلها من الكنوز، والدّفائن، والأموات وهو مشهد يخلع القلوب، ويهزّ كلّ ثابت، ويخيّل للسامعين أنّهم يترنّحون ويترجّحون، والأرض من تحتهم تهتزّ وتمور. ومثال هذا ما نراه في حياتنا من جبال النار الثائرة (البراكين) ، كما حدث في إيطاليا سنة 1909 م من ثوران بركان فيزوف، وابتلاعه مدينة مسينا، ولم يبق من أهلها أحدا. فإذا شاهد الإنسان القيامة بأهوالها، والأرض تتحرّك في زلزال عنيف، وتخرج ما فيها فإنّه يتساءل من هول ما يرى: وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) ؟ وهو سؤال المتحيّر الذي يرى ما لم يعهد، وكأنّه يتمايل على ظهرها ويترنّح معها ويحاول أن يمسك بأي شيء يشدّه ويثبته، وكلّ ما حوله يمور مورا شديدا. يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) في ذلك اليوم تنطق الأرض بلسان الحال أي أنّ حالها وما يقع فيها من الاضطراب والانقلاب، وما لم يعهد له نظير من الخراب، تعلّم السائل وتفهمه الخبر، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) وأمرها أن تمور مورا، وأن تزلزل زلزالها، وأن تخرج أثقالها ... تحدّث أخبارها فهذا الحال حديث واضح عمّا وراءه، من أمر الله ووحيه إليها. [الآية 6] : يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) في ذلك اليوم، الذي يحدث الله فيه الزّلزلة والهول، يقوم الناس من القبور أشتاتا متفرّقين، فالمحسنون فريق، والمسيئون فريق، وكل إنسان يرى جزاء عمله.

مقاصد السورة

[الآيتان 7- 8] : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) فمن يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره فإنّه يجد جزاءه ومن يعمل من الشّرّ، ولو قليلا، فإنّه يجد جزاءه. مقاصد السورة اشتملت هذه السورة الكريمة على ثلاثة مقاصد: 1- اضطراب الأرض يوم القيامة، ودهشة الناس حينئذ. 2- ذهاب الناس لموقف العرض والحساب، أشتاتا متفرّقين ليروا أعمالهم. 3- يكافأ الإنسان على عمله من خير، وإن كان مثقال ذرة، ومقدار نملة ويجازى على ما عمل من شرّ مهما كان صغيرا.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الزلزلة"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الزّلزلة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الزّلزلة بعد سورة النساء، ونزلت سورة النساء، فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك فيكون نزول سورة الزلزلة في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وتبلغ آياتها ثماني آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة الترغيب في الخير، والتحذير من الشر وهذا يناسب ما ختمت به السورة السابقة، من أنّ الكافرين هم شر البريّة، والمؤمنين هم خير البرية، فجاءت هذه السورة بعدها، للترغيب في طريق المؤمنين من الخير، والتحذير من طريق الكافرين من الشر. الترغيب في الخير والتحذير من الشر الآيات [1- 8] قال الله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) فذكر سبحانه أنه إذا حصل زلزال الأرض، وإخراجها دفائنها، وسأل الإنسان عن حالها، أجابته بأنه سبحانه أوحى لها بهذا، لتؤذن بقيام

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

الاخرة، فيصدر النّاس أشتاتا ليروا أعمالهم: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الزلزلة"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الزّلزلة» «1» أقول: لمّا ذكر في آخر سورة «البيّنة» : أنّ جزاء الكافرين جهنّم، وجزاء المؤمنين جنّات، فكأنّه قيل: متى يكون ذلك؟ فقيل: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) . أي حين تكون زلزلة الأرض إلى آخره. هكذا ظهر لي، ثمّ لمّا راجعت تفسير الإمام الرازي، ورأيته ذكر نحوه حمدت الله كثيرا. وعبارته: ذكروا في مناسبة هذه السورة لما قبلها، وجوها منها: أنّه تعالى لمّا قال: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [البيّنة: 8] فكأنّ المكلّف قال: ومتى يكون ذلك يا ربّ؟ فقال جلّ وعلا: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ [الآية 1] . ومنها: أنّه لمّا ذكر سبحانه فيها وعيد الكافرين، ووعد المؤمنين، أراد أن يزيد في وعيد الكافرين فقال تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ [الآية 1] . ونظيره: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] . ثمّ ذكر جلّ وعلا ما للطائفتين، فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران: 106] إلى آخره. ثمّ جمع بينهما هنا في آخر السورة، بذكر الذي يعمل الخير والشر.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.

المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة"الزلزلة"

المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الزّلزلة» «1» قال تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) أي: أوحى إليها.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة"الزلزلة"

المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الزّلزلة» «1» ما معنى إضافة الزلزال، الذي هو المصدر، إلى الأرض، في قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) ؟ قلنا: معناه الزلزال الذي تستوجبه في حكمة الله تعالى ومشيئته في ذلك اليوم، وهو الزلزال الذي ليس بعده زلزال، ونظيره قولك: أكرم التقيّ إكرامه وأهن الفاسق إهانته تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة، ويجوز أن يكون المراد بالإضافة الاستغراق، ومعناه: زلزالها كله الذي هو ممكن لها. فإن قيل: لم قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) على العموم فيهما، وحسنات الكافر محبطة بالكفر، وسيّئات المؤمن معفوّ عنها، مغفورة باجتناب الكبائر، فكيف تثبت رؤية كل عامل جزاء عمله؟ قلنا: معناه: فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يكون من فريق السعداء، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يكون من فريق الأشقياء، لأنه جاء بعد قوله تعالى: يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً [الآية 6] . وذكر مقاتل، أنّها نزلت في رجلين من أهل المدينة، كان أحدهما يستقلّ أن يعطي السائل الكسرة أو التمرة، ويقول: إنّما نؤجر على ما نعطيه ونحن نحبّه، وكان الاخر يتهاون بالذنب اليسير ويقول: إنّما أوعد الله النار على الكبائر.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني المجازية في سورة"الزلزلة"

المبحث السادس المعاني المجازية في سورة «الزّلزلة» «1» في قوله سبحانه: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) استعارتان إحداهما قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) . والأثقال، هنا، كناية عن الأموات، لأنّهم كانوا ثقلا على ظهر الأرض في حال الحياة. أجري عليهم هذا الاسم لهم، عند حصولهم في بطونها بعد الوفاة، أو يكونون إنّما سمّوا أثقالا، لأنّهم في بطن الأرض بمنزلة الأجنّة في بطون الأمّهات، وإذا جاز أن يسمّى الجنين حملا، جاز أن يسمى ثقلا، لأنّ المعنى واحد قال تعالى: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما [الأعراف: 189] أي صار ما في بطنها من الجنين ثقلا لها. قالت الخنساء «2» : أبعد ابن عمرو من ال الشّريد ... حلّت به الأرض أثقالها أي زيّنت به موتاها. وقال أبو عبيدة إذا كان الميّت في بطن الأرض، فهو ثقل لها، وإذا كانت فوقه فهو ثقل عليها، فتسمية الأموات بالأثقال تكون على أحد هذين الوجهين: وإمّا أن تكون هي المثقلة به، وأمّا أن يكون هو المثقل بها. وقال غيره: معنى قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2)

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . (575- 644) الخنساء من أعظم شواعر العرب، شاعرة مخضرمة، أدركت الإسلام فأسلمت، وحسن إسلامها. قتل أخواها معاوية وصخر في الجاهليّة فرثتهما محرّضة قومها على الأخذ بالثأر. لها ديوان أكثره في الرثاء، شرحه ابن السّكّيت وابن الأعرابي والثعالبي. طبع في بيروت (1888) .

أي لفظت، إلى ظهرها، ما فيها من مدافن الأموات والمكنون إلى ظهرها. والاستعارة الأخرى قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) والمراد بذلك ما يظهر فيها من دلائل انقطاع أحوال الدنيا، وإقبال أشراط الاخرة، فيكون ما يظهره الله تعالى فيها من ذلك، قائما مقام الأخبار، ونائبا عن النطق باللسان وهذا، كما جاء في قول من قال: «سل الأرض من شقّ أنهارك، وغرس أشجارك وجنى ثمارك، فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا» . فكأنّ الأرض تحدّث من يسأل عن أمرها، بأنّ الله تعالى أوحى لها بأن تكون على تلك الصفة التي ظهرت منها، ومعنى أَوْحى لَها أي أوحى إلى ملائكته عليهم السلام، بأن يظهروا فيها تلك الأشراط، ويحدّثوا بها تلك الأعلام، فلذلك قال: أَوْحى لَها ولو كان الوحي خاصة لها، لكان الوجه أن يقال «أوحى إليها» ، وقد قال بعضهم أَوْحى لَها «وأوحى إليها» بمعنى واحد، والاعتماد على القول الذي قدّمناه، لأنّ الوحي يتضمّن أوامر ومخاطبات، ولا يجوز أن يؤمر ولا يخاطب، إلّا العاقل المميّز، والمجيب السامع، وليس الوحي إلى الأرض جاريا مجرى الوحي إلى النحل، في قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [النحل: 68] ، لأنّ المراد عندنا بذلك، أنّه سبحانه ألهمها ما أراد منها، وهي ما يصحّ فيه، ذلك لأنّها حيوان متصرّف، والأرض لا يصحّ فيها ذلك، لأنّها جماد خامد.

سورة العاديات 100

سورة العاديات 100

المبحث الأول أهداف سورة"العاديات"

المبحث الأول أهداف سورة «العاديات» «1» سورة العاديات سورة مكّيّة، آياتها 11 آية نزلت بعد سورة العصر. تصف سورة العاديات الحرب بين كفّار مكّة والمسلمين، وتبدأ بمشهد الخيل العادية الضابحة، القادحة للشرر بحوافرها، المغيرة مع الصباح، المثيرة للنقع وهو الغبار، الداخلة في وسط العدوّ فجأة تأخذه على غرّة، وتثير في صفوفه الذعر والفرار، يليه مشهد ما في النفس، من الكنود والجحود والأثرة والشّحّ الشديد. ثم يعقبه مشهد لبعثرة القبور، وتحصيل ما في الصدور وفي الختام ينتهي النقع المثار، وينتهي الكنود والشّحّ، وتنتهي البعثرة والجمع، الى نهايتها جميعا. ويعود الأمر إلى الله سبحانه: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) . المفردات العاديات: الخيل التي تعدو مسرعة. الضّبح: صوت أنفاس الخيل حين الجري. الموريات قدحا: هي الخيل تضرب بحوافرها الأرض، فتقدح نارا. يقال: أورى الزّناد، إذا أخرج النار على هيئة شرار. المغيرات صبحا: خيل الغزاة تغير صباحا. الإثارة: التهييج وتحريك الغبار. النقع: الغبار.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع آيات السورة

فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) : توسّطن جمعا من الكفار ففرقنه وهزمنه. الكنود: جحود النعم. لَشَهِيدٌ (7) : يشهد على جحود لسان حاله بأقواله وأفعاله. الْخَيْرِ: المال. لَشَدِيدٌ (8) : لكثير الحرص عليه. بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) : أخرج ما فيها من الموتى. وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) وأبرز المكنون في الصدور، وظهرت الأسرار. لَخَبِيرٌ (11) : بالغ علمه بكل شيء. مع آيات السورة [الآيات 1- 5] : وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) . يقسم الله سبحانه بخيل المعركة، ويصف حركاتها واحدة واحدة، منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري، قارعة للصّخر بحوافرها، حتّى توري الشرر منها، مغيرة في الصباح الباكر لمفاجأة العدو، مثيرة للنقع والغبار، وهي تتوسّط صفوف الأعداء على غرّة، فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب. [الآيات 6- 8] : إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) . يقسم سبحانه، على أن الإنسان كنود جحود، كفور بنعمة الله، يعدّ المصائب وينسى النعم. «وروي عن النبي (ص) : (الكنود الذي يأكل وحده ويضرب عبده، ويمنع رفده) ، كأنّه لا يعطي ممّا أنعم الله به عليه، ولا يرأف بعباد الله كما رأف الله به، فهو كافر بنعمة ربه. غير أنّ الآية عامة، والمراد منها ذكر حالة من حالات الإنسان التي تلازمه في أغلب أفراده» «1» إلّا من عصمهم الله، وهم الذين روّضوا أنفسهم على فعل الفضائل، وترك الرذائل. وسرّ هذه الجملة، أنّ الإنسان

_ (1) . تفسير جزء عمّ للأستاذ الإمام محمد عبده، ص 109، مطبعة الشعب الطبعة السادسة.

يحصر همّه فيما حضره، وينسى ماضيه، وما عسى أن يستقبله، فإذا أنعم الله عليه بنعمة، غرّته، ومنعه البخل والحرص من عمل الخير. وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) : وإن أعماله كلّها لتشهد بذلك، وانه ليعترف بذلك بينه وبين نفسه أو أن الله على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) : وإن الإنسان بسبب حبه للمال، وتعلّقه بجمعه وادّخاره، لبخيل، شديد في بخله، ممسك مبالغ في إمساكه، متشدّد فيه. ومن ثمّ تجيء اللفتة الأخيرة في السورة، لعلاج الكنود والشحّ والأثرة، مع عرض مشهد من مشاهد الاخرة. [الآيات 9- 11] : أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) . وهو مشهد عنيف مثير: بعثرة لما في القبور، بعثرة بهذا اللفظ العنيف المثير، وتحصيل لأسرار الصدور، التي ضنّت بها، وخبّأتها بعيدا من العيون، تحصيل بهذا اللفظ القاسي ومفعول «يعلم» محذوف، لتذهب النفس في تخيله كل مذهب. أي أفلا يعلم الكنود الحريص، ما يكون حاله في الاخرة يوم تكشف السرائر؟ أفلا يعلم ظهور ما كان يخفى من قسوة وتحيّل؟ أفلا يعلم أنّه سيحاسب عليه؟ أفلا يعلم أنه سيوفّى جزاء ما كفر بنعمة ربه؟ وتختم السورة بعدل الجزاء، وشهادة الخبير، بقوله تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) . فالمرجع إلى ربّهم، وإنّه سبحانه لخبير بهم (يومئذ) وبأحوالهم وبأسرارهم، والله خبير بهم في كل وقت وفي كل حال وإنّما خص هذا اليوم بذلك، لأن هذه الخبرة يعقبها الحساب والجزاء. كما قال تعالى: سَنَكْتُبُ ما قالُوا [آل عمران: 181] مع أنّ كتابة أقوالهم حاصلة فعلا، والمراد سنجازيهم بما قالوا جزاء يستحقونه. إن السورة قطعة رائعة، لعرض سلوك الإنسان، والوصول به الى مرحلة الجزاء، في أسلوب قوي آسر

المعنى الاجمالي للسورة

معنى ولفظا، على طريقة القرآن المبين. المعنى الاجمالي للسورة 1- القسم بخيل الغزاة والمجاهدين. 2- بيان حال الإنسان، إذا خلا قلبه من الايمان. 3- ذمّ الشّح والبخل وجحود النعمة. 4- عرض صورة من مشاهد البعث والحساب والجزاء.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"العاديات"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «العاديات» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة العاديات بعد سورة العصر، ونزلت سورة العصر بعد سورة الشّرح ونزلت سورة الشرح، فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة فيكون نزول سورة العاديات في ذلك التاريخ أيضا. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) وتبلغ آياتها إحدى عشرة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة: بيان ميل الإنسان إلى الشّرّ، وتحذيره من عقابه يوم الحشر، وهذا فيه مناسبة للغرض المقصود من سورة الزّلزلة، ولهذا ذكرت هذه السورة بعدها. ميل الإنسان إلى الشر الآيات [1- 11] قال الله تعالى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) الآيات إلى قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) فأقسم سبحانه بالعاديات، وما ذكر بعدها، على أن الإنسان من طبعه الامتناع عن الخير، وأنّه يشهد بذلك على نفسه، وأنّه أيضا شديد الحب للمال، فلا ينفق منه في الخير ثمّ هدّده جلّ وعلا بأنه يعلم ذلك، إذا بعثه من قبره، فيعاقبه عليه وختمها تعالى بقوله: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"العاديات"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «العاديات» «1» أقول: لا يخفى ما بين قوله تعالى في الزلزلة: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) [الزلزلة] وقوله في هذه السورة: إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ [الآية 9] . من المناسبة والعلاقة «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . أقول: وهناك مناسبة أخرى. هي: بيان الأصل الذي يضلّ به الإنسان أو يهتدي. فلمّا ذكر سبحانه في آخر الزلزلة جزاء الإنسان على الخير والشر. بيّن جلّ وعلا هنا أن الإنسان بطبعه يحب الخير وحبّه للخير إمّا للدنيا، وهو الشر، وإمّا للاخرة، وهو حقيقة الخير. فهذا الحب هو الذي يوجّه الأعمال. ثمّ ذكّر الإنسان بيوم يكشف فيه عما في القلوب من نيّات خفيّة: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) الى آخر السورة. وقد زاد الأمر تفصيلا في السور التالية.

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"العاديات"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «العاديات» «1» وقال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) . والكنود الكفور.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"العاديات"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «العاديات» «1» قال تعالى: فَوَسَطْنَ بِهِ [الآية 5] وقرأ بعضهم (فوصطن) «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . لم أعثر على من قرأ بالصاد، والرسم في المصحف بالسين.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"العاديات"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «العاديات» «1» إن قيل: لم قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) مع أنه تعالى خبير بهم في كلّ زمان، فما وجه تخصيص ذلك اليوم؟ قلنا: معناه أنّ ربهم سبحانه، مجازيهم يومئذ على أعمالهم، فالعلم مجاز عن المجازاة، ونظيره قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ [النساء: 63] معناه يجازيهم على ما فيها، لأن علمه شامل لما في قلوب كل العباد، ويقرب منه قوله تعالى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غافر: 16] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

سورة القارعة 101

سورة القارعة 101

المبحث الأول أهداف سورة"القارعة"

المبحث الأول أهداف سورة «القارعة» «1» سورة القارعة سورة مكية، آياتها إحدى عشرة آية، نزلت بعد سورة قريش. القارعة اسم من أسماء القيامة، كالحاقّة والصّاخّة والطّامّة والغاشية، وسمّيت قارعة لأنها تقرع القلوب بأهوالها. والسورة كلها عن هذه القارعة، حقيقتها، وما يقع فيها، وما تنتهي إليه، فهي تعرض مشهدا من مشاهد القيامة. والمشهد المفروض هنا مشهد هول، تتناول آثاره الناس والجبال، فيبدو الناس في ظله صغارا ضئالا على كثرتهم، فهم كالفراش المبثوث، مستطارون مستخفّون في حيرة الفراش، الذي يتهافت على الهلاك، وهو لا يملك لنفسه وجهة، ولا يعرف له هدفا. وتبدو الجبال التي كانت ثابتة راسخة، كالصوف المنفوش، تتقاذفه الرياح، وتعبث به حتى الأنسام. عندئذ يرجح وزن المؤمن وتثقل درجته، فيعيش عيشة راضية، ويخفّ ميزان الكافر، وتهوي منزلته، فيصطلي بنار حامية. معاني المفردات الْقارِعَةُ يوم القيامة. وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ استفهام عن حقيقتها قصد به تهويل أمرها. كَالْفَراشِ الحشرات الصغيرة التي تندفع على غير هدى نحو الضوء.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع آيات السورة

الْمَبْثُوثِ المنتشر المتفرق، وهو مثل في الحيرة والجهل بالعاقبة. كَالْعِهْنِ الصوف. الْمَنْفُوشِ الذي نفشته بيدك أو بالة اخرى، ففرقت شعراته بعضها عن بعض. ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بكثرة الحسنات. خَفَّتْ مَوازِينُهُ بقلة الحسنات وكثرة السيئات. فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ أي مرجعه الذي يأوي إليه هاوية، أي مهواة سحيقة يهوي فيها. مع آيات السورة [الآيات 1- 3] : الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) القارعة: أي القيامة بدأ بها قرعا للأذهان بهولها. مَا الْقارِعَةُ (2) ، استفهام عن حقيقتها، قصد به تهويل أمرها، كأنها، لشدة ما يكون فيها، ممّا تفزع له النفوس وتدهش له العقول، يصعب تصوّرها. وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) : أي شيء يعرفك بها؟ زيادة في تعظيم تلك الحادثة العظيمة، كأن لا شيء يحيط بها، ويفيدك برسمها، ثم أخذ يعرفها بزمانها وما يكون للناس فيه. [الآية 4] : يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) أي يكون الناس من حيرتهم وذهولهم كالفراش الهائم على وجهه، المنتشر في الفضاء لا يدري ماذا يصنع، قال تعالى في آية أخرى: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر: 7] . [الآية 5] : وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) أي تصبح في صور الصوف المنفوش، فلا تلبث أن تذهب وتتطاير، وفي سورة النبأ قال تعالى: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) . [الآيتان 6- 7] : فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) ، أي من ثقلت موازينه برجحان كفّة حسناته على سيئاته، فهو في الجنة. ويقال ثقل ميزان فلان إذا كان له قدر ومنزلة رفيعة، كأنه إذا وضع في ميزان كان له رجحان. وإنما يكون المقدار والقيامة لأهل الأعمال الصالحة، والفضائل الراجحة، فهؤلاء يجزون النعيم الدائم والعيشة الراضية. [الآيتان 8- 9] :

مقاصد السورة

وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) يقال خفّ ميزان فلان، أي سقطت قيمته، فكأنّه ليس بشيء، حتى لو وضع في كفّة ميزان لم يرجح بها على أختها ومن كان في الدنيا كثير الشر قليل فعل الخير، يجترئ على المعاصي، ويفسد في الأرض، فإنه لا يكون شيئا في الاخرة، ولا ترجح له كفّة ميزان لو وضع فيها. ويرى بعض المفسرين أن الذي يوزن هو الصحف، التي تكتب فيها الحسنات والسيئات. وأن الحسنات تمثّل وتقابل بالنور والخير، وأنّ السيّئات تمثّل وتقابل بالظلام والشر. وأن من كثر خيره كان ناجيا، ومن كثر شرّه كان هالكا. وهذا الميزان نؤمن به ونفوض حقيقة المراد منه إلى الله تعالى، فلا نسأل كيف يزن؟ ولا كيف يقدّر؟ فهو أعلم بغيبه ونحن لا نعلم. قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) [الأنبياء] . فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) : مرجعه الذي يأوي اليه كما يأوي الولد الى أمه، أي فمسكنه ومأواه النار. 10- وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) أي ما الذي يخبرك بما هي تلك الهاوية، وأي شيء تكون؟ 11- نارٌ حامِيَةٌ (11) هي نار ملتهبة بلغت النهاية في الحرارة، يهوي فيها ليلقى جزاء ما قدم من عمل. مقاصد السورة 1- وصف أهوال يوم القيامة ومشاهده. 2- وزن الأعمال، ورجحان كفة المؤمن، وخفة كفة الفاجر. 3- السعداء يدخلون الجنّة، والأشقياء يذهبون الى النار.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"القارعة"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القارعة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة القارعة بعد سورة قريش، ونزلت سورة قريش بعد سورة التين، ونزلت سورة التين فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة القارعة في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وتبلغ آياتها إحدى عشرة آية. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إثبات وزن الأعمال يوم القيامة، فهي في سياق الترغيب والترهيب كسورة العاديات، ولهذا ذكرت بعدها. وزن الأعمال يوم القيامة الآيات [1- 11] قال الله تعالى: الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) ، الآيات ... ، فذكر أن القارعة هي القارعة: لأنها تفوق كل القوارع في الهول والشدة، وأنها تكون يوم ينتشر الناس بعد البعث من القبور، فيجمعون لوزن أعمالهم، فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، ومن خفّت موازينه فأمّه هاوية وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"القارعة"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القارعة» «1» قال الإمام: لما ختم الله سبحانه السورة السابقة بقوله: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) فكأنه قيل: وما ذاك؟ فقال: هي القارعة. قال: وتقديره: ستأتيك القارعة على ما أخبرت عنه، بقوله جلّ وعلا: إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) [العاديات] .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"القارعة"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «القارعة» «1» قال تعالى: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) . من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة: هوت أمّه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلا وحزنا. قال كعب: هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا وماذا يردّ الليل حين يؤوب

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"القارعة"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «القارعة» «1» قال تعالى: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ وواحدها: «العهنة» مثل: «الصوف» و «الصّوفة» وأما قوله: ما هِيَهْ (10) بالهاء، فلأن السكت عليها بالهاء، لأنها رأس آية.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"القارعة"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «القارعة» «1» إن قيل: لم قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) أي رجحت سيّئاته على حسناته فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) أي فمسكنه النار، وأكثر المؤمنين حسناتهم راجحة على سيّئاتهم؟ قلنا: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) لا يدل على خلوده فيها، فيسكن المؤمن بقدر ما تقتضيه ذنوبه، ثم يخرج منها إلى الجنة: وقيل المراد بخفة الموازين خلوّها من الحسنات بالكلية، وتلك موازين الكفّار.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"القارعة"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «القارعة» «1» في قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) استعارة. وهاوية هنا من أسماء النار، كأنها تهوي بأهلها الى قعرها وإنّما جعلت أمّه لضمّها له واشتمالها عليه ويشبه ذلك قوله تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) [الحديد] . وقد فسّر ذلك سبحانه بقوله: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) . وقال بعضهم: بل سميت هاوية لهويّ المعذّبين في قعرها، فكان ظاهر الفعل لها وحقيقته لغيرها. كما قال تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) . والمراد مرضيّة ونظائر ذلك كثيرة وقال بعضهم: إنّما خرج ذلك على مخرج كلام العرب، لأنهم يقولون للواقع في المكروه، والمرتكس في الأمر: هوت أمّ فلان. ويقولون: ويل أم فلان، ويعنون: هوت أي سقطت في مهواة، وهو مثل قولهم ظلّت وهلكت، لأنّ هلاك ولدها كهلاكها. وقال كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار: هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يواري الليل حين يؤوب وقال بعضهم معنى ذلك هوت أمّ رأسه، وإذا هوت أمّ رأسه وهي معظم دماغه، فقد هوى سائره وهلك.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.

سورة التكاثر 102

سورة التّكاثر 102

المبحث الأول أهداف سورة"التكاثر"

المبحث الأول أهداف سورة «التكاثر» «1» سورة «التكاثر» سورة مكّيّة، آياتها ثماني آيات، نزلت بعد سورة «الكوثر» . من أسباب النزول أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بريدة قال: «نزلت: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) في قبيلتين من الأنصار هما بنو حارثة وبنو الحرث، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: أفيكم مثل فلان وفلان، وقالت الأخرى مثل ذلك، تفاخروا بالأحياء ثمّ قالوا: انطلقوا بنا الى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول: أفيكم مثل فلان وفلان وتشير إلى القبر، ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله هذه السورة» . المفردات أَلْهاكُمُ شغلكم. التَّكاثُرُ التباهي والتفاخر بالكثرة في الأموال والأولاد والأهل والعشيرة. زُرْتُمُ الْمَقابِرَ صرتم إليها ودفنتم فيها. كَلَّا كلمة يراد بها الزجر والردع. سَوْفَ تَعْلَمُونَ خطأ ما أنتم فيه من التكاثر والتباهي وكرّر الجملة للتأكيد. لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ المراد ما ألهاكم ذلك عن الاخرة والعمل لها. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ تفسير للوعيد السابق المكرر. عَيْنَ الْيَقِينِ عين هي اليقين نفسه.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع آيات السورة

هذه السورة صيحة بالقلب البشري الغارق في التفاخر والتكاثر بالدنيا ومظاهرها، وتنبيه له الى أن ما تفاخر به الى زوال، وأن الدنيا قصيرة، وأن الغاية الى حفرة ضيّقة، وهناك ترى الحقيقة الباقية، واليقين المؤكّد، وتسأل عن هذه الألوان المتنوعة من الملذات، وعن سائر ألوان النعيم، عن الشباب والمال والجاه والصحة والعافية ماذا عملت بها. «وروي يسأل عن التنعم الذي شغله الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه، وعن الحسن: يسأل عمّا زاد عن كنّ يؤويه، وثوب يواريه، وكسرة تقوّيه» . مع آيات السورة [الآيتان 1- 2] : أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) أيّها السادرون الغافلون. أيّها اللّاهون المتكاثرون بالأموال والأولاد وأعراض الحياة، وأنتم مفارقون، أيّها المخدوعون بما أنتم فيه عمّا يليه. أيّها التاركون ما تتكاثرون به وتتفاخرون، إلى حفرة ضيّقة لا تكاثر فيها ولا تفاخر، استيقظوا وانظروا. فقد شغلكم حبّ الكثرة والفخر حتّى هلكتم، وصرتم من الموتى ورأيتم الحساب والجزاء. وفي صحيح مسلم عن مطرف عن أبيه قال: «أتيت النبي (ص) وهو يقرأ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) قال: يقول ابن آدم مالي ومالك، يا بن آدم ليس لك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» . [الآيتان 3- 4] : كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) أي ازدجروا عن مثل هذا التكاثر والتفاخر، والجأوا إلى التناصر على الحق، والتكاتف على أعمال البر، والتضافر على ما فيه حياة الأفراد والجماعات، من تقويم الأخلاق، والتعاون على الخير والمعروف. وإنكم سوف تعلمون سوء مغبّة ما أنتم عليه. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) وهو تكرير للوعيد لتأكيد الزجر والتوبيخ، كما يقول الإنسان لآخر: أقول لك لا تفعل، ثم أقول لك لا تفعل. [الآية 5] : كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) أي ارتدعوا عن تغريركم بأنفسكم، فإنّكم لو تعلمون عاقبة

أهداف سورة التكاثر

أمركم، لشغلكم ذلك عن التكاثر، وصرفكم إلى صالح الأعمال وأنّ ما تدعونه علما ليس في الحقيقة بعلم، وإنّما هو وهم وظنّ، لا يلبث أن يتغير، لأنّه لا يطابق الواقع، والجدير أن يسمّى علما إنّما هو علم اليقين المطابق للواقع بناء على العيان والحس، أو الدليل الصحيح الذي يؤدّيه العقل، أو النقل الصحيح عن المعصوم (ص) . [الآية 6] : لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) : ولا شك في رؤيتها، والمراد برؤية الجحيم ذوق عذابها، ثم أكد هذا المضمون بقوله تعالى: [الآية 7] : ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) أي لترونّها رؤية هي اليقين بنفسه، مهما كانت نسبتكم أو مجدكم، فلن ينجيكم منها سوى أعمالكم. [الآية 8] : ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) لتسألن عنه من أين نلتموه؟ وفيم أنفقتموه؟ أمن طاعة وفي طاعة؟ أم من معصية وفي معصية؟ أمن حلال وفي حلال؟ أم من حرام وفي حرام؟ هل شكرتم؟ هل أدّيتم حقّ النعيم؟ هل شاركتم الفقير والمساكين؟ هل استأثرتم وبخلتم ومنعتم صاحب الحق حقه؟ لتسألنّ عمّا تتكاثرون به وتتفاخرون ... فهو عبء تستخفّونه في غمرتكم ولهوكم، ولكنّ وراءه ما وراءه من همّ ثقيل. روي أن رسول الله (ص) قال: «من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها» . أهداف سورة التكاثر 1- ذم الانشغال بمظاهر الحياة. 2- التذكير بالموت والقبر والحساب. 3- زجر الغافلين والعابثين وتذكيرهم بيوم الدين. 4- لن ينقذهم من النار جاه ولا سلطان، لن ينفعهم سوى العمل الصالح. 5- الحساب على النعيم حق، فيجب أن يكون النعيم حلالا طيبا.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"التكاثر"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التكاثر» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة التّكاثر بعد سورة الكوثر، ونزلت سورة الكوثر بعد سورة العاديات، ونزلت سورة العاديات فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة التكاثر في ذلك التاريخ أيضا. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) وتبلغ آياتها ثماني آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة تحريم التفاخر بالأموال والأولاد، وبيان أنّ هذا التفاخر هو الذي ألهى قريشا عن قبول الدعوة، وبهذا تكون هذه السورة في سياق الترهيب، وهو من سياق السورة السابقة، وهذا هو وجه المناسبة في ذكر هذه السورة بعدها. تحريم التفاخر الآيات [1- 8] قال الله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) فوبّخهم على إلهاء التفاخر بالأموال والأولاد لهم عن قبول الدعوة، ثم هدّدهم بأنهم سوف يعلمون ما يعاقبون به، وذكر أنهم لو يعلمون ذلك يقينا لرأوه الجحيم، ثم هدّدهم بأنّهم سيرونها عين اليقين: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"التكاثر"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التكاثر» «1» أقول: هذه السورة واقعة موقع العلّة لخاتمة ما قبلها، كأنه لما قال تعالى هناك: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) [القارعة] . قيل: لم ذلك؟ فقال جلّ وعلا: لأنكم أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) . فاشتغلتم بدنياكم، وملأتم موازينكم بالحطام، فخفّت موازينكم بالآثام ولهذا أعقبها بسورة العصر، المشتملة على أن الإنسان في خسر، إلّا من آمن وعمل صالحا، وتواصى بالحق وتواصى بالصبر وفي ذلك بيان للفارق بين تجارة الدنيا الفانية وتجارة الاخرة الخالدة ولهذا أعقبها بسورة الهمزة، المتوعّد فيها من جمع مالا وعدّده، يحسب أن ماله أخلده. فانظر إلى تلاحم هذه السور الأربع، وحسن اتساقها «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . ومن المناسبة كذلك: التصريح هنا بوزن الأعمال التي أجملها في الزلزلة، وبيّن أصلها في العاديات. [.....]

المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة"التكاثر"

المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «التكاثر» «1» إن قيل: أين جواب كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) ؟ قلنا: هو محذوف تقديره: لو تعلمون الأمر يقينا لشغلكم عن التكاثر والتفاخر، ثم ابتدأ السياق بوعيد آخر، فقال سبحانه لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) . فإن قيل: كلّ أحد لا يخلو عن نيل نعيم في الدنيا، ولو مرّة واحدة، فما النعيم الذي يسأل عنه العبد؟ قلنا: فيه سبعة أقوال: أحدها أنه الأمن والصّحة. الثاني: أنّه الماء البارد. الثالث: أنّه خبز البر والماء العذب. الرابع: أنّه مأكول ومشروب لذيذان. الخامس: أنه الصحة والفراغ. السادس: أنه كل لذة من لذات الدنيا. السابع: أنه دوام الغداء والعشاء. وقيل إن السؤال خاصّ بالكفّار، والصحيح أنه عامّ في كلّ إنسان وفي كل نعيم، فالكافر يسأل توبيخا والمؤمن يسأل عن شكرها، ويؤيّد هذا ما جاء في الحديث أنه (ص) قال: «يقول الله تعالى: ثلاث لا أسأل عبدي عن شكرهنّ، وأسأله عمّا سوى ذلك: بيت يكنّه، وما يقيم به صلبه من الطعام، وما يواري به عورته من اللّباس» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني المجازية في سورة"التكاثر"

المبحث الخامس المعاني المجازية في سورة «التكاثر» «1» في قوله سبحانه: ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) هذه استعارة على بعض الأقوال، وهو أن يكون المراد: ثمّ لترونّها بعين اليقين، ثم نزعت الباء فنصبت العين، ويكون ذلك من باب قول الشاعر: كما عسل الطّريق الثعلب أي في الطريق، وقال بعضهم: معنى ذلك على مثال قولهم عين الشيء أي حقيقته. وشاهد ذلك قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) [الحاقة] . وقال بعضهم معنى «عين اليقين» أي حاضر اليقين، ومنه قولهم في المثل: «تطلب أثرا بعد عين» أي غائبا بعد حاضر، وعلى ذلك قول الأعشى «2» ومن لا يصدّع له همّة فيجعلها بعد عين ضمارا والضمار الغائب، والعين الحاضر، ومنه الحديث في زكاة الضّمار أي الغائب والنّسيئة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . الأعشى هو ميمون بن قيس بن جندل والبيت المذكور من قصيدة له، وقد جاء صدر البيت في ديوان الأعشى هكذا: «ومن لا تضاع له ذمّة» .

سورة العصر 103

سورة العصر 103

المبحث الأول أهداف سورة"العصر"

المبحث الأول أهداف سورة «العصر» «1» سورة «العصر» سورة مكية، آياتها ثلاث، نزلت بعد سورة «الشرح» . «وفي هذه السورة الصغيرة، يتمثّل منهج كامل للحياة البشرية، كما يريدها الله تعالى. وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح صورة وأدقها. إنها تضع الدستور الإسلاميّ كلّه في كلمات قصار، وتصف الأمة المسلمة: حقيقتها ووظيفتها في آية واحدة، هي الآية الثالثة من السورة. وهذا هو الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلّا الله. والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي هذه: أنه على امتداد الزمان في جميع العصور، وامتداد الإنسان في جميع الدهور، ليس هنالك إلّا منهج واحد رابح، وطريق واحد ناج، هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده وتوضح معالمه. إن العمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان، وبذلك يصبح الإيمان قوّة دافعة، وحركة وعملا، وبناء وتعميرا يتّجه إلى الله سبحانه. أمّا التواصي بالحق والصبر، فيبرز صورة الأمة المسلمة متضامنة متضامّة، خيِّرة واعية، قائمة على حراسة الحق والخير، متواصية بالحق والصبر في مودّة وتعاون وتاخ.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

المفردات

المفردات الْعَصْرِ اسم للدهر أي الزمن الذي يحياه الإنسان، وقيل أقسم الله جلّ وعلا بصلاة العصر لفضلها، أو أقسم بالعشي كما أقسم بالضحى. خُسْرٍ هلاك لسوء تصرفه وكثرة آثامه. تَواصَوْا تناصحوا وتعاهدوا. بِالْحَقِّ الواجب من فعل الطاعات وترك المحرّمات. [الآيتان 1- 2] : وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) أقسم الله بالزمن وهو ماض لا يقف، متغيّر لا يقرّ، على أنّ الإنسان الذي يهمل إيمانه ومرضاة ربّه إنسان خاسر مهما كان رابحا من مظاهر الحياة، لأنه قد خسر الجنة وخسر الكمال المقدّر له فيها، وخسر مرضاة الله وطاعته. [الآية 3] : الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) . المؤمن يدرك أنه جسد وروح، وهو ذو قلب وعقل، وذو عواطف وجوارح وسعادته في نموّ هذه القوى نموّا متناسقا. وفي دور الخلافة الرشيدة للمسلمين تعاونت قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المالية، في تنشئة الإنسان الكامل، وفي ظهور المدينة الصالحة. وكانت حكومة المسلمين من أكبر حكومات العالم قوة وسياسة وسيادة، تزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة، ويساير الرقيّ الروحيّ التقدم المادي والحضاري. وخلاصة السورة أن الناس جميعا في خسران إلّا من اتّصفوا بأربعة أشياء: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحقّ، والتواصي بالصبر. «وهذه السورة حاسمة في تحديد الطريق أنّه الخسر إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) . طريق واحد لا يتعدد، طريق الإيمان والعمل الصالح، وقيام الجماعة المسلمة، التي تتواصى بالحقّ وتتواصى بالصّبر، وتقوم متضامنة على حراسة الحق، مزوّدة بزاد الصبر. إنه طريق واحد، ومن ثمّ كان الرجلان من أصحاب رسول الله (ص) إذا التقيا، لم يتفرّقا حتّى يقرأ أحدهما

خلاصة أهداف السورة

على الاخر سورة وَالْعَصْرِ (1) ثمّ يسلّم أحدهما على الاخر» . لقد كانا يتعاهدان على الإيمان والعمل الصّالح، والتّناصح بالحقّ والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والصّبر والتحمّل في سبيل الدعوة إلى الهدى والرّشاد. خلاصة أهداف السورة 1- جنس الإنسان في خسر وضياع. 2- النجاة لمن آمن وعمل صالحا، وحثّ على الفضيلة والحقّ، وتحلّى بالثّبات والصّبر.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"العصر"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «العصر» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة العصر، بعد سورة الشّرح، ونزلت سورة الشرح فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة العصر في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) وتبلغ آياتها ثلاث آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة الترغيب في العمل الصالح، وقد أتى هذا في مقابلة ما كان منهم من التّفاخر بالأموال والأولاد، ولهذا ذكرت سورة العصر بعد سورة التكاثر. الترغيب في العمل الصالح [آيات السورة كلّها] قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) والمراد بالعصر الدهر أو الليل والنهار، أو وقت العصر أو صلاته، ثم استثني من ذلك الحكم على الإنسان: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثالث لكل سؤال جواب في سورة"العصر"

المبحث الثالث لكل سؤال جواب في سورة «العصر» «1» إن قيل: الاستثناء الذي في السورة لا يدل على أن المؤمنين الموصوفين في ربح، مع أن الاستثناء إنّما سيق لمدحهم، بمضادّة حالهم لحال من لم يتناوله الاستثناء؟ قلنا: إن الاستثناء، وإن لم يدلّ بصريحه على أنهم في أعظم ربح، ولكن اتّصافهم بتلك الصفات الأربع الشريفة يدل على أنهم في أعظم ربح، مع أنّا لو قدّرنا أنّهم ليسوا في ربح، فالمضادّة حاصلة أيضا لأنهم ليسوا في خسر بمقتضى الاستثناء.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

سورة الهمزة 104

سورة الهمزة 104

المبحث الأول أهداف سورة"الهمزة"

المبحث الأول أهداف سورة «الهمزة» «1» سورة «الهمزة» سورة مكية، آياتها تسع آيات، نزلت بعد سورة «القيامة» . المفردات وَيْلٌ خزي وهلاك وعذاب، وهو لفظ لا يستعمل الا في الذم والقدح. هُمَزَةٍ من ينتقص الناس بالقول. لُمَزَةٍ (1) : من يؤذي الناس بالفعل، فكلاهما طعّان عيّاب. الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) : شغف بجمع المال وعدّه والتكاثر فيه، ولا ينفقه ولا ينتفع به. يَحْسَبُ: يظنّ. أَخْلَدَهُ (3) : حقّق له الخلود في الدنيا. لَيُنْبَذَنَّ: ليطرحنّ. الْحُطَمَةِ (4) : من أسماء النار لتحطيم المعذّبين فيها. الْمُوقَدَةُ (6) : المستعرة. تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) : القلوب التي استقرت فيها العقائد الفاسدة. مُؤْصَدَةٌ (8) : مغلقة مطبقة. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) : قيل هي القيود والأثقال، وقيل العمد التي تتخذ لإيصاد أبواب جهنم على من فيها. فكرة السورة تعكس هذه السورة صورة من الصور الواقعية، في حياة الدعوة في عهدها

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

أسباب النزول

الأول، وهي في الوقت ذاته نموذج يتكرر في كل بيئة، صورة اللئيم الصغير النفس الذي يؤتى المال، فتستطير نفسه به، حتى ما يطيق نفسه، ويروح يشعر أن المال هو القيامة العليا في الحياة، القيامة التي تهون أمامها جميع القيم وجميع الأقدار: أقدار الناس، وأقدار المعاني، وأقدار الحقائق. كما يروح يحسب أن هذا المال إله قادر على كل شيء، لا يعجز عن دفع شيء، حتى دفع الموت وتخليد الحياة. ومن ثمّ ينطلق في هوس بهذا المال، يعدّده ويستلذّ تعداده، وتنطلق في كيانه نفخة فاجرة، تدفعه إلى الاستهانة بأقدار الناس، وهمزهم ولمزهم، وانتقاص قدرهم، وتحقير شأنهم. وهي صورة لئيمة من صور النفوس البشرية، حين تخلو من المروءة. والإسلام يكره هذه الصورة الهابطة، وقد نهى القرآن عن السخرية واللمز في مواضع شتى، إلّا أن ذكرها هنا، بهذا التشنيع، يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية من بعض المشركين تجاه رسول الله (ص) وتجاه المؤمنين، فجاء الردّ عليها في صورة الردع والتهديد والوعيد. أسباب النزول قال عطاء والكلبي: نزلت هذه السورة في الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس ويغتابهم، وبخاصة رسول الله (ص) . وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي (ص) من ورائه، ويطعن فيه في وجهه. وقال محمد بن إسحاق صاحب السيرة: ما زلنا نسمع أنّ هذه السورة نزلت في أمية بن خلف. مع آيات السورة [الآية 1] : وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) : ويل وعذاب شديد لكل سبّاب عيّاب، ينتقص الناس بالإشارة والحركة، والقول والفعل، وبناء الصفة على «فعلة» يفيد كثرة وقوع الفعل، وجريانه مجرى العادة. وعن مجاهد وعطاء: الهمزة الذي يطعن الإنسان في وجهه، واللّمزة: الذي يطعنه في غيابه. [الآية 2] : الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) إن ما دعا هذا وأمثاله الى الحط

من أقدار الناس ظنّه الخاطئ بأنه، إذ يجمع المال، ويبالغ في عدّه والمحافظة عليه، إنّما هو أمر يرفع قدره، ويضمن له منزلة رفيعة، يستطيع بها أن يطلق لسانه في أعراض الناس، وأن يؤذيهم بالقول والفعل. [الآية 3] : يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) : أنّ حبه للمال أنساه الموت والمال فهو يأنس بماله، ويظن أن هذا المال الذي أجهد نفسه في جمعه، وبخل به حتّى على نفسه، إنّما يحميه من الموت ويورثه الخلود. [الآية 4] : كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) : لقد قابل القرآن بين كبريائه وتعاليه على الناس، وبين جزائه في الحطمة، التي تحطم كل ما يلقى إليها، فتحطم كيانه وكبرياءه. [الآية 5] : وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) ؟: سؤال للتهويل والتعظيم، أي: أي شيء أعلمك بها، فإنّ هذه الحطمة ممّا لا يحيط بها عقلك، ولا يقف على كنهها علمك، ولا يعرف حقيقتها إلّا خالقها، سبحانه وتعالى. [الآية 6] : نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) : إنّها النار التي تنسب الى الله الذي خلقها، وهي موقدة لا تخمد أبدا، ثمّ وصف هذه النار بعدة صفات فيها تناسق تصويري يتفق مع أفعال «الهمزة اللّمزة» . [الآية 7] : الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) : إنها تصل الى الفؤاد، الذي ينبعث منه الهمز واللمز، وهي تتغلّب على الأفئدة وتقهرها، فتدخل في الأجواف حتّى تصل الى الصدور فتأكل الأفئدة والقلب أشدّ أجزاء الجسم تألّما، فإذا استولت عليه النار فأحرقته فقد بلغ العذاب بالإنسان غايته. والنار لا تصل إلى الفؤاد إلّا بعد أن تأكل الجلود واللحوم والعظام، ثمّ تصل إلى القلوب، والأفئدة موطن الإحساس والاعتقاد. ومن كلمات عمر بن الخطاب للكفار: «حرق الله قلوبكم» أي أصابكم بأشدّ ألوان المحن والألم. [الآية 8] : إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) : إنّها مطبقة عليهم لا يخرجون منها ولا يستطيعون الفرار أو الهرب، قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الحج: 22] .

أهداف السورة

[الآية 9] : فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) : العمد جمع عمود وهو معروف، والممدّدة المطوّلة أي أنه أطبقها، وأغلقها في عمد طويلة تمد على أبوابها بعد أن تؤصد، وهو تصوير لشدة الإطباق وإحكامه، وتأكيد لليأس من الخلاص. قال مقاتل: إن الأبواب أطبقت عليهم، ثمّ شدت بأوتاد من حديد، فلا يفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح. اللهم أجرنا من النار، ومن عذاب النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار بفضلك يا عزيز يا غفّار. أهداف السورة 1- من الناس من يرى مثله الأعلى في جمع المال والتعالي على العباد، وهو نموذج. 2- الويل والعذاب ينتظران كلّ عيّاب وسبّاب. 3- المال نعمة من الله، ولكنّ العمل الصالح هو الوسيلة النافعة. 4- البخيل بالمال المتعالي على العباد له نار متّقدة تحرق جسمه وتصل إلى فؤاده. 5- هذه النار مغلقة عليه، يظلّ حبيسا فيها أبد الآبدين.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الهمزة"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الهمزة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الهمزة بعد سورة القيامة، ونزلت سورة القيامة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة الهمزة في ذلك التاريخ أيضا. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) . وتبلغ آياتها تسع آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة تحريم الاغترار بالمال وما يجرّه من تنقيص الناس، وهي، في هذا، تشبه السورتين المذكورتين قبلها ولهذا ذكرت بعد السورة السابقة لمناسبتها لها في سياقها. تحريم الاغترار بالمال الآيات [1- 9] قال الله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) ، فذكر أن الويل لكل عيّاب في النّاس بأفعاله أو أقواله، لأنه جمع من المال ما لم يجمعه غيره فتعالى به عليه، ثمّ هدّده بالنّبذ أي الطرح في الحطمة، وذكر أنها ناره الموقدة، وأنها تطّلع على الأفئدة، أي يبلغ ألمها إليها، وأنّها عليهم مؤصدة، أي مطبقة مغلقة فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثالث مكنونات سورة"الهمزة"

المبحث الثالث مكنونات سورة «الهمزة» «1» أخرج ابن أبي حاتم عن عثمان بن عمر قال: ما زلنا نسمع أن: 1- وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ. نزلت في أبيّ بن خلف. وأخرج عن السّدّي قال: نزلت في الأخنس بن شريق. وأخرج عن مجاهد: في جميل بن فلان» . وعن ابن جريج قال: قال ناس إنه الوليد بن المغيرة «3» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . في رواية «الطبري» 30: 189: «عن ابن أبي نجيح، عن رجل من أهل الرقة، قال: نزلت في جميل بن عامر الجمحي» . (3) . وأخرج ابن المنذر عن ابن إسحاق قال: «كان أمية بن خلف إذا رأى رسول الله (ص) همزة ولمزه، فأنزل الله تعالى وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) السورة كلها» نقله السّيوطي في «لباب النقول في أسباب النزول» ص 812 (بهامش الجلالين) .

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"الهمزة"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الهمزة» «1» 1- قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) . أقول: أصل الهمز الكسر كالهزم، واللمز: الطعن. والمراد الكسر من أعراض الناس والغضّ منهم. وبناء «فعلة» كهمزة ولمزة، يدل على أن ذلك عادة منه، فهو يهمز ويلمز الناس على دأبه وعادته. ومثله يقال: ضحكة أي: كثير الضحك على الناس. وقرئ: همزة ولمزة بسكون الميم، أي: يأتي بالأوابد والأضاحيك فيضحك منه.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"الهمزة"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الهمزة» «1» قال تعالى: الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) من «العدّة» . وقال: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) أي: هو وماله. وقال مُؤْصَدَةٌ من «أأصد» «يؤصد» وبعضهم يقول: «أوصد» فذلك لا يهمزها مثل «أوجع» فهو «موجع» ومثله «أأكف» و «أوكف» يقالان جميعا.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الهمزة"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الهمزة» «1» إن قيل: ما الفرق بين الهمزة واللّمزة؟ قلنا: قيل إنّهما بمعنى واحد لا فرق بينهما، وإنما الثاني تأكيد للأول. وقيل إنهما مختلفان، فقيل الهمزة المغتاب، واللّمزة العيّاب. وقيل الهمزة العيّاب في الوجه، واللّمزة في القفا، وقيل الهمزة الطعّان في الناس، واللمزة الطعّان في أنساب الناس. وقيل الهمزة يكون بالعين، واللمزة باللسان. وقيل عكسه، فهذه ستة أقوال.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....]

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة"الهمزة"

المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الهمزة» «1» في قوله سبحانه: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) . استعارات عدة منها قوله تعالى: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) . والحطمة اسم من أسماء النار نعوذ بالله منها. وانما سميت بذلك، والله أعلم، لكثرة أكلها للواقعين فيها يقال رجل حطمة إذا كان كثير الأكل. وهذه من صفات المبالغة. وقد يجوز أن يكون معنى ذلك أنها تحطم كلّ ما يقع فيها، أي تكسره وتأتي عليه. ومنها قوله تعالى: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) . والمراد بذلك: أنّ ألمها ومضضها «2» يصلان إلى الأفئدة والقلوب ويبلغان منها كلّ مبلغ، ويطبقان كلّ موضع، فكأنّها بذلك مطّلعة عليها ومخالطة. ويقول القائل: اطّلعت على أرض بني فلان: إذا بلغها. وقد يجوز أيضا أن يكون لذلك معنى آخر، وهو أن شعب النار تدخل من أفواههم حتّى تصل إلى أفئدتهم وقلوبهم، ويكون ذلك أبلغ في المضض وأعظم للألم، وقد قال بعضهم في ذلك معنى آخر، وهو أن يكون المراد أنّ الله تعالى يخلق في النار علما تطّلع به على معرفة ضمائر المعاقبين، فتوصل الآلام إليهم على قدر مراتبهم في الذنوب: إن كانوا من

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . من المضض: وجع المصيبة.

مفارقي الملّة، أو من يجري مجراهم من أهل القبلة. ويكون الاطّلاع هنا بمعنى العلم. كما قال تعالى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) [مريم] . والمراد: أعلم الغيب؟ ومن ذلك قول القائل اطّلعت من فلان على معنى قبيح، أو معتقد جميل، أي علمت ذلك منه. ومن استعارات هذه السورة الكريمة قوله تعالى: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) . والمراد مطبقة كما يطبق باب البيت على من فيه. يقال أصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته. ومن الاستعارات، أيضا، قوله تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف: 18] أي بالباب الذي يؤصد على أحد الأقوال. ومنها قوله تعالى: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) . وقرئ عمد بضم العين والميم، والمراد بذلك أنّها مطلّة عليهم، وثابتة لهم، كما يطل الخباء المضروب بانتصابه، ويثبت بتمديد أعماده وأطنابه ويشبه ذلك قوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الكهف: 29] وقد تكلّمنا عليه فيما تقدّم.

سورة الفيل 105

سورة الفيل 105

المبحث الأول أهداف سورة"الفيل"

المبحث الأول أهداف سورة «الفيل» «1» سورة «الفيل» سورة مكية آياتها خمس آيات نزلت بعد سورة «الكافرون» . وهي سورة تشير الى قدرة الله الغالبة، وحمايته للبيت الحرام، وقد ولد النبي (ص) عام الفيل، وكان حادث الفيل إرهاصا بميلاده، وبيانا لعناية الله بهذا البيت. قصّة أصحاب الفيل بلغت معرفة العرب لحادث الفيل، وشهرته عندهم: أنهم كانوا يؤرخون به فيقولون: ولد فلان عام الفيل، وحدث كذا لسنتين خلتا من عام الفيل، ونحو ذلك. وجملة ما تشير إليه الروايات المتعددة: أن الحاكم الحبشي لليمن، في الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة، بعد طرد الحكم الفارسي منها، ويسمّى أبرهة الأشرم، كان قد بنى كنيسة في اليمن باسم ملك الحبشة، وجمع لها كل أسباب الفخامة، ليصرف بها العرب عن حج البيت الحرام، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا، وقيل أجّجت رفقة من العرب نارا، فحملتها الريح فأحرقت الكنيسة، فغضب أبرهة، وأقسم ليهدمنّ الكعبة، فخرج من الحبشة، ومعه فيل اسمه محمود، وكان قويّا عظيما، واثنا عشر فيلا غيره وسار بجيشه إلى مكّة، وانتصر على كل من قاومه من العرب، حتى وصل إلى

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

المغمّس بالقرب من مكّة، ثم أرسل إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأت لحربهم، وإنّما أتى لهدم البيت، ففزعوا منه، وانطلقوا إلى شعف الجبال «1» ينتظرون ما هو فاعل. وأرسل أبرهة إلى سيّد مكّة ليقابله. قال ابن إسحاق: «وكان عبد المطّلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم، وهو يومئذ سيّد مكّة، فقدم الى أبرهة، فلمّا رآه أبرهة أجلّه وأعظمه، وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه. فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه إلى جانبه، ثمّ قال لترجمانه: قل له ما حاجتك؟ قال حاجتي: أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال ذلك، قال أبرهة لترجمانه قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلّمتني، أتكلّمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه لا تكلّمني فيه؟ قال له عبد المطلب: إني أنا ربّ الإبل، وإنّ للبيت ربّا سيمنعه، قال: ما كان ليمتنع مني، قال أنت وذاك، فردّ عليه إبله. ثمّ انصرف عبد المطلب الى باب الكعبة فأمسك بحلقه، وقام معه نفر من قريش، يدعون الله ويستنصرونه. فأما أبرهة، فوجّه جيشه وفيله لما جاء له، فبرك الفيل دون مكة لا يدخلها. وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا. ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده، فأرسل عليهم جماعات من الطير، تحصبهم بحجارة من طين وحجر، فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزّقة، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم، يسقط أنملة أنملة، حتى قدموا به صنعاء، فما مات حتّى انشق صدره عن قلبه، كما تقول الروايات. «وكان بين عام الفيل وبين المبعث نيّف وأربعون سنة. وكان قد بقي بمكّة من شاهد تلك الواقعة، وقد بلغت حد التواتر حينئذ، فما ذاك إلّا إرهاص للرسول (ص) » . وسئل أبو سعيد الخدري عن الطير

_ (1) . أي أعلاها.

فقال حمام مكة منها، وقيل جاءت عشية ثم صبّحتهم هلكى، وعن عكرمة: من أصابته أصابه الجدري، وهو أول جدري ظهر في الأرض. وقد ذهب الأستاذ الإمام محمد عبده الى أن الذي أهلك الجيش «هو انتشار داء الجدري والحصبة بين أفراده، وقد نشأ هذا الداء من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش، بواسطة فرق عظيمة من الطير، ممّا يرسله الله مع الريح. فهي أشبه بالميكروبات الفتّاكة التي تعصف بالجسم» . فالأستاذ الإمام يريد أن يجعل هذه المعجزة الخارقة للعادة، أمرا متّفقا مع المعهود في حياة الناس، فيرجع الهزيمة الى انتشار وباء الحصبة أو الجدري، حتّى يتسنّى له إقناع العقول، وفي الوقت نفسه يتخلّص مما ورد في بعض الروايات من المبالغة في وصف هذه الطير، والحجارة التي حملتها في رجليها وفمها. ونرى أن الأولى عدم إخضاع الآيات لمألوف الناس، وما يحدث في واقع حياتهم، لأنّ الآيات تخبر عن خارقة وقعت بقدرة الله القادر، الذي يقول للشيء كن فيكون. وإذا سلّمنا أنّ الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة، وأنّ الله أرسل طيرا غير معهودة، فإن ذلك يكون أدعى إلى تحقيق العبرة الظاهرة، المكشوفة لجميع الأنظار، في جميع الأجيال، حتّى ليمنّ الله بها على قريش بعد البعثة، ويضربها مثلا على رعاية الله لحرماته، وغيرته عليها. «فممّا يتناسق مع جو هذه الملابسات كلّها، أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود، بكلّ مقوّماته وبكلّ أجزائه. ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر، في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذّ» . ثمّ إنّ إصابة الجيش بالوباء، وعدم اصابة أحد من العرب القريبين منه، أمر خارق للعادة. وما دامت المسألة خارقة، فلم العناء لحصرها في صورة معيّنة، مألوفة للناس. مع أن السورة تفيد أنّ أمرا خاصّا، قد أرسله الله على أصحاب الفيل. إنّنا لا يجوز أن نواجه النصوص القرآنية، بمقرّرات عقلية سابقة، بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص، لنتلقّى منها مقرّراتنا الإيمانيّة، ومنها نكوّن قواعد منطقنا وتصوّراتنا.

مع آيات السورة

«وليس معنى هذا هو الاستسلام للخرافة، ولكن معناه أن العقل ليس وحده هو الحكم في مقرّرات القرآن ومتى كانت المدلولات التعبيرية مستقيمة واضحة، فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا، وكيف نصوغ منها قواعد تصوّرها ومنطقها، تجاه مدلولاتها، وتجاه الحقائق الكونية الأخرى» . مع آيات السورة [الآية 1] : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) ؟ ألم تنظر أو ألم تعلم عن الحالة التي وقع عليها عمل الله الذي يتولّى أمرك، بأصحاب الفيل، الذين حاولوا هدم البيت الحرام والخطاب هنا للرسول (ص) ، وهو، وإن لم يشهد تلك الواقعة، لكنه شاهد آثارها، وسمع بالتواتر أخبارها، فالعلم بها مساو، في قوّة الثبوت، للعلم الناشئ عن الرؤية والمشاهدة. [الآية 2] : أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) ؟ لقد دبّروا كيدا للبيت الحرام ببناء الكنيسة وصرف وجوه الحجّاج إليها، فضلّل الله كيدهم بأن أوقع الحريق فيها، وكادوه ثانيا بإرادة هدم البيت، فضلّل الله كيدهم بإرسال الطير عليهم. ومعنى تضليل كيدهم، أي إضاعته وإبطاله، يقال: ضلّل كيده إذا جعله ضالا ضائعا، ومنه قولهم لامرئ القيس: الملك الضّلّيل، لأنه ضلّل ملك أبيه أي ضيّعه. [الآية 3] : وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) أبابيل: جماعات أو طوائف على هيئة أسراب. أي أرسل الله عليهم فرقا من الطير. [الآية 4] : تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) السجّيل: الطين الذي تحجّر، أو الحجارة المحروقة، أي أرسل الله عليهم جندا من جنوده، وكم لله من جنود لا يعلمها إلا هو، لقد أرسل الله على أبرهة وجنده جيشا من الطير، أسلحتهم حجارة صغيرة في مناقيرها، ترمي الجندي بها، فتنفذ من أعلى جسمه إلى أسفله، فتنهرئ لحومهم، وتتساقط متناثرة عن أجسادهم. [الآية 5] : فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) العصف: ورق الزرع

أهداف السورة

الذي يبقى في الأرض بعد الحصاد، تفتّه الريح وتأكله المواشي. وقال الفرّاء: هو أطراف الزرع، وقيل: هو الحبّ الذي أكل لبّه وبقي قشره. ووصف العصف بأنه مأكول، أي فتيت طحين، حين تأكله الحشرات وتمزّقه، أو حين يأكله الحيوان فيمضغه ويطحنه، وهي صورة حسّية للتمزيق بفعل هذه الأحجار التي رمتهم بها جماعات الطير. وذهب مقاتل وقتادة وعطاء، عن ابن عبّاس، أن معنى «عصف مأكول» : أي نبات أكلته الدواب وصار روثا، الا أنه جاء على أدب القرآن، كقوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ [المائدة: 75] . أهداف السورة 1- بيان قدرة الله وحمايته لبيته. 2- لفت الأنظار الى ما صنعه بأصحاب الفيل. 3- لقد ضل كيدهم، وخاب سعيهم. 4- أرسل الله عليهم جماعات من الطيور في شكل أسراب. 5- أصابتهم الطير بحجارة مخلوطة بالطّين تحمل الهلاك والدمار. 6- انتهى الجيش الى ضياع وهزيمة منكرة كما ينتهي الزرع المأكول إلى روث مهمل ضائع.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الفيل"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفيل» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الفيل بعد سورة «الكافرون» ، ونزلت سورة «الكافرون» بعد سورة الماعون، ونزلت سورة الماعون بعد سورة التّكاثر، وكان نزول سورة التكاثر فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الفيل في ذلك التاريخ أيضا. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لإيرادها في قصة أصحاب الفيل، وتبلغ آياتها خمس آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة بيان قصة أصحاب الفيل من الحبشة مع قريش في مكّة، لتكون عظة لمن يغترّ بماله وقوّته من قريش، وبهذا تظهر المناسبة بين هذه السورة والسورة السابقة. قصة أصحاب الفيل [1- 5] قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) ، فذكر ما فعله بأصحاب الفيل حينما أقبلوا لتخريب الكعبة، مغترّين بقوّتهم وضعف أهل الكعبة، وأنه أرسل عليهم طيرا أبابيل أي كثيرة متفرّقة يتبع بعضها بعضا، وأنّها كانت ترميهم بحجارة من سجّيل، أي طين مطبوخ كما يطبخ الآجرّ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الفيل"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفيل» «1» ظهر لي في وجه اتّصالها: أنه تعالى لما ذكر حال الهمزة اللّمزة، الذي جمع مالا وعدّده وتعزّز بماله وتقوّى، عقّب ذلك بذكر قصّة أصحاب الفيل، الذين كانوا أشدّ منهم قوة، وأكثر أموالا وعتوّا، وقد جعل كيدهم في تضليل، وأهلكهم بأصغر الطير وأضعفه، وجعلهم كعصف مأكول، ولم يغن عنهم مالهم ولا عزّهم ولا شوكتهم، ولا فيلهم شيئا. فمن كان تعزّزه وتقوّيه بالمال وحده، وهمز الناس بلسانه، يكون أقرب إلى الهلاك، وأدنى إلى الذّلّة والمهانة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الفيل"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الفيل» «1» 1- بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) . قال سعيد بن جبير: هو أبو الكيسوم. أخرجه أبن أبي حاتم. وأخرج ابن جرير عن قتادة: أنّ قائد الجيش اسمه أبرهة الأشرم من الحبشة. 2- طَيْراً أَبابِيلَ (3) . أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد وعكرمة وغيرهما: أنها العنقاء.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الفيل"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفيل» «1» 1- قال تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) . الطير من أسماء الجمع، وهو مفرد في اللفظ. وقد وصف ب «أبابيل» وهو جمع إبّالة، وهي الحزمة الكبيرة. وشبّهت جماعات الطير بالأبابيل لتضامّها. وقيل: أبابيل مثل عبابيد وشماطيط لا واحد لها.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الفيل"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الفيل» «1» إن قيل: ما معنى «الأبابيل» ، وهل هو واحد أم جمع؟ قلنا: معناها: جماعات في تفرقة أي حلقة حلقة، وقيل: التي يتبع بعضها بعضا. وقيل: الكثيرة. وقيل: المختلفة الألوان. وقال الفرّاء وأبو عبيدة: لا واحد لها. وقيل واحدها أبال وأبيل.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

سورة قريش 106

سورة قريش 106

المبحث الأول أهداف سورة"قريش"

المبحث الأول أهداف سورة «قريش» «1» سورة «قريش» سورة مكّيّة، آياتها أربع آيات، نزلت بعد سورة «التين» . وهي امتداد لسورة الفيل، فقد حفظ الله هذا البيت من كيد المعتدين «وكان لحادث الفيل أثر مضاعف، في زيادة حرمة البيت عند العرب في أنحاء الجزيرة جميعها، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين: حيثما حلّوا، وجدوا الكرامة والرعاية. وشجّعهم ذلك على إنشاء خطّين عظيمين من خطوط التجارة، عن طريق القوافل، إلى اليمن في الجنوب، وإلى الشام في الشمال، وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين: إحداهما إلى اليمن في الشتاء، والثانية إلى الشام في الصيف» . وكانت حالة الأمن مضطربة في شعاب الجزيرة، يفتخر الناس فيها بالصعلكة والسلب والإغارة والنهب، ويعتدون على قوافل التجارة إلّا أنّ حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرانه الأمن والسلامة، وجعلت لقريش منزلة ظاهرة بين العرب، وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول في أمان وسلامة وطمأنينة، وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين، فصارتا لهم عادة وإلفا. وقد امتنّ الله على قريش بحادثة الفيل وحماية البيت، وامتن عليهم بالأمان والحماية لهم، وسعة الرزق ورغد العيش من ربح التجارة، وبلادهم قفرة، وهم طاعمون هانئون من فضل الله.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع آيات السورة

مع آيات السورة لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) . المفردات لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إلاف الشيء وإلفه لزومه والعكوف عليه، وقريش اسم للقبائل العربية من ولد النّضر بن كنانة، وأصل الكلمة تصغير للقرش، وهو نوع من السمك مشهور، ويمتاز بقوّته على سائر الأسماك، كما امتازت قريش على سائر القبائل لخدمة البيت الحرام. رِحْلَةَ الشِّتاءِ كانت إلى اليمن. وَالصَّيْفِ أي ورحلة الصيف وكانت إلى الشام يتاجرون فيها ويمتارون. المعنى: ألفت قريش واعتادت، أن ترحل إلى ما جاورها من البلاد، سعيا وراء الرزق، وجلبا لمعايشهم، وترويجا لتجارتهم. والله سبحانه يمتنّ عليهم بذلك، ويقول لهم: من أجل إيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا ربّ هذا البيت، الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة، وتنال من ورائها ما تنال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وأنقذهم من المجاعات التي تنزل بهم وبأمثالهم من سكان البراري، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ العدو، أو كوارث الحياة. وكان الأصل بحسب ما هم فيه من ضعف، وبحسب حالة البيئة، من حولهم، أن يكونوا في خوف، فآمنهم من هذا الخوف. فليشكر قومك يا محمد ربّهم على هذه النعم، وليؤمنوا بربوبيّته، وليقرّوا بعبوديّتهم، وليعبدوه بما هو أهل له من العبادة. وقريب من هذه السورة قوله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) [القصص] . أهداف السورة 1- من نعم الله على قريش أن منحهم الهيبة والأمان، فألفوا رحلة الشتاء والصيف.

2- من الواجب أن يعترفوا بفضل الله عليهم في حماية بيته، وحماية تجارتهم. 3- يجب عليهم أن يعبدوا ربّهم وأن يستجيبوا لدعوة النبيّ الكريم، فإنّه رسول رب العالمين.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"قريش"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «قريش» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة قريش بعد سورة التين، ونزلت سورة التين فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة قريش في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) وتبلغ آياتها أربع آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة الامتنان على قريش برحلة الشتاء والصيف للتجارة، وقد جعلوا ممّا جمعوا بها من المال سبب بطر، فلم يقوموا لله بحقه عليهم فيها، وبهذا يتصل سياق هذه السورة بسياق ما قبلها من السور، وتظهر المناسبة في ذكرها بعد سورة الفيل، فضلا عن أنها تتعلّق بقريش أيضا. الامتنان على قريش برحلة الشتاء والصيف الآيات [1- 4] قال الله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) ، فامتنّ عليهم بإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، وكانت رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام ثمّ أمرهم أن يعبدوا ربّ هذا البيت أي الكعبة: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"قريش"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «قريش» «1» هي شديدة الاتصال بما قبلها، لتعلّق الجار والمجرور في أوّلها بالفعل في آخر تلك «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . نقله السيوطي عن السخاوي في كتاب جمال القراء عن جعفر الصادق، وأبي نهيك. وقال: وأخرج الحاكم والطّبراني من حديث أم هانئ أن رسول الله (ص) قال: فضل الله قريشا بسبع.. وأن الله أنزل فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها معهم غيرهم: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) . ومع ذلك فصلة قريش بالفيل قائمة. فكأن ما فعل الله بأصحاب الفيل لإيلاف قريش، ولتأمين طريق تجارتهم في رحلتي الشتاء والصيف. وقد كان من أهداف أبرهة السياسية حرمان قريش من تجارتهم هذه.

المبحث الرابع مكنونات سورة"قريش"

المبحث الرابع مكنونات سورة «قريش» «1» 1- رِحْلَةَ الشِّتاءِ [الآية 2] . إلى اليمن. 2- وَالصَّيْفِ (2) . إلى الشام «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....] (2) . انظر تفسير الطبري 30: 199 وتفسير ابن كثير 4: 553.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"قريش"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «قريش» «1» 1- قال تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) . والمعنى: لتؤالف قريش الرحلتين فتتصلا ولا تنقطعا. واللام متصلة بالسورة التي قبلها، أي: أهلك الله أصحاب الفيل، لتؤالف قريش رحلتيها بأمان. أقول: والإيلاف بهذه الخصوصية من الكلم الخاص ذات الفائدة التاريخية، لصلتها بأحداث خاصّة في حقبة معينة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"قريش"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «قريش» «1» لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) أي: فعل ذلك لإيلاف «2» قريش [أي] لتألّف «3» ، ثم أبدل فقال: إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . كلامه مبني على الرأي القائل بكون السورتين متصلتين انظر معاني القرآن 3: 293، والجامع 20: 200، وقد نقله في المشكل 2: 845، والبحر 8: 513، وإعراب القرآن 3: 540. (3) . هي في الجامع 20: 200 لتأتلف. وهي أوضح مفادا من «لتألّف» .

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"قريش"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «قريش» «1» إن قيل: بأي شيء تتعلق اللام في قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) ؟ قلنا: قيل إنها متعلّقة باخر السورة التي قبلها: أي فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش والمعنى أنه أهلك أصحاب الفيل الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك فيهابوهم ويحترموهم، فينتظم لهم الأمر في رحلتهم ولا يجترئ أحد عليهم. وقيل معناه أهلكهم لتألف قريش رحلة الشتاء والصيف بهلاك من كان يخيفهم ويمنعهم. وقيل إنها متعلقة بما بعدها، وهو قوله تعالى: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، معناه أنّ نعم الله تعالى عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الظاهرة. وقيل هي لام التعجب معناه أعجبوا لإيلاف قريش وذلك نظير اللّام التي ابتدأ بها أبو العلاء المعري بيتا من اللزوميات وعلّقها بمقدّر. يقول في هذا البيت: لأمواه الشبيبة كيف غضنه وروضات الصّبا في اليبس إضنه أي: أعجب لأمواه الشبيبة ... وكانت لقريش في كل سنة رحلتان للتجارة التي بها معاشهم، رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام. ثم قيل الإيلاف هنا مصدر بمعنى الإلف، تقول: آلفته إيلافا بالمد، كما تقول: ألفته إلفا بالقصر

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

كلاهما متعدّ إلى مفعول واحد، فيكون لإيلاف قريش لإلف قريش: أي لحبّهم الرحلتين. وقيل آلف بالمد متعدّ إلى مفعولين، يقال ألف زيد المكان وآلف زيد عمرا المكان، فيكون معنى الآية لإيلاف الله تعالى قريشا الرحلتين فعلى هذا الوجه يكون المصدر مضافا إلى المفعول، وعلى الوجه الأول يكون مضافا إلى الفاعل. وأما تكرار إضافة المصدر في قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ فقيل إنّ الثاني بدل من الأول. وقيل إنه للتأكيد كما تقول: أعطيتك المال لصيانة وجهك، صيانته عن ذل السؤال.

سورة الماعون 107

سورة الماعون 107

المبحث الأول أهداف سورة"الماعون"

المبحث الأول أهداف سورة «الماعون» «1» سورة «الماعون» سورة مكّيّة باياتها الثلاث الأولى، ومدنية بالآيات الأخر، وهي أربع آيات نزلت بعد سورة «التكاثر» . وهي سورة ذات معنى أصيل في الشريعة، تعالج حقيقة ضخمة مضمونها: أنّ هذا الدين ليس مظاهر وطقوسا، ولكنه عقيدة صادقة، ويقين ثابت، وإخلاص لله. ويتمثّل هذا اليقين بسلوك نافع، وحياة مستقيمة. كما أن هذا الدين ليس أجزاء وتفاريق موزّعة منفصلة، وإنما هو منهج متكامل، تتعاون عباداته وشعائره في تحقيق الخير للفرد والجماعة. مفردات السورة أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) : الخطاب موجّه للنبيّ ابتداء، والمراد بالدّين الحساب والجزاء. يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) : يظلمه ويمنعه حقّه، أو يزجره وينهره لو قصده لعون أو مساعدة. يَحُضُّ: الحضّ هو الحثّ على الشيء والترغيب فيه بشدّة. فَوَيْلٌ: الويل الهلاك والعذاب، وقيل اسم لواد في جهنّم شديد العذاب. الْماعُونَ (7) : المراد بالماعون الزكاة، ومن معانيه المعروف والماء، وكل ما ينتفع به، أو كل مستعار بين

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع آيات السورة

الجيران من فأس وقدر ودلو، ونحو ذلك. مع آيات السورة [الآية 1] : أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) أي هل عرفت ذلك الذي يكذّب بما وراء إدراكه من الأمور الإلهية، والشؤون الغيبية بعد أن ظهر له الدليل القاطع، والبرهان الساطع. قال ابن جريج: نزلت في أبي سفيان، كان ينحر جزورين في كل أسبوع، فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بعصاه، وقال مقاتل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة، والإتيان بالأفعال القبيحة. وعن السّدّي: نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل: في أبي جهل. وحكى الماوردي: أنه كان وصيّا ليتيم فجاءه وهو عريان، يسأله شيئا من مال نفسه، فدفعه ولم يعبأ به، فأيس الصبي. فقال له أكابر قريش استهزاء: قل لمحمّد يشفع لك، فجاء الى النبي (ص) والتمس منه الشفاعة، وكان النبي (ص) لا يردّ محتاجا، فذهب معه الى أبي جهل، فقام أبو جهل ورحّب به وبذل المال لليتيم، فعيّرته قريش وقالوا له صبأت. فقال لا والله ما صبأت، ولكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة، خفت، إن لم أجبه، أن يطعنها فيّ. وقال كثير من المفسّرين: إنّه عامّ لكلّ من كان مكذّبا بيوم الدين. [الآية 2] : فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) ، أي فذلك المكذّب بالدّين هو الذي يدعّ اليتيم، ويزجره زجرا عنيفا، لقد خلا قلبه من الرحمة، وامتلأ بالكبر والغطرسة، ولذلك أهان اليتيم وآذاه، واليتم مظهر من مظاهر الضعف، فقد فقد الأب الذي يحميه، والعائل الذي يحنو عليه، ومن واجب المجتمع أن يتعاون على إكرامه، والأخذ بيده حتى ينشأ عزيزا كريما. إن كل فرد معرّض لأن يفاجئه الموت وأن يترك أولاده يتامى، فليعامل اليتيم بما يحب أن يعامل به أولاده لو كانوا يتامى. قال تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (9) [النساء] . وقد تكرّرت وصايا القرآن برعاية اليتيم، والمحافظة على ماله، والتحذير من تضييع حقّه، ورد ذلك في السور

المكّيّة والسور المدنيّة. ففي هذه الآيات، وفي سورة الضحى، وهي من أوائل ما نزل من القرآن، وصيّة باليتيم. وفي صدر سورة النساء المدنيّة تفصيل واف لرعاية اليتيم، بدأ بقوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) . وقد وردت عدّة وصايا باليتيم في الآية السادسة، والعاشرة، والسادسة والعشرين من سورة النساء. كما تكررت الوصيّة باليتيم في آيات القرآن، وأحاديث النبي (ص) . فقال عليه الصلاة والسلام: «خير بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه» . [الآية 3] : وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) أي ولا يحث غيره على إطعام المساكين، قال الإمام محمد عبده: «وهو كناية عن الذي لا يجود بشيء من ماله على الفقير، المحتاج إلى القوت الذي لا يستطيع كسبا» . وليس المساكين هو الذي يطلب منك أن تعطيه وهو قادر على قوت يومه، بل هذا هو الملحف الذي يجوز الإعراض عنه، وتأديبه بمنعه ما يطلب، وإنما جاء بالكناية ليفيدك أنه إذا عرضت حاجة المساكين، ولم تجد ما تعطيه، فعليك أن تطلب من الناس أن يعطوه، وفيه حثّ للمصدّقين بالدين على إغاثة الفقراء ولو بجمع المال من غيرهم، وهي طريقة الجمعيات الخيرية، فأصلها ثابت في الكتاب بهذه الآية، وبنحو قوله تعالى في سورة الفجر: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) . ونعم الطريقة هي لإغاثة الفقراء، وسد شيء من حاجات المساكين. «إن حقيقة التصديق بالدين ليست كلمة تقال باللسان، وإنّما هي تحوّل في القلب، يدفعه الى الخير والبر بإخوانه في البشرية، المحتاجين إلى الرعاية والحماية، والله لا يريد من الناس كلمات، إنّما يريد منهم معها أعمالا تصدقها، وإلا فهي هباء، لا وزن لها عنده ولا اعتبار. وليس أصرح من هذه الآيات الثلاث، في تقرير هذه الحقيقة، التي تمثّل روح هذه العقيدة، وطبيعة هذا الدين أصدق تمثيل» . [الآيتان 4- 5] : فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) أي إذا عرفت أن المكذّب

بالدين هو الذي أقفر قلبه من الرحمة، وأجدب من العدل والمكرمة، «فويل لأولئك الذين يصلّون، ويؤدّون ما يسمى صلاة في عرفهم من الأقوال والأفعال، وهم مع ذلك ساهون عن صلاتهم، أي غافلة قلوبهم عمّا يقولون وما يفعلون، فهو يركع في ذهول عن ركوعه، ويسجد في لهو عن سجوده» . وإنّما هي حركات اعتادها، وأدعية حفظها، ولكنّ قلبه لا يعيش معها، ولا يعيش بها، وروحه لا تستحضر حقيقة الصلاة، وحقيقة ما فيها. [الآية 6] : الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) أي يفعلون ما يرى للناس فقط، ولا يستشعرون من روح العبادة ما أوجب الله على النفوس أن تستشعره. «إنّهم يصلّون رياء للنّاس لا إخلاصا لله، هم ساهون عن صلاتهم وهم يؤدّونها، ساهون عنها لم يقيموها، والمطلوب هو إقامة الصلاة لا مجرد أدائها، وإقامتها لا تكون إلّا باستحضار حقيقتها، والقيام لله وحده بها» . [الآية 7] : وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) أي يمنعون المساعدة عن المستحقّ لها، أو يمنعون ما اعتاد الناس قضاءه وتداوله فيما بينهم، تعاونا وتازرا، ولا يمنعه إلا كلّ شحيح يكره الخير. «إنّهم يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم في البشريّة، يمنعون الماعون عن عباد الله، ولو كانوا يقيمون الصلاة حقّا لله، ما منعوا العون عن عباده، فهذا هو محك العبادة الصادقة المقبولة عند الله» . «وأكثر المفسّرين على أنّ الماعون اسم جامع لما لا يمنع في العادة، ويسأله الفقير والغني في أغلب الأحوال، ولا ينسب سائله إلى لؤم، بل ينسب مانعه إلى اللؤم والبخل، كالفأس والقدر والدلو والغربال والقدّوم، ويدخل فيه الماء والملح والنار، لما روي: ثلاثة لا يحل منعها: الماء والنار والملح. وقد تسمّى الزّكاة ماعونا، لأنه بسببها يؤخذ من المال ربع العشر، وهو قليل من كثير. قال العلماء: ومن الفضائل أن يستكثر الرجل في منزله ممّا يحتاج إليه الجيران، فيعيرهم ذلك، ولا يقتصر على قدر الضرورة، وقد يكون منع هذه الأشياء محظورا في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار» . إن الشرائع السماوية إنّما أنزلت

أهداف السورة

لتهذيب الضمير، ونقاء القلوب، وصفاء النفوس، وتقويم السلوك، وبذلك تسمو الحياة، ويسود الحب والتالف، والإخاء والتكافل الجميل. أهداف السورة 1- الدين ليس رسوما وطقوسا، ولكنه عقيدة صادقة وسلوك مستقيم. 2- الدين الحق صلاة خاشعة، ورعاية لليتيم، وحماية للمساكين، ومساعدة للمحتاجين. 3- المكذّب بالدين له سمات وصفات هي: إذلاله لليتيم، عدم رحمة المساكين، الانشغال عن الصلاة، الرياء والنفاق، منع العون والمعونة عن المحتاج إليها.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الماعون"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الماعون» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الماعون بعد سورة التكاثر، ونزلت سورة التكاثر فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الماعون في ذلك التاريخ أيضا. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في آخرها: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) . والماعون هو الزكاة. وقيل العارية، وقيل ما لا يحلّ منعه مثل الماء والملح والنار وأشباه ذلك، وتبلغ آياتها سبع آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة ذم البخل بالمال، وبيان أنه لا فائدة معه في الصلاة، وبهذا تشبه هذه السورة ما قبلها من السور في سياقها، وهذا هو وجه ذكرها بعد سورة قريش. ذم البخل بالمال الآيات [1- 7] قال الله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) ، فسأل بهذا عن الذي يكذّب بالدّين، وأجاب بأنه الذي يدعّ اليتيم أي يدفعه بعنف وجفوة عن حقّه، أو يترك مواساته، ولا يحضّ على طعام المساكين، ثمّ هدد من يصلّي مع هذا الإثم، وذكر أنهم بصلاتهم يراءون وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الماعون"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الماعون» «1» أقول لما ذكر تعالى في سورة قريش: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ [الآية 4] . ذكر هنا ذمّ من لم يحضّ على طعام المساكين. ولما قال هناك: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) [قريش] ، ذكر هنا من سها عن صلاته «2» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . أقول: إن السورة بكاملها تسير مع الخط الذي يبدأ من سورة الزلزلة كما قلنا. فهي ترشد إلى الطريق لاستعمال المال، وبذله في عون اليتامى، وإطعام المساكين، وذلك من طريق التحذير من إهمال هذا الطريق، وتسمية مانع العون مكذّبا بالدّين.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الماعون"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الماعون» «1» 1- أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) . الجزاء والحساب، أي: هل عرفته.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"الماعون"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الماعون» «1» قال تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي [الآية 1] تقرأ بالهمز وغير الهمز «2» وهما لغتان، تحذف الهمزة لكثرة استعمال هذه الكلمة. وقال: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) أي: «يدفعه عن حقّه» تقول: «دععته» «أدعّه» «دعّا» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . هي قراءة الكسائي كما في المشكل 2: 847، وإعراب ابن خالويه 201.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الماعون"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الماعون» » إن قيل: لم توعّد الله الساهي عن الصلاة، والحديث ينفي مؤاخذته، وهو قوله (ص) «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان» ؟ قلنا: المراد بالسهو هنا التغافل عنها، والتكاسل في أدائها، وقلّة الالتفات إليها وذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشياطين من المسلمين وليس المراد ما يتفق فيها من السهو بوسوسة الشيطان أو حديث النفس ممّا لا صنع للعبد فيه ولا اختيار، وهو المراد في الحديث. وكان النبي (ص) يقع له السهو في صلاته فضلا عن غيره، ولهذا قال تعالى: عَنْ صَلاتِهِمْ [الآية 5] ولم يقل في صلاتهم، وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....]

سورة الكوثر 108

سورة الكوثر 108

المبحث الأول أهداف سورة"الكوثر"

المبحث الأول أهداف سورة «الكوثر» «1» سورة «الكوثر» سورة مكّيّة، آياتها ثلاث، نزلت بعد سورة «العاديات» . وهي سورة خالصة لرسول الله (ص) ، فقد كان أعداؤه يملكون المال والجاه والسلطان، ويعيّرونه بأنّ أتباعه من الفقراء، وكانوا يرون أن أبناءه الذكور يموتون صغارا، فيعيّرونه بأنه أبتر، لا عقب له من الذكور، وكانت هذه الأقاويل تلقى من يستمع إليها ويردّدها، في بيئة تئد البنات، وتحتكم إلى السيف والقوّة، وترى الفقر سبّة ومنقصة، فنزلت هذه السورة تدافع عن النبي الكريم، وتفيد أن الله أعطاه من الخير الكثير، لقد أعطاه الله النبوّة والهدى، وأيّده بالصحابة الأوفياء، وجعل سيرته عطرة منتشرة، وشريعته باقية خالدة، وآلاف الملايين تردد ذكره، وتشهد له بالرسالة: وضمّ الإله اسم النبيّ إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد وشقّ له من اسمه ليجلّه ... فذو العرش محمود وهذا محمّد المفردات الْكَوْثَرَ (1) : الخير الكثير. فَصَلِّ لِرَبِّكَ: فاعبد ربك الذي أعزك وشرفك. وَانْحَرْ (2) : لوجهه وباسمه إذا نحرت، مخالفا لعبدة الأوثان. شانِئَكَ: مبغضك.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع آيات السورة

الْأَبْتَرُ (3) : المنقطع من كل خير. مع آيات السورة [الآية 1] : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) ، والكوثر صيغة مبالغة من الكثرة، ومعناه الشيء البالغ من الكثرة حدّ الإفراط. وهو مطلق غير محدود. ورد أن سفهاء قريش، ممّن كانوا يتابعون الرسول (ص) ودعوته بالكيد والمكر، وإظهار السخرية والاستهزاء، من أمثال العاص بن وائل، وعقبة بن أبي معيط، وأبي لهب، وأبي جهل وغيرهم، كانوا يقولون عن النبي (ص) أنه أبتر، يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده، وقال أحدهم: دعوه فإنه سيموت بلا عقب، وينتهي أمره. فنزلت هذه السورة لتشير الى عطاء الله للنبيّ الكريم، وهو عطاء كثير لا حدّ له. وقد وردت روايات من طرق كثيرة، تفيد أن الكوثر نهر في الجنة، أوتيه رسول الله (ص) . «وأخرج البخاري وابن جرير والحاكم وابن عساكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رض) أنه قال: «الكوثر الخير الذي أعطاه الله تعالى إيّاه» . قال أبو بشر، قلت لسعيد: فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة، قال: النهر الذي في الجنة، من الخير الذي أعطاه الله عز وجل إيّاه، عليه الصلاة والسلام ويروى هذا الجواب عن ابن عباس نفسه أيضا» . وفي تفسير النيسابوري أنه وردت عدة أقوال في معنى الكوثر، القول الأول: الخير الكثير، إلّا أن أكثر المفسّرين خصّوه فحملوه على أنه نهر في الجنة. القول الثاني: أنّ الكوثر أولاده من نسل فاطمة، أي أن الله يعطيه منها نسلا يبقون إلى آخر الزمان. القول الثالث: الكوثر علماء أمته فهم رحمة إلى يوم القيامة. وروي أن الكوثر هو النبوّة والرسالة، وكونه خاتم المرسلين. كما روي أنّ الكوثر هو تيسير القرآن وتخفيف الشرائع، وقيل هو الإسلام، وقيل هو التوحيد، وقيل هو العلم والحكمة، وقيل هو الفضائل الكثيرة التي وهبه الله تعالى إيّاها. «فقد أسرى به ليلا، وانشقّ له

مقصود الصورة

القمر، وكثر الزاد ببركة دعائه، وأطعم الخلق الكثير من الطعام القليل، وأعطاه الله القرآن هدى ورحمة للعالمين» . [الآية 2] : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) أي فاجعل صلاتك لربك وحده، وانحر ذبيحتك ذاكرا اسم الله، مخلصا لله في صلاتك ونحرك. كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) [الأنعام] . «والأكثرون على أن المقصود بالصلاة هنا جنس الصلاة، لإطلاق اللفظ، وقال الآخرون إنّها صلاة عيد الأضحى، لاقترانها بقوله تعالى وَانْحَرْ (2) وكانوا يقدّمون الأضحية على الصلاة فأمروا بتأخيرها عنها، والواو تفيد الترتيب استحسانا وأدبا وان لم تفده قطعا» . [الآية 3] : إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) أي أن مبغضك كائنا من كان، هو المقطوع ذكره من خير الدنيا والاخرة. إنّهم لم يبغضوه لشخصه فقد كان الصادق الأمين، ولكنهم أبغضوه لما يحمله لهم من الرسالة والهدى، فاثروا أهواءهم، وتخبّطوا في ضلالهم، حتى خذلهم الله وقطع أثرهم «فقد جرّهم الخذلان الى غاية الخسران، ولم يبق لهم إلّا سوء الذكر لبعضهم، والنسيان التام لبقيتهم، بخلاف النبي (ص) ، ومن اهتدى بهديه، فإن ذكرهم لا يزال رفيعا، وأثرهم لا يزال باقيا في نفوس الصالحين» . مقصود الصورة 1- أعطى الله محمدا (ص) الخير الكثير، فرفع ذكره وأعلى شأنه، ونصر دعوته، وبارك في أمّته. 2- ينبغي إخلاص الصلاة والعبادة والنحر لله سبحانه وتعالى. 3- من أبغض النبي ودعوته انقطع أثره وباء بالخذلان، بينما بقي ذكر النبي (ص) ودعوته على مرّ الأزمان.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الكوثر"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الكوثر» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الكوثر بعد سورة العاديات، ونزلت سورة العاديات فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الكوثر في ذلك التاريخ أيضا. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) وتبلغ آياتها ثلاث آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة تفضيل أمر الدّين على المال والولد، وقد فضّل في هذه السورة ما أعطيه النبي (ص) من ذلك، على المال والولد، الذي كانت تتفاخر قريش به وتحرص عليه، ولهذا أمره بعد الامتنان عليه بذلك بالصلاة شكرا عليه، وببذل المال الذي أعطي أفضل منه، فالمناسبة بين هذه السورة وسورة قريش ما بينهما من هذه المقابلة، وقد ذكرت بينهما سورة الماعون للمناسبة السابقة. تفضيل الدين على المال والولد الآيات [1- 3] قال الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فامتنّ على النبي (ص) بأنه أعطاه الكوثر، وهو الدّين الكثير النفع، ثمّ أمره أن يصلّي له شكرا عليه وينحر للفقراء، حتى لا يكون مثل من

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

يصلي ويمنع الماعون في السورة السابقة، ثم ختم السورة ببيان أن ما أعطيه من ذلك يخلد له من الذّكر ما لا يخلده المال والولد الذي كانت قريش تقول عن النبي إنه أبتر بسببه، فقال تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الكوثر"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الكوثر» «1» قال الإمام فخر الدين: هي كالمقابلة قبلها، لأن السابقة وصف الله سبحانه فيها المنافقين بأربعة أمور: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة. وذكر في هذه السورة في مقابلة البخل: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) أي: الخير الكثير. وفي مقابلة ترك الصلاة: فَصَلِّ أي دم عليها. وفي مقابلة الرياء: لِرَبِّكَ. أي: لرضاه، لا للناس. وفي مقابلة منع الماعون: وَانْحَرْ وأراد به: التّصدّق بلحوم الأضاحي. قال فاعتبر هذه المناسبة العجيبة.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الكوثر"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الكوثر» «1» فسّر: 1- الْكَوْثَرَ. في الأحاديث الصحيحة المتواترة بأنّه نهر في الجنة «2» . 2- إِنَّ شانِئَكَ. قال ابن عبّاس: هو أبو جهل. وقال عطاء: هو أبو لهب. وقال عكرمة: العاصي بن وائل. وفي رواية عن ابن عبّاس: كعب بن الأشرف. وقال شمر بن عطية: عقبة بن أبي معيط. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . روى مسلم (400) في الصلاة، وأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينا رسول الله (ص) ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسّما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: «أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» (3) ثم قال: «أتدرون ما الكوثر» فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنّه نهر وعدنيه ربّي عز وجل، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: «رب، إنّه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك» . انظر في شرح أحاديث الكوثر: «فتح الباري» للحافظ ابن حجر 8: 731، و «شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد» للسّفّاريني 1: 533 و 2: 256.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"الكوثر"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الكوثر» «1» قال تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) تقول: «شنئته» ف «أنا أشنؤه شنآنا» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الكوثر"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الكوثر» «1» إن قيل: ما الكوثر؟ قلنا: فيه قولان: أحدهما، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، أنه الخير الكثير: «فوعل» من الكثرة كقولهم: رجل نوفل: أي كثير النوافل، ومنه قول الشاعر: وأنت كثير يا ابن مروان طيّب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا قيل لأعرابية رجع ابنها من سفر: كيف آب ابنك؟ قالت آب بكوثر. ولقد أعطي النبي (ص) خيرا كثيرا، فإنه أوتي الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. ومنهم من فسّر هذا الخير الكثير بالنبوّة، ومنهم من فسّره بالعلم والحكمة، ومنهم من فسّره بالقرآن. والقول الثاني: أن الكوثر اسم نهر في الجنّة، وهو قول أكثر المفسّرين، وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله (ص) أنه قال: «الكوثر نهر وعدنيه ربّي في الجنّة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة» وعنه (ص) أيضا في الحديث أنه قال: «بينا أنا أسير في الجنّة فإذا بنهر حافّتاه قباب اللؤلؤ المجوّف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربّك، فضرب الملك بيده فإذا طينه المسك الأذفر «2» » ، وروي عن صفته أنه أحلى من العسل، وأشدّ بياضا من اللّبن،

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. (2) . المسك الأذفر: ذو الرائحة الشديدة.

وأبرد من الثلج، وألين من الزّبد، حافّتاه الزّبرجد «1» ، وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء، لا يظمأ من شرب منه أبدا» .

_ (1) . الزّبرجد: حجر كريم.

سورة الكافرون 109

سورة الكافرون 109

المبحث الأول أهداف سورة"الكافرون"

المبحث الأول أهداف سورة «الكافرون» «1» سورة «الكافرون» سورة مكية، آياتها 6 آيات، نزلت بعد سورة الماعون. وهي سورة تصدح بالحقيقة، وترفض أنصاف الحلول، وتعلن أنّ الإسلام إسلام، وأنّ الكفر كفر، ولن يلتقيا. أسباب النزول روي أن الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد المطلب، وأميّة بن خلف، في جماعة آخرين، من صناديد قريش وساداتهم، أتوا النبي (ص) فقالوا له: هلمّ يا محمّد، فاتّبع ديننا ونتّبع دينك، ونشركك في أمرنا كلّه تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة فإن كان الذي جئت به خيرا، كنّا قد شاركناك فيه، وأخذنا حظا منه وإن كان الذي بأيدينا خيرا، كنت قد شاركتنا في أمرنا، وأخذت حظّك منه. فقال معاذ الله أن نشرك به غيره وأنزل الله تعالى، ردّا على هؤلاء، هذه السورة فغدا رسول الله (ص) إلى المسجد الحرام، وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم ثم قرأ عليهم، حتى فرغ من السورة، فيئسوا منه، وآذوه وصحبه، حتى اضطرّ الى الهجرة الى المدينة «2» . المفردات ما تَعْبُدُونَ (2) : من الأصنام وغيرها.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. (2) . انظر تفسير الطبري 30: 214

فكرة السورة

دِينُكُمْ: أي الشرك بعبادة الأصنام. وَلِيَ دِينِ (6) : دين التوحيد. فكرة السورة لم يكن العرب يجحدون الله سبحانه، ولكن كانوا لا يعرفونه بحقيقته التي وصف بها نفسه، وهي أحد فرد صمد. فكانوا يشركون به، ولا يعبدونه حقّ عبادته كانوا يشركون به هذه الأصنام، التي يرمزون بها إلى أسلافهم من الصالحين أو العظماء، أو يرمزون بها إلى الملائكة، ويقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] . وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم (ع) وأنّهم أهدى من أهل الكتاب، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة. ولحسم هذه الشبهات، نزلت هذه السورة بهذا الجزم، وبهذا التوكيد، توضح أنّهم كافرون مشركون، قد نبذوا التوحيد، وخرجوا عن جادّة الصواب فلن يعبد النبي (ص) ما يعبدون من أصنام وأوثان. قال تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) [الزمر] . مع آيات السورة [الآية 1] : قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) : قل لهم يا أيّها الكافرون، نادهم باسمهم وحقيقتهم، وصفهم بوصفهم، أنهم ليسوا على دين وليسوا بمؤمنين، وإنّما هم كافرون. [الآية 2] : لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) : فعبادتي غير عبادتكم، ومعبودي غير معبودكم، وأنا لا أعبد أصنامكم، ولا أسجد لآلهتكم، وإنما أعبد إلها واحدا منزّها عن النظير المثيل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى] . [الآية 3] : وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وإنّكم لكاذبون في دعواكم أنّكم تعبدون الله، لأنّ الذي تزعمونه ربّا تتّخذون له الشفعاء، وتجعلون له زوجة من الجن تلد له الملائكة «2» ،

_ (2) . قال تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) [الصافات] . وقال سبحانه: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) [الزخرف] .

وتنسبون إليه ما يتنزّه عنه الله سبحانه. فهذا الذي تعبدونه لن يكون إلها مستحقا للعبادة. [الآية 4] : وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) : تكرير وتوكيد للفقرة الأولى، في صيغة الجملة السمية، وهي أدلّ على ثبات الصّفة واستمرارها، وقد كرّر نفي عبادته آلهتهم، قطعا لأطماعهم وتيئيسا لهم. [الآية 5] : وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) تكرار لتوكيد الفقرة الثانية، كي لا تبقى مظنّة ولا شبهة ولا مجال لمظنة أو شبهة بعد هذا التوكيد المكرر، بكلّ وسائل التكرار والتوكيد. قال أبو مسلم الأصفهاني معناه: (لا أنا عابد عبادتكم، ولا أنتم عابدون عبادتي) . وخلاصة ما سلف: الاختلاف التام في المعبود، والاختلاف البيّن في العبادة، فلا معبودنا واحد، ولا عبادتنا واحدة. عبادتي خالصة لله وحده، وعبادتكم مشوبة بالشرك، مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى: فلا تسمّى على الحقيقة عبادة. [الآية 6] : لَكُمْ دِينُكُمْ. مختصّ بكم لا يتعدّاكم إليّ، فلا تظنّوا أني عليه، أو على شيء منه. وَلِيَ دِينِ (6) أي ديني هو دين خاصّ بي، وهو الذي أدعو إليه، ولا مشاركة بينه وبين ما أنتم عليه. خلاصة السورة 1- إنّ التوحيد منهج، والشرك منهج آخر، ولا يلتقيان. 2- المؤمن لا يسجد للصنم، ولا يعبد ما يعبده الكافر. 3- الكافر لا يعبد الله، بل ضلّ طريقه إلى عبادته. 4- المؤمن واضح صادق، فلن يعبد عبادة الكافر، كما أنّ الكافر لا يعبد عبادة المؤمن. 5- سيلقى المؤمن ثوابه وسيلقى الكافر جزاءه.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الكافرون"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الكافرون» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة «الكافرون» بعد سورة الماعون، ونزلت سورة الماعون، فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة «الكافرون» في ذلك التاريخ أيضا. وكان رهط من قريش ذهبوا إلى النبي (ص) فقالوا له: يا محمد، هلمّ اتّبع ديننا ونتّبع دينك. فنزلت هذه السورة في شأنهم. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وتبلغ آياتها ست آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السور متاركة الكفار، بعد أن ذهبت السورة السابقة في دعوتهم كلّ مذهب، فهي كالختام للسور التي ذكرت قبلها، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها. متاركة الكفار الآيات [1- 6] قال الله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) فأمر النبي (ص) أن يخبرهم بأنه لا يعبد ما يعبدون، وأنهم لا يعبدون ما يعبد، وكرّر هذا مرة ثانية توكيدا له، ثم ختمه بقوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الكافرون"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الكافرون» «1» أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما قال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ [الكوثر: 2] ، أمره أن يخاطب الكافرين بأنه لا يعبد إلا ربّه، ولا يعبد ما يعبدون، وجاء التكرار توكيدا لذلك، وانفصل الرسول (ص) منهم، على أن لهم دينهم وله دينه.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. [.....]

المبحث الرابع مكنونات سورة"الكافرون"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الكافرون» «1» 1- نزلت في الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، وأميّة بن خلف. كما أخرجه ابن أبي حاتم «2» عن سعيد بن ميناء «3» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . والطبري في «تفسيره» 30: 214. (3) . سعيد بن ميناء المكّي، ويقال: المدني أبو الوليد مولى البختري بن أبي ذباب، روى عن عبد الله بن الزبير، وجابر، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة: وعنه ابن إسحاق، وأيوب السختياني، وعدة. وثّقه النّسائي، وابن معين، وأبو حاتم، وابن حبّان. ترجمته في «تهذيب التهذيب» 4: 91.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"الكافرون"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الكافرون» «1» في قوله تعالى: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ (لا) تجري مجرى (ما) فرفعت على خبر الابتداء.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الكافرون"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الكافرون» «1» إن قيل: لم قال الله تعالى: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) ولم يقل «من» مع أنه القياس؟ قلنا: فيه وجهان: أحدهما أنه إنما وردت «ما» ، رعاية للمقابلة في قوله تعالى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) الثاني: أن «ما» مصدرية: أي لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي. وقال الزمخشري: إنّما قال تعالى «ما» لأن المراد الصفة كأنّ المعنى: لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق، وقال غيره: «ما» في الكل بمعنى الذي، والعائد محذوف. فإن قيل: ما الحكمة في التكرار؟ قلنا: فيه وجهان: أحدهما أنه للتأكيد، وقطع أطماعهم فيما طلبوه منه. الثاني: أن الجملتين الأوليين لنفي العبادة في الحال والجملتين الأخريين لنفي العبادة في الاستقبال، فلا تكرار فيه. وهذا قول ثعلب والزّجّاج والخطاب، لجماعة علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون. وقال الزمخشري، مما يرد الوجه الثاني، وذلك أنه قال تعالى: (لا أعبد) أريد به العبادة في المستقبل، لأن (لا) لا تدخل إلّا على مضارع في معنى الحال، فالجملتان الأوليان لنفي العبادة في المستقبل، والجملتان الأخريان لنفي العبادة في الماضي، فقوله تعالى: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) أي ما عهدتم من عبادة الأصنام في الجاهلية، فكيف يرجى مني بعد الإسلام، وقوله تعالى:

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) أي ما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته. ويردّ على قوله: و «الجملتان الأخريان لنفي العبادة في الماضي» أنّ اسم الفاعل المنوّن، العامل عمل الفعل، لا يكون إلا بمعنى الحال أو الاستقبال، و «عابد» ، هنا، عامل في «ما» وكذلك عابدون، وجوابه أنّه على الحكاية، كما قال تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف: 8] فإن قيل: لم لم يقل تعالى: ولا أنتم عابدون ما عبدت، بلفظ الماضي، كما قال سبحانه: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) ؟ قلنا: لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل بعثه (ص) وهو ما كان يعبد الله تعالى قبل بعثه بل بعد بعثه. ويرد على هذا التقدير: أن أعظم العبادة التوحيد، وكلّ الأنبياء كانوا موحّدين بعقولهم قبل البعثة. وقال بعض العلماء: إنّما جاء الكلام مكرّرا لأنه ورد جوابا لسؤالهم مناوبة، وكان سؤالهم مكررا، فإنهم قالوا: يا محمد تعبد آلهتنا كذا مدة، ونعبد إلهك كذا مدة، ثم تعبد آلهتنا كذا مدة، ونعبد إلهك كذا مدة، فورد الجواب مكرّرا ليطابق السؤال، وهذا قول حسن لطيف.

سورة النصر 110

سورة النّصر 110

المبحث الأول أهداف سورة"النصر"

المبحث الأول أهداف سورة «النصر» «1» سورة النصر سورة مدنية وآياتها 3 آيات. ومع صغرها فإنها حملت البشرى لرسول الله (ص) بنصر الله والفتح، ودخول الناس في دين الله أفواجا، ثم طلبت منه التسبيح والحمد والاستغفار. المفردات وَالْفَتْحُ (1) : المراد به فتح مكة. أَفْواجاً (2) : زمرا وجماعات. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الآية 3] : ونزّهه وقدّسه. وَاسْتَغْفِرْهُ: ممّا قد يكون منك، وهو لتعليمنا. تَوَّاباً (3) : كثير المتاب والغفران لمن تاب. إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ [الآية 1] وأظهرك على أعدائه، وفتح لك مكّة، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ [الآية 2] فوجا بعد فوج ... فنزه ربّك، حامدا إيّاه على ما أولاك من النّعم والمنّة، واستغفر الله، لحظة الانتصار، من الزهو والغرور والتقصير إنه كان، ولم يزل، توّابا كثير القبول للتوبة، يحبّ التوّابين، ويحب المتطهّرين. ولمّا دخل النبي (ص) مكّة فاتحا منتصرا، انحنى على راحلته، حتى أوشك أن يسجد عليها وهو يقول: تائبون، آئبون، حامدون، لربنا شاكرون.

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

سورة التوديع

سورة التوديع سورة النصر تحمل بين طياتها إتمام الرسالة، وأداء الأمانة، والاستعداد للّحاق بالرفيق الأعلى. قال البيضاوي: تسمى سورة التوديع. ويقال إن عمر لمّا سمعها بكى، وقال: الكمال دليل الزوال. وروي أن العبّاس بكى لمّا قرأها رسول الله (ص) ، فقال عليه الصلاة والسلام ما يبكيك؟ قال نعيت إليك نفسك، فقال النبي (ص) : إنّها لكما تقول، وإنّما ذلك لأنّ فيها تمام الأمر، كما في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] . وجاء في رواية للبخاري: أن عمر رضي الله عنه سأل أشياخ بدر فقال: ما تقولون في قول الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) ، حتى ختم السورة، فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله ونستغفره، إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا فقال: أكذلك تقول يا ابن عبّاس؟ قلت: لا، فقال: ما تقول؟ فقلت هو أجل رسول الله (ص) أعلمه له. قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) فذلك علامة أجلك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) فقال عمر بن الخطاب: لا أعلم منها إلّا ما تقول. وفي رواية الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله (ص) يكثر في آخر أمره من قوله «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب اليه» . المبحث الأول مقصود السورة 1- عند الفتح الأكبر، ودخول الناس في دين الإسلام، ينبغي شكر الله والاستغفار من كل تقصير، فإنّ باب الله مفتوح وهو صاحب الطّول، ويقبل التوبة من جميع التائبين. 2- وفي السورة، إيذان بأداء النبي (ص) للرسالة العظمى، وانتهاء المهمّة الكبرى، وتوجيه له أن يستعد للموت بالاستغفار والتوبة وشكر الله والتسبيح بحمده.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"النصر"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النصر» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة النصر بعد سورة التوبة، وهي آخر ما نزل من القرآن بالمدينة، وكان نزولها في حجّة الوداع بمنى، فيكون نزولها في السنة العاشرة من الهجرة. وكان هذا بعد أن أتمّ النبي (ص) دعوته، وأخذ الناس يدخلون أفواجا في دينه. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وتبلغ آياتها ثلاث آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة الوعد بالنصر، ونشر الدين في الناس، بعد متاركة أولئك الكفار في السورة السابقة، وهذا هو وجه المناسبة في ذكر هذه السورة بعدها. الوعد بالنصر ونشر الدين الآيات [1- 3] قال تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) فوعد النبي (ص) بالنصر، والفتح، ونشر الدين في الناس، وأمره بتسبيحه واستغفاره شكرا له على ذلك، واستجلابا لعفوه عما يكون قد حصل منه، وختم ذلك بقوله: إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"النصر"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النصر» «1» أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه قال في آخر ما قبلها: وَلِيَ دِينِ (6) فكان فيه إشعار بأنه خلص له دينه، وسلّمه من شوائب الكفّار والمخالفين، فعقّب السياق ببيان وقت ذلك، وهو مجيء الفتح والنصر، فإن الناس حينما دخلوا في دين الله أفواجا، فقد تمّ الأمر، وذهب الكفر، وخلص دين الإسلام ممّن كان يناوئه، ولذلك كانت السورة إشارة إلى وفاته (ص) «2» . وقال الإمام فخر الدين: كأنه تعالى يقول: لما أمرتك في السورة المتقدّمة بمجاهدة جميع الكفّار، بالتبري منهم، وإبطال دينهم، جزيتك على ذلك بالنصر والفتح وتكثير الأتباع. قال: ووجه آخر، هو: أنه لما أعطاه الكوثر، وهو الخير الكثير، ناسب تحميله مشقّاته وتكاليفه، فعقّبها سبحانه، بمجاهدة الكفّار، والتبري منهم. فلما امتثل ذلك، أعقبه بالبشارة بالنصر والفتح، وإقبال الناس أفواجا إلى دينه، وأشار إلى دنوّ أجله، فإنه ليس بعد الكمال إلّا الزوال.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . أخرج البخاري هذا المعنى في التفسير: 6: 220،. 221 عن ابن عباس. والإمام أحمد في المسند: 1: 217، 344، 356 وابن جرير في التفسير.

المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة"النصر"

المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «النصر» «1» قال تعالى: يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) واحدهم: الفوج. وقال سبحانه: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: «يكون تسبيحك بالحمد» لأن «التسبيح» هو ذكر. فالمعنى: «يكون ذكرك بالحمد على ما أعطيتك من فتح مكّة وغيره» . يقول الرجل: «قضيت سبحتي من الذكر» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة"النصر"

المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «النصر» «1» إن قيل: أيّ مناسبة بين الأمر بالاستغفار وما قبله، فإن مجيء الفتح والنصر، يناسب الشكر والحمد، لا الاستغفار والتوبة؟ قلنا: قال ابن عباس رضي الله عنهما، لما نزلت هذه السورة، علم النبي (ص) أنه نعيت إليه نفسه. وقال الحسن: أعلم النبي (ص) أنه قد اقترب أجله، فأمر بالتسبيح والاستغفار والتوبة. ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح، فكان يكثر من قوله: سبحانك اللهم، اغفر لي إنّك أنت التوّاب الرحيم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أنّ هذه السورة تسمى سورة التوديع. وروي أن النبي (ص) عاش بعد نزولها سنتين.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

سورة المسد 111

سورة المسد 111

المبحث الأول أهداف سورة"المسد"

المبحث الأول أهداف سورة «المسد» «1» سورة المسد سورة مكية وآياتها خمس، نزلت بعد سورة الفاتحة. وتسمى سورة تبّت، وسورة أبي لهب، وسورة المسد لذكر كل ذلك فيها. مقصود السورة قال الفيروزآبادي: مقصود السورة تهديد أبي لهب على الجفاء والإعراض، وضياع كسبه وأمره، وبيان ابتلائه يوم القيامة، وذمّ زوجه في إيذاء النبي (ص) ، وبيان ما هو مدّخر لها من سوء العاقبة. المفردات تَبَّتْ [الآية 1] : التّبّ: الهلاك والبوار، وهو دعاء عليه. أَبِي لَهَبٍ [الآية 1] : هو عبد العزّى بن عبد المطلب عمّ النبي (ص) ، ومن أشدّ الناس إيذاء له، وللمسلمين. ما أَغْنى [الآية 2] : ما نفعه ولا أفاده، لا في الدنيا ولا في الاخرة. وَما كَسَبَ (2) : المراد به الولد، لأن الولد من كسب أبيه، أو المال والجاه. ذاتَ لَهَبٍ (3) : لتأجّجها واستعارها. وَامْرَأَتُهُ [الآية 4] : هي أمّ جميل بنت حرب أخت أبي سفيان. الْحَطَبِ (4) : المراد، الأشواك

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

مع السورة

التي كانت تلقيها في طريق النبي (ص) ، والمؤمنين إيذاء لهم أو هو كناية عن إلقاء الفتنة بين النبي (ص) والمشركين. جِيدِها [الآية 5] : عنقها. مَسَدٍ (5) : هو الليف، أي في عنقها حبل من ليف، تجمع فيه الحطب وتحزمه. مع السورة سورة المسد، وتسمّى أيضا سورة أبي لهب، وأبو لهب، واسمه: عبد العزّى بن عبد المطّلب، هو عم النبي (ص) وإنما سمّي أبا لهب لإشراق وجهه، وكان هو وامرأته «أم جميل» ، من أشدّ الناس إيذاء لرسول الله (ص) وللمؤمنين به. أخرج البخاري بإسناده عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، أن النبي (ص) خرج إلى البطحاء، فصعد الجبل فنادى: «يا صباحاه» ، فاجتمعت إليه قريش، فقال: أرأيتم إن حدّثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أكنتم مصدّقيّ؟ قالوا نعم، قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا. فأنزل الله السورة: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) والتّباب الهلاك والبوار والقطع و «تبّت» الأولى دعاء، و «تبّت» الثانية تقرير لوقوع هذا الدعاء: هلكت نفس أبي لهب، وقد هلك ما نفعه ماله، وما كسبه بماله من الربح والجاه سيدخل نارا ذات لهب، ونجد هنا تناسقا في اللفظ، فجهنّم هنا ذات لهب، يصلاها أبو لهب. ومضمون السورة: خسر أبو لهب، وضلّ عمله، وبطل سعيه الذي كان يسعاه، للصدّ عن دين الله ولم يغن عنه ماله الذي كان يتباهى به، ولا جدّه واجتهاده في ذلك فإن الله أعلى كلمة رسوله، ونشر دعوته، وأذاع ذكره. وسيعذّب أبو لهب يوم القيامة بنار ذات شرر ولهيب وإحراق شديد، أعدّها الله لمثله من الكفّار والمعاندين، فوق تعذيبه في الدنيا، بإبطال سعيه، ودحض عمله وستعذّب معه امرأته التي كانت تعاونه على كفره وجحده، وكانت عضده في مشاكسة رسول الله (ص) وإيذائه، وكانت تمشي بالنميمة للإفساد، وإيقاد نار الفتنة والعداوة.

وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) أي وستعذّب أيضا بهذه النار امرأته أروى بنت حرب، أخت أبي سفيان بن حرب، جزاء لها على ما كانت تجترحه من السعي بالنميمة، إطفاء لدعوة رسول الله (ص) . والعرب تقول لمن يسعى في الفتنة ويفسد بين الناس: هو يحمل الحطب بينهم، كأنّه بعمله يحرق ما بينهم من صلات وقيل إنها كانت تحمل حزم الشوك والحسك والسعدان، وتنثرها بالليل في طريق رسول الله (ص) لإيذائه. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) في عنقها حبل ممّا مسّد به من الحبال، أي أحكم فتله وقد صوّرها الله تعالى بصورة من تحمل تلك الحزمة من الشوك، وتربطها في جيدها، كبعض الحطّابات الممتهنات، احتقارا لها، واحتقارا لبعلها، حينما اختارت ذلك لنفسها. وجملة أمرها: أنّها في تكليف نفسها المشقّة الفادحة للإفساد بين الناس، وإيقاد نيران العداوة بينهم، بمنزلة حاملة الحطب، التي في جيدها حبل خشن تشدّ به ما تحمله إلى عنقها، حين تستقل به وهذه أبشع صورة تظهر بها امرأة، تحمل الحطب وهي على تلك الحال. «ويروي بعض العلماء، أن المراد بيان حالها وهي في نار جهنّم، إذ تكون على الصورة التي كانت عليها في الدنيا، حينما كانت تحمل الشوك، إيذاء لرسول الله (ص) فهي لا تزال تحمل حزمة من حطب النار، ولا يزال في جيدها حبل من سلاسلها، ليكون جزاؤها من جنس عملها، فقد روي عن سعيد بن المسيّب، أنه قال: كانت لأم جميل قلادة فاخرة، فقالت: لأنفقنّها في عداوة محمد فأعقبها الله في جيدها حبلا من مسد النار» «1» . «وكل امرأة، تمشي بالفتنة والفساد بين الناس، لتفرّق كلمتهم، وتذهب مذاهب السوء، فلها نصيب من هذا العذاب، وجزء من هذا النكال» «2» .

_ (1) . تفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي 30: 263. (2) . مقتبس من تفسير جزء عم، للأستاذ الإمام محمد عبده، ص 133. [.....]

مضمون السورة

مضمون السورة 1- هلاك لأبي لهب وأيّ هلاك. 2- لن ينفعه ماله وجاهه، ولا سلطانه وأولاده. 3- سيصطلي بنار جهنّم، ويحترق بلهيبها. 4- ويكون معه زوجه في صورة مهينة مزرية، إذ تحمل الحطب، وفي عنقها حبل من ليف أشبه بالمرأة المهينة، أو الحمارة الكادحة.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"المسد"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المسد» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سور المسد، بعد سورة الفاتحة ونزلت سورة الفاتحة، فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة فيكون نزول سورة المسد، في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في آخرها: فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) وتبلغ آياتها خمس آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة، إنذار الكافر بالهلاك، بعد وعد المؤمنين بالنصر، في السورة السابقة وهذا هو وجه المناسبة في ذكر هذه السورة بعدها. إنذار الكافر بالهلاك الآيات [1- 5] قال الله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [الآية 1] فأنذر أبا لهب بهلاك ماله ونفسه والمراد منه كلّ كافر ألهاه ماله عن الاستجابة للنبي (ص) ثمّ ذكر أنّ ماله لا يدفع عنه شيئا ممّا أوعد به، وأنّه سيصلى نارا في الاخرة بعد هلاكه، وأنّ امرأته ستكون حمّالة حطب جهنم فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"المسد"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المسد» «1» قال الإمام: وجه اتصالها بما قبلها: أنه لما قال تعالى في سورة الكافرون: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) فكأنه قيل: إلهي، وما جزائي؟ فقال الله له: النصر والفتح. فقال: وما جزاء عمي الذي دعاني إلى عبادة الأصنام؟ فقال تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [الآية 1] . وقدّم الوعد على الوعيد، ليكون النصر معلّلا بقوله تعالى في «الكافرون» : لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) . ويكون الوعيد راجعا إلى قوله جلّ وعلا في السورة المذكورة: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) [الكافرون] ، على حد قوله سبحانه: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران: 106] . قال: فتأمّل في هذه المجانسة الحافلة بين هذه السور مع أن سورة النصر من أواخر ما نزل بالمدينة «2» ، و «الكافرون» و «تبّت» من أوائل ما نزل بمكّة «3» ليعلم، أنّ ترتيب هذه السور من الله، وبأمره. قال: ووجه آخر، وهو: أنه لما قال تعالى في «الكافرون» : لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) كأنه قيل: يا إلهي، ما جزاء المطيع؟ قال: حصول النصر والفتح. فقيل وما ثواب العاصي؟ قال: الخسارة في الدنيا، والعقاب في العقبى، كما دلّت عليه سورة تبّت.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . في حديث، أخرجه مسلم عن ابن عبّاس: 8: 242،. 243 وفيها أنّها آخر سورة نزلت. (3) . الإتقان: 1: 96.

المبحث الرابع مكنونات سورة"المسد"

المبحث الرابع مكنونات سورة «المسد» «1» 1- أَبِي لَهَبٍ [الآية 1] . اسمه عبد العزّى. 2- وَامْرَأَتُهُ [الآية 4] . هي أمّ جميل، العوراء بنت حرب، أخت أبي سفيان صخر بن حرب. وقال ابن دحية في «التنوير» : اسمها العواة. كذا في «مسند الحميدي» «2» وقيل اسمها أروى.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . الذي في مسند الحميدي برقم «323» هي كونها أم جميل العوراء. وليس فيه خبر ابن دحية كما توهم عبارة المصنف.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"المسد"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المسد» «1» 1- قال تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [الآية 1] . التّباب الهلاك، والجملة في الآية تفيد الدعاء على أبي لهب بالهلاك. 2- وقال تعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) . ونصب حَمَّالَةَ على الذّم، وفي ذلك استغناء عن الفعل، وهذا ضرب جيد من ضروب الإيجاز.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"المسد"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المسد» «1» قال تعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) بنصب حَمَّالَةَ على الذّمّ كأنّ المعنى «ذكرتها حمّالة الحطب» ويجوز أن تكون حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) نكرة نوي به التنوين. وقرئت بالرفع (حمّالة) على أنّها صفتها «2» والقراءة بالنصب هي المثبتة في المصحف الشريف.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نسبها الطبري 30: 338 إلى عامّة قراء المدينة والكوفة والبصرة، إلّا عبد الله بن أبي إسحاق وإلى عاصم، في رواية وفي السبعة 700، والتيسير 225، إلى غير عاصم وفي الجامع 20: 240 إلى العامّة.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"المسد"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المسد» «1» إن قيل: لم ذكره الله تعالى بكنيته دون اسمه، مع أن ذلك إكرام واحترام؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها أنه يجوز أنه لم يعرف له اسم، ولم يشتهر إلّا بكنيته، فذكره بما اشتهر به، لزيادة تشهيره بدعوة السوء عليه. الثاني أنّه نقل أنه اسمه عبد العزّى، وهو كان عبد الله لا عبد العزّى، فلو ذكره باسمه لكان خلاف الواقع. الثالث: أنّه ذكره بكنيته لموافقة حاله لكنيته، فإنّ مصيره إلى النار ذات اللهب، وإنّما كنّي بذلك لتلهّب وجنتيه وإشراقهما.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"المسد"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المسد» «1» في قوله سبحانه: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) استعارة، والتّباب الخسران المؤدّي إلى الهلاك، وإنّما وصف سبحانه يدي أبي لهب بالتّباب، وإن كان هو المراد بذلك، لأنّ الأعمال في الأكثر إنّما تكون بالأيدي على ما تقدم من القول في بعض الفصول المتقدّمة، فلما فعل فعلا يؤدّي الى الخسار، ويفضي إلى البوار، جاز نسب ذلك إلى يديه، كما يقال هذا ما صنعت يداك وذق ما جنت يداك، وقد تقدّم الكلام على ذلك، والمراد باليدين هنا، المال والملك. يقال: فلان قليل ذات اليد، أي قليل المال والملك، فكأنّه تعالى أخبر بهلاك ماله وملكه، ثم قال تعالى: وَتَبَّ (1) أي هلك هو أيضا، لأنّه كان يدلّ «2» بكثرة أمواله، وسعة أحواله، فإذا خرج عن ملكه قرب من هلكه، ودليل ذلك قوله تعالى: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) ويكون هلاك ماله حكما، لا غرما، لأنّه إذا كان مجموعا من غير حلّه، ومأخوذا من غير وجهه، كان هالكا بائرا، وإن كان سالما وافرا. وفي قوله سبحانه: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) . استعارة على أحد

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . أي يفتخر.

الأقوال، وهو أن يكون المراد بحمّالة الحطب هنا، أنها تجمع على ظهرها الآثام، وتحتقب الأوزار، من قولهم فلان يحتطب على ظهره إذا فعل ما يجرّ به الآثام إلى نفسه. ومن ذلك سمّي الوزر، لأنه الذنب، الذي كان فاعله احتمل بفعله ثقلا على ظهره، ويكون ذكر الحبل هنا من تمام المعنى، الذي أشرنا إليه أيضا، لأنه تعالى لمّا ذكر الحطب على التأويل الذي ذكرناه، جاء بذكر الحبل معه لأن الحبل يجمع فيه الحاطب ما يحتطبه ويضم المحتقب ما يحتقبه وقيل إنّها كانت تمشي بالنميمة بين الناس، فلذلك قيل لها حمّالة الحطب، والمعنى يؤول إلى ما قلناه أوّلا، لأنّها تستحق على فعل النميمة عقابا، فكأنّها احتطبت الإثم على ظهرها من هذه الجهة، فكانت النميمة سببا في استحقاقها العقوبة وقيل أيضا إنها كانت تحمل الشوك على ظهرها، فتلقيه في طريق رسول الله (ص) ، ليستضرّ به في ممشاه عليه، وهذا التأويل يخرج الكلام من باب الاستعارة. وقال ابو عبيدة: المسد عند العرب حبل من أخلاط، وجمعه أمساد، وأنشد الراجز «1» ومسد أمر من أيانق ... صهب «2» عناق «3» ذات مخّ زاهق قيل إن المسد الليف الذي تفتل منه الحبال، أو أن المسد اسم للفتل نفسه وإنما قال تعالى حبل من فتل، تمييزا للحبل المفتول، ممّا يقع عليه هذا الاسم، لأنه يقال حبل الذراع وحبل العاتق، فإذا قيل من مسد، علم أنّه من الحبال المعهودة، وقيل إن المسد حبل من حديد، وإن ذلك يجعل في عنقها عند دخولها النار، وأخبر عمرو بن أبي

_ (1) . ذكر صاحب لسان العرب أنّ الراجز هو عقبة الهجيمي أو عمارة بن طارق. [في الأصل عقبة البهيمي] ، وذكر الرجز هكذا: ومسد أمرّ من أيانق ... ليس بأنياب ولا حقائق والأيانق والأنياب والحقائق ضروب من النياق. (2) . الصهب: الذي يخالط بياضه حمرة. [.....] (3) . العناق: الأنثى من أولاد المعز.

عمرو الشيباني عن أبيه، أنّ المسد محور البكرة، إذا كان من حديد، فهذا مفسّر لقول من ذهب إلى هذا الوجه، وإذا كان الحبل الذي في جيدها من حديد، فهو السلسلة، فقد قال تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) [غافر] .

سورة الإخلاص 112

سورة الإخلاص 112

المبحث الأول أهداف سورة"الإخلاص"

المبحث الأول أهداف سورة «الإخلاص» «1» سورة الإخلاص سورة مكية، آياتها أربع آيات نزلت بعد سورة الناس. وتشتمل هذه السورة على أهم أركان الإسلام التي قامت عليها رسالة النبي (ص) وهذه الأركان ثلاثة: الأول: توحيد الله وتنزيهه. والثاني: بيان الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات. والثالث: أحوال النفس بعد الموت، وملاقاة الجزاء من ثواب وعقاب، وصفة اليوم الاخر وما فيه من بعث، وحشر، وحساب، وجزاء، وصراط، وميزان، وجنة، ونار. وأول هذه الأركان هو التوحيد والتنزيه لإخراج العرب وغيرهم من الشرك والتشبيه، ولهذا ورد في الحديث أن هذه السورة تعدل ثلث القرآن، لاشتمالها على التوحيد وهو أصل أصول الإسلام. وفي كتب التفسير: أن هذه السورة نزلت جوابا للمشركين حينما سألوا رسول الله (ص) ، أن يصف لهم ربّه، ويبيّن لهم نسبه، فوصفه لهم ونزّهه عن النسب، إذ نفى عنه أن يكون والدا، أو مولودا، أو يكون له شبيه، ومثيل. الرَّحِيمِ [الآية 1] ضمير تفسّره الجملة التالية اللَّهُ أَحَدٌ (1) ، وهو يدلّ على فخامة ما يليه، بإبهامه، ثم تفسيره، ممّا يزيده تقريرا. اللَّهُ أَحَدٌ (1) : (الله) علم: دالّ على الذات العليّة دلالة مطلقة،

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

تجمع معاني أسمائه الحسنى كلّها، وما تصوّره من التقديس، والتمجيد، والتعظيم، والربوبية، والجلال، والكمال. أَحَدٌ (1) صفة تقرّر وحدانية الله من كل الوجود، فهو واحد في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله، وفي عبادته أمّا أحديّته أو وحدانيّته في ذاته، فمعناها أنّه يستقل بوجوده عن وجود الكائنات والمخلوقات فوجودها حادث بعد عدم، وهي محتاجة إلى علّة توجدها، وتظل قائمة عليها، حافظة وجودها، طوال ما كتب لها من بقاء. أما وجود الله سبحانه، فوجود أزلي، وجود لذاته، ومنه انبثق كل الوجود، إنّه واجب الوجود الذي لا أوّل لوجوده، ولا آخر، والفرد الذي لا تركيب في ذاته. اللَّهُ أَحَدٌ (1) فلا إله سواه، ولا شريك معه وكانوا قد عبدوا آلهة متعدّدة مثل الشمس، والقمر، واللّات، والعزّى، ومناة، ونسر. وكان منهم من اتّخذ إلهين: إلها للنور وإلها للظلمة، ومن قال إن الله ثالث ثلاثة من الالهة. أعلن القرآن الكريم النكير على من اتخذ إلها غير الله تعالى، وقرر القرآن أنه سبحانه، لا شريك له، ولا مثيل إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً (116) [النساء] . ووحدانيّة الصّفات تعني تنزيه الله سبحانه فيها عن صفات المخلوقين من البشر، وغير البشر فهو جلّ جلاله، متفرّد بصفاته تفرده بذاته لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] ، لا في الذات ولا في الصفات. وقد تعدّدت صفات الله في القرآن، ولأنها ذاتية دعاها أسماء، إذ يقول جلّ شأنه: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الأعراف: 180] . ويقول: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الحشر: 24] . وهذه الصفات، منها ما يصوّر عظمة الله وجلاله مثل: العظيم، المتعال، الحميد، المجيد، القدّوس، ذي الجلال والإكرام. ومنها ما يصوّر خلق الكون وصنع الوجود مثل: البارئ، المصوّر، الخالق، البديع. ومنها ما يصوّر القدرة الإلهية مثل: القوي، القادر، القهّار، المهيمن. ومنها ما يصوّر العلم الرباني مثل: العليم الحكيم، الخبير. ومنها ما يصوّر

رحمة الله بعباده مثل: الرؤوف، الرحمن، الرحيم ... إلى غير ذلك من صفات قد تلتقي بصفات البشر، ولكنّها تختلف عنها في الجنس والنوع، هي وكل ما يتّصل بالذات الإلهية. ووحدانيّة الله في أفعاله: هي التفرّد في خلق الكون، والقيام عليه، وتدبير نظامه المحكم، بقوانين ماثلة في جميع الأشياء، يقول الحق سبحانه: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) [ق] . وهذا الكون العظيم، بنظامه البديع، وناموسه الرائع، يدلّ دلالة واضحة على وحدانية الله، وتفرّده بالألوهية. قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] . وقال سبحانه: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) [المؤمنون] . ومضمون هذه الآيات، أنه لو تعددت الالهة في الكون، لفسد نظام السماوات والأرض، ولاختلّ تماسكها القائم على وحدة نظام، ووحدة تسيير وبما أن الكون، لم يفقد نظامه، ولا تماسكه، فدل ذلك على نفي تعدّد الالهة، وثبتت وحدانية الحقّ، سبحانه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) . اللَّهُ الصَّمَدُ (2) . (الصمد) : المقصود في الحوائج وحده، فهو الملاذ، وهو الملجأ، وهو المستعان، وهو المستغاث، ولا حول ولا طول لسواه، إنّه الخالق، الصانع، الحافظ، الوهّاب، النافع، الضارّ كلّ شيء بيده جلّت قدرته، وفي قبضته يعطي، ويمنع يبسط ويقبض يثيب ويعاقب وكل شيء في الكون متّجه إليه، يتلقّى منه الوجود إنه المحيي المميت، الذي يهب كل حي حياته وكلّ حيّ بل كلّ كائن، ينقاد إليه شاعرا بضعفه وعجزه وأنه محتاج إلى برّه وتفقّده له فهو الكالئ، الحافظ، بالليل والنهار، وعلى مر الزمان. وهو

الراعي المربّي الذي يفتقر إليه كل شيء في الوجود، وينقاد بأزمّته. وفي ذلك يقول جل ذكره: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) [النحل] . قال الإمام محمد عبده: «وقوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ (2) : يشعر بأنه [سبحانه هو] الذي ينتهي إليه الطلب مباشرة، بدون واسطة ولا شفيع، وهو في ذلك يخالف عقيدة مشركي العرب، الذين يعتقدون بالوسائط والشفعاء، وكثير من أهل الأديان الأخرى، يعتقدون بأنّ لرؤسائهم منزلة عند الله، ينالون بها التوسّط لغيرهم في نيل مبتغاهم، فيلجئون إليهم أحياء وأمواتا، ويقومون بين أيديهم، أو عند قبورهم، خاشعين خاضعين، كما يخشعون لله بل أشدّ خشية» «1» . وقد نفى القرآن كل وساطة بين العبد وربه، وبيّن أن باب الله مفتوح على مصراعيه، للضارعين والتائبين والسائلين، فهو سبحانه قريب من عباده، لا يحتاج إلى وساطة أو شفاعة، قال تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) [البقرة] . وبذلك نرى، أن الله سبحانه يرفع كلّ حجاب بينه وبين عباده، ليتجهوا إليه بالمسألة حينما تنزل بهم بعض الخطوب، أو حينما تصيبهم بعض الفواجع، أو حينما يلتمسون أي مقصد من مقاصد الدنيا، أو مقاصد الاخرة. قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] وقال سبحانه: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) [الأعراف] . وعلى ذلك، فالإسلام ينكر بيع صكوك الغفران، لأن المغفرة بيد الله وحده. وينكر الإسلام الاعتراف بالذنب لرجل الدين، حتى تصحّ التوبة، ويمحي الذنب، إذ أساس الإسلام، أن الله وحده هو المقصود في كلّ شيء: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الشورى: 25- 26] .

_ (1) . تفسير جزء عم، للأستاذ الإمام محمد عبده، ص 125، مطابع الشعب.

وقد جعل الدّين الدعاء مخّ العبادة، لأن الدّعاء اعتراف ضمني بقدرة الله تعالى وعظمته، وأنه سبحانه الخالق، البارئ، الرازق، الفعّال لما يريد وأن بيده الخير، والأمر، والنفع، والضرّ، وأنه مسبب الأسباب. وللدعاء آداب منها: التوبة النصوح، وأكل الحلال، وأداء الفرائض، واجتناب الحرمات، والتزام التضرّع، والخضوع في مناجاة الله ودعائه، واليقين الكامل بأن الله تعالى هو النافع الضار، لا رادّ لقضائه ولا معقّب لأمره: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس] . وتمكينا لهذه العقيدة الإسلامية في النفوس، علّم رسول الله (ص) ابن عمه عبد الله بن عبّاس- وهو غلام صغير، وقد كان راكبا خلفه- كلمات ينفعه الله بهنّ في الدنيا والاخرة: «فعن عبد الله بن عباس قال: كنت رديف النبي (ص) على بغلته فقال لي: يا غلام، هل أعلّمك كلمات ينفعك الله بهنّ في الدنيا والاخرة؟ قلت: نعم يا رسول الله علّمني. فقال لي: يا غلام: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلّا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن يضرّوك بشيء ما ضرّوك إلّا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفّت الصحف» رواه أحمد والتّرمذي، وهو حديث صحيح. وحيث يعلم المؤمن هذه الحقيقة، ويحيى في فكره وقلبه صمدية الله تعالى، فإنه لا يرجع في أمر من أموره إلّا إليه سبحانه، ولا يتقرّب بأيّ قربى إلّا قربى تدنيه من طاعة ربّه ومرضاته وتثبيتا لحقيقة صمديّة الخالق، من حقائق صفات الألوهية، قال سبحانه: اللَّهُ الصَّمَدُ (2) ، أي الله هو الغني في ذاته، وفي صفاته، غنى تامّا، وهو الذي يصمد إليه أي: يرجع إليه في كل أمر صغر أو كبر. قال أبو هريرة في تفسير كلمة الصمد: هو المستغني عن كلّ أحد، المحتاج إليه كلّ أحد. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) : لَمْ يَلِدْ لم يتخذ ولدا

وَلَمْ يُولَدْ (3) ليس له والد يكنى به. والقرآن بهذا ينزّه الله العلي العظيم، عن شبهه بالآدميين الفانين، الذين يوجدون بعد عدم، ويعيشون وينجبون الولد والأولاد، ثم تشتعل رؤوسهم شيبا، ويبلغون من الكبر عتيّا، ثمّ يموتون. وبذلك يكون الإنسان والدا ومولودا في آن واحد. أما الله سبحانه، فتعالى علوّا كبيرا، عن أن يلد أو يولد، فهو منزّه عن مجانسة الآدميين، في اتخاذ الصاحبة، أو الزوجة، واتّخاذ الأولاد. قال تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) [الأنعام] . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) : الكفو (أو الكفؤ) معناه المكافئ، والمماثل في العمل والقدرة، وهو نفي لما يعتقده بعض المبطلين، من أنّ لله ندّا في أفعاله يعاكسه في أعماله، على نحو ما يعتقده بعض الوثنيين في الشيطان مثلا، فقد نفى سبحانه بهذه السورة، جميع أنواع الشرك، وقرّر جميع أصول التوحيد والتنزيه. «وقد جعل الله سبحانه الآية الأخيرة خاتمة للايات قبلها، فبعد أن قرر جلّ وعلا وحدانيته، وعظيم سلطانه، وأنّه ملاذ الكون ومخلوقاته، وأنّه منزه عن مشابهة الإنسان، ومماثلته لتفرّده بقدمه وأزليّته، قال في صيغة عامّة إنّه ليس له مثيل، ولا نظير من الخلق، في أيّ صفة، ولا في أيّ فعل، ولا في أيّ شيء من الأشياء» «2» . وقد سفّه القرآن في مواطن كثيرة، من جعلوا لله أندادا من المخلوقات، وبيّن أنه سبحانه الصانع الأعظم، وما من كائن إلّا ويفتقر إليه في وجوده، وفي معنى سورة الإخلاص يقول الله سبحانه: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92)

_ (2) . دكتور شوقي ضيف، سورة الرحمن وسور قصار ص 380، مطابع دار المعارف.

إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) [مريم] . وقال سبحانه: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) [الأنبياء] .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الإخلاص"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الإخلاص» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الإخلاص، بعد سورة الناس، ونزلت سورة الناس، بعد سورة الفلق، ونزلت سورة الفلق، بعد سورة الفيل، وكان نزول سورة الفيل، فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الإخلاص، في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لما فيها من طلب إخلاص الدين لله تعالى: وتبلغ آياتها أربع آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة إخلاص الدين لله سبحانه، بعد ما وعد من نصر المؤمنين، وهلاك الكافرين، وهذا هو وجه المناسبة في ذكر سورة الإخلاص، بعد سورتي النصر والمسد. طلب إخلاص الدين لله الآيات [1- 4] قال الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) فأمر نبيه (ص) بأن يخلص الدين له، فيعلن في الناس أنّه جلّ جلاله واحد في ذاته. صمد لا يشبهه أحد من خلقه، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الإخلاص"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الإخلاص» «1» قال بعضهم: وضعت هاهنا للوزان في اللفظ بين فواصلها، ومقطع سورة تبّت. وأقول: ظهر لي هنا غير الوزان في اللفظ: أن هذه السورة متّصلة ب قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) في المعنى. ولهذا قيل: من أسمائها أيضا الإخلاص. وقد قالوا: إنّها اشتملت على التوحيد، وهذه أيضا مشتملة عليه. ولهذا قرن بينهما في القراءة في الفجر، والطواف، والضحى، وسنّة المغرب، وصبح المسافر، ومغرب ليلة الجمعة «2» . وذلك أنه، لما نفى سبحانه عبادة ما يعبدون، صرّح هنا بلازم ذلك، وهو أن المعبود الله الأحد، وأقام الدليل عليه جلّ وعلا بأنه صمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) ولا يستحق العبادة إلا من كان كذلك، وليس في معبوداتهم ما هو كذلك. وإنّما فصل بين النظيرتين بالسورتين «3» لما تقدم من الحكمة، وكأن إيلاءها سورة تبت، ورد عليه بخصوصه.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . أخرج الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن عمر: 2: 120 أنّ النبي (ص) ، قرأ في الفجر، سفرا، بالكافرين والإخلاص. وأخرج ابن حجر في المطالب العالية: 3: 399 عن النبي (ص) ، يقول بضعا وعشرين مرة: «نعم السورتان يقرأ في الركعتين: الأحد الصمد، وقل يا أيها الكافرون» وأخرج عن أبي يعلى من حديث جبير بن مطعم، أنّه (ص) أمره أن يقرأ: الكافرون، والنصر، والإخلاص، والمعوّذتين (المصدر السابق 3: 398) . (3) . أي: بين سورتي الكافرون والإخلاص، بسورتي النصر وتبّت.

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة"الإخلاص"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الإخلاص» «1» 1- قال تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ (2) [الآية: 2] . الصّمد: هو المقصود، أي: المصمود، وهذا باب «فعل» الذي يفيد اسم المفعول كالحلب والجلب وغيرهما. أقول: وليس من وجه لقول المعاصرين: صمد في وجه الأعداء أي: ثبت ذلك إن (صمد) تعني قصد والآية شاهد.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة"الإخلاص"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الإخلاص» «1» في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) ، فان قوله أَحَدٌ (1) بدل من قوله اللَّهُ «2» كأنّ السياق: «هو أحد» ، ومن العرب من لا ينوّن «3» فيحذف لاجتماع الساكنين. وفي قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) أَحَدٌ (4) هو الاسم وكُفُواً هو الخبر.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . نقله في إعراب القرآن 3: 1551، والمشكل 2: 853. (3) . نسبت قراءة عدم التنوين في معاني القرآن 1: 432 الى كثير من القراء الفصحاء وفي الطبري 30: 344 إلى نصر بن عاصم، وعبد الله بن أبي إسحاق وفي السبعة 701 إلى أبي عمرو وفي الشواذ الى نصر بن عاصم، وأبي عمرو، وعمر بن الخطاب وفي البحر 8: 528 إلى أبان بن عثمان، وزيد بن علي، ونصر بن عاصم، وابن سيرين، والحسن، وابن أبي إسحاق، وأبي السمال، وأبي عمرو في رواية يونس، ومحبوب والأصمعي، واللؤلؤي، وهارون عنه. أمّا قراءة التنوين فنسبت في الطبري 30: 344 إلى عامّة قرّاء الأمصار إلّا نصر بن عاصم، وعبد الله بن أبي إسحاق، والحضرمي، وفي السبعة 701 إلى ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي.

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة"الإخلاص"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الإخلاص» «1» إن قيل: فالمشهور في كلام العرب أنّ الأحد يستعمل بعد النفي، والواحد يستعمل بعد الإثبات، يقال: في الدار واحد، وما في الدار أحد. وجاءني واحد وما جاءني أحد، ومنه قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة: 163] ، وقوله تعالى: الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) [يوسف] ، وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ [التوبة: 84] ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [البقرة: 136] ، لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ [الأحزاب: 32] ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ [الحاقة: 47] ، فكيف جاء هنا أحد في الإثبات؟ قلنا: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا فرق بين الواحد والأحد، في المعنى واختاره أبو عبيدة، ويؤيده قوله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ [الكهف: 19] وقولهم أحد وعشرون وما أشبهه. وإذا كانا بمعنى واحد، لا يختصّ أحدهما بمكان دون مكان، وإن غلب استعمال أحدهما في النفي، والاخر في الإثبات، ويجوز أن يكون العدول عن الغالب هنا رعاية لمقابلة الصمد.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

سورة الفلق 113

سورة الفلق 113

المبحث الأول أهداف سورة"الفلق"

المبحث الأول أهداف سورة «الفلق» «1» سورة الفلق سورة مكّيّة، وآياتها خمس، نزلت بعد سورة الفيل. وسورة الفلق توجيه من الله سبحانه لنبيّه (ص) وللمؤمنين جميعا، للعياذ بكنفه، واللياذ بجاهه من كل سوء، والاعتصام بقدرته والاحتماء بجلاله، من شرور مخلوقاته، وما عسى أن يصدر عنهم من إفك وحسد. المفردات أَعُوذُ [الآية 1] : ألجأ وأتحصن. الْفَلَقِ (1) : الصبح. ما خَلَقَ (2) : من الشر أو الأشرار. غاسِقٍ [الآية 3] : هو الليل المظلم. وَقَبَ (3) : دخل، شمل، غمر. النَّفَّاثاتِ [الآية 4] : النفث: النفخ مع شيء من الريق. الْعُقَدِ (4) : ما أحكم ربطه حسّا، كعقدة الحبل، أو معنى كعقد البيع والنّكاح، والمراد عقد السحر أو النميمة، والفتنة بين الناس التي تقطع روابط الالفة. مع آيات السورة [الآيتان 1- 2] : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) . الفلق هو الصبح، وقال جمع من المفسّرين: إن الفلق هو الموجود

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....]

الممكن كلّه، أي قل أستعيذ برب المخلوقات وبفالق الإصباح، من كلّ أذى وشرّ يصيبني من مخلوق من مخلوقاته طرّا. ثمّ خصّص من بعض ما خلق أصنافا، يكثر وقوع الأذى منهم: [الآية 3] : وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) أصل المعنى في مادة غسق: السّيلان والانصباب، وأصل الوقب: النّقرة في الجبل ونحوه، ووقب بمعنى دخل دخولا لم يترك شيئا إلّا مرّ به. والمراد من الغاسق هنا: الليل، ووقب: أي دخل وغمر كلّ شيء، كأنّما انصبّ عليه، واشتدّت ظلمته. أي أستعيذ بالله من شرّ الليل إذا دخل، وغمر كلّ شيء بظلامه. أستعيذ بالله من الظلام الحالك، وما يختبئ فيه من حشرة مؤذية، ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء، أو من ظلمات النفس وغلبة الشكّ والحيرة. وعن ابن عبّاس: «هو ظلمة الشهوة البهيمية إذا غلبت واعية العقل» «1» . [الآية 4] : وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) ، أي ومن شرّ النّمّامين الذين يقطعون روابط المحبة، ويبدّدون شمل المودّة، «والنميمة تشبه أن تكون ضربا من السحر، لأنها تحوّل ما بين الصديقين من محبة الى عداوة، بوسيلة خفيّة كاذبة، والنميمة تضلّل وجدان الصديقين، كما يضلّل الليل من يسير فيه بظلمته، ولهذا ذكرها عقب ذكر الغاسق إذا وقب ولا يسهل على أحد أن يحتاط للتحفّظ من النّمّام، فربما دخل عليك بما يشبه الصدق، حتى لا يكاد يمكنك تكذيبه، فلا بد لك من قوّة أعظم من قوّتك، تستعين بها عليه» «2» . والنفاثات في العقد: الساحرات الساعيات بالأذى، عن طريق خداع الحواس، وخداع الأعصاب، والإيحاء إلى النفوس، والتأثير والمشاعر وهنّ يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل، وينفثن فيها، كتقليد من تقاليد السّحر والإيحاء. ويصح أن يراد بالنفّاثات في العقد، النساء الكيّادات اللواتي يفسدن عقد

_ (1) . تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري، 30: 214. (2) . تفسير جزء عم للإمام محمد عبده، ص 138.

مقصود سورة الفلق

الزوجية، بصرف الزوج عن زوجته، واستمالته حتّى يهجر زوجته الأولى. فكأنّ الثانية أفسدت عقد الزوجية بين الزوج، وزوجته الأولى «1» . [الآية 5] : وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) والحسد انفعال نفسي، إزاء نعمة الله، على بعض عباده، مع تمنّي زوالها، وسواء أأتبع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة، تحت تأثير الحقد والغيظ، أو وقف عند حد الانفعال النفسي فإنّ شرّا يمكن أن يعقب هذا الانفعال. فإذا حسد الحاسد، ووجّه انفعالا نفسيا معيّنا إلى المحسود، فإنّ شرّا يمكن أن ينفذ إلى المحسود، من طريق العين أو النفس ونحن نستجير بالله ونستعيذ به، ونلجأ إلى رحمته وفضله، ليعيذنا من هذه الشرور، إجمالا وتفصيلا. وقد روى البخاري بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي (ص) ، كان إذا آوى إلى فراشه، كل ليلة، جمع كفّيه، ثم نفث فيهما، وقرأ فيهما قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. وهكذا رواه أصحاب السنن. مقصود سورة الفلق 1- الالتجاء إلى الله، والتحصّن بقدرته من شرّ الخلق. 2- ومن شرّ الظلام إذا انتشر، وغطّى الكون. 3- ومن شرّ النساء الكيّادات، صاحبات الحيل، ومن شرّ أهل الفتنة والنميمة. 4- ومن شرّ الحسود إذا وجّه كيده للحسد.

_ (1) . وفي الحديث: «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صفحتها» . أي ينبغي على المرأة ألّا تطلب من الزوج طلاق زوجته لتحلّ محلها، وتأكل في إنائها، وتحتل مكانتها. ومن النساء من يحلو لهنّ إفساد ما بين الزوج وزوجته، أو خطف الرجل من امرأته، وهو كيد، نستعيذ بالله منه.

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الفلق"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفلق» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة الفلق بعد سورة الفيل، ونزلت سورة الفيل فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة الفلق في ذلك التاريخ أيضا. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) والفلق الصبح، لأن الليل ينفلق عنه، وتبلغ آياتها خمس آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة، تخصيص الله تعالى بالاستعاذة من شرّ الخلق، وهذا يدخل فيما سيقت له سورة الإخلاص، من إخلاص الدين لله تعالى، وبهذا يدخل سياق هذه السورة في سياقها، ويكون ذكرها بعدها لهذه المناسبة. تخصيص الله بالاستعاذة من شر الخلق الآيات [1- 5] قال الله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) فأمر النبي (ص) أن يخصّه بالاستعاذة من شرّ ما خلق، وخصّ من هذا ثلاثة أشياء: الليل إذا أقبل، والسواحر اللاتي ينفثن في عقد الخيط عند الرّقية، والحاسد الذي

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

يتمنّى زوال نعمة غيره، فقال سبحانه: وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) .

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة"الفلق"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفلق» «1» أقول: هاتان السورتان نزلتا معا، كما في الدلائل للبيهقي. فلذلك قرنتا، مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوّذتين، ومن الافتتاح بقل أعوذ، وعقّب بهما سورة الإخلاص، لأن الثلاث سميت في الحديث بالمعوّذات، وبالقوارع «2» . وقدّمت «الفلق» على «الناس» ، وإن كانت أقصر منها، لمناسبة مقطعها في الأوزان لفواصل «الإخلاص» مع مقطع «تبّت» .

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. (2) . الذي عثرت عليه حديث عبد الله بن خبيب، عن أبيه، قال: أصابنا طشّ [أي مطر ضعيف] وظلمة، فانتظرنا رسول الله (ص) ، فأخذ بيدي فقال: «قل. فسكت. فقال: قل. فقلت: ما أقول؟ قال: قل هو الله أحد، والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثا تكفك، كل يوم مرتين» مسند الإمام أحمد: 5: 312، وأبو داود في الأدب ما يقول إذا أصبح: 2: 176، والنّسائي في الاستعاذة: 8: 250 والتّرمذي في الدعوات: 9: 347، وحديث أن النبي (ص) كان يتعوّذ بهن كل ليلة ثلاث مرات (البخاري في فضائل القرآن: 6: 233) . ونقل السيوطي عن السّخاوي قوله: (وقوارع القرآن الآيات التي يتعوّذ بها ويتحصّن، سمّيت بذلك لأنها تقرع الشيطان، وتقمعه، كآية الكرسي والمعوّذتين) الإتقان: 1: 201.

المبحث الرابع مكنونات سورة"الفلق"

المبحث الرابع مكنونات سورة «الفلق» «1» 1- غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) . فسّر في حديث مرفوع بالقمر إذا طلع. أخرجه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها «2» . وقال ابن شهاب: هو الشمس إذا غربت. وقال ابن زيد: الثّريا «3» . أخرجهما ابن أبي حاتم. 2- النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) . بنات لبيد بن الأعصم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . «سنن الترمذي» (3363) في التفسير. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ونص الحديث: عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي (ص) نظر إلى القمر فقال: «يا عائشة استعيذي بالله من شرّ هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب» . قال البغوي فعلى هذا المراد بالقمر إذا خسف واسودّ، (وقب) أي دخل في الخسوف، أو أخذ في الغيبوبة. وقال ابن عباس: (الغاسق) : الليل إذا أقبل بظلمته من المشرق، و (الغسق) : الظلمة. (3) . وأخرجه ابن جرير في «تفسيره» 30: 226- 227.

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة"الفلق"

المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفلق» «1» 1- قال تعالى: وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) . الغاسق القمر، ووقوبه: دخوله في الكسوف، وهذا من كلم القرآن.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة"الفلق"

المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفلق» «1» قال تعالى: وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) . تقول: «غسق» «يغسق» «غسوقا» وهي الظّلمة. و «وقب» «يقب» «وقوبا» وهو الدخول في الشيء.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة"الفلق"

المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفلق» «1» إن قيل: قوله تعالى: مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) يتناول كل ما بعده، فما الحكمة في الإعادة؟ قلنا: خص شرّ هذه الأشياء الثلاثة بالذكر، تعظيما لشرّها كما في عطف الخاصّ على العام، تعظيما لشرفه وفضله أو خصّها بالذكر لخفاء شرّها، وأنّه يلحق الإنسان من حيث لا يشعر به، ولهذا قيل: شر الأعداء المداجي، وهو الذي يكيد الإنسان من حيث لا يعلم. فإن قيل: لم عرّف سبحانه النّفّاثات، ونكّر ما قبلها وما بعدها؟ قلنا: لأن كلّ نفّاثة لها شرّ، وليس كل غاسق وهو الليل له شرّ، وكذا ليس كل حاسد له شرّ، بل رب حسد كان محمودا وهو الحسد في الخيرات، ومنه قوله (ص) «لا حسد إلا في اثنتين» الحديث. وقال أبو تمام: وما حاسد في المكرّمات بحاسد إنّ العلى حسن في مثلها الحسد

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة"الفلق"

المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفلق» «1» قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) استعارة، والمراد بالغاسق هنا الليل، وقيل إنّه في الأصل اسم لكل وارد، بما يستضرّ به، ويخاف منه فسمّي الليل غاسقا، لأنه يرد بالمخاوف، ويطرق بالدواهي، في الأغلب والأكثر، لأنه يستنهض السّباع من مرابضها، ويستدلق «2» الهوام من مكامنها، إلى غير ذلك، وما يجري هذا المجرى ومعنى «وقب» أي دخل بما يدخل به، ممّا أومأنا إلى ذكره، يقال: وقب يقب وقوبا إذا دخل، وقال بعضهم الكوكب، وإنّما سمّي الليل به، لأنه لا يكون إلّا بالليل، والأوّل أصحّ، لأن الغسق اسم للظلام، ويقال غسق الليل إذا أظلم. وقوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) . وهذه استعارة على أحد التأويلين، وهو أن يكون المراد بذلك، في قول بعضهم، الاستعاذة من شرّ النساء، اللاتي يفسخن عزائم الرجال بمكرهنّ، وينقضن أيديهم بكيدهن، وعقد الرجال هنا كناية عن عزائمها، ومواضع الثبات والتماسك منها، وذلك تشبيه بما يلقيه النافث من ريقه على العقدة، تكون في الحبل، ليسهل انحلالها، وينطلق انعقادها.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» ، للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . يستدلق: يستخرج. [.....]

سورة الناس 114

سورة النّاس 114

المبحث الأول أهداف سورة"الناس"

المبحث الأول أهداف سورة «الناس» «1» سورة النّاس سورة مكّيّة آياتها ست، نزلت بعد سورة العلق. وهي سورة يلجأ فيها المؤمن الى الله سبحانه وتعالى، ويعتصم به من وساوس الشيطان، الذي يوسوس في صدور الناس خفية وسرّا، وهو أنواع منه، شياطين الأنس ومنه شياطين الجن. مفردات السورة أَعُوذُ [الآية 1] : ألجأ وأستجير. الرب: هو المربّي، والموجّه والراعي والحامي. ملك: هو الملك الحاكم المتصرف. الإله: هو المستعلي المستولي المتسلّط، المعبود بحق. الْوَسْواسِ [الآية 4] : الشيطان يوسوس للنّاس، ويزيّن لهم الشر والمعصية. الْخَنَّاسِ (4) : صفة الشيطان من الخنس، وهو الابتعاد والاختفاء عند ذكر الله تعالى. يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) : بالإغراء بالمعاصي والحض على الشرّ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) : أي من شياطين الجن والأنس. مع آيات السورة [الآية 1] : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)

_ (1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.

ألجأ وأتحصّن بالله خالق الخلق، والمتفضل عليهم بالنعم والجود. [الآية 2] : مَلِكِ النَّاسِ (2) : فهو ملكهم وآخذ ناصيتهم بيده، وهو الخالق الرازق، مرسل الرسل، ومنزل الشرائع، والحاكم المتصرّف، الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون. [الآية 3] : إِلهِ النَّاسِ (3) هو معبودهم بحقّ، وملاذهم إذا ضاق الأمر. [الآية 4] : مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) : أصل الوسوسة الصوت الخفيّ، وقد قيل لأصوات الحلي عند الحركة وسوسة، والْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) هو الشيطان الموسوس، الذي يوحي بالشر، ويهمس بالإثم، والخنوس: الاختفاء والرّجوع. والخنّاس هو الذي من طبعه كثرة الخنوس. أي نعوذ بالله من وسوسة الشيطان، الذي يغري بالمعاصي والمفاسد، ويلقي بالشرور في قلوب الغافلين، ويغري بانتهاك الحرمات من طريق الشهوات. [الآية 5] : الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) أي يجول في الصدور، ويجري من ابن آدم مجرى الدم وخصّ الصدور بالوسوسة، لأنّها محلّ القلوب والقلوب مجال الخواطر والهواجس وإنّ ذلك الشيطان الذي يجثم على قلب ابن آدم ويتسلّط عليه، إذا أصابته الغفلة، هو من الضعف بمكان، فإذا ذكرت الله خنس ورجع، وإذا حكّمت عقلك وانتصرت للحق، ضعف كيد الشيطان، قال تعالى: وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) [النساء] . وإِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) [الأعراف] . إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) [النحل] . [الآية 6] : مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) هذا الوسواس الذي يغري بالشر قسمان: القسم الأول: الجنّة الخفيّة تخطر للإنسان في صورة خواطر، توعز بالشرّ وتغري بالإثم، وتزيّن الخطيئة. والقسم الثاني: النّاس الذين يندسّون في الصدور اندساس الجنّة، ويوسوسون وسوسة الشيطان، ومنهم

رفيق السوء: الذي يجرّ رفيقه إلى الانحراف، ويغريه بالفساد. وحاشية الشر: التي توسوس لكلّ ذي سلطان، حتّى تتركه جبّارا طاغيا مفسدا ظالما. والنمّام الواشي: الذي يزيّن الكلام ويزيّفه، حتّى يبدو كأنّه الحق الصّراح. وبائع الشهوات: الذي يندسّ في منافذ الغريزة، في إغراء لا تدفعه، إلّا يقظة القلب، وعون الله. وعشرات من الموسوسين الخنّاسين، الذين ينصبون الأحابيل ويخفونها، وهم شرّ من الجنة، وأخفى منهم دبيبا. والإنسان عاجز عن دفع الوسوسة الخفيّة، ومن ثم يدلّه الله على عدّته، وجنّته وسلاحه في المعركة الرهيبة. والمؤمن يستمد قوّته من يقينه بربه، وثقته بقدرته، وتحصّنه بحماه، واستعاذته بالله من شرّ الوسواس الخنّاس، الذي يخنس، ويضعف أمام قوّة الإيمان والاستعانة بالرّحمن، قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) [الحجر] . إنّ الصراع بين الخير والشر مستمر في هذه الحياة. وهناك جنود للرحمن هي المعونة والتثبيت، وشرح الصدر للإيمان واليقين، والعزيمة الصادقة، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. وهناك طريق للشيطان، يتولّى على الضعفاء. وستظل هذه المعركة ما بقيت السماوات والأرض. يحاول الشيطان أن يضلّ النّاس ويوسوس لهم وينصب الله للناس أدلّة الهدى والرّشاد من العقل والحكمة، والرسالات السماوية، وأئمة الحق، والدعاة والهداة. وقد ذكر القرآن ذلك في كثير من الآيات. قال تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) [الأعراف] . إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) [فاطر] .

مقصود سورة الناس

قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) [ص] . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور: 21] . إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) [الإسراء] . وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) [النساء] . وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (120) [النساء] . مقصود سورة الناس 1- التحصّن بجلال الله وقدرته والاعتصام به: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) [آل عمران] . 2- الشيطان يوجه همته وجنوده، لإغراء بني آدم. 3- رفقاء السوء، ودعاة الشر، هم أعوان الشيطان. والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، اللهمّ لك الحمد حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه، ولك الشكر ولك الثناء الحسن الجميل. اللهمّ اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وذهاب غمّنا وحزننا، اللهم أكرمنا بالقرآن، وبنور القرآن، وبركة القرآن، وتلاوة القرآن، اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) [يونس] . وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) [هود] . سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) [الصافات] .

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة"الناس"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الناس» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها نزلت سورة النّاس، بعد سورة الفلق، وقد نزلت سورة الفلق، فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة، فيكون نزول سورة النّاس، في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أولها: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) وتبلغ آياتها ست آيات. الغرض منها وترتيبها الغرض من هذه السورة، تخصيص الله تعالى بالاستعاذة أيضا، وقد كانت السورة السابقة في تخصيصه بالاستعاذة من الشرّ البدنيّ كالمرض ونحوه، وهو يكون من الناس بعضهم لبعض وهذه السورة في تخصيصه تعالى بالاستعاذة من شرّ الإغواء على المعاصي، وهو يكون من شياطين الجن والإنس وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعد السورة السابقة، وقد افتتح القرآن بحمده تعالى في سورة الفاتحة، وختم بالاستعاذة به في هاتين السورتين، والحمد يناسب الابتداء، والاستعاذة تناسب الختام. تخصيص الله بالاستعاذة من شر الإغواء الآيات [1- 6] قال الله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) فأمر النبي (ص) ، أن

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.

يخصّه بالاستعاذة من شرّ الوسواس الخنّاس، أي الذي يتأخّر عن الوسوسة، ثمّ يرجع إليها مرّة بعد مرّة، وهو الذي يوسوس في صدور الناس: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) .

المبحث الثالث مكنونات سورة"الناس"

المبحث الثالث مكنونات سورة «الناس» «1» 1- الْخَنَّاسِ (4) . هو الشّيطان. كما أخرجه ابن جرير «2» عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، وهذا آخر ما أردنا إيراده، والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. (2) . تفسير الطّبري 30: 228.

المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة"الناس"

المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الناس» «1» قال تعالى: مَلِكِ النَّاسِ (2) تقول: «ملك بيِّن الملك» الميم مضمومة. وتقول: «مالك بيّن الملك» و «الملك» بفتح الميم وكسرها. وزعموا أنّ ضمّ الميم لغة في هذا المعنى. وقوله تعالى: إِلهِ النَّاسِ (3) بدل من مَلِكِ النَّاسِ (2) . وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أي: «من شرّ الوسواس من الجنّة والنّاس» . و «الجنّة» هم: الجنّ.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.

المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة"الناس"

المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الناس» «1» إن قيل: لم خصّ الناس بالذّكر في قوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) وهو ربّ كل شيء، ومالكه وإلهه؟ قلنا: إنما خصّهم بالذكر تشريفا لهم وتفضيلا على غيرهم، لأنّهم أهل العقل والتمييز. الثاني: أنه لمّا أمر تعالى بالاستعاذة من شرّهم، ذكر مع ذلك أنه ربّهم، ليعلم أنه هو الذي يعيذ من شرهم. الثالث: أن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس إلى الناس، بربّهم الذي هو إلههم ومعبودهم، كما يستغيث بلا مشابهة بعض العبيد، إذا اعتراه خطب، بسيّده، ووليّ أمره. فإن قيل: هل قوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) بيان للذي يوسوس على أن الشيطان الموسوس ضربان جنّي وإنسي، كما قال تعالى: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: 112] أو بيان للنّاس الذين أضيفت الوسوسة إلى صدورهم، ولفظ (النّاس) المذكور آخرا بمعنى الإنس؟ قلنا: قال بعض أئمة التفسير: المراد المعنى الأول، كأنّ المعنى: من شرّ الوسواس الجنّي، ومن شرّ الوسواس الإنسيّ، فهو استعاذة بالله تعالى من شر الموسوسين من الجنسين، وهو اختيار الزّجّاج وفي هذا الوجه إطلاق لفظ الخنّاس على الإنسي والنّقل أنه اسم للجنّي. وقال بعضهم: المراد المعنى الثاني كأن المعنى: من شرّ الوسواس الجنّي الذي يوسوس في صدور الناس

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.

من جنّهم وإنسهم، فسمّى الجنّ ناسا، كما سمّاهم نفرا ورجالا، في قوله تعالى: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 1] ، وقوله تعالى: يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 6] فهو استعاذة بالله، من شرّ الوسواس، الذي يوسوس في صدور الجنّ، كما يوسوس في صدور الإنس، وهو اختيار الفرّاء والمراد من الجنّة هنا الشياطين من الجنّ على الوجه الأول، ومطلق الجن على الوجه الثاني لأن الشيطان منهم، هو الذي يوسوس لا غيره، ومطلقهم يوسوس إليه. واختار الزّمخشري الوجه الأول، وقال: ما أحقّ أن اسم الناس ينطلق على الجن، لأنّ الجنّ سمّوا جنّا لاجتنانهم: أي لاستتارهم، والنّاس سمّوا أناسا لظهورهم من الإيناس وهو الإبصار كما سمّوا بشرا لظهورهم من البشرة ولو صحّ هذا الإطلاق، لم يكن هذا المجمل مناسبا لفصاحة القرآن. قال: وأجود منه أن يراد «بالناس» الأول الناسي كقوله تعالى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [القمر: 6] .

المبحث السادس المعاني المجازية في سورة"الناس"

المبحث السادس المعاني المجازية في سورة «الناس» «1» في قوله تعالى: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) استعارة، والمراد بالوسواس هنا، الكلام الخفيّ الذي يلقيه الشيطان أو الإنسان الشبيه به، في أقصى أذن السّامع، فيلفته عن رشاد، ويصرفه الى ضلال، والوسوسة كالهمهمة، قال رؤبة: وسوس يدعو مخلصا ربّ الفلق «2» . والخّناس هنا، صفة للوسواس، والمراد به الذي يخنس في القلب، ويسكن في الصدر، أي يستتر ويستجنّ، يقال خنس فلان عن أصحابه، يخنس خناسا وخنوسا إذا تغيّب عنهم، وقد قيل إن الوسواس هنا اسم للشيطان نفسه، فيجوز أن يكون إنّما سمّي بفعله، لكثرة وقوعه منه، وشيوعه عنه، وقيل: الوسواس بالفتح الشيطان، والوسواس بالكسر المصدر. وجاء في الخبر أن الشيطان يوسوس في العبد، فإذا ذكر العبد ربّه خنس، وقبع، وانقبض، وقيل أيضا إن المراد من شرّ ذي الوسواس، وهو الشيطان، أو الإنسان، فحذف «ذي» لدلالة الكلام عليه، وإشارته إليه.

_ (1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. (2) . جاء الشطر الثاني لهذا الرجز غير واضح، فاثرنا حذفه من هنا، لأنه غير موضع استشهاد.

الفهرس

الفهرس سورة «الضحى» المبحث الأول أهداف سورة «الضحى» 3 مقاصد سورة الضحى 5 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الضحى» 7 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 7 الغرض منها وترتيبها 7 تثبيت النبي (ص) 7 المبحث الثالث لكل سؤال جواب في سورة «الضحى» 9 المبحث الرابع المعاني المجازية في سورة «الضحى» 11 سورة «الشرح» المبحث الأول أهداف سورة «الشرح» 15

مجمل ما تضمّنته السورة 15 مع السورة 15 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الشرح» 17 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 17 الغرض منها وترتيبها 17 تثبيت النبي (ص) 17 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الشرح» 19 المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «الشرح» 21 المبحث الخامس المعاني المجازية في سورة «الشرح» 23 «سورة التين» المبحث الأول أهداف سورة «التين» 27 مجمل ما تضمنته السورة 28 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التين» 29 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 29 الغرض منها وترتيبها 29 الإسلام دين الفطرة 29

سورة"العلق"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التين» 31 من اللطائف 31 المبحث الرابع مكنونات سورة «التين» 33 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «التين» 35 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «التين» 37 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «التين» 39. سورة «العلق» المبحث الأول أهداف سورة «العلق» 43 مقاصد سورة العلق 45 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «العلق» 47 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 47 الغرض منها وترتيبها 47 إعلام النبي بالدعوة 47 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «العلق» 49

سورة"القدر"

المبحث الرابع مكنونات سورة «العلق» 51 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «العلق» 53 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «العلق» 55 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «العلق» 57 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «العلق» 59. سورة «القدر» المبحث الأول أهداف سورة «القدر» 63 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القدر» 67 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 67 الغرض منها وترتيبها 67 فضل ليلة نزول القرآن 67 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القدر» 69 المبحث الرابع مكنونات سورة «القدر» 71

سورة"البينة"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «القدر» 73 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «القدر» 75. سورة «البيّنة» المبحث الأول أهداف سورة «البيّنة» 79 مع آيات السورة 80 ملخّص السورة 82 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «البيّنة» 85 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 85 الغرض منها وترتيبها 85 بيان فضل القرآن 85 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «البيّنة» 87 المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «البيّنة» 89. سورة «الزلزلة» المبحث الأول أهداف سورة «الزّلزلة» 93 مع آيات السورة 94

سورة"العاديات"

مقاصد السورة 95 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الزّلزلة» 97 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 97 الغرض منها وترتيبها 97 الترغيب في الخير والتحذير من الشر 97 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الزّلزلة» 99 المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الزّلزلة» 101 المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الزّلزلة» 103 المبحث السادس المعاني المجازية في سورة «الزّلزلة» 105. سورة «العاديات» المبحث الأول أهداف سورة «العاديات» 109 المفردات 109 مع آيات السورة 110 المعنى الاجمالي للسورة 112 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «العاديات» 113 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 113

سورة"القارعة"

الغرض منها وترتيبها 113 ميل الإنسان إلى الشر 113 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «العاديات» 115 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «العاديات» 117 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «العاديات» 119 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «العاديات» 121. سورة «القارعة» المبحث الأول أهداف سورة «القارعة» 125 معاني المفردات 125 مع آيات السورة 126 مقاصد السورة 127 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القارعة» 129 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 129 الغرض منها وترتيبها 129 وزن الأعمال يوم القيامة 129 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القارعة» 131

سورة"التكاثر"

المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «القارعة» 133 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «القارعة» 135 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «القارعة» 137 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «القارعة» 139. سورة «التكاثر» المبحث الأول أهداف سورة «التكاثر» 143 من أسباب النزول 143 المفردات 143 مع آيات السورة 144 أهداف سورة التكاثر 145 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التكاثر» 147 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 147 الغرض منها وترتيبها 147 تحريم التفاخر 147 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التكاثر» 149

سورة"العصر"

المبحث الرابع لكل سؤال جواب في سورة «التكاثر» 151 المبحث الخامس المعاني المجازية في سورة «التكاثر» 153. سورة «العصر» المبحث الأول أهداف سورة «العصر» 157 المفردات 158 خلاصة أهداف السورة 159 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «العصر» 161 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 161 الغرض منها وترتيبها 161 الترغيب في العمل الصالح 161 المبحث الثالث لكل سؤال جواب في سورة «العصر» 163. سورة «الهمزة» المبحث الأول أهداف سورة «الهمزة» 167 المفردات 167 فكرة السورة 167 أسباب النزول 168

سورة"الفيل"

مع آيات السورة 168 أهداف السورة 170 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الهمزة» 171 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 171 الغرض منها وترتيبها 171 تحريم الاغترار بالمال 171 المبحث الثالث مكنونات سورة «الهمزة» 173 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الهمزة» 175 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الهمزة» 177 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الهمزة» 179 المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الهمزة» 181. سورة «الفيل» المبحث الأول أهداف سورة «الفيل» 185 قصّة أصحاب الفيل 185 مع آيات السورة 188 أهداف السورة 189

سورة"قريش"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفيل» 191 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 191 الغرض منها وترتيبها 191 قصة أصحاب الفيل 191 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفيل» 193 المبحث الرابع مكنونات سورة «الفيل» 195 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفيل» 197 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الفيل» 199. سورة «قريش» المبحث الأول أهداف سورة «قريش» 203 مع آيات السورة 204 المفردات 204 أهداف السورة 204 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «قريش» 207 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 207 الغرض منها وترتيبها 207

سورة"الماعون"

الامتنان على قريش برحلة الشتاء والصيف 207 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «قريش» 209 المبحث الرابع مكنونات سورة «قريش» 211 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «قريش» 213 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «قريش» 215 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «قريش» 217. سورة «الماعون» المبحث الأول أهداف سورة «الماعون» 221 مفردات السورة 221 مع آيات السورة 222 أهداف السورة 225 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الماعون» 227 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 227 الغرض منها وترتيبها 227 ذم البخل بالمال 227

سورة"الكوثر"

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الماعون» 229 المبحث الرابع مكنونات سورة «الماعون» 231 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الماعون» 233 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الماعون» 235. سورة «الكوثر» المبحث الأول أهداف سورة «الكوثر» 239 المفردات 239 مع آيات السورة 240 مقصود الصورة 241 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الكوثر» 243 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 243 الغرض منها وترتيبها 243 تفضيل الدين على المال والولد 243 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الكوثر» 245 المبحث الرابع مكنونات سورة «الكوثر» 247

سورة"الكافرون"

المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الكوثر» 249 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الكوثر» 251. سورة «الكافرون» المبحث الأول أهداف سورة «الكافرون» 255 أسباب النزول 255 المفردات 255 فكرة السورة 256 مع آيات السورة 256 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الكافرون» 259 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 259 الغرض منها وترتيبها 259 متاركة الكفار 259 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الكافرون» 261 المبحث الرابع مكنونات سورة «الكافرون» 263 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الكافرون» 265

سورة"النصر"

المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الكافرون» 267. سورة «النصر» المبحث الأول أهداف سورة «النصر» 271 المفردات 271 سورة التوديع 272 مقصود السورة 272 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النصر» 273 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 273 الغرض منها وترتيبها 273 الوعد بالنصر ونشر الدين 273 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النصر» 275 المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «النصر» 277 المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «النصر» 279. سورة «المسد» المبحث الأول أهداف سورة «المسد» 283

مقصود السورة 283 المفردات 283 مع السورة 284 مضمون السورة 286 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المسد» 287 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 287 الغرض منها وترتيبها 287 إنذار الكافر بالهلاك 287 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المسد» 289 المبحث الرابع مكنونات سورة «المسد» 291 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المسد» 293 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المسد» 295 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المسد» 297 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المسد» 299.

سورة"الإخلاص"

سورة «الإخلاص» المبحث الأول أهداف سورة «الإخلاص» 305 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الإخلاص» 313 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 313 الغرض منها وترتيبها 313 طلب إخلاص الدين لله 313 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الإخلاص» 315 المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الإخلاص» 317 المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الإخلاص» 319 المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الإخلاص» 321. سورة «الفلق» المبحث الأول أهداف سورة «الفلق» 325 المفردات 325 مع آيات السورة 325 مقصود سورة الفلق 327

سورة"الناس"

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفلق» 329 تاريخ نزلها ووجه تسميتها 329 الغرض منها وترتيبها 329 تخصيص الله بالاستعاذة من شر الخلق 329 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفلق» 331 المبحث الرابع مكنونات سورة «الفلق» 333 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفلق» 335 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفلق» 337 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفلق» 339 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفلق» 341. سورة «الناس» المبحث الأول أهداف سورة «الناس» 345 مفردات السورة 345 مع آيات السورة 345 مقصود سورة الناس 348

المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الناس» 349 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 349 الغرض منها وترتيبها 349 تخصيص الله بالاستعاذة من شر الإغواء 349 المبحث الثالث مكنونات سورة «الناس» 351 المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الناس» 353 المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الناس» 355 المبحث السادس المعاني المجازية في سورة «الناس» 357.

§1/1