الموسوعة القرآنية المتخصصة

مجموعة من المؤلفين

مقدمة

- أ - مقدمة بسم الله الرّحمن الرّحيم أ. د. محمود حمدى زقزوق وزير الأوقاف فى إطار مشروع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية لإصدار موسوعات إسلامية متخصصة في مجالات الفكر الإسلامى المتنوعة، قدم المجلس منذ عام مضى المجلد التمهيدى الأول بعنوان: (الموسوعة الإسلامية العامة). والمشروع- كما بينا في مقدمة المجلد المشار إليه- مشروع طموح يشتمل على ستة عشر مجلدا تغطى جميع مجالات الفكر الإسلامي. واليوم يسعدنا أن نقدم للقارئ الكريم مجلدا آخر من هذه السلسلة بعنوان: (الموسوعة القرآنية المتخصصة) يشتمل على خمسة عشر مدخلا، وتحت كل منها العديد من الموضوعات التى شملت كل ما يتعلق بالقرآن الكريم، ليس فقط ما يتصل منها بعلوم القرآن التى أخذت حيزا كبيرا في هذا المجلد، وإنما امتد البحث إلى موضوعات أخرى مثل: الإنسان فى القرآن، والسنن الإلهية فى القرآن، والمبادئ العامة والقيم فى القرآن، والإعجاز العلمى والبياني، وغير ذلك من موضوعات لا يجدها القارئ إلا فى العديد من المراجع المختلفة المتخصصة. ولكننا أردنا أن نجمع كل ذلك فى مجلد واحد تيسيرا على الباحثين والمهتمين بالتعرف على كل ما يتعلق بالقرآن الكريم. وقد

- ب - اشترك فى كتابه مواد هذه الموسوعة صفوة مختارة من الأساتذة والعلماء المتخصصين، كل فى مجاله، ممن أمضوا الشطر الأكبر من حياتهم فى خدمة القرآن الكريم وعلومه. وحقيقة الأمر أن القرآن كان ولا يزال، وسيظل إلى آخر الزمان نبعا فياضا لشتى العلوم الدينية والدنيوية، لا ينقطع مدده، ولا يتوقف عطاؤه، ولا تنقضى عجائبه، ويكشف لكل من يتعمق فى بحثه، ويتوفر على دراسته بإخلاص وتجرد الأسرار تلو الأسرار. ومن هنا كانت عناية المسلمين به على مر الزمان عناية لم يحظ بها كتاب سماوى آخر فى أى دين من الأديان. ولا عجب فى ذلك، فقد تكفل الله- سبحانه وتعالى- بحفظه حين قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. ومن أجل ذلك ظل النص القرآنى منذ نزل بعيدا عن التحريف مبرأ من التبديل والتغيير. ويجد المرء النص القرآنى ذاته دون تغيير حرف أو حركة لدى جميع الفرق الإسلامية مهما تباعدت مسافات الخلاف بينها. فهذه الفرق قد تختلف ربما فى كل شىء إلا فى الإجماع على النص القرآنى الذى يجده الإنسان كما هو حتى لدى الفرق المنشقة. وقد أردنا، فى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، بهذا المجلد ألّا نحرم من شرف خدمة القرآن الكريم فكانت هذه الموسوعة التى تقدم خدمة علمية جليلة للباحثين والمتخصصين يجدون فيها ضالتهم، كما يجد فيها القارئ غير المتخصص المعلومات التى تزيده معرفة بالقرآن الكريم. وإذا كنا، فى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، نشعر بسعادة غامرة للتوفيق الربانى الذى صاحب إعداد هذه الموسوعة والذى تم

- جـ - فى يسر وسهولة، فإننا نود أن نقدم خالص الشكر والتقدير للأساتذة الذين قدموا لنا فى هذه الموسوعة القرآنية خلاصة فكرهم، وما أفاء الله به عليهم من علم خدمة للقرآن الكريم، وخدمة لكل من يريد التعرف على شىء يتعلق بهذا القرآن العظيم. ولا يفوتنا أن نقدم خالص الشكر أيضا للعديد ممن أسهموا إسهاما بارزا فى إخراج هذا المجلد، ونخص بالذكر الأخ الفاضل الأستاذ الدكتور عبد الصبور مرزوق، والأخ الكريم الأستاذ الدكتور على جمعة محمد الذى قام بمهمة الإعداد والتحرير، والأستاذ أبو سليمان صالح الذى أشرف على طباعة هذه الموسوعة، ولكثيرين غيرهم ممن أسهموا بشكل أو بآخر فى العمل على إخراج هذا المجلد، فلهم جميعا منا كل الشكر والتقدير، ومن الله الأجر والثواب الجزيل. وبالله التوفيق .. ،،

كلمة التحرير

- هـ - كلمة التحرير هذه هى الموسوعة القرآنية المتخصصة، وهى الكتاب الثانى بعد المجلد التمهيدى الذى صدر تحت عنوان (الموسوعة الإسلامية العامة)، وبذلك يعد أول الموسوعات المتخصصة، والتى ستصدر تباعا إن شاء الله تعالى، وفى هذا المجلد سيجد القارئ الكريم أننا عالجنا فى صورة مقالات مطولة مستفيضة خمسة عشر موضوعا تتعلق كلها بالقرآن الكريم بدأناها بالوحى، ثم أسباب النزول، ثم المبادئ العامة والقيم فى القرآن الكريم، ثم القرآن وما يكتب فيه، ثم السور القرآنية، ثم التفسير والمفسرون ثم القراءات والقراء، ثم علم التجويد، ثم بلاغة القرآن، ثم علوم القرآن، ثم الإعجاز البيانى، ثم الإعجاز المعاصر، ثم الإعجاز العلمى، ثم مفردات قرآنية، ثم الإنسان فى القرآن، ثم السنن الإلهية فى القرآن، ثم ترجمة معانى القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى غير العربية، وقام أساتذة كرام من كبار العلماء بكتابة هذه الموضوعات، وفى نهاية الموسوعة كتبنا فهرسا بالمحتويات، ثم فهرسا هجائيا بمفردات ما ورد فى الموسوعة من مواد، يستطيع القارئ بيسر مراجعة أى موضوع يريده بالبحث فى هذا الفهرس التفصيلى، كما أنه يستطيع أن يراجع أى مقالة بحالها، وهذه الموسوعة تغيّت جمهور خطابها فى المثقفين الذين يريدون أن ينهلوا المعرفة الدقيقة الصافية مع الإحالة إلى المراجع الموثقة بشأن كل جزئية من الجزئيات. والله نسأل أن ينفع بها وأن يجعلها تسد حاجة طال انتظارها. أ. د. على جمعة محمد

السادة العلماء المشاركون فى تحرير الموسوعة

- و - السادة العلماء المشاركون فى تحرير الموسوعة (¬1) 1 - أ. د. إبراهيم عبد الرحمن خليفة. أستاذ بجامعة الأزهر 2 - أ. د. أحمد فؤاد باشا. نائب رئيس جامعة القاهرة 3 - أ. د. جمال مصطفى المجار. أستاذ بجامعة الأزهر 4 - أ. د. جودة محمد أبو اليزيد المهدى. أستاذ بجامعة الأزهر 5 - أ. د. السيد إسماعيل على سليمان. أستاذ بجامعة الأزهر 6 - أ. د. عبد الحى الفرماوى. أستاذ بجامعة الأزهر 7 - أ. د. عبد السميع هاشم. أستاذ بجامعة الأزهر 8 - أ. د. عبد العظيم المطعنى. أستاذ بجامعة الأزهر 9 - أ. د. عبد الغفور محمود مصطفى. أستاذ بجامعة الأزهر 10 - أ. د. على جمعة محمد. أستاذ بجامعة الأزهر 11 - أ. د. محمد بكر إسماعيل. أستاذ بجامعة الأزهر 12 - أ. د. محمد رجب البيومى. أستاذ بجامعة الأزهر 13 - أ. د. محمد السيد جبريل. أستاذ بجامعة الأزهر 14 - أ. د. مصطفى الشكعة. أستاذ بجامعة عين شمس الإعداد والتحرير: أ. د. على جمعة محمد الإشراف الفنى: أ. أبو سليمان محمد صالح ¬

_ (¬1) رتبت الأسماء طبقا للترتيب الهجائى.

الوحى

الوحى الإيمان بالوحى الإلهى ضرورة حتمية للإيمان بالقرآن وبالرسالة؛ لأن الوحى هو وسيلة إنزال القرآن على قلب النبى صلّى الله عليه وسلم كما صرح بذلك فى قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها (¬1) ومن ثم كانت قضية الوحى بأبعادها المختلفة لها عظيم الأهمية فى مجال البحث القرآنى مما يستلزم إلقاء الضوء عليها وإزالة اللبس المكتنف لها. ويعرّف الوحى لغة: بأنه الإعلام فى خفاء، وأصله كما قال الراغب: الإشارة السريعة. ومجمع القول فى معناه اللغوى: أنه الإعلام الخفى السريع الخاص بمن يوجّه إليه بحيث يخفى على غيره (¬2). ويتفرع عن هذا المدلول اللغوى عدة معان للوحى كالإشارة والكتاب والرسالة والأمر والتفهيم (¬3). أما الوحى بمعناه الشرعى: فهو إعلام الله تعالى لنبىّ من أنبيائه بحكم شرعى ونحوه بطريقة خفية غير معتادة للبشر (¬4). وللوحى إطلاقات عديدة ورد بها فى القرآن الكريم مفرعة عن المدلول اللغوى الأصلى لمادة «الوحى» و «الإيحاء»: فمن ذلك: إطلاق الوحى بمعنى الإلهام الفطرى للإنسان كما فى قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ (¬5) وقوله تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي (¬6). ومن ذلك: إطلاق الوحى بمعنى الإلهام الغريزى للحيوان؛ كما فى قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (¬7). ومن ذلك: إطلاق الوحى مرادا به الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيماء كما فى قوله تعالى فى حق نبى الله زكريا- عليه السلام-: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (¬8). ومن ذلك: إطلاق الوحى بمعنى وسوسة الشيطان وتزيينه الشر للإنسان؛ كما فى قوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ ¬

(¬1) سورة الشورى: الآية 7. (¬2) محمد رشيد رضا: الوحى المحمدى ص 7 ط الزهراء للإعلام العربى 1408 هـ- 1988 م. (¬3) د/ جودة محمد أبو اليزيد المهدى: فتح الجليل فى علوم التنزيل: ص 191 - 192، ط/ دار الفاتح للتراث الإسلامى. (¬4) محمد رشيد رضا: الوحى المحمدى ص 8 ط/ الزهراء 1408 هـ، وعبد العظيم الزرقانى: مناهل العرفان 1/ 56 ط/ الحلبى. (¬5) سورة القصص: الآية 7. (¬6) سورة المائدة: الآية 111. (¬7) سورة النحل: الآية 68. (¬8) سورة مريم: الآية 11.

لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (¬9). وبنفس المعنى يأتى التعبير بالوحى لدلالة وسوسة شياطين الجن إلى شياطين الإنس أو بعض الجن إلى بعض، أو بعض الإنس إلى بعض، كما فى قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (¬10) (¬11). وكذلك ورد الوحى- فى التنزيل- بمعنى الإلهام أو الرؤيا المنامية، كما فى قوله تعالى: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ (¬12) (¬13). كما جاء إطلاق الوحى- فى التنزيل. بمعنى الأمر والتعليم، كما فى قوله تعالى: فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا (¬14) (¬15). وجاء إطلاق الوحى مرادا به إلقاء الله إلى الملائكة من أمره، وإجراء له مجرى القول، وذلك فى قوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا (¬16) (¬17). ثم لقد جاء إطلاق الوحى بمعناه الشرعى إلى النبى صلّى الله عليه وسلم وإلى غيره من الأنبياء فى آيات عديدة كما فى قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (¬18). كما جاء إطلاق الوحى إلى جميع الرسل السابقين فى قوله عز شأنه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (¬19). ****** ونتوقف عند وحى الله تعالى إلى الملائكة لنتعرف حقيقته: فقد جاء وحى الله إلى الملائكة فى قوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا (¬20). كما صرح القرآن العزيز بأنه تعالى يوحى إلى ملك الوحى ما يوحيه الملك إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم، وذلك فى قوله سبحانه: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (¬21) أى: أوحى الله تعالى إلى عبده جبريل- عليه السلام- ما أوحاه جبريل إلى نبيّه سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم (¬22). * ولأن وحى الله تعالى إلى ملائكته من الأمور الغيبية التى لا نعلم كيفيتها إلا ¬

(¬9) سورة الأنعام: الآية 121. (¬10) سورة الأنعام: الآية 112. (¬11) انظر تفسير البيضاوى (أنوار التنزيل) 1/ 274 ط/ الحلبى 1358 هـ 1939 م. (¬12) سورة طه- عليه الصلاة والسلام- الآية 38، وبعض الآية 39. (¬13) انظر (أنوار التنزيل) للبيضاوى 2/ 39 ط/ الحلبى 1358 هـ 1939 م. (¬14) سورة المؤمنون: الآية 27. (¬15) انظر (أنوار التنزيل) للبيضاوى 2/ 83 ط/ الحلبى 1358 هـ. (¬16) سورة الأنفال صدر الآية الكريمة 12. (¬17) انظر (أنوار التنزيل) للبيضاوى 1/ 323 ط/ الحلبى 1358 هـ. (¬18) سورة النساء: الآية 163. (¬19) سورة الأنبياء: الآية 25. (¬20) سورة الأنفال: صدر الآية الكريمة 12. (¬21) سورة النجم: الآية 10، وانظر (أنوار التنزيل) للبيضاوى 1/ 340. (¬22) انظر (أنوار التنزيل) للبيضاوى 1/ 340 ط/ الحلبى، والوحى المحمدى لمحمد رشيد رضا ص 7 ط/ الزهراء.

أنواع الوحى ومراتبه

بالتوقيف والنقل عن صحيح السنة ومقبولها، فإننا نعمد إلى ما روى من السنة الصحيحة فى هذا الصدد: فيروى البخارى عن عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- أنه قال: «إذا تكلم الله بالوحى سمع أهل السماوات شيئا، فإذا فزّع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق» (¬23). ولا مرية فى أن أهل السماوات هم الملائكة. كما أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن أبى معاوية أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله- عز وجل- إذا تكلم بالوحى سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجرّ السلسلة على الصفاء، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاء جبريل فزّع عن قلوبهم. قال: ويقولون: يا جبريل ماذا قال ربكم؟ قال: فيقول: الحق. قال فينادون: الحقّ، الحقّ» (¬24). هذا مع الأخذ فى الاعتبار أن الملائكة ذواتهم نورانية علوية، ويعتريهم من أثر الوحى هذا الصعق، كما يعترى السماء ذاتها تلك الصلصلة، ولا عجب فإنه تجلى الحق تعالى بصفة الكلام القديم وأنّى للمحدثات بالصمود لسطوتها!! إنهم من فزعهم يحسبون أن الساعة قد حان مرساها. فقد أخرج ابن مردويه من حديث ابن مسعود مرفوعا: «إذا تكلم الله بالوحى سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان، فيفزعون، ويرون أنه من أمر الساعة» (¬25)!! وسيأتى مزيد تبيان لتلقى الملك الوحى سماعا من الله تعالى فى تناولنا للوحى القرآنى خلال هذا البحث بإذن الله تعالى. ****** أنواع الوحى ومراتبه: فنجد الأصل فى معرفة ذلك- قرآنيا- قوله تعالى شأنه: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (¬26). فقد استنبط أساطين المفسرين منها جملة أنواع للوحى الإلهى إلى من اصطفاهم الله تعالى من البشر: النوع الأول: ما كان الوحى فيه إلقاء فى القلب مناما، وهو ما يعرف بوحى الرؤيا الصادقة، كرؤيا خليل الرحمن- عليه السلام- التى قصّها القرآن فى قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (¬27). وكرؤيا النبى صلّى الله عليه وسلم أنه يدخل المسجد ¬

(¬23)، (¬24) فتح البارى بشرح صحيح البخارى لابن حجر 13/ 389 ط/ الهيئة المصرية 1348 هـ. (¬25) انظر تخريجه فى (الإتقان) للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم 1/ 127 ط/ المشهد الحسينى 1387 هـ. (¬26) سورة الشورى: الآية 51. (¬27) سورة الصافات: الآية 102.

الحرام، حيث قال تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (¬28). النوع الثانى: ما كان الوحى فيه إلقاء فى القلب يقظة، بالإلهام الذى يقذفه الله تعالى فى قلب مصطفاه، على وجه من العلم الضرورى الذى لا يستطيع له دفعا ولا يجد فيه شكا ولا إشكالا، ومن هذا النوع: ما رواه أبو نعيم عن أبى أمامة والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبى صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن روح القدس نفث فى روعى: أنه لن تموت نفس حتى تستوفى رزقها» (¬29). النوع الثالث: ما كان الإيحاء فيه يقظة من غير طريق الإلهام. وذلك كإيحاء الزبور لنبى الله داود- عليه السلام- فقد روى عن مجاهد رضي الله عنه أن الزبور أوحى إليه فى صدره إلقاء فى اليقظة وليس بإلهام، والفرق فى ذلك: أن الإلهام لا يستدعى صورة كلام نفسى حتما فقد وقد، وأما اللفظى: فلا. وأما إيحاء الزبور فإنه يستدعيه (¬30). النوع الرابع: ما كان الوحى فيه بالتكليم مشافهة ومكافحة عيانا بغير حجاب ولا واسطة، كما وقع لنبينا صلّى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فقد استشهد الأئمة من المفسرين لرؤية النبى صلّى الله عليه وسلم ربه عند تفسير قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (¬31) بما فى حديث أنس عند البخارى من قوله: « ... ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبّار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة .... ». (¬32) ومناط هذا الاستدلال: إرجاع الضمائر فى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى وكذا الضمير المنصوب فى وَلَقَدْ رَآهُ لله تعالى، ومن ثم يتقرر ثبوت الوحى المباشر مع الرؤية عيانا وهو أرفع أنواع الوحى. النوع الخامس: ما كان الوحى فيه من وراء حجاب، بغير واسطة ولكن لا بالمشافهة، بأن يسمع كلاما من الله من غير رؤية السامع من يكلمه، كما سمع سيدنا موسى- عليه السلام- من الشجرة، ومن الفضاء فى جبل الطور، قال تعالى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (¬33) وليس المراد بالحجاب فى قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ: حجاب الله تعالى عن عبده حسّا، إذ لا حجاب بينه وبين خلقه حسا، وإنما المراد: المنع من رؤية الذات الأقدس بلا واسطة (¬34). النوع السادس: هو ما كان الوحى فيه ¬

(¬28) سورة الفتح: الآية 27. (¬29) انظر (الجامع الكبير) للحافظ السيوطى 1/ 243، وانظر (فتح البارى) لابن حجر 1/ 16، و (مناهل العرفان) للزرقانى 1/ 57. (¬30) انظر (روح المعانى) للإمام الآلوسي 25/ 54 ط/ المنيرية، و (مفاتيح الغيب) للفخر الرازى 27/ 187 ط/ دار الفكر 1401 هـ 1981 م. (¬31) سورة النجم: الآية 13. (¬32) أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد من صحيحه 4/ 199، ط/ حجازى، وانظر (روح المعانى) للآلوسى 28/ 52. (¬33) سورة القصص: الآية 30. (¬34) انظر (البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد) لابن عجيبة الحسنى 5/ 330، ط/ الهيئة المصرية العامة للكتاب 1421 هـ- 2000 م.

بواسطة ملك يرسله الله تعالى إلى مصطفاه من البشر، وهذا النوع هو المعروف بالوحى الجلىّ، وهو المذكور فى قوله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ. هذا: ووجه انحصار هذه الأنواع الستة فى الأقسام الثلاثة المذكورة فى الآية الكريمة- التى صدرنا بها هذا المبحث- أن القسم الأول- المستنبط من قوله سبحانه: إِلَّا وَحْياً ينتظم الأنواع الأربعة الأولى، وهى: الوحى المنامى، والإلهامى- بالنفث فى الروع-، والإلقائى فى الصدر بصورة الكلام النفسى، والتكليم مشافهة مع الرؤية. والقسم الثانى: المذكور فى قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ يختص بالنوع الخامس. وكذلك القسم الثالث- المأخوذ من قوله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا يختص بالنوع السادس الأخير. * تلك هى الأنواع الرئيسية للوحى، على أن الإمام الحليمى قد ذكر أن الوحى كان يأتى النبى صلّى الله عليه وسلم على ستة وأربعين نوعا، فذكرها، وغالبها من صفات حامل الوحى، ومجموعها يدخل فيما ذكر (¬35). * وبناء على ما تقدم، فإن مراتب الوحى يمكن أن تصنّف باعتبارين: فباعتبار المشافهة والتلقى من المصدر دون حجاب أو واسطة يكون ترتيب الأقسام فى الآية الكريمة أولوية، حيث ذكر أولا: الكلام بلا واسطة بل مشافهة، ويندرج تحته- أولويا-: النوع الرابع- فى تصنيفنا الآنف- ثم النوع الثالث، ثم النوع الثانى، ثم الأول. ثم ذكر ما كان بغير واسطة ولكن لا بالمشافهة، بل من وراء الغيب، وهو النوع الخامس. ثم ذكر ثالثا: الكلام بواسطة الإرسال. وأما بالاعتبار الثانى- وهو باعتبار الجلاء والخفاء- فإن النوع السادس هاهنا وهو المصطلح على تسميته ب (الوحى الجلى) له الصدارة، إذ هو أشهر الأنواع وأكثرها. ولذلك كان وحى القرآن الكريم جلّه- على المعتمد الراجح- من هذا النوع. ووجه تفضيله: أنه مخصوص بالأنبياء- عليهم السلام- وليس لأنه أشرف من وحى المشافهة. ثم يليه الوحى فى اليقظة بدون حجاب سواء كان إيحاء مع استدعاء صورة الكلام النفسى، أم إلهاما بالنفث فى الروع، ثم الإلقاء المنامى فى القلب- الذى أخرج فيه الشيخان- عن النبى صلّى الله عليه وسلم: «رؤيا الأنبياء وحى» (¬36). ثم التكليم من وراء حجاب. ¬

(¬35) انظر (فتح البارى) لابن حجر 1/ 16، ط/ الهيئة المصرية. (¬36) أخرجه البخارى فى باب (التخفيف فى الوضوء) حديث 138، وخرجه الحافظ فى فتح البارى عن مسلم (1/ 289).

صور الوحى إلى النبى صلى الله عليه وسلم وكيفياته:

صور الوحى إلى النبى صلّى الله عليه وسلم وكيفياته: فنجد العلماء قد ذكروا له تسع صور تجسد كيفياته وصفاته: فالصورة الأولى: أن يأتى ملك الوحى إلى النبى صلّى الله عليه وسلم فى مثل صلصلة الجرس، فقد روى البخارى فى صحيحه بسنده عن السيدة عائشة- رضى الله تعالى عنها- أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس- وهو أشده علىّ- فيفصم عنى وقد وعيت ما قال .. ». (¬37) لقد شبّه النبى صلّى الله عليه وسلم صوت الملك لدى مجيئه بالوحى بصوت صلصلة الجرس. والصلصلة فى الأصل: صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين. وقيل: هو صوت متدارك لا يدرك فى أول وهلة، ولا يتبينه أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد. والجرس- بفتح الراء- مشتق من الجرس- بسكون الراء- وهو الحسّ، ويطلق على ناقوس صغير أو سطل فى داخله قطعة نحاس يعلق منكوسا على البعير، فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت السطل فحدثت الصلصلة (¬38). وقال بعض العلماء: إن الصلصلة صوت خفق أجنحة الملك، والحكمة فى تقدمه للوحى أن يقرع سمعه صلّى الله عليه وسلم الوحى فلا يبقى مكان لغيره، ولما كان الجرس لا يحصل صلصلة إلا متداركة، وقع التشبيه به دون غيره من الآلات. فإن الكلام العظيم له مقدمات تأذن بتعظيمه للاهتمام به، وإنما كان شديدا عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع (¬39). كذلك أخرج الإمام أحمد فى مسنده عن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما- أنه قال: سألت النبى صلّى الله عليه وسلم: هل تحس بالوحى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نعم. أسمع صلاصل، ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إلىّ إلا ظننت أن نفسى تفيض» (¬40). وهذا الحديث يفسر قوله صلّى الله عليه وسلم- فى حديث البخارى المتقدم- عن هذه الكيفية للوحى: «وهو أشده علىّ»!! ومع هذه الحالة المذكورة يكون النفث من الملك فى روع النبى صلّى الله عليه وسلم كما تقدم، إذ يقول الحافظ ابن حجر: (وأما النفث فى الروع فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين- أى الصلصلة والتمثل رجلا- فإذا أتاه الملك فى مثل صلصلة الجرس نفث حينئذ فى روعه) (¬41). وظاهر ذلك خفاء ذات الملك لدى الصلصلة. ¬

(¬37) انظر (فتح البارى) لابن حجر 1/ 15 - 16 ط/ الهيئة المصرية. (¬38)، (¬39) نفس المصدر السابق. (¬40) انظر مسند الإمام أحمد 2/ 222، نشر دار صادر. (¬41)،

وأما الصورة الثانية للوحى: فهى أن يأتى الملك للنبى صلّى الله عليه وسلم فى صورة رجل، فيكلمه بالوحى، كما قال النبى صلّى الله عليه وسلم- فى تتمة حديث البخارى الذى أوردنا صدره فى بيان الصورة الأولى-: «وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى، فأعي ما يقول» ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصّد عرقا!!. وقد زاد أبو عوانة فى صحيحه: «وهو أهونه علىّ». كما ذكر فى «الإتقان». وفى توضيح تمثّل الملك النبى صلّى الله عليه وسلم رجلا. قال إمام الحرمين: معناه: أن الله أفنى الزائد من خلقه، أو أزاله عنه ثم يعيده إليه بعد. وقال شيخ الإسلام سراج الدين البلقينى: إن ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه، بل يجوز أن يكون الآتى هو جبريل بشكله الأصلى، إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك: عاد إلى هيئته. ثم قال الحافظ ابن حجر معقّبا: والحق أن تمثيل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه: أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أيضا: أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائى فقط. والله أعلم (¬42). ونستحضر هنا: أن النفث فى الروع يحتمل أن يكون مع هذه الحالة أيضا كما تقدم. والصورة الثالثة: هى المقابلة للثانية- وهى أن ينخلع النبى صلّى الله عليه وسلم عن صورته البشرية، ويدخل فى الصورة الملكية بتمكين الله- تعالى- له ذلك، ويتلقى الوحى من الملك. وهذه- كما ذكر العلماء- أصعب الحالتين (¬43). ثم الصورة الرابعة: أن يوحي رب العزة إلى النبى صلّى الله عليه وسلم فى المنام بلا واسطة، كما جاء فى سنن الترمذي مرفوعا: «أتانى الليلة ربى تبارك وتعالى فى أحسن صورة فقال: يا محمد، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ .... » (¬44) الحديث. ومما يجب التنبيه إليه هنا أن الحق- تعالى- منزه عن الصورة الحسية، فإذا رئى- سبحانه- على وصف يتعالى عنه كان لتلك الرؤيا ضرب من التأويل، كما نقل الحافظ ابن حجر عن الواسطى: أن من رأى ربه على صورة شيخ كان إشارة إلى وقار الرأى، وغير ذلك (¬45). والصورة الخامسة: أن يأتى ملك الوحى جبريل إلى النبى صلّى الله عليه وسلم فى النوم فيوحى إليه بما أمره الله تعالى به. وقد عدّ بعض العلماء من هذا القبيل سورة (الكوثر)، بيد أن التحقيق أنها نزلت فى اليقظة (¬46)، كما سيأتى فى تناول الوحى القرآنى فى محله. والصورة السادسة: أن يأتى الملك ¬

(¬42) انظر (فتح البارى) لابن حجر 1/ 85، 17 ط/ الهيئة المصرية. (¬43) انظر (الإتقان) للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم 1/ 125، ط/ المشهد الحسينى. (¬44) انظر (عمدة القارى) للإمام العينى 1/ 44، ط/ الحلبى، الأولى 1392 هـ- 1972 م. (¬45) انظر (فتح البارى) لابن حجر العسقلانى 12/ 336، ط/ الهيئة المصرية. (¬46) انظر (الإتقان) للحافظ السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم 1/ 129، ط/ المشهد الحسينى.

جبريل- عليه السلام- إلى النبى صلّى الله عليه وسلم يقظة على صورته الأصلية تماما بلا تمثل ولا تغير بانضمام ونحوه، فيراه بستمائة جناح ينتشر منها اللؤلؤ والياقوت، ويوحى إليه على تلك الهيئة الملكية الأصلية كما نقله الإمام العينى عن السهيلى فى بيان صورة الوحى من (عمدة القارى) (¬47). ويؤيده ما رواه الإمام مسلم عن السيدة عائشة- رضى الله عنها- مرفوعا: «لم أره- يعنى جبريل- على الصورة التى خلق عليها إلا مرتين .. ». وفى رواية الترمذى عن السيدة عائشة: «لم ير محمد جبريل فى صورته إلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهى، ومرة فى أجياد». كما نقل الحافظ ابن حجر عن سيرة (سليمان التيمى): «أن جبريل أتى النبى صلّى الله عليه وسلم فى حراء، وأقرأه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثم انصرف، فبقى مترددا، فأتاه من أمامه فى صورته فرأى أمرا عظيما» (¬48)!! ثم الصورة السابعة: هى وحى الملك إسرافيل إلى النبى صلّى الله عليه وسلم فقد جاء فى «مسند أحمد» - بإسناد صحيح- عن الشعبى: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل- عليه السلام- ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة ... » (¬49) وقد نقل الإمام السيوطى- عقب هذه الرواية- قول ابن عساكر: والحكمة فى توكيل إسرافيل: أنه الموكل بالصور الذى فيه هلاك الخلق وقيام الساعة، ونبوته صلّى الله عليه وسلم مؤذنة بقرب الساعة وانقطاع الوحى (¬50). والصورة الثامنة للوحى: أن يكلم الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلم فى اليقظة كفاحا بلا واسطة ويسمعه كلامه، كما حدث فى ليلة الإسراء والمعراج حيث أوحى إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم خواتيم سورة البقرة، وقد استدل الإمام السيوطى لذلك بما أخرجه الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «لما أسرى برسول الله صلّى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى ... ». إلى أن قال: «فأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطى الصلوات الخمس، وأعطى خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا «المقحمات» أى: الكبائر التى تقحم أهلها فى النار» (¬51). ثم الصورة التاسعة: هى النفث فى الرّوع، بأن ينفث فى روع النبى صلّى الله عليه وسلم الكلام نفثا، أى ينفخ فى قلبه الوحى كما قال صلّى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث فى روعى ... ». وقد مرّ بتخريجه متفرعا عن النوع الثانى من أنواع الوحى وهو الإلقاء الإلهامى فى اليقظة. ومن ثم: كانت الكيفيات والصور الوصفية ¬

(¬47) انظر (عمدة القارى شرح صحيح البخارى) للإمام بدر الدين العينى 1/ 44. (¬48) انظر (فتح البارى) لابن حجر 1/ 19، ط/ الهيئة المصرية. (¬49)، (¬50) انظر (عمدة القارى شرح البخارى) للإمام العينى 1/ 44، ط/ الحلبى، وانظر (الإتقان) للإمام السيوطى 1/ 129. (¬51) أخرجه الإمام مسلم فى كتاب الإيمان: باب ذكر سدرة المنتهى: 1/ 157، ط/ دار الفكر- ببيروت 1398 هـ.

الوحى القرآنى:

أخص من الأنواع لا مطابقة لها. وقد عده الإمام السيوطى فى كيفيات الوحى- وكذا الحافظ فى «الفتح» عدّه فى فنون الوحى الذى يأتى بحامل، وذكرا أنه يحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين (أى الصلصلة وتمثل الملك رجلا). ولا يخفى أن التعبير بالاحتمال ونحوه لا يحصل النفث فيهما، بل يحتمل أن يكون فى حالة ثالثة مغايرة للحالتين. وقد صرح الحافظ ابن حجر بأن للوحى حالات مغايرة لها، وهى: إما من صفة الوحى، كمجيئه كدويّ النحل، والنفث فى الروع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة. وإما من صفة حامل الوحى كمجيئه فى صورته التى خلقه الله عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسى بين السماء والأرض، وقد سدّ الأفق. (¬52) الوحى القرآنى: أما عن (الوحى القرآنى) بخصوصه، فإن له خصائص فى نوعيته وكيفية تلقيه والحالة التى يتنزل بها على النبى صلّى الله عليه وسلم. فالخصيصة الأولى: أن جميع القرآن قد تلقاه النبى صلّى الله عليه وسلم فى اليقظة، ولم يكن شىء منه فى المنام- على وجه الاستقلال- على القول الراجح والمعتمد لدى أساطين علماء التنزيل. ولئن ذهب قوم إلى أن بعض الوحى القرآنى كان مناميا احتجاجا بما رواه مسلم عن سيدنا أنس أنه قال: «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أنزل علىّ آنفا سورة، فقرأ: «بسم الله الرحمن الرحيم. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)». فإن هذا مردود عليه: بما نقله الإمام السيوطى (¬53) عن الإمام الرافعى فى «أماليه» إذ قال: فهم فاهمون من الحديث أن السورة نزلت فى تلك الإغفاءة، وقالوا: من الوحى ما كان يأتيه فى النوم؛ لأن رؤيا الأنبياء وحى. قال: وهذا (أى أن رؤيا الأنبياء وحى) صحيح، لكن الأشبه أن يقال: إن القرآن كله نزل فى اليقظة، وكأنه خطر له فى النوم سورة الكوثر المنزلة فى اليقظة، أو عرض عليه الكوثر الذى نزلت فيه السورة، فقرأها عليهم وفسّرها لهم. ثم قال: وورد فى بعض الروايات أنه أغمى عليه، وقد يحمل ذلك على الحالة التى كانت تعتريه عند نزول الوحى، ويقال لها برحاء الوحى. انتهى. (ثم عقّب الإمام السيوطى بقوله): قلت: الذى قاله الرافعى فى غاية الاتجاه، وهو الذى كنت أميل إليه قبل الوقوف عليه، ¬

(¬52) انظر (فتح البارى) لابن حجر 1/ 15، ط/ الهيئة المصرية. (¬53)،

والتأويل الأخير أصح من الأول؛ لأن قوله: «أنزل علىّ آنفا». يدفع كونها نزلت قبل ذلك. بل نقول: نزلت تلك الحالة، وليس الإغفاءة إغفاءة نوم، بل الحالة التى كانت تعتريه عند الوحى، فقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا (53). وكذلك قال الإمام السيوطى عند ذكر الوحى المنامى: (وليس فى القرآن من هذا النوع شىء فيما أعلم) (¬54). ومن ثم: يترجح أن القرآن الكريم قد نزل كله على النبى صلّى الله عليه وسلم فى حالة اليقظة ولم يكن شىء من الوحى القرآنى مناما. والخصيصة الثانية: أن القرآن الكريم كله من قبيل ما اصطلح عليه علماء التنزيل ب (الوحى الجلى)، فكما أنه لم يقع شىء من الوحى القرآنى مناما كذلك لم يكن شىء منه من قبيل الإلقاء الإلهامى الذى يقذف فى القلب، مع أنه يكون على وجه من العلم الضرورى الذى لا يداخله الشك أو الاشتباه، ولكن الحق- تعالى- جعله من قبيل التكليم الظاهر؛ للمبالغة فى توثيقه على أكمل وجه وأوضحه (¬55). ولسنا- من هذا المنطلق- مع قول من زعم أن الوحى القرآنى لم يكن شىء منه من قبيل التكليم الشفاهى من الحق- تعالى- لرسوله صلّى الله عليه وسلم كفاحا من غير حجاب ولا واسطة ملك، فقد ذكر الإمام السيوطى أن الآيتين من آخر سورة البقرة نزلتا ليلة المعراج، كما عدّ من هذا النوع أيضا: بعض سورة (الضحى)، وأَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؛ واستدل بحديث ابن مسعود- الذى أوردناه فى الصورة الثامنة للوحى، وبما أخرجه ابن أبى حاتم من حديث عدى بن ثابت عن النبى صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «سألت ربى مسألة؛ وددت أنى لم أكن سألته؛ قلت: أى ربّ، اتخذت إبراهيم خليلا، وكلّمت موسى تكليما؟ فقال: يا محمد، ألم أجدك يتيما فآويت؟ وضالا فهديت؟ وعائلا فأغنيت؟ وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معى؟» (¬56). كما نقل عن الهذلى أنه قال فى «الكامل»: «نزلت آمَنَ الرَّسُولُ إلى آخرها بقاب قوسين» (¬57)!! وقد قدّمنا أن هذا النوع هو أشرف أنواع الوحى، فلا غرو أن يكون للوحى القرآنى منه حظ معلوم. بيد أن فريقا من العلماء قد قرر- بعد التسليم بهذا الوحى القرآنى الشفاهى لما مر من الأدلة- أنه يجوز أن يكون جبريل عليه السلام- قد نزل بهذه الآيات التى أوحى بها مشافهة مرة أخرى على سبيل التأكيد والتقرير، فتكون مما تكرر نزوله، ومن ثم تتقرر: ¬

(¬54) انظر (الإتقان) للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم 1/ 65 - 66، 129، ط/ المشهد الحسينى. (¬55) انظر (مناهل العرفان) للزرقانى 1/ 57، ط/ الحلبى. (¬56)، (¬57) انظر الإتقان للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم 1/ 67، 129.

الخصيصة الثالثة للوحى القرآنى: وهى أن الله تعالى قد وكل به جميعه أمين الوحى جبريل- عليه السلام- خاصة دون ملك سواه، لقوله تعالى شأنه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (¬58). فالروح الأمين هو سيدنا جبريل- عليه السلام- بإجماع المفسرين، وقد سماه الله تعالى روحا لأنه جسم لطيف روحانى خلق من الرّوح، أو لأنه روح كله لا كالناس الذين فى أبدانهم روح، أو لأنه لمجيئه بالوحى والدين بمثابة الروح الذى تثبت معه الحياة (¬59). وقد نعت بالأمين: لأنه الحفيظ المؤتمن على وحى الله، ومبلغه لأنبيائه. كذلك سماه الله تعالى (روح القدس) فى قوله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا (¬60). وذلك لأنه الروح المطهرة من أدناس البشرية، فالقدس: هو الطهر والنقاء، والإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة. وقد نقل عن النحاس أن القدس: هو الله تعالى، والمعنى: أن جبريل روح الله تعالى- والإضافة للملكية- لأنه كان بتكوين الله تعالى له من غير ولادة (¬61)، وفى كل هاتيك المعانى كان لجبريل مزيد اختصاص بها من بين سائر الملائكة، إذ هو منهم كالرسول صلّى الله عليه وسلم من أفراد أمته، ولذلك اختاره الله- سبحانه- لأشرف المهام، فوكله بالكتب والوحى إلى الأنبياء، وبالنصر عند الحروب، وبالمهلكات إذا أراد أن يهلك قوما، وقد أخرج ابن أبى حاتم عن عطاء: «أول ما يحاسب جبريل؛ لأنه كان أمين الله على رسله» (¬62). * وإذا ما تساءلنا عن كيفية تلقى الأمين جبريل- عليه السلام- وحى القرآن من الله تعالى، وهل تلقاه مباشرة أو بواسطة؟ فإننا نجد للعلماء أقوالا أربعة فى هذا الصدد: أولها: أن جبريل- عليه السلام- قد تلقف التنزيل من الله تعالى تلقفا روحانيا، قال بذلك العلامة الطيبى، والقطب الرازى فى حواشيه على «الكشاف»، حيث قال: (والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تعالى تلقفا روحانيا .... ) (¬63). وثانيها: أن جبريل- عليه السلام- قد أخذ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به على النبى صلّى الله عليه وسلم. وهذا هو المعنى الثانى لإنزال الكتب على الرسل، حيث قال الطيبى: (لعل نزول القرآن على الملك: أن يتلقفه تلقفا روحانيا أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به على النبى صلّى الله عليه وسلم فيلقيه إليه) (¬64). ¬

(¬58) سورة الشعراء: الآيات 193 - 195. (¬59) انظر (مفاتيح الغيب) 24/ 166، و (روح البيان) 6/ 306 وتفسير الشوكانى 3/ 194. (¬60) سورة النحل: الآية 102. (¬61) انظر (تفسير الشوكانى) 3/ 194. (¬62) انظر (الإتقان) للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم 1/ 130. (¬63)، (¬64) نفس المصدر 1/ 125 - 126 و (مناهل العرفان) للزرقانى 1/ 40، ط/ الحلبى.

وثالثها: ما نقل عن الماوردى من أن الحفظة نجّمت القرآن على جبريل فى عشرين ليلة، وأن جبريل نجّمه على النبى صلّى الله عليه وسلم فى عشرين سنة (¬65). ورابعها: أن جبريل- عليه السلام- قد أخذ القرآن عن الله تعالى سماعا، فقد قال البيهقى فى معنى قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: (يريد والله أعلم: إنا أسمعنا الملك، وأفهمناه إياه، وأنزلناه بما سمع ... ) (¬66). وقد رجح الحافظ السيوطى هذا القول الأخير بقوله: (ويؤيد أن جبريل تلقفه سماعا من الله تعالى: ما أخرجه الطبرانى- من حديث النواس بن سمعان مرفوعا- «إذا تكلم الله بالوحى أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا وخروا سجّدا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهى به على الملائكة، فكلما مرّ بسماء سأله أهلها: ماذا قال ربنا؟ قال: الحق، فينتهى به حيث أمر» (¬67). ولا شك أن هذا القول أحرى بالقبول، لقوة دليله من جهة، ولاقتضائه عدم الوساطة بين الله تعالى وبين جبريل فى التلقى من جهة أخرى، والتحرّز به من دعوى إنزال معناه دون لفظه بما تقضى إليه من موهمات من جهة ثالثة. * فلقد رصد الإمام السيوطى لعلماء التنزيل فى بيان ما نزل به جبريل على النبى صلّى الله عليه وسلم من الوحى القرآنى ثلاثة أقوال؛ نثبتها بمزيد تبيان وتحليل على النحو التالى: القول الأول: أنه نزل بلفظ القرآن ومعناه، حيث إنه من المرجح أن جبريل قد تلقف القرآن سماعا من الله تعالى، وتكليما نفسيا بالصفة القديمة مع إلهامه بالألفاظ الدالة على المعانى القائمة بذاته تعالى، كما هو محصل تقريرى الأصفهانى- فى مقدمة تفسيره- والقطب الرازى. أو أن جبريل- عليه السلام- قد حفظ القرآن- بلفظه ومعناه- من اللوح المحفوظ، الذى أوجد الله تعالى فيه الكلمات والحروف الدالة على معنى القرآن القائم بذات الله تبارك وتعالى، فنزل به لفظا ومعنى على النبى صلّى الله عليه وسلم (¬68). والقول الثانى: أن جبريل- عليه السلام- قد ألقى إليه المعنى فقط، وأنه عبر عنها بهذه الألفاظ بلغة العرب، وأن أهل السماء يقرءونه بالعربية، ثم إنه نزل به كذلك على النبى صلوات الله وسلامه عليه. ولم يثبت لأصحاب هذا الزعم الفاسد دليل عليه!! والقول الثالث: أن جبريل قد نزل على النبى صلّى الله عليه وسلم بالمعانى خاصة، وأنه صلّى الله عليه وسلم علم تلك المعانى وعبر عنها بلغة العرب!! ¬

(¬65) انظر (مناهل العرفان) للزرقانى 1/ 40 - 41. (¬66) انظر الإتقان للإمام السيوطى 1/ 126. (¬67)، (¬68) نفس المصدر 1/ 125 - 127.

وقد استدل الذاهبون إلى هذا الرأى المتهافت بظاهر قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ (¬69). حيث إن تخصيص النزول بالقلب- على أن المراد به العضو المخصوص- موجه بأن المعانى الروحية تنزل على الروح ثم تنتقل به إلى القلب، لما بينهما من التعلق، ثم تتصعد منه إلى الدماغ، فينتقش بها لوح المتخيلة. بيد أن هذا خلاف القول الصحيح عند المفسرين والمحدثين، الذين وجّهوا لتخصيص القلب بالنزول: بأنه المدرك والمكلف دون سائر الجسد، وهو المخاطب فى الحقيقة لأنه موضع التمييز. وقد يقال: إنه لما كان له صلّى الله عليه وسلم جهتان: جهة ملكية يستفيض بها، وجهة بشرية يفيض بها، جعل الإنزال على روحه صلّى الله عليه وسلم المعبر عنها بالقلب، حيث قال الراغب: إنها أحد إطلاقاته؛ لأنها المتصفة بالصفات الملكية التى يفيض بها من الروح الأمين. وقد أشار إلى ذلك تعبير القرآن ب (على قلبك) دون (عليك). وكذلك وجّه تخصيص الإنزال بالقلب؛ بأنه إشارة إلى كمال تعلقه صلّى الله عليه وسلم وفهمه ذلك المنزل، حيث لم تعتبر واسطة فى وصوله إلى القلب الذى هو محل العقل كما يقتضيه ظاهر كثير من الآيات والأحاديث (¬70). ومن ثم يترجح القول الحق: وهو أن القرآن الكريم بلفظه ومعناه من عند الله تعالى لا مدخل لجبريل ولا لغيره فى ألفاظه، فالله- سبحانه- هو الذى أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة على وفق ترتيب كلماته النفسية لأجل التفهيم والتّفهّم، كما نبرز نحن كلامنا اللفظى- ولله المثل الأعلى- على وفق كلامنا النفسى لأجل التفهيم والتفهم، ولا ينسب الكلام بحال إلا إلى من رتبه فى نفسه أولا دون من اقتصر على حكايته وقراءته، وإننا لنؤازر العلامة الزرقانى فى حكمه على زعم أن ألفاظ القرآن من عند جبريل أو النبى صلّى الله عليه وسلم بقوله: (وعقيدتى أنه مدسوس على المسلمين فى كتبهم؛ وإلا فكيف يكون القرآن حينئذ معجزا واللفظ لمحمد أو لجبريل؟ ثم كيف تصح نسبته إلى الله واللفظ ليس لله؟ مع أن الله يقول: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ (¬71). وللإمام الجوينى تقرير فى قضية الوحى القرآنى يؤكد فيه صدوره عن الله لفظا ومعنى؛ يقول فيه: (كلام الله المنزل قسمان: قسم قال لجبريل: قل للنبى الذى أنت مرسل إليه: إن الله يقول: افعل كذا وكذا .... ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على ذلك النبى، وقال له ما قاله ربه، ولم تكن العبارة تلك العبارة؛ كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان: ¬

(¬69) سورة الشعراء: الآية 194. (¬70) انظر (مفاتيح الغيب) للفخر الرازى 24/ 166 - 167، ط/ دار الفكر ببيروت، وروح المعانى للآلوسى 19/ 120 - 121، ط/ المنيرية. (¬71) سورة التوبة: الآية 6، وانظر (مناهل العرفان) للزرقانى 1/ 42، ط/ الحلبى.

يقول لك الملك: اجتهد فى الخدمة، واجمع جندك للقتال، فإن قال الرسول: يقول الملك: لا تتهاون فى خدمتى، ولا تترك الجند تتفرق، وحثّهم على المقاتلة لا ينسب إلى كذب ولا تقصير فى أداء الرسالة. وقسم آخر: قال الله لجبريل: اقرأ على النبى هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير، كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين ويقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغيّر منه كلمة ولا حرفا) (¬72). وقد عقب على ذلك الإمام الحجة السيوطى شارحا وموضحا وموجها ومدللا فقال: (قلت: القرآن هو القسم الثانى، والقسم الأول: هو السنة كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى لأن جبريل أداه بالمعنى ولم تجز بالقراءة (أى فى القرآن) بالمعنى؛ لأن جبريل أداه باللفظ، ولم يبح له إيحاءه بالمعنى. والسر فى ذلك: أن المقصود منه التعبد بلفظه والإعجاز به، فلا يقدر أحد أن يأتى بلفظ يقوم مقامه، وإن تحت كل حرف منه معانى لا يحاط بها كثرة، فلا يقدر أحد أن يأتى بدله بما يشتمل عليه، والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين، قسم يروونه بلفظ الموحى به، وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشقّ، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف. فتأمل) (¬73). ولست أرى ما ارتآه العلامة الزرقانى فى نقده لكلام الإمام الجوينى المتقدم من أنه لا يوجد أمامنا دليل على أن جبريل كان يتصرف فى الألفاظ الموحاة إليه فى غير القرآن، كيف وقد قال الإمام السيوطى عقب تعقيبه السابق مباشرة: (وقد رأيت عن السلف ما يعضد كلام الجوينى، وأخرج ابن أبى حاتم من طريق عقيل عن الزهرى، أنه سأل عن الوحى فقال: الوحى ما يوحى الله إلى نبى من الأنبياء، فيثبته فى قلبه، فيتكلم به ويكتبه، وهو كلام الله، ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد ولا يأمر بكتابته، ولكنه يحدّث به الناس حديثا، ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه) (¬74). ومن ثم نقف على حقيقة الوحى القرآنى ونستيقن نزوله بلفظه ومعناه وبما حفل به من العظمة وقوة التأثير وجلال التنزيل، وتبارك منزّله- جل وعلا- إذ يقول: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (¬75). قال بعض المفسرين فى تفسيرها: (لو كانت الجبال مقام الإنسان فى الخطاب (أى القرآنى) لتدكدكت الجبال وتزررت، وانفلقت الصخور ¬

(¬72)، (¬73)، (¬74) انظر (الإتقان) للإمام السيوطى 1/ 127 - 128، ط/ المنيرية. (¬75) سورة الحشر: الآية 21.

الصّمّ، وانهدمت الشامخات العاليات فى سطوات أنواره ووجوم سنا أقداره)!! (¬76). ولعلنا نتصور حالة العالم قبل الوحى الشرعى ومدى احتياجه إليه، ولا سيما فى بداية النصف الثانى من القرن السادس الميلادى حيث كان العالم مترديا فى حضيض الظلمة والضياع، واستبدت به أسباب الفساد من كل جانب، وعصفت به رياح الشرك والكفران، فتداعى بناؤه العقدى والخلقى، وسادته جاهلية عمياء، وصار يترقب الهدم الذى يعقبه البناء، إذ عمه الفساد فى كل الأرجاء كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (¬77)، لقد فسر الإمام قتادة رضي الله عنه الفساد فى الآية الكريمة: بالضلالة والظلم (¬78)، وهذا تفسير محكم، لأن الضلالة تعنى فساد القوة النظرية، لفقدان نور الوحى الإلهى، والظلم: يعنى فساد القوة العملية والجانب السلوكى، لفقدان استرشادهما بالإشعاع المعرفى اليقينى الذى يضيء القوة النظرية، فصلاح القوتين إذن متوقف على الوحى الذى هو هدى الله لعباده. * من ثم: كان العالم قبل البعثة المحمدية متعطشا مستشرفا للوحى الذى يتوقف عليه رشده وصلاحه، أو بالأحرى: روحه ونوره، كما ينبئ عنه قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (¬79). فالتعبير عن الوحى القرآنى- فى الآية الكريمة- بالروح يشير إلى أن العالم قبل هذا الوحى كان جثة هامدة بلا روح، وكذا التعبير عن هذا الوحى بأنه نور يشير إلى الظلمة الحالكة التى كان يرزح العالم فيها فى الجاهلية، ثم يشير قوله تعالى: نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا من الضلال الذى كان سائدا قبل الوحى المحمدى فى شتى الجوانب العقدية والسلوكية. * وتتجسد حالة العالم قبل الوحى إليه جليا فى افتقاد مصدر الهداية فيما لا سبيل للعقل الوصول إليه من الجانب الغيبى فى أمور العقيدة، وأعلاها معرفة الله تعالى وصفاته القدسية وما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز فى حقه تعالى. كما تتجسد تلك الحاجة- فى توقف إدراك ما وراء الطبيعة من عالم ما بعد الموت من البرزخ والبعث والحساب والجزاء- على الأدلة السمعية التى تأتى بطريق الوحى. وكذلك الهداية التشريعية التى تنظم ¬

(¬76) انظر (البحر المديد) للإمام ابن عجيبة 6/ 119، ط/ الهيئة العامة للكتاب. (¬77) سورة الروم: الآية 41. (¬78) انظر (أعظم المرسلين صلّى الله عليه وسلم من المولد إلى المبعث) للدكتور جودة محمد أبو اليزيد المهدى ج 1 ص 43، ط/ دار غريب للطباعة والنشر بالقاهرة سنة 1997 م. (¬79) سورة الشورى: الآية 52.

العلاقة مع الله- تعالى- بالعبادات ومع الخلق بالمعاملات، ومع النفس بتزكيتها بالأخلاق الصالحة واقتلاع الأخلاق السيئة، كل ذلك عجزت عنه عقول البشر، لأن حقائق الأشياء وسبل إصلاحها لا يحيط بها- على الحقيقة- إلا موجدها، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟ (¬80) إن منطق العقل والتجربة يقضى بالرجوع- فى صيانة كل صنعة وإصلاحها- إلى صانعها لتظل فى وضعها الأمثل، وقد أودع الخالق- جل وعلا- منهج إصلاح الخليقة فى دستوره العظيم (القرآن المجيد) الذى هو مصدر الهداية والكمال الأعلى، وقد صرح بذلك- سبحانه- فى قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (¬81). ولقد اتفقت كلمة ذوى العقول الصحيحة على أن العقل والعلم البشرى لا يغنيان إطلاقا عن هداية الرسل بما أوحاه الله إليهم، مهما ارتقت مدارك الحكماء والمفكرين فى معارفهم العقلية، فإن حكمتهم وآراءهم وعلومهم إنما هى آراء بشرية ناقصة، وظنون لا تبلغ من عالم الغيب إلا أنه موجود مجهول (¬82)!! وهى عرضة للخطأ والتخطئة والخلاف فيها على أية حال. وأحكامها نسبية، فإلام التحاكم إذا عند الاختلاف الذى هو من سنن الأحكام الاجتهادية؟ هنا تتجسد ضرورة الوحى والبيان النبوى لحسم النزاع والخلاف، كما نطق التنزيل فى قوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (¬83). وإذا تحصل لنا من جملة ما سبق: أن صلاح البشر بالدين مبنى على الإيمان بالغيب والوقوف فيه عند خبر الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ولا يمكن إصلاحهم بالعلوم المادية الكسبية وحدها، فإنه يقع فى دائرة اليقين أنه لا سبيل إلى إنقاذ البشرية فى هذا العصر إلا بإثبات الوحى المحمدى الموحد لإنسانيتهم، المزكى لأنفسهم واتباع هديه الذى هو مناط السعادتين الدنيوية والأخروية (¬84)، وهو المخرج الوحيد لكل ما تعانيه الإنسانية من شقاء وظلم وعناء وجموح واستبداد، وقد أوضح التنزيل منهج الهداية والنجاة بقوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (¬85). ***** ¬

(¬80) سورة الملك: الآية 14. (¬81) سورة الإسراء: الآية 9. (¬82) انظر: (الوحى المحمدى) لمحمد رشيد رضا ص 14، ط الزهراء 1408 هـ. (¬83) سورة النحل: الآية 64. (¬84) انظر (الوحى المحمدى) لمحمد رشيد رضا ص 12 - 17 بتصرف. (¬85) سورة المائدة: الآيتان 15 - 16.

كيف بدا الوحى

[كيف بدا الوحى] ولعلنا نتساءل عن (بدء الوحى): متى وكيف بدأ؟؟ ولقد تكفلت السنة الصحيحة فى الجواب عن ذلك، فيروى الشيخان والترمذي والنسائى وغيرهم بإسنادهم عن السيدة عائشة أم المؤمنين- رضى الله تعالى عنها- أنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثالثة، ثم أرسلنى فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد- رضى الله عنها- فقال: زمّلوني ... زملونى ... فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسى، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر فى الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانى فيكتب من الإنجيل بالعبرانيّة ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمى فقالت له خديجة: يا ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخى، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذى نزّل الله على موسى، يا ليتنى فيها جذع، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزّرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحى» (¬86). * ولنا فى هذا الحديث الجامع وقفات عدة:- فالوقفة الأولى: عند توقيت أوّليّة الوحى وسرّ نوعيّته فى هذا البدء: فقد روى ابن سعد بإسناده أن نزول الملك على النبى صلّى الله عليه وسلم بغار حراء كان يوم الاثنين لسبع عشرة خلت ¬

(¬86) انظر الحديث بتخريجه فى (عمدة القارى) للإمام العينى 1/ 51 - 53، ط/ الحلبى.

من رمضان، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يومئذ ابن أربعين سنة. ونقل الحافظ ابن حجر عن البيهقى أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر. وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحى اليقظة وقع فى رمضان (¬87). * أما عن حكمة بدء الوحى بالرؤيا الصادقة، فقد ذكر الإمام العينى أن النبى صلّى الله عليه وسلم ابتدأ بها لئلا يفجأه الملك، ويأتيه بصريح النبوة ولا تحتملها القوى البشرية، فبدأ بأول خصال النبوة وتباشير الكرامة من صدق الرؤيا مع سماع الصوت، وسلام الحجر والشجر عليه بالنبوة، ورؤية الضوء، ثم أكمل الله له النبوة بإرسال الملك إليه فى اليقظة وكشف له عن الحقيقة كرامة له (¬88). * والوقفة الثانية: عند سر تحبيب الخلوة إليه صلّى الله عليه وسلم فى غار حراء خلال فترة الوحى المنامى وقبل ظهور الملك بالوحى الجلى، يقول العلماء: إن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له، ومن ثم: فهى معينة له صلّى الله عليه وسلم على التفكر والتأمل إذ بها ينقطع عن مألوفات البشر ويخشع قلبه، فإن البشر لا ينتقل عن طبعه إلا بالرياضة البليغة، ثم إن الخلوة مبعث الصفاء الروحى الذى تستقبل الروح به فيوضات الأنوار الإلهية. وإنما كانت الخلوة والتعبد بجبل حراء بالذات؛ لأنه كان يرى منه بيت ربه وهذه الرؤية عبادة! (¬89) * والوقفة الثالثة: عند حكمة غطّه صلّى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقد قيل: إنها التهيئة لتلقى الوحى القرآنى، ليظهر فى ذلك الشدة والاجتهاد فى الأمور، وإنما تكرر ثلاثا للمبالغة فى التثبت (¬90). * والوقفة الرابعة: للجواب عن تساؤل: من أين علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الجائى إليه هو جبريل- عليه السلام-؟ وبما عرف أنه حق لا باطل؟ فقد أجيب عن ذلك: بأن الحق- تعالى- قد أقام للنبى صلّى الله عليه وسلم دليلا يقينيا على أن الجائى إليه ملك لا شيطان، كما أقام المعجزة دليلا لنا على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلم (¬91). وأقول أيضا: إن الله تعالى أوجد فى قلب النبى صلّى الله عليه وسلم علما ضروريا بأنه ملك الوحى جبريل، وهذا العلم مستغنى عن الدليل. * ثم الوقفة الخامسة: عند قول الملك له صلّى الله عليه وسلم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حيث استدل الجمهور على أن سورة (اقرأ) هى أول ما نزل من القرآن الكريم، وفيها دليل فقهى على وجوب استفتاح القراءة ببسم الله. عند بعض العلماء كما قال السهيلى، وإن كان محل خلاف. ¬

(¬87) انظر المصدر السابق 1/ 68، وانظر (فتح البارى) لابن حجر 1/ 22 ط/ الهيئة المصرية. (¬88) انظر (عمدة القارى) للإمام العينى 1/ 67. (¬89)، (¬90)، (¬91) المصدر نفسه 1/ 68 وفتح البارى 1/ 18.

* والوقفة السادسة: عند قول ورقة: (هذا الناموس الذى نزّل الله على موسى) فإن الناموس فى اللغة: هو صاحب سر الخير وهو هنا جبريل عليه السلام، وقد سمى به لخصوصه بالوحى والغيب. وإنما خصص بالناموس الذى أنزله الله على موسى عليه السلام دون غيره من الأنبياء مع أن لكل نبى ناموسا؛ لأنه أنزل عليه كتاب التوراة الذى هو أكبر كتب الأنبياء قبل القرآن، بخلاف سائر الأنبياء فإن منهم من نزل عليه صحف، ومنهم من نبئ بإخبار جبريل- عليه السلام. * وأما الوقفة السابعة: فهى مع أول من آمن بالوحى المحمدى وبالرسول صلّى الله عليه وسلم؛ وعايشه مع أول شعاع الإسلام! إنها السيدة خديجة- رضوان الله عليها- التى شهد حديث بدء الوحى بكمالها وجزالة رأيها وقوة نفسها، وعظم فقهها؛ حيث جمعت للرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلم جميع أنواع أصول المكارم وأمهاتها فى وصفها له وهى تهدئ روعه. وإنه الصدّيق الأعظم سيدنا أبو بكر رضي الله عنه الذى جاء فى السيرة عن عمرو بن شرحبيل أنه دخل على السيدة خديجة إبان بدء الوحى القرآنى فذكرت له ما رآه النبى صلّى الله عليه وسلم قالت له: «يا عتيق، اذهب مع محمد إلى ورقة» - وذلك فى مرة أخرى غير التى ذهبت فيها معه إلى ورقة- وإنه للحبر الجليل ورقة الذى شهد للنبى صلّى الله عليه وسلم بالوحى وبالرسالة، وقال فيه النبى صلّى الله عليه وسلم- فيما روى الحاكم فى «مستدركه» عن السيدة عائشة- رضى الله عنها-: «لا تسبوا ورقة فإنه كان له جنة أو جنتان».!! (¬92) ثم كانت (فترة الوحى) التى صرح بها حديث بدء الوحى فى نهايته، حيث قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «ثم لم ينشب ورقة- أى لم يلبث- أن توفى وفتر الوحى». فما المقصود بفترة الوحى؟ وما مدتها؟ وما حكمتها؟. * أما من حيث المعنى اللغوى: فالفترة مرة من الفتور، وفى مفردات الراغب: الفتور سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة (¬93). وأما المقصود بفترة الوحى: فقد ذكر العلامة ابن حجر وغيره أنه ليس المراد بفترة الوحى عدم مجىء جبريل إليه؛ بل تأخر نزول القرآن فقط (¬94). * ومن ذلك يعلم: أن فترة الوحى القرآنى لا تعنى إطلاقا انقطاع اتصال النبى صلّى الله عليه وسلم بربه أو بملك الوحى جبريل عليه السّلام، ولذلك لما تأخر الوحى عن الرسول صلّى الله عليه وسلم وفهم ¬

(¬92) انظر (عمدة القارى) للإمام العينى 1/ 17. (¬93) انظر (المفردات) للراغب الأصفهانى ص 373 ط/ دار المعارف. (¬94) انظر (فتح البارى) لابن حجر 1/ 22 ط الهيئة المصرية.

المشركون من ذلك أن الله ودّعه وقلاه أنزل الله تعالى قوله: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى، وذلك ردا على زعمهم الخاطئ، وثمة مرويات أخرى تعاضد ذلك فى سبب النزول، منها ما أخرجه الشيخان عن جندب أنه قال: «قالت امرأة من قريش للنبى صلّى الله عليه وسلم ما أرى شيطانك إلا قد ودعك، فنزل: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» (¬95). * وأما عن مدة فترة الوحى: فقد قال الحافظ ابن حجر: (وقع فى تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبى: أن مدة فترة الوحى كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، ثم قال: (وليس المراد بفترة الوحى المقدرة بثلاث سنين- وهى ما بين نزول (اقرأ) و (يا أيها المدثر) عدم مجىء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط) (¬96). ثم نقل عن السهيلى أنه قال: (جاء فى بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة كانت سنتين ونصفا). ثم عقب عليه بقوله: (وهذا الذى اعتمده السهيلى من الاحتجاج بمرسل الشعبى لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما) (¬97)، وهو يشير بهذا إلى رواية ابن سعد عن الإمام ابن عباس حيث قال: ( ......... مكث أياما بعد مجىء الوحى لا يرى جبريل) (¬98). ثم حسم الحافظ الأمر بقوله- عند شرح أحاديث سبب نزول سورة (والضحى): (والحق أن الفترة المذكورة فى سبب نزول سورة (والضحى) - غير الفترة المذكورة فى ابتداء الوحى؛ فإن تلك دامت أياما، وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثا) (¬99). * وأما عن حكمة فترة الوحى: فقد ذكر العلماء فيها وجوها عدة: فمنها: ما ذكره الحافظ ابن حجر: (أن هذه الفترة كانت من مقدمات تأسيس أمر النبوة، ليتدرج فيه وليمرن عليه، وقد شق عليه فتوره حيث لم يكن خوطب عن الله بعد: أنك رسوله ومبعوثه إلى عباده، فأشفق أن يكون ذلك أمرا بدئ به ثم لم يرد استمراره. فحزن لذلك، حتى تدرج على احتمال أعباء النبوة والصبر على ثقل ما يرد عليه، فتح الله له من أمره بما فتح) (¬100). ومنها: ما ذكره شيخ الإسلام العينى: من أن فتور الوحى مدة إنما كان كذلك ليذهب ما كان- عليه الصلاة والسلام- وجده من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود). ومنها كذلك: دلالة قاطعة على أن هذا الوحى من عند الله- تعالى- وأن التنزيل ¬

(¬95) انظر (أسباب النزول) للواحدى، بتحقيق السيد صقر ص 489، ط/ الأولى، و (مفاتيح الغيب) للفخر الرازى 32/ 210، ط/ دار الفكر. (¬96) (¬97) انظر (فتح البارى) لابن حجر 1/ 22 - 23. (¬98) نفس المصدر 12/ 303. (¬99) نفس المصدر 8/ 577. (¬100) نفس المصدر 12/ 303.

كتاب الوحى

القرآنى مصحوب بانمحاء الإرادة الشخصية للرسول صلّى الله عليه وسلم وانسلاخه من الطبيعة البشرية حتى ما بقى له- صلوات الله وسلامه عليه- اختيار فيما ينزل عليه أو ينقطع عنه، فقد يتتابع الوحى ويحمى حتى يكثر عليه، وقد يفتر عنه وهو أحوج ما يكون إليه، فهو وحى الله تعالى لا ريب فيه (¬101). وإننا لنلمس- فى دهشة- مدى حب النبى صلّى الله عليه وسلم للوحى التنزيلى، وشوقه إليه فى فترته، إلى ذلك الحد الذى صوره حديث السيدة عائشة إذ تقول- رضى الله عنها- فى تتمة الحديث المار فى بدء الوحى: « ........ وفتر الوحى فترة حتى حزن النبى صلّى الله عليه وسلم- فيما بلغنا- حزنا غدا منه مرارا كى يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى منه نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد؛ إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك» (¬102). وقد يقال هاهنا: كيف عزم النبى صلّى الله عليه وسلم على إلقاء نفسه من الجبل مع أن ذلك يوجب قتلها، والعزم عليه من الكبائر، والأنبياء جميعا ولا سيما حضرته صلّى الله عليه وسلم معصومون من جميع المعاصى قبل البعثة وبعدها؟؟ والجواب عن ذلك أن يقال: إن هذا الخبر من بلاغات الزهرى كما جزم بذلك ابن حجر، وأنه لو صح لكان مجرد تصوير مجازى لشوق النبى صلّى الله عليه وسلم للوحى، وحزنه العميق على تأخره. ***** [كتاب الوحى] ثم نتعرف على (كتّاب الوحى للنبى صلّى الله عليه وسلم): فنجد من عناية الله بكتابه المجيد أن وجه الهمم ووفر الدواعى على تدوينه فى السطور، كما وجه عناية النبى صلّى الله عليه وسلم وأصحابه إلى حفظه واستظهاره فى الصدور، فتحقق بالأمرين وعد الله- تعالى- بحفظه فى قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (¬103)، فقد تضافرت الصورتان، وعاضدت كل منهما الأخرى فى الصحة والتوثيق، حيث كان النبى صلّى الله عليه وسلم ينزل عليه القرآن شيئا فشيئا، وكان كلما نزل منه شىء بادر بتبليغه لأصحابه وحث على تعلمه وتعليمه، وكان يأمر كتّاب الوحى بكتابة كل شىء ينزل من القرآن عقب نزوله مباشرة، فتمت كتابة القرآن كله فى عهده صلّى الله عليه وسلم، وقد استنبط علماء التنزيل ما يدل على أن الكتابة من الصفات اللازمة للقرآن فى ذلك العهد من ¬

(¬101) انظر: (مباحث فى علوم القرآن) للدكتور صبحى الصالح ص 35 - 36، ط/ دار العلم للملايين سنة 1996 م. (¬102) انظر (فتح البارى بشرح صحيح البخارى) 12/ 302 - 303، ط/ الهيئة المصرية. (¬103) سورة الحجر: الآية 9.

اقسام كتاب الوحى

قوله تعالى: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (¬104). كما سجلت السنة الصحيحة أمر النبى صلّى الله عليه وسلم بكتابة القرآن: فيما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الثلاثة وصححه ابن حبان والحاكم من حديث الإمام ابن عباس عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم مما يأتى عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: ضعوا هذا فى السورة التى يذكر فيها كذا» (¬105). * هذا: وقد تعددت أقوال العلماء فى عدد كتّاب الوحى لسيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فالعلامة الدكتور محمد عبد الله دراز يذكر أن العلماء الثقات قد ذكروا أن عدد كتاب الوحى قد بلغ تسعة وعشرين كاتبا (¬106). وقام المستشرق (بلاشير) باستطلاع كتّاب الوحى فى عديد من المصادر العربية والغربية ومن تلك المصادر: ما ورد فى طبقات ابن سعد وما كتبه الطبرى والنووى والحلبى، وكذا شفالى وبهل وكازانوفا، واستطاع أن يبلغ بكتّاب الوحى إلى أربعين كاتبا (¬107). [اقسام كتاب الوحى] ولقد قسم العلماء وأصحاب السير كتاب الوحى إلى ثلاثة أقسام: فالقسم الأول: كتّاب الوحى فى العهد المكى ومن أبرزهم: 1 - الصحابى الجليل شرحبيل بن حسنة السهمى أو الكندى المتوفى سنة 18 هـ وله سبع وستون سنة، وقد نص الحافظ الشامى فى سيرته على أنه أول من كتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬108). 2 - الصحابى الجليل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ابن قصى المتوفى يوم موقعة أجنادين سنة 13 هـ كما ذكره الذهبى فى السير (¬109). وكان خامسا فى الإسلام وأول من كتب (بسم الله الرحمن الرحيم)، كما رواه الذهبى عن ابنته أم خالد (¬110). 3 - الصحابى الجليل أمير مصر عبد الله ابن سعد أبى السرح (ت 36 هـ) وهو من السابقين الأوّلين- كما ذكر ابن العماد فى ترجمته- وقد نص الحافظ ابن حجر على أنه أول من كتب للنبى صلّى الله عليه وسلم بمكة من قريش، ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح وحسن إسلامه، وفتح الله على يديه شمال إفريقية وبعض بلاد السودان (¬111). ¬

(¬104) سورة البينة: الآية 2. (¬105) انظر (فتح البارى بشرح صحيح البخارى) للحافظ ابن حجر 9/ 18 - وانظر (البيان فى مباحث من علوم القرآن) للشيخ عبد الوهاب غزلان ص 160، ط/ دار التأليف. (¬106) انظر (مدخل إلى القرآن الكريم) للدكتور محمد عبد الله دراز ص 134، ط/ دار القرآن الكريم بالكويت سنة 1391 هـ. (¬107) انظر (مباحث فى علوم القرآن) للدكتور صبحى الصالح ص 69، ط/ دار العلم للملايين (السادسة). (¬108) انظر (سبل الهدى والرشاد فى سيرة خير العباد) للعلامة محمد بن يوسف الصالحى الشامى 12/ 398. (¬109)، (¬110) انظر (سير أعلام النبلاء) للذهبى 1/ 260. (¬111) انظر (فتح البارى) لابن حجر 9/ 18، ط/ الهيئة المصرية، و (سبل الهدى والرشاد) للشامى 12/ 402، ط/ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، و (شذرات الذهب) لابن العماد 1/ 44، ط/ المكتب التجارى بلبنان.

والقسم الثانى: من كتب له صلى الله عليه وسلم فى الجملة - على حد تعبير الحافظ ابن حجر - وترجح اشتراك كل منهم فى كتابة الوحى للنبى صلى الله عليه وسلم بمكة:

4 - الصحابى الجليل حنظلة بن الربيع بن صيفى بن رباح الأسيدى. قال صاحب (أسد الغابة) فى ترجمته: (ويقال له حنظلة الأسيدى والكاتب؛ لأنه كان يكتب للنبى صلّى الله عليه وسلم، وهو ابن أخى أكثم بن صيفى) (¬112)، وهو الذى أرسله النبى صلّى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف قائلا لهم: (أتريدون صلحا أم لا؟ فلما توجه إليهم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ائتموا بهذا وأشباهه!!)، ثم انتقل إلى قرقيسيا- وهى بلد على الفرات فمات بها (¬113)، وقد رجح قدم إسلامه بمكة بناء على تلك القرائن بالإضافة إلى كونه ليس أنصاريا (¬114). والقسم الثانى: من كتب له صلّى الله عليه وسلم فى الجملة- على حد تعبير الحافظ ابن حجر- وترجح اشتراك كل منهم فى كتابة الوحى للنبى صلّى الله عليه وسلم بمكة: وهم سادتنا الصحابة الأجلاء: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والأرقم بن أبى الأرقم، وحاطب بن عمرو، وعامر بن فهيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد، ومعيقيب الدوسى (¬115) - رضى الله عنهم أجمعين. وأما القسم الثالث: فهم كتّاب الوحى للنبى صلّى الله عليه وسلم فى العهد المدنى، ومن أبرزهم: 1 - سيدنا أبىّ بن كعب بن قيس الأنصارى النجارى رضي الله عنه (ت سنة 30 هـ) - وهو الملقب بسيد القراء، وقد نص الحافظ ابن حجر وغيره على أنه أول من كتب للنبى صلّى الله عليه وسلم بالمدينة، ونص أيضا على أنه كتب له قبل زيد بن ثابت (¬116) - رضى الله تعالى عنهما. 2 - سيدنا زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد الخزرجى النجارى الأنصارى رضي الله عنه (ت 45 هـ) عن ست وخمسين سنة كما حكاه الذهبى عن الواقدى (¬117)، وذكر أيضا أنه لما هاجر النبى صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة أسلم زيد وهو ابن إحدى عشرة سنة، فأمره النبى صلّى الله عليه وسلم أن يتعلم خط اليهود ليقرأ له كتبهم وقال: «فإنى لا آمنهم» (¬118). وروى الطبرانى بإسناد حسن إليه أنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نزل الوحى بعث إلىّ فكتبته» (¬119). كما روى البخارى بإسناده أن ابن السباق قال: «إن زيد بن ثابت قال: أرسل إلىّ أبو بكر رضي الله عنه قال: إنك كنت تكتب الوحى لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فاتبع القرآن، فتتبعت القرآن حتى وجدت آخر سورة التوبة- آيتين- مع أبى خزيمة الأنصارى لم أجدهما مع غيره» (¬120)، ومن ثم كان هو الذى جمع القرآن فى صحف فى عهد الصديق رضي الله عنه كما ندبه سيدنا ¬

(¬112)، (¬113) أنظر (أسد الغابة) لابن الأثير 2/ 65، ط/ الشعب، و (فتح البارى) لابن حجر 9/ 18. (¬114) انظر (وثاقة نقل النص القرآنى من رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أمته) للأستاذ الدكتور محمد حسن جبل ص 162، ط/ التركى بطنطا. (¬115) انظر (فتح البارى) لابن حجر 9/ 18. ط/ الهيئة المصرية. (¬116) نفس المصدر، وانظر (سير أعلام النبلاء) للذهبى 1/ 389. (¬117) سير أعلام النبلاء 2/ 441، ط/ الرسالة. (¬118) نفس المصدر 2/ 428 - 429. (¬119) نفس المصدر 2/ 429. (¬120) انظر (فتح البارى بشرح صحيح البخارى) 9/ 18، ط/ الهيئة المصرية.

عثمان رضي الله عنه إلى كتابة المصحف العثمانى أيضا (¬121). هذا وقد حقق الأثبات أن سيدنا عثمان ابن عفان- رضى الله تعالى عنه- كان من أوثق مصادر التسجيل الفورى للوحى القرآنى ولا سيما فى العهد المدنى أيضا، حيث قالت السيدة عائشة- رضى الله عنها-: «كان عثمان قاعدا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورسول الله مسند ظهره إلىّ وجبريل يوحى إليه القرآن، وهو يقول: «اكتب يا عثيم».!! (¬122) ثم هنالك ثلة من الصحابة الأجلاء الذين اشتركوا فى كتابة الوحى للنبى صلّى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، ومن أبرزهم السادة الأجلاء: أبان بن سعيد بن العاص (ت سنة 13 هـ)، وبريدة بن الحصيب الأسلمى، وثابت بن قيس، ومعاوية بن أبى سفيان، وخالد بن الوليد، وحذيفة بن اليمان، وحويطب بن عبد العزى، وعبد الله بن الأرقم، وعبد الله بن رواحة، وسعيد بن سعيد بن العاص، وعبد الله بن عبد الله بن أبى بن سلول وغيرهم- رضى الله تعالى عنهم أجمعين- وبعض هؤلاء وصفتهم المصادر بالكتابة للنبى صلّى الله عليه وسلم دون تقييد بعهود أو رسائل، ولم يكونوا قديمى الإسلام بمكة المكرمة (¬123). ***** ونتوقف أخيرا عند نقطة: إثبات الوحى وإبطال دعوى منكريه بالاستدلال العقلى بعد أن قدمنا نصوص الإثبات نقلا من الكتاب والسنة، فنقول: قد أخبر بثبوت وقوع الوحى الصادق المعصوم سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزة، وكل ما أخبر بوقوعه الصادق المعصوم فهو حق ثابت. فإن المعجزة- وهى الأمر الخارق للعادة الخارج عن حدود الأسباب المعروفة يظهره الله على يد مدعى النبوة عند دعواه إياها شاهدا على صدقه- إنما هى بمثابة قول الله تعالى: (صدق عبدى فى كل ما يبلغه عنى، ومن ذلك أنه يوحى إليه منى)!! ومن ثم: نستطيع أن نقرر بوثوق: أن الوحى القرآنى بإعجازه هو بنفسه دليل عقلى على مصداقيته، وذلك بما توافر له من براهين إعجازه بعد التحدى به وإعلان عجز الثقلين عن الإتيان بمثله، وصدق الله القائل فى كتابه المعجز: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً!! (¬124) * ثم لقد قدم العلماء- لإثبات الوحى بالعلم التجريبى والفكر الفلسفى- دلائل ¬

(¬121) انظر (سير أعلام النبلاء) 2/ 441. (¬122) انظر (وثاقة نقل النص القرآنى) للأستاذ الدكتور محمد حسن جبل ص 166 والأثر فيه معزو إلى (الرياض النضرة) للمحب الطبرى ج 2 ص 82 - ص 152. (¬123) المصدر السابق، والعزو فيه إلى (سبل الهدى والرشاد) للصالحى 12/ 382 - 441. (¬124) سورة الإسراء: الآية 88.

ساطعة على جوازه وإمكانه فى مواجهة من ينكرون أدلة الشرع. ومنها التنويم المغناطيسى الذى كشفه الدكتور (مسمر) فى القرن الثامن عشر، واعترف به العلماء، وأثبتوا بواسطته أن للإنسان عقلا باطنا أرقى وأسمى من عقله المعتاد، وأنه فى حالة التنويم يرى ويسمع من بعد شاسع، ويقرأ من وراء حجب، ويخبر عما سيحدث مما لا يوجد فى عالم الحس علامة لحدوثه. ثم إننا فى عصرنا الحديث وقد أصبح أمامنا التلفاز والراديو واللاسلكى وغير ذلك مما نشاهد ونتخاطب به عبر المسافات البعيدة، أنستبعد بعد ذلك على قدرة الله- تعالى- إعلام الله- تعالى- لخواص عباده بما شاء من وحيه؟؟ ثم كيف نذعن لقول كبار الفلاسفة كأفلاطون أن هناك عبقرية، وقد عرفها بأنها إلهية مولدة للإلهامات العلوية للبشر، ويقرر الفلاسفة أنها لا شأن للعقل فيها، ثم نستبعد على خلّاق القوى والقدر أن يمد بوحيه الإلهى من شاء من عباده؟ (¬125) وهناك الكثير والكثير من الأدلة التى بسطها العلماء للاستدلال لصحة وقوع الوحى والجواب عن الشبهات الواردة عليه فى العديد من المصادر القرآنية؛ «كالنبإ العظيم» للدكتور محمد عبد الله دراز، و «الوحى المحمدى» للشيخ محمد رشيد رضا، و «مناهل العرفان» للعلامة الزرقانى وغيرها، فضلا عن أمهات التفاسير؛ للفخر الرازى والقرطبى والآلوسي وغير ذلك، والله تعالى أعلم. أ. د./ جودة محمد أبو اليزيد المهدى هوامش موضوع الوحى ¬

(¬125) انظر (النبأ العظيم) للدكتور محمد عبد الله دراز ص 67، و (مناهل العرفان) للزرقانى 1/ 66 - 84.

أسباب النزول

أسباب النزول حقيقة سبب النزول (تعريف سبب النزول) من خصائص نزول القرآن الكريم أنه لم ينزل جملة واحدة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولكنه نزل مفرقا فى مدة الرسالة النبوية، سواء كان ذلك فى آياته أو سوره، وقد أشار القرآن الكريم إلى الحكمة من هذا التفريق فى النزول، وهى تتمثل فى تيسير قراءته وحفظه، وفهمه والعمل به، وذلك فى قول الله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا الإسراء/ 106. كذلك فإن من خصائص نزول القرآن الكريم: أن منه ما نزل فى مواجهة الوقائع والأحداث والمناسبات ولكن ليس معناه أن نلتمس لكل آية فى القرآن سببا لنزولها، أو قصة تلابس هذا النزول، بل إن منه ما كان كذلك، ومنه ما نزل ابتداء من غير سبب، وقد نبه العلماء فى عبارة واضحة إلى هذا التقسيم، قال الإمام برهان الدين ابن عمر الجعبرى (ت سنة 732 هـ): «نزل القرآن على قسمين: قسم نزل ابتداء، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال» (¬1). وهذا القسم الأخير فى مقولة الجعبرى هو مدار البحث فى سبب النزول. وبداية فإنه لا يتسنى بحث تفاصيل هذا الموضوع ما لم يتحدد مفهوم سبب النزول بطريقة واضحة، ومن ثمّ فإن أول ما ينبغى معالجته فى هذا الصدد هو: تعريف سبب النزول، فما هو؟ جماع ما قاله العلماء فى تعريفه أنه: «ما نزلت الآية أو الآيات فى شأنه أيام وقوعه: بيانا لحكمه إذا كان حادثة أو نحوها، أو جوابا عنه إذا كان سؤالا موجها إلى النبى صلّى الله عليه وسلم» (¬2). وفى التعريف أمران يحتاج كل منهما إلى بيان: الأمر الأول: معاصرة السبب لما نزل فى شأنه من الآيات: وهو ما عبر عنه فى التعريف بأنه: «ما نزلت الآية أو الآيات فى شأنه أيام وقوعه». فالحادثة التى تعتبر فى اصطلاح العلماء سببا لنزول آية أو آيات من القرآن هى تلك الحادثة التى تكون قد وقعت فى عهد النبى صلّى الله عليه وسلم ¬

(¬1) 4. (¬2) انظر فى ذلك: (الإتقان فى علوم القرآن): مصدر سابق (1/ 101) و (منهج الفرقان فى علوم القرآن) للشيخ محمد على سلامة- مطبعة شبرا/ 1937 م، ص: 35 و (البيان فى مباحث من علوم القرآن) للشيخ عبد الوهاب غزلان مطبعة دار التأليف/ 1384 هـ/ 1965 م، ص: 91.

سواء نزل القرآن عقب حدوثها مباشرة، أو تراخى عن ذلك الحدوث زمنا لحكمة، ما دام الحدث قد وقع فى عهد النبى صلّى الله عليه وسلم. وعليه فإنه من التوسع الذى لا يتفق وهذا التحديد فى التعريف ما فعله بعض العلماء، أو ذهب إليه بعض المفسرين من اعتبار الحوادث الماضية، والوقائع الغابرة التى نزل بها القرآن، وساقها فى مجال العظة والعبرة من قبيل أسباب نزول ما جاء فى حكايتها وفى تفصيلها من الآيات، فما حدث بين الأنبياء السابقين وأقوامهم من اتّباع هؤلاء الأقوام لهم، أو صدّهم عن رسلهم، ومن تصديقهم أو تكذيبهم إياهم، وما تخلل ذلك من إيذاء للرسل، لا يعتبر شىء من ذلك سببا لما نزل بحكايته من آيات القرآن الكريم، بل إذا كان هناك من سبب للنزول فى أمثال هذه القصص فإنه بالقطع ليس تلك الأحداث فى ذاتها، وإنما ما سيقت لأجله من العظة والعبرة للمؤمنين من جهة، ولتهديد الكافرين من جهة أخرى، ولتثبيت قلب النبى صلّى الله عليه وسلم من جهة ثالثة، وكثيرا ما نرى هذه الأسباب مصرحا بها فى القرآن الكريم نفسه. وذلك كما جاء فى قول الله تعالى عقب حديث عن المشركين من قريش فيه تعريض بهم، وتهديد لهم: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يوسف/ 109 - 111. ومن هذا القبيل: ما جاء عقب حديث القرآن الكريم عن أطراف من قصص نوح وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى، من قول الحق تبارك وتعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ هود/ 120. ومنه كذلك ما جاء تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو قول الله سبحانه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)

الأمر الثانى: مجىء سبب النزول فى إحدى صورتين:

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ الأنعام/ 33، 34. فهذه الآيات- كما تقدم- تصرح بأسباب نزول هذه القصص التى تتعلق بالوقائع الماضية، وليست تلك الوقائع فى ذاتها سببا لنزول هذه الآيات، قال السيوطى رحمه الله تعالى: «والذى يتحرر فى سبب النزول: أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه، ليخرج ما ذكره الواحدى فى تفسيره فى سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة به، فإن ذلك ليس من أسباب النزول فى شىء، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية كذكر قصة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك، وكذلك فى قوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا النساء/ 125 - سبب اتخاذه خليلا، فليس ذلك من أسباب نزول القرآن كما لا يخفى» (¬3). كما أنه لا يعد من قبيل سبب النزول ما اشتملت عليه بعض آيات القرآن من الأمور المستقبلة كأحوال اليوم الآخر، وما يكون فيه من ثواب أو عقاب (¬4) نحو ما جاء فى قول الله سبحانه: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا الفرقان/ 25 - 29. من أجل هذا كان النص فى التعريف على معاصرة السبب لما نزل فى شأنه من الآيات، والذى عبر عنه بأنه: «ما نزلت الآية أو الآيات فى شأنه أيام وقوعه» قيدا يحترز به عن مثل هذه الآيات التى وردت فيما سبق. الأمر الثانى: مجىء سبب النزول فى إحدى صورتين: الصورة الأولى: مجيئه فى صورة حادثة تحدث فينزل القرآن ببيان الحكم، ومن هذا القبيل ما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ الآية- الأحزاب/ 53. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «بنى رسول ¬

(¬3) / 622). (¬4) راجع: (البيان فى مباحث من علوم القرآن)، ص: 92.

الله صلّى الله عليه وسلم بامرأة من نسائه- فى رواية البخارى: هى أم المؤمنين زينب بنت جحش رضى الله عنها- فأرسلنى فدعوت قوما إلى الطعام، فلما أكلوا وخرجوا قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم منطلقا قبل بيت عائشة رضى الله عنها، فرأى رجلين جالسين فانصرف راجعا، وقام الرجلان فخرجا، فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ (¬5) (الأحزاب/ 53)». وفى الحديث قصة. الصورة الثانية: مجىء السبب فى صورة سؤال يوجه إلى النبى صلّى الله عليه وسلم فى مسألة ما، فينزل القرآن بجواب هذا السؤال، ومن هذا القبيل ما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ البقرة/ 222. فعن أنس رضي الله عنه: «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن فى البيوت- أى ولم يخالطوهن ولم يساكنوهن فى بيت واحد- فسأل أصحاب النبىّ صلّى الله عليه وسلم النبىّ صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شىء إلا النكاح». فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه قد وجد عليهما- أى غضب عليهما- فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبى صلّى الله عليه وسلم فأرسل فى آثارهما فسقاهما، فعرفنا أن لم يجد عليهما (¬6)». وهذه الصورة وما قبلها هى ما عبر عنها فى التعريف بأن الآيات تنزل: «بيانا لحكمه إذا كان حادثة أو نحوها، أو جوابا عنه إذا كان سؤالا موجها إلى النبى صلّى الله عليه وسلم». ¬

(¬5) الحديث أخرجه البخارى فى صحيحه: ك: التفسير، ب: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ حديث/ 4791 والترمذى فى سننه: ك: التفسير، ب: ومن سورة الأحزاب، حديث/ 3219 واللفظ للترمذى، الذى قال عقب ذكره للحديث: هذا حديث حسن غريب من حديث بيان، وروى ثابت عن أنس هذا الحديث بطوله. (¬6) الحديث أخرجه مسلم فى صحيحه: ك: الحيض، ب: جواز غسل الحائض رأس زوجها، حديث/ 302.

أبرز المؤلفات فى سبب النزول

أبرز المؤلفات فى سبب النزول اهتم علماء المسلمين اهتماما بالغا بأسباب النزول، وبرغم أن موضوع هذا الفن يعتبر مبحثا من مباحث علوم القرآن، وقد عولج بالفعل فيما ألف فيها، إلا أنه لأهميته قد أفرده العلماء بالتصنيف، وألفوا فيه مؤلفات استقصت الآيات التى نزلت على سبب، وذكروا هذه الآيات معزوة إلى مصادرها، ولنفس الأهمية توفر العلماء على هذه المؤلفات يحققون مروياتها، ويميزون صحيحها من سقيمها. فقد أفرده بالتصنيف جماعة من العلماء منهم: 1 - على بن المدينى (ت 234 هـ) رحمه الله تعالى، ولكن كتابه غير موجود، بل أشار إليه السيوطى- رحمه الله تعالى- عند عده لأبرز المصنفات فى أسباب النزول. 2 - أبو الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدى النيسابورى (ت 468 هـ) رحمه الله تعالى، وكتابه (أسباب النزول) من أشهر ما صنف فى هذا الباب وهو مرجع مهم للعلماء ولطلاب العلم. 3 - شيخ الإسلام أبو الفضل أحمد بن حجر بن على العسقلانى (ت 852 هـ) رحمه الله تعالى، ألف كتابا فى أسباب النزول ولكنه مات عنه وهو مسودة لم يكتمل. 4 - الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر بن محمد المعروف بالسيوطى (ت 911 هـ) ألف فى أسباب النزول كتابا سماه: (لباب النقول فى أسباب النزول) وهو من أشهر الكتب المسندة فى هذا الفن. يقول السيوطى- رحمه الله- عن المصنفات فى أسباب النزول، وتطور الكتابة فيها: «أفرده بالتصنيف جماعة أقدمهم على بن المدينى شيخ البخارى، ومن أشهرها: كتاب الواحدى على ما فيه من إعواز، وقد اختصره الجعبرى، فحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئا، وألف فيه شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر كتابا مات عنه مسودة فلم نقف عليه كاملا، وقد ألفت فيه كتابا حافلا موجزا محررا لم يؤلف مثله فى هذا النوع، سميته: (لباب النقول فى أسباب النزول» (¬7). وإضافة إلى ذلك فهناك من اهتم بأسباب ¬

(¬7) الإتقان فى علوم القرآن: (1/ 92).

النزول فيما كتب ولكن ليس على استقلال، وإنما جاء ذلك ضمن ما كتبوا فى علوم القرآن أو التفسير، ومن هؤلاء: 5 - الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى (ت 794 هـ) رحمه الله تعالى فى كتابه: (البرهان فى علوم القرآن) فقد عنون لأول مباحث هذا الكتاب ب: (معرفة أسباب النزول). 6 - الإمام أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن على بن الجوزى (ت 597 هـ) رحمه الله تعالى فى كتابه: (زاد المسير فى علم التفسير). 7 - الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن فرح القرطبى (ت 671 هـ) رحمه الله تعالى فى كتابه: (الجامع لأحكام القرآن). 8 - الإمام الحافظ أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن كثير (ت 774 هـ) رحمه الله تعالى فى كتابه: (تفسير القرآن العظيم). 9 - شهاب الدين الآلوسي (ت 1270 هـ) رحمه الله تعالى فى كتابه (روح المعانى) وغير هؤلاء كثير.

طريق معرفة سبب النزول

طريق معرفة سبب النزول معرفة سبب النزول من الأمور التى لا تقبل اجتهادا بحال من الأحوال، لأن ما ترتبط به هذه الأسباب من ملابسات ليس افتراضا عقليا يقوم على ضرب الأمثال، بل هى أحداث ووقائع حدثت بالفعل فى أوقات محدودة وفى ظروف معينة وملابسات معروفة، وفى مثل هذه الأحوال لا مجال للوقوف على معرفتها إلا بنقل واضح عمن عاصر هذه الأحداث، وشاهد تلك الملابسات. ومن ثم فإن العلماء قد قرروا أن المرجع فى معرفة أسباب النزول يتحتم أن يكون عن طريق النقل الصحيح عن صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنهم هم الذين عاصروا الوحى، وعايشوا التنزيل، ووقفوا على الأحداث والوقائع التى أحاطت بما نزل من آيات القرآن الكريم على سبب، كما أنهم سمعوا من الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم ما لم يسمعه غيرهم. من أجل ذلك تعين أن ينفرد هؤلاء بكونهم المرجع فى معرفة أسباب النزول، وعليه فإنه لا مجال لعمل العقل فى هذا الأمر، اللهم إلا أن يكون فى إطار ما ورد من أسباب النزول، ونقل عن الصحابة وتعدد فى الحادثة الواحدة، فإن عمل العقل عندئذ يتمثل فى محاولة الترجيح بين الروايات، أو الجمع بينها فيما ظاهره التعارض منها. ولأن معرفة أسباب النزول يترتب عليها فى مجال التشريع أمور هامة تعميما، أو تخصيصا، أو إثباتا، أو نفيا، فإن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد احتاطوا لهذا الأمر أشد الحيطة، فلم يقولوا فى شىء مما قالوه برأى أو اجتهاد، ولكنهم قرروا أسباب النزول وأخبروا بها، مستندين إلى قرائن تحتف بقضايا هذه الأسباب وأحداثها. ومع هذا فإنهم ضاعفوا هذه الحيطة عند ما حددوا الألفاظ التى عبروا بها عما أخبروا من أسباب النزول تحديدا واضحا، فإذا كان الصحابى لا يقطع- بناء على ملابسات وقرائن تعيّن ما يخبر به- بأن سبب آية ما هو هذا الحدث بعينه، فإن تعبيره عن سبب النزول يتضح فيه ذلك، فنراه لا يجزم بما قال، بل يقول: أحسب أن هذه الآية نزلت فى كذا، ونحو ذلك. مثال ذلك: ما أورده العلماء فى سبب النزول

قول الله تبارك وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً النساء/ 65. فقد ورد فى الحديث عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، أنه خاصم رجلا من الأنصار فى شراج الحرة (¬8) كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصارى: سرّح الماء يمر عليه، فأبى عليه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬9): «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك». فغضب الأنصارى وقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك! فتلون وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال: «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر». فاستوفى رسول الله صلّى الله عليه وسلم للزبير حقه، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأى فيه سعة له وللأنصارى، فلما أحفظ رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأنصارىّ استوفى للزبير حقه فى صريح الحكم، قال الزبير: لا أحسب هذه الآية إلا أنزلت فى ذلك: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (¬10). ولقد توارثت أجيال العلماء هذا الاهتمام بأسباب النزول، فإذا كان الصحابة- رضوان الله تعالى عليهم- قد احتاطوا للإخبار به هذه الحيطة، فإن العلماء قد احتاطوا أيضا فى التنبيه على أن النقل الصحيح عن هؤلاء الصحابة الأبرار هو المرجع الوحيد فى معرفة أسباب النزول، وحذروا من سلوك غير هذا السبيل فى طلبها. قال الواحدى رحمه الله تعالى: «ولا يحل القول فى أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدّوا فى الطّلاب- أى الطلب» ثم روى عن سعيد بن جبير رحمه الله عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اتقوا الحديث إلا ما علمتم، فإن من كذب علىّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوأ مقعده من النار» (¬11) ثم قال: «والسلف الماضون كانوا من أبعد الغاية احترازا عن القول فى نزول الآية .. وذكر عن محمد بن سيرين قوله: «سألت عبيدة عن آية من القرآن، فقال: اتق الله وقل سدادا، ذهب الذين يعلمون فيما أنزل القرآن، وأما اليوم فكل أحد يخترع شيئا، ويخلق إفكا وكذبا، ملقيا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر فى الوعيد للجاهل بسبب الآية» (¬12). قال الشيخ مناع القطان رحمه الله تعالى بعد أن نقل قول الواحدى السابق معقبا: «وإذا كان هذا قول ابن سيرين وهو من أعلام ¬

(¬8) / 238) واللفظ هنا للنسائى. (¬9) أى: عند ما اختلف الزبير مع الأنصارى لهذا السبب، وذهبا إلى النبى صلّى الله عليه وسلم يختصمان كما صرحت بعض الروايات فعند الترمذى: (فأبى عليه، فاختصموا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال للزبير: اسق يا زبير ... ). (¬10) الحديث أخرجه البخارى فى صحيحه: ك: التفسير، ب: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ حديث/ 4585، ومسلم فى صحيحه: ك: الفضائل، ب: وجوب اتباعه صلّى الله عليه وسلم حديث/ 2357 والترمذى فى سننه: ك الأحكام، ب: ما جاء فى الرجلين يكون أحدهما أسفل من الآخر فى الماء، حديث/ 1363 والنسائى فى سننه: ك: آداب القضاة، ب: الرخصة للحاكم الأمين أن يحكم وهو غضبان: (¬11) هذا الحديث أخرجه الترمذى عن ابن عباس رضى الله عنهما، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلفظ: (اتقوا الحديث عنى إلا ما علمتم، فمن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال فى القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) سنن الترمذى: ك: تفسير القرآن، ب: ما جاء فى الذى يفسر القرآن برأيه، حديث/ 2951. (¬12) أسباب النزول: لأبى الحسن على بن أحمد الواحدى، طبع عالم الكتب بيروت: ص 3، 4.

علماء التابعين تحريا للرواية، ودقة فى الفصل، فإنه يدل على وجوب الوقوف عند أسباب النزول الصحيحة، ولهذا فإن المعتمد من ذلك فيما روى من أقوال الصحابة ما كانت صيغته جارية مجرى المسند، بحيث تكون هذه الصيغة جازمة بأنها سبب النزول» (¬13). أما قول التابعى فإنه إذا كان صريحا فى سبب النزول، فقد قرر السيوطى رحمه الله تعالى أنه إذا صح سنده يقبل ويكون من قبيل المرفوع أيضا مثل قول الصحابى، لكنه مرسل، خاصة إذا كان القائل من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم: كمجاهد بن جبر المفسر رحمه الله تعالى (ت 104 هـ)، وأبى عبد الله عكرمة المدنى مولى ابن عباس رضى الله عنهما وأحد أوعية العلم رحمه الله تعالى (ت 105 هـ)، وأبو عبد الله سعيد بن هشام الأسدي رحمه الله تعالى (ت 95 هـ)، أو اعتضد بمرسل آخر (¬14) إن لم يكن من هؤلاء الأئمة الأعلام. ¬

(¬13) مباحث فى علوم القرآن: للشيخ مناع القطان، مؤسسة الرسالة، الطبعة الرابعة 1396 هـ، ص: 76، 77. (¬14) راجع: الإتقان فى علوم القرآن: (1/ 101).

الصيغ التى يرد بها سبب النزول

الصيغ التى يرد بها سبب النزول أهمية بحث هذه المسألة مبعثها أن صيغة سبب النزول هى التى يتوقف عليها كيفية الجمع أو الترجيح بين الروايات المختلفة عند تعدد أسباب النزول للآية أو الآيات، كما سيأتى بحثه فيما بعد. ولقد قرر العلماء انطلاقا من تتبع أسباب النزول فى القرآن الكريم أن العبارات الدالة على أسباب النزول تأتى على وجهين، لأنها إما أن تكون صريحة فى كون الحادثة أو نحوها سببا فى نزول الآية، فعندئذ تكون تلك الصيغة نصا فى السببية لا يقبل التأويل أو الاحتمال، وإما أن تكون العبارة غير صريحة فى السببية فتكون عندئذ محتملة، فيجوز أن تكون تعبيرا عن السبب، كما يصلح أن تكون تعبيرا عن تفسير الآيات، وبيان معناها وما تضمنته من أحكام، وفيما يلى بيان كل من الصيغتين فى التعبير عن سبب النزول: الصيغة الأولى: هى التى يقول الصحابى مثلا: سبب نزول هذه الآية كذا. فهذه العبارة صيغة صريحة فى السببية، وكذلك إذا أتى بفاء التعقيب، وقرنها بعبارة الإنزال بعد ذكر حادثة أو سؤال، كأن يقول: حدث كذا وكذا، فأنزل الله تعالى آية كذا، أو فنزلت آية كذا، أو يقول: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كذا فنزلت آية كذا، فهذه الصيغة كذلك صريحة فى السببية، لأن قائلها أوضح فيها أن نزول الآية أو الآيات ترتب على وقوع تلك الحادثة، أو توجيه هذا السؤال، ومعنى ذلك أن سبب النزول هو هذه الحادثة، أو ذلك السؤال. مثال قول الصحابى: «حدث كذا فنزلت آية كذا». ما ثبت فى الصحيح (¬15) عن مسروق قال: سمعت خباب بن الأرت يقول: جئت العاص بن وائل السهمى أتقاضاه حقا لى عنده، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا، حتى تموت ثم تبعث، قال: إنى لميت ثم مبعوث؟ فقلت: نعم، فقال: إن لى هناك مالا وولدا فنزلت: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً مريم/ 77. وأما قول الصحابى: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كذا فأنزل الله آية كذا» فمثاله ما جاء ¬

(¬15) الحديث أخرجه البخارى فى صحيحه: ك: التفسير، ب: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً حديث/ 4732، والترمذى فى سننه: ك: التفسير، ب: ومن سورة مريم حديث/ 3162 واللفظ للترمذى.

الصيغة الثانية:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن اليهود كانت إذا حاضت منهم امرأة أخرجوها من البيت، ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوهن فى البيوت، فسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله سبحانه وتعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «جامعوهن فى البيوت، واصنعوا كل شىء غير النكاح» (¬16). وفى مقابل هذه الدلالة الصريحة على سببية النزول هناك من العبارات ما هو صريح فى التفسير، لا يحتمل السببية بوجه، كأن يقول الصحابى مثلا: المراد من هذه الآية كذا، أو تدل هذه الآية على كذا، أو يؤخذ منها كذا. فهذه العبارات وأمثالها غير صريحة فى السببية. مثال ذلك، ما أورده ابن كثير رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضى الله عنهما فى تفسير قول الله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ السجدة/ 21. قال: «قال ابن عباس: يعنى بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وآفاتها وأسقامها، وما يحل بأهلها مما يبتلى الله به عباده ليتوبوا إليه .. وفى رواية عنه: يعنى إقامة الحدود عليهم» (¬17). الصيغة الثانية: هى التى تكون العبارة فيها محتملة، فتصلح لأن يراد بها سبب النزول، كما تصلح أن يراد بها التفسير، كأن يقول الصحابى رضي الله عنه: «نزلت هذه الآية فى كذا» لكن لا ينبغى أن يفهم احتمال هذه العبارة للأمرين معا دفعة واحدة فى الموضع الواحد، بل المراد أنها إما أن يراد بها سبب النزول، أو يراد بها التفسير، فتارة يراد منها السبب، وتارة يراد منها بيان ما تشتمل عليه الآية، وعندئذ يتوقف فهم المراد منها على دليل أو قرينة توضح هذا المراد. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «قولهم: نزلت هذه الآية فى كذا. يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل فى الآية وإن لم يكن السبب، كما تقول: عنى بهذه الآية كذا، وقد تنازع العلماء فى قول الصحابى: نزلت هذه الآية فى كذا، هل يجرى مجرى المسند، كما لو ذكر السبب الذى أنزلت من أجله، أو يجرى مجرى التفسير منه الذى ليس بمسند؟ فالبخارى رحمه الله يدخله فى المسند، وغيره لا يدخله فى المسند، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا فى المسند» (¬18). ¬

(¬16) الحديث أخرجه مسلم فى صحيحه: ك: الحيض، ب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، وطهارة سؤرها، والاتكاء فى حجرها، وقراءة القرآن فيه، حديث/ 302 وأبو داود فى سننه: ك: النكاح، ب: إتيان الحائض ومباشرتها حديث/ 2165 لأبى داود. (¬17) تفسير القرآن العظيم: لأبى الفداء إسماعيل بن كثير، دار المعرفة- بيروت- 1403 هـ: (3/ 462). (¬18) مقدمة التفسير: ضمن (الفتاوى الكبرى) لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (ت 728 هـ) طبع: 1404 هـ بإشراف الرئاسة العامة لشئون الحرمين الشريفين بالسعودية: (13/ 339).

ونعود إلى بيان القرينة التى تحدد المراد، فإذا ذكر الصحابى فى عبارته بعد حرف الجر (فى) شخصا أو حادثة، أو ما يماثل ذلك، كأن يقول: نزلت هذه الآية فى فلان، أو فى قوم مثلا، أو فى حادثة، كان المقصود بها ذكر سبب النزول. أما إذا ذكر بعد حرف الجر معنى تشتمل عليه الآية، أو حكما شرعيا مأخوذا منها، فالمقصود بعبارته التفسير فى هذه الحالة. مثال ذلك، قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ المائدة/ 101. فإنه إذا قيل: هذه الآية نزلت فى رجل (¬19) قال: يا رسول الله، من أبى؟ فقال: أبوك فلان. كان ذلك بيانا لسبب نزولها، وإذا قيل: هذه الآية نزلت فى النهى عن كثرة مسائلتهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لأن السؤال عما لا يعنى ولا تدعو إليه الحاجة قد يكون سببا فى عنت السائل والمشقة عليه، كان ذلك تفسيرا لها وبيانا لما تشتمل عليه. والظاهر غلبة استعمال هذه العبارة فى المعنى الثانى المراد به التفسير، ومن أجل ذلك يقول بدر الدين الزركشى رحمه الله تعالى: «وقد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية فى كذا، فإنه يريد أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب فى نزولها» (¬20). وقد سبق ذكر ما قاله ابن تيمية رحمه الله تعالى عن حكم هذا التفسير من جهة اعتباره مسندا أو غير مسند. ¬

(¬19) إشارة إلى ما أخرجه البخارى فى صحيحه: ك: التفسير باب: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ حديث/ 4622 ومسلم فى صحيحه: ك: الفضل، ب: توقيره صلّى الله عليه وسلم حديث/ 2360 والترمذى فى سننه: ك: التفسير ب: ومن سورة المائدة حديث/ 3056 عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه قال: قال رجل: يا رسول الله من أبى؟ قال: أبوك فلان، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ والرجل السائل فى هذه المناسبة صرحت به رواية مسلم، وهو: عبد الله بن حذافة السهمى القرشى، وتوفى بمصر فى خلافة عثمان رضى الله تعالى عنه. (¬20) البرهان فى علوم القرآن: لبدر الدين الزركشى، تقديم وتعليق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية ببيروت، ط أولى: 1408 - 1988 (1/ 56).

تنوع أسباب النزول

تنوع أسباب النزول تنقسم أسباب النزول من حيث ما نزل القرآن فى شأنه إلى قسمين: الأول: أسباب عامة على مستوى السور. الثانى: أسباب خاصة على مستوى الآيات. وفيما يلى بيان المقصود بكل قسم مع ذكر أمثلة توضح المراد منه: أما القسم الأول: وهو المتعلق بالأسباب العامة: فالمراد به الأسباب أو الحوادث التى نزلت فيها سور بتمامها (¬21) وذلك موجود فى القرآن الكريم فى أكثر من سورة، ولما كان المجال ليس مجال حصر لهذه السور فسوف نكتفى بذكر أمثله لهذا النوع مما صح النقل فيه تبين المراد منه، وهى كما يلى: 1 - سورة الأنفال: فقد ذكر العلماء أن هذه السورة نزلت فى شأن غزوة بدر الكبرى، التى حدثت فى شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة. قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى (ت 151 هـ) عقب ذكره لأحداث تلك الغزوة، وذكر من شهدها من المسلمين والكفار: «فلما انقضى أمر بدر أنزل الله فيه من القرآن الأنفال بأسرها» (¬22). وأخرج البخارى رحمه الله تعالى عن سعيد بن جبير رحمه الله قلت لابن عباس رضى الله عنهما: «سورة الأنفال (¬23)؟ قال: نزلت فى بدر» (¬24). 2 - سورة الفتح: أورد العلماء أنها نزلت فى شأن الحديبية. فعن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: «أنزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة فى شأن الحديبية من أولها إلى آخرها» (¬25). 3 - سورة الحشر: ذكر المفسرون أنها نزلت فى بنى النضير. فعن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: « ... قلت لابن عباس رضى الله عنهما: ... سورة الحشر؟ قال: نزلت فى بنى النضير» (¬26). وأما القسم الثانى: وهو المتعلق بالأسباب الخاصة، فالمراد به الأسباب أو الحوادث التى نزلت فيها آية أو جملة من الآيات، وهذا هو ¬

(¬21) لا نعنى بقولنا: (نزلت فيها سورة بتمامها) أن السورة نزلت فى هذا الحدث، أو لهذا السبب كلها آية آية، بل المراد: أن السورة فى مجملها نزلت فى هذا الموضوع، أو ذلك الحدث، ولا يعكر على ذلك أن تتطرق بعض آياتها إلى قضايا أخرى يقتضيها السياق القرآنى. (¬22) السيرة النبوية: لأبى عبد الملك بن هشام، مكتبة النهضة 1974 م: (2/ 224). (¬23) جاء ذلك فى سياق حديث سأله فيه عن سورة التوبة، والمراد بقوله: (سورة الأنفال) أى: فى أى شىء نزلت؟ (¬24) صحيح البخارى: ك: التفسير، ب: سورة الحشر، حديث/ 4882. (¬25) أخرجه الحاكم فى المستدرك: ك: التفسير ب: تفسير سورة الفتح: (2/ 459) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبى على صحته فى التلخيص. (¬26) الحديث أخرجه البخارى فى صحيحه: ك: التفسير، ب: سورة الحشر، حديث/ 4882.

الأعم الأغلب فى أسباب النزول، وفيما يلى أمثلة لهذا النوع: 1 - ما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا الأحزاب/ 23. فقد أخرج مسلم- رحمه الله تعالى- عن ثابت قال: «قال أنس: عمّى الذى سميت به لم يشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدرا، قال: فشق عليه، قال: أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلم غيبت عنه، وإن أرانى الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليرانى الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها، قال: فشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، قال: فاستقبل سعد ابن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو أين؟ فقال: واها لريح الجنة أجده دون أحد. قال: فقاتلهم حتى قتل، قال: فوجد فى جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية قال: فقالت أخته عمتى الرّبيع بنت النضر: فما عرفت أخى إلا ببنانه. ونزلت هذه الآية: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفى أصحابه» (¬27). 2 - ما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الحشر/ 9. فقد أخرج البخارى- رحمه الله- عن أبى هريرة رضي الله عنه: «أن رجلا أتى النبى صلّى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من يضم- أو يضيف- هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمى ضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: ما عندنا إلا قوت صبيانى، فقال: هيئى طعامك، وأصبحى سراجك، ونومى صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: ضحك الله الليلة- أو عجب- من فعالكما، فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (¬28). ¬

(¬27) الحديث أخرجه مسلم فى صحيحه: ك: الإمارة، ب: ثبوت الجنة للشهيد، حديث/ 1903. (¬28) صحيح البخارى: ك: مناقب الأنصار، ب: قول الله عز وجل: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ حديث/ 3798.

فوائد معرفة أسباب النزول

فوائد معرفة أسباب النزول قد عرفنا فيما سبق ما هو سبب النزول، وما الذى يرجع إليه فى معرفته، وما صيغته التى يرد بها، وقد آن لنا أن نعرف ما هى الثمرة المرجوة، والفائدة المأمولة من وراء هذا البحث. الحق أن البحث فى سبب النزول وفوائد معرفته بحث مهم، ولهذا نرى أن علماء الأمة قد أولوه عنايتهم كما سبقت الإشارة إليه فى كلام السيوطى- رحمه الله تعالى- فى بيان من أفرد هذا الموضوع بالبحث، كما نرى واحدا من أعلام هؤلاء العلماء، وهو بدر الدين الزركشى- رحمه الله تعالى- قد بدأ مصنفه القيم فى علوم القرآن الذى يعتبر عمدة فى هذا الفن، وهو كتاب (البرهان فى علوم القرآن) (¬29) ببحث هذا الموضوع، فجعل النوع الأول مما بحثه فى كتابه من موضوعات: (معرفة أسباب النزول). وإنه لمخطئ من يظن أنه ليس من وراء البحث فى أسباب النزول من فائدة؛ إذ يبنى ظنه على أن هذا الموضوع من قبيل ما يجرى مجرى التاريخ الذى مرت أحداثه، وانتهت ملابساته، وعليه فإن معرفة سبب النزول لا تزيد عن كونها نوعا من الاطلاع والعلم المجرد بما وقع من أحداث، وكان سببا فى نزول بعض الآيات. ولا شك أن هذا الظن خاطئ، بل لمعرفة أسباب النزول فى القرآن الكريم فوائد جليلة، منها ما يلى: أولا: بيان الحكمة الباعثة على تشريع كثير من الأحكام، ومن ثم إدراك أن روح التشريع الإسلامى وجوهره يقوم على مراعاة هذا التشريع الحكيم لمصالح العباد فى معالجة ما يعرض لهم من أحداث ووقائع، وأن مراعاة هذه المصالح أمر ينطلق من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده، ورأفته بهم، وتيسيره عليهم. ولقد تجلت هذه الحكمة واضحة فيما ورد فى حادثة سبب نزول آية التيمم من جهة، وفى النص عليها فى نفس الآية من جهة أخرى، وهذه الآية هى قول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ¬

(¬29) يعتبر (البرهان) أول كتاب جامع يوضع فى هذا الفن، يقول مؤلفه: (ولما كانت علوم القرآن لا تنحصر ومعانيه لا تنقضى، وجبت العناية بالقدر الممكن، ومما فات المتقدمين وضع كتاب يشتمل على أنواع علومه، كما وضع الناس ذلك بالنسبة لعلم الحديث، فاستخرت الله تعالى- وله الحمد- فى وضع كتاب فى ذلك، جامع لما تكلم الناس فى فنونه، وخاضوا فى نكته وعيونه) البرهان فى علوم القرآن: (1/ 30). وعلى هذا الكتاب بنى السيوطى سفره المشهور: (الإتقان فى علوم القرآن) قال رحمه الله تعالى بعد أن استعرض خطبة كتاب الزركشى، وكذلك موضوعات هذا الكتاب: (ولما وقفت على هذا الكتاب ازددت به سرورا، وحمدت الله كثيرا وقوى العزم على ما أضمرته، وشددت الحزم فى إنشاء التصنيف الذى قصدته، فوضعت هذا الكتاب، العلى الشأن، الجلى البرهان، الكثير الفوائد والإتقان، ورتبت أنواعه ترتيبا أحسن من ترتيب البرهان .. إلى أن يقول: وسميته الإتقان فى علوم القرآن) الإتقان: (1/ 16).

وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ المائدة/ 6. فعن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة- رضى الله عنها- زوج النبى صلّى الله عليه وسلم قالت: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لى، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبى بكر الصديق رضي الله عنه فقالوا: أترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلّى الله عليه وسلم وبالناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر رضي الله عنه ورسول الله صلّى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذى قد نام، فقال: حبست رسول الله صلّى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء! قالت عائشة- رضى الله عنها-: فعاتبنى أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعننى بيده فى خاصرتى، ولا يمنعنى من التحرك إلا مكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم على فخذى، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه: ما هى بأول بركتكم يا آل أبى بكر قالت: فبعثنا البعير الذى كنت عليه فإذا العقد تحته» (¬30). والمقصود بآية التيمم هنا: هى آية المائدة التى مر ذكرها قبل قليل، لأنه قد ورد فى نفس الباب عند البخارى رواية من طريق ابن وهب: عن عمرو عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه فى نفس القصة جاء فى نهايتها قول أم المؤمنين- رضى الله عنها-: «ثم إن النبى صلّى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح- أى صلاة الصبح- فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبى بكر، ما أنتم إلا بركة لهم». وقد أشكل على العلماء المقصود بآية التيمم فى قول أم المؤمنين عائشة- رضى الله عنها- وقد ساق ابن حجر- رحمه الله تعالى- هذا الإشكال من خلال مقولات العلماء فى المقصود بالآية، ثم حقق أنها آية المائدة، قال رحمه الله تعالى: «قال ابن العربى: هى معضلة ما وجدت لدائها من دواء، لأنا لا نعلم أى الآيتين عنت عائشة- رضى الله عنها- قال ابن بطال: هى آية النساء (¬31) أو آية المائدة. وقال القرطبى: هى آية النساء، ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، ¬

(¬30) صحيح البخارى: ك: التفسير، ب: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً حديث/ 4607. (¬31) وهى قول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً النساء/ 43.

وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء، فيتجه تخصيصها بآية التيمم. وأورد الواحدى فى (أسباب النزول) (¬32) هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضا، وخفى على الجميع ما ظهر للبخارى من أن المراد بها آية المائدة بغير تردد، لرواية عمرو بن الحارث، إذ صرح فيها بقوله: فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية» (¬33). ثانيا: تخصيص الحكم- فيما نزل بصيغة العموم- بصورة السبب التى نزل فيها- أى بالحادثة التى كان وقوعها سببا فى نزول الحكم- وذلك عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. ومعنى هذا الكلام: أن النص العام الوارد على سبب خاص لا يبقى على عمومه بعد نزوله على سببه الخاص، بل يكون مقصورا على حالة هذا السبب، بمعنى أن استفادة الحكم فى هذا السبب بذاته مما نزل تكون بطريق النص، فإذا عمل بهذا الحكم فى حادثة أو حوادث تشابه حادثة صورة السبب كان استفادة الحكم فى هذه الحوادث المشابهة بطريق القياس لا بطريق النص، ولكن هذا التخصيص مسألة خلافية سوف نعرض لها بالتفصيل عند بحث مسألة عموم اللفظ وخصوص السبب. ثالثا: إذا كان اللفظ النازل فى سبب ما عاما، وقام الدليل على تخصيصه، فإن معرفة سبب النزول تجعل التخصيص الوارد قاصرا على ما عدا الحادثة التى كانت صورة السبب، ذلك لأن صورة حادثة السبب لا يجوز إخراجها بالاجتهاد قياسا على صورة أخرى لا يجرى فيها الحكم الوارد فى ذلك النص، ذلك أن دخول الحادثة التى هى صورة السبب فى اللفظ العام قطعى، فلا يجوز إخراجها بالاجتهاد وهو ظنى. مثال ذلك: ما ذكره المفسرون فى سبب نزول قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ النور/ 23. فقد أوردوا عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى، وابن عباس رضى الله عنهما: أن هذه الآية نزلت فى رماة عائشة رضى الله عنها خاصة، أو فيها وسائر أزواج النبى صلّى الله عليه وسلم عامة (¬34) وهو وعيد لهؤلاء الرماة، عام فى عذابهم فى الدنيا والآخرة، مما يفيد عدم قبول توبتهم، ولكن هذا العموم قد خصص بقبول توبة من يقذف غيرهن من المؤمنات إذا تاب بدليل قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا ¬

(¬32) أسباب النزول: ص 113. (¬33) فتح البارى: للحافظ ابن حجر العسقلانى: دار المعرفة- بيروت، بدون تاريخ: (1/ 434). (¬34) راجع تفسير القرطبى: طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987 (12/ 209)، وفتح القدير: للشوكانى: دار الوفاء، الطبعة الأولى: 1415 هـ 1994 م (4/ 19).

بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ النور/ 4، 5. فهذه الآية مخصّصة لعموم الآية السابقة، ولكن لا ينبغى أن يقاس فى هذا التخصيص قبول توبة من يقذف عائشة رضى الله عنها أو إحدى أمهات المؤمنين على قبول توبة قاذف غيرهن، لأن قذف أزواج النبى صلّى الله عليه وسلم هو صورة السبب التى نزل عليها الحكم فى قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ الآية، وعليه فيمتنع أن تخرج صورة السبب من النص العام النازل عليها بالتخصيص الوارد فى الآية الثانية، بل يقتصر هذا التخصيص على ما عدا صورة السبب، فلا يكون لقاذف أزواج النبى صلّى الله عليه وسلم توبة. قال السيوطى رحمه الله تعالى: «إن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته، فإن دخول صورة السبب قطعى، وإخراجها بالاجتهاد ممنوع، كما حكى الإجماع عليه القاضى أبو بكر فى التقريب، ولا التفات إلى من شذ فجوّز ذلك» (¬35). لكن الآية التى معنا قد تخرّج على اعتبار أن الوعيد الوارد فيها إنما هو لمن أصرّ على القذف ولم يتب، وأن ذلك يكون فى حق القاذف المصرّ عموما سواء كان قذفه لأزواج النبى صلّى الله عليه وسلم أو لغيرهن. كما يمكن تخريجها على اعتبار أن الوعيد الوارد فيها خاص بمن قذف عائشة رضى الله عنها، أو احدى أمهات المؤمنين رضى الله عنهن جميعا، بعد نزول ما نزل فى شأن عائشة رضى الله عنها من القرآن. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: «وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبّها- يعنى بذلك عائشة رضى الله عنها- بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذى ذكر فى هذه الآية فإنه كافر، لأنه معاند للقرآن وفى بقية أمهات المؤمنين قولان، أصحهما: أنهن كهى، والله أعلم» (¬36). رابعا: من أهم فوائد معرفة أسباب النزول، بل من دواعى هذه المعرفة والحاجة إليها: أنها تعين فى كثير من المواطن على فهم معنى الآيات، وإزالة ما قد يبدو فيها من إشكال، وبدون معرفة سبب النزول يمكن أن يخطئ المفسر فى فهم معنى الآية فيحمله على غير المراد، وقد لا يعرفه على الإطلاق، وفى هذا من الخطورة ما فيه، لأن الجهل فى هذا الصدد يفتح الباب على مصراعيه أمام ¬

(¬35) الإتقان: (1/ 92، 93). (¬36) تفسير القرآن العظيم: دار المعرفة- بيروت 1403 هـ 1983 م (3/ 276).

الفتاوى الخاطئة، ويلبس على المؤمنين أمر دينهم، ولهذا نبه العلماء على أهمية معرفة سبب النزول من هذه الحيثية. فقد أشار الواحدى- رحمه الله تعالى- إلى امتناع معرفة تفسير الآية، ومعرفة ما تعنيه، دون الوقوف على قصتها والعلم بسبب النزول (¬37). وقال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: «بيان سبب النزول طريق قوى فى فهم معانى القرآن» (¬38). وقال ابن تيمية- رحمه الله تعالى-: «معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب» (¬39). وهناك أمثلة كثيرة من أسباب النزول توضح كيفية إزالة الإشكال فى فهم كثير من آيات القرآن الكريم، التى لم يكن يتأتى فهم معناها بدون معرفة هذه الأسباب. ومن بين الآيات التى يتضح فيها ذلك ما يلي: 1 - قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ البقرة/ 158. فإن ظاهر هذه الآية لم ينص على فرضية السعى بين الصفا والمروة، مما يفهم منه أن السعى بينهما مباح، من شاء فعله، ومن شاء تركه ولا حرج عليه، لأن رفع الجناح يفيد الإباحة لا الإلزام، وهذا الفهم قد تبادر إلى عروة بن الزبير بن العوام (ت 94 هـ) رحمه الله تعالى، وصرّح به لخالته أم المؤمنين الصديقة عائشة- رضى الله عنها-، فلما سمعت منه ذلك بينت له ما تفيده الآية الكريمة على الوجه الصحيح، وكان ذلك ببيان سبب نزولها. وقد أوردت الصحاح قصة طويلة فى بيان ذلك نوردها بتمامها لما فيها من الفائدة. فعن ابن شهاب الزهرى رحمه الله تعالى: قال عروة: «سألت عائشة رضى الله عنها، فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فو الله ما على أحد جناح ألّا يطّوف بالصفا والمروة؟ قالت: بئس ما قلت يا ابن أختى، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت: لا جناح عليه ألّا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت فى الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، التى كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهلّ يتحرج أن يطّوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطّوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الآية، قالت عائشة رضى الله ¬

(¬37) راجع أسباب النزول: ص 3. (¬38) انظر الإتقان: (1/ 93). (¬39) مقدمة التفسير: (ضمن مجموع الفتاوى) لشيخ الإسلام ابن تيمية: (13/ 339).

عنها: وقد سن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن، فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس- إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهلّ بمناة- كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة فى القرآن قالوا: يا رسول الله، كنّا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطّوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الآية، قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت فى الفريقين كليهما: فى الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا فى الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما فى الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت» (¬40). 2 - قول الله سبحانه: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ الآية، الطلاق/ 4. فقد أشكل معنى هذا الشرط (إن ارتبتم) على البعض، حتى قال الظاهرية (¬41) بأن الآيسة لا عدة عليها إذا لم ترتب (¬42) وسبب ذلك أنهم فهموا أن الشرط مرتبط بالحيض، فحسبوا أن المعنى: إن ارتبتم فى حيضهن. ولكن ما ورد فى سبب نزول هذه الآية يزيل هذا الإشكال، لأنه يجعل الارتياب فى حكم عدة الآيسة وليس فى حيضها. فقد أخرج الحاكم (¬43) وصححه عن أبىّ ابن كعب رضي الله عنه قال: «لما نزلت الآية التى فى سورة البقرة فى عدد من عدد النساء، قالوا: قد بقى من عدد النساء لم يذكرن، الصغار والكبار، ولا من انقطعت عنهن الحيض، وذوات الأحمال، فأنزل الله عز وجل: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ». 3 - قول الله عز وجل: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ آل عمران/ 188. فقد أشكل أمر هذه الآية على مروان بن الحكم، فأرسل إلى عبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما، فأجابه فيها ببيان سبب النزول، الذى أزال الإشكال واللبس. ¬

(¬40) هذا الحديث أخرجه البخارى فى صحيحه: ك: الحج، ب: وجوب الصفا والمروة، وجعل من شعائر الله حديث/ 1643 ومسلم فى صحيحه: ك: الحج، ب: بيان أن السعى بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به حديث/ 1277. (¬41) الظاهرية: هم أصحاب المذهب الظاهرى الذى أسسه داود بن على الأصبهانى رحمه الله (ت 270 هـ) الذى عرف بالظاهرى لانتحاله القول بظاهر الشريعة، فالمذهب الظاهرى يقرر أن المصدر الفقهى هو النصوص، فلا رأى فى حكم من أحكام الشرع، وقد نفى المعتنقون لهذا المذهب الرأى بكل أنواعه، فلم يأخذوا بالقياس ولا بالاستحسان، ولا بالمصالح المرسلة ولا الذرائع، بل يأخذون بالنصوص وحدها، وإذا لم يكن النص أخذوا بحكم الاستصحاب، الذى هو الإباحة الأصلية الثابتة بقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً البقرة/ 29، ومن فرسان هذا المذهب كذلك: على بن أحمد بن سعيد بن حزم (ت 456 هـ) رحمه الله تعالى، راجع فى ذلك: (تاريخ المذاهب الإسلامية) للإمام محمد أبى زهرة، طبع: دار الفكر العربى، بدون تاريخ: ص 544. (¬42) الإتقان: (1/ 94). (¬43) فى المستدرك: (دار الباز للنشر والتوزيع- بدون تاريخ) ك: التفسير، ب: تفسير سورة الطلاق (2/ 492) وأقره الذهبى على تصحيحه فى التلخيص.

فعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أن مروان ابن الحكم قال: «اذهب يا رافع- لبوّابه- إلى ابن عباس، فقل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتى- فى رواية مسلم: فرح بما أتى- وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذبن أجمعون، قال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية، إنما أنزلت هذه فى أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ وتلا: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ثم قال ابن عباس: سألهم النبى صلّى الله عليه وسلم عن شىء فكتموه وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أنهم أخبروه بما قد سألهم عنه فاستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه» (¬44). 4 - قول الله تبارك وتعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ البقرة/ 189. فإن هذه الآية يصعب التوصل إلى المقصود فيها من قول الله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها إلا بمعرفة سبب نزولها، أو فى أى شىء نزلت. وبالفعل فإنه قد ورد سبب يوضح المعنى المراد، أخرج البخارى (¬45) عن أبى إسحاق السبيعى قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها (¬46) فجاء رجل من الأنصار، فدخل من قبل بابه، فكأنه عيّر بذلك فنزلت: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها. خامسا: ومن الفوائد المترتبة على معرفة سبب النزول: ما ذكره الزركشى من دفع توهم الحصر المتبادر من بعض الآيات، وقد فصل ذلك بقوله: (قال الشافعى ما معناه فى معنى قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ- الآية 145 من سورة الأنعام: إن الكفار لما حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادة ¬

(¬44) الحديث أخرجه البخارى فى صحيحه: ك: التفسير، باب: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا حديث/ 4568 ومسلم فى صحيحه: ك: صفات المنافقين، حديث/ 2778 والترمذى فى سننه: ك: تفسير القرآن ب: ومن سورة آل عمران حديث/ 3014 واللفظ للترمذى، ولا ينبغى أن يفهم من كلام ابن عباس رضى الله عنهما تخصيص الوعيد الوارد فى الآية بفعل اليهود، فليس هذا التخصيص من مقصودها، بل هى عامة فى كل من فعل فعل اليهود من ارتكاب الشر وإيهام فعل الخير، وطلب الحمد عليه، والفرح بكل هذه الآثام. (¬45) فى صحيحه: ك: العمرة، ب: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها حديث/ 1803. (¬46) وذلك حتى لا يحول بينهم وبين السماء حائل من سقف أو نحوه، كما ذكر ابن حجر عن الزهرى فى شرح الحديث، انظر كتاب فتح البارى:

والمحادة، جاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه، نازلا منزلة من يقول: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول لا آكل اليوم إلا الحلاوة، والغرض المضادة، لا النفى والإثبات على الحقيقة، فكأنه قال: لا حرام إلا ما حللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، ولم يقصد حل ما وراءه، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل. قال إمام الحرمين: و «هذا فى غاية الحسن، ولولا سبق الشافعى إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك فى حصر المحرمات فيما ذكر فى الآية» أ. هـ. ما قاله الزركشى (¬47). قلت: وهذا يتوقف على ورود سبب صحيح فى نزول الآية، يقضى بأن الكفار أحلوا ما حرمته تلك الآية فجاءت الآية ردا عليهم، ولكن الزركشى لم يورد مثل هذا السبب صريحا، كما أن السيوطى فى نقله ذلك عنه لم يصرح بهذا السبب كذلك، بل نقل عبارة الزركشى بنصها كما ذكرها صاحبها فى البرهان. ¬

(¬47) البرهان فى علوم القرآن: (1/ 46، 47).

عموم اللفظ وخصوص السبب

عموم اللفظ وخصوص السبب عنى بتحقيق هذه المسألة كثير من العلماء، ومن أشدهم عناية بذلك الأصوليون والمفسرون، أما الأولون فلأن بحثهم فى مجالهم يقوم على الاستدلال بألفاظ القرآن الكريم على الأحكام الشرعية، وأما الآخرون فلأن البحث فى ذلك يساعدهم على فهم المعنى المراد من الآيات القرآنية. واستقراء ما نزل من آيات القرآن الكريم على سبب فى ضوء مطابقة ألفاظ النازل لأفراد السبب من حيث التعميم أو التخصيص ينكشف عن أربع صور عقلية، لأن اللفظ النازل إما عام وإما خاص، والسبب الذى نزل عليه اللفظ إما عام وإما خاص كذلك، فتنتج هذه الصور التى نذكرها فيما يلى: أولا: قد يكون سبب النزول عاما، واللفظ الذى نزل عاما كذلك، ولا إشكال فى هذه الصورة، لأن الحكم الوارد فى الآية عام، وهو ثابت لكل أفراد السبب العام بطريق النص، وهذا محل اتفاق بين العلماء نظرا للتطابق بين اللفظ والسبب. مثال ذلك: ما ورد فى سبب نزول قول الله تبارك وتعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة/ 220. فعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: «لما أنزل الله عز وجل: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ- الإسراء/ 34 - وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً الآية- النساء/ 10 - انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم» (¬48). ثانيا: قد يكون سبب النزول خاصا واللفظ الذى نزل فى شأنه خاصا كذلك، وهذا مثل سابقه لا إشكال فيه كذلك، لأن الحكم الخاص الوارد فى الآية ثابت للفرد الخاص الذى نزل فى شأنه، وذلك للتطبيق ¬

(¬48) هذا الحديث أخرجه أبو داود فى سننه: ك: الوصايا، ب: مخالطة اليتيم، حديث/ 2871.

بينهما فى جهة الخصوص ولا خلاف بين العلماء فى ذلك. مثال ذلك: ما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ إلى آخر سورة المسد. فقد أخرج البخارى (¬49) عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صعد النبى صلّى الله عليه وسلم الصفا، فجعل ينادى: يا بنى فهر، يا بنى عدى- لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادى تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقىّ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ. ثالثا: قد يكون السبب عاما واللفظ خاصا: «وتلك صورة فرضية غير واقعة فى القرآن، لأنها تتنافى وبلاغته، لعدم وفاء اللفظ للسبب، إذ السبب بمنزلة السؤال، واللفظ المنزل بمنزلة الجواب، وقصور الجواب عن مطلوب السؤال مخل بالبلاغة» (¬50). رابعا: قد يكون سبب النزول خاصا، واللفظ الذى نزل فى شأنه عاما، وهذه الصورة هى موضع خلاف العلماء، وقد تكررت هذه الصورة فى القرآن الكريم فى أكثر من سورة. واختلاف العلماء فى شأن هذه الصورة يدور حول ما يعتبر عندهم، ويعتد به من الأمرين: هل تكون العبرة بعموم اللفظ؟ وعندئذ يكون اللفظ العام باقيا على عمومه، فيتناول أفراد السبب الخاص وكل ما يكون مشابها له من أفراد غيره، أو تكون العبرة بخصوص السبب؟ فلا يكون اللفظ باقيا على عمومه بل يكون مقصورا على أفراد السبب الخاص، ولا يدخل ما سوى ذلك فى الحكم إلا بدليل آخر غير النص. ولنذكر أولا مثالا تتضح فيه صورة هذا الخلاف، ثم نذكر ما قاله العلماء فى هذا الصدد مقرونا بالأدلة، ثم نبين أى القولين أولى بالاعتبار. ففي الصحيح: عن ابن عباس- رضى الله عنهما: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبى صلّى الله عليه وسلم بشريك بن السحماء، فقال رسول الله ¬

(¬49) فى صحيحه: ك: التفسير، ب: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ حديث/ 4770. (¬50) انظر: اللآلئ الحسان فى علوم القرآن: أ. د./ موسى شاهين، مطبعة دار التأليف 1388 هـ ص: 165.

صلّى الله عليه وسلم: «البينة وإلا حدّ فى ظهرك». قال: فقال هلال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته، أيلتمس البينة؟ فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «البينة وإلا فحد فى ظهرك» قال: فقال هلال: والذى بعثك بالحق إنى لصادق، ولينزلن الله فى أمرى ما يبرئ ظهرى من الحد، فنزل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فقرأ حتى بلغ: وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ النور/ من الآية: 6 - 9 قال: فانصرف النبى صلّى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فجاءا، فقام هلال بن أمية فشهد، والنبى صلّى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة: أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالوا لها: إنها موجبة فقال ابن عباس: فتلكأت ونكست حتى ظننا أنها سترجع، فقالت: لا أفضح قومى سائر اليوم، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين (¬51) سابغ الأليتين (¬52) خدلج الساقين (¬53) فهو لشريك بن السحماء». فجاءت به كذلك، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «لولا ما مضى من كتاب الله عز وجل لكان لنا ولها شأن» (¬54). فالحديث كما هو واضح يصرح بأن سبب النزول هنا خاص، وهو قذف هلال بن أمية زوجته بشريك بن السحماء، والآيات المذكورة نزلت بحكم اللعان بلفظ عام، لأنها مبدوءة بقول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية، واسم الموصول من صيغ العموم وموضوع خلاف العلماء هنا هو: هل لفظ الآية العام يتناول بنصه كل قاذف لزوجته من غير شهود يشهدون معه؟ ولا حاجة مع هذا النص إلى أدلة أخرى من اجتهاد أو قياس فى تعميم هذا الحكم على غير هلال بن أمية، أى أن العبرة بعموم اللفظ فى الآيات، لا بخصوص السبب النازلة عليه، أو أن لفظ الآيات العام قاصر فى حكمه على سببه الخاص، وهو قذف هلال بن أمية امرأته، وأما من عداه ممن يفعل فعله فلا ينطبق عليه الحكم من خلال لفظ الآيات، وإنما ينطبق عليه بدليل آخر هو القياس، والعبرة عندئذ تكون بخصوص السبب لا بعموم اللفظ؟ رأيان للعلماء: ذهب إلى الأول منهما جمهور العلماء، وذهب إلى الثانى فريق منهم. وقبل أن نستعرض أدلة كل فريق ينبغى التأكيد على أن الجميع متفقون على تعميم أحكام الآيات التى نزلت بألفاظ العموم، وإن كان سببها خاصا، ما دامت قد خلت عن قرينة تمنع من هذا التعميم، بمعنى أن اللفظ العام ¬

(¬51) أكحل العينين: هو الذى يعلو جفن عينيه سواد مثل الكحل. (¬52) سابغ الأليتين: الأليتين تثنية الألية بفتح الهمزة، وسكون اللام هى: العجيزة أو ما ركب من شحم أو لحم: أى تام الأليتين وعظيمهما. (¬53) خدلج الساقين: بخاء ودال مهملة ولام مشددة مفتوحة: أى عظيم الساقين. (¬54) هذا الحديث أخرجه البخارى فى صحيحه: ك: التفسير، ب: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ حديث/ 4747 وأبو داود فى سننه: ك: الطلاق، باب فى اللعان، حديث/ 2254 والترمذى فى سننه: ك: التفسير، ب: ومن سورة النور، حديث/ 3179 واللفظ هنا للترمذى.

أولا: أدلة الجمهور:

الذى نزل بحكم ما على سبب خاص لا خلاف فى تعميم حكمه على كل الحالات التى يتناولها، من أفراد السبب وغيرها، لكن الخلاف فى كيفية استفادة الحكم بالنسبة لأفراد غير السبب (¬55): فالجمهور يرى أن استفادة الحكم فيها بطريق النص كما فى أفراد السبب، أما غيرهم فيرون أن الحكم فى صورة غير السبب يكون بطريق القياس وليس بالنص، بمعنى أنهم لا يقولون بامتناع ثبوت الحكم فى غير صورة السبب مما هو من نوعه بل يقولون بتعديته إليه بطريق القياس، أما أدلتهم فهى كما يلى: أولا: أدلة الجمهور: (أ) أن المعوّل فى الاحتجاج على لفظ الشارع وحده- أى النص القرآنى- لا على السؤال أو السبب الذى نزلت الآيات فى شأنه؛ لهذا نرى أن اللفظ القرآنى فى بعض الأحوال قد يعدل بالجواب عن سنن السؤال وذلك لحكمة وفائدة فى مجال التوجيه والتربية، كأن يرد السؤال عن شىء بذاته، فيوجه الجواب السائل إلى شىء آخر هو أولى بالاهتمام وهو الذى كان من المفروض أن تتحرّى معرفته، وذلك كما فى قول الله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ البقرة/ 215. فالسؤال فى الآية قد توخى معرفة ما ينبغى أن ينفق، والجواب توخى الإعلام بالجهات التى ينبغى أن توجه إليها النفقة لأنه أنسب فى هذا الموضع. (ب) أن اللفظ القرآنى عام فيجب بقاؤه على عمومه، لأن الأصل فى الألفاظ حملها على معانيها الأصلية المتبادرة، ولا يجوز صرف اللفظ عن معناه الذى وضع له إلا لقرينة تمنع بقاءه على هذا الأصل، وكون اللفظ القرآنى قد نزل على سبب خاص، فذلك ليس قرينة على التخصيص، لأنه لا مانع أن يكون السبب الخاص وسيلة لبيان حكمه، وحكم كل ما هو على شاكلته، بل إن العدول- فى ذاته- عن ربط الحكم بالخاص إلى ربطه بالعام دليل على قصد العموم. (ج) أن الصحابة- رضوان الله تعالى عليهم- ومن بعدهم قد تمسكوا- فيما نزل على أسباب خاصة- بما أفادته ألفاظ القرآن النازل من العموم، واحتجوا بذلك على وقائع لم تكن أسبابا لنزول الآيات، بل شابهتها، وذلك من غير حاجة إلى دليل آخر كالقياس ونحوه. فنراهم قد استدلوا على حكم الظهار، وما ¬

(¬55) لأن الجميع متفقون على أن استفادة الحكم بالنسبة لأفراد السبب بطريق النص.

ينبغى أن يفعله من يظاهر من زوجته- عند العود- من الإتيان بالكفارة: من تحرير الرقبة، أو الصيام، أو الإطعام، وأن ذلك لكل مظاهر. أقول: استدلوا على ذلك بعموم ما ورد فى قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ المجادلة/ 3، 4. مع أن السبب فى نزول هذه الآيات هو فعل أوس بن الصامت رضي الله عنه، لما ظاهر من امرأته خولة بنت ثعلبة كما سيأتى بيانه فى موضع قادم إن شاء الله تعالى. والصحابة- رضوان الله تعالى عليهم- من العرب الخلّص، الذين يعرفون بسليقتهم ما تفيده الألفاظ العربية، ولو كان ورود العام على سبب خاص يستلزم قصره عليه- فيما عهدوه من لغتهم- لما ذهبوا إلى هذا التعميم ولوقفوا عند مقتضى التخصيص، ولكن ذلك لم ينقل عنهم. بل أصرح من هذا: أنه قد ورد عنهم ما ينص على هذا التعميم، قال ابن جرير الطبرى رحمه الله تعالى: «حدثنى محمد بن أبى معشر، قال: أخبرنى أبو معشر نجيح، قال: سمعت سعيدا المقبرى يذاكر محمد بن كعب، فقال: إن فى بعض الكتب: إن لله عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصبر، لبسوا منسوك الضأن من اللين، يشترون الدنيا بالدين، قال الله تبارك وتعالى: أعلى يجترئون، وبى يغترون؟ وعزتى لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران. فقال محمد بن كعب: هذا فى كتاب الله جل ثناؤه، فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟ قال: قول الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ البقرة/ 204، 205 فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية، فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل فى الرجل ثم تكون عامة بعد» (¬56). وشبيه بذلك ما صرح فيه عقب نزول بعض الآيات باعتبار عموم لفظه، على الرغم من خصوص سببه كما جاء فى الحديث التالى: عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام، فأتى النبى صلّى الله عليه وسلم فسأله عن كفارتها فنزلت: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ¬

(¬56) جامع البيان عن تأويل آى القرآن: لمحمد بن جرير الطبرى: دار الفكر بيروت، 1408 هـ 1988، (2/ 323).

ثانيا: أدلة المخالفين:

وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ- سورة هود/ 114 فقال الرجل: ألى هذه يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لك ولمن عمل بها من أمتى». وفى بعض الروايات: فقال أصحابه: يا رسول الله، ألهذا خاصة، أم للناس عامة؟ فقال: «بل للناس عامة» (¬57). ثانيا: أدلة المخالفين: أما المخالفون: فليس لهم أدلة سوى بعض المحاذير التى يرون أنها تترتب على القول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهى محاذير يمكن الرد عليها جميعا، ومن بين هذه المحاذير: (أ) أنه يترتب على القول بعموم اللفظ: ألا يكون هناك فائدة لأسباب النزول، أو لبيانها على الرغم من اجتهاد العلماء فى نقل هذه الأسباب، واهتمام علماء التفسير بها، ولا تظهر الفائدة من ذلك إلا بالقول بأن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. ويمكن الرد على ذلك: بأن لمعرفة أسباب النزول كثيرا من الفوائد الهامة غير هذه الفائدة التى أوردها هؤلاء مثل معرفة حكمة التشريع، وإزالة ما قد يكون فى الآيات من إشكال، وغير ذلك مما عالجناه فى موضع آخر. (ب) أنه يترتب على القول بعموم اللفظ: أنه يحنث من قال: والله لا آكل، جوابا لمن قال: كل فاكهة. إذا حدث وأكل خبزا، لأن قوله: لا آكل. يعم كل أكل، مع أن الفقهاء على أنه لا يحنث، فثبت أن العبرة بخصوص السبب، لا بعموم اللفظ. والرد على ذلك: أن التخصيص فى هذا المثال إنما جاء من العرف، الذى يقضى بأن الحالف فى مثل هذه الحالة لا يقصد نفى الأكل مطلقا، وإنما يقصد نفى أكل الفاكهة، فالتخصيص جاء من قرينة قضت به، لا من خصوص السبب، ولا نزاع فى ذلك، إنما النزاع عند عدم القرينة. (ج) أنه يترتب على القول بعموم اللفظ: أن لا يكون لربط نزول الآية بسببها فائدة، لأن هذا الربط دليل على أن العبرة بخصوص السبب، ولولا ذلك كانت الآيات تنزل إما قبل حدوث هذه الأسباب، أو بعدها بوقت طويل، حتى ينفك هذا الارتباط، فدل ذلك التعاقب على أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. والرد على ذلك: أن هذا التعاقب بين السبب والآيات النازلة فى شأنه يؤدى إلى تثبيت الحكم الشرعى وإظهار حكمة التشريع، وتوضيح المراد من الآيات عند ما يشكل ¬

(¬57) هذا الحديث أخرجه البخارى فى صحيحه: ك: التفسير، ب: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ حديث/ 4687 ومسلم فى صحيحه: ك: التوبة، باب قوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ حديث/ 2763 والترمذى فى سننه: ك: التفسير، ب: ومن سورة هود، حديث/ 3114 واللفظ للترمذى الذى قال: هذا حديث حسن صحيح.

معناها، وليس المراد منه قصر الحكم على سببه الخاص. (د) أنه يترتب على القول بعموم اللفظ: جواز إخراج صورة السبب من اللفظ العام إذا ورد ما يخصصه لأنه حينئذ كأى فرد من أفراده، وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز إخراج صورة السبب من العام فى هذه الحالة فدل ذلك على أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. ويجاب عن ذلك: بأن عدم جواز إخراج صورة السبب بما ورد من التخصيص إنما هو لمزية فى صورة السبب ليست فى سائر الأفراد، وهى مع ذلك تدخل دخولا أوليا، وقد عولج ذلك بالتفصيل فى بيان فوائد معرفة أسباب النزول. (هـ) أنه يترتب على القول بعموم اللفظ: عدم مطابقة اللفظ العام الذى هو بمنزلة الجواب للسبب الذى هو بمنزلة السؤال، لأن السبب خاص واللفظ عام، فلا تطابق بينهما، مع أن التطابق فى مثل ذلك ضرورى، انطلاقا من قواعد البلاغة، وإذا لم يتحقق هذا التطابق يكون مخلا ببلاغة القرآن، وهو عندئذ نقص يتنزه عنه القرآن الكريم. والجواب على ذلك: أن التطابق المنشود يتحقق فى حالة عموم اللفظ، لأنه يتضمن بيان حكم السبب الخاص، وهذا قدر متيقن، ويزيد عليه بيان حكم ما يشابهه، ولا يخل بأعلى مراتب البلاغة أن يكون اللفظ العام جوابا شاملا للسبب ولغيره، بل إن هذه مزية، لأنها فائدة زائدة ترفع من شأن الكلام، وتزيد من قيمته. وحيث زالت هذه المحاذير بما لا تكلف فيه: فإنه لا يبقى لهؤلاء دليل على رأيهم، وتبقى أدلة الجمهور سالمة ناطقة بصواب ما ذهبوا إليه، وهو أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وإذا كان لهذا الخلاف من ثمرة: فإن الثمرة تنحصر فى تحديد مأخذ الحكم فى غير صورة السبب الخاص وهى- كما قدمنا- مندرجة تحت الحكم قطعا، ولكن جماهير العلماء يرون مأخذ الحكم فيها بطريق النص نفسه بينما يرى البعض مأخذه بطريق القياس، فالحكم فى غير صورة السبب قائم فى كلتا الحالتين على دليل شرعى (¬58). ¬

(¬58) راجع فى أدلة الفريقين: الإتقان: (1/ 96، 97) والبيان فى مباحث من علوم القرآن: ص 115 - 120 واللآلئ الحسان فى علوم القرآن: ص 166 - 169.

تعدد الروايات فى سبب النزول

تعدد الروايات فى سبب النزول كثيرا ما يجد المفسر نفسه- فيما يتعلق بمعانى الآيات، أو بملابسات نزولها- فى مواجهة روايات بأسباب متعددة لنزول الآية الواحدة، وسبيله عندئذ أن ينظر فى الصيغ التى وردت بها تلك الروايات والقرائن التى تصاحبها، وهذه الصيغ أو تلك القرائن هى التى تحدد إمكان الجمع أو الترجيح بين هذه الروايات المتعددة، وقد تتبع العلماء أوجه هذا التعدد فوجدوها تأتى على النحو التالى: (أ) أن تكون الصيغ الواردة ليست نصا فى سبب النزول: بأن يقول بعضهم: (نزلت هذه الآية فى كذا) ويذكر شيئا من مضمونها، ويقول الآخر: (نزلت هذه الآية فى كذا) ويذكر شيئا آخر مما يحتمله مضمون الآية. فهاتان الصيغتان تقبلان معا على أنهما للتفسير والبيان، وليس لبيان سبب النزول، وذلك ما لم تقم قرينة على صيغة منهما تعينها سببا لنزول الآية، فلو قامت هذه القرينة تعينت تلك الصيغة سببا للنزول دون غيرها. مثال ذلك: قول الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ سورة البقرة/ 274. فقد ورد فيها بيان لكل من ابن عباس رضى الله عنهما، وقتادة بن دعامة السدوسى (ت 117 هـ) رحمه الله تعالى، فلو تأملنا فيها قول ابن عباس رضى الله عنهما: إنها فى الذين يعلفون الخيل فى سبيل الله تعالى. وكذلك قول قتادة: إنها فيمن أنفقوا فى سبيل الله الذى افترض عليهم فى غير سرف ولا إملاق ولا تبذير (¬59)؛ لكان كل من القولين صحيحا، لأن الآية تتضمن هذا وذاك، ولا منافاة بينهما. ومن هذا القبيل: ما يمكن أن يقال عند تدبر قول الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ آل عمران/ 169، 170. ¬

(¬59) فتح القدير للشوكانى: (/ 370).

فلو قال قائل: إن هذه الآية نزلت فى بيان منزلة الشهداء عند الله تعالى، وأنها من أعلى المنازل فى الجنة اعتبارا بما فى أول الآيات، وقال آخر: نزلت هذه الآيات فى الترغيب فى الجهاد لنيل الشهادة اعتبارا بما فى آخرها. لكان كل من القولين صحيحا، لأن الآيات تتضمن هذا وذاك، ولا تعارض بينهما. (ب) أن تكون إحدى الصيغتين نصا فى سبب النزول: بمعنى أن يكون فيها ما يدل على ذلك مثل فاء التعقيب، وتكون الأخرى ليست نصا فى السببية، بل جاءت بعبارة: نزلت الآية فى كذا، فإن الصيغة الأولى عندئذ تعتمد سببا لنزول الآية، أما الثانية فتحمل على أنها نوع من التفسير أو الاستنباط من الآية حسب فهم من سيقت عنه. مثال ذلك: قول الله تبارك وتعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ البقرة/ 197. فقد أخرج البخارى رحمه الله تعالى (¬60) عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى». كما ورد فى الآية كذلك أنها: فى الأمر بأخذ الزاد عند السفر، والإخبار والإعلام بأن خير ما يتزود به هو تقوى الله تعالى، حكاه الإمام عبد الرحمن بن الجوزى (ت 597 هـ) عن أبى إسحاق الزجاج (ت 311) رحمه الله تعالى (¬61). فحديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما يعتبر سببا فى نزول الآية لصراحة عبارته فى ذلك، وأما قول الزجاج فإنه يحمل على تفسير الآية. (ج) أن يأتى فى الآية روايتان: وتكون كل منهما نصا فى سبب نزولها، ولكن إحداهما إسنادها صحيح دون الأخرى، فالمعتمد عندئذ فى سبب النزول هو الرواية التى صح إسنادها. مثال ذلك: ما ورد فى سبب نزول قول الله: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى سورة الضحى/ 1 - 5. فقد أخرج البخارى رحمه الله تعالى (¬62) عن جندب بن سفيان رضي الله عنه، قال: «اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين، فجاءت امرأة- أى من الكفار- فقالت: يا محمد إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره ¬

(¬60) فى صحيحه: ك: الحج، ب: قول الله تعالى وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى حديث/ 1523. (¬61) زاد المسير فى علم التفسير: لأبى الفرج ابن الجوزى- المكتب الإسلامى- ط: رابعة 1407 هـ (1/ 212). (¬62) فى صحيحه: ك: التفسير، ب: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى حديث/ 4950.

قربك منذ ليلتين أو ثلاثا، فأنزل الله عز وجل: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى». وروى الواحدى (¬63) عن حفص بن سعيد القرشى، قال: حدثتنى أمى عن أمها خولة، وكانت خادمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. «أن جروا دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبى الله صلّى الله عليه وسلم أياما لا ينزل عليه الوحى، فقال: يا خولة ما حدث فى بيتى؟ جبريل عليه السّلام لا يأتينى، قالت خولة، لو هيأت البيت وكنسبته فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فإذا شىء ثقيل، فلم أزل حتى أخرجته فإذا جرو ميت، فأخذته فألقيته خلف الجدار، فجاء نبى الله صلّى الله عليه وسلم ترعد لحياه، وكان إذا نزل عليه الوحى استقبلته الرعدة، فقال: يا خولة دثرينى. فأنزل الله تعالى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى». وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى أن هذه القصة رواها الطبرانى بإسناد فيه من لا يعرف، ثم قال: «وقصة إبطاء جبريل بسبب كون الكلب تحت السرير مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، بل شاذ مردود بما فى الصحيح، والله أعلم» (¬64). (د) أن يأتى فى الآية روايتان صحيحتان: وكل منهما نص فى سبب نزولها، لكن فى إحداهما ما يرجحها على الأخرى مثل كونها أصح من الأخرى، أو أن راويها كان حاضرا مشاهدا للقصة بخلاف الآخر، فعندئذ يؤخذ فى سبب النزول بالرواية الراجحة دون الرواية المرجوحة. مثال ذلك: ما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا الإسراء/ 85. فقد أخرج البخارى (¬65) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «بينا أنا مع النبى صلّى الله عليه وسلم فى حرث، وهو متكئ على عسيب (¬66) - إذ مر اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال: ما رابكم إليه؟ - وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه- فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك النبى صلّى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامى، فلما نزل الوحى قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا». وأخرج الترمذى (¬67) وصححه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «قالت قريش ليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، قال: فسألوه عن ¬

(¬63) أسباب النزول: ص 338. (¬64) فتح البارى: (8/ 710). (¬65) فى صحيحه: ك: التفسير، ب: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ حديث/ 4721. (¬66) العسيب هو: الجريد الذى لا خوص فيه. (¬67) فى سننه: ك: التفسير، ب: ومن سورة بنى إسرائيل، حديث/ 3141.

الروح، فأنزل الله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا». قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. فالرواية الأولى تقتضى أن الآية نزلت بالمدينة، والثانية تقتضى أنها نزلت بمكة. وقد رجح العلماء الأولى لكونها من رواية البخارى، وما رواه أصح، وبأن ابن مسعود كان حاضرا مشاهدا للقصة. (هـ) أن يأتى فى الآية روايتان كل منهما نص فى سبب النزول: وكل منهما مساوية للأخرى فى الصحة ولا مرجح عندئذ لإحداهما، لكن يمكن الجمع بينهما، لتقارب الزمن بين القصتين، فتكون الآية نازلة فى السببين أو الأسباب معا على هذا الوجه وذلك الاعتبار. مثال ذلك: ما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ الآيات سورة النور/ 6 - 10. فقد أخرج البخارى وغيره عن ابن عباس رضى الله عنهما أنها نزلت فى هلال بن أمية لما قذف زوجته عند النبى صلّى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، وقد مرت هذه الرواية بالتفصيل من قبل عند بحث مسألة: عموم اللفظ وخصوص السبب. كما أخرج البخارى ومسلم (¬68) من رواية سهل بن سعد الساعدى: أنها نزلت فى عويمر العجلانى، لما سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائلا: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قد أنزل الله فيك وفى صاحبتك». فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالملاعنة بما سمى الله فى كتابه. إلى آخر الحديث. فيمكن الجمع بين الحادثتين: بالقول بأن حادثة هلال بن أمية وقعت أولا، وصادف مجىء عويمر كذلك فنزلت الآية فى شأنهما معا بعد حادثتيهما، إذ لا يجوز أن نرد الروايتين معا لصحتهما، كما لا يجوز أن نرد إحداهما ونأخذ بالأخرى، لأنه لا مرجح بينهما، فبقى أن نأخذ بهما معا كما قرر العلماء، سيما مع قرب زمانيهما. ¬

(¬68) البخارى فى صحيحه: ك: التفسير، ب وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ حديث/ 4745 ومسلم فى صحيحه: ك: اللعان، حديث/ 1492.

(و) أن يأتى فى الآية روايتان صحيحتان: كل منهما نص فى سبب النزول، ولا مرجح لإحداهما على الأخرى، ولا يمكن الجمع بينهما على اعتبار قرب الزمان، لأن زمانهما متباعد، وعندئذ يحمل العلماء مثل هذه الصورة على تكرر النزول. وقد مثل الزركشى لذلك- فى البرهان- بما ورد فى سبب النزول لقول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ هود/ 114، من أنها نزلت- كما فى الصحيحين (¬69) فى رجل أصاب من امرأة قبلة، فسأل النبى صلّى الله عليه وسلم عن كفارتها، فنزلت الآية. قال الزركشى معلقا: «والرجل قد ذكر الترمذى أو غيره (¬70) أنه أبو اليسر، وسورة هود مكية باتفاق، ولهذا أشكل على بعضهم هذا الحديث مع ما ذكرنا، ولا إشكال لأنها نزلت مرة بعد مرة» (¬71). والحق أن هذا الإشكال لا يحتم القول بتكرر النزول كما قال الزركشى، لأن كون السورة مكية لا يمنع أن تكون بعض آياتها مدنية، لأن الاعتبار فى تصنيف السور إلى مكى ومدنى بالأعم الأغلب، والقرآن نزل منجما فى مكة والمدينة، والراجح أن هذه الآية مدنية، وهذا ما قرره السيوطى رحمه الله ونص عليه فى بيان أن بعض السور التى نزلت بمكة فيها آيات نزلت بالمدينة، ذكر منها سورة هود، فقال: «هود: استثنى منها ثلاث آيات: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ قلت: دليل الثالثة ما صح من عدة طرق أنها نزلت فى المدينة فى حق أبى اليسر» (¬72). كما ساق الزركشى مثالا آخر لتكرر النزول فقال: «وكذلك ما ورد فى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أنها جواب للمشركين بمكة، وأنها جواب لأهل الكتاب بالمدينة» (¬73). وعلل لتكرار النزول بقوله: «وقد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه، وتذكيرا به عند حدوث سببه خوف نسيانه، وهذا كما قيل فى الفاتحة نزلت مرتين: مرة بمكة وأخرى بالمدينة» (¬74). وعلى كل ففي القول بتكرار النزول أقوال للعلماء، ولم يتفقوا جميعا على القول به، بل منهم من أنكر وقوعه (¬75). هذه هى الأوجه التى تتأتى فى تعدد الروايات فى أسباب النزول، وهذه هى أمثلتها مقرونة بما يتأتى فيها من الجمع بينها، أو ترجيح بعضها على بعض، مع بيان دواعى هذا الترجيح. ¬

(¬69) سبق ذكر هذا الحديث عند بحث العبرة فى سبب النزول: هل هى بعموم اللفظ، أو بخصوص السبب. (¬70) هو الترمذى: فى رواية له عن أبى اليسر قال: (أتتنى امرأة تبتاع تمرا ... ) الحديث، سنن الترمذى: ك: التفسير باب: ومن سورة هود، حديث/ 3115. (¬71) البرهان فى علوم القرآن. (¬72) الإتقان فى علوم القرآن: (1/ 45). (¬73) البرهان فى علوم القرآن: (1/ 54). (¬74) نفس المصدر: (1/ 54). (¬75) انظر الإتقان: (1/ 108).

تعدد المنزل من القرآن والسبب واحد

تعدد المنزّل من القرآن والسبب واحد وكما تتعدد الروايات فى أسباب الآية الواحدة، فإنه قد تتعدد الآيات النازلة على سبب واحد. مثال ذلك: ما أخرجه الحاكم (¬76) وصححه عن مجاهد، عن أم سلمة رضى الله عنها، قالت: «قلت يا رسول الله: يذكر الرجال، ولا يذكر النساء؟ فأنزل الله عز وجل: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الآية- الأحزاب/ 35 - وأنزل: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ آل عمران/ 195». ومن هذا القبيل: ما ورد عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى الله عنهما (¬77) قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى ظل حجرة، وقد كاد الظل أن يتقلص، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعين شيطان، فإذا جاءكم فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق أعور، فقال حين رآه دعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمنى أنت وأصحابك؟ فقال: ذرنى آتك بهم، فانطلق فدعاهم، فحلفوا ما قالوا وما فعلوا ... فأنزل الله عز وجل: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ المجادلة/ 18». وفى القصة نفسها أورد ابن جرير: عن ابن عباس رضى الله عنهما قوله: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا فى ظل شجرة، فقال: «إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعينى شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه». فلم يلبث أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «علام تشتمنى أنت وأصحابك؟» فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما فعلوا، حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله عز وجل: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا التوبة/ 74» ثم نعتهم جميعا إلى آخر الآية (¬78). ¬

(¬76) فى المستدرك: ك: التفسير، ب: تفسير سورة الأحزاب: (2/ 416) وأقره الذهبى على تصحيحه فى التلخيص. (¬77) هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد فى مسنده، بإسناد حسن: ط: مؤسسة الرسالة ضمن الموسوعة الحديثية، تحقيق شعيب الأرناءوط وآخرين، ط: أولى 1414 هـ 1994 م: (4/ 231) حديث/ 2407 والحاكم فى المستدرك وصححه: (2/ 482) واللفظ للحاكم. (¬78) جامع البيان عن تأويل آى القرآن للطبرى: (10/ 185).

أثر الجهل بسبب النزول

أثر الجهل بسبب النزول سبق فى بحث مسألة العبرة فى سبب النزول هل هى بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟ بيان اتفاق الجميع على شمول الحكم فى اللفظ العام لسبب النزول وغيره، وأن القائلين بقصر العام على سببه لا يقولون بقصر الحكم على ذلك السبب وانتفاء شموله لما عداه، لأن اللفظ العام الوارد فى الآية وإن ارتبط عند هؤلاء بمعين، وهو السبب الذى نزل عليه، إلا أن الحكم لا يرتبط عندهم بعمل ذلك المعين بذاته بل بنوعه، كل ما فى الأمر: هو التفريق فيما يتعلق باستفادة الحكم للسبب المعين وغيره. فالقائلون بعموم اللفظ: يرون أن استفادة الحكم فى الجميع بطريق النص، والقائلون بخصوص السبب: يرون أن استفادة الحكم فى السبب بطريق النص، وفى غيره بطريق القياس. ويتفرع عن ذلك: أنه إذا كان المعتبر فى تطبيق الحكم نوع العمل فى أفراده، لا صورة السبب بذاتها- وذلك لما بين صورة السبب وغيرها من التشابه- فإن الجهل بسبب النزول لا يتأتى أن يترتب عليه تعطيل العمل بالحكم الوارد فى الآية، فليس معنى عدم الوقوف على أن هذه الآية قد نزلت فى هذا الشخص بذاته، أو هذه الحادثة بعينها ألا يطبق الحكم الذى تضمنته على من وجدت فيه علة تطبيق هذا الحكم، وذلك يشبه أن يكون مسلّمة فى مجال الاستدلال الشرعى. لكن البعض ذهب إلى أن عدم معرفة سبب نزول الآية يترتب على الجهل بمن نزلت فيه أولا، وبما أن صورة السبب هى الأصل الذى يقاس عليه، فإن العمل يتعذر فيمن نزلت فيه من جهة لعدم معرفته، ويتعذر فى غيره لتعذر إمكان القياس على المجهول من جهة أخرى، وبذلك يؤدى الجهل بسبب النزول على التحديد إلى تعطيل العمل بما تضمنته الآيات من أحكام. وممن ذهب إلى ذلك: الشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى رحمه الله تعالى، فنراه يقول فى معرض حديثه عن رأى من يقول بخصوص السبب لا بعموم اللفظ: «فآيات الظهار فى مفتتح سورة المجادلة سببها أن

أوس بن الصامت ظاهر من زوجته خولة بنت حكيم بن ثعلبة، والحكم الذى تضمنته هذه الآيات خاص بهما وحدهما- على هذا الرأى- أما غيرهما فيعلم بدليل آخر: قياسا أو سواه، وبدهى أنه لا يمكن معرفة المقصود بالحكم، ولا القياس عليه إلا إذا علم السبب، وبدون معرفة السبب تصير الآية معطلة خالية عن الفائدة» (¬79). والحق أن الشيخ رحمه الله تعالى قد أسرف فى هذا الحكم، كما أن المثال الذى ساقه لا يساعده فى تقرير ما ذهب إليه، لأنه كما سبق مرارا: الحكم فى الآية منوط بأمر معين، إذا وقع هذا الأمر طبق الحكم، وذلك فى الجميع (صورة السبب وغيرها) إلا أنه فى صورة السبب بالنص، وفى غيرها بالقياس، وما دام الأمر كذلك فمن التجاوز القول بإهمال العمل بحكم الآية، لأن ما يجرى الحكم فيه نصا لم يتميز عما يجرى الحكم فيه قياسا، ما دام الاتفاق على ثبوت الحكم فى الجميع بدليل شرعى هو: النص أو القياس. وبعبارة أخرى: فبالنسبة للمثال الذى ساقه الشيخ (¬80): هل من المقبول: القول بإهمال العمل بما تضمنته الآية من حكم الظهار، وما جاء فيها من وصفه بأنه منكر من القول وزور، وما ينبغى على المظاهر من الكفارة المبينة قبل أن يمس امرأته .. إلى آخر ما فى الآية. أقول: هل من المقبول إهمال العمل بهذا الحكم رأسا إذا لم نعرف أن من نزلت فيه هذه الآية اسمه أوس بن الصامت، وأن زوجته اسمها خولة بنت ثعلبة، مع أن الحكم فى الآية ليس منوطا بمعرفة من نزلت فيه، بل بمن يظاهر من زوجته بالصيغة المعروفة. وهل من المعقول كذلك: أن نهمل مثلا العمل بحكم اللعان الوارد فى قول الله سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ النور/ 6 - 9، ما لم نعرف أن من نزلت فيه الآيات اسمه هلال بن أمية، أو عويمر العجلانى، أو هما معا كما سبق .. اللهم لا. لكن .. لعله يكون لما قاله الشيخ الزرقانى، ومن قال برأيه وجه فيما قدمناه عند الكلام عن فوائد معرفة أسباب النزول من أنه: قد يتوقف فهم الآية ذاتها على معرفة سبب ¬

(¬79) مناهل العرفان فى علوم القرآن: ط دار الفكر- بيروت 1408 هـ- 1988 م: (1/ 112، 113). (¬80) أعنى آية الظهار وهى: قول الله: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ الآيات: سورة المجادلة:

نزولها، أو يشكل أمرها ما لم يعرف هذا السبب، كما ذكرنا من قبل على سبيل المثال، فى قول الله سبحانه: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ البقرة/ 189. وكذلك فى قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ البقرة/ 158. فالصحيح إذن: أن الجهل بسبب نزول الآية- أى آية- لا ينبغى أن يؤدى إلى تعطيل العمل بمقتضى هذه الآية، وما تضمنته من أحكام عند القائلين بخصوص السبب لا بعموم اللفظ .. فضلا عن غيرهم.

الفور أو التراخى فى سبب النزول

الفور أو التراخى فى سبب النزول قد عرفنا- فى أول هذا البحث- مما قاله العلماء فى تعريف سبب النزول أنه: (ما نزلت الآية أو الآيات فى شأنه أيام وقوعه .. ) إلى آخر التعريف، وبينا أنه لكى تعتبر الحادثة سببا للنزول لا بدّ من مزامنتها لعصر نزول القرآن، أو بعبارة أخرى: وقوعها فى عهد النبى صلّى الله عليه وسلم وقد اكتفى فى التعريف بهذا القيد. أما السؤال المطروح هنا فهو: هل ينبغى أن تقوم هذه المعاصرة على تقارب زمنى واضح بين السبب ونزول الآيات فيه؟ أو بتعبير آخر: هل يشترط نزول الآيات فور حدوث سببها؟ أو يجوز أن يتراخى النزول عن الحدوث زمنا، وهل يتحتم تقدم السبب على النزول؟ أو يجوز تقدم النزول على حدوث السبب، وهل هناك فى أسباب النزول المروية ما يدل لهذه الصور عند وجودها؟ إن الجواب على هذه الأسئلة يتطلب نوعا من التتبع لأسباب النزول، وهذا التتبع يسفر عن عدم التلازم بين وقوع الحادث وفورية النزول، بل قد تنزل الآية أو الآيات فور حدوث السبب، وقد يتأخر النزول زمنا، وكل ذلك يعرف بالقرينة أو بالنص وقد لا يصرح بالفورية أو بالتراخى، ولا تقوم على أى منهما قرينة. وعليه: فإنه يمكن تقسيم أسباب النزول باعتبار الفورية أو التراخى إلى أقسام: الأول: ما صرح فيه بنزول الآيات فور حدوث السبب، ومثاله: ما ورد فى سبب نزول قول الله تبارك وتعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ

فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ المجادلة/ 1 - 4. فقد أخرج ابن ماجة (¬81) عن عروة بن الزبير: قال: «قالت لى عائشة رضى الله تعالى عنها: تبارك الذى وسع سمعه كل شىء، إنى لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علىّ بعضه، وهى تشتكى زوجها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهى تقول: يا رسول الله أكل شبابى، ونثرت له بطنى، حتى إذا كبرت سنى، وانقطع ولدى ظاهر منى، اللهم إنى أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبرائيل بهذه الآيات: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ». ومن أمثلة هذا القسم أيضا: ما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا الإسراء/ 85. فقد أخرج البخارى (¬82) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «بينا أنا مع النبى صلّى الله عليه وسلم فى حرث وهو متكئ على عسيب، إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح: فقال: ما رابكم إليه- وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه- فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك النبى صلّى الله عليه وسلم فلم يردّ عليهم شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامى، فلما نزل الوحى قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا». فقد ورد فى سياق هذا الحديث، وحديث عائشة رضى الله تعالى عنها الذى قبله: ما يدل على نزول الآيات فى نفس الموقف أثناء حدوث أسباب النزول ودواعيها. الثانى: ما صرح فيه بتراخى نزول الآيات عن حدوث سببها، بل وأكثر من ذلك حددت مدة هذا التراخى وذلك كما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ سورة النور/ 11 - 20. فقد أخرج البخارى (¬83) عن عائشة زوج النبى صلّى الله عليه وسلم ورضى الله عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم معه». والحديث طويل مفصل، ذكرت فيه أم المؤمنين رضى الله عنها قصة خروجها مع النبى صلّى الله عليه وسلم فى غزوة بنى المصطلق، وقصت ما ¬

(¬81) فى سننه: ك: الطلاق، ب: الظهار، حديث/ 2063. (¬82) سبق تخريج هذا الحديث عند الكلام فى (تعدد أسباب النزول والمنزل واحد) فليراجع. (¬83) فى صحيحه: ك: التفسير، باب: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا حديث/ 4750.

ذكره المنافقون فى شأنها، وما رموها به من حديث الإفك وإشاعة ذلك بين الناس، وأنها لما عرفت الأمر بعد فترة بكت بكاء شديدا، حتى ظن أبواها أن البكاء يفلق كبدها ... إلى أن قالت: «فبينا نحن على ذلك، دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندى منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه فى شأنى» وذكرت ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما أجابت به، حتى قالت: «ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى النوم رؤيا يبرؤنى الله بها، قالت: فو الله ما رام رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من البيت حتى أنزل عليه ... » إلى أن قالت: «وأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ العشر الآيات كلها». فقول أم المؤمنين رضى الله عنها: (وقد لبث شهرا لا يوحى إليه فى شأنى) صريح فى تراخى نزول الآيات عن حدوث السبب، قال ابن حجر رحمه الله تعالى: «حكى السهيلى أن بعض المفسرين ذكر أن المدة كانت سبعة وثلاثين يوما، فألغى الكسر فى هذه الرواية. وعن ابن حزم: أن المدة كانت خمسين يوما أو يزيد، ويجمع بأنها المدة التى كانت بين قدومهم المدينة ونزول القرآن فى قصة الإفك، وأما التقييد بالشهر: فهو المدة التى أولها إتيان عائشة إلى بيت أبويها حين بلغها الخبر» (¬84). ولعل تأخر النزول فى هذه الحادثة- والله أعلم- كان نوعا من الابتلاء لمجتمع المؤمنين، ليمحّص إيمان المؤمنين، ويظهر نفاق الذين فى قلوبهم مرض، وليتم إعداد المؤمنين لتلقى الدرس الذى نزلت به الآيات فى شأن الأعراض وحرمتها، والتشنيع على من ينتهك تلك الحرمة وبيان قبح فعله، وعظيم عقوبته، وذلك يتمثل فى قول الله تعالى ضمن الآيات النازلة: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. كما أن فيه تكريما لأم المؤمنين رضى الله عنها، بنزول براءتها فى القرآن الكريم، مع زيادة أجرها ومثوبتها لما عانته من الأذى فى هذه الفترة العصيبة. أما نزول آيات الظهار فور وقوع الحدث: فلعل من حكمته- والله تعالى أعلم- تلبية دواعى التشريع فى هذا الأمر الطارئ، الذى بدت فيه حاجة المرأة الماسة، وظروفها المتمثلة فى: كبر سنها، وضعف ذريتها، وقد تبدى ذلك كله فى مراجعتها لرسول الله صلّى الله عليه وسلم كما تذكر بعض الروايات، وكما جاء فى نص الآية الكريمة: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما الآيات. ¬

(¬84) فتح البارى: (8/ 475).

الثالث: ما لم يصرح فيه بنزول الآيات فور حدوث السبب أو بتراخى هذا النزول، فهو يحتمل الأمرين معا. ومثال ذلك: ما ورد فى شأن نزول قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً الفتح/ 24. فقد أخرج مسلم (¬85) عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين، يريدون غرّة النبى صلّى الله عليه وسلم، فأخذهم سلما فاستحياهم، فأنزل الله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً». فليس فى لفظ الحديث ما يدل على فورية النزول أو تراخيه، ولكنه على كل حال تم بعد وقوع السبب، هذا هو الشأن فيما نزل من آيات القرآن الكريم على سبب: أن يتقدم السبب على ما ينزل فيه من الآيات. ولكن الزركشى رحمه الله تعالى ذكر أنه: قد يتقدم نزول الآيات على ما نزلت فى شأنه، وذكر أمثلة لذلك فقال: «واعلم أنه قد يكون النزول سابقا على الحكم» وهذا كقوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى الأعلى/ 14. فإنه يستدل بها على زكاة الفطر، روى البيهقى بسنده: أنها فى زكاة رمضان، ثم أسند مرفوعا نحوه، وقال بعضهم: لا أدرى ما وجه هذا التأويل؟ لأن السورة مكية، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة. (وأجاب البغوى فى تفسيره: بأنه يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم كما قال لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ سورة البلد/ 1، 2. فالسورة مكية وظهر أثر الحل يوم فتح مكة حتى قال عليه السّلام: «أحلت لى ساعة من نهار» (¬86). وكذلك نزل بمكة: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ القمر/ 45. قال عمر بن الخطاب: «كنت لا أدرى أى الجمع يهزم، فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر» أ. هـ. كلام الزركشى رحمه الله تعالى (¬87). وما ساقه الزركشى هنا- فيما عدا الآية الأولى التى قالوا إنها فى شأن زكاة الفطر- يمكن حمله على أنه من باب الإخبار بالمغيبات التى وقعت كما أخبر القرآن عنها تماما، وذلك من أوجه إعجاز القرآن الكريم. ¬

(¬85) فى صحيحه: ك: الجهاد، باب قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ حديث 1808. (¬86) المعنى الذى ذكره البغوى فى تفسيره لقول الله تعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ذكره ابن كثير كذلك فى تفسيره فقال: (وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ يعنى: مكة وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ قال أنت يا محمد: يحل لك أن تقاتل به) تفسير القرآن العظيم (4/ 511) والحديث الذى نقله الزركشى: صحيح أخرجه البخارى فى صحيحه: ك: العلم، ب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، حديث/ 104 ومسلم فى صحيحه: ك: الحج، باب تحريم القتال فى مكة، حديث/ 1353 واللفظ له عن ابن عباس رضى الله عنهما: عن النبى صلى الله عليه (¬87) البرهان فى علوم القرآن: (1/ 57، 58).

من نزل فيهم القرآن

من نزل فيهم القرآن المتتبع لأسباب النزول فى القرآن الكريم، يجد أنها تتنوع من جهة من نزلت فيهم آيات من القرآن، ويمكن تقسيم أسباب النزول بهذا الاعتبار إلى قسمين: الأول: ما يتعلق بالمؤمنين. الثانى: ما يتعلق بالكافرين: (من المشركين، والمنافقين، واليهود، والنصارى). ولما كان المجال ليس مجال تفصيل لقصص النزول وأسبابه فى جميع من أنزل الله تعالى فيهم قرآنا، فإنا سوف نكتفى بذكر مثالين ممن ذكرنا تفصيلا، ثم نشير إجمالا إلى أكثر من أنزل الله فيهم قرآنا من هؤلاء، ذاكرين أسماءهم، وأرقام الآيات التى قال المفسرون إن الله تعالى أنزلها فيهم، وأسماء سورها، وفيما يلى بيان ذلك كله: أولا: أمثلة ممن أنزل الله تعالى فيهم قرآنا من المؤمنين: 1 - أبو بكر الصديق: رضي الله عنه. وهو عبد الله بن أبى قحافة، أول السابقين إلى الإسلام من الرجال، خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصاحبه فى الغار ورفيقه فى الهجرة (ت 13 هـ). مما أنزل الله تعالى من القرآن فى شأن أبى بكر رضي الله عنه: قول الله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ النور/ 22. أما قصة نزول هذه الآية: فإن المنافقين لما رموا الصديقة عائشة بنت أبى بكر رضى الله عنها بما رموها به من حديث الإفك، كان ممن وقع من المسلمين فى هذا الأمر، وتكلم فيه: قريب لأبى بكر يسمى (مسطح بن أثاثة ابن عبّاد) وأمه بنت خالة أبى بكر الصديق (¬88)، وكان أبو بكر ينفق عليه لفقره، فلما أنزل الله تعالى براءة عائشة، أخذ أبا بكر رضي الله عنه من الألم النفسى والغضب البشرى ما حمله على أن يحلف على قطع النفقة عن مسطح. فقد أخرج البخارى رحمه الله تعالى (¬89) فى سياق حديث قصة الإفك، عن عائشة رضى الله تعالى عنها قولها: « ... فلما أنزل ¬

(¬88) الإصابة فى تمييز الصحابة: لابن حجر العسقلانى، ط: دار صادر، ط أولى، 1328 هـ: (3/ 408). (¬89) فى صحيحه: ك: التفسير، ب: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا حديث/ 4750.

ثانيا: أمثلة ممن أنزل الله تعالى فى شأنهم قرآنا من الكافرين:

الله فى براءتى، قال أبو بكر رضي الله عنه- وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره-: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذى قال لعائشة ما قال. فأنزل الله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال أبو بكر: بلى والله إنى أحب أن يغفر الله لى، فرجع إلى النفقة التى كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا». 2 - قيس بن صرمة الأنصارى: رضي الله عنه أحد صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم نزل فى شأنه قول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ البقرة/ 187. فقد أخرج الترمذى (¬90) عن البراء رضي الله عنه، قال: «كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسى، وإن قيس بن صرمة الأنصارى كان صائما، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا، ولكن انطلق اطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عينه وجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشى عليه فذكر ذلك للنبى صلّى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ففرحوا بها فرحا شديدا وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ». ثانيا: أمثلة ممن أنزل الله تعالى فى شأنهم قرآنا من الكافرين: (أ) المشركون: 1 - أبو جهل: أبو الحكم عمرو بن هشام. كان من أشد الناس عداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وللمسلمين، واستمر على ذلك حتى قتل فى غزوة بدر الكبرى سنة 2 هـ وقذف فى قليبها مع بقية القتلى من المشركين. مما نزل فى شأنه من القرآن قول الله تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الأنفال/ 19. ¬

(¬90) فى سننه: ك: التفسير، ب: ومن سورة البقرة، حديث/ 2968 وقال: هذا حديث حسن صحيح.

فقد أخرج الحاكم (¬91) وصححه عن أبى صعير العذرى، قال: «كان المستفتح أبا جهل، فإنه قال حين التقى القوم: اللهم أينا كان أقطع للرحم، وأتانا بما لا نعرف فأحنه- أى أهلكه- الغداة. فكان ذلك استفتاحه فأنزل الله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ إلى قوله: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ». 2 - العاص بن وائل السهمى: من عتاة قريش ومن الذين آذوا المسلمين إيذاء شديدا. مما نزل فى شأنه من القرآن قول الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ سورة يس/ 77 - 83. فقد أخرج الحاكم (¬92) وصححه عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: «جاء العاص ابن وائل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعظم حائل- أى متغير بالبلى- ففتّه، فقال: يا محمد، أيبعث الله هذا بعد ما أرمّ؟ قال: «نعم يبعث الله هذا، يميتك ثم يحييك، ثم يدخلك النار». قال: فنزلت الآيات: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ إلى آخر السورة». (ب) المنافقون: 1 - عبد الله بن أبى بن سلول: رأس المنافقين فى المدينة. مما نزل فى شأنه أكثر آيات- سورة المنافقون- فقد أخرج البخارى (¬93) عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: «كنت مع عمى (¬94) فسمعت عبد الله بن أبى بن سلول يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقال أيضا: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فذكرت ذلك لعمى، فذكر عمى لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبى وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكذبنى، فأصابنى هم لم يصبنى مثله، فجلست فى بيتى فأنزل الله عز وجل: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ إلى قوله: ¬

(¬91) فى مستدركه: ك: التفسير، ب: شأن نزول إِنْ تَسْتَفْتِحُوا الآية: (2/ 328). (¬92) فى مستدركة: ك: التفسير، ب: تفسير سورة يونس: (2/ 429). (¬93) فى صحيحه: ك: التفسير، ب: اتخذوا أيمانهم جنة يجتنون بها، حديث/ 4901. (¬94) كان ذلك فى غزوة بنى المصطلق التي وقعت فى شعبان: سنة 6 للهجرة.

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا إلى قوله لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فأرسل إلىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقرأها علىّ، ثم قال: «إن الله قد صدّقك». 2 - ما نزل من القرآن فى شأن المنافقين الذين كانوا يسخرون من صدقة الفقراء من المسلمين: فقد أخرج البخارى (¬95) رحمه الله تعالى عن أبى مسعود، قال: «لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغنى عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء فنزلت: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ سورة التوبة/ 79. (ج) اليهود والنصارى: 1 - النبّاش بن قيس: نزل فى شأنه من القرآن قول الله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ الآية- المائدة/ 64. فقد ذكر الحافظ أبو بكر الهيثمى (¬96) رحمه الله تعالى: ما رواه الطبرانى بسند رجاله ثقات، عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: «قال رجل من اليهود- يقال له: النبّاش ابن قيس-: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله عز وجل: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ». 2 - ما نزل فى اليهود والنصارى: الذين قال كل منهما للآخر: إنه ليس على شىء. فقد أخرج محمد بن جرير الطبرى رحمه الله تعالى (¬97) عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: «لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال رافع ابن حريملة: ما أنتم على شىء، وكفر بعيسى ابن مريم وبالإنجيل: فقال رجل من أهل نجران من النصارى: ما أنتم على شىء وجحد نبوة موسى، وكفر بالتوراة، فأنزل الله عز وجل فى ذلك من قولهما: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ إلى قوله: فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ البقرة/ 113». وكما سبق التنبيه إليه: فإنه إذا كان المجال لم يتسع لذكر أسباب النزول فى كل من أنزل ¬

(¬95) فى صحيحه: ك: التفسير، ب: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ الآية، حديث/ 4668. (¬96) فى مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ك: التفسير، ب: سورة المائدة، حديث/ 10979. (¬97) جامع البيان عن تأويل آى القرآن: (1/ 495).

الله تعالى فيهم قرآنا على وجه التفصيل، فإننا نشير فى إجمال بعد هذه الأمثلة- كما وعدنا- إلى العديد ممن نزل فيهم القرآن- حسب ما ذكره المفسرون فى تفاسيرهم، وأصحاب كتب أسباب النزول فى كتبهم- إضافة إلى من سبق ذكرهم فى ثنايا البحث فى جوانبه المتعددة. فمن هؤلاء: 1 - قتادة بن النعمان: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآيات: 110 - 112 من سورة النساء. 2 - مرثد بن أبى مرثد: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآية: 3 من سورة النور. 3 - الأشعث بن قيس: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآية: 77 من سورة آل عمران. 4 - صهيب بن سنان الرومى: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآية: 207 من سورة البقرة. 5 - عثمان بن مظعون: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآيتين: 87، 88 من سورة المائدة. 6 - عياش بن ربيعة: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآيتين: 53، 54 من سورة الزمر. 7 - عثمان بن طلحة: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآية: 58 من سورة النساء. 8 - معقل بن يسار: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآية: 232 من سورة البقرة. 9 - جابر بن عبد الله: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآية: 76 من سورة النساء. 10 - كعب بن مالك: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآية: 118 من سورة التوبة. 11 - النجاشى (ملك الحبشة): أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآيات: 82 - 84 من سورة المائدة. 12 - عبد الله بن سلام: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآية: 146 من سورة البقرة. 13 - عمار بن ياسر: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآية: 106 من سورة النحل. 14 - سعد بن أبى وقاص: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآيتين: 14، 15 من سورة لقمان. 15 - ثابت بن قيس: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآية: 2 من سورة الحجرات. 16 - عمر بن الخطاب: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآيتين: 14، 15 من سورة الجاثية. 17 - على بن أبى طالب: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآيات: 18 - 20 من سورة السجدة.

18 - أبو لبابة بن عبد المنذر: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآيتين: 27، 28 من سورة الأنفال. 19 - حاطب بن أبى بلتعة: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآية: 1 من سورة الممتحنة. هؤلاء جميعا من المؤمنين من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورضى الله عنهم أجمعين، الذين أبلوا فى سبيل الله أحسن البلاء. وهناك من الكفار من نزلت فيهم كذلك آيات من القرآن: تهديدا ووعيدا لهم، وتنديدا بأفعالهم. من هؤلاء: 1 - الوليد بن المغيرة: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآيات: 11 - 26 من سورة المدثر. 2 - أبو لهب (عبد العزى بن عبد المطلب) وامرأته: أنزل الله تعالى فيه من القرآن سورة المسد. 3 - كعب بن الأشرف: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآيتين: 51، 52 من سورة النساء. 4 - عقبة بن أبى معيط: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآيات: 27 - 29 من سورة الفرقان. 5 - عامر بن الطفيل: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآيات: 10 - 13 من سورة الرعد. 6 - أمية بن خلف: أنزل الله تعالى فيه من القرآن: سورة الهمزة. 7 - النضر بن الحارث: أنزل الله تعالى فيه من القرآن الآيات: 31 - 33 من سورة الأنفال. هذا وهناك كثير غير هؤلاء ذكر المفسرون: أنه قد أنزل الله تعالى فيهم آيات من القرآن، ولكن عند تأمل ما قالوه تبين أن أقوالهم مبنية على تكلف واضح، أو أن هناك احتمالا لنزول هذه الآيات فى من ذكروهم أو فى غيرهم، لذلك ضربنا عنها صفحا، ولم نذكر إلا من كانت سببية النزول فيه واضحة، لا تكلف فيها، ولا لبس فيها ولا احتمال. وبالله التوفيق. أ. د/ محمد السيد جبريل

مراجع للاستزادة: (1) لباب النقول فى أسباب النزول: جلال الدين أبو بكر عبد الرحمن بن محمد السيوطى، تحقيق: أ. د/ حمزة النشرتى وآخرين، دون طبعة أو تاريخ. (2) الدر المنثور فى التفسير بالمأثور: جلال الدين أبو بكر عبد الرحمن بن محمد السيوطى، دار الفكر بيروت: 1414 هـ/ 1993 م. (3) زاد المسير فى علم التفسير: أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزى، المكتب الإسلامى، الطبعة الرابعة: 1407 هـ/ 1987. (4) مباحث فى علوم القرآن: أ. د/ القصبى محمود زلط، دار القلم- الإمارات، الطبعة الثانية: 1407 هـ/ 1987 م. (5) رجال أنزل الله فيهم قرآنا: أ. د/ عبد الرحمن عميرة: دار اللواء- الطبعة الخامسة: 1404 هـ/ 1984 م. وسلم قال: (إن هذا البلد حرام، حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل لأحد قبلى، ولم يحل لى إلا ساعة من نهار .. ) الحديث.

المبادئ العامة والقيم فى القرآن الكريم

المبادئ العامة والقيم فى القرآن الكريم أنزل الله سبحانه القرآن كتاب هداية للعالمين، وهو يعد الكلمة الأخيرة للبشرية من الله، حيث ختم الله الرسالة بنبيه محمد وانقطع وحى السماء ووصفه بأنه: رسول الله وخاتم النبيين بسورة الأحزاب. والقرآن يشتمل على 114 سورة تبدأ بالفاتحة وتنتهى بسورة الناس أصغر سورة مكونة من 3 آيات، وأكبرها من 286 آية وهى سورة البقرة، ويشتمل على 6236 آية طبقا لرواية حفص عن عاصم، واشتملت آياته على مسائل العقيدة من توحيد ونبوات وأخبار اليوم الآخر يوم الحساب، وعلى مسائل التشريع، وعلى مسائل القيم والأخلاق التى تمثل عمود الدين وذروة سنامه، كما صيغت هذه المحاور الثلاثة فى صورة قصص الأنبياء وضرب الأمثال ووصف الإنسان والأكوان والأمر والنهى وغير ذلك. إلا أن المتدبر فى القرآن يجد طائفة غير قليلة من الآيات القرآنية أو بعض الآية يمكن أن تعد مبدأ عاما يمثل مكونا أساسيا من عقلية المسلم، وهذه المبادئ العامة إذا جمعت فى نسق واحد ودرس ما بينها من علاقات بينية؛ لمثّل ذلك منهجا واضحا وأساسا متكاملا لتفكير المسلم سواء فى الجانب الفقهى والتشريع القانونى أو كان فى مجال الفكر والنظرة الكلية للإنسان والكون والحياة، أو كان فى مجال القيم والأخلاق على كافة المستويات، وتتبّع هذه المبادئ يساعد أيضا على بناء النموذج المعرفى الإسلامى بصورة لافتة للنظر. أولا: المبادئ العامة فى القرآن الكريم المبدأ العام: كلمة مبدأ فى العربية مصدر ميمى، والمصدر الميمى يصلح للدلالة على الزمان أو المكان أو الحدث، وهذا يعنى أن كلمة (مبدأ) لغة تعنى زمان البدء أو مكانه أو نفس البدء، وكلمة (عام) تعنى الشمول لجزئيات تندرج تحتها، والمقصود بالمبدإ العام هنا: (حقيقة تهيئ الإنسان للتكليف) فالمبدأ يختلف عن مطلق الحقيقة التى كثيرا ما ينبه عنها القرآن

خصائص المبدأ:

فى مثل قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أو خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ. أو: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ الحج: 5. أو غيرها من الحقائق الإيمانية أو الكونية حيث لا تشتمل على تكليف ولا تهيئ الإنسان لذلك التكليف مباشرة كما سنرى فى ضرب أمثلة المبادئ. والمبدأ يختلف أيضا عن الحكم الشرعى الذى يشتمل مباشرة على التكليف مثل قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً الإسراء: 78. فأقم الصلاة تكليف، وجملة إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً حقيقة إيمانية. والمبدأ يختلف أيضا عن القاعدة الفقهية أو الأصولية من حيث المنشأ، فالقاعدة الفقهية نشأت بعد تفريع الفروع فى الفقه الإسلامى وكأنها قد جردت فروعا كثيرة وأخذت المشترك بينها وصاغته فى صورة قاعدة مثل (لا ضرر ولا ضرار)، (الأمور بمقاصدها)، (الشك لا يرفع اليقين)، (العادة محكمة) ... إلى آخر ما اهتمت به كتب القواعد الفقهية والأشباه والنظائر. وكذلك القواعد الأصولية التى نشأت من تتبع اللغة العربية أو المصادر الشرعية مثل (الاستثناء معيار العموم) أو (الأمر للوجوب ما لم تصرفه قرينة تدل على غير ذلك) أو (النهى يقتضى الفساد) أو (المشترك لا يعم) .. إلخ مما نراه يرد فى علم أصول الفقه. خصائص المبدأ: المبدأ يشتمل على حقيقة، وعلى تكليف مباشر، ولا معنى لوجوده من غير وجود الإنسان، فالإنسان هو موضوعه. المبادئ القرآنية التى نوردها إنما هى على سبيل المثال تنبيها لهذا الجانب العظيم من القرآن الكريم، وهى تحتاج إلى تتبع واستقصاء مستقل، وبحث خاص يقوم بعد استقرائها بإيراد كلام أهل التفسير عنها، ثم يبين عناصر كل مبدأ وما يلزمه من مقدمات وما يترتب عليه من نتائج ثم يقوم ببيان العلاقة البينية بين كل هذه المبادئ لبناء النموذج المعرفى ثم بيان كيفية تشغيلها فى المجالات المختلفة: السياسة، والقانون، والاجتماع البشرى، والتربية، والفكر، والعبادة، والعقيدة، والدعوة ... الخ.

فمن تلك المبادئ: 1 - لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ البقرة 256: فهذه عبارة تبيّن حقيقة، لكنها حقيقة تهيئ الإنسان للتكليف، فتمنعه من فرض العقائد بالقوة، وترشد إلى الدعوة والحوار والتعددية الدينية، وأن الإسلام لا يريد منافقين يؤمنون بألسنتهم وتأبى قلوبهم الإيمان بل فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ الكهف: 29 وادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ النحل: 125 ولَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ الكافرون وإِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ النساء 145 وهذا المبدأ يقرر حقيقة يترتب على تنفيذها عدة تكاليف وإجراءات وفى نفس الوقت يعد شعارا للإسلام وأساسا يمثل النموذج المعرفى الإسلامى الذى يعتبر معيارا لقبول ورفض الأفكار والآراء فى الإسلام. 2 - كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ: ورد فى قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا الإسراء: 70. والحمل فى البر والبحر، ورزق الله للناس من الطيبات حقائق مشاهدة، ولكن التكريم حقيقة تهيئ الإنسان لتكليف وتلزمه بإجراءات ومن هنا حق لها أن توصف بالمبدإ، ومن عناصر هذا المبدأ أن الله فضل بنى آدم على كثير ممن خلق، وأكد ذلك باستعمال المفعول المطلق الذى يعد استعماله هنا تأكيدا للتفضيل، وبيانا أنه تفضيل حقيقى لا يدخله المجاز، كما تقرر فى علوم العربية من أن استعمال المصدر كمفعول مطلق يدل على الحقيقة، وينبه لها، ويمنع دعوى المجاز. تكريم بنى آدم يلزم منه أنه سيد فى هذا الكون، حتى وإن لم يكن سيدا له، فسيد الكون وخالقه هو الله، أما الإنسان فهو المخلوق المكلف الذى أسجد الله له الملائكة؛ تكريما له، وإعلانا لهذا التكريم بين الخلائق، وجعل الامتناع عن السجود إليه علامة بدء الشر وخراب الدنيا، وعدّها معصية إبليسية، طرد إبليس من أجلها، وجعله رجيما. وتكريم بنى آدم يمكن أن يكون أساسا لاعتباره حامل الأمانة كما فى قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا الأحزاب: 72. وهو أساس تكليفه بالعمارة هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها

هود: 61 وأساس للخلافة إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة: 30 ويمكن اعتباره أساسا لحقوق الإنسان، التى هى جزء من حقوق الأكوان عند المسلمين، حيث يرون للجماد والنبات والحيوان حقوقا متسقة مع حقوق الإنسان فى منظومة كلية هى حقوق الأكوان. 3 - أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ. الزمر: 3: وهو مبدأ قررته السنة فى الحديث الذى افتتح البخارى به صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .. الحديث. وهو الذى صاغه الفقهاء بعد تتبع الفروع الفقهية وتجريد المشترك بينها فى صورة قاعدة (الأمور بمقاصدها)، وهى قاعدة واسعة، مما يبين شدة اتصال الفقه الإسلامى بمصادره، ونتبين من هذه القاعدة الفرق بين المبدأ والقاعدة، فالمبدأ منصوص عليه فى النص المقدس القرآن الكريم فهو أصل هذه القضية، أما القاعدة فهى من تتبع الفروع وتجريدها للبحث عن المشترك السارى فيها وهذا المبدأ يلزم منه تكاليف وإجراءات مبثوثة فى أكثر من سبعين بابا من أبواب الفقه الاسلامى. 4 - الْقِصاصِ حَياةٌ. البقرة: 179: فى قوله تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ وهو مبدأ يبنى عليه الفقه الجنائى والضبط المجتمعى، وله تأثير فى علم النفس وعلم نفس التربية، وهو يمثل حقيقة واقعة فى الحياة وأنه يجب القضاء على الشر حيثما كان. 5 - أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. النجم: 38: وهو مبدأ يتعلق بالعقيدة حيث لا يقر الإسلام الخطيئة الموروثة، ولا يقر مبدأ الجاهلية (الجار يؤخذ بجريرة الجار) ويؤكد المسئولية الشخصية فى كل المجالات فى القانون وفى الدين والعبادة، وعلى مستوى الأفراد والجماعات والدول، فهو مبدأ كبير جدا ومهم وله أثره فى كل المجالات. 6 - وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. النجم: 39: مبدأ يمكن أن تقوم عليه قوانين العمل، وهو فى نفس الوقت شعار دينى واجتماعى وسياسى. 7 - عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ. المائدة: 95: وهو مبدأ يؤكد فورية القوانين، وأنها لا تكون بأثر رجعى، وأنه يجب البدء فى

ثانيا: القيم فى القرآن الكريم:

تنفيذها فورا حتى مع عدم المؤاخذة على ما وقع فى الزمن الماضى. 8 - ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ. وهو مبدأ رفع الحرج ويؤكده وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. الحج: 78. ويرتبط مع مبادئ أخرى فى الأخذ بالعرف، والمشقة تجلب التيسير وذلك فى قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ الأعراف: 199. وفى قوله: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً الشّرح: 6. وفى البحث عن المبادئ العامة ينبغى البحث عن العلاقات البينية بين تلك المبادئ، للوصول إلى منظومة يمكن أن تمثل أساس النموذج المعرفى الإسلامى الذى به التقويم. والمبادئ العامة كثيرة (¬1) لا يمكن حصرها فى هذه المقدمة، وإنما أردنا أن ننبه إليها ومن أمثلتها أيضا: 9 - وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ البقرة 191. 10 - وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ البقرة 216. 11 - الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ النساء 34. 12 - مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ النساء 123. 13 - وَالصُّلْحُ خَيْرٌ النساء 128. 14 - لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها البقرة 286. 15 - وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ النحل 126. 16 - إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا الإسراء 34. 17 - وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى طه 47. 18 - وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ الأعراف 157. 19 - وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ الأعراف 157. ثانيا: القيم فى القرآن الكريم: تسرى القيم فى كل آيات القرآن الكريم، بحيث يصدق قوله صلّى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). والقرآن يشتمل على مجموعة كبيرة من القيم نخص بالذكر منها: ¬

_ (¬1) نبه إليها الأستاذ الدكتور محمد السيد بدر- رحمه الله تعالى- أستاذ ورئيس قسم فلسفة القانون وتاريخه بكلية الحقوق جامعة عين شمس فى كتاب له أسماه (المبادئ العامة فى القرآن الكريم) طبع بالقاهرة 1996 م فى 353 صفحة دون دار نشر، وتكلم عن المبادئ القرآنية من ص 292 حتى 353.

أولا: القيم الفردية، منها:

1 - القيم الفردية. 2 - القيم الأسرية. 3 - القيم الاجتماعية. 4 - قيم الدولة. أولا: القيم الفردية، منها: 1 - اجتناب سوء الظن: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ الحجرات: آية 12. ولا يخفى ما يجره سوء الظن من وبال على الفرد. 2 - إخلاص السرائر: قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ البينة: آية 5. وقال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ الأنعام: 162. ويظهر أثر إخلاص السريرة فى حياة الفرد ومدى ما يصلحه ذلك من سلوكه وأخلاقه. 3 - الاستقامة: قال تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ فصلت: 6. وقال عز وجل: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا هود: 112. وهذه القيمة واضحة الأثر فى السلوك الجاد للفرد وتكوين الشخصية البعيدة عن الانحراف. 4 - الاعتدال: قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً الفرقان 67. وقال عز وجل: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ الإسراء: 29. والاعتدال الفردى نابع من وسطية الأمة التى أشار الله إليها بقوله: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً البقرة 143. 5 - التنافس فى الخير: قال تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ آل عمران: 133.

6 - الثبات والصبر:

وقال: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ المطففين: 26. ولا شك أن التنافس فى الخير باعث على تهذيب النفس وتقويمها لما يرى الفرد من مثل عليا يحاول مجاراتها والسير على حذوها. 6 - الثبات والصبر: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ الأنفال: 45. وقال تعالى: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ النحل: 127. وفى صبر الفرد وثباته على مبادئه ما يقوى إرادته ويستلهم عزيمته. 7 - الرقة والتواضع: قال تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً الفرقان: 63. وقال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ آل عمران: 159. ولا يخفى ما تؤدى إليه الغلظة والكبر من فساد النفس وتأبّيها على الإصلاح. 8 - الصدق: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ التوبة: 119 وقال تعالى: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ محمد: 21. والمؤمن لا يكون كذابا أبدا؛ فالصدق أساس كل فضيلة. 9 - طهارة النفس: قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها الشمس 9 - 10. وقال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ الشعراء: 88 - 89. ولا يستقيم سلوك الفرد إلا إذا نبع من قلب سليم طاهر. 10 - العمل الصالح: قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ فاطر: 10. وقال: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) سورة العصر.

11 - العفة والاحتشام وغض البصر:

فالأعمال الصالحات مرقاة للعبد إلى رضوان الله وجنته. 11 - العفّة والاحتشام وغض البصر: قال تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ النور: 30 - 31. وقال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ النور: 33. وهى نعم الوقاية من وساوس الشيطان ومزالقه وكيده وشهواته. 12 - كظم الغيظ: قال تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ آل عمران: 134. وكظم الغيظ يؤدى إلى طهارة النفس وسلامة الصدر. ثانيا: القيم الأسرية: 1 - الإصلاح: قال تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ النساء: 128. وقال تعالى: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً النساء: 129. 2 - بر الوالدين: قال تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً الإسراء: 23. وقال عز وجل: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً العنكبوت: 8. 3 - تربية الأولاد: قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الطور 21. وقال تعالى: رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ الفرقان: 74. 4 - الزوجية: سكن ومودة ورحمة: قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً الروم: 21. 5 - المساواة فى الحقوق والواجبات: قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ البقرة: 228.

6 - المعاشرة بالمعروف:

6 - المعاشرة بالمعروف: قال تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً النساء: 19. ثالثا: القيم الاجتماعية: 1 - الإحسان للغير: قال تعالى: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ القصص: 77. وقال تعالى: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ البقرة: 195. 2 - الأخوة: قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ الحجرات: 10. وقال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً آل عمران: 103. 3 - أداء الأمانة: قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها النساء: 58. وقال: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ المؤمنون: 8. 4 - أداء الشهادة الصادقة: قال تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ البقرة: 283. وقال عز وجل: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ الطلاق: 2. 5 - الاستئذان: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ النور: 27. 6 - إصلاح ذات البين: قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ الأنفال: 1. وقال: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما الحجرات: 9. 7 - الإيثار: قال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الحشر: 9. وقال تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ آل عمران: 92.

8 - التحية:

8 - التحية: قال تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها النساء: 86. وقال تعالى: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. الأنعام: 54. 9 - التراحم: قال تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ البلد: 17. وقال عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ المائدة: 54. وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ الفتح: 29. 10 - التعاون على البر والتقوى: قال تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ المائدة: 2. وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى المجادلة: 9. 11 - التكافل: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ البقرة: 267. وقال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً الإنسان: 8. 12 - التمسك بالحق: قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ الشورى: 39. وقال: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ الشورى: 41. 13 - خفض الصوت: قال تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ لقمان: 19. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ الحجرات: 4.

14 - الدعوة إلى الخير والنهى عن الشر:

14 - الدعوة إلى الخير والنهى عن الشر: قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ آل عمران: 104. وقال: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ لقمان: 17. 15 - الشفاعة الحسنة: قال تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً النساء: 85. 16 - العدل والإنصاف: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً النساء: 135. وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ المائدة: 8. 17 - العفو: قال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ الأعراف: 199. وقال تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ الشورى: 40. وقال تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ النور: 22 18 - الكرم: قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ البقرة: 261. وقال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ البقرة: 265. 19 - مقابلة السيئة بالحسنة: قال تعالى: وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ المؤمنون: 95 - 96

20 - نشر العلم:

وقال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ فصلت: 34 - 35. 20 - نشر العلم: قال تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الحجر: 94. وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ آل عمران: 187. 21 - الوفاء بالعهد: قال تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا الإسراء: 34. وقال تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا البقرة: 177. رابعا: أخلاق الدولة: 1 - إقرار النظام: قال تعالى: قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي طه: 94. وقال: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ النساء: 83. 2 - الإعداد للجهاد: قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ الأنفال: 60. 3 - تجنب الاستبداد والفساد: قال تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً الأعراف 56. وقال: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً القصص 83. 4 - تجنب موالاة العدو: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ الممتحنة 1. وقال تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ المجادلة: 22.

5 - الشورى:

5 - الشورى: قال تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ آل عمران: 159 وقال تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ الشورى: 38. 6 - صون المال العام: قال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ البقرة: 188. وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ النساء: 29. وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ الانفال: 27 - 28. 7 - العدالة: قال تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ المائد: 42. وقال تعالى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً النساء: 58 وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ النحل: 90. 8 - الوفاء بالعهد والشرط: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ المائدة: 1. وقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا النحل: 91. أ. د/ على جمعه محمد

القرآن وما يكتب فيه

القرآن وما يكتب فيه أولا: القرآن: أسماؤه وإطلاقاتها لغة وشرعا قال الجاحظ: «سمى الله كتابه اسما مخالفا لما سمى العرب كلامهم على الجملة والتفصيل. سمى جملته قرآنا، كما سموا ديوانا، وبعضه سورة كقصيدة، وبعضها آية كالبيت، وآخرها فاصلة كقافية (¬1). وقد أفرد البعض أسماء القرآن بالتصنيف، فصنف فيها الحرالّيّ جزءا أنهى فيه أسامى القرآن إلى نيف وتسعين (¬2) اسما. وقال أبو المعالى عزيزى بن عبد الملك المعروف بشيذلة (¬3) فى كتاب البرهان: «واعلم أن الله سمى القرآن بخمسة وخمسين اسما» أهـ. وإذا كانت كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى غالبا كما يقولون، فإنه لا أشرف من القرآن ولا أجدر منه بالحظوة بكل شرف ورفعة، بيد أن أولئك الذين قد بلغوا بأسماء القرآن إلى هذا الكم الهائل نيّفا وتسعين أو خمسة وخمسين وما إلى ذلك قد أسرفوا، وما لزموا الجادة فى التفرقة بين ما حقه أن يعدّ اسما، وما هو من قبيل الأوصاف التى لا ينبغى نظمها فى سلك الأسماء، فلم يفرقوا بين القرآن الاسم، والحكيم الوصف. وإنما الجدير أن يعدّ من أسماء القرآن حقا خمسة أسماء: أولها: وأشهرها على الإطلاق: «القرآن» وفى بيان أصل هذا اللفظ ومأخذه نقول: لم يختلف أحد فى علمية- أى كونه علما- كلمة القرآن على هذا الكتاب الحكيم المجموع بين دفتى المصحف، وإنما الخلاف الواقع بين أهله فى هذه الكلمة فى ثلاثة أمور: أحدها: هل نقل عن معنى كان قبل العلمية أو لا؟ ثانيها: هل هو مشتق أو مأخوذ من شىء أو لا؟ ثالثها: هل يهمز أو لا يهمز؟ وإن همز فهل همزته أصلية ونونه زائدة أو العكس. وهاك تفصيل ذلك كله: 1 - قال قوم منهم اللحيانى (¬4): «هو ¬

(¬1) الإتقان ج 1 ص 178. (¬2) البرهان ج 1 ص 273. (¬3) فى المطبوع «سيدلة» بالسين، تصحيف، وشيذلة، ضبطها ابن خلكان بفتح الشين والذال واللام، وقال: «وهو لقب عليه، معناه: مع كشفى عنه» وعزيزى، ضبطه أيضا بفتح العين، هو ابن عبد الله أحد فقهاء الشافعية، وصاحب كتاب البرهان فى مشكلات القرآن. توفى سنة 494 هـ. انظر ابن خلكان ج 1 ص 318، وشذرات الذهب 3/ 401، وكشف الظنون 241. (¬4) اللحيانى: هو أبو الحسن على بن حازم، اللغوى المشهور المتوفى سنة 215 هـ، وقد أفاد ابن سيدة من كتبه فى تأليف (المخصص).

مصدر لقرأت، كالرجحان والغفران، سمى به الكتاب المقروء من باب تسمية المفعول بالمصدر». أه (¬5). وهذه المقالة من أصحابها تتضمن أمرين: أولهما: أن الكلمة التى جعلت علما لهذا الكتاب هى بعينها الكلمة التى جاءت فى اللغة مصدرا بمعنى القراءة، فتكون علميتها منقولة عن المعنى المصدرى، تسمية للمفعول بالمصدر، كاللفظ بمعنى الملفوظ، والمعنى المصدرى ظل مستعملا ولم يهجر مع استعمال الكلمة فى معنى المفعول أيضا. وثانى الأمرين وهو يترتب على أولهما: أن هذه الكلمة فى علميتها كما هى فى مصدريتها مهموزة همزتها أصلية ونونها زائدة على زنة فعلان، ومن حذف همزتها كقراءة ابن كثير ونطقها هكذا (قران) فهو من باب التخفيف بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها على وزن (فعان). وهذا القول بما يتضمنه من هذين الأمرين هو المختار الذى لا ينبغى التعويل إلا عليه (¬6). فمن ثم وفق الأستاذان الجليلان الزرقانى وغزلان كل التوفيق إذ اختاراه (¬7). وهذا الرأى هو ما عليه جمهور من كتب فى علم الأصول كالسعد التفتازانى والجلال المحلى. 2 - وذهبت طائفة منهم الزجاج إلى أنه: وصف على وزن (فعلان) من القرء بمعنى الجمع. وعلى ذلك يكون للفظة (القرآن) استعملان فى معنى المصدرية وتكون بمعنى القراءة الوصفية وتكون مشتقة من القرء بمعنى الجمع، والثانى هو العلم على خصوص الذكر الكريم. وعليه أيضا تكون الهمزة أصلية فى الكلمة والنون زائدة، ومن حذف الهمزة تخفيفا نقل حركتها للساكن قبلها فصارت على وزن (فعان). والذى أذهب إليه هو ضعف هذا الرأى وإن مال بعضهم إلى اختياره كالآلوسى، وقد ردّ هذا القول أيضا الشيخ غزلان بأن هذه الصيغة غير مألوفة فهى سماعية لا يخرج عليها إلى عند الضرورة، ولا ضرورة هنا (¬8). 3 - ونقل الزركشى عن بعض المتأخرين (¬9) والسيوطى عن قطرب (¬10) أن: مادة القرآن هى (قرأ) بمعنى أظهر وبيّن، وأنكر بعض المتأخرين أن تكون من القرء بمعنى الجمع لقوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، وهذا القول لم يبين أصحابه هل لفظة (القرآن) مصدر أم وصف على وزن فعلان، وإن كان المتعين من حكاية الزركشى ¬

(¬5) الإتقان ج 1 ص 182. (¬6) انظر: المسألة التاسعة من تفسير قوله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (البقرة 185) من تفسير الجامع لأحكام القرآن (ج 2 ص 298). (¬7) انظر: مناهل العرفان للزرقانى (ج 1 ص 140)، والبيان، للشيخ غزلان (ص 19 - 21). (¬8) البيان فى مباحث من علوم القرآن لغزلان (ص 20). (¬9) انظر: البرهان (ج 1 ص 277). (¬10) انظر: الإتقان (ج 1 ص 182).

أنهم يجعلونها مصدرا من الإظهار وليس الجمع. وعلى هذا القول تكون الهمزة من أصل الكلمة كسابقه، ولكن أصحاب هذا القول منعوا أن تكون لفظة (قرآنه) فى قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ من القرء بمعنى الجمع أو مصدرا بمعنى القراءة. والصحيح أن العطف للفظة (قرآنه) على (جمعه) لا يلزم منه التكرار كما قالوا، بل (جمعه) يكون فى قلبه صلّى الله عليه وسلم، و (قرآنه) يكون فى اللسان فيكون بمعنى القراءة، أو القرء بمعنى الجمع لحروفه بعضها البعض، وعليه يكون المعنى: أن يقرأ النبىّ صلّى الله عليه وسلم ما جمعه الله له فى صدره. وهذا المعنى هو الظاهر الراجح. ولقد اتفقت الأقوال الثلاثة السابقة فى أمرين هما: علمية لفظة (القرآن) على الذكر الحكيم، وكون الهمزة من أصل كلمة (القرآن). 4 - نقل الزركشى عن تاريخ الخطيب قول الشافعى: أنه قرأ القرآن على إسماعيل ابن قسطنطين ولم يكن يهمز (القرآن) وأنه كان يجعله اسما ليس مأخوذا من القراءة، ونقل عن الواحدي أيضا نسبة عدم الهمز لقراءة ابن كثير والشافعى وإن همز الأخير (قرأت)، فهى علم مشتق كما قاله جماعة من الأئمة (¬11). 5 - ونقل الزركشى أيضا عن البيهقى أنه: نقل عن جماعة أن (القرآن) مشتق من قرنت الشيء بالشىء إذا ضممته، لضمه السور والآيات بعضها لبعض. ونقل عنه نسبة هذا المعنى للأشعرى (¬12). 6 - ونقل السيوطى عن القراء أنه: مشتق من القرائن (¬13)، لأن الآيات يصدق بعضها بعضا. والأقوال الثلاثة الأخيرة تتفق فى أمرين هما: أن لفظة (قران) لم تستعمل قبل التنزيل بل هى علم مرتجل وليس منقولا، وأنها غير مهموزة ونونها أصلية فهى على وزن (فعال)، ومن همز تكون على وزن (فعئال) بزيادة الهمزة. هذا كله فى لفظة (قرآن) فى غير آية القيامة. ويختلف القول الثالث منها عن الآخرين فى جعله لفظة (قران) علما غير مشتق، وهما يجعلانه مشتقا. وهذه الأقوال الثلاثة ضعيفة؛ لمخالفتها ما أطبق عليه القراء- ما عدا ابن كثير- من إثبات الهمزة، وادعاء زيادتها لأصحاب الأقوال الثلاثة بغير برهان؛ لأن الأصل عدم الزيادة، وهذا ما جعل الزجاج ينسب هذا ¬

(¬11) انظر: البرهان (ج 1 ص 277) وما بعدها. (¬12) انظر: البرهان (ج 1 ص 278). (¬13) وعبارة الزركشى عن هذا القول: «وقال القرطبى: القرآن- بغير همز- مأخوذ من القرائن». وهى أدق مما نقل عن الفراء؛ لأن الاشتقاق إما أن يكون من المصدر، وهو المختار الذى عليه مذهب البصريين، وإما أن يكون من الفعل الماضى على ما هو مذهب الكوفيين، والقرائن الذى هو جمع قرينة ليس بمصدر ولا بفعل حتى يشتق منه، فالقول من مثله غلط محض، أما الأخذ الذى عبر به القرطبى فيما نقل عنه الزركشى فهو أوسع دائرة من الاشتقاق فيصحّ.

القول للسهو، وهو ما أشار إليه الفارسى فى الحلبيات. (¬14) ومما يجب الالتفات إليه أن أصحاب الأقوال السابقة جميعها لا ينكرون مجىء لفظة (قرآن) مصدرا فى اللغة، ولكنهم عند ما يختلفون يتكلمون عن كلمة أخرى؛ لأنهم صرحوا بنسبة (القرآن) للاستعمال فى المصدرية، صرح بذلك الفراء والقرطبى، ويصعب أن يغيب مثل هذا الثابت فى اللغة عن أمثال الشافعى والفراء. وأما ثانى أسمائه: فهو: «الفرقان» وقد سماه الله به فى قوله تعالى من سورة آل عمران: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ (¬15) وقوله جل قائلا: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (¬16). وفى تفسير هذا الاسم يقول الزركشى فى البرهان: «وأما تسميته «فرقانا»؛ فلأنه فرق بين الحق والباطل، والمسلم والكافر، والمؤمن والمنافق، وبه سمى عمر بن الخطاب الفاروق». (¬17) وذهب لمثل هذا المعنى الآلوسي وإن زاد أنه قد يكون سمّى بذلك لفصل بعضه عن بعضه الآخر، أو لكونه نزل مفصلا وليس دفعة واحدة كغيره من الكتب، وزاد أيضا أنه مصدر بمعنى الفاعل أو المفعول. (¬18) ومما سبق نقله تكون كلمة (الفرقان) تطلق ويراد منها الفاعل أى الفارق؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، وتطلق ويراد منها المفعول أى المفروق بين سوره أو بين نجومه فى نزوله، أو المفروق فيه بين الحق والباطل. وقد رد العلامة الآلوسي جميع أسماء القرآن وأوصافه لهذين الاسمين (القرآن والفرقان)؛ ولذا اقتصر عليهما. (¬19) وأما ثالث هذه الأسماء الخمسة: فهو «الكتاب». قال الآلوسي رحمه الله فى تفسيره من قوله تعالى سورة البقرة: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ (والكتاب كالكتب مصدر كتب ويطلق على المكتوب كاللباس بمعنى الملبوس (19)، والكتب كما قال الراغب: ضم أديم إلى أديم بالخياطة. وفى المتعارف: ضم الحروف بعضها إلى بعض. والأصل فى الكتابة النظم بالخط، وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ، ولذا يستعار كل واحد للآخر، ولذا سمّى (كتاب الله) وإن لم يكن كتابا، والكتاب هنا إما باق على المصدرية وسمى به المفعول للمبالغة أو هو بمعنى المفعول، وإطلاقه على المنظوم عبارة قبل أن تنتظم حروفه التى يتألف منها ¬

(¬14) انظر: البرهان (ج 1 ص 278). (¬15) سورة آل عمران (3، 4). (¬16) سورة الفرقان آية (1). (¬17) انظر: البرهان (ج 1 ص 280). (¬18) روح المعانى، للآلوسى (ج 18 ص 231). (¬19) روح المعانى، للآلوسى (ج 1 ص 8).

فى الخط تسمية بما يؤول إليه مع المناسبة. ويطلق الكتاب كالقرآن على المجموع المنزل على النبى المرسل صلّى الله عليه وسلم وعلى القدر الشائع بين الكل والجزء) (¬20) أهـ. وبعد هذا التحرير لأمر هذه الأسماء الثلاثة، لم يبق غير ردّ دعاوى بعض أتباع المستشرقين من أمثال بلاشير وكرنكو عند ما يذهبون إلى عدم أصالة هذه الألفاظ الثلاثة فى اللغة العربية، وأنها ترتد لأصل آرامى. (¬21) وهذا باطل أيضا من جهة أخرى: أن استعمال العرب هذه الألفاظ قبل التنزيل كان كافيا لتعريبها. وأما رابع هذه الأسماء فهو «التنزيل» قال فى تفسيره الزركشىّ رحمه الله: «وأما تسميته (تنزيلا)؛ فلأنه مصدر نزلته لأنه نزل من عند الله على لسان جبريل؛ لأن الله تعالى أسمع جبريل كلامه وفهمه إياه كما شاء من غير وصف ولا كيفية، فنزل به على نبيه، فأداه هو كما فهمه وعلمه» أهـ (¬22). وقد جاء ذكر هذا اللفظ- أعنى لفظ التنزيل- فى نحو قوله تعالى من سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ وقوله فى سورة الحاقة تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. وأما خامس هذه الأسماء فهو: «الذكر» كما فى قوله تعالى فيما قال جوابا على المتهكمين على القرآن ونبيه صلّى الله عليه وسلم: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ الآية. وقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. (¬23) وقوله علا وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ الآية. وقوله سبحانه: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ. وقوله جل من قائل: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ (¬24). وقوله تعالى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ. (¬25) والذكر مصدر ذكر يذكر، فإطلاقه على التنزيل المجيد إما لكونه ذاكرا للناس ما يصلح أمر معاشهم ومعادهم مذكّرا بما فيه من البشارة والنذارة، فيكون من إطلاق المصدر على الفاعل، وإما لكونه مذكورا بفضله وشرفه، وبالقلب وعيا وإجلالا، وباللسان تلاوة وعلما، مذكورا فيه ما لا يستقيم أمر الخلق إلا به، فيكون من إطلاق المصدر على المفعول. ويجوز أن يكون من الذكر بمعنى الشرف لكونه شريفا فى نفسه مشرفا لمن انتسب إليه وتخلق به. قال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ وقال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ ¬

(¬20) روح المعانى، للآلوسى (ج 1 ص 106). (¬21) انظر: مباحث فى علوم القرآن (ص 17 - 19). (¬22) انظر: البرهان (ج 1 ص 281). (¬23) سورة الحجر آية (9). (¬24) سورة الزخرف آية (44). (¬25) سورة الأنبياء آية (50).

لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ. فيكون من الإطلاق الأول- أعنى إطلاق المصدر على الفاعل-. وعبارة الزركشى رحمه الله فى تفسير هذا الاسم: «وأما تسميته ذكرا» فلما فيه من المواعظ والتحذير وأخبار الأمم الماضية، وهو مصدر ذكرت ذكرا. والذكر: الشرف. قال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أى: شرفكم أه. (¬26) وبعد فهذه هى الأسماء الخمسة لهذا الكتاب العظيم أغفل الطبرى رحمه الله منها رابعها وهو التنزيل، بيد أن هذا الاسم قد صار من أشهر أسمائه فى عرف جميع المنتسبين إليه من العلماء فمن دونهم. قال الشيخ طاهر الجزائرى فى كتابه (التبيان): «وقد كثر تداول العلماء لهذا الاسم: فتراهم يقولون: ورد فى التنزيل كذا، ولم يرد فى التنزيل كذا إلى غير ذلك، وهو يعنون بالتنزيل القرآن» أه. (¬27) قال شيخنا غزلان: «وهذه الأسماء الخمسة هى التى شاع على ألسنة العلماء استعمالها أسماء للنظم الكريم، وكلها أعلام بالغلبة، ولا ريب أن القرآن أشهرها وأكثرها جريانا على الألسنة» أه. (¬28) الحقيقة الشرعية لهذه الأسماء وإطلاقاتها (علم الشخص- اسم الجنس) (القرآن): تعددت إطلاقات القرآن بالمعنى الشرعى تبعا لتعدد اعتبارات ما يراد منه، فتارة يراد باعتباره لفظا منطوقا، وتارة باعتباره نقشا مرموقا فى المصحف، وثالثة باعتباره الكلام النفسى القائم بذاته الأقدس جل جلاله. وقد اتفق العلماء على صحة إطلاق (القرآن) على اللفظ المنطوق بالألسنة، وعلى النقش المرقوم فى المصحف، سواء كان هذا الإطلاق من خلال جعله علم شخص بأن يكون هذا الإطلاق على المجموع المؤلف من مائة وأربع عشرة سورة بحركاتها وسكناتها، أم كان من خلال اسم الجنس الذى يطلق فيه الاسم (القرآن) على كل القرآن أو بعضه؛ لأنهما يشتركان فى قدر مشترك ولكنهم يختلفون فى إطلاقه على الكلام النفسى القائم بذاته. ¬

(¬26) انظر: البرهان (ج 1 ص 279). (¬27) انظر: البيان (ص 123). (¬28) البيان (ص 22). وقوله رحمه الله: (وكلها أعلام بالغلبة) غلبة العلمية هى أن يكون للاسم عموم بحسب الوضع فيعرض له الخصوص فى استعماله لغلبة إطلاقه على شىء بعينه، ثم إن كان استعمل فى غير ما غلب عليه كالعقبة والنجم فالغلبة تحقيقية، وإن لم يستعمل فى غيره أصلا مع صلوحه لذلك بحسب وضعه فتقديرية. انظر حاشية الخضرى على ابن عقيل (ج 1 ص 87). والأسماء الخمسة استعملت بالفعل فى فرد آخر مندرج تحتها فهى من الغلبة التحقيقية.

الإطلاق الأول القرآن باعتباره ألفاظا منطوقة

وبهذا التمهيد يصلح أن نفصل الكلام فى إطلاق القرآن باعتباراته الثلاثة، فنبدأ بموطن اتفاق العلماء، ثم نثنى بموطن الاختلاف. الإطلاق الأول القرآن باعتباره ألفاظا منطوقة أولا: القرآن بوصفه علم شخص على هذا الاعتبار: إذا أردنا أن نعرف القرآن من حيث هو علم شخص فعلينا أن نعين مدلوله بإيراد أهم خصائصه التى اشتهر بها ولا سيما عند علماء أصول الفقه ومنها: 1 - الإنزال أو التنزيل على النبى صلّى الله عليه وسلم. 2 - الإعجاز بسورة منه. 3 - النقل بالتواتر. 4 - الكتابة فى المصحف. 5 - التعبد بالتلاوة. وذكر بعض هذه الخصائص يكفى لتمييز مدلوله. ولنا أن نعرفه من خلال هذه الخصائص الخمسة بقولنا: القرآن هو «القول أو الكلام المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه المنقول إلينا بالتواتر، المكتوب فى المصحف، المتعبد بتلاوته من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس». وخرج (بالقول أو الكلام) الألفاظ المهملة، وب (المنزل) ما لم ينزل من كلامه المذخور عند الذى لا ينفد كلامه، والأحاديث النبوية. أما خروج الأحاديث القدسية فيتوقف على القول فى: هل نزلت على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم بألفاظها أو لا؟ فبالأول: قال بعض المحققين مثل الأستاذ محمد عبد الله دراز فى «النبأ العظيم». وعليه نحتاج إلى قيد لإخراج هذه الأحاديث القدسية. وبالثانى: قال الجمهور، وعليه لا حاجة لقيد جديد لإخراجها. فالحديث النبوى سواء كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم فهمه من كلام الله وبتأمله حقائق الكون فهو كالتوقيفي، أم كان توقيفا بأن تلقى مضمونه من الوحى فهو من حيث مضمونه منسوب له سبحانه وتعالى، ولكنه فى القسمين حرىّ بأن ينسب من حيث كونه كلاما لفظيا لقائله وهو النبىّ صلّى الله عليه وسلم. فخرج القسمان بالقيد الأول. وكذلك الحال فى الحديث القدسى؛ لأنه على القول الراجح منزل بمعناه فقط؛ لأنه لم يأخذ أحكام حرمة اللفظ كالقرآن من حرمة روايته بالمعنى، ومسّ المحدث لما حواه. والتحدى بالقرآن وعدمه بالحديث القدسى فارق آخر، وكذلك عدم التعبد بتلاوته كلاهما يثبت عدم نزوله بلفظه.

أما نسبة القول فى الحديث القدسى له سبحانه وتعالى فنسبة مألوفة معروفة فى العربية. وإنما لم نسمّ بعض الحديث النبوى بالقدسى لأننا لم نقطع بنزول معناه كما قطعنا فى الحديث القدسى؛ لورود النص بقوله صلّى الله عليه وسلم فى القدسى: «قال الله تعالى». هذا مع تلقينا لكل سننه صلّى الله عليه وسلم بالقبول بقسميها التوفيقى والتوقيفى لقوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (الحشر 7). وجعل التنزيل متعلّقا لقوله فى التعريف (على محمد صلّى الله عليه وسلم) قيد ثان يخرج المنزل على غيره صلّى الله عليه وسلم من ملائكة ورسل وأنبياء آخرين كصحف إبراهيم، وتوراة موسى. وقولنا فى هذا التعريف: (للإعجاز بسورة منه) المقصود به إظهار عجز المرسل إليهم وصدق النبى صلّى الله عليه وسلم، وهذا الإعجاز يكون بأى سورة- ولو الكوثر أقصر سورة أو ما فى قدرها- وهذا المعنى يفيد أن الإعجاز لم يكن بالقرآن كله كما فى آية الإسراء، ولا بعشر سور كما فى آية هود، بل بسورة واحدة. وجاء بها نكرة فى سياق الشرط ليعممها كما فى آية البقرة: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ليدلّ إطلاقها على صدقها بأى سورة ولو أقصرها، ويفيد أيضا أن المراد بالقرآن المعرف هو المجموع الشخصى الذى لا يقال إلّا على كل القرآن دفعة واحدة، ويفيد أيضا منع توهم بعض الجاهلين أن الإعجاز لا يكون إلّا بما هو أكبر من سورة الكوثر مثلا. وعليه فقولنا: (للإعجاز بسورة منه) قيد ثالث اكتفى به بعض المعرفين؛ للاحتراز عن الكلام غير المعجز المنزل من عنده سبحانه وتعالى، وعن المنسوخ، وهذا صنيع ابن الحاجب، ورأى ابن السبكى فى «جمع الجوامع» عدم الاكتفاء به، وجعله مخرجا للأحاديث القدسية. وقولنا: (المنقول إلينا بالتواتر) قيد رابع يخرج المنقول أحاديا، كمنسوخ التلاوة إن نقل آحادا بسند صحيح أو حسن، ويخرج أيضا القراءات الشاذة. وأرى أن قيد التواتر فى التعريف إنما هو لبيان الواقع لا للإخراج؛ لأن القراءات الشاذة ومنسوخ التلاوة خرجا بقيد الإعجاز السابق. وكذلك قولنا: (المكتوب فى المصحف) فإنه لا يخرج شيئا. وإن كان بعض الأئمة كأبى حامد الغزالى فى «المستصفى» ألّف بين القيدين (التواتر والكتابة فى المصحف) واكتفى بهما عن غيرهما. وهو صنيع صدر الشريعة فى تنقيحه وتوضيحه. فعرف هؤلاء

ثانيا: القرآن بوصفه اسم جنس باعتبار اللفظ المنطوق:

(القرآن) بأنه هو: «ما نقل بين دفتى المصحف تواترا». وقولنا: (المتعبد بتلاوته) أيضا لبيان الواقع لا للإخراج. ومن قال: إنه لإخراج القراءات الشاذة أو منسوخ التلاوة كالجلال المحلى، فقول غير صحيح، بل هذه العبارة لا تصلح قيدا ولا يحتاج إليها فى التعريف؛ لأنه من أحكام القرآن، ومن المقرر أن التعريفات تنزه عن ذكر الأحكام فيها، قال الأخضرى: وعندهم من جملة المردود ... أن تدخل الأحكام فى الحدود وذلك لأن اشتمال التعريف على الأحكام يوقع فى الدور؛ لأن الحكم على الشيء فرع تصوره، وبهذا يكون تصور الشيء توقف على نفس تصوره. ولكن هذا لا يمكن لأن عددا من العلماء كالزرقانى والشيخ غزلان والجلال المحلى ذكروا (المتعبد بتلاوته) كقيد، ولكن العلامة الناصر استشكل هذا القيد، ومع ذلك فنحن نسلم للجلال والبنانى بأن الحكم المذكور فى التعريف إن ذكر للتمييز فحسب لا يضرّ. وقولنا: (من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس) لبيان أنه علم شخص يطلق على القرآن كله. ويشبهه فى هذه الدلالة قول ابن السبكى فى آخر تعريفه: (المحتج بأبعاضه). ثانيا: القرآن بوصفه اسم جنس باعتبار اللفظ المنطوق: وفى هذا الحديث نتكلم عن (القرآن) بوصفه اسم جنس على هذا الاعتبار نفسه، فكيف نعرفه؟ وهل إطلاقه بوصفه اسم جنس حقيقة أو مجاز؟ وإن كان حقيقة فهل إطلاقه عليهما (علم الشخص واسم الجنس) من قبيل الاشتراك اللفظى أى بوضع واحد، أو من المشترك المعنوى أى بأوضاع مختلفة؟ ويمكن أن نقول: إن لفظ (القرآن) كبقية أسمائه من المشترك اللفظى بين تمام المجموع «علم الشخص» وبين القدر المشترك بين الكل والبعض «اسم الجنس»، والتعريف الذى يظهر أنه اختيار التفتازانى للقرآن بوصفه اسم جنس هو (الكلام المنقول فى المصحف تواترا) ولعل مما لا يخفى أن كون هذا تعريفا صحيحا للقرآن بهذا الوصف- أعنى وصف كونه اسم جنس- لا يتم إلا لو أريد من (أل) فى قوله: (الكلام). تعريف الجنس لا تعريف العهد، وهذا هو قصده قطعا، فأما حيث يراد منها تعريف العهد، فإن هذا التعريف إنما يكون القرآن بوصفه علم شخص. ويحسن زيادة لفظ (مطلق) قبل هذا التعريف لنفى احتمال التردد بين الجنس والعهد فى (أل). وعند تجرد إطلاق لفظ

الإطلاق الثانى القرآن باعتباره نقشا مرقوما

(القرآن) عن القرينة فيحمل على معنى تمام المجموع الذى هو علم الشخص، ويحمل أيضا عليه عند وجود القرينة المحتمة له كما فى قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. أما إذا وجدت القرينة الصارفة له عن هذا المعنى فيحمل على اسم الجنس كما فى قوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ؛ لأنه من المعلوم أن الاستماع مطلوب لبعض القرآن كما هو مطلوب لمجموعه. ولقد كان للقرينة دورها فى حمل لفظ (القرآن) على أحد المعنيين؛ لأن شأن المشترك كذلك، لأنه من قبيل المجمل المحتاج للقرينة لتبينه. ووقوع لفظ (القرآن) نكرة فى سياق النفى وشبهه كالشرط والاستفهام قرينة صارفة له عن المعنى الشخصى إلى الجنسى بسبب العموم الذى عرض له فى هذا السياق. وكذلك فى سياق الإثبات لتبادر الإطلاق الصالح لأن يقال على كل فرد من أفراد جنسها على سبيل البدل كما فى قوله تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ. ولقد نبه العلامة الفنارى على التلويح أن إطلاق المعنى الجنسى (للقرآن) على أبعاضه حقيقة؛ وذلك لأن إطلاق العام وإرادة الخاص لا بخصوصه لا تخرجه عن حيز الحقيقة، إنما المخرج هو إرادة الخاص بخصوصه، وذلك لبقاء المعنى الكلى فى الإطلاق الأول، وهو الحقيقة فى اسم الجنس وعدم بقائه فى الثانى لإرادة الجزئى الذى ينافى معنى الكلى. الإطلاق الثانى القرآن باعتباره نقشا مرقوما النقوش الموجودة فى المصحف الدالة على ألفاظ القرآن لا على نفسها هى أحد الوجودات الأربعة وهى الوجود فى خطّ البنان، وهذه الألفاظ المنقوشة تعطى حكم نفس الألفاظ عرفا وشرعا. ولعل من السهولة بمكان تعريف (القرآن) باعتباره نقشا مرقوما كعلم شخص أو اسم جنس، فالأول مثل قولنا: (ما بين دفتى المصحف من أول سورة الحمد إلى آخر سورة الناس). والثانى مثل قولنا: (مطلق ما فى المصحف ... ). ولقد اتفقت الأمة على صحة إطلاق (القرآن) بالاعتبارين السابقين.

الفرق بين القرآن وبين كل من الحديثين القدسى والنبوى

الفرق بين القرآن وبين كل من الحديثين القدسى والنبوى وخلاصة الفرق بين (القرآن) باعتبار اللفظ المنطوق والنقش المرقوم وبين الحديثين النبوى والقدسى: (أ) ألفاظ القرآن منزلة، والحديث النبوى غير منزلة، أما الحديث القدسى فالجمهور على أنها منزلة خلافا لبعض المحققين. (ب) القرآن لا تجوز رواية شىء منه بالمعنى، والحديث النبوى تجوز باتفاق، وو الحديث القدسى تجوز على التحقيق. (ج) القرآن منزّل للإعجاز منه بسورة، وكلا الحديثين ليس للإعجاز. (د) القرآن منقول كله بالتواتر، وكلا الحديثين ينقل بالتواتر والآحاد، وأغلب نقلها بالآحاد. (هـ) للقرآن أسماؤه الخمسة المخصوصة، وله اسم مخصوص لمجموعه المكتوب وهو (المصحف)، وكلا الحديثين ليس كذلك. (و) القرآن متعبد بتلاوته، والحديث بقسميه ليس كذلك، بل أقل القليل منه المتعبد بتلاوة لفظه وهو الأذكار إجماعا. (ز) القرآن مختلف فى قراءة الجنب والحائض له والنفساء: الجمهور يمنع، وفريق على جوازها، والحديث تجوز قراءة هؤلاء له باتفاق. (ح) مسّ المصحف للمحدث حدثا أصغر: الجمهور على منعه، وفريق على جوازه، واتفقوا على جواز مس كتب الحديث للمحدث حدثا أصغر. الإطلاق الثالث القرآن باعتباره كلاما نفسيا قائما بذاته (إطلاقه عند المتكلمين) لقد ثار الخلاف حول النظر للقرآن من هذا الاعتبار، وهو اعتبار الكلام النفسى القائم بذاته قديما قدم الذات الأقدس، وذلك فى محاولة جميع العلماء تحديد العلاقة بين القرآن بهذا الاعتبار (الكلام النفسى القائم بذاته)، وبين القرآن بالاعتبارين السابقين (اللفظ المنطوق والنقش المرقوم). وقد كان للعلامة السعد التفتازانى فى شرح مقاصده نص طويل، يوضح هذا الخلاف الواقع فى هذه المسألة، يحسن ذكره بطوله، فقد قال: «وبالجملة لا خلاف لأرباب الملل والمذاهب فى كون البارى تعالى متكلما، وإنما الخلاف فى معنى كلامه وفى قدمه

وحدوثه، فعند أهل الحق: كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف، بل صفة أزلية قائمة بذات الله تعالى، منافية للسكوت والآفة كما فى الخرس والطفولة، هو بها آمر، ناه، مخبر، وغير ذلك يدل عليها بالعبارة أو الكتابة أو الإشارة، فإذا عبر عنها بالعربية فقرآن وبالسريانية فإنجيل، وبالعبرانية فتوراة، فالاختلاف فى العبارات دون المسمى، كما إذا ذكر الله تعالى بألسنة متعددة ولغات مختلفة. وخالفنا فى ذلك جميع الفرق، وزعموا أنه لا معنى للكلام إلا المنتظم من الحروف المسموعة الدال على المعانى المقصودة، وأن الكلام النفسى غير معقول، ثم قالت الحنابلة والحشوية: إن تلك الأصوات والحروف مع تواليها وترتب بعضها على بعض ويكون الحرف الثانى من كل كلمة مسبوقا بالحرف المتقدم عليه، كانت ثابتة فى الأزل قائمة بذات البارى تعالى وتقدس، وأن المسموع من أصوات القراء والمرئى من أسطر الكتاب نفس كلام الله تعالى القديم. وكفى شاهدا على جهلهم ما نقل عن بعضهم: أن الجلدة والغلاف أزليان. وعن بعضهم: أن الجسم الذى كتب به الفرقان فانتظم حروفا ورقوما هو بعينه كلام الله تعالى، وقد صار قديما بعد ما كان حادثا. ولما رأت الكرّاميّة أن بعض الشر أهون من بعض، وأن مخالفة الضرورة أشنع من مخالفة الدليل ذهبوا إلى أن المنتظم من الحروف المسموعة مع حدوثه قائم بذات الله تعالى، وأنه قول الله تعالى لا كلامه. وإنما كلامه قدرته على التكلم وهو قديم، وقوله حادث لا محدث. وفرقوا بينهما بأن: كل ما له ابتداء إن كان قائما بالذات فهو حادث بالقدرة غير محدث، وإن كان مباينا للذات فهو محدث بقوله: «كن» لا بالقدرة. والمعتزلة لما قطعوا بأنه المنتظم من الحروف، وأنه حادث، والحادث لا يقوم بذات الله تعالى، ذهبوا إلى أن معنى كونه متكلما أنه خلق الكلام فى بعض الأجسام. واحترز بعضهم من إطلاق لفظ المخلوق عليه لما فيه من إيهام الخلق والافتراء، وجوزه الجمهور. ثم المختار عندهم- وهو مذهب أبى هاشم ومن تبعه من المتأخرين- أنه من جنس الأصوات والحروف، ولا يحتمل البقاء حتى أن ما خلق مرقوما فى اللوح المحفوظ أو كتب فى المصحف لا يكون قرآنا، وإنما القرآن ما قرأه القارئ وخلقه البارى من الأصوات المتقطعة والحروف المنتظمة. وذهب الجبائى إلى أنه من جنس غير الحروف، يسمع عند سماع الأصوات، ويوجد

بنظم الحروف وبكتبها، ويبقى عند المكتوب والحفظ ويقوم باللوح المحفوظ وبكل مصحف وكل لسان. ومع هذا فهو واحد لا يزداد بازدياد المصاحف ولا ينتقص بنقصانها ولا يبطل ببطلانها. والحاصل أنه انتظم من هذه المقدمات قياسان: ينتج أحدهما قدم كلام الله تعالى، وهو أنه من صفات الله وهى قديمة، والآخر حدوثه، وهو أنه من جنس الأصوات وهى حادثة. فاضطر القوم إلى القدح فى أحد القياسين. ومنع بعض المقدمات ضرورة امتناع حقية النقيضين فمنعت المعتزلة كونه من صفات الله، والكرامية كون كل صفة قديمة، والأشاعرة كونه من جنس الأصوات والحروف، والحشوية كون المنتظم من الحروف حادثا. ولا عبرة بكلام الكرامية والحشوية، فبقى النزاع بيننا وبين المعتزلة وهو فى التحقيق عائد إلى إثبات كلام النفس ونفيه، وأن القرآن هو هذا المؤلف من الحروف الذى هو كلام حى، وإلا فلا نزاع لنا فى حدوث الكلام الحسى، ولا لهم فى قدم النفسى لو ثبت، وعلى البحث والمناظرة فى ثبوت الكلام النفسى، وكونه هو القرآن ينبغى أن يحمل ما نقل من مناظرة أبى حنيفة وأبى يوسف ستة أشهر، ثم استقرار رأيهما على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر. (¬29) أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة ¬

(¬29) انظر: المقاصد (ج 2 ص 5).

مصادر إضافية لمزيد من البحث والاطلاع (1) الإتقان فى علوم القرآن، للحافظ جلال الدين السيوطى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة عيسى الحلبى، الطبعة الأولى. (2) البرهان فى علوم القرآن، لبدر الدين الزركشى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط عيسى الحلبى، الطبعة الأولى. (3) البيان فى مباحث من علوم القرآن، للأستاذ الدكتور عبد الوهاب غزلان، ط دار التأليف، الطبعة الأولى. (4) التلويح، لسعد الدين التفتازانى، على التوضيح لصدر الشريعة وحواشيه للفنرى وملا خسرو وغيرهما. (5) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبى ط دار الكتاب، الطبعة الثانية. (6) حاشية البنانى على شرح الجلال المحلى لجمع الجوامع، لتاج الدين السبكى، ط مصطفى الحلبى، الطبعة الأولى. (7) حاشية سعد الدين التفتازانى على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب، نشر مكتبة الكليات الأزهرية. (8) حاشية الخضرى على ابن عقيل، ط الحلبى، الطبعة الأولى. (9) حاشية الشيخ محمد عبده على شرح الجلال الدوانى للعقائد العضدية، ط الخيرية. (10) روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى، لمحمود بن عمر الآلوسي، ط المنيرية. (11) شرح المقاصد للتفتازانى. (12) شرح المواقف وحواشيه، ط اسطنبول، الطبعة الأولى. (13) مباحث فى علوم القرآن، للدكتور صبحى الصالح، ط دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى. (14) مفاتيح الغيب (التفسير الكبير) للإمام الرازى، ط المنيرية. (15) مفردات القرآن، للراغب الأصفهانى، ط مصطفى الحلبى، الطبعة الأولى. (16) مناهل العرفان فى علوم القرآن، للدكتور محمد عبد العظيم الزرقانى، ط عيسى الحلبى، الطبعة الثانية. (17) النبأ العظيم، للدكتور محمد عبد الله دراز، نشر مكتبة عمار. وغير ذلك.

مسألة:"نزول القرآن على سبعة أحرف"

مسألة: «نزول القرآن على سبعة أحرف» هذا الموضوع من أصعب الموضوعات وأشدها على المحدثين وعلماء القرآن، فإنه على الرغم من رواية الجمّ الغفير من الصحابة لهذه القضية عن النبى صلّى الله عليه وسلم حتى عدّ من روايتها السيوطى فى كتابه «الإتقان» واحدا وعشرين صحابيا (¬1)، بل حتى أورد السيوطى فى «إتقانه» رواية أبى يعلى فى «مسنده» الكبير أن عثمان قال على المنبر: أذكّر الله رجلا سمع النبى صلّى الله عليه وسلم قال: «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف». لما قام فقاموا، حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك فقال: وأنا أشهد معهم (¬2). نقول: على الرغم من هذا، فإن أحدا من أولئك الصحابة لم يسأل النبى صلّى الله عليه وسلم عن التحديد الضابط لهذه الأحرف السبعة، والمعين لها واحدا بعد واحد حتى تبلغ سبعة لا تزيد ولا تنقص، بل اكتفوا بتصويبه صلّى الله عليه وسلم لكل من المختلفين فى القراءة بقوله: «هكذا أنزلت». ونحوه، ودفعه لكل نزغة من شك يمكن أن يوسوس بها الشيطان فى الصدور تجاه هذا التصويب، بإخباره إياهم أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كما هى عادتهم- رضوان الله عليهم- فى عدم إلحاح المسألة عليه صلّى الله عليه وسلم، ولا سيما فيما لا تدعو إليه الضرورة. فمن ثم اختلف الناس فى شأن هذه السبعة الأحرف اختلافا عظيما، بلغ به ابن حبان خمسة وثلاثين قولا، عدّ منها القرطبى خمسة فى مقدمة «تفسيره» (¬3)، ثم زاد السيوطى على هذا كله فبلغ فى «إتقانه» بهذا الاختلاف أربعين قولا ذكرها جميعا. والناظر إلى هذه الأقوال- المتشعبة الخلاف فيما بينها تشعبا شديدا- نظرة إجمالية، يجدها بين قائل بعدم انحصار عدد هذه الأحرف فى سبعة، وإنما الأمر فى هذا هو على التسهيل والتيسير، ولفظ (السبعة) يطلق على إرادة الكثرة فى الآحاد، كما يطلق السبعون فى العشرات، والسبعمائة فى المئين ولا يراد العدد المعين. قال الحافظ فى «الفتح»: (وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه) (¬4). وبين قائل بانحصار العدد فى سبعة بالفعل، ثم لا يحاول أن يخطو خطوة وراء هذا فى تفسير هذه الأحرف، بل يقول: هذا ¬

(¬1) انظر: (ج 1 ص 163). (¬2) الحديث ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد عن أبى المنهال بلفظ مقارب بلاغا ثم قال: «رواه أبو يعلى فى مسنده والطبرانى فى الكبير وفيه راو لم يسم» (ج 7 ص 152). (¬3) انظر: الجامع لأحكام القرآن ج 1 ص 42. (¬4) فتح البارى ج 9 ص 23. وعبارة القاضى عياض حسبما نقلها عنه الإمام النووى فى شرح صحيح مسلم هكذا: (قال القاضى عياض: قيل: هو توسعة وتسهيل لم يقصد به الحصر قال: وقال الأكثرون: هو حصر للعدد فى سبعة) ج 1 ص 99. وهذه العبارة من القاضى لا تفهم جنوحه إلى عدم الانحصار كما ذكر الحافظ لا نصا ولا ظاهرا إلا أن يكون الحافظ أخذ هذا من مجرد ابتداء القاضى به مع كونه غير متعين فيما ذكره، ولا سيما أنه جاء من القاضى على صورة التمريض (قيل)، أو يكون الحافظ قد اطلع من كلام القاضى فى موضع آخر على ما هو أصرح من هذا فهو وذلك. والله اعلم.

الحديث هو من المشكل الذى لا يدرى معناه، من قبيل أن الحرف من المشترك اللفظى، فإن العرب تسمى الكلمة المنظومة حرفا، وتسمى القصيدة بأسرها كلمة، والحرف يقع على المقطوع من الحروف المعجمة، والحرف أيضا: المعنى والجهة. قاله أبو جعفر محمد ابن سعدان النحوى (¬5). وهو أيضا مختار السيوطى حسبما يفصح عنه قوله فى «شرح سنن النسائى»: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، والمراد به أكثر من ثلاثين قولا حكيتها فى «الإتقان»، والمختار عندى: أنه من المتشابه الذى لا يدرى تأويله (¬6). وكذلك الشيخ ولى الله الدهلوى حيث قال في «شرحه على الموطأ» ما حاصله: «إن ما تقرر عندى وترجح فى هذا الاختلاف أن ذكر السبع فى الحديث لبيان الكثرة لا للتحديد» (¬7). وبين قائل: هى سبعة مفسرة، ثم يتعدد القول فى تفسيرها حتى تبلغ الأقوال بعد القولين الآنفين ثمانية وثلاثين عددا فيتممها أربعين على ما عددها السيوطى. ونحن بطبيعة الحال ليس من مقصودنا فى هذه الصفحات أن نستقصى جميع الأقوال مع ضعف أكثرها، بل مقصودنا تجلية المعنى المقصود بالأحرف السبعة، وتحقيق القول فيها، وسبيلنا إلى تحقيق هذه الغاية أن نسوق بعض الروايات الفصل عن النبى صلّى الله عليه وسلم فى قضيتنا هذه، لنستخلص منها ما يهدينا- إن شاء الله- إلى الصواب، على نحو ما صنع شيخ أشياخنا الزرقانى فى «مناهله»، وقد استوعب الروايات فى هذه المسألة- أو كاد- الحافظ ابن كثير فى كتابه «فضائل القرآن» من ص 16 حتى ص 21. وسنقتصر من ذلك على أيسر ما يتم به مقصودنا: روى الشيخان- واللفظ للبخارى- عن ابن عباس- رضى الله عنهما: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أقرأنى جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدنى حتى انتهى إلى سبعة أحرف». زاد مسلم: قال ابن شهاب: بلغنى أن تلك السبعة الأحرف إنما هى فى الأمر الذى يكون واحدا لا يختلف فى حلال ولا حرام (¬8). حديث آخر: روى الشيخان- واللفظ للبخارى- من فضائل القرآن عن عمر بن الخطاب يقول: «سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان فى حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكدت أساوره فى الصلاة، فتصبرت حتى سلّم، فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة ¬

(¬5) هو أحد القراء كان يقرأ بقراءة حمزة ثم اختار لنفسه قراءة نسبت إليه توفى سنة 231 هـ. إنباه الرواة 3 ص 140. وانظر البرهان ج 1 ص 213، والإتقان ج 1 ص 164. (¬6) انظر شرحه لسنن النسائى المسمى زهر الربى على المجتبى ج 2 ص 152. (¬7) انظر: بذل المجهود فى حل ألفاظ أبى داود للشيخ خليل أحمد السهارنفورى ج 7 ص 32. (¬8) صحيح البخارى كتاب فضائل القرآن باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، وصحيح مسلم كتاب صلاة المسافر باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه.

التى سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: إنى سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أرسله، اقرأ يا هشام». فقرأ عليه القراءة التى سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت»، ثم قال: «اقرأ يا عمر»، فقرأت القراءة التى أقرأنى فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت». إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه». (¬9) وكذا وقع لأبيّ مع آخرين، يقرأ كل منهما بغير قراءة صاحبه فى سورة النحل- كما عند الطبرى- واحتكامهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتصويبه صلّى الله عليه وسلم لقراءتهم جميعا، وضربه صلّى الله عليه وسلم فى صدر أبىّ دفعا لما اعتراه من الشك، وقول النبى صلّى الله عليه وسلم فى آخر الحديث فقال لى: «يا أبىّ، أرسل إلىّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه: أن هوّن على أمتى، فردّ إلىّ الثانية: اقرأه على حرفين، فرددت إليه: أن هوّن على أمتى، فردّ إلىّ الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها». الحديث أخرجه مسلم. ونحوا من هذا الاختلاف فى القراءة وتصويب النبى صلّى الله عليه وسلم لكلّ، وقع لعبد الله بن مسعود وعمرو بن العاص إلى غير ذلك من وقائع الاختلاف والتصويب التى صحت فى هذه القضية. حديث آخر: روى مسلم بسنده عن أبىّ بن كعب أن النبى صلّى الله عليه وسلم كان عند أضاة بنى غفار. قال: «فأتاه جبريل- عليه السلام- فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك. ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك، ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف. فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا» (¬10). وقد بين النبى صلّى الله عليه وسلم السبب الذى من أجله لا تطيق أمته نزول القرآن على ما دون سبعة أحرف فى حديث الترمذى عن أبىّ قال: «لقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم جبرائيل، فقال: يا جبرائيل إنى بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذى لم يقرأ كتابا قط، قال: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف». قال الترمذى: وفى الباب عن ¬

(¬9) قال البدر العينى فى عمدة القارى فى شرح هذا الحديث من كتاب الخصومات من الجامع الصحيح تحت عنوان ذكر تعدد موضعه (أى من صحيح البخارى ومن أخرجه غيره) أخرجه البخارى من فضائل القرآن عن سعيد بن عفير، وفى التوحيد عن يحيى بن بكير عن ليث عن عقيل، وفى استتابة المرتدين وقال الليث: حدثنى يونس، وفى فضائل القرآن أيضا عن أبى اليمان عن شعيب. وأخرجه مسلم فى الصلاة عن يحيى بن يحيى عن مالك به، وعن حرملة عن ابن وهب، وعن إسحاق بن إبراهيم وعبد الله بن حميد، وأخرجه أبو داود عن العقبى عن مالك به، وأخرجه الترمذى فى القراءة عن الحسن بن على العلال وأخرجه النسائى فى الصلاة عن يونس بن عبد الأعلى وعن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، وفى فضائل القرآن أيضا عنهما. ج 12 ص 258. وقوله: أساوره أى أواثبه، وقوله: فلببته بردائه، أى: جمعته عليه عند لبته وهى النحر. أى: أخذت بخناقه. (¬10) صحيح المسلم الموضع السابق.

عمر وحذيفة بن اليمان وأبى هريرة وأم أيوب- وهى امرأة أبى أيوب الأنصارى- وسمرة وابن عباس وأبى جهم بن الحارث بن الصمة. هذا حديث حسن صحيح قد روى عن أبيّ بن كعب من غير وجه (¬11). أ. هـ. ما نستخلصه من هذه الأحاديث: 1 - أن حقيقة العدد سبعة مرادة قطعا، ومن زعم عدم الانحصار فيه فقد خالف صريح المنطوق. 2 - أن السبعة أحرف كلها منزلة، متساوية فى كل الأحكام الخاصة بالتلاوة والإعجاز. 3 - أن نزول القرآن على سبعة أحرف سببه التيسير على الأمة والتخفيف عليها وإجابة لقصد نبيها حيث أتاه جبريل فأمره أن تقرأ أمته القرآن على حرف، فطلب منه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يسأل الله- سبحانه وتعالى- المعافاة لأمته لأنها لا تطيق ذلك، ولم يزل يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف. ولأن النبى صلّى الله عليه وسلم أرسل للناس كافة فسيعسر على الناس الانتقال من لغتهم إلى لغة أخرى؛ ولذلك خفّف عن هذه الأمة بالأحرف السبعة؛ ولذا اختلف العلماء فى جواز القراءة بلغة غير العربية على أقوال: ثالثها الجواز عند العجز عن العربية. نصّ على ذلك ابن الجزرى فى «نشره» (¬12). وذكر أمثلة لذلك بقراءة الهذلى لقوله تعالى: حَتَّى حِينٍ (عتى حين)، وقراءة الأسدي- (تعلمون) و (تعلم) (وتسود) بكسر تاء المضارعة، إلى غير ذلك من الأمثلة التى ذكرها. كما أن هناك فوائد أخرى لنزول القرآن على سبعة أحرف: أن من تمام التيسير على الأمة جمع الأحرف السبعة لوجهات النظر المختلفة فى التأمل البلاغى فى النص القرآنى، مما يبقى للقرآن مكانته السامية فى الإعجاز؛ إذ كل قراءة بمنزلة آية، فيكون هذا التنوع بمثابة الجمع لمناحى الإعجاز اللغوى والبلاغى. ومن فوائد نزول القرآن على أحرف سبعة تعظيم ثواب هذه الأمة حيث إنهم يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم فى تتبع معانى ذلك التنوع والتعدد، فالأجر على قدر المشقة. ومن فوائده أيضا: بيان قدر هذه الأمة وشرفها، من حيث تلقيهم لكتاب ربهم بهذا التلقى، وحفظه لفظة لفظة، بصيغه وسكناته وحركاته وتفخيم حروفه وترقيقها، فحفظوه من التحريف والتصحيف بما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم، مما يؤكد اتصال سند هذه الأمة بكتاب ربها، مما يدفع ارتياب الملحدين فى وصله. وهذا ما ذكره ابن ¬

(¬11) أخرجه الترمذى (أبواب القراءات عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم- باب ما جاء أن القرآن نزل على سبعة أحرف). (¬12) النشر فى القراءات العشر: (ح 1 ص 22) وما بعدها.

الجزرى (¬13) من فوائد لنزول القرآن على سبعة أحرف. 4 - أن التيسير بتعدد الأحرف تأخر إلى العهد المدنى، هذا ما يفهم من حديث أبىّ عند مسلم وفيه: (أن النبى صلّى الله عليه وسلم كان عند أضاة بنى غفار قال: فأتاه جبريل- عليه السلام- الحديث). حيث كانت هذه الأضاة بالمدينة كما قال الحافظ رحمه الله فى (الفتح): وأضاة بنى غفار هى بفتح الهمزة والضاد المعجمة بغير همز وآخرة تاء تأنيث: مستنقع الماء كالغدير وجمعه أضا كعصا، وقيل بالمد (¬14) والهمز كإناء، وهو موضع بالمدينة النبوية ينسب إلى بنى غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء- لأنهم نزلوا عنده» (¬15). والظاهر أن هذا التأخر إنما كان لعدم الحاجة- فى العهد المكى- إلى تعدد الأحرف لعدم انتشار الإسلام والقرآن آنئذ بين أحياء العرب، وقصوره على القلة المؤمنة به، وأغلبهم من قريش الذين أرسل النبى صلّى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، وأن القرآن المكى كان على أفصح لهجة مشهورة ومستفيضة فى جميع بطون قريش، وأن هذه اللهجة كانت بالتالى مفهومة وميسرة لأولئك القلة المؤمنين به، فلم تمس حاجتهم وقتئذ إلى المزيد من التيسير، فلما كانت الهجرة إلى المدينة وبدء انتشار الإسلام بين العرب وفيهم من يمكن ألا يتقن تلك اللهجة، مست الحاجة إلى التيسير بتعدد الأحرف، وشمل هذا التعدد عندئذ بطبيعة الحال جميع القرآن مكيه ومدنيه من قبل أن التكليف هو بكل القرآن لا ببعضه دون بعض، كما شمل تشريع هذا التعدد جميع الناس منذئذ لا فرق فى ذلك بين قرشى وغير قرشى من قبل أن الكل فى التشريع سواء. ومن هنا اختلفت الأحرف المقروء بها سورة الفرقان المكية مثلا بين عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم بن حزام وهما قرشيان، كما اختلفت بين أبىّ الأنصارى وغيره فى سورة النحل المكية أيضا، وقراءة عبد الله بن مسعود وآخر فى سورة من حم المكيات كذلك، إلى آخر تلك الوقائع. وهكذا وجدنا القراءات العشر المتواترة المنسوبة إلى القراء العشرة لا تفرق فى تعددها واختلافها بين مكى ومدنى من الذكر الحكيم، بل تعمها جميعا وعلى حد سواء، كما لا تفرق فى تلقيها وأدائها بين أحد من الناس، بل ورث القراءة بها فى الكل والإقراء بها للكل كابرا عن كابر، ثم لم يزل الأمر على هذا الشمول للمقروء وقرائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إن شاء الله تعالى. ولعل ما قلناه من نزول القسم المكى من القرآن أول ما نزل بتلك اللهجة المستفيضة ¬

(¬13) النشر فى القراءات العشر، (ح 1 ص 52 - ص 54). (¬14) قول الحافظ وقيل: بالمد والهمز إلخ راجع للجمع لا للمفرد، وعبارة النووى من شرح مسلم فى بيان هذه اللفظة (عند أضاة بنى غفار) هى بفتح الهمزة وبضاد معجمة مقصورة، وهى الماء المستنقع كالغدير وجمعها أضا كحصاة وحصا، وإضاء بكسر الهمزة والمد كأكمة وإكام. ح 6 ص 104. (¬15) فتح البارى ج 9 ص 28.

فى بطون قريش والمفهومة لها جميعا هو ما عناه عثمان رضي الله عنه من قوله للرهط القرشيين عند جمع القرآن: (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم) (¬16). قال القاضى أبو بكر بن الباقلانى: (معنى قول عثمان: «نزل القرآن بلسان قريش. أى: معظمه، وأنه لم تقم دلالة قاطعة على أن جميعه بلسان قريش، فإن ظاهر قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا أنه نزل بجميع ألسنة العرب، ومن زعم أنه أراد مضر دون ربيعة، أو هما دون اليمن، أو قريشا دون غيرهم، فعليه البيان، لأن اسم العرب يتناول الجميع تناولا واحدا، ولو ساغت هذه الدعوى لساغ للآخر أن يقول بلسان بنى هاشم مثلا؛ لأنهم أقرب نسبا إلى النبى صلّى الله عليه وسلم من سائر قريش (¬17). وبالجملة، فليس للتيسير بالأحرف السبعة ونزولها بالمدينة وقت معلوم على التحديد، لكن الذى يظهر ويتفق مع طبيعة الأمور أن يكون ذلك قد تم بعد قدومه صلّى الله عليه وسلم المدينة واستقرار مقامه فيها بزمن يسير، حيث بادرت أحياء من العرب بالقدوم إلى المدينة والدخول فى الإسلام كأسلم وغفار (¬18). فكان من المتجه إذن لهؤلاء وأمثالهم أن يكون لهم تيسير القرآن بنزوله على سبعة أحرف منذ هذا الوقت المبكر. والله أعلم بحقيقة الحال. وقد حاول عدد من العلماء بيان كيف كان التعدد، فذهب بعضهم إلى أن جبريل كان يقرأ النبى صلّى الله عليه وسلم فى كل عرضة بوجه أو حرف. وهذا ما اختاره أبو عمرو الدانى (¬19). ولكننا نرى أن ذلك من الغيب المستور ونكل علمه إلى الله. 5 - أن الصحابة لا محالة فهموا مراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم من هذه الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن، بل لقد أقرأهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بها، ونقلوها بالتواتر كما هو الحال فى كل القرآن؛ لأن هذه الأحرف كجزء القرآن فما وجب فى الكل وجب فى الأجزاء. وليست الأحرف السبعة من قبيل المشكل أو المتشابه الذى لا يمكن تأويله كما ذهب إليه محمد بن سعدان النحوى والسيوطى فى «المجتبى» وولى الدهلوى والآلوسي (¬20). والسؤال: ما المعنى الذى فهمه الصحابة رضى الله عنهم للأحرف السبعة؟ هل هى أصناف مختلفة من الكلام كالزاجر والآمر، والحلال والحرام، والمحكم والمتشابه، والأمثال؟ ولقد جاء خبر عن ابن مسعود ورفعه للنبىّ صلّى الله عليه وسلم فى نفس المعنى السابق. ولكن إرادة هذه ¬

(¬16) صحيح البخارى (كتاب فضائل القرآن- باب بيان نزول القرآن بلسان العرب وباب جمع القرآن). (¬17) فتح البارى: (ح 9 ص 9) (¬18) فى حديث إسلام أبى ذر عند مسلم قوله: (وقال نصفهم «يعنى قومه غفارا» إذا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا، فقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة فأسلم نصفهم الباقى، وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول الله! إخوتنا- نسلم على الذى أسلموا عليه فأسلموا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «غفار غفر الله لها. وأسلم سالمها الله» صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة رضى الله تعالى عنهم، باب فضائل أبى ذر رضي الله عنه. (¬19) انظر: مقدمة جامع البيان لأبى عمرو الدانى (المحققة منفصلة باسم الأحرف السبعة) د. عبد المهيمن الطحان، (ص 46). (¬20) انظر مثلا: روح المعانى، للآلوسى: (ح 1 ص 20).

الأصناف بالأحرف السبعة من الإحالة ووضوح البطلان بحيث لا يتسع لها عقل عاقل؛ لأنه لا يصحّ أن يقرأ القرآن كله بصنف واحد من هذه الأصناف المذكورة. وقد ردّ الحافظ هذا الخبر الوارد عن ابن مسعود بما ذكره عن ابن عبد البر من عدم ثبوته؛ لأن أبا سلمة بن عبد الرحمن لم يلق ابن مسعود وهو الراوى عنه. وقال: وقد أطنب ابن جرير الطبرى فى الرد على هذا الرأى بما حاصله أنه يستحيل أن يجتمع فى الحرف الواحد هذه الأوجه السبعة. ثم ذكر أن تصحيح ابن حبان والحاكم لخبر ابن مسعود فيه نظر، وذكر أنه رواه البيهقى مرسلا. وحكم عليه بالجودة. ثم ذكر أن المراد بالأحرف السبعة: أن الكلمة الواحدة تقرأ على وجهين وثلاثة وأربعة إلى سبعة تيسيرا. ونقل عن الأهوازى والهمدانى ردهما لتأويل السبعة أحرف بالأصناف السبعة (¬21). واقتصر ابن الجزرى من أمر هذا الحديث على تأويله فقال: (فإن قيل): فما تقول فى الحديث ... وذكره من رواية الطبرانى بلفظ مقارب فيه تقديم وتأخير ثم قال فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن هذه السبعة غير السبعة الأحرف التى ذكرها النبى صلّى الله عليه وسلم فى تلك الأحاديث، وذلك من حيث فسرها فى هذا الحديث فقال: حلال وحرام إلى آخره. ثم أكد ذلك بالأمر بقول: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا. فدل على أن هذه غير تلك القراءات. الثانى: أن الأحرف السبعة فى هذا الحديث هى هذه المذكورة فى الأحاديث الأخرى التى هى الأوجه والقراءات، ويكون قوله: حلال وحرام إلى آخره تفسيرا للسبعة الأبواب. والله أعلم. الثالث: أن يكون قوله: حلال وحرام إلى آخره لا تعلق له بالسبعة الأحرف ولا بالسبعة الأبواب، بل إخبار عن القرآن أى هو كذا وكذا واتفق كونه بصفات سبع كذلك (¬22)). أ. هـ. وكذلك صنع السيوطى من بعده وعبارته فى هذا المقام بعد ذكر الحديث وفيها المزيد من مقولات العلماء وموقفهم منه: (وقد أجاب عنه قوم، بأنه ليس المراد بالأحرف السبعة التى تقدم ذكرها فى الأحاديث الأخرى؛ لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا، بل هى: ظاهرة فى أن المراد أن الكلمة تقرأ على وجهين وثلاثة إلى سبعة، تيسيرا وتهوينا، والشيء الواحد لا يكون حلالا وحراما فى آية واحدة، وقال البيهقى ... وذكر تأويله السابق فى نقل «الفتح» ثم قال: وقال غيره: من أوّل الأحرف السبعة بهذا، فهو فاسد؛ لأنه محال أن يكون الحرف فيها حراما لا ما سواه، أو ¬

(¬21) انظر: فتح البارى، للحافظ ابن حجر (ح 1 ص 29). (¬22) النشر فى القراءات العشر، لابن الجزرى: (ج 1 ص 171).

حلالا لا ما سواه، ولأنه لا يجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله أو حرام كله، وأمثال كله. وقال ابن عطية: هذا القول ضعيف؛ لأن الإجماع على أن التوسعة لم تقع فى تحريم حلال ولا تحليل حرام، ولا فى تغيير شىء من المعانى المذكورة. وقال الماوردى: هذا القول خطأ: لأنه صلّى الله عليه وسلم أشار إلى جواز القراءة بكل واحد من الحروف، وإبدال حرف بحرف، وقد أجمع المسلمون على تحريم إبدال آية أمثال بآية أحكام. وذكر قول أبى على الأهوازى وأبى العلاء الهمدانى السابق فى نقل «الفتح» (¬23). وتلك الأصناف السبعة ليس لها سند بالمرة، ولقد وصل أصحاب هذا الرأى إلى أن جعلوا هذه الأصناف أربعين قولا، ولقد أوجز الرد عليهم شيخ أشياخنا الزرقانى بعد ذكر هذه الأقوال الأربعين والتى جعلوا منها الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمحكم والمتشابه- فردّه عليهم بردود خلاصتها: 1 - أن سياق الأحاديث لا يساعد على حمل الأحرف السبعة على الأصناف السبعة؛ لأنها كلها تصرح بأن الأحرف إنما هى فى القراءة والتلفظ. 2 - عدم وجود سند صحيح لهذا القول. 3 - التيسير المقصود من نزول القرآن على سبعة أحرف لا يتحقق مع هذه الأصناف والأنواع. 4 - زيادة بعض تلك الآراء عن السبعة مما يعنى الخطأ فى العدّ أو أنهم يعتقدون أن السبعة غير مقصودة وهذا باطل. 5 - أن أكثر ما ذكروه فى تلك الآراء يدخل بعضه فى بعض، فمن المتعسر اعتبارها أقوالا مستقلة. ثم نقل ما نقله السيوطى عن الشرف المرسى من ردّ فى معنى الكلام السابق (¬24). ويورد أبو عمرو الدانى فى مقدمة «جامع البيان» فى القراءات السبع تحت عنوان (معنى الأحرف السبعة) وجهين للمراد من الأحرف السبعة: أولهما: أن الأحرف السبعة سبعة أوجه فى اللغات، ومثّل لها ب (أفلس، وفلس)، والحرف يراد منه الوجه ومنه قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ أى على وجه. وثانيهما: أن الأحرف السبعة هى القراءات السبعة، جريا على عادة العرب فى تسمية الشيء باسم ما له علاقة به من مقارنة أو مقاربة أو مجاورة؛ ولذلك سمّى النبىّ صلّى الله عليه وسلم القراءة حرفا وإن كان كلاما كثيرا. فقد سمّى العرب القصيدة والخطبة والرسالة ¬

(¬23) الإتقان: (ج 1 ص 171). (¬24) مناهل العرفان: (ح 1 ص 182 - ص 184).

كلمة، ومن هذا الاستعمال قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا فقال: إنما يعنى بالكلمة هاهنا قوله فى سورة القصص: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ فأطلق الكلمة على كل هذا الكلام؛ ومن ثمّ خاطب النبىّ صلّى الله عليه وسلم من بالحضرة وسائر العرب فى هذا الخبر من تسمية القراءة حرفا لما يستعملون فى لغتهم وما جرت عليه عادة منطقهم (¬25). وعقّب ابن الجزرى فى «النشر» على كلام أبى عمرو فذكر أن كلا الوجهين محتمل، وفرّق بينهما، وذكر أن حديث «أنزل القرآن على سبعة أحرف» يحتمله الوجه الأول، وحديث عمر مع هشام رضى الله عنهما يحتمله الوجه الثانى (¬26). والصواب: أن المعنيين لا فرق بينهما؛ لأن عمر رضي الله عنه قال: سمعته يقرأ فيها أحرفا لم يكن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أقرأنيها، فلو كان معنى الحرف يخالف معنى القراءة تعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمر ذلك ولنبهه لحاجته إلى معرفة ذلك. وإذا عدنا إلى كلام أبى عمرو الدانى فنجد أن الوجه الأول اختاره جماعة من العلماء ذكرهم الزركشى فى «البرهان» منهم أبو عبيد القاسم بن سلام وأحمد بن يحيى ثعلب، ونقله حكاية ابن دريد (¬27) عن أبى حاتم السجستانى (¬28)، وبعضهم عن القاضى أبى بكر الباقلانى. وذكر أن بعض القرآن نزل بلغة قريش وبعضه نزل بلغة هذيل، وبعضه بلغة تميم، وأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بكر، ومعانيها كلها واحدة. واحتج الأزهرى (¬29) لهذا القول بقول عثمان فى جمع القرآن: «وما اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش، فإنه أكثر ما نزل بلسانه». وفى رواية: «إنما نزل بلسانهم». فعلى فرض أن هذه الرواية الأخيرة هى المحفوظة، فإن الحصر ب (إنما) ليس حصرا حقيقيا بل إضافيا؛ لكثرة ما نزل بلغة قريش. ونقل الزركشى عن ابن قتيبة وغيره إنكارهم أن يكون فى القرآن حرف من غير لغة قريش لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ونقل عن ابن قتيبة قوله: ولا نعرف فى القرآن حرفا واحدا يقرأ على سبعة أوجه. ثم نقل تغليط ابن الأنبارى لابن قتيبة بحروف منها قوله تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ وقوله تعالى: أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وقوله باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا. ¬

(¬25) القطعة التى حققها د. عبد المهيمن الطحان (ص 27 - 30). (¬26) النشر فى القراءات العشر: (ح 1 ص 24). (¬27) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد: صاحب كتاب «الجمهرة فى اللغة» وناظم المقصورة (ت 321 هـ ببغداد) - إنباة الرواة (ح 3 ص 92). (¬28) هو أبو حاتم سهل بن محمد السجستانى صاحب المبرد، مات بالبصرة سنة 255 هـ. (¬29) هو أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الأزهرى، صاحب كتاب «التهذيب» توفى سنة 370 هـ (اللباب: ح 1 ص 38).

ونقل عن ابن عبد البر أنه نقل عن بعض أهل العلم إنكارهم لأن تكون السبعة أحرف سبع لغات؛ لأن عمرو هشام بن حكيم أهل لغة واحدة ومع ذلك وقع بينهم الاختلاف (¬30). ونرى أن ما احتج به ابن قتيبة لا ينهض حجة؛ لأن قوم النبى صلّى الله عليه وسلم العرب والناس كافة وليسوا قريشا فقط؛ لأنه أرسل للناس كافة. وأما ما احتج به ابن عبد البر فيدفعه أن شأن القراءة هو التلقى عن النبى صلّى الله عليه وسلم لا فرق بين أن يكون المتلقون من لغة واحدة أو من عدة لغات. وقد أجاد الآلوسي فى نقله لرد السيوطى على هذه الشبهة بأنه: هل من أحد يدعى أن الإنزال كان كما كان ثم أهل اللغات هذبوه ورشحوه بكلماتهم بعد الإذن لهم بذلك؟؛ ولذا لا يتصور اختلاف أهل اللغة الواحدة، والقبيلة الواحدة. ونقل عن الإمام السيوطى أن مرجع السبع الرواية لا الدراية بأن الصحابى قد يعى ما فى القراءة أو الرواية من لغات غير لغته وقد لا يدرى، ومن ثمّ قد ينكر أحد الراويين رواية وقراءة الآخر (¬31). نعم، إن القول بأن السبعة أحرف سبع لغات قد يتحقق معه التيسير المراد من إنزال القرآن على سبعة أحرف، ولكن الحديث عن السبعة أحرف ليس قاصرا على الكلام عن التيسير فحسب، بل هناك مقامات بلاغية تختلف فيها أنظار العرب، وكذلك مقام الإيجاز مع التفسير لتحقيق حجة الإعجاز لفهم الخصم، ولو كان تعدد القراءات بمثابة تعدد الآيات لذهب مقصد الإيجاز وتضخم القرآن وعاد النقض على المقصود من التيسير؛ ولذا فهذا الوجه ليس عندى بمرتضى. ويشتد القصور والسقوط عن درجة القبول فى القول القائل بالاقتصار على ضرب مخصوص من اللغات، وهو الألفاظ المترادفة وما يقاربها، وقد سبق أن نسبه القرطبى لأكثر أهل العلم. ولقد كان لأصحاب هذا القول حجج كثيرة أوضح من صرح بها وأطال فى سردها أبو جعفر الطبرى. ولذا سنجمل ما جاء فى تفسيره من أدلة على هذا القول: فقد بدأ بإنكار وجود حرف فى كتاب الله قد قرئ بسبع لغات، وألزم الخصم بأنه لو قال بأن الأحرف السبعة سبع لغات مثبتة فى القرآن لما صحّ أن يقع الخلاف الوارد بين الصحابة فى القراءة، وإقرار النبى صلّى الله عليه وسلم لهم على هذا الخلاف. وذكر أن مجرد الجمع بين هذا القول وحججه مفسد له؛ لأن أصحاب هذا القول يحتجون بما روى عن الصحابة والتابعين أنه قال: هو بمنزلة قولك: (تعال) و (هلّم) و (أقبل)، أو هو بمثابة قراءة ابن مسعود (إلا زقية) وهى فى ¬

(¬30) البرهان: (ح 1 ص 218) وما بعدها. (¬31) روح المعانى: (ح 1 ص 21).

قراءتنا (إلا صيحة)، فهذه الحجج مبطلة لمقالتهم؛ لأن ذلك لا يعنى اللغات السبع فى حرف واحد أو كلمة واحدة، بل يعنى اختلاف الألفاظ مع اتفاق المعانى. ثم طالب أصحاب هذا القول بحرف واحد من الكتاب مقروء بسبع لغات. ثم انتقل للجواب عن السؤال: أين الأحرف السبعة الآن التى أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالقراءة بها. هل نسخت ورفعت؟ فأجاب بأنها لم تنسخ ولم تضيعها الأمة؛ لأن الأمة أمرت بحفظ القرآن وخيرت فى قراءته وحفظه بأى الأحرف السبعة شاءت، كالحال فى الحنث فى اليمين تأتى بأى الخصال الثلاث شئت، فتكون بذلك مصيبا مكفّرا، وقد رأت الأمة لعلة من العلل، الثبات على حرف واحد دون سائر الحروف الستة الباقية. ثم ذكر أحاديث جمع القرآن، ثم ذكر أن هذه الأخبار التى يضيق عنها كتابه تكشف عن أن عثمان رضي الله عنه رأفة وشفقة بالأمة جمع الناس على حرف واحد لمنع الفتنة التى بدأت تظهر فى عصره من إنكار بعض الناس لبعض الحروف فى القرآن، فأطاعته الأمة فى ذلك ووافقت عليه. حتى آل الأمر الآن إلى أنه لا قراءة إلا بالحرف الواحد الذى اختاره إمام المسلمين وأمير المؤمنين للأمة ووافقت عليه الأمة فى عصره وأقرته. ثم أجاب عن سؤال ملخصه كيف جاز للأمة ترك القراءة ببعض أحرف القرآن؟ فأجاب بأن القراءة بالأحرف السبعة كانت رخصة يباح استخدامها وليس فرضا؛ لأنه لو كان فرضا لوجب العلم بالأحرف السبعة على من تقوم الحجة بنقلهم، ولما لم يفعلوا ذلك علم عدم فرضيته. أما جعل اختلاف القراءة فى ضبط الكلمات مفسرا لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف». فيراه الطبرى غير صحيح؛ لأنهم اتفقوا على أن الخلاف فى مثل هذه التوجيهات والضبط لا يوجب تكفير الممارى فيه كما هو الحال فى الممارى فى الأحرف السبعة. ثم أجاب عن تساؤل عن علمه بالأحرف السبعة التى نزل بها القرآن وألسنتها؟ فأجاب بأن الأحرف الستة الأخرى لا حاجة لنا بمعرفتها؛ لأننا إن عرفناها اليوم ما قرأنا بها للأسباب السابقة، وقيل: إن خمسة منها لعجز هوازن واثنين لقريش وخزاعة. وذكر روايات فى ذلك عن ابن عباس وذكر أنها لا يصح الاحتجاج بها (¬32). وهذا مجمل ما أتى به الطبرى من استدلال على رأيه. وما قاله الطبرى واستدلّ به ليس مأخوذا عليه كله، بل منه ما نوافقه عليه وأخّرنا ذكره ¬

(¬32) انظر: تفسير الطبرى (الطبعة المحققة): (ح 1 ص 55 ص 59) (ح 1 ص 63 - ص 66).

لحين كلام الطبرى لموافقته ما نعتقده وخاصة فى ردّه على القائلين بأن الأحرف السبعة كانت سبع لغات. ولكن لنا رد آخر على القائلين بهذا الرأى وهو: هل كان للعرب لغات متنافرة لا يفهم بعضهم بعضا حتى يحتاجوا إلى أن ينزل القرآن على سبع لغات فى الكلمة الواحدة؟، فلو كان الأمر كذلك، كيف كانوا يحفظون قصائد شعراء القبائل، وإن لم يكن الشاعر من نفس قبيلة الحفاظ؟ وكيف كان الشاعر يجوب القبائل يعرض شعره بغير ترجمان، فالنابغة تارة عند الغساسنة فى الشام، وأخرى عند المناذرة فى العراق، وشعره يفهمه أهل القريتين، والمعلقات السبع على أستار الكعبة يفهمها القاصى والدانى، وأسواق العرب الجامعة يتعامل فيها الناس، ويتساجل فيها الشعراء، وهم من قبائل شتى. والنبىّ صلّى الله عليه وسلم يقابل الوفود ويعرض عليهم الإسلام فيفهمون كلامه. وأيضا الترادف، وإن كان القائلون به هم الأكثرون ولكنهم لم يذكروا من ثمراته أن العرب كانوا مضطرين إليه لفهم بعضهم بعضا؛ ولذا فهذا الرأى رأى ساقط عند الطبرى وعندنا. وفيما نرى أن الطبرى يقرر بكل وضوح وصراحة وصرامة أن اختلاف اللهجات واللغات والقراءات فى النطق لا علاقة لها بحديث تعدد الأحرف السبعة، وهذا هو مذهب الطبرى الذى صرّح به، فلا داعى للتفرقة بين اللازم البين وغيره؛ لأنه هو مذهب الرجل. والذى يدفعنا للرد على كلام الطبرى، أن مؤدى مذهبه هذا ضياع ستة أحرف من القرآن وأن القرآن فى العصر المكى كان قاصرا على قريش، وأنّ من سواهم ممن عرض عليهم الإسلام معذورون غير مقصرين فى الجحود والكفر بمعجزته وشريعته لعدم فهمهم. وكل هذا مناف لما كان عليه العرب وواقعهم. والظاهر من كلام الطبرى أنه يرى أن حكمة التيسير تقتضى أن تشمل الأحرف السبعة القرآن كله أو أكثره، وعليه يلزمه ما قدمناه، ولو عكس دعواه فجعل اختلاف اللهجات سبيلا إلى اختلاف النطق، فبهذا لا تكون هناك صلة بين دعواه وحديث الأحرف السبعة، بل بهذا يعود الاختلاف إلى حرف واحد ويلزمه ما لزمه من قبل. وما استدل به من آثار لم يصحّ منها أثر واحد، على ما سبق أن وضحنا، ولم يجد فيها مثالا واحدا يؤيد دعواه حتى اخترع

مثال (هلمّ، وأقبل، وتعال، وإلىّ، وقصدى، ونحوى، وقربى)، وحتى هذا المثال لا يصحّ إلّا إذا أثبت أن هذه الألفاظ بألسنة مختلفة لا بلسان واحد. أما استدلاله بأن اختلاف الناس فى القراءة هو الذى دفع عثمان رضي الله عنه أن يجمع المصحف على حرف واحد لدرء الخلاف، وتشبيهه لما فعله عثمان بأنه مثل اختيار خصلة من خصال الكفارة، فلا نوافقه عليه؛ لأن السبب المعقول أن الصحابة لمّا تفرقوا فى الأمصار وأقرءوا الناس بقراءاتهم التى سمعوها من النبى صلّى الله عليه وسلم حفظ منهم أهل الأمصار المختلفة قراءتهم، فلما اجتمع أهل الأمصار المختلفة فى غزاة سمع بعضهم قراءة بعض، فدفع الجهل والعصبية بعضهم إلى أن يقول: قراءتى خير من قراءتك. فرأى عثمان أن يجمع الناس على مصحف واحد بعد أن قال له حذيفة رضي الله عنه: أدرك أمتك قبل أن تختلف اختلاف اليهود والنصارى. فهل كان حذيفة يقصد أن يدرك عثمان الأمة من البلاء الذى ينزل عليهم بسبب الأحرف السبعة! بل الصواب أن عثمان رضي الله عنه جمعهم على مصحف واحد يجمع كل ما هو قرآن، وينفى عنه كل ما ليس بقرآن، فجمع المصحف على سبعة أحرف. وأمّا تشبيهه للأحرف بخصال الكفارة فهو لا يستقيم؛ لأن خصال الكفارة كلها مخلوقة من أفعال العباد، أما الأحرف السبعة فهى منزلة من عند الله- سبحانه وتعالى- فهى من القرآن المعجز؛ ولذا لم يرتض أهل التحقيق من المتكلمين والفقهاء والقراء ما ذهب إليه الطبرى وشيعته، ونقل ابن الجزرى أن جماعات الفقهاء والمتكلمين والقراء على أن المصاحف العثمانية جمعت الأحرف السبعة. ونقل البدر العينى عن أبى الحسن الأشعرى الإجماع على عدم جواز تضييق ما وسعه الله على عبده من إنزاله القرآن على أحرف، ولا حرج أن يقرأ بأى حرف شاء مما نزل به القرآن. وقرر أبو شامة ذلك فى «المرشد الوجيز» فى غير ذات موضع: فمرة ينقل عن أبى بكر ابن الطيب أن مصحف عثمان جمع ما أقرأ به النبىّ صلّى الله عليه وسلم الناس، ووصل إلينا متواترا، أما الآحاد فلم يدونه كقراءة ابن مسعود فى: فَإِنْ فاؤُ زاد فى قراءته (فيهن). وفى موضع آخر يقرر أنه- عثمان- ما كان هو ولا أحد من أئمة المسلمين يستجيز المنع من القراءة بحرف ثبت أن الله- تعالى- أنزله. وموضع ثالث ينفى ما يتوهم من أن المصاحف العثمانية جمعت حرفا واحدا، بل جمعت الأحرف السبعة حتى يقرر أن عثمان رضي الله عنه عرف حاجة الناس للأحرف السبعة فأثبتها فى مصاحفه.

الوجه الرضى فى الأحرف وكيف اكتملت به العدة سبعة:

أما اختياره لحرف زيد فلأنه اجتمع عليه المهاجرون والأنصار فكان مشهورا مستفيضا وأشار إلى أنه سمّى بحرف زيد؛ لأنه هو الذى رسمه فى المصاحف وتولى إقراءه دون غيره. ونقل الأبىّ فى شرح مسلم عن القاضى عياض مثل ما نقلنا عن أبى شامة فى اشتمال المصاحف العثمانية على الأحرف السبعة، ثم نقل الأبىّ عن ابن عرفة المالكى أن الأحرف باقية ومحفوظة مع مرور المئين من السنين. الوجه الرضى فى الأحرف وكيف اكتملت به العدة سبعة: الوجه الرضى عندى: أن المقصود بالحرف الوجه من وجوه القراءات، وهو الرأى الثانى الذى ذكره أبو عمرو الدانى. وقد أخفق بعض العلماء فى عدّ هذه الوجوه السبعة كأبى عمرو الدانى. ونجح بعضهم كابن الجزرى فقال: «وذلك أنى تتبعت القراءات صحيحها وشاذها وضعيفها ومنكرها فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة من الاختلاف لا يخرج عنها وذلك: إما فى الحركات بلا تغير فى الصورة والمعنى نحو (البخل) (¬33) بأربعة (وبحسب) بوجهين (¬34) أو بتغير فى المعنى فقط نحو فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، (¬35) وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ (¬36) وأمه. وإما فى الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو: (تبلو وتتلوا). (¬37) ونُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ و (ننحيك ببدنك)، (¬38) أو عكس ذلك نحو (بصطة وبسطة)، و (الصراط والسراط)، أو بتغيرهما نحو: (أشد منكم ومنهم)، (¬39) و (يأتل ويتأل)، (¬40) فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ، و (فامضوا (¬41) إلى ذكر الله)، وإما فى التقديم والتأخير نحو: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ (¬42) (وجاءت سكرة الحق بالموت) (¬43) أو فى الزيادة والنقصان نحو: (وأوصى ووصى، والذكر والأنثى). (¬44) فهذه سبعة أوجه لا يخرج الاختلاف عنها. وأما نحو اختلاف الإظهار، والإدغام، والروم، والإشمام، والتفخيم، والترقيق، والمد، والقصر، والإمالة، والفتح، والتخفيف، والتسهيل، والإبدال، والنقل، مما يعبر عنه بالأصول، فهذا ليس من الاختلاف الذى يتنوع فيه اللفظ والمعنى؛ لأن هذه الصفات المتنوعة فى أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا، ولئن فرض فيكون من الأول. ثم رأيت الإمام الكبير أبا الفضل الرازى حاول ما ذكرته فقال: إن الكلام لا يخرج اختلافه عن سبعة أوجه: الأول: اختلاف الأسماء من الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث والمبالغة وغيرها. ¬

(¬33) هى ضم فسكون وضمتان، وفتح فسكون وفتحتان، والمتواتر من ذلك أول الأربعة وآخرها. (¬34) كسر السين وفتحها، والقراءتان متواترتان. (¬35) برفع آدم ونصب كلمات وبالعكس، والقراءتان متواترتان. (¬36) بضم الهمزة وتشديد الميم وبعدها تاء تأنيث بمعنى حين، وهى المتواترة، وأمه بفتحات آخره هاء وصلا ووقفا بمعنى النسيان وهو شاذ لا يقرأ به. (¬37) أى من قوله تعالى فى سورة يونس: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ والقراءة باللفظين متواترة. (¬38) ننجيك بالجيم وهى المتواترة وننحيك بالحاء وهى شاذة. (¬39) فى موضعين من سورة غافر آية 21، آية 82 والقراءتان متواترتان. (¬40) الأولى بصورة الافتعال من الألو بمعنى التقصير، والثانية بصورة التفعل من الآلية بمعنى الحلف، فيختلف المعنى كما اختلفت الصورة. هذا مراده، ولا يتعين لإمكان أن تكون الصورتان معا بمعنى الحلف فيكونا من تغير الصورة دون المعنى والقراءتان متواترتان. (¬41) الأولى هى المتواترة، والثانية بالغة الشذوذ، وقد مشى ابن الجزرى هنا على أن السعى يفيد معنى الإسراع، والمضى يفيد السير العادى، ومن ثم اختلف المعنيان على هذا. (¬42) بتقديم المبنى للمعلوم على المبنى للمجهول وعكسه، والقراءتان متواترتان. (¬43) بالغة الشذوذ، والمتواتر ما فى المصحف. (¬44) أى مع وما خلق الذكر والأنثى، والنقصان بالغ الشذوذ.

الثانى: اختلاف تصريف الأفعال وما يسند إليه من نحو الماضى والمضارع والأمر والإسناد إلى المذكر والمؤنث والمتكلم والمخاطب والفاعل والمفعول به. الثالث: وجوه الإعراب. الرابع: الزيادة والنقص. الخامس: التقديم والتأخير. السادس: القلب والإبدال فى كلمة بأخرى وفى حرف جر بآخر. السابع: اختلاف اللغات من فتح وإمالة وترقيق وتفخيم وتحقيق وتسهيل وإدغام وإظهار ونحو ذلك. ثم وقفت على كلام ابن قتيبة- وقد حاول ما حاولنا بنحو آخر- فقال: وقد تدبرت وجوه الاختلاف فى القراءات فوجدتها سبعة: الأول: فى الإعراب بما لا يزيل صورتها فى الخط ولا يغير معناها نحو: (هن أطهر لكم- وأطهر) (¬45). (وهل يجازى إلا الكفور- ونجازى (¬46) إلا الكفور)، و (البخل والبخل)، (وميسرة وميسرة). (¬47) والثانى: الاختلاف فى إعراب الكلمة وحركات بنائها بما يغير معناها ولا يزيلها عن صورتها نحو: (ربّنا باعد، وربّنا باعد، (¬48) وإذ تلقونه، وإذ تلقونه، (¬49) وبعد أمّة، وبعد أمه). الثالث: الاختلاف فى حروف الكلمة دون إعرابها بما يغير معناها ولا يزيل صورتها نحو: (وانظر إلى العظام كيف ننشزها وننشرها) (¬50)، (وإذ فزع عن قلوبهم، وفزّع). (¬51) الرابع: أن يكون الاختلاف فى الكلمة يغير صورتها ومعناها نحو: (طلع منضود) فى موضع وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ فى آخر. الخامس: أن يكون الاختلاف فى الكلمة بما يغير صورتها فى الكتاب ولا يغير معناها نحو: (إلا زقية واحد- وصيحة (¬52) واحدة، وكالعهن المنقوش- وكالصوف). (¬53) السادس: أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو: (وجاءت سكرة الحق بالموت- سكرة الموت بالحق-). السابع: أن يكون الاختلاف بالزيادة والنقصان نحو (وما عملت أيديهم- وعملته-) (¬54)، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (¬55) (وهذا أخى له تسع وتسعون نعجة أنثى). (¬56) ثم قال ابن قتيبة: وكل هذه الحروف كلام الله تعالى نزل به الروح الأمين على رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قلت: وهو حسن كما قلنا وهناك أمثلة أخرى لاختلاف القراءات أكثر وضوحا مثل: (بضنين) بالضاد (وبظنين) بالظاء (¬57) (وأشد ¬

(¬45) هود آية 78. قرأ لفظ (أطهر) بالرفع على الخبرية، وهى القراءة المتواترة، وبالنصب على الحالية وهى ضعيفة بالغة الشذوذ. (¬46) أى بالغيبة والبناء للمجهول وبنون العظمة، والقراءتان متواترتان. (¬47) فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ البقرة 280. قرأت مَيْسَرَةٍ بفتح السين وضمها، والقراءتان متواترتان. (¬48) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا- سبأ- بنصب ربنا على النداء وسكون دال باعد على الطلب، وبرفع ربنا على الابتداء وفتح دال باعد على المضى، والقراءتان متواترتان. (¬49) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ النور آية 15 قرئ (تلقونه) بحذف إحدى التاءين من التلقى أى (تتلقونه)، وهى القراءة المتواترة، وقرئ شذوذا (تلقونه) بضم تاء المضارعة وتسكين اللام أى يلقيه بعضكم إلى بعض من الإلقاء، (وتلقونه) بفتح وكسر اللام وتخفيف القاف مع ضمها من (الولق)، هو الكذب، وهما شاذتان. (¬50) وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها البقرة 259 قرئ (ننشزها) بالزاى أى نرفعها ونضم بعضها إلى بعض، و (ننشرها) بالراء أى نبعثها ونحييها، والقراءتان متواترتان. (¬51) فى سبأ قرئ (فزع) بالبناء للمعلوم وللمجهول. وهما متواترتان، وقرئ (فرغ) بالراء والغين وهى شاذة. (¬52) يس وص والمتواتر (صيحة وزقية) وإن كانت بمعناها هى بالغة الشذوذ مخالفة لرسم المصحف. (¬53) القارعة والمتواتر ما فى المصحف. (¬54) وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ب يس قرئ بحذف الهاء وإثباتها، وهما متواترتان. (¬55) ومن يقول فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ الحديد 24 قرئ بحذف هو وإثباتها والقراءتان متواترتان. (¬56) كلمة (أنثى) زائدة على الرسم وهى فى غاية الشذوذ والمتواتر حذفها. (¬57) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ- التكوير قرئ بالضاد من الضن بمعنى البخل والكتمان، وبالظاء من الظنة وهى التهمة، وهما متواترتان.

منكم، وأشد منهم) على أنه قد فاته كما فات غيره أكثر أصول القراءات. كالإدغام، والإظهار، والإخفاء، والإمالة، والتفخيم، وبين بين، والمد، والقصر، وبعض أحكام الهمز، كذلك الروم، والإشمام، على اختلاف أنواعه، وكل ذلك من اختلاف القراءات، وتغاير الألفاظ مما اختلف فيه أئمة القراء، وقد كانوا يترافعون بدون ذلك إلى النبى صلّى الله عليه وسلم ويرد بعضهم على بعض، كما سيأتى تحقيقه وبيانه فى باب الهمز والنقل والإمالة، ولكن يمكن أن يكون هذا من القسم الأول فيشمل الأوجه السبعة على ما قررناه (¬58) أهـ. وما نقله ابن الجزرى- رحمه الله- عن ابن قتيبة هو بعينه ما حكاه القاضى الباقلانى عن بعض أهل العلم، لكن مع نوع تغير فى العبارات وتصرف فى زيادة بعض الأمثلة، وليس قولا مستقلا فى المسألة كما توهم شيخ أشياخنا الزرقانى، ولينظر قارئنا الكريم بشيء من الإمعان إلى هذا النص من تفسير القرطبى قال- رحمه الله: (القول الرابع: ما حكاه صاحب «الدلائل» عن بعض العلماء، وحكى نحوه القاضى ابن الطيب قال: تدبرت وجوه الاختلاف فى القراءة فوجدتها سبعا: منها: ما تتغير حركته، ولا يزول معناه ولا صورته مثل: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ وأطهر، وَيَضِيقُ صَدْرِي ويضيق. ومنها: ما لا تتغير صورته ويتغير معناه بالإعراب، مثل: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وباعد. ومنها: ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف، مثل قوله: نُنْشِزُها وننشرها. ومنها: ما تتغير صورته ويبقى معناه: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ وكالصوف المنفوش. ومنها: ما تتغير صورته ومعناه؛ مثل: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وطلع منضود. ومنها: بالتقديم والتأخير كقوله: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ، وجاءت سكرة الحق بالموت. ومنها: بالزيادة والنقصان، مثل قوله: «تسع وتسعون نعجة أنثى»، وقوله: «وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين»، وقوله: «فإن الله من بعد إكراههم لهن غفور رحيم» (¬59) أه. فهذا حصر ثلاثة من أكابر العلماء للأحرف السبعة أو الوجوه السبعة بين القراءات، وإن كان بينهم ثمة خلاف فقد رأى العلماء الخضرى والدمياطى وبخيت المطيعى أن الخلاف بينهم لفظى؛ لأن غاية الاختلاف بينهم اختلاف التعبير عن بعض الوجوه، وزيادة أبى الفضل الرازى اختلاف اللهجات، ¬

(¬58) النشر فى القراءات العشر، لابن الجزرى (ج 1 ص 26 - ص 28). (¬59) مقدمة تفسير القرطبى (ج 1 ص 45 وما بعدها).

بقاء الأحرف السبعة فى المصحف على هذا الوجه:

وهذه الزيادة يمكن ردها إلى الوجوه الأخرى فلا يبقى خلاف حقيقى؛ فابن الجزرى، وإن لم يذكر اختلاف اللهجات ضمن الوجوه، ولكنه أنكر على ابن قتيبة عدم ذكره. أما انحصار أمر التيسير فى النطق فليس بشرط، كما سبق أن وضحنا، حتى لا ينحصر التيسير فى الوجه السابع فقط، وهو اختلاف اللهجات. وهناك شبهة أوردها الحافظ وهى: أن القرآن نزل وأكثر العرب أميون وكانوا لا يعرفون الحروف إلّا بمخارجها. وإن كانت هذه الشبهة قد تنال فى الظاهر مما ذهب إليه ابن قتيبة، فقد ردّ الحافظ بأن ذلك لا يلزم؛ لأن هذا قد يكون وقع اتفاقا، وإنما اطلع عليه ابن قتيبة بالاستقراء. وقد زاد الشيخ الزرقانى هذا وضوحا حيث بيّن أن هذه الوجوه توصل إليها بالاستقراء، وكان يكفى المسلمين، وإن كانوا أميين فى هذا الوقت، أن يعرفوا أن وجوه الاختلاف سبعة، وإن لم يضعوا لهذه الوجوه عناوين؛ لأنهم يعرفون هذه الوجوه تطبيقا فى كل مفردات القرآن، ومثل ذلك عدم معرفتهم بالعناوين الخاصة بالإعراب والبناء، ولكنهم يعرفون النطق الصحيح الفصيح. وبذلك اتضح أن كون العرب أميين لا يعرفون العناوين التى ذكرت فى الوجوه السبعة هذا لا يعنى عدم وجودها؛ لأن هذه العناوين أسماء لمسميات وجدت كوجوه اختلاف بين القراءات، فهى وصف للواقع، وليست إنشاء له. بقاء الأحرف السبعة فى المصحف على هذا الوجه: بحثنا فى هذه المسألة لا يشمل الكلام على قرآنية الأحرف السبعة النازلة، ولا أوجه الخلاف بين القراءات كما صنع الأئمة الثلاثة: ابن قتيبة وأبو الفضل الرازى وابن الجزرى، لما كان فى كلامهم من كفاية الكلام على ما ذهب إليه الشيخان الجليلان محمد بخيت المطيعى والزرقانى من أن بعض الأحرف السبعة متواترة، وبعضها الآخر غير متواتر ومخالف للمصحف العثمانى فى الرسم فلم تكتب. حتى ادعى الشيخان نسخ ما لم يتواتر منها. والصحيح أن إثبات أصل القرآنية يحتاج لدليل التواتر، فنحتاج إلى ثبوت التواتر أولا فيما ادعيا فيه النسخ، وهذا هو المتسق لكلام الأصوليين وغيرهم ولمنطق العقل السليم. ونحن لا نوافق أيضا على ما ذهب إليه الشيخ المطيعى من لفظية الخلاف بين القائلين ببقاء الأحرف السبعة فى المصحف وبين القائلين ببقاء حرف واحد فقط كما قال الطبرى وغيره. وحاولنا لتفهم

ليست قراءات الأئمة السبعة تمام الأحرف السبعة:

كلام الشيخ أن نغض الطرف عن الخلاف بين القولين فى أن أحدهما يعقبه الكفر والآخر لا، وأن أصحاب القول الثانى يقولون: إنما أثبت من القراءات المشهورة ما وافق الرسم العثمانى فقطو كذلك غض النظر عن تفرقة الطبرى الغريبة بين جحد الحرف وجحد القراءة، إذا غضضنا الطرف عن هذا كله، سيبقى الخلاف عندنا حقيقيا، لما قلناه من عدم صحة دعوى النسخ لشىء من الأحرف السبعة النازلة. وكان سبيلنا لإثبات وجود الأحرف السبعة إيجاد مثال واحد فى القرآن، وقد كان تعليقنا على ما ذكرناه من نصوص الأئمة الثلاثة: ابن قتيبة والرازى وابن الجزرى ما فيه كفاية فى هذا الباب. ونلاحظ فى المثل المذكور فى هذه النصوص وحواشىّ عليها أن مثل الزيادة والنقص لا تكون من مصحف واحد. فلا تجتمع الزيادة والنقص فى مصحف واحد، ونلاحظ أيضا قلة أمثلة الإبدال فى تغير الحرف والصورة معا سواء تغير المعنى أم لا. ليست قراءات الأئمة السبعة تمام الأحرف السبعة: سبق لنا عرض نصّ الأبىّ فى شرح مسلم الذى نقل عن ابن عرفة المالكى أنه يرى أن الأحرف السبعة هى القراءات السبع، وأن قراءة يعقوب داخلة فيها، ولكن الإمام ابن الجزرى فى النشر ردّ هذا القول ونسبه للعوام، واحتج على من قال بأن الأحرف السبعة وجدت قبل وجود القراء السبعة، وقبل جمعها على يد ابن مجاهد فى القرن الرابع. وذكر فى موضع آخر أن مسألة بقاء الأحرف السبعة مفرعة على مسألة هل يجوز للأمة ترك شىء من الأحرف المتواترة؟ فمن منع أوجب أن تكون الأمة تقرأ بالأحرف السبعة إلى اليوم، وإلّا اجتمعت الأمة المعصومة على ضلالة. ولكنه ذكر أن القراءات السبعة أو العشرة المشهورة بالنسبة لما كان يقرأ به الصحابة والتابعون نزر من بحر. ونحن نوافق ابن الجزرى فيما قاله من إنكار أن تكون القراءات سبعة؛ لأن التواتر للقراءات لم ينحصر فى السبعة المشهورة وهى قراءات نافع وابن كثير وأبى عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائى، بل تعدى إلى قراءات الأئمة الثلاثة المتممة للعشرة وهم: أبو جعفر ويعقوب وخلف أحد راويى حمزة، فقد ذكر الجلال المحلى أن الأخير كانت اختياراته من أوجه فى السبعة، ولكنه صار وجها مستقلا به؛ ولذا صارت قراءة مستقلة. ولكننا لا نوافق الإمام ابن الجزرى فيما ذكره من أن القراءات السبع بالنسبة للقراءات التى كان يقرأ بها الصحابة والتابعون نزر من

بحر، والذى حمله على ذلك هو انخداعه بقول سابقيه من أمثال: أبى عباس المهدوى، وأبى محمد مكى، وأبى شامة، وابن تيمية، فى عدم اشتراط التواتر فى ضوابط القراءة المقبولة حتى نظم ابن الجزرى هذا الرأى فى «طيبة النشر» فقال: وكل ما وافق وجه نحوى ... وكان للرسم احتمالا يحوى وصحّ إسنادا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان وحيثما يختل ركن أثبت ... شذوذه لو أنه فى السبعة بل لقد أنكر ابن الجزرى على جماهير القراء والفقهاء والمحدثين اشتراطهم التواتر فى القراءة. ونحن نسأل ابن الجزرى: أين ذهبت القراءات التى هى سوى العشرة المشهورة والتى كان يقرأ بها السلف، مع الأخذ فى الاعتبار أنه لا تصح دعوى النسخ إلّا بإثبات أصل القرآنية بالتواتر، وإذا كان السلف يقرءون بها، فهى لم تنسخ لانقطاع الوحى، بل إن هذا القول يكذبه القرآن نفسه بقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. والخلاصة: أن القراءات السبع هى بعض أحرف القرآن السبعة لا كلها، وأن القراءات العشر المشهورة بين أيدى الناس اليوم هى جميع الأحرف السبعة التى أنزل الله عليها القرآن. وإن شئت قلت: الأحرف السبعة هى القراءات العشر بلا أدنى فرق بين العبارتين. والله أعلم. أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة مراجع للبحث والاستزادة: (1) اتحاف فضلاء البشر فى القراءات الأربع عشر، للشيخ أحمد الدمياطى الشهير بالبناء، طبع ونشر عبد الحميد أحمد حنفى. (2) الإتقان فى علوم القرآن، للسيوطى. (3) إكمال إكمال المعلم شرح مسلم، لأبى عبد الله الأبىّ، مكتبة طبرية، الرياض. (4) بذل المجهود فى حل أبى داود، للشيخ خليل أحمد السهارنفورى، ط دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. (5) البرهان فى علوم القرآن، لبدر الدين الزركشى. (6) جامع الترمذى. (7) جامع البيان عن تأويل آى القرآن، للطبرى. (8) جامع البيان فى القراءات السبع، لأبى عمر الدانى، قطعة من مقدمة حققها دكتور عبد المهيمن طحان ووضعها تحت عنوان «الأحرف السبعة للقرآن» دار المنارة للنشر والتوزيع، مكة المكرمة. (9) الجامع الصحيح، للبخارى. (10) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبى. (11) روح المعانى، للآلوسى. (12) زهر الربى شرح المجتبى، للسيوطى، ط المكتب العلمى، بيروت، لبنان. (13) سنن أبى داود. (14) شرح النووى لصحيح مسلم، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت، نشر مكتبة الغزالى، دمشق. (15) صحيح مسلم.

(16) عمدة القارى شرح صحيح البخارى، لبدر الدين العينى، ط دار إحياء التراث العربى، بيروت، لبنان. (17) عون المعبود شرح سنن أبى داود، لأبى الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادى، ط دار الحديث، القاهرة. (18) فتح البارى بشرح صحيح البخارى، للحافظ ابن حجر العسقلانى. (19) فضائل القرآن، للحافظ ابن كثير، ط عيسى البابى الحلبى. (20) الكلمات الحسان فى الحروف السبعة وجمع القرآن، للشيخ محمد بخيت المطيعى. (21) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ الهيثمى، ط دار الكتاب العربى، بيروت، لبنان. (22) المحتسب فى تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، لأبى الفتح عثمان بن جنى، تحقيق على النجدى ناصف والدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبى، نشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. (23) المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، لأبى شامة، د. طيار آلتى قولاج، دار وقف الديانة التركى للطباعة والنشر،- أنقرة. (24) مسند الإمام أحمد بن حنبل، ط الحلبى. (25) مناهل العرفان فى علوم القرآن، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى. (26) النشر فى القراءات العشر، لابن الجزرى، نشر عباس أحمد الباز، المروة، مكة المكرمة، ط دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

عروبة لغة القرآن، وهل يقدح فيها المعرب؟

عروبة لغة القرآن، وهل يقدح فيها المعرب؟ ترجم البخارى فى «جامعه الصحيح» بابا بعنوان (نزل القرآن بلسان قريش والعرب) وذكر فيه قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا، وقوله تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ثم ذكر طرفا من حديث أنس رضي الله عنه فى جمع القرآن، وفيه قول عثمان: (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم). وما ذكره الإمام البخارى يكشف عن أنه يرى أن قريشا لم يقتصر القرآن على لسانها، وإن كانت هى أسعد حظا به من غيرها؛ ولذا قدم لسان قريش ثم سائر العرب. ولا يعنى هذا عندى ما ذهب إليه الطبرى من تناكر ألسنة العرب وعدم ائتلافها بما يسبب اختلافا فى جواهر ألفاظها، وإنما أفهم منه اختلاف اللهجات فى النطق بالألفاظ؛ ولذا لم أره حسنا ما صنعه بعض الأئمة من عقد أنواع مخصوصة فى كتبهم لما ورد فى القرآن بغير لغة الحجاز، منهم الزركشى والسيوطى، فعدوا سبعا وثلاثين لغة. وما أحسب إلّا الاتفاق فى جواهر الألفاظ هو الذى سوغ جمع هذه الألسنة فى لسان واحد فى قوله تعالى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ، وقوله فى سورة الشعراء: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، ولو كانت مختلفة الجواهر لجمعها كما فى قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ. ولكنّ هذا لا يعنى استيعاب القرآن لكل لهجات العرب، بل اصطفى منها ما لا تنفر الآذان منه، فقد نقل الزركشى عن قاسم بن ثابت (¬1) فى كتابه «الدلائل» أن من الأحرف ما لقريش ولكنانة ولأسد وهذيل وتميم وضبة وألفافها وقيس. ونقل قولا آخر: أن مضر تستوعب اللغات التى نزل بها القرآن؛ لأن قبائل مضر تستوعب سبع لغات وتزيد. ونقل الزركشى عن ابن عبد البر: أن قوما أنكروا كون كل لغات مضر فى القرآن؛ لأنها تشتمل على شواذ لا يقرأ بها. كشكشة قيس وهى قلب الكاف شينا، وعنعنة تميم وهى قلب الهمزة عينا، وكذلك ¬

(¬1) هو القاسم بن ثابت بن حزم بن عبد الرحمن بن مطرف بن سليمان العوفى السرقسطى الأندلسى أبو محمد، عالم بالحديث واللغة والفقه، توفى سنة 320 هـ. فهرست ابن خير ص 191، بغية الوعاة ص 374؛ نفح الطيب 1/ 255. وكتابه الدلائل فى غريب الحديث ومعانيه.

إبدالهم السين تاء. وما نقل عن عثمان أن القرآن نزل بلسان مضر. معارض بحديث أنس أنه نزل بلغة قريش. (¬2) وقد ذكر أبو نصر الفارابى فى كتابه (الألفاظ والحروف) أن أحسن لسان لسان قريش وأجوده وأسهله، وعنها أخذ اللسان العربى من قيس وتميم وأسد، فهؤلاء هم أكثر من أخذ عنهم، وتركت قبائل لمجاورتها الأعاجم وغير العرب، ولم يؤخذ عن حضرى ولا أحد من سكان البرارى. (¬3) والمقصود من هذا البحث: أن القرآن الكريم جاء بأصفى ألفاظ اللغة العربية وأعذبها وأفصحها، مما لا يمكن أن يخدش عربية لغة القرآن، بحيث لا تجد لفظا واحدا فيه إلّا وله أصالة فى العربية، أمّا ما يدعيه البعض من وجود ألفاظ أعجمية فى القرآن، فليس فى القرآن لفظ أعجمى لا يعرفه العربى أو لم يستعمله، وكيف يصحّ خلاف ذلك والقرآن يكذبه عند ما يبين أنه نزل بلسان عربى، وهذا يقتضى أن اسم الشيء ووصفه المخلوع على اسمه معا يجب أن يحمل على جميعه كما هو متبادر، وعليه يكون جميع القرآن عربيا، وقد قال- عزّ وجلّ- فى ردّه على من زعم أن النبىّ يعلمه بشر فقال: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (¬4) وقال عزّ وجلّ: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ (¬5). فالكلمة إذا كانت عربية ولكنها حوشية مجهولة لم تكن توصف بالفصاحة، فكيف بالكلام الأعجمى مجهول اللفظ والمعنى، ولو كان فى القرآن أعجمى لبادر العرب بإنكاره على القرآن. فمن ينفى وجود الأعجمى فى القرآن إنما يقصد الذى لا تعرفه العرب ولا تستعمله، ومن قال بوجوده فهو يقصد الذى عرفه العرب واستعملوه حتى لان وانقاد للسانهم، وهكذا يكون الخلاف بين الفريقين لفظيا؛ لأنه توارد على محلين لا محل واحد. وعلى هذا التحرير يحمل ما نقله الزركشى عن جمهور العلماء، من عدم وجود غير العربى فى القرآن، ومنهم: أبو عبيدة والطبرى والقاضى أبو بكر بن الطيب فى «التقريب» وابن فارس اللغوى والشافعى فى «الرسالة»، ونقل عن الشافعى ردّه على القائلين بوقوع الأعجمى فى القرآن. (¬6) وحكى عن ابن فارس عن أبى عبيدة أنه أنكر قول القائلين بوقوع غير العربى فى القرآن؛ لأنه لو كان واقعا لتوهم متوهم أن العرب عجزت عن الإتيان بمثله؛ لأنه يشتمل على غير لغاتهم؛ ولذا أبطل القراءة بالفارسية فى الصلاة لعدم ¬

(¬2) البرهان فى علوم القرآن، للزركشى، ج 1، ص 219 فما بعدها. (¬3) البيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن عن طريق الإتقان، للشيخ طاهر الجزائرى، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ص 84 وما بعدها. (¬4) سورة النحل آية (103). (¬5) سورة فصلت آية (44). (¬6) الرسالة (ص 40)، تحقيق أ. أحمد محمد شاكر، ط مصطفى الحلبى سنة 1940 م.

إعجاز الترجمة، ورأى أن من جوز القراءة بالفارسية فليجوزها بكتب التفسير. ثم نقل عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما القول بوقوع غير العربى فيه. (¬7) أما السيوطى فقد ذكر أنه أفرد هذه المسألة بالتصنيف فى كتاب «المهذب فيما وقع فى القرآن من المعرب» ملخصه: أن العلماء اختلفوا فى وقوع المعرب فى القرآن، فالأكثرون منهم: الشافعى، والطبرى، وأبو عبيدة، والقاضى أبو بكر، وابن فارس، على عدم وقوعه فيه لقوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا وقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ. وشدد الشافعى النكير ثم ذكر قول أبى عبيدة السابق ذكره، وذكر أن ابن جرير نقل عن ابن عباس وغيره تفسير بعض ألفاظ القرآن بأنها حبشية أو فارسية أو نبطية، من باب توارد اللغات، فقد تكلم العرب والفرس والحبش بلفظ واحد، ونقل قولا آخر أن ذلك جاء لنزول القرآن بلغة العرب العاربة، الذين كانت لهم مخالطة بألسنة غيرهم فى الأسفار، ونقل ثالثا يقول: إن هذه الألفاظ عربية صرفة، ولغة العرب متسعة فقد تخفى على الأكابر. ونقل ذلك عن أبى المعالى عزيزى بن عبد الملك، ونقل قولا رابعا بوقوعه فيه، وأجابوا عن قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا أنها كلمات يسيرة لا تخرجه عن كونه عربيا، وعن قوله تعالى: ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ أن المعنى أكلام أعجمى ومخاطب عربى، واستدلوا أيضا باتفاق النحاة على منع صرف (إبراهيم) للعلمية والعجمة. وردّ هذا الاستدلال بأن الأعلام ليست محل الخلاف، ولكنهم وجّهوه بأن تجويزه فى الأعلام يجوزه فى الأجناس. ونقل السيوطى أن أقوى دليل لهم- وهو اختياره- ما رواه الطبرى عن أبى ميسرة التابعى قال: فى القرآن من كل لسان. بسند صحيح. وروى مثله عن سعيد بن جبير ووهب ابن منبه، وعليه يكون فى القرآن إشارة إلى أنواع اللغات والألسنة ليتم إحاطته بكل شىء. ثم ذكر عن ابن النقيب قوله فى أن القرآن جمع كل اللغات. ثم استدل السيوطى بأن الرسول صلّى الله عليه وسلم مرسل للعالمين، فلا بد أن يجمع القرآن كل اللغات. ونقل عن الخويّيّ (¬8) أنه ذكر فائدة أخرى لوقوع المعرب فى القرآن، وهو: أن المعرب الواقع فى القرآن لا يسع الفصيح إلّا استعماله، وضرب لذلك مثالا ب (إستبرق) بأن عظمة الوعد تكون بالوعد بالملبس الناعم، والحرير كلما كان أثقل كان أرفع، فوجب على الفصيح أن يذكر الحرير الأثخن ¬

(¬7) البرهان فى علوم القرآن: (ج 1 ص 287) وما بعدها. (¬8) الخويّيّ: بضم الخاء وفتح الواو وتشديد الباء وهو شمس الدين أحمد بن حنبل بن سعادة الخويّيّ الشافعى، صاحب الإمام فخر الدين الرازى، كان فقيها مناظرا وأستاذا فى الطب والحكمة. توفى سنة 638 هـ ونسبه إلى خوبى مدينة بآذربيجان (شذرات الذهب 5/ 183).

الأثقل، وهذا هو الإستبرق، ولو أراد أن يأتى بكلمة عربية واحدة فلن يستطيع؛ لأنها لن تكون فى نفس درجة الفصاحة، أو لا توجد؛ لأن العرب عرفوا الحرير عن العجم والديباج الثقيل لا وضع لهم فيه، فاكتفوا بتعريب (الإستبرق)، ولو لم يستعمل (الإستبرق) لتكلم بكلمتين، والكلمة الواحدة أوجز. ثم نقل عن أبى عبيد القاسم بن سلام حكايته القول بالوقوع عن الفقهاء، ثم نقل جمعه بين القولين بأن جعل هذه الكلمات أصولها أعجمية، وهذا به يصدق قول الفقهاء، ولكن العرب عرّبوها فصارت عربية. وإلى هذا الجمع ذهب الجواليقى وابن الجزرى وآخرون أه. (¬9) قلت: ما ذكره السيوطى عن أبى عبيد عقّب عليه ابن فارس فأنكر على أبى عبيد أنه نسب القائلين بوقوع المعرب فى القرآن للجهل، ولكنه وافقه فى الجمع فقال: «فالقول إذن ما قاله أبو عبيد، وإن كان قوم من الأوائل قد ذهبوا إلى غيره». (¬10) والكلام فى هذه المسألة مبسوط فى كتب فقه اللغة وأصول الفقه وفيه مصنفات مفردة كالجواليقى وما ذكره السيوطى فى كتابه. وقد جمعنا لك خلاصته. ثم السيوطى جمع كل ما قيل فيه معرب ورتبها على حروف المعجم، ونحن نكتفى بالمثال الذى أوردناه عن الخويّيّ فى (الإستبرق). أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة ¬

(¬9) الإتقان فى علوم القرآن: (ج 2 ص 125 - ص 129). (¬10) انظر: الصاحبى، لابن فارس، (ص 29).

غريب القرآن

غريب القرآن عرّف السعد التفتازانى فى شرحه «لتلخيص المفتاح» الغرابة بأنها: «كون الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى ولا مأنوسة الاستعمال» ثم قال: «لا يقال الغرابة كما يفهم من كتبهم: الكلمة، غير مشهورة الاستعمال، وهما فى مقابلة المعتادة، وهى بحسب قوم دون قوم. والوحشية، هى المشتملة على تركيب ينفر الطبع منه وهى فى مقابلة العذبة، فالغريب يجوز أن يكون عذبا، فلا يحسن تفسيره بالوحشية، بل الوحشية قيد زائد لفصاحة المفرد، وإن أريد بالوحشية غير ما ذكرنا، فلا نسلم أن الغرابة بذلك المعنى تخل بالفصاحة، لأنا نقول هذا أيضا اصطلاح مذكور فى كتبهم، حيث قالوا: الوحشى منسوب إلى الوحش الذى يسكن القفار استعيرت للألفاظ التى لم يؤنس استعمالها. والوحشى قسمان: غريب حسن، وغريب قبيح. فالغريب الحسن: هو الذى لا يعاب استعماله على العرب؛ لأنه لم يكن وحشيا عندهم، وذلك مثل: شرنبث واشمخر واقمطر. وهى فى النظم أحسن منها فى النثر، ومنه غريب القرآن والحديث. والغريب القبيح: يعاب استعماله مطلقا، ويسمى الوحشى الغليظ، وهو: أن يكون مع كونه غريب الاستعمال ثقيلا على السمع كريها على الذوق ويسمى المتوعر (¬1) أيضا» أه. وقال عبد الحكيم السيالكوتي- رحمه الله- تعقيبا على قول السعد: «فالغريب الحسن هو الذى لا يعاب استعماله على العرب. اعلم أن الألفاظ على ثلاثة أقسام: منها ما هى مستعملة مطلقا كالأرض والسماء، فلا يعاب استعماله على أحد، ومنها ما هى مستعملة فى العرب العرباء غير مستعملة فى غيرهم، فلا يعاب استعمالها عليهم ويعاب على غيرهم، ومنه غريب القرآن والحديث- ومنها ما هى غير مستعملة مطلقا، فيعاب استعمالها على الكل، فمنه ما هو كريه على الذوق والسمع كجحيش (¬2)، ومنه ما هو غير مكروه كتكأكأتم وافرنقعوا» (¬3)، وإليه أشار الشارح رحمه الله بقوله- فيما سيأتى فى وجه النظر- من أن الجرشى (¬4) إما من قبيل تكأكأتم أو جحيش، فعلم مما ذكرنا أن قوله: والوحشى قسمان ليس المقصود منه الحصر بل مجرد إطلاق الغريب على الوحشى. ¬

(¬1) ص 18 وقوله مثل: شرنبثا واشمخر واقمطر قال عبد الحكيم السيالكوتي فى حاشيته على المطول: أى غليظ الكفين والرجلين، ويراد به الأسد، والنون فيه زائدة بدليل شرابث واشمخر ارتفع واقمطر تفرق واشتد أو وفر واجتمع. ص 30. (¬2) هو كالفريد وزنا ومعنى وهو المتنحى عن الناس، قال أبو حنيفة ابن النعمان اللغوى: الجحيش: الفريد الذى لا يزحمه فى داره مزاحم يقال: نزل جحيشا، كما يقال: نزل حريدا فريدا. انظر: اللسان فى هذه المادة. (¬3) تكأكأتم أى اجتمعتم (وافرنقعوا) أى تفرقوا أو انصرفوا كما فى شرح السعد نفسه. (¬4) الجرشى- هى بكسر الجيم والراء وفتح الشين مع تشديدها بعدها ألف (النفس) كما أفاده السعد نفسه انظر المطول ص 19: وانظر: القاموس واللسان فى هذه المادة.

ثم ذكر أن عدم الغرابة المعتبرة «هى عند العرب العاربة لا عند غيرهم، فلا تعتبر الغرابة عند غيرهم وجودا ولا عدما (¬5)» إذن الغريب قسمان: (1) قبيح غير مأنوس الاستعمال لدى جمهور العرب العاربة، وهو عيب يخل بالفصاحة، ولذا لا يشتمل القرآن على شىء منه؛ لأنه إن وجد جرّ لنسبة الجهل أو العجز له سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، كما يقول السعد فى شرحه «لمختصر التلخيص» (¬6) قلت: «أو السفه والعبث؛ لأنه- سبحانه وتعالى- إن لم يعلم بعدم فصاحة الكلمة لزم نسبة الجهل إليه، وإن علم فلم يستطع وضع الفصيح لزم العجز، أو استطاع ولم يضع، لزم العبث بتعريض القرآن لما يسقط حجيته، ونبيه لما يذهب نبوته؛ ولذا لا شىء منه فى كلام الله- سبحانه وتعالى- ولا كلام نبيه صلّى الله عليه وسلم.» (2) حسن مأنوس لدى جمهور العرب الخلّص، وإن غمض على من سواهم بقدر ما يجهلون من مدلول اللغة، أما العرب لا يتصور فى حقهم الجهل بهذا القسم، وإلا صار كالأول وللزمت منه مفسدة فوق ما ذكرنا، وهى التناقض بأن نجعله عند العرب حسنا مأنوس الاستعمال، ونجعله كذلك عندهم قبيحا مهجور الاستعمال، وكذلك يستلزم اختلال القسمة؛ لأن المقسوم ليس أعم من أقسامه، بل القسم الواحد هو عين مقسومة وهو عين القسم الآخر فالغريب ليس أعم من القبيح بل هو عين القبيح، والقبيح هو عين الحسن فليس هناك قسمة. والذى دفعنا لهذا التفصيل هو غفلة بعض أصحاب الرواية عنه، وهم الذين يشترطون لصحة الحديث خلوه من الشذوذ والعلة، ومع ذلك ينقلون عن جماهير الصحابة أنهم كانوا- وهم العرب الخلص- يجهلون مدلول اللغة، وهذا يستلزم جميع المعانى السابق ذكرها، ودفعهم إلى ذلك حرفيتهم فى اتباع صحة السند ما رواه أبو عبيد القاسم وابن سعد عن أبى بكر الصديق وعمر- رضى الله عنهما- فى عدم معرفة (الأب) فى قوله تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا، وإن كان ابن كثير أعلّ الأثر المروى عن أبى بكر بالانقطاع؛ لعدم إدراك إبراهيم التيمى- الراوى عن أبى بكر- أبا بكر الصديق، ولكنه لعله رفعه لدرجة الحسن بالأثرين الشاهدين له عن عمر رضي الله عنه، وتكلف ابن كثير فى تأويل الأثر بأن عمر رضي الله عنه أراد استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتا فى الأرض معلوم لقوله تعالى: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وكان يكفى الحافظ إعلال متن الأثر بما سبق أن ذكرنا من علة متمثلة فى المفاسد السابقة. ¬

(¬5) انظر: المصدر نفسه. (¬6) انظر: شروح التلخيص (ص 82) من أعلى.

أسباب أخرى لغرابة هذا القسم الحسن لدى العرب الخلص: قدمنا بأن جهل العرب الخلص بمدلول القسم الحسن من الغريب غير مقصود؛ لذا فهناك أسباب أخرى غير الجهل منها: (أ) تعنت مشركى قريش وتجاهلهم فى فهم الواضحات تلبيسا على القرآن والنبى صلّى الله عليه وسلم كسؤالهم عن الرحمن فيما أورده القرآن فى قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (¬7). وقد بيّن أبو حيان فى «تفسيره» أنهم استفهموا عن (الرحمن) وهم عالمون به (¬8). وذلك كما صنع فرعون حيث جحد الحقيقة عند ما سأل عن رب العالمين وهو يعلم حقيقة الأمر وحقيقة الإطلاق والاستعمال. وما استظهره أبو حيان هو عين ما استظهره الآلوسي وهو الحق الذى لا ريب فيه. فهم يعلمون من الاشتقاق أن هذا الاسم مشتق من صفة الرحمة للدلالة على المبالغة فيها. (ب) واستهداف المشركين إظهار القرآن فى مظهر السابق المتهافت والعابث اللاهى، ويظهر هذا بوضوح عند تشبيههم على شجرة الزقوم وهم يقولون: النار تأكل الشجر فكيف تنبت فيه شجرة. وقال آخر: ما الزقوم إلا التمر بالزبد وأنا أتزقمه فردّ عليه القرآن بقوله تعالى: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (¬9) وقد ذكر البغوىّ فى تفسير هذه الآيات أن ابن الزبعرى قال لصناديد قريش: إن محمدا يخوفنا بالزقوم؛ فجمعهم أبو جهل فى بيته وقال لجارية: زقمينا، فأتتهم بالزبد والتمر فقال: تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمدا فقال تعالى: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (¬10). وغير ذلك من النماذج من هذا النمط الخبيث، من نحو سخريتهم من عدد التسعة عشر لخزنة النار، على ما جاء فى سورة المدثر، وحمل اليهود استقراض الله خلقه على حقيقته لا على مجازه أو الاستعارة التمثيلية حتى قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ، واستشكال نصارى نجران من أخوّة ¬

(¬7) سورة الفرقان آية (60). (¬8) البحر المحيط (ج 6 ص 509). (¬9) سورة الصافات آيات (62 - 68). (¬10) تفسير البغوى المسمى بمعالم التنزيل، بهامش تفسير الخازن المسمى ب (لباب التأويل فى معانى التنزيل) (ج 6 ص 23) وما بعدها.

مريم لهارون، وهى أخت موسى- عليهما السلام- فكان القرآن يرد بحسم على تشبيهاتهم وسفههم. وكذلك النبىّ صلّى الله عليه وسلم عند ما ردّ على نصارى نجران بأنهم كانوا يسمون بأنبيائهم وصالحيهم (¬11). (ج) الفهم الخاطئ عن حسن قصد لبعض نصوص التنزيل؛ بسبب النقص فى أدوات الاجتهاد الأخرى، مما يدفع للتسرع والعجل، وقد وقعت نماذج من ذلك من الصحابة رضى الله عنهم، وكأنه- سبحانه- أراد أن ينبه على وجود التزام أقصى غايات الاحتياط وبذل الجهد فى فهم الكتاب العزيز؛ لأن الصحابة الذين شهدوا منازل الوحى يقع منهم مثل هذا، فعلى الجميع أن يتحروا التقوى وبذل أقصى الجهد فى فهم الكتاب، وسنعرض نموذجين فقط من هذه النماذج وهما: (1) ما وقع فى فهم بعض الصحابة لقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، فالمجاز المشهور الذى يكاد يلحق بالحقيقة، أن المقصود بالخيط الأبيض بياض النهار، والخيط الأسود سواد الليل، ثم نزل البيان المانع من حمل معنى الخيطين على الحقيقة، وهو قوله- تعالى-: مِنَ الْفَجْرِ ولكن بعض الصحابة حملوا المعنى على الحقيقة فجاء بخيطين: أبيض وأسود، وربطهما في قدميه، وظل يأكل حتى يتبين كل واحد من الآخر، حتى نزل البيان بقوله: مِنَ الْفَجْرِ هكذا فى رواية البخارى (¬12) التى نقلها الحافظ ابن كثير فى تفسيره، ثم ذكر روايات أخرى فقال: «وقال الإمام أحمد: حدثنا هشام أخبرنا حصين عن الشعبى أخبرنى عدى بن حاتم قال لما نزلت هذا الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ عمدت إلى عقالين: أحدهما أسود، والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتى. قال: فجعلت أنظر إليهما، فلما تبين لى الأبيض من الأسود أمسكت، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته بالذى صنعت فقال: إن وسادك إذا لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل». أخرجاه فى الصحيحين (¬13) من غير وجه عن عدى. ويعنى قوله: «إن وسادك إذا لعريض أى: إن كان ليسع الخيطين الأسود والأبيض المراد بهذه الآية تحته، فيقتضى أن يكون بعرض المشرق والمغرب. وهكذا وقع فى رواية البخارى (¬14) مفسرا بهذا: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو ¬

(¬11) أخرجه مسلم (كتاب الآداب- باب النهى عن التكنى بأبى القاسم ... )، والترمذى (كتاب التفسير- باب من سورة مريم) وقال: (حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس). (¬12) صحيح البخارى (كتاب التفسير- سورة البقرة باب (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) .. إلخ). (¬13) انظر نفس المصدر السابق، وصحيح مسلم كتاب الصيام باب بيان أن الدخول فى الصوم يحصل بطلوع الفجر ... إلخ). (¬14) نفس الموضع من الجامع الصحيح.

عوانة عن حصين عن الشعبى عن عدى قال: أخذ عدى عقالا أبيض وعقالا أسود حتى إذا كان بعض الليل نظر فلم يستبينا، فلما أصبح قال: يا رسول الله جعلت تحت وسادتى ... قال: «إن وسادك إذا لعريض، إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك». وجاء فى بعض الألفاظ «إنك لعريض القفا». ففسره بعضهم بالبلادة. وهو ضعيف، بل إذا صح فإنه يرجع إلى هذا؛ لأنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضا عريض. والله أعلم. ويفسره رواية البخارى (¬15) أيضا: حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن مطرف عن الشعبى عن عدى بن حاتم قال: قلت يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان؟ قال «إنك لعريض القفا، إن أبصرت الخيطين، ثم قال لا بل هو سواد الليل وبياض النهار». انتهى المقصود منه (¬16). (2) النموذج الثانى: ما وقع من بعض الصحابة فى فهم قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (¬17) فقد فهمت عائشة- رضى الله عنها- أن المنة والنعمة من الله فى تخفيف الحساب، فوقع عندها تعارض بين معنى الآية وحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذّب». فبين لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وجه الصواب. والقصة كما أخرجها البخارى ومسلم والترمذى وأبو داود من حديث ابن أبى مليكة قال: إن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وإن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: «من نوقش الحساب عذب». فقالت: أليس يقول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً، فقال: «إنما ذلك العرض، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك». وفى رواية: «وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب». وفى أخرى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس أحد يحاسب إلا هلك». قلت: يا رسول الله، جعلنى الله فداك، أليس الله تعالى يقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال: «ذلك العرض تعرضون، ومن نوقش الحساب هلك» (¬18) إلى غير ذلك من نماذج هذا اللون الواقعة فى عهده صلّى الله عليه وسلم وهى أفراد قليلة على أية حال. (د) أن يقع عام يراد به الخصوص، أو يخصص بما يقع به البيان من كتاب أو سنة فلا يعلم المراد إلا بذلك البيان. (هـ) أن يقع مطلق فيقع تقييده من بيان القرآن أو السنة فيحتاجون لمعرفة البيان. (و) أن يقع مجمل يبينه الكتاب أو السنة كذلك فيتوقف فهم المراد على هذا البيان. ¬

(¬15) نفس الموضع. (¬16) تفسير ابن كثير ج 1 ص 221. (¬17) سورة الانشقاق آية (7 - 9). (¬18) رواه البخارى (1/ 176) فى كتاب العلم- باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه ... )، ومسلم فى (الرقاق- باب من نوقش الحساب عذب) (رقم 2876)، وأبو داود (رقم 3093) فى الجنائز (باب عيادة النساء)، والترمذى (رقم 2428)، فى (صفة القيامة- باب من نوقش الحساب عذب) انظر جامع الأصول (ج 10 ص 432) وما بعدها.

(ز) أن يأتى مبهم من مبهمات القرآن وقع بيانها فى الكتاب أو السنة، كتفسير لفظ: (خليفة) فى قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فجاء البيان فى القرآن بأنه (آدم) عليه السّلام، وكذلك (العبد الصالح) فى آية الكهف: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً، فجاء البيان فى السنة فى حديث البخارى الطويل بأنه الخضر عليه السّلام. (ح) تبادر أن للمنطوق مفهوما ثم يبين صاحب الشريعة أنه لا مفهوم له- كما فى حديث آية قصر الصلاة فى السفر: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فإن قيد إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لا مفهوم له، بيّن لهم ذلك المصطفى صلّى الله عليه وسلم حين قال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته» (¬19) وذلك جواب على استفسار بعض الصحابة الذين أشكل عليهم فهم الآية؛ لأن القيد هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن غالب أسفارهم كانت مخوفة. وكذلك خرج القيد مخرج الغالب فى قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً وقوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ. (ط) أن تراد الحقيقة الشرعية (عند القائلين بوقوعها) وهى دون الحقيقة اللغوية فيحتاجون للبيان من الشارع. فهذه تسعة أسباب لوقوع هذا القسم من الغريب للعرب الخلص من الصحابة، ثم امتنعت خطوات الحديث عن الغريب بعد عصر النبوة، وفى عصر الصحابة ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم، وكلما طال الزمان على الناس، احتاجوا إلى البيان وإلى المزيد منه، ثم اتسعت الدولة الإسلامية وظهر المولدون وذهب العرب الخلص، فصار الاحتياج إلى ما كان ظاهرا بينا، حتى سرى إلى كثير من العامة وإلى بعض الخاصة، فصنفت كتب النحو والصرف والبلاغة والمعاجم وفقه اللغة، وأفردت المصنفات فى غريب القرآن، وبيان أن اللفظ لا تتوقف معرفته على معرفة حقيقته؛ لأن حمله على الحقيقة اللغوية قد يسبب مفاسد عظيمة فى فهم النص الشرعى، وأوضح من دلل على فائدة معرفة معانى مفردات غريب القرآن الراغب الأصفهانى فى مقدمة كتابه «المفردات»، فقد بيّن أن أول درجات الوصول لمعانى القرآن فهم مفرداته، بل هى أول درجات إتقان العلوم المختلفة؛ لأن ألفاظ القرآن هى لب كلام العرب، وذكر أنه فى كتابه سيبين الألفاظ القرآنية ويبين مناسبتها لسياقها والاشتقاقات وكذلك الألفاظ المستعارات منها (¬20). ¬

(¬19) الحديث أخرجه البخارى ومسلم وأصحاب السنن. (¬20) مقدمة المفردات: (ص. د، هـ).

وقال السيوطى فى «الإتقان»: «أفرده (يعنى بيان الغريب) بالتصنيف خلائق لا يحصون منهم: أبو عبيدة، وأبو عمر الزاهد، وابن دريد، ومن أشهرها (كتاب العزيزى)؛ فقد أقام فى تأليفه خمس عشرة سنة، يحرره هو وشيخه أبو بكر بن الأنبارى، ومن أحسنها (المفردات) للراغب، ولأبى حيان فى ذلك تأليف مختصر فى كراسين. قال ابن الصلاح: وحيث رأيت فى كتب التفسير: (قال أهل المعانى)، فالمراد به مصنفو الكتب فى معانى القرآن، كالزجاج، والفراء، والأخفش، وابن الأنبارى». انتهى. وينبغى الاعتناء به، فقد أخرج البيهقى من حديث أبى هريرة مرفوعا: «أعربوا القرآن، والتمسوا غرائبه»، وأخرج من حديث ابن عمر مرفوعا: «من قرأ القرآن فأعربه كان له بكل حرف عشرون حسنة، ومن قرأه بغير إعراب كان له بكل حرف عشر حسنات». المراد بإعرابه معرفة معانى ألفاظه، وليس المراد به الإعراب المصطلح عليه عند النحاة، وهو ما يقابل اللحن؛ لأن القراءة مع فقده ليست قراءة، ولا ثواب فيها. وعلى الخائض فى ذلك التثبت، والرجوع إلى كتب أهل الفن وعدم الخوض بالظن (¬21) أه. وقد قام مجمع اللغة العربية بمصر بتصنيف مصنف نفيس فى هذا الباب باسم (معجم ألفاظ القرآن الكريم) استفاد واضعوه من جميع كتب التفسير. أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة ¬

(¬21) الإتقان فى علوم القرآن: (ج 2 ص 3).

مصادر ومراجع للاستزادة والبحث فى: (1) الإتقان فى علوم القرآن، للسيوطى. (2) البحر المحيط، لأبى حيان، ط 1 دار الفكر، بيروت. (3) البرهان فى علوم القرآن، للزركشى. (4) التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريق الإتقان، للشيخ ظاهر الجزائرى، تحقيق الأستاذ الدكتور عبد الفتاح أبو غدة، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب. (5) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير. (6) جامع الترمذى. (7) الجامع الصحيح للبخارى. (8) حاشية السيالكوتي على المطول، ج 1، استنبول. (9) الرسالة، للإمام الشافعى، تحقيق وشرح الأستاذ أحمد شاكر. (10) روح المعانى، للآلوسى. (11) الصاحبى فى فقه اللغة، لابن فارس. (12) صحيح مسلم. (13) مختصر السعد التفتازانى ضمن شروح التلخيص ط/ عيسى الحلبى. (14) المطول فى شرح تلخيص المفتاح له، ج 1 بهمن بقم- نشر مكتبة آية الله العظمى المرعشى النجف بقم- إيران. (15) معالم التنزيل للبغوى بهامش تفسير الخازن المسمى لباب التأويل فى معانى التنزيل ج 1 مصطفى الحلبى. (16) المفردات فى غريب القرآن، للراغب الأصبهانى ط 1 مصطفى الحلبى.

منطوق القرآن ومفهومه

منطوق القرآن ومفهومه المنطوق لغة: اسم مفعول من النطق، فهو كالملفوظ وزنا ومعنى، ففي «القاموس»: النطق: التكلم بصوت مرتفع وحروف تعرف بها المعانى. والمفهوم لغة: المعنى المستفاد من اللفظ المنطوق، فهو اسم مفعول من الفهم بمعنى العلم، فالمنطوق: اللفظ، والمفهوم: معناه. ولأهل أصول الفقه اصطلاحان مشهوران فيهما: أحدهما لابن الحاجب يخالف فيه الآمدى والجمهور، فيعرف المنطوق بأنه: دلالة اللفظ على معنى فى محل النطق بأن يكون ذلك المعنى حكما للمذكور. ويعرف المفهوم بأنه: دلالته (أى اللفظ) على معنى لا محل النطق بأن يكون ذلك المعنى حكما لغير المذكور. فالمنطوق والمفهوم عنده قسمان للدلالة اللفظية. وثانيهما للآمدى والجمهور فيعرفون المنطوق بأنه: ما (أى معنى) دل عليه اللفظ فى محل النطق. والمفهوم بأنه: ما دل عليه اللفظ لا فى محل النطق. وبهذا هم يجعلونهما من أقسام المدلول لا للدلالة. والفرق بين الدلالة والمدلول: أن الدلالة كون اللفظ. بحيث يفهم منه المعنى، أما المدلول فهو نفس معنى اللفظ. ولا شك أن الجمهور لا يقصر المنطوق على الحكم بل يعديه ليشمل الذوات. وكذلك يشمل عندهم: (النص): وهو ما لا يحتمل إلا وجها واحدا من التأويل. و (الظاهر): ما يحتمل وجهين وأريد الراجح منهما لتبادره للفهم بنفسه. و (المؤول): وهو ما احتمل وجهين وحمل على المرجوح منهما لدليل استوجب صرفه عن الراجح إليه. وبهذا يتضح أن المنطوق عندهم يكون حقيقة كما فى النص والظاهر يكون مجازا كما فى المؤول. ولقد حرر هذه المسألة تحريرا بديعا العلامة الشربينى فى تقريره على «حاشية البنانى على شرح الجلال المحلى لجمع الجوامع» عند تعريف ابن السبكى للمنطوق بأنه ما دل عليه اللفظ فى محل النطق.

فقال: «اعلم أن ابن الحاجب جعل المنطوق والمفهوم أقساما للدلالة قال: المنطوق: دلالة اللفظ على معنى فى محل النطق، بأن يكون ذلك المعنى حكما للمذكور. والمفهوم: ودلالته على معنى لا فى محل النطق بأن يكون ذلك المعنى حكما لغير المذكور. ثم قسم المنطوق- وهو تلك الدلالة- إلى صريح، وغير صريح، فالصريح: دلالة اللفظ بالمطابقة أو التضمن. وغير الصريح دلالته على ما لم يوضع له بل يدل عليه بالالتزام وهو دلالة الاقتضاء والإيماء والإشارة. فدلالة فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ على تحريم التأفيف منطوق صريح، وعلى تحريم الضرب مفهوم ودلالة، «تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلى». على أن أكثر الحيض وأقل الطهر خمسة عشر يوما منطوقا غير صريح، وعلى هذا فالمنطوق خاص بالحكم دون الذوات. وقال الآمدى بعد ذكر الاقتضاء وغيره من هذه الأنواع التى جعلها ابن الحاجب أقساما لغير الصريح قبل ذكر المنطوق والمفهوم: أما المنطوق، فقد قال بعضهم: هو ما فهم من اللفظ فى محل النطق وليس بصحيح، فإن الأحكام المضمرة فى دلالة الاقتضاء- كما ذكرناه- مفهومه من اللفظ فى محل النطق، ولا يقال لشىء من ذلك منطوق اللفظ، فالواجب أن يقال: المنطوق: ما فهم من دلالة اللفظ نطقا فى محل النطق. انتهى. قال العلامة التفتازانى: «جعل المنطوق والمفهوم من أقسام الدلالة يحوج إلى تكلف عظيم فى تصحيح عبارات القوم، لكونها صريحة فى كونها من أقسام المدلول- كما فى كلام الآمدى- فالمصنف- رحمه الله- تابع القوم فى ذلك لعدم التكلف مع قصور عبارة ابن الحاجب عن تناول مدلول نحو: زيد، مما هو ذات لا حكم مع تصريح إمام الحرمين وغيره بأن النص والظاهر من أقسام المنطوق، ولا خفاء فى أن نحو: زيد والأسد، من جملة النص والظاهر (¬1)، إلا أنه أبدل ما فهم من اللفظ بما يدل عليه إشارة للرد على ابن الحاجب بأن المنطوق مدلول لا دلالة، وإشارة إلى اندفاع اعتراض الآمدى، فإن ما دل عليه اللفظ فى محل النطق معناه أن الدلالة على ذلك المدلول ثابتة فى اللفظ الذى هو محل النطق أى: المنطوق به، بمعنى أنها ناشئة من وضعه لا من خارج، بخلاف دلالة الاقتضاء والإشارة فإنها ليست ناشئة من وضع اللفظ بل من توقف صحة المنطوق على المقتضى (¬2)، أو لزوم المعنى للمدلول (¬3). وهذا المعنى لا يفيده قولهم: ما فهم من اللفظ فى محل النطق. فإن الفهم منه قد ¬

(¬1) (زيد) نص لأنه علم شخص لا يحتمل غير مسماه، و (أسد)، ظاهر لأنه يحتمل وجهين: الحيوان المفترس المعروف، والرجل الشجاع، وأول الوجهين راجح يجب الحمل عليه عند التجرد من القرينة لتبادره بنفسه- وثانيهما مرجوح لا يصح الحمل عليه إلا عند القرينة الصارفة عن الراجح إلى المرجوح وبحيث يصير فيه لفظ الأسد مؤولا. (¬2) هذه هى دلالة الاقتضاء قال الجلال المحلى فى شرحها من «جمع الجوامع» (ثم المنطوق إن توقف الصدق فيه أو الصحة له عقلا أو شرعا على إضمار أى تقدير فيما دل عليه (فدلالة اقتضاء) أى: فدلالة اللفظ الدال على المنطوق على ذلك المضمر المقصود تسمى دلالة اقتضاء. والأول كما فى مسند أخى عاصم الآتى فى مبحث المجمل «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان» أى: المؤاخذة بهما لتوقف صدقه على ذلك لوقوعهما. والثانى كما فى قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ أى: أهلها، إذ القرية وهى الأبنية المجتمعة لا يصح سؤالها عقلا، والثالث كما فى قولك لمالك عبد: أعتق عبدك عنى. ففعل فإنه يصح عنك أى ملكه لى فأعتقه عنى لتوقف صحة العتق شرعا على المالك). أهـ. وقوله كما فى مسند أخى عاصم يريد به الحافظ أبا القاسم التميمى كما فى حاشية البنانى عليه. انظر ج 1 ص 239. (¬3) وهذه هى دلالة الإشارة قال المحلى فى شرحها (وإن لم يتوقف) أى الصدق فى المنطوق ولا الصحة على إضمار (ودل) اللفظ المفيد له (على ما لم يقصد) به (فدلالة إشارة) أى فدلالة اللفظ على ذلك المعنى الذى لم يقصد به تسمى دلالة إشارة كدلالة قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ على صحة صوم من أصبح جنبا للزومه للمقصود به من جواز جماعهن فى الليل الصادق بآخر جزء منه). أ، هـ. المصدر نفسه ص 239 فما بعدها من أعلى.

يكون بواسطة اللزوم العقلى أو الشرعى، ثم إن هذا المنطوق بالمعنى الذى أراده المصنف لا يكون إلا صريحا، وأما المدلول اقتضاء أو إشارة فليس من المنطوق عند أحد، أما ابن الحاجب فإن المنطوق عنده: الدلالة لا المدلول. وأما المصنف والقوم فليس من المنطوق عندهم. لأن الدلالة عليه ليست فى محل النطق، وإنما هو عند المصنف من توابع المنطوق، فالمدلولات عنده ثلاثة: منطوق، وتوابعه، ومفهوم. وقد صرح بتثليث الأقسام الآمدى وبعض شروح المنهاج، فإن قلت: ما الفرق بين المفهوم وتوابع المنطوق؟ قلت: المفهوم يقصد التنبيه بالمنطوق عليه إما تنبيها بالأعلى على الأدنى وبالعكس، أو التنبيه بالشىء على ما يساويه، وكل ذلك للمناسبة بينهما، بخلاف توابع المنطوق كما يعرفه الذكى المحقق، ثم إن المصنف ترك من توابع المنطوق دلالة الإيماء، وسيأتى بيان وجهه إن شاء الله تعالى إلى المقصود منه» (¬4). أه. ثم وفى هذا العلامة- رحمه الله- بما وعد به من حديث دلالة الإيماء فقال: «واعلم أن المصنف- رحمه الله- ترك دلالة الإيماء وهى: أن يقترن المنطوق بحكم أى وصف لو لم يكن ذلك الوصف لتعليل ذلك المنطوق لكان اقترانه به بعيدا؛ فيفهم منه التعليل ويدل عليه، وإن لم يصرح به، ويسمى تنبيها وإيماء مثل اقتران الأمر بالإعتاق وبالوقاع الذى لو لم يكن هو علة لوجوب الإعتاق لكان بعيدا. لأن هذا إنما يفهم من سياق الكلام لا من اللفظ. وأيضا سيأتى مفصلا فى باب القياس (¬5)». أه. ومن يطالع النص السابق وما قبله يظهر له أن المنطوق قد يكون فى المفردات كما فى النص والظاهر والمؤول أيضا، وكذلك يكون فى المركبات إذا كان المدلول حكما؛ لأن الحكم لا يتصور إلا فى المركبات. وهناك تقسيم آخر ذكر للمنطوق وهو: أن اللفظ إما أن يدل على تمام المعنى الذى وضع له، وتسمى هذه الدلالة دلالة مطابقة، وإما أن يدل على جزء معناه الذى وضع له، وتسمى هذه الدلالة دلالة تضمن، وإما يدل على لازم معناه الذى وضع له، وتسمى هذه الدلالة دلالة التزام. أما المفهوم- كما سبق- له اصطلاحان: فهو عند ابن الحاجب من قبيل الدلالة، وعند الجمهور من قبيل المدلول، ولكن هناك أمور مهمة ننبه عليها: أولا: المفهوم يطلق على الحكم تارة، وعلى محل الحكم أخرى، وعلى الحكم ومحله معا ثالثة، مثل (تحريم الضرب)، فالتحريم الحكم، والضرب محله، والمفهوم جمع بينهما ¬

(¬4) المصدر نفسه ص 237 بالهامش. (¬5) المصدر نفسه (ص 240).

فصار (تحريم الضرب)، ولكن المنطوق يطلق على الحكم أو محله فقط. ثانيا: المفهوم ينقسم إلى قسمين: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة. فالأول: ما وافق حكمه حكم المنطوق، والثانى: ما خالف حكمه حكم المنطوق. والحكم فى الموافقة قد يكون أولى من حكم المنطوق وهذا يسمى فحوى الخطاب؛ لأنه كالريح تجده بمجرد سماع الخطاب، وقد يكون مساويا لحكم المنطوق ويسمى لحن الخطاب، فتحريم ضرب الوالدين أولى من تحريم التأفيف لما يشتمل عليه من شدة الإيذاء، وحرق مال اليتيم مساو لأكل ماله؛ لأنهما يتساويان فى إضاعة ماله وإتلافه. وهناك من قسم المفهوم إلى ثلاثة أقسام: الموافقة وقصرها على الأولى، والمساوى، والمخالفة. ولكننا نرد هذا التقسيم لأمرين: (أ) أنه سلب اسم الموافقة: عن المساوى، وهذا لا يصح؛ لأن المساوى موافق. (ب) أن من أخرج المساوى من الموافقة احتج كما يحتج بالموافقة فلا معنى لإخراجه- ومن ثم فمفهوم الموافقة يشتمل على الأولى والمساوى- وليس فى هذا المفهوم الأدون. والحكم الثابت بالمفهوم كالثابت بالمنطوق، فإذا كان حكم المنطوق قطعيا لاستناده لنظم اللغة فكذلك المفهوم، فالحكم الثابت بالمفهوم فوق الثابت بالقياس؛ لأن الثابت بالقياس يدرك بالرأى والاجتهاد، والمفهوم يدرك باللغة الموضوعة لإفادة المعنى. كذا فى «التوضيح والتلويح». ومن ذهب إلى أن دلالة المنطوق قد تكون قطعية ودلالة المفهوم ظنية إنما أخطئوا فى ضرب الأمثلة؛ لأنها أمثلة كلها لأحكام تدرك بالقياس. ثالثا: اتفق الكل على حجية مفهوم الموافقة، ولكنهم اختلفوا بعد ذلك فى مواطن منها: طريق الدلالة هل القياس الجلى أم الدلالة اللفظية؟، وإذا كانت الدلالة اللفظية فهل بالمنطوق والمفهوم فى الحقيقة أم بالمفهوم؟ وفى «تحرير الجلال المحلى» لتلك المواطن ينقل عن الشافعى وإمام الحرمين والرازى. إن دلالة الموافقة قياسية سواء كان الأولى أو المساوى الجلى، وتكون العلة فى تحريم الضرب الإيذاء، وفى حرق مال اليتيم الإتلاف، وإن كان الشافعى وإمام الحرمين لم يجعلا المساوى من الموافقة، والرازى لم يصرح، ويرى الغزالى والآمدى أنها دلالة لفظية تفهم بالسياق والقرائن لا مجرد اللفظ، ففي تحريم الضرب فهم تعظيمها واحترامها فحرم الضرب والتأفيف، وكذلك حرق مال اليتيم فالمراد حفظه؛ ولذا منع الحرق والأكل، وعليه تكون دلالة مجازية

لإطلاق الأخص على الأعم، كإطلاق منع التأفيف على منع الإيذاء، وقيل: بل نقل اللفظ لهما عرفا فصار حرق مال اليتيم عرفا يطلق على إضاعته، وعلى القولين هما من المنطوق. وكثير من العلماء- منهم الحنفية- على أن الموافقة مفهوم لا منطوق ولا قياسي، ومنهم من تردد فيجعله تارة مفهوما وأخرى قياسيا كالبيضاوى، ورأى الصفى الهندى عدم التناقض فكلاهما مسكوت عنه. ورأى ابن السبكى أنهما مختلفان فالمفهوم مدلول اللفظ، والمقيس غير مدلول له. وبعد نقل تحرير الجلال المحلى أرى أن الصواب: أنها دلالة لفظية بطريق المفهوم؛ لأن من يقول: إنها دلالة قياسية يجعل هناك مفهوما أدون، وسبق ذكر منع ذلك، وكذلك لو كانت دلالة قياسية لمنعها من يمنع الاحتجاج بالقياس، ولكنهم احتجوا بها؛ ولأن من قال بأنها دلالة لفظية بطريق المنطوق فإن هذا يحوجه إلى ارتكاب المجاز أو النقل، والأصل عدمهما إلا بموجب ولا موجب لهما. رابعا: شرط مفهوم المخالفة: شرط العمل بمفهوم المخالفة أن يكون القيد فى اللفظ متعينا للاحتراز عما يناقضه، أى: جاء لإخراج ما عداه، ولا تكون فائدة غير هذا، فلو كانت له فائدة غيره قدمناها؛ لأن هذه الفائدة ستكون ظاهرة ومفهوم المخالفة خفية. فمن ذلك لو كان القيد لبيان الغالب كما فى قوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ فقوله تعالى: فِي حُجُورِكُمْ لا يعنى أن الربيبة التى ليست فى الحجر جائز نكاحها، الغالب أن الربيبة تكون فى الحجر. وكذلك قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً فالبغاء حرام سواء مع الإكراه أو مع عدمه، وسواء مع إرادتهن أو مع عدمها، فإنما جاء قيد الإكراه ليصف الواقع الذى كانوا عليه فحسب، وهذا يعنى أن البغاء مع عدم الإكراه أيضا حرام؛ لأن القيد ليس للإخراج. وكذلك قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فقوله تعالى: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ليس معناه أن موالاة الكافرين مع المؤمنين جائزة، بل موالاة الكافرين على كل حال حرام. فكل هذه القيود قصد بها فوائد أخرى غير إخراج ما سوى المنطوق؛ ولذا فهى لا مفهوم لها أى: ليست لها مفهوم مخالفة، لفقد شرط الاحتجاج به وهو تعين القيد فى إخراج سوى المنطوق، ومن ثم فالاسم المجرد من القيد والمسمى (اللقب) لا مفهوم له؛ لأنه لا قيد له، وهذا هو الصحيح عند العلماء. خامسا: الصحيح أن طريق الدلالة فى

مفاهيم المخالفة هى اللغة، قال المحلى: (يقول كثير من أئمة اللغة بها منهم أبو عبيدة وعبيد تلميذه قالا فى حديث «الصحيحين» مثلا: «مطل الغنى ظلم» أنه يدل على أن مطل غير الغنى ليس بظلم، وهم إنما يقولون فى مثل ذلك ما يعرفونه من لسان العرب) أهـ. وأنه لذلك حجة لدى الجمهور، وخالف فى ذلك الحنفية وهم محجوجون بما سبق من حتمية أن تكون للقيد فائدة. وبعد- فقبل أن ننفض أيدينا من هذا البحث، نرى أن نطلع القارئ الكريم على ما كتبه فيه أهل علوم القرآن، مجتزئين فى ذلك بقول السيوطى، ففيه- فوق التلخيص لمعظم ما سبق مما نقلناه من كلام أهل الأصول- فوائد أخرى تضاف إليه، قال رحمه الله: المنطوق: ما دل عليه اللفظ فى محل النطق، فإن أفاد معنى لا يحتمل غيره فالنص، نحو: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ (¬6)، وقد نقل عن قوم من المتكلمين أنهم قالوا بندور النص جدا فى الكتاب والسنة. وقد بالغ إمام الحرمين (¬7) وغيره فى الرد عليهم، قال: لأن الغرض من النص الاستقلال بإفادة المعنى على قطع، مع انحسام جهات التأويل والاحتمال؛ وهذا وإن عز حصوله بوضع الصيغ رد إلى اللغة، فما أكثره مع القرائن الحالية والمقالية؛ انتهى. أو مع احتمال غيره احتمالا مرجوحا، فالظاهر نحو: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ (¬8)، فإن الباغى يطلق على الجاهل وعلى الظالم، وهو فيه أظهر وأغلب، ونحو: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ (¬9)، فإنه يقال للانقطاع: طهر، وللوضوء والغسل، وهو فى الثانى أظهر، فإن حمل على المرجوح لدليل فهو تأويل، ويسمى المرجوح المحمول عليه مؤولا، كقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ (¬10)؛ فإنه يستحيل حمل المعية على القرب بالذات، فتعين صرفه عن ذلك وحمله على القدرة والعلم، أو على الحفظ والرعاية، وكقوله: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ (¬11) فإنه يستحيل حمله على الظاهر، لاستحالة أن يكون للإنسان أجنحة، فيحمل على الخضوع وحسن الخلق. وقد يكون مشتركا بين حقيقتين، أو حقيقة ومجاز، ويصلح حمله عليهما جميعا، سواء قلنا بجواز استعمال اللفظ فى معنييه أو لا. ووجهه على هذا أن يكون اللفظ قد خوطب به مرتين: مرة أريد هذا، ومرة أريد هذا. ومن أمثلته: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ (¬12)؛ فإنه يحتمل: لا يضار الكاتب والشهيد صاحب الحق بجور فى الكتابة والشهادة «ولا يضارّ» بالفتح، أى: لا يضرهما صاحب الحق بإلزامهما ما لا يلزمهما، وإجبارهما على الكتابة والشهادة. ¬

(¬6) البقرة: 196. (¬7) هو أبو المعالى عبد الله بن أبى عبد الله بن يوسف الجوينى، شيخ الغزالى، وأعلم المتأخرين من أصحاب الشافعى. توفى سنة 478 هـ. ابن خلكان 1/ 287. (¬8) البقرة: 173. (¬9) البقرة: 222. (¬10) الحديد: 4. (¬11) الإسراء: 24. (¬12) البقرة: 282.

ثم إن توقفت صحة دلالة اللفظ على إضمار سميت دلالة اقتضاء، نحو: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (¬13)، أى: أهلها، وإن لم تتوقف ودل اللفظ على ما لم يقصد به سميت دلالة إشارة كدلالة قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ (¬14) على صحة صوم من أصبح جنبا، إذ إباحة الجماع إلى طلوع الفجر تستلزم كونه جنبا فى جزء من النهار. وقد حكى هذا الاستنباط عن محمد ابن كعب القرظى. والمفهوم: ما دل عليه اللفظ، لا فى محل النطق وهو قسمان: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة: فالأول: ما يوافق حكمه المنطوق؛ فإن كان أولى سمى فحوى الخطاب كدلالة: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ (¬15) على تحريم الضرب؛ لأنه أشد وإن كان مساويا سمى لحن الخطاب، أى معناه، كدلالة: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً (¬16) على تحريم الإحراق؛ لأنه مساو للأكل فى الإتلاف. واختلف: هل دلالة ذلك قياسية أو لفظية مجازية أو حقيقية؟ على أقوال بيناها فى كتبنا الأصولية. والثانى: ما يخالف حكمه المنطوق، وهو أنواع: مفهوم صفة، نعتا كان أو حالا أو ظرفا أو عددا، نحو: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (¬17)، مفهومه أن غير الفاسق لا يجب التبين فى خبره؛ فيجب قبول خبر الواحد العدل. وحال نحو: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (¬18)، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ (¬19) أى فلا يصح الإحرام به فى غيرها: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ (¬20) أى فالذكر عند غيره ليس محصلا للمطلوب، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً (¬21) أى: لا أقل ولا أكثر. وشرط نحو: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ (¬22) أى فغير أولات الحمل لا يجب الإنفاق عليهن. وغاية نحو: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ (¬23) أى: فإذا نكحته تحل للأول بشرطه. وحصر نحو: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ (¬24). إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ (¬25)؛ أى: فغيره ليس بإله، فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ (¬26)، أى: فغيره ليس بولى، لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (¬27)، أى: لا إلى غيره، إِيَّاكَ نَعْبُدُ (¬28) أى: لا غيرك. واختلف فى الاحتجاج بهذه المفاهيم على أقوال كثيرة، والأصح فى الجملة أنها كلها حجة بشروط: منها: ألا يكون المذكور (خرج للغالب) ومن ثم لم يعتبر الأكثرون مفهوم قوله: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ (¬29)؛ فإن الغالب كون ¬

(¬13) يوسف: 82. (¬14) البقرة: 187. (¬15) الإسراء: 23. (¬16) النساء: 10. (¬17) الحجرات: 6. (¬18) البقرة: 187. (¬19) البقرة: 198. (¬20) البقرة: 197. (¬21) النور: 4. (¬22) الطلاق: 6. (¬23) البقرة: 230. (¬24) الصافات: 35. (¬25) طه: 98. (¬26) الشورى: 9. (¬27) آل عمران: 158. (¬28) الفاتحة: 5. (¬29) النساء: 23.

الربائب فى حجور الأزواج فلا مفهوم له؛ لأنه إنما خص بالذكر لغلبة حضوره فى الذهن. وألا يكون موافقا للواقع، ومن ثم لا مفهوم لقوله: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ (¬30) وقوله: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (¬31) وقوله: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً (¬32). والاطلاع على ذلك من فوائد معرفة أسباب النزول. (فائدة). قال بعضهم: الألفاظ إما أن تدل بمنطوقها أو بفحواها ومفهومها أو باقتضائها وضرورتها، أو بمعقولها المستنبط منها. حكاه ابن الحصار، وقال: هذا الكلام حسن. قلت: فالأول دلالة المنطوق، والثانى دلالة المفهوم، والثالث دلالة الاقتضاء، والرابع دلالة الإشارة. (¬33) أ. هـ. والله أعلم. أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة ¬

(¬30) المؤمنون: 117. (¬31) آل عمران: 28. (¬32) النور: 23. (¬33) ج 3 من ص 104 إلى ص 108.

عام القرآن وخاصه

عام القرآن وخاصه العامّ والخاصّ: اسم فاعل من العموم والخصوص ولا خلاف فى كونهما من عوارض الألفاظ، ولكن الخلاف فى كونهما من عوارض المعنى، وتحقيق العلامة الشربينى يجعل الخلاف بين الفريقين خلافا لفظيا أو يكاد، وذلك بأنّ العموم يقصد به التناول تارة، وبهذا يكون من عوارض الألفاظ فقط، وتارة يقع بمعنى الشمول، فيتصف به اللفظ والمعنى. فمن قال: العموم ليس من عوارض المعانى صحّ، إذا كان العموم بمعنى التناول أى: إفادة اللفظ للشيء، ومن قال: العموم من عوارضها صحّ، إذا كان بمعنى الشمول. وحيث كان الخصوص قسيما للعموم، فما قيل فى العموم يقال فى الخصوص، بمعنى أن الخصوص يكون من عوارض الألفاظ فقط عند ما يكون معنى الخصوص التناول، ويكون من عوارض المعانى أيضا الجزئية مقابل الكلية. ولمّا كان هناك اتفاق بين العلماء على أن العموم والخصوص من عوارض الألفاظ اتجهوا فى تعريفاتهم للعام والخاص إلى هذا الاتجاه، فعرّف ابن السبكى العام بأنه: (لفظ يستغرق الصالح له بغير حصر) فقولهم (لفظ) أخرج الألفاظ المتعددة الدالة على معان متعددة بتعددها. وقولهم: (يستغرق) أى يتناول جميع أفراده دفعة واحدة، فهو قيد أول أخرج ما لا يستغرق كالنكرة فى سياق الإثبات واسم العدد؛ لأنه يتناول أفراده بالبدلية لا الاستغراق. وقولهم: (الصالح له) قيد لبيان الماهية؛ لأنه ليس هناك لفظ يستغرق غير الصالح له ليحترز عنه. وقولهم (من غير حصر) قيد ثان يخرج اسم العدد؛ لأنه يتناول بحصر كعشرة ومائة، والنكرة المثناة فى الإثبات وكذلك المجموعة. فكل ما خرج بالقيدين فهو من الخاص بحيث يمكن صياغة تعريف الخاص بأنه: (اللفظ الذى لا يستغرق ما يصلح له أو يستغرقه مع الحصر)، وبه يفهم معنى قولهم التخصيص هو «قصر العام على بعض أفراده». وقد تكلم الأصوليون كلاما طويلا فى هذا الباب؛ ولذا سنهتم بما يناسب بحثنا فى علوم القرآن، وسنعتمد على ما قدمه السيوطى فى كتابه «الإتقان» مع التعليق على ما يستحق ذلك.

فبدأ الإمام السيوطى بذكر تعريف العام الذى ذكرنا من كلام ابن السبكى- دون شرح له، ثم ثنى ببيان صيغه، من غير خوض فى خلاف أن للعام صيغا موضوعة أو لا، وخوض فى العديد من تلك الصيغ أهي للعموم أم للخصوص؟ فذكر منها «كل» مبتدأة نحو كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (¬1)، أو تابعة، نحو: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (¬2) أ. هـ. وترك- رحمه الله- من استعمالات (كل): الظرفية الموصولة ب (ما) الزائدة المستعملة فى الجملة الشرطية كقوله تعالى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ (¬3). كما ترك ما هو بمعنى «كل» كأجمع وجميع وكافة وعامة، وطرا، وقاطبة، وبأسر، ونحو ذلك. وقد استعمل من ذلك فى القرآن أجمع تابعا «لكل» كما مثل هو «لكل» التابعة. ومنفردا كقوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (¬4)، وجميع: كقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (¬5)، وكافة: كقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً (¬6). ثم ذكر من صيغه (الذى والتى وتثنيتهما وجمعهما) أى: ما لم يقم عهد بقرينة، وإن لم ينبه الشيخ على ذلك، فإن قامت قرينة على العهد فهى للخصوص. فمثال العام: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما (¬7) فإن المراد به كل من صدر منه هذا القول، بدليل قوله بعد: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ (¬8)، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ (¬9)، وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ (¬10) الآية، وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا (¬11) الآية وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما. (¬12) ومثال ما جاء من ذلك خاصا لقيام قرينة العهد، ولم يعرض له السيوطى هنا قوله تعالى: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (¬13) وقوله: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا (¬14) الآية، وقوله: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا (¬15) الآية، نزلت فيمن كان من المنافقين مع النبى صلّى الله عليه وسلم فى غزوة بنى المصطلق كما هو معلوم فى محله من كتب التفسير وأسباب النزول. ثم واصل حديثه فى ذكر الصيغ فذكر منها (أى، وما، ومن شرطا واستفهاما وموصولا) نحو: أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ ¬

(¬1) الرحمن: 26. (¬2) الحجر: 30. (¬3) البقرة: 20. (¬4) الحجر: 43. (¬5) الأعراف: 158. (¬6) سبأ: 28. (¬7) الأحقاف: 17. (¬8) الأحقاف: 18. (¬9) البقرة: 82. (¬10) الطلاق: 4. (¬11) النساء: 15. (¬12) النساء: 16. (¬13) الحجر: 6. (¬14) الأنبياء: 91. (¬15) المنافقون: 7.

الْحُسْنى (¬16) فهذا مثال الشرط فى أى، وعليه اقتصر السيوطى فيها، ومثال الاستفهام قوله تعالى فيما قص عن سليمان عليه السلام: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. (¬17) ومثال الموصولة، قوله تعالى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (¬18) ومثال الشرط فى (ما) قوله تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ (¬19) ومثال الاستفهام فيها قول امرأة العزيز فيما قص الله عنها: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (¬20) فإن السؤال بها يعم أنواع الجزاء كلها، بدليل الاستثناء المتصل الذى هو معيار العموم كما يقولون، ومثال الموصولة، وعليه اقتصر السيوطى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ. (¬21) ومثال الشرطية فى (من) قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ (¬22) - وعليه اقتصر السيوطى، ومثال الاستفهامية فيها قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. (¬23) ومثال الموصولة فيها قوله تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. (¬24) ثم ذكر من الصيغ (الجمع المضاف) نحو يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (¬25)، و (المعرف بأل) نحو قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (¬26) فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ (¬27) أى: ومثل الجمع اسمه (أى اسم الجمع) كالقوم، واسم الجنس الجمعى كالشجر، واسم الجنس المضاف، نحو: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ (¬28) أى: كل أمر الله. و (المعرف بأل) نحو: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ (¬29) أى كل بيع، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أى كل إنسان بدليل: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا. (¬30) والنكرة فى سياق النفى والنهى نحو: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً (¬31)، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً (¬32) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ (¬33)، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ (¬34)، فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ. (¬35) وفى سياق الشرط نحو: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ، (¬36) وفى الامتنان نحو: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (¬37) وكالفعل فى سياق النفى والنهى كقوله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها (¬38) وقوله: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، (¬39) واسم الفعل فى سياق النهى كقوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ. (¬40) ¬

(¬16) الإسراء: 110. (¬17) النمل: 38. (¬18) مريم: 69 - العتى: الطغيان ومجاوزة الحد فى العدوان. (¬19) البقرة: 197. (¬20) يوسف: 25. (¬21) الأنبياء: 98. (¬22) النساء: 123. (¬23) البقرة: 255. (¬24) الأنبياء: 19. (¬25) النساء: 11. (¬26) المؤمنون: 1. (¬27) التوبة: 5. (¬28) النور: 63. (¬29) البقرة: 275. (¬30) العصر: 2، 3. (¬31) البقرة: 22. (¬32) النساء: 20. وهذا خير من تمثيل السيوطى بقوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ لما سيأتى. (¬33) الحجر: 21. (¬34) البقرة: 2. (¬35) البقرة: 197. (¬36) التوبة: 6. (¬37) الفرقان: 48. (¬38) الأعراف: 56. (¬39) مريم: 64. (¬40) الإسراء: 23.

وترك السيوطى- رحمه الله- من صيغ العام المستعملة فى القرآن. (أ) (مهما) وهى كلفظة (ما) لغير العاقل، ولا تستعمل إلا شرطية كقوله تعالى: وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (¬41). (ب) (كيف) لعموم الأحوال استفهاما، وشرطا، ولم يأت فى القرآن، ومتجردة عنهما. فمثالها استفهاما قوله تعالى وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ (¬42)، ومثالها متجردة قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ (¬43). (ج) (أين) لعموم المكان شرطا واستفهاما ومجردة منهما، فمثالها شرطا قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، (¬44) ومثالها استفهاما: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، (¬45) ومثالها مجردة منهما: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ (¬46). (د) (أنى) لعموم الأحوال تارة ككيف، ولعموم الأماكن كمن أين، وتأتى شرطا ولم يقع فى القرآن. واستفهاما بالمعنيين الآنفين، ومجردة منها بهذين المعنيين. فمثالها استفهاما بمعنى كيف: قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ (¬47) الآية، ومثالها استفهاما بمعنى من أين: قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (¬48)، ومثالها مجردة منهما: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (¬49)، وهى محتملة للمعنيين. (هـ) (حين) كأين فى عموم المكان، مجرورة بمن، أو ظرفا موصولة بما، أو بدونها، وقد تكون على ظرفيتها شرطية إن وصلت بما، ومثالها قوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (¬50). (و) (متى) لعموم الزمان ماضيا فى الاستفهام ومستقبلا فيه وفى الشرط، ولم تستعمل فى القرآن إلا مستقبلة فى الاستفهام كقوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (¬51). (ز) (أيان) لعموم الزمان المستقبل شرطا واستفهاما، ولم تستعمل فى القرآن إلا استفهاما كقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (¬52). ¬

(¬41) الأعراف: 132. (¬42) آل عمران: 101. (¬43) آل عمران: 6. (¬44) النساء: 78. (¬45) التكوير: 26. (¬46) الحديد: 4. (¬47) البقرة: 247. (¬48) آل عمران: 37. (¬49) البقرة: 223. (¬50) البقرة: 150. (¬51) يونس: 48. (¬52) الأعراف: 187.

(ح) (كم) لعموم العدد استفهاما، وفى الكثرة غير المحصورة خبرية، فمن الأول قوله تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ (¬53)، ومن الثانى قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها. (¬54) والأمران محتملان فى نحو قوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (¬55). (ط) (كأين) وهى ككم الخبرية فى نحو قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ. (¬56) ثم عقد السيوطى- رحمه الله- فصلا فى مخاطبات القرآن بالعام بين عام باق على عمومه، وعام مراد به الخصوص، وعام مخصوص، فقال- رحمه الله: «العام على ثلاثة أقسام: الأول: الباقى على عمومه: قال القاضى جلال البلقينى: ومثاله عزيز، إذ ما من عام إلا ويدخل فيه التخصيص فقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ (¬57) قد يخص منه غير المكلف، وحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (¬58) خص منها حالة الاضطرار، وميتة السمك والجراد، وحرم الربا خص منه العرايا. (¬59) وذكر الزركشى فى «البرهان» أنه كثير فى القرآن، وأورد منه: وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، (¬60) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً، (¬61) وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً، (¬62) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، (¬63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً. (¬64) قلت: هذه الآيات كلها فى غير الأحكام الفرعية، فالظاهر أن مراد البلقينى أنه عزيز فى الأحكام الفرعية، وقد استخرجت من القرآن بعد الفكر آية فيها، وهى قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ (¬65) الآية، فإنه لا خصوص فيها». الثانى: العام المراد به الخصوص. الثالث: العام المخصوص. وللناس بينهما فروق. أن الأول لم يرد شموله لجميع الأفراد، لا من جهة تناول اللفظ، ولا من جهة الحكم، بل هو ذو أفراد استعمل فى فرد منها. والثانى أريد عمومه وشموله لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ لها، لا من جهة الحكم، ومنها أن الأول مجاز قطعا لنقل اللفظ عن موضعه الأصلى بخلاف الثانى فإن فيه مذاهب أصحها: أنه حقيقة، وعليه أكثر الشافعية وكثير من الحنفية وجميع الحنابلة، ونقله إمام الحرمين عن جميع الفقهاء. وقال الشيخ أبو حامد: إنه مذهب الشافعى وأصحابه. وصححه السبكى؛ لأن تناول ¬

(¬53) الكهف: 19. (¬54) الأعراف: 4. (¬55) الشعراء: 7. (¬56) آل عمران: 146. (¬57) الحج: 1. (¬58) المائدة: 3. (¬59) هى بيع الرطب على النخل بخرصها تمرا على الأرض ممن يتقن الخرص، والتقدير بحسب الإمكان: أرخص فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم للعذر كما فى حديث الصحيحين وغيرهما. أنظر بلوغ المرام للحافظ ابن حجر العسقلانى وشرحه سبل السلام لمحمد بن إسماعيل الصنعانى ج 3 من ص 58 إلى ص 60. (¬60) المائدة: 97. (¬61) يونس: 44. (¬62) الكهف: 49. (¬63) فاطر: 11. (¬64) غافر: 64. (¬65) النساء 23.

اللفظ للبعض الباقى بعد التخصيص كتناوله له بلا تخصيص. وذلك التناول حقيقى اتفاقا، فليكن هذا التناول حقيقيا أيضا. ومنها أن قرينة الأول عقلية والثانى لفظية. ومنها أن قرينة الأول لا تنفك عنه، وقرينة الثانى قد تنفك عنه. ومنها أن الأول يصح أن يراد به واحد اتفاقا، وفى الثانى خلاف، ومن أمثلة المراد به الخصوص قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ. (¬66) والقائل واحد (هو) نعيم بن مسعود الأشجعى أو أعرابى من خزاعة، كما أخرجه ابن مردويه من حديث أبى رافع؛ لقيامه مقام كثير فى تثبيط المؤمنين عن ملاقاة أبى سفيان قال الفارسى: ومما يقوى أن المراد به واحد قوله: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ (¬67)، فوقعت الإشارة بقوله: (ذلكم) إلى واحد بعينه، ولو كان المعنى جمعا لقال: (إنما أولئكم الشيطان)، فهذه دلالة ظاهرة فى اللفظ. ومنها قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ (¬68) أى: رسول الله صلّى الله عليه وسلم لجمعه ما فى الناس من الخصال الحميدة. ومنها قوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ (¬69). أخرج ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس فى قوله: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ. قال: إبراهيم عليه السلام. ومن الغريب قراءة سعيد بن جبير: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ قال فى «المحتسب»: يعنى آدم لقوله: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (¬70)، ومنه قوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ (¬71). أى: جبريل كما فى قراءة ابن مسعود» أ. هـ. وأقول: ذكر السيوطى- كما ترى- للعام المراد به الخصوص أربعة أمثلة لا ننازعه منها إلا فى ثالثها، وإن كان فى بعضها كلام، وأعنى بهذا الثالث ما عزا فيه إلى الطبرى الرواية عن الضحاك عن ابن عباس: من أن الناس فى ثانية آيتى الإفاضة يراد بهم إبراهيم، فإن النسخ المطبوعة بطبعات مختلفة من تفسير الطبرى فى تفسير هذه الآية من سورة البقرة ليس فيها الرواية عن الضحاك موصولة إلى ابن عباس، بل الرواية فيها جميعا هى عن الضحاك موقوفة عليه، وهكذا رواها عن الطبرى الحافظ ابن كثير (¬72)، وكذا رواها الحفاظ من أمثال الحافظ ابن حجر فى «الفتح» عن ابن أبى حاتم وغيره. فهذه واحدة. وثانية هى أطم من الأولى وأعظم، وهى أن هذا القول أحد قولين فى الآية حكاهما ¬

(¬66) آل عمران: 173. (¬67) آل عمران: 175. (¬68) النساء: 54. (¬69) البقرة: 199. (¬70) طه: 115. (¬71) آل عمران: 39. (¬72) أنظر تفسيره ج 1 ص 242.

الطبرى واختار غيره لما قال من إجماع الحجة عليه، وأنه لولا إجماع الحجة على هذا الغير لاختاره. هذا معنى كلامه، وإنما القول المعتمد فى تفسير الآية أن يراد من الإفاضة فيها عين ما أريد منها فى سابقتها، ومن قوله: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ عرفات كما وقع التصريح به فى سابقتها على ما روى البخارى- رحمه الله- عن عائشة- رضى الله عنها-: «كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الخمس وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يأتى عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أ. هـ كذا أخرجه البخارى فى الحج وفى التفسير، واللفظ من التفسير فى تفسير الآية من سورة البقرة. تريد- رضى الله عنها: أن المأمور بالإفاضة فى هذه الآية هو النبى صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، أمروا أن تكون إفاضتهم من حيث يفيض جمهور العرب أى من عرفة- لا من حيث كان يفيض قريش ومن دان دينها من المزدلفة أى أن يكون موقف النبى صلّى الله عليه وسلم الذى تصدر منه الإفاضة هو عرفة لا المزدلفة على ما كانت تفعل قريش، وتوجيه (ثم) على هذا القول المعتمد- والذى اختاره الطبرى نفسه وحكى الإجماع عليه- ما قاله الحافظ ابن حجر فى شرح هذا الحديث من كتاب الحج قال رحمه الله (¬73): (وأما الإتيان فى الآية بقوله: (ثم) فقيل: هى بمعنى الواو. وهذا اختيار الطحاوى، وقيل: لقصد التأكيد لا لمحض الترتيب، والمعنى: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، ثم اجعلوا الإفاضة التى تفيضونها من حيث أفاض الناس لا من حيث كنتم تفيضون. قال الزمخشرى: وموقع (ثم) هنا موقعها من قولك: «أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير الكريم»، فتأتى (ثم) لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات بين لهم مكان الإفاضة فقال: ثم أفيضوا. لتفاوت ما بين الإفاضتين، وأن إحداهما صواب والأخرى خطأ. قال الخطابى: «تضمن قوله تعالى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ الأمر بالوقوف بعرفة لأن الإفاضة إما تكون عند اجتماع قبله، وكذا قال ابن بطال وزاد: وبين الشارع مبتدأ الوقوف بعرفة ومنتهاه» أهـ. نعم قد جاء الآخر رواية عن ابن عباس عند البخارى أيضا فى تفسير الآية من كتاب التفسير والذى حاصله أن الإفاضة فى هذه ¬

(¬73) فتح البارى ج 3 ص 517. فما بعدها.

الآية غيرها فى سابقتها، وأنها الإفاضة من «جمع» أى: المزدلفة إلى منى لرمى الجمرات، ولكن المقصود بالناس فى هذه الرواية ليس ما فى رواية الضحاك، وإنما هو العموم الشامل لجماهير الناس جميعا، أو هم قريش على أقل تقدير. ففي هذا الحديث عند البخارى: ثم ليدفعوا من عرفات فإذا أفاضوا منها حتى يبلغوا جمعا الذى يتبرر فيه، ثم ليذكروا الله كثيرا أو أكثروا التكبير والتهليل قبل أن تصبحوا، ثم أفيضوا فإن الناس كانوا يفيضون. وقال الله تعالى: وتلا الآية ثم قال: حتى ترموا الجمرة أ. هـ. فلا تشترك هذه الرواية مع ما قال الضحاك إذن، إلا فى مجرد أن الإفاضة فى الآية يراد بها الإفاضة من المزدلفة، وأما أن الناس فيها يراد بهم إبراهيم عليه السّلام فشىء لم يعرف عن ابن عباس ولا عن غيره، وإنما هو قصر على الضحاك وحده، وشتان ما بين الأمرين، ومع هذا فإن هذا القول عن ابن عباس- وإن بقيت فيه (ثم) التى صدرت بها الآية على حقيقتها من إفادة الترتيب، ليس هو القول المعتمد فى تفسير الآية، والذى وصفنا من قول عائشة، بل الذى نطقت به رواية أخرى عن ابن عباس فى تفسير الطبرى نفسه، كما جاءت به الرواية عند الطبرى عن عروة بن الزبير وعطاء وقتادة ومجاهد والسدى والربيع وابن أبى نجيح. ومن ثم حكى الطبرى إجماع الحجة عليه كما سبق. وإنما كان الذى وصفنا من قول هؤلاء المعتمد؛ لأنه فوق كونه قول الجمهور نص فى إلغاء صنيع قريش، وإيجاب أن يكون موقف الجميع؛ قريش وغير قريش بعرفة، بخلاف ما فى هذه الرواية عن ابن عباس، فإنه وإن أفاد إيجاب الإفاضة إلى منى لم يعرض من قليل أو كثير لما هو أهم منه بدرجات- أعنى إبطال الباطل- ولا سيما أن الإفاضة من المزدلفة إلى منى كان أمرا معروفا ومشتركا متفقا فيه من الكل؛ قريش، وغير قريش، فلم تضف الآية جديدا. وأيضا فإن أمر منى سيأتى الحديث عنه بعد هذا بقليل فى قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ (¬74) الآية. وفى هذا الرد: (أ) على ما زعم الطبرى من ترجيح أن تراد الإفاضة إلى منى لولا إجماع الحجة على الأول. (ب) وعلى علامة مفسرى العصر الطاهر ابن عاشور فيما زعم من ذلك لولا الحديث، كما قال فى تفسيره الجليل «التحرير والتنوير» يريد حديث عائشة المتضمن للقول المعتمد. ¬

(¬74) البقرة: 203.

(ج) وعلى موقف الحافظ ابن كثير الحائر بين القولين والمتمثل فى قوله بعد إيراده لروايتى عائشة وابن عباس من البخارى (فالله أعلم) أ. هـ. وأما ما حكى فى هذا المثال من قراءة ابن جبير بالياء يريد آدم كما فسره ابن جنى فى «المحتسب»، فقد كفانا مئونتها بعدّها من الغريب، فإنها قراءة بالغة الشذوذ خارجة أتم الخروج عن القرآنية، فلا يبال بها ولا بما تضمنته من هذا المعنى هنا. ثم شرع السيوطى بعد هذا فى الحديث عن العام المخصوص وبيان المخصص المتصل منه والمنفصل فقال: «وأما المخصوص فأمثلته فى القرآن كثيرة جدا، وهو أكثر من المنسوخ، إذ ما من عام إلا وقد خص، ثم المخصص له: إما متصل وإما منفصل، فالمتصل: خمسة وقعت فى القرآن: أحدها: الاستثناء» (يريد المتصل) وذكر له أمثلة خمسة نختار من بينها آخرها وهو قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ (¬75). ثم قال السيوطى: «الثانى: الوصف نحو: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ (¬76) الثالث: الشرط، نحو وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً (¬77)، كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ (¬78). الرابع: الغاية وذكر لها أمثلة أربعة آخرها: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ (¬79) الآية. والخامس: بدل البعض من الكل نحو: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (¬80). ثم قال: والمنفصل آية أخرى فى محل آخر، أو حديث، أو إجماع، أو قياس. ومن أمثلة ما خص بالقرآن قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (¬81)، خص بقوله: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ (¬82) وبقوله: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (¬83). وقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ (¬84)، خص من الميتة السمك بقوله: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ (¬85)، ومن الدم الجامد بقوله: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً (¬86). ¬

(¬75) القصص: 88. والمراد من الوجه الذات أو العمل الصالح الذى أريد به وجهه تعالى. (¬76) النساء: 23. (¬77) النور: 33. (¬78) البقرة: 180. (¬79) البقرة: 187. (¬80) آل عمران: 97. (¬81) البقرة: 228. (¬82) الأحزاب: 49. (¬83) الطلاق: 4. (¬84) المائدة: 3. (¬85) المائدة: 96. (¬86) الأنعام: 145.

وقوله: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً (¬87) الآية خص بقوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ (¬88). وقوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (¬89). خص بقوله: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ (¬90). وقوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ (¬91)، خص بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ (¬92) الآية. ومن أمثلة ما خص بالحديث قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ (¬93) خص منه البيوع الفاسدة- وهى كثيرة بالسنة- وَحَرَّمَ الرِّبا، خص منه العرايا (¬94) بالسنة، وآيات المواريث خص فيها القاتل والمخالف فى الدّين بالسنة. وآية تحريم الميتة خص منها الجراد بالسنة، وآية ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (¬95) خص منها الأمة بالسنة (¬96). وقوله: ماءً طَهُوراً (¬97) خص منه المتغير بالسنة، وقوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا (¬98)، خص منه من سرق دون ربع دينار بالسنة. ومن أمثلة ما خص بالإجماع: آية المواريث خص منها الرقيق فلا يرث بالإجماع، ذكره مكى. ومن أمثلة ما خص بالقياس: آية الزنا فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (¬99) خص منها العبد بالقياس على الأمة المنصوصة فى قوله: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ (¬100) المخصص لعموم الآية، ذكره مكى أيضا». ثم قال السيوطى: «فصل من خاص القرآن: ما كان مخصصا لعموم السنة وهو عزيز، ومن أمثلته قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ (¬101) خص عموم قوله صلّى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله). وقوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى (¬102)، خص عموم نهيه صلّى الله عليه وسلم عن الصلاة فى الأوقات المكروهة بإخراج الفرائض، وقوله: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها (¬103) الآية خص عموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أبين من حى فهو ميت»، وقوله: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ (¬104). خص عموم قوله صلّى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوىّ). وقوله: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي (¬105). خص عموم قوله صلّى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بالسيف، فالقاتل والمقتول فى النار)». ¬

(¬87) النساء: 20. (¬88) البقرة: 229. (¬89) النور 2. (¬90) النساء: 25. والمقصود الإماء المتزوجات إن أتين بفاحشة الزنا فعليهن نصف ما على الحرائر الأبكار من العذاب، أى خمسون جلدة نصف حد الحرة البكر كما هو مقرر فى محله من كتب الفقه والتفسير. وخص أيضا عموم الآية المحصن بالسنة فحده الرجم، وسيأتى فيه تخصيص آخر بالقياس. (¬91) النساء: 3. (¬92) النساء: 23. (¬93) البقرة: 275. (¬94) قال فى اللسان: «فى حديث أنه رخص فى العرية والعرايا، قال أبو عبيد: العرايا واحدتها عرية، وهى النخلة يعريها صاحبها رجلا محتاجا. والإعراء أن يجعل له ثمر عامها. والمقصود: أن النبى صلّى الله عليه وسلم رخص لهم فى بيع الرطب على النخل بالتمر على الأرض. حرصا وتقديرا حسب الإمكان، كما فى حديث الصحيحين وغيرهما. وانظر بلوغ المرام للحافظ ابن حجر وشرحه سبل السلام للصنعانى ج 58 إلى ص 60. (¬95) البقرة: 228. (¬96) أى فعدتها قرآن. (¬97) الفرقان: 48. (¬98) المائدة: 38. (¬99) النور: 2. (¬100) النساء: 25. (¬101) التوبة: 29. (¬102) البقرة: 238. (¬103) النحل: 80. (¬104) التوبة: 60. (¬105) الحجرات: 9.

ثم قال السيوطى: فروع منثورة تتعلق بالعموم والخصوص: الأول: إذا سيق العام للمدح أو الذم، فهل هو باق على عمومه؟ فيه مذاهب: أحدها: (نعم) إذ لا صارف عنه، ولا تنافى بين العموم وبين المدح أو الذم. والثانى: لا؛ لأنه لم يسق للتعميم بل للمدح أو الذم. والثالث: وهو الأصح: التفصيل، فهو إن لم يعارضه عام آخر لم يسق لذلك، ولا يعم إن عارضه ذلك، جمعا بينهما. مثاله- ولا معارض- قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (¬106) ومع المعارض قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ (¬107). فإنه سيق للمدح، وظاهره يعم الأختين بملك اليمين جمعا، وعارضه فى ذلك: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ (¬108)؛ فإنه شامل لجمعهما بملك اليمين، ولم يسق للمدح فحمل الأول على غير ذلك بأنه لم يرد تناوله له. ومثاله فى الذم: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ (¬109) الآية فإنه سيق للذم، وظاهره يعم الحلى المباح. وعارضه فى ذلك حديث جابر: «ليس فى الحلى زكاة». فحمل الأول على غير ذلك. الثانى: اختلف فى الخطاب الخاص به صلّى الله عليه وسلم، نحو: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ، يا أَيُّهَا الرَّسُولُ هل يشمل الأمة؟ فقيل: نعم؛ لأن أمر القدوة أمر لأتباعه معه عرفا، والأصح فى الأصول المنع لاختصاص الصيغة به. الثالث: اختلف فى الخطاب ب يا أَيُّهَا النَّاسُ، هل يشمل الرسول صلّى الله عليه وسلم؟ على مذاهب: أصحّها- وعليه الأكثرون: نعم لعموم الصيغة له؛ أخرج ابن أبى حاتم عن الزهرى قال: إذا قال الله: «يأيها الذين آمنوا افعلوا» فالنبى صلّى الله عليه وسلم منهم. والثانى: لا؛ لأنه ورد على لسانه لتبليغ غيره، ولما له من الخصائص. والثالث: إن اقترن ب «قل» لم يشمله لظهوره فى التبليغ، وذلك قرينة عدم شموله؛ وإلا فيشمله. الرابع: الأصح فى الأصول أن الخطاب ب «أيها الناس» يشمل الكافر والعبد لعموم اللفظ، وقيل: لا يعم الكافر بناء على عدم تكليفه بالفروع. ولا العبد؛ لصرف منافعه إلى سيده شرعا. الخامس: اختلف فى «من» هل تتناول ¬

(¬106) الانفطار: 13، 14. (¬107) المؤمنون: 5، 6. (¬108) النساء: 23. (¬109) التوبة: 34.

الأنثى؟ فالأصح نعم، خلافا للحنفية، لنا قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى (¬110) فالتفسير بهما دال على تناول «من» لهما، وقوله: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ (¬111). واختلف فى جمع المذكر السالم هل يتناولهما؟ فالأصح لا، وإنما يدخلن فيه بقرينة، أمّا المكسّر فلا خلاف فى دخولهن فيه. السادس: اختلف فى الخطاب ب «يا أهل الكتاب» هل يشمل المؤمنين؟ فالأصح لا؛ لأن اللفظ قاصر على من ذكر. وقيل: إن شاركوهم فى المعنى شملهم وإلّا فلا. واختلف فى الخطاب ب «يأيها الذين آمنوا» هل يشمل أهل الكتاب؟ فقيل: لا، بناء على أنهم غير مخاطبين بالفروع، وقيل: نعم؛ واختاره ابن السمعانى قال: وقوله: «يا أيها الذين آمنوا» خطاب تشريف لا تخصيص (¬112) أ. هـ. وقوله فى سادس هذه الفروع بما قال من اختيار ابن السمعانى فى نحو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قد فصل الزركشى- رحمه الله- القول فى هذه القضية وكشف فيه عن شبهة ابن السمعانى وأجاب عنها فقال فى كتابه البحر المحيط: (الخامسة: «يعنى من مسائل اشتمال العموم على بعض ما يشكل تناوله»: الخطاب ب «يأيها المؤمنون» حكى ابن السمعانى فى «الاصطلام» عن بعض الحنفية أنه لا يشمل غيرهم من الكفار لأنه صريح، ثم اختار التعميم لهم ولغيرهم لعموم التكليف بهذه الأمور، وأن المؤمنين إنما خصوا بالذكر من باب خطاب التشريف لا خطاب التخصيص بدليل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا (¬113) وقد ثبت تحريم الربا فى حق أهل الذمة. قلت: وفيه نظر؛ لأن الكلام فى التناول بالصيغة لا بأمر خارج. وقال بعضهم: لا يتناولهم لفظا، وإن قلنا: إنهم مخاطبون إلا بدليل منفصل أو من عدم الفرق بينهم وبين غيرهم وإلا كيف يقال بعموم الشريعة لهم ولغيرهم، وأما حيث يظهر الفرق أو يمكن معنى غير شامل لهم، فلا يقال بثبوت ذلك الحكم لهم؛ لأنه يكون إثبات حكم بغير دليل، والتعلق قدر زائد على الوجوب فلا يثبت فى حقهم بغير دليل ولا معنى (¬114) أ. هـ والله أعلم. أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة ¬

(¬110) النساء: 124. (¬111) سورة الأحزاب: 31. (¬112) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى: ج 3 من ص 48 إلى ص 58. (¬113) البقرة: 278. (¬114) البحر المحيط فى أصول الفقه، لبدر الدين الزركشى: (ج 3 ص 183).

مطلق القرآن ومقيده

مطلق القرآن ومقيده أولا: ما هو المطلق: هو لغة: (التحرر من القيد). واصطلاحا: (اللفظ الدال على الماهية بلا قيد من وحدة أو غيرها) كذا عرّفه ابن السبكى وغيره. وبعضهم يقيد الماهية فيقول: (الماهية من حيث هى). ويتساوى فى ذلك جعلنا الماهية المقرونة بالعوارض عين هوية الموجود فى الخارج، فتصير الإنسانية هى عين هوية المشخص (محمد)، أو جعلنا الماهية جزءه- كاختيار بعض الحكماء- ففي الحالتين يكون طلب المطلق من العبد شرعا بأن قال له الشارع: اعتق رقبة، فإن هذا المطلق يتحقق فى فرد ذى هوية مخصوصة؛ لأن الماهية المجردة من المشخصات لا يمكن طلبها من العبد؛ لعدم تمكنه من تحصيلها فى الخارج إلّا بالهوية المخصوصة فى فرد خارجى. وعليه لم تكن هناك حاجة لعدول الآمدى لتعريفه المطلق بأنه (لنكرة فى الإثبات)، وعدول تلميذه إلى تعريفه بأنه: (ما دلّ على شائع فى جنسه)؛ لأن ما قالاه أمر كلى ذهنى لا يحصل فى الخارج مجردا، ولأن التعريفات وضعت للوصول للحقيقة لا لما فى الخارج. وقد أحسن صاحب «الكشف» فى تفريقه بين بعض الألفاظ فقال: «الماهية فى ذاتها لا واحدة ولا متكثرة، واللفظ الدال عليها من غير تعرض لقيد ما هو المطلق، ومع التعرض لكثرة معينة هو اسم العدد، وغير معينة هو العام، ولوحدة معينة هو المعرفة، ولوحدة غير معينة هو النكرة». ثانيا: حكم المطلق مع المقيد: الأقسام الممكنة فى مسألة حمل المطلق على المقيد أو عدمه تأتى من النظر إلى الحكم والسبب فى المطلق والمقيد، وهما: المطلق والمقيد إما أن يتفقا فى الحكم والسبب، وإما أن يختلفا فيهما، وإما أن يتفقا فى الحكم ويختلفا فى السبب، أو العكس، فالأقسام أربعة، وكل قسم منها إمّا أن يكون المطلق والمقيد مثبتين وإمّا منفيين وإما أحدهما مثبتا والآخر منفيا. فمجموع

الأقسام: اثنا عشر قسما من ضرب أربعة فى ثلاثة. فما اختلفا فيه فى الحكم والسبب فلا يحمل المطلق على المقيد فيه باتفاق. وبهذا ذهبت أقسام ثلاثة وبقيت تسعة، يظهر الحكم فيها من كلام ابن السبكى وشارحه «المحلى»، مع ملاحظة حمل ما لم يذكر من هذا الفصل على ما ذكر. قالا رحمهما الله: «مسألة المطلق والمقيد كالعام والخاص» فما جاز تخصيص العام به يجوز تقييد المطلق به وما لا فلا. فيجوز تقييد الكتاب بالكتاب وبالسنة، والسنة بالكتاب والسنة، وتقييدهما بالقياس والمفهومين وفعل النبى عليه الصلاة والسلام وتقريره، بخلاف مذهب الراوى، وذكر بعض جزئيات المطلق على الأصح فى الجميع. (و) يزيد المطلق والمقيد «أنهما إن اتحد حكمهما وموجبهما» بكسر الجيم أى سببهما «وكانا مثبتين» كأن يقال فى كفارة الظهار: أعتق رقبة مؤمنة «وتأخر المقيد عن وقت العمل بالمطلق فهو» أى المقيد «ناسخ» للمطلق بالنسبة إلى صدقه بغير المقيد «وإلا» بأن تأخر عن وقت الخطاب بالمطلق دون العمل أو تأخر المطلق عن المقيد مطلقا أو تقارنا أو جهل تاريخهما «حمل المطلق عليه» أى: على المقيد جمعا بين الدليلين. «وقيل المقيد ناسخ» للمطلق «إن تأخر» عن وقت الخطاب به كما لو تأخر عن وقت العمل به بجامع التأخر، «وقيل: يحمل المقيد على المطلق» بأن يلغى القيد؛ لأن ذكر المقيد ذكر الجزئى من المطلق فلا يقيده، كما أن ذكر فرد من العام لا يخصصه. قلنا: الفرق بينهما أن مفهوم القيد حجة بخلاف مفهوم اللقب الذى ذكر فرد من العام منه- كما تقدم- «وإن كانا منفيين» يعنى: غير مثبتين (منفيين أو منهيين) نحو لا يجزى عتق مكاتب. لا يجزى عتق مكاتب كافر، لا تعتق مكاتبا، لا تعتق مكاتبا كافرا «فقائل المفهوم» أى القائل بحجية مفهوم المخالفة وهو الراجح «يقيده به» أى يقيد المطلق بالمقيد فى ذلك «وهى» أى المسألة حينئذ «خاص وعام» لعموم المطلق فى سياق النفى، ونافى المفهوم يلغى القيد ويجرى المطلق على إطلاقه «وإن كان أحدهما أمرا والآخر نهيا» نحو: أعتق رقبة، لا تعتق رقبة كافرة، أعتقا رقبة مؤمنة، لا تعتق رقبة «فالمطلق مقيد بضد الصفة» فى المقيد ليجتمعا، فالمطلق فى المثال الأول مقيد بالإيمان، وفى الثانى مقيد بالكفر «وإن اختلف السبب مع اتحاد الحكم» كما فى قوله تعالى فى كفارة الظهار: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ

وفى كفارة القتل: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. فقال أبو حنيفة: «لا يحمل المطلق على المقيد فى ذلك لاختلاف السبب، فيبقى المطلق على إطلاقه»، «وقيل يحمل» عليه «لفظا» أى بمجرد ورود اللفظ المقيد من غير حاجة إلى جامع. وقال الشافعى رضي الله عنه يحمل عليه «قياسا» فلا بد من جامع بينهما، وهو فى المثال المذكور حرمة سببهما، أى: الظهار والقتل «وإن اتحد الموجب» فيهما واختلف حكمهما» كما فى قوله تعالى فى التيمم: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وفى الوضوء فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ والموجب لهما الحدث واختلاف الحكم من مسح المطلق وغسل المقيد بالمرافق واضح «فعلى الخلاف» من أنه لا يحمل المطلق على المقيد، أو يحمل عليه لفظا أو قياسا وهو الراجح والجامع بينهما فى المثال المذكور اشتراكهما فى سبب حكمهما «والمقيد» فى موضعين «بمتنافيين» وقد أطلق فى موضع كما فى قوله تعالى فى قضاء أيام رمضان: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وفى كفارة الظهار فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ وفى صوم التمتع فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ «يستغنى» فيما أطلق فيه «عنهما إن لم يكن أولى بأحدهما من الآخر قياسا» كما فى المثال المذكور بأن يبقى على إطلاقه لامتناع تقييده بهما لتنافيهما، وبواحد منهما لانتفاء مرجحه فلا يجب فى قضاء رمضان تتابع ولا تفريق، أما إذا كان أولى بالتقييد بأحدهما من الآخر من حيث القياس كأن وجد الجامع بينه وبين مقيده دون الآخر قيد به بناء على الراجح من أن الحمل قياس، فإن قيل: لفظى. فلا. وقول ابن السبكى- رحمه الله- فى شأن ما اتحد فيه السبب والحكم واختلف المطلق والمقيد نفيا وإثباتا: «فالمطلق مقيد بضد الصفة» علق عليه العلامة الشربينى فقال: «ظاهره أنه لا نسخ هنا، وإن تأخر المقيد عن وقت العمل، والظاهر خلافه، فلعل معناه: أنه مقيد بضد الصفة، ثم إن تأخر عن العمل كان نسخا وإلا كان تقييدا» أه. ثم لا يخفى بعد هذا على فطانة القارئ الكريم أن شأن ما اختلف فيه السبب دون الحكم أو الحكم دون السبب شأن ما اتحدا فيه من حيث تفصيل الإثبات والنفى لكن مع بعض فروق طفيفة تطلب من مراجعة تقريرات العلامة الشربينى فى هذا المقام (¬1) أه. ¬

(¬1) انظر: المصدر نفسه (ص 48 - ص 52).

بقى أن يقف القارئ الكريم على ثانى التنبيهين اللذين ختم بهما السيوطى حديثه الموجز عن هذا النوع من علوم القرآن. قال رحمه الله: «ما تقدم: يعنى من حمل المطلق على المقيد وعدمه- محله، إذا كان الحكمان بمعنى واحد، وإنما اختلفا فى الإطلاق والتقييد؛ فأما إذا حكم فى شىء بأمور، ثم فى آخر ببعضها، وسكت فيه عن بعضها، فلا يقتضى الإلحاق، كالأمر بغسل الأعضاء الأربعة فى الوضوء وذكر فى التيمم عضوين، فلا يقال بالحمل، ومسح الرأس والرجلين بالتراب فيه أيضا، وكذلك ذكر العتق والصوم والإطعام فى كفارة الظهار، واقتصر فى كفارة القتل على الأولين، ولم يذكر الإطعام، فلا يقال بالحمل وإبدال الصيام بالطعام (¬2)» أه. أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة ¬

(¬2) الإتقان فى علوم القرآن (ج 3 ص 103).

مجمل القرآن ومبينه

مجمل القرآن ومبينه أولا: المجمل: لغة: اسم مفعول من أجمل الشيء (إذا جمعه حتى اختلط بعضه ببعض فلم تتضح تفاصيله). واصطلاحا: (ما لم تتضح دلالته). فقولهم: (ما) يدخل فيها مع اللفظ الفعل والتقرير، ويخرج المهمل لعدم دلالته أصلا. وسنعرض لبعض مسائل الإجمال: إحداها: أسباب الإجمال: وقد أجمل السيوطى فى «الإتقان» أسباب الإجمال فى ما ملخصه: أن من أسباب الإجمال: (الاشتراك) كما فى قوله تعالى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (¬1). فإن القرء موضوع للطهر والحيض. ومنها: (الحذف) كما فى قوله تعالى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ (¬2) فيحتمل المحذوف أن يكون (فى) أو (عن). ومنها: (اختلاف مرجع الضمير) نحو: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (¬3) فالضمير فى يرفعه يحتمل عوده على الضمير فى (إليه) العائد عليه- سبحانه وتعالى- ويحتمل أن يعود للعمل. ومنها: (احتمال العطف والاستئناف) نحو قوله تعالى: إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ (¬4). ومنها: (غرابة اللفظ) نحو: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ (¬5). ومنها: (عدم كثرة الاستعمال الآن) نحو: ثانِيَ عِطْفِهِ (¬6) أى متكبرا. ومنها: (التقديم والتأخير) نحو: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها (¬7) أى: يسألونك عنها كأنك حفىّ. ومنها: (قلب المنقول) نحو: وَطُورِ سِينِينَ (¬8) أى: سيناء. ومنها: (التكرير القاطع لوصل الكلام فى الظاهر) نحو: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ (¬9) (¬10) أهـ. ملخصا. واضح مما عرضنا من أسباب الإجمال نسبية هذه ¬

(¬1) سورة البقرة: 228. (¬2) سورة النساء: 127. (¬3) سورة فاطر: 10. (¬4) سورة آل عمران: 7. (¬5) سورة البقرة: 232. (¬6) سورة الحج: 9. (¬7) سورة الأعراف: 187. (¬8) سورة التين: 2. (¬9) سورة الأعراف: 75. (¬10) الإتقان فى علوم القرآن: (ج 3 ص 59) فما بعدها.

ثانيها: هل المجمل واقع فى القرآن؟:

الأسباب حتى إنها قد يتلاشى الإجمال فى بعضها. ثانيها: هل المجمل واقع فى القرآن؟: يتضح من الأمثلة السابقة عند عرض أسباب الإجمال وقوع المجمل فى القرآن خلافا لدواد الظاهرى. ولكن هل يبقى على إجماله؟ خلاف بين العلماء، والصواب عندى: أنه لا يكون كذلك، على ما أثبتناه من أن الحق فى المتشابه علم الراسخين بتأويله، وقيل: يبقى مطلقا، وقيل: لا يبقى فى مواطن التكليف. وكل هذا ضعيف سوى الأول. ثالثها: آيات اختلف فيها هل من قبيل المجمل أم المبين؟ ذكر السيوطى نماذج: منها: آية السرقة قيل: مجملة؛ لأن اليد تطلق على العضو إلى الكوع وإلى المرفق وإلى المنكب، ولا ظهور لواحد منها، وأبان الشارع المراد، وقيل: لا إجمال فيها؛ لأن القطع ظاهر فى الإبانة. ومنها وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ (¬11) قيل: إنها مجملة لترددها بين مسح الكل والبعض، ومسح الشارع على الناصية مبين، وقيل: لا، إنما هى لمطلق المسح الصادق بأقل مسح. ومنها: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ (¬12) بنسب الحرمة للعين، ولا حرمة فيها، فهى مجملة؛ لأنه لا بدّ من تقدير لفعل وهو محتمل. وقيل: لا، لوجود المرجح وهو العرف بتحريم الاستمتاع. ومنها: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا (¬13) قيل: مجملة؛ لأن ما من بيع إلا وفيه زيادة، وقيل: لا؛ لأن البيع منقول شرعا فحمل على إطلاقه وعمومه. ومنها: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ (¬14) ووَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (¬15). والآيات التى فيها الأسماء الشرعية لاحتمال إرادة معانيها اللغوية فافتقرت للبيان، وقيل: لا، بل تحمل على الشرعية إلا بدليل. رابعها: التفرقة بين المجمل والمحتمل لمعنيين: فرق بينهما ابن الحصار (¬16) - بعد أن ذكر أن من الناس من ساوى بينهما- بأن المجمل: اللفظ المبهم الذى لا يفهم المراد منه، والمحتمل: الواقع بالوضع الأول على معنيين مفهومين فصاعدا. والمجمل يدل على أمور معروفة، والمحتمل متردد بينها، والشارع لم يفوض لأحد بيان المجمل بخلاف المحتمل (¬17). ¬

(¬11) سورة المائدة: 6. (¬12) سورة النساء: 23. (¬13) سورة البقرة: 275. (¬14) سورة البقرة: 43. (¬15) سورة آل عمران: 97. (¬16) هو على بن محمد بن محمد بن إبراهيم الخزرجى الإشبيلي له مؤلفات منها «أصول الفقه»، و «الناسخ والمنسوخ»، و «البيان فى تنقيح البرهان». توفى سنة 611 هـ (التكملة لابن الأبار ص 686). (¬17) انظر: الإتقان فى علوم القرآن: (ج 3 ص 62: ص 65).

خامسها: حكمة إيراد المجمل:

خامسها: حكمة إيراد المجمل: الحاصل أن لإيراد المجمل الذى هو أحد قسمى المتشابه فوائد عظيمة منها: حكم الابتلاء وحفز العقول على النظر وتحصيل العلوم ونيل شرف العلم، والتعرض لنيل درجات علمية من الفضل بقدر ما يبذل من جهد فى التوصل إلى الحق، ومزيد طمأنينة القلوب بالبرهان على أحقية كون القرآن من عند الله. وقد أشار إلى هذه الفوائد الزمخشرى فى «كشافه» (¬18). ولحجة الإسلام الغزالى والرازى فى تفسيره والقاضى عبد الجبار فى «متشابه القرآن» كلام فى هذه المسألة فيراجع فى رسالتنا «المحكم والمتشابه فى القرآن». ثانيا: المبيّن: فى بيان حقيقته: يذكر العضد فى شرحه «لمختصر ابن الحاجب» أن البيان يطلق ويراد به فعل المبين، وهو التبيين من بان: إذا ظهر وانفصل، ويطلق ويراد ما حصل به التبيين وهو الدليل، ويطلق ويراد متعلق التبيين ومحله وهو المدلول. فعرفه الصيرفى بالنظر للأول بأنه: الإخراج من حيز الإشكال إلى التجلى والوضوح (¬19). وأورد على هذا التعريف إيرادات واهية، وسنعرض فيما يلى بالتفصيل لمسألتين من مسائل هذا المبحث: أولاهما: بم يقع البيان؟ ذكر الإمام السيوطى ما يقع به البيان بالأمثلة ما ملخصه: أن بيان آى القرآن قد يقع بالمتصل كما وقع لقوله تعالى: الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ بقوله: مِنَ الْفَجْرِ (¬20)، وقد يكون البيان بالمنفصل كما فى قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ (¬21) فقد بيّنه قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ (¬22)، فإنه بيّن أن المراد بالطلاق فى الآية الأولى: الذى يملك الرجعة بعده، ولولا الآية الثانية لكان الطلاق منحصرا فى الطلقتين. ثم ذكر الإمام السيوطى أمثلة كثيرة من البيان المنفصل. ثم ذكر أن البيان قد يكون أيضا بالسنة مثل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ (¬23)، وقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قد بينت السنة أفعال الصلاة والحج ومقادير الزكاة فى أنواعها (¬24). ثانيتهما: تأخير البيان: ذكر الإمام ابن السبكى أقوالا فى هذه المسألة ملخصها: أن أولها: يرى أصحابه ¬

(¬18) انظر: الكشاف: (ج 1 ص 259). (¬19) انظر شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: (ج 2 ص 162). (¬20) سورة البقرة: 187. (¬21) سورة البقرة: 229. (¬22) سورة البقرة: 230. (¬23) سورة البقرة: 43. (¬24) انظر: الإتقان فى علوم القرآن: (ج 3 ص 60: 62).

عدم وقوع تأخير البيان عن وقت الفعل، وإن جاز عند المجوزين للتكليف بما لا يطلق. وثانيها: يرى أصحابه أن تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الفعل واقع وجائز سواء كان مبينا أم مجملا، قول الجمهور. وثالثها: يمتنع فى المبين بخلاف المجمل. ورابعها: يمتنع تأخير البيان الإجمالى فيما له ظاهر دون التفصيلى، ويجوز فى المجمل تأخيرهما. وخامسها: يمتنع تأخير البيان فى غير النسخ. وسادسها: لا يجوز تأخير بعض البيان دون بعض، لعدم إيهام المخاطب بأن المقدم هو البيان فقط. ثم اختار الجلال المحلى رأى الجمهور بأن تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الفعل واقع وجائز، واستدل على الوقوع بالغنيمة فى قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ (¬25) فإنه عام فيما يغنم خصص بحديث الصحيحين: «من قتل قتيلا فله سلبه». وذكر ابن السبكى أن الحديث كان فى غزوة حنين، وأن الآية كانت فى بدر. وبيّن أن الأقوال السابقة على القول بالجواز، أما القول بالمنع من التأخير فالمختار جواز تأخير النبى صلّى الله عليه وسلم التبليغ إلى وقت الحاجة، وقيل: لا يجوز لقوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (¬26) أى على الفور، وذكر أن كلام الرازى والآمدى يقتضى المنع فى القرآن، ولم يقع فى كلامه صلّى الله عليه وسلم لما علم أنه كان يسأل فيجيب تارة ويقف انتظارا للوحى أخرى. ثم بين أن المختار على المنع أنه يجوز أن لا يعلم المكلف الموجود بالمخصص بذاته أو بوصفه أنه مخصص. وقيل: لا يجوز فى المخصص السمعى لما فيه من تأخير إعلامه بالبيان، وفى العقلى اتفقوا على الجواز، وذكر أنه وقع من بعض الصحابة عدم سماع المخصص السمعى إلّا بعد حين، كعدم سماع عمر رضي الله عنه ما يخصص المجوس حتى سمع عبد الرحمن بن عوف يخبره عن النبى صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»، وأنه أخذ الجزية (¬27). أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة ¬

(¬25) سورة الأنفال: 41. (¬26) سورة المائدة: 67. (¬27) انظر: شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع: (ج 2 ص 69: 74).

مصادر للبحث والاستزادة (1) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى. (2) البحر المحيط لبدر الدين الزركشى، ط الكويت. (3) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور. (4) تفسير القرآن العظيم لابن كثير. (5) جامع البيان عن تأويل أى القرآن للطبرى. (6) الجامع الصحيح لأبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى. (7) حاشية البنانى على شرح الجلال المحلى لجمع الجوامع لابن السبكى. (8) شرح العضد على مختصر ابن الحاجب، نشر مكتبة الكليات الأزهرية بالصنادقية. (9) فتح البارى لابن حجر العسقلانى. (10) الكشاف للزمخشرى. (11) معالم التنزيل للبغوى بهامش تفسير الخازن، ط مصطفى الحلبى.

أحكام القرآن

أحكام القرآن الأحكام: جمع حكم. وهو لغة: بمعنى المنع والقضاء، يقال: حكمت بكذا. أى: منعت من الخلاف. والحكمة تمنع صاحبها من فعل الرذائل. كما فى «المصباح والقاموس». واصطلاحا: الذى نقصده هو الحكم الشرعى، وقد اقتصر بعض الأصوليين كالبيضاوى وابن السبكى على الحكم التكليفى فى تعريف الحكم الشرعى، ولكنها طريقة ضعيفة عند الأصوليين، نصّ على ذلك شيخ أشياخنا محمد بخيت المطيعى. وعرفها ابن الحاجب فزاد الحكم الوضعى، وهو الصواب. نرى أن أمثل التعاريف هو: الحكم: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع)، فقولهم: (خطاب الله) يقصد به توجيه الخطاب أى: الكلام المخاطب به كلام الله النفسى القديم، وخرج به كل خطاب لغيره- سبحانه- ومن قال لا يشمل الأحكام الثابتة بالسنة والإجماع والقياس، قلنا هذه الأدلة معرفات للخطاب وليست مثبتات له. وقولهم: (المتعلق بفعل المكلف) أى: تعلقا معنويا فى الأزل وتنجيزيا بعد البعثة، ووجود المكلف على شرط التكليف، وخرج خطاب الله المتعلق بالذوات والصفات والجمادات، وقولهم: (بالاقتضاء) وهو الطلب فيكون للفعل والترك، وللفعل قد يكون جازما فهو الإيجاب، أو غير جازم فهو الندب، وللترك فيكون جازما وهو التحريم، أو غير جازم وهو الكراهة. وهو- بالاقتضاء- قيد أخرج خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الإخبار، كما فى قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ. وقولهم: (أو التخيير) هو الإباحة فصارت الأحكام التكليفية خمسة، وهى كذلك عند الجمهور- وقولهم (أو الوضع) أى: جعل الشيء سببا كالسرقة سبب فى القطع، أو شرطا كالطهارة شرط فى الصلاة، أو مانعا كالسكر والجنابة المانعين من الصلاة، أو صحيحا فتترتب عليه آثاره، أو فاسدا فلا تترتب. فأقسام الحكم الوضعى خمسة أيضا، وهى المعتمدة عند الجمهور. وكل واحد من أقسام الحكم التكليفى الخمسة، تتأتى معه أقسام الوضعى الخمسة فيكون حاصل أقسام

منهج القرآن العظيم فى سياق أحكامه

الحكم الشرعى خمسة وعشرين قسما من ضرب خمسة التكليفى فى خمسة الوضعى. أما الفقهاء فيجعلون الحكم الشرعى مدلول ذلك الخطاب أو قل: صفة فعل المكلف، فالحكم عند الأصوليين الإيجاب الذى هو صفة قائمة بذاته سبحانه، والوجوب الذى هو صفة فعل المكلف هو الحكم عند الفقهاء. وقد اعتنى معظم المفسرين- ولا سيما أصحاب التفاسير المبسوطة منهم- بهذا النوع من مقاصد القرآن كل حسب مشربه ومذهبه، بل أفرده بالتصنيف جماعة كثيرة فى القديم والحديث. قال الزركشى فى «البرهان»: (أولهم: الشافعى، ثم تلاه من أصحابنا الكيا الهراس، ومن الحنيفة أبو بكر الرازى، ومن المالكية القاضى إسماعيل، وبكر ابن العلاء القشيرى، وابن بكر، ومكى، وابن العربى، ومن الحنابلة القاضى أبو يعلى الكبير) (¬1)، بل إن من المفسرين من جعل من أعظم غاياته فى تصنيف تفسيره العناية بهذا النوع حتى سمى كتابه «بالجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآى الفرقان» فصدر العنوان عن كتابه كما ترى بالجامع لأحكام القرآن، وذلكم هو أبو عبد الله القرطبى فى تفسيره الضخم المشهور بين أيدى الناس حتى صار كل من يريد التوسع فى معرفة حكم من أحكام القرآن يرجع إلى هذا التفسير باعتباره أعظم مصدر للوفاء بهذه الطلبة. منهج القرآن العظيم فى سياق أحكامه بيّن العلماء منهج القرآن فى سياق أحكامه ويتلخص هذا المنهج فى نظرتين هما: إحداهما: أن القرآن أتى جامعا للأحكام بطريقة كلية إجمالية دون النظر إلى واحد من أقسام الأحكام الشرعية. هذا ما نصّ عليه الشاطبى فى «الموافقات»، وذكر أن السنة جاءت مفسرة لأحكامه الكلية؛ ولذا تضمن القرآن الكليات المعنوية على الكمال، وهى الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وكذلك أتى بأصول العبادات والمعاملات، فكل ما استنبط من الأحكام بالسنة أو الإجماع أو القياس فإنما نشأ عن القرآن، واستدل الشاطبى لذلك، ثم ذكر أنه لا ينبغى فى الاستنباط الاقتصار على القرآن دون النظر فى شرحه وهو السنة (¬2). ولولا كلية التناول للأحكام لتضخم القرآن وعسر على الأمة حفظه. ولولا هذه الكلية ما اتصف القرآن بالمرونة والصلاحية لكل عصر، وكذلك لولاها ما حصل علماء المسلمين هذه الرتب العلية بالاجتهاد. هذه أولى النظرتين. ¬

(¬1) البرهان فى علوم القرآن: (ج 2 ص 3). (¬2) الموافقات، للشاطبى: (ج 4 ص 180 - 183).

أما ثانيتهما: هى أن القرآن أتى بأحكام مفصلة، وهذا هو القليل فى تناوله للأحكام، وتتمثل هذه النظرة فى مقولة السيوطى ونقله عن العز بن عبد السلام، قال: «قال عز الدين ابن عبد السلام فى كتاب «الإمام فى أدلة الأحكام»: (معظم آى القرآن لا يخلو عن أحكام مشتملة على آداب حسنة، وأخلاق جميلة، ثم من الآيات ما صرح فيه بالأحكام، ومنها ما يؤخذ بطريق الاستنباط، إما بلا ضم إلى آية أخرى كاستنباط صحة أنكحة الكفار من قوله: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (¬3)، وصحة صوم الجنب من قوله: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ إلى قوله: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ (¬4) الآية، وإما به كاستنباط أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً، مع قوله: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ (¬5)). قال: (ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة وهو ظاهر، وتارة بالإخبار مثل: أُحِلَّ لَكُمْ (¬6) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (¬7)، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ (¬8)، وتارة بما رتب عليها فى العاجل أو الآجل من خير أو شر، أو نفع أو ضر، وقد نوّع الشارع ذلك أنواعا كثيرة، ترغيبا لعباده وترهيبا، وتقريبا إلى أفهامهم، فكل فعل عظمه الشرع أو مدحه أو مدح فاعله لأجله أو أحبه أو أحب فاعله، أو رضى به أو رضى عن فاعله، أو وصفه بالاستقامة أو البركة أو الطيب، أو أقسم به أو بفاعله كالإقسام بالشفع والوتر، وبخيل المجاهدين، وبالنفس اللوامة، أو نصبه سببا لذكره لعبده أو لمحبته أو لثواب عاجل أو آجل، أو لشكره له، أو لهدايته إياه، أو لإرضاء فاعله، أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته، أو لقبوله، أو لنصرة فاعله، أو بشارته، أو وصف فاعله بالطيب، أو وصف الفعل بكونه معروفا، أو نفى الحزن والخوف عن فاعله، أو وعده بالأمن، أو نصب سببا لولايته، أو أخبر عن دعاء الرسول بحصوله، أو وصفه بكونه قربة، أو بصفة مدح كالحياة والنور والشفاء، فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب، وكل فعل طلب الشارع تركه، أو ذمه أو ذم فاعله، أو عتب عليه أو مقت فاعله أو لعنه، أو نفى محبته أو محبة فاعله، أو الرضا به أو عن فاعله، أو شبه فاعله بالبهائم أو بالشياطين، أو جعله مانعا من الهدى، أو من القبول، أو وصفه بسوء أو كراهية، أو استعاذة الأنبياء منه أو أبغضوه، أو جعله سببا لنفى الفلاح، أو لعذاب عاجل أو آجل، أو لذم أو لوم أو ضلالة أو معصية، أو وصف بخبث أو ¬

(¬3) سورة المسد: 4. (¬4) سورة البقرة: 187. (¬5) سورة لقمان: 14. (¬6) سورة البقرة: 187. (¬7) سورة المائدة: 3. (¬8) سورة البقرة: 183.

الأحكام الشرعية بين القطعية والظنية:

رجس، أو لعن أو غضب، أو زوال نعمة، أو حلول نقمة، أو حد من الحدود، أو قسوة أو خزى أو ارتهان نفس، أو لعداوة الله ومحاربته، أو لاستهزائه أو سخريته، أو جعله الله سببا لنسيانه فاعله، أو وصفه نفسه بالصبر عليه أو بالحلم، أو بالصفح عنه، أو دعاء إلى التوبة منه، أو وصف فاعله بخبث أو احتقار، أو نسبه إلى عمل الشيطان أو تزيينه، أو تولى الشيطان لفاعله، أو وصفه بصفة ذم ككونه ظلما أو بغيا أو عدوانا أو إثما أو مرضا، أو تبرأ الأنبياء منه أو من فاعله، أو شكوا إلى الله من فاعله، أو جاهروا فاعله بالعداوة، أو نهوا عن الأسى والحزن عليه، أو نصب سببا لخيبة فاعله عاجلا أو آجلا، أو رتب عليه حرمان الجنة وما فيها، أو وصف فاعله بأنه عدو لله، أو بأن الله عدوه، أو أعلم فاعله بحرب من الله ورسوله، أو حمّل فاعله إثما، أو قيل فيه: لا ينبغى هذا أو لا يكون، أو أمر بالتقوى عند السؤال عنه، أو أمر بفعل مضاده أو بهجر فاعله، أو تلاعن فاعلوه فى الآخرة أو تبرأ بعضهم من بعض، أو دعا بعضهم على بعض أو وصف فاعله بالضلالة وأنه ليس من الله فى شىء أو ليس من الرسول وأصحابه، أو جعل اجتنابه سببا للفلاح، أو جعله سببا لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، أو قيل: هل أنت منته، أو نهى الأنبياء عن الدعاء لفاعله، أو رتب عليه إبعادا أو طردا أو لفظة «قتل من فعله» أو «قاتله الله»، أو أخبر أن فاعله لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه ولا يزكيه، ولا يصلح عمله ولا يهدى كيده أو لا يفلح، أو قيض له الشيطان، أو جعل سببا لإزاغة قلب فاعله، أو صرفه عن آيات الله وسؤاله عن علة الفعل. فهو دليل على المنع من الفعل ودلالته على التحريم أظهر من دلالته على مجرد الكراهة. وتستفاد الإباحة من لفظ الإحلال ونفى الجناح والحرج والإثم والمؤاخذة، ومن الإذن فيه والعفو عنه، ومن الامتنان بما فى الأعيان من المنافع ومن السكوت عن التحريم ومن الإنكار على من حرم الشيء مع الإخبار بأنه خلق أو جعل لنا، والإخبار عن فعل من قبلنا من غير ذم لهم عليه، فإن اقترن بإخباره مدح دل على مشروعيته وجوبا أو استحبابا). انتهى كلام الشيخ عز الدين (¬9). الأحكام الشرعية بين القطعية والظنية: إن الأحكام الشرعية منها ما هو قطعى ومنها ما هو ظنى. فالقطعى قسمان: قسم يكفر جاحده وهو المعلوم من الدين بالضرورة؛ كوجوب الصلاة والزكاة وحرمة الزنا. وقسم ¬

(¬9) الإتقان فى علوم القرآن: (ج 4 ص 40 - 43).

لا يكفر جاحده، وتتحقق القطعية فيه بأحد أمرين: بالإجماع، ويكون لا سند له غيره كإجماعهم على أن الرق من موانع الإرث، ولم يكفر جاحده للاختلاف الشديد فى مسائل الإجماع (وقوعه- وجوازه)، أو بالتواتر عند قوم وعدمه عند آخرين كالبسملة آية من أول كل سورة. والظنى: وهو كل حكم دلّ عليه الظنى الثبوت أو الدلالة، وهو كثير جدا فى الفروع، وله أثر عظيم فى اجتهاد الأمة، ومن فوائده العظيمة: 1 - تحقيق رحمة الأمة بتوسيع الأمر على أفرادها من خلال الفقهاء، حتى يأخذ كل فرد ما يلائمه، ما لم يكن بلغ درجة الاجتهاد. وقد عنى عدد من العلماء بهذه الفائدة فصنف فيها أبو عبد الله الدمشقى (رحمة الأمة فى اختلاف الأئمة)، والشيخ عبد الوهاب الشعرانى (الميزان الكبرى). 2 - ما قدمه علماء الأمة من مسائل فقهية فرضية تفيد بشدة فى واقعنا المعاصر سواء بأحكام أم بطرق معالجة الفقهاء فيها لعملية استنباط الأحكام. والله أعلم. أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة مصادر البحث والاستزادة فى الموضوع (1) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى. (2) البرهان فى علوم القرآن للزركشى. (3) الجامع الصحيح للبخارى. (4) جمع الجوامع لابن السبكى. (5) حاشية الشيخ بخيت المطيعى على نهاية السول للأسنوى، ط السلفية. (6) شرح الكوكب المنير لابن النجار تحقيق الدكتور محمد الزحيلى والدكتور نزيه حماد، مكتبة العبيكان الرياض السعودية. (7) مختصر ابن الحاجب. (8) منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوى. (9) الموافقات لأبى اسحاق الشاطبى، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الطبعة الأولى، نشر دار ابن عفان، الخبر، العقربية، السعودية.

قصص القرآن القصص: مصدر كالقص أو اسم مصدر منه. وقصّ فلان الشيء- من باب قتل- إذا تتبع أثره، وفى التنزيل: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ (¬1)، وخرج فلان فى إثر فلان قصصا ومنه: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (¬2)، وقصّ الخبر: حدث به على وجهه، والقصة- بالكسر- الشأن والأمر، ولم يأت فى القرآن لفظ القصة ولكن أتى لفظ (القصص): إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ (¬3)، وسواء كان هذا اللفظ مصدرا أو اسم مصدر فهو بمعنى المفعول أى: الخبر المقصوص المحدّث به على وجهه. وقد أخطأ بعض الباحثين عند ما يطلبون فى القصص القرآنى أن يستكمل أركان القصة بالمعنى المحدث التى هى مستمدة من الخيال ومبنية على قواعد فنون الكتابة (¬4)؛ وذلك لأنهم لم يفرقوا بين القصة بمعنى الحكاية والقصة بمعنى الخبر المحدث به على وجهه، والثانى هو المراد فى القصص القرآنى؛ لأن الأشخاص والزمان والمكان ليست بالضرورة أركانا للخبر المحدث به، فقد يبهم المكان والزمان كما فى قوله تعالى: وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (¬5)، وقد يبهم الزمان كما فى قوله تعالى: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (¬6)، وقد يبهم الشخص أو الأشخاص كما فى قوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (¬7)، فالذى يجب وجوده فى القصص القرآنى هو الحدث والعبرة، أما بقية عناصر القصة المحدثة فإنما توجد بحسب الحاجة إليها وأهميتها فى القصة (الخبر)، فلو كان للشخصية مدخل كبير فى الحدث فإنها تذكر كمريم- عليها السلام- فى قصتها، والهدهد فى قصة سبأ، وكثيرا ما تأتى الشخصية بصورة التنكير كما فى قصة النملة، لأن الحدث مبناه منطق النملة وسماع سليمان عليه السّلام لها. وقد يهتم بإبراز الزمان كما فى قصة أهل الكهف فى قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (¬8) وكذلك فى قوله تعالى: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ (¬9) فالزمان المذكور إنما يذكر بمقدار ما يحتاجه الحدث. ¬

(¬1) سورة القصص (11). (¬2) سورة الكهف: (64). (¬3) سورة آل عمران (62). (¬4) انظر: تاج العروس واللسان والمصباح المنير والمعجم الوسيط فى هذه المادة. (¬5) سورة يوسف (16). (¬6) سورة يوسف (99). (¬7) سورة القلم (17). (¬8) سورة الكهف (25). (¬9) سورة البقرة (259).

وكذلك المكان كمصر والأحقاف والكهف، وهذه تعدّ الميزة الأولى فى القصص القرآنى التى تميزه عن سائر القصص. أما الميزة الثانية للقصص القرآنى فهى الواقعية الصادقة الحقة، فليس فيه شىء من نسج الخيال والأساطير، أو ما يكذبه الواقع أو التاريخ، وسواء فى هذا الصدق ما جاء لضرب المثل أو لم يكن كذلك، وإن جوّز بعض علمائنا التقدير فى الأول فى المثل مع احتمال التحقيق، منهم: العلامة أبو السعود العمادى فى قصة القرية الآمنة فى سورة النحل (¬10) وفى قصة الرجلين (¬11)، ولكن هذا لا يصح، فإن مجرد القراءة بدون تأمل تكشف زيف احتمال التقدير فى القصتين. ولكنّ العلامة أبا السعود لم يكن يعلم أن خبث الطوية سيدفع بعضهم إلى ادعاء تبنى الإسلام للأساطير متبعين فى ذلك خطوات أعداء الإسلام. وثالثة هذه الميزات تغيى القرآن فى قصصه أسمى الغايات، فلا يستهدف كغيره من القصص الترويح ولا الإيناس حتى ولو طلب بعض أصحاب النبىّ صلّى الله عليه وسلم ذلك منه، فيردهم القرآن عن ذلك بقوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ (¬12). وكذلك عند ما قالوا له صلّى الله عليه وسلم: لولا حدثتنا. فنزل قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً (¬13) ورويت روايات أخرى فى سبب نزول الآية- مع التسليم بفرض صحتها- نجد أن الصحابة إنما سألت ذلك لدفع الملال، فدلهم- سبحانه- على أحسن القصص. وكذلك لا يقصد القصص القرآنى سرد الأحداث التاريخية لمجرد ذكر التاريخ أو المساهمة فى دراسات العمران البشرى، بل يقصد ما هو أسمى، وهو وضع المعيار لما يجب أن يكون وكيف تكون عاقبة من يخالفه. ولقد استوفى صاحب «التحرير والتنوير» المزيد مما ذكرنا من ميزات القصص القرآنى، فقد ذكر أن القصص القرآنى لا تقف أهدافه عند العبرة والعظة مما يقع لأهل الصلاح وأهل الفساد وعاقبة كل، بل يتعدى ذلك ليأخذ من كل قصة أشرفها وأسماها ليكون منزها عن التفكه؛ ولذا تأتى القصص متفرقة على غير سنن كتب التاريخ لمناسبة الفوائد العظيمة في كل موضع، وهذا يجعل القصة القرآنية تكتسب صفتين هما: صفة البرهان، وصفة البيان. وذكر من ميزات القصص القرآنى نسجه على أسلوب الإيجاز يجعله شبيها بالتذكير أقوى، مثال ذلك قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (¬14) فجاء قوله لهم موجزا ليناسب مقام التذكير. ¬

(¬10) انظر: تفسيره (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم) أول آيات هذه القصة (ج 5 ص 144). (¬11) السابق نفسه فى أولى آيات هذه القصة (ص 221). (¬12) سورة يوسف (3). (¬13) سورة الزمر (23). (¬14) سورة القلم (26 - 28).

ومن ميزاته أيضا التى ذكرها: طىّ ما يقتضيه الكلام الوارد فى قوله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ (¬15) فقد طوى حضور سيدها وطرقه للباب وإسراعهما إليه لفتحه. ومن ميزاته أيضا: أنه- القصص- مثبت بأسلوب بديع إذ ساقها فى مظان الإيقاظ مع المحافظة على الغرض الأصلى من تشريع، فتوفرت فى ذلك عشر فوائد: الأولى: كانت غاية علم أهل الكتاب نقل أخبار الأولين، فلما جاء القرآن بقصصه متحديا ومعجزا لهم؛ لأن هذه الأخبار كان لا يعلمها إلا الراسخون فى العلم منهم فقال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا (¬16) فنفى عن المسلمين صفة الأمية التى ادعتها اليهود، وصفة الجهل التى ادعتها النصارى. الثانية: تكليل هامة التشريع الإسلامى بذكر تاريخ المتشرعين وذلك من أدب الشريعة؛ لأنه لا يتعرض لقصص السابقين إلا لذكر ثبات إيمانهم وصبرهم، كما ذكر فى قصة أهل الكهف، ولا يذكر نسبهم ولا حسبهم. الثالثة: فائدة ظهور المثل العليا فى الفضيلة وزكاء النفوس كفائدة من التاريخ وترتب الأحداث والعلاقة بين التعمير والتخريب والشر والخير. الرابعة: عظة المشركين بإعلام ما حدث لأسلافهم ليعودوا لربهم فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (¬17). الخامسة: استخدام القصص القرآنى لأسلوب التوصيف والمحاورة الذى لم يعتده العرب، فهم يعترفون بأنه أسلوب بديع، ولكنهم لا يستطيعون الإتيان بمثله. السادسة: توسيع علم العرب الذين كانوا يتصفون بالجهل والأمية باطلاعهم على أحوال الأمم السابقة ليساعدهم ذلك فى تطهير أخلاقهم وتهذيبها. السابعة: تعويد المسلمين على سعة العالم وعظمة الأمم، والاعتراف لكل ذى حق بحقه؛ فإذا علمت الأمة ذلك جمعت ميزات هذه الأمم وما يلائم حياتها. الثامنة: إنشاء همة السعى إلى سيادة العالم فى نفوس المسلمين كما سعى إلى ذلك أمم سابقة. التاسعة: معرفة أن قوة الله فوق كل قوة، فيساعد ذلك المسلمين على التمسك بوسيلتى البقاء: الاستعداد، والاعتماد، وهما وسيلتا السلامة. ¬

(¬15) سورة يوسف (25). (¬16) سورة هود (49). (¬17) سورة الأعراف (176).

العاشرة: تحصيل الفوائد التبعية مثل معرفة تاريخ التشريعات والحضارات الذى يفيد فى الإلمام بفوائد المدنية. كعلمنا بأن الشريعة القبطية كان يسترق فيها السارق من قصة يوسف فى قوله تعالى: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ (¬18). ثم أجاب عن تساؤل: لماذا لم يكتف بالقصة الواحدة فى تحصيل المقصود منها، وما فائدة التكرار فى سور كثيرة؟ فذكر أن هذا الهاجس قد يكون تطرق من المناهج الإلحادية فى نظرتها للقرآن. ولكننا نقول: إن القرآن أقرب إلى الوعظ منه إلى التأليف، فالخطيب لو قام يعظ لو أعاد المعانى لم يعد الألفاظ، فالقرآن تارة تأتى القصة للبرهان وتارة للتبيان فيحصل بها مقاصد الخطبة والوعظ وتحصل معه مقاصد أخرى: أحدها: الرسوخ فى الأذهان. الثانى: إظهار البلاغة بتعدد الأساليب البديعة فى التعبير عن الغرض الواحد، فذلك وجه من وجوه الإعجاز. الثالث: أن يسمع من تأخر إسلامه القصة التى نزلت فى وقت سبق إسلامه؛ لأن سماعه للقصة عند نزولها أوقع فى نفسه. الرابع: لم يكن المسلمون كلهم يحفظون القرآن بأكمله، بل يحفظ البعض بعض السور، وعليه يكون من حفظ سورة فيها القصة لم يفت الآخر الذى حفظ سورة أخرى معرفة نفس القصة؛ لأنها مكررة فى السورة التى حفظها. الخامس: أن فى كل مرة تكرر فيها القصة يذكر فيها ما لم يذكر فى غيرها؛ وذلك تجنبا للتطويل ومناسبة للحالة المقصودة من سامعيها، فتارة تساق للمؤمنين، وتارة تساق للكافرين، وبذلك يتفاوت الأسلوب بين الإطناب والإيجاز على حسب المقام، فقصة موسى عليه السّلام التى بسطت فى سورة طه والشعراء أوجزت فى سورة الفرقان فى آيتين هما: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (¬19) انتهى. تحرير الطاهر بن عاشور. ولا شك أن الفوائد التى ذكرها بعضها أعظم من بعض، وإن لاحظنا العموم عليها بحيث تشمل جميع القصص القرآنى، ولكن هذا لا يمنع أن يكون لكل قصة فائدتها الخاصة بها. ومن أراد ذلك فليطالع على سبيل المثال ما ذكره القاسمى فى تفسيره لسورة يوسف فى الآية الأخيرة منها. أ. د./ إبراهيم عبد الرحمن خليفة ¬

(¬18) سورة يوسف (76). (¬19) سورة الفرقان: (35 - 36).

مصادر البحث والاستزادة فى الموضوع (1) إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم للعلامة أبى السعود العمادى، ط القاهرة. (2) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور. (3) تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلانى، تحقيق الشيخ محمد عوامة- نشر دار الرشيد- سوريا، حلب. (4) جامع البيان عن تأويل آى القرآن، لابن جرير الطبرى. (5) الفن القصصى فى القرآن، للدكتور محمد خلف الله. طبع القاهرة. (6) القاموس المحيط للفيروزآبادى وشرحه، تاج العروس للزبيدى. (7) القصص القرآنى فى مفهومه ومنطوقه للأستاذ عبد الكريم الخطيب، ط دار المعرفة، بيروت. (8) المستدرك على الصحيحين لأبى عبد الله الحاكم وتلخيصه للحافظ الذهبى. (9) محاسن التأويل للقاسمى ط مؤسسة التاريخ العربى بيروت، لبنان. (10) المعجم الوسيط، وضع مجمع اللغة العربية- القاهرة.

محاورات القرآن وجدله المحاورة: مصدر من (حاور) بمعنى تراجعا الكلام تقول: حاور الرجل صاحبه أى: راجعه الكلام. كذا فى «المصباح». وفيه أيضا: جدل الرجل جدلا، من باب تعب: إذا اشتدت خصومته، وجادل مجادلة وجدالا: إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب. وفى لسان حملة الشرع: مقابلة الأدلة لظهور أرجحها، وهو محمود إن كان للوقوف على الحق وإلّا فمذموم. والمحاورة: تكون خصومة أو لا، وكذلك تكون فى مقابلة دليل أو لا. أما الجدل فعلى خلاف المحاورة فى الاثنين. فكل جدل حوار لا العكس. ومن استعمال الحوار فى الخصومة قوله تعالى: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ (¬1)، ومن مقابلة الدليل قصة المجادلة لزوجها فى الظهار، فى قوله تعالى: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما (¬2). ولم يأت الحوار الخالى من الخصومة ومن مقابلة الدليل فى القرآن. والمحاورة المستعملة فى لغة الكاتبين فى عصرنا لا يكادون يستعملونها فى معنى الجدل، وكأن الجدل ليس فردا من أفرادها؛ لأنهم يقصرونه على اللدد فى الخصومة، مع أن الجدل منه ما هو محمود حسن، ومنه ما هو مذموم قبيح، فمن المذموم: جدال الكفار بغير علم وهم أتباع للشيطان فيه؛ لأنه هو الذى بدأه فى استكبار السجود لآدم قال تعالى فى هذا النوع: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ (¬3) ومن الجدل المحمود الحسن: ما كان مبعثه الرحمة والشفقة، كما فى قوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (¬4)، والجدال فى نصفة النفس كما فى قصة المرأة المجادلة عن نفسها. وأعظم الجدل المحمود هو ما كان فى نصرة الحق ودحض الباطل كما فى أمره سبحانه وتعالى لنبيه: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (¬5)، إذا كان الخصم ليس لددا مصرا، أما إذا كان كذلك فيكون الصواب قوله تعالى: وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (¬6). ¬

(¬1) سورة الكهف (37). (¬2) سورة المجادلة (1). (¬3) سورة الحج (8). (¬4) سورة هود (74) والآيات حتى (76). (¬5) سورة النحل (125). (¬6) سورة الحج (68).

ومن الكاتبين من خصوا هذا النوع السابق باسم الجدل فى القرآن. ولقد أجاد الإمام السيوطى فى كلامه عن هذا النوع من علوم القرآن فذكر ما ملخصه: أن نجم الدين الطوفي أفرد الجدل فى القرآن بالتصنيف، ونقل عن العلماء: أن القرآن اشتمل على جميع أنواع البراهين والأدلة، ولكن أوردها على عادة العرب مبتعدا عن دقائق طرق المتكلمين لأمرين هما: قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ (¬7)، وأن مخاطبته فى محجة خلقه جاءت فى أجلى صورة ليفهمها العامة لا القليلون، فتلزم الجميع الحجة. ونقل عن ابن أبى الأصبع أن الجاحظ زعم أن المذهب الكلامى لا يوجد منه شىء فى القرآن. ورد عليه بأنه مشحون به. ثم عرف الجدل بأنه: (احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند له فيه على طريقة أرباب الكلام). ومنه نوع منطقى تستنتج منه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة، فالإسلاميون ذكروا أن أول سورة الحج إلى قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (¬8) خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات: قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ (¬9)؛ لأنه قد ثبت عندنا بالخبر المتواتر أنه تعالى أخبر بزلزلة الساعة معظما لها، وذلك مقطوع بصحته، لأنه خبر أخبر به من ثبت صدقه عمن ثبتت قدرته، منقول إلينا بالتواتر، فهو حق، ولا يخبر بالحق عما سيكون إلا الحق، فالله هو الحق. وأخبر تعالى أنه يحيى الموتى؛ لأنه أخبر عن أهوال الساعة بما أخبر، وحصول فائدة هذا الخبر موقوفة على إحياء الموتى، ليشاهدوا تلك الأهوال التى يعملها الله من أجلهم؛ وقد ثبت أنه قادر على كل شىء، ومن الأشياء إحياء الموتى، فهو يحيى الموتى، وأخبر أنه على كل شىء قدير، لأنه أخبر أنه من يتبع الشياطين، ومن يجادل فيه بغير علم يذقه عذاب السعير، ولا يقدر على ذلك إلا من هو على كل شىء قدير، فهو على كل شىء قدير، وأخبر أن الساعة آتية لا ريب فيها، لأنه أخبر بالخبر الصادق أنه خلق الإنسان من تراب إلى قوله: لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً (¬10)، وضرب لذلك مثلا بالأرض الهامدة التى ينزل عليها الماء، فتهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج، ومن خلق الإنسان على ما أخبر به فأوجده بالخلق ثم أعدمه بالموت، ثم يعيده بالبعث، وأوجد الأرض بعد العدم فأحياها بالخلق، ثم أماتها بالجدب، ثم أحياها بالخصب، وصدق خبره فى ذلك كله بدلالة الواقع المشاهد على المتوقع الغائب؛ حتى انقلب الخبر عيانا صدق خبره فى الإتيان بالساعة، ولا يأتى بالساعة إلا من ¬

(¬7) سورة إبراهيم (4). (¬8) سورة الحج (7). (¬9) سورة الحج (6). (¬10) سورة الحج (5).

يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ لأنها عبارة عن مدة تقوم فيها الأموات للمجازاة، فهى آتية لا ريب فيها، وهو- سبحان وتعالى- يبعث من فى القبور (¬11). وقال: وقال غيره: استدل- سبحانه- على المعاد الجسمانى بضروب أحدها: قياس الإعادة على الابتداء كما فى قوله تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ (¬12)، وثانيها: قياس الإعادة على خلق السموات والأرض بطريق الأولى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ (¬13)، وثالثها: قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات، ورابعها: قياس الإعادة على إخراج النار من الشجر الأخضر، وخامسها: أن الاختلاف جبلة فى الدنيا، فلا بد من حياة أخرى غير هذه الحياة، يرتفع فيها الخلاف والعناد، وهذا ما وعد الله به فى قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ (¬14). ثم ذكر استدلالهم على أن الله صانع العالم، وهو واحد بدليل التمانع فى قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا (¬15). ثم أخذ السيوطى يبين طرفا من المصطلحات المعروفة فى علم الجدل، فذكر منها: السبر والتقسيم، ومن أمثلته فى القرآن قوله تعالى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ (¬16) الآيتين، فقد ردّ الله- سبحانه- فى الآيتين على الكفار فى تحريمهم ذكور الأنعام بالسبر والتقسيم، وكأنه يبين لهم أنه لا تصح أى علة للتحريم، فإما أن تكون العلة الأنوثة، أو الذكورة، أو اشتمال الرحم لهما، أو لا تدرى لها علة، فهو التعبدى، وهم لا يتلقون عن الله ليزعموا ذلك. ومنها- أى المصطلحات: القول بالموجب. ونقل عن ابن أبى الأصبع تعريفه: بأنه رد كلام الخصم من فحوى كلامه. وقال غيره هو قسمان: أحدهما: أن تقع صفة فى كلام الغير كناية عن شىء أثبت له حكما، فيثبتها لغير ذلك الشيء كقوله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ (¬17)، فالأعز فى كلام المنافقين كناية عنهم، فنثبتها لغير ذلك وهو الله ورسوله (فالأعز) الله رسوله صلّى الله عليه وسلم و (الأذل) المنافقون. ثانيهما: حمل لفظ وقع فى كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه. وذكر له مثالا ظفر به فى قوله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ (¬18) فحمل لفظ (أذن) التى للسبب، على (الأذن) الحاسة. ¬

(¬11) بديع القرآن: (ص 37، 48). (¬12) سورة الأنبياء (104). (¬13) سورة يس (81). (¬14) سورة الأعراف (43). (¬15) سورة الأنبياء (22). (¬16) سورة الأنعام (143). (¬17) سورة المنافقون (8). (¬18) سورة التوبة (61).

ومنها: التسليم وهو قبول وقوع المحال افتراضا ثم التدليل على عدم فائدته وإن وقع كما فى قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ (¬19). فلما كان الواقع على خلاف ذلك- مع التسليم فرضا بوقوعه- فلا يصح وجود إلهين لما يلزم منه المحال. ومنها: الإسجال وهو: الإتيان بألفاظ تسجل على المخاطب وقوع ما خوطب به، كما فى قوله تعالى: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ (¬20). ومنها: الانتقال وهو: أن ينتقل من استدلال لآخر لعدم فهم الخصم له كما فى قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ (¬21)، بعد عدم فهمه لقوله: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، فقال وهو لا يفهم: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. ومنها: المناقضة وهو: تعليقه على مستحيل إشارة لاستحالته، كما فى قوله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ (¬22). ومنها: مجاراة الخصم، كما فى قوله تعالى: قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (¬23). وبها يعسر عليهم بعد هذا التبكيت والإلزام المجاراة فى الجدل (¬24). أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة ¬

(¬19) سورة المؤمنون (91). (¬20) سورة آل عمران (194). (¬21) سورة البقرة (258). (¬22) سورة الأعراف (40). (¬23) سورة إبراهيم (10، 11). (¬24) الإتقان فى علوم القرآن: (ج 4 ص 60: 66).

أقسام القرآن

أقسام القرآن القسم: الحلف، اسم مصدر من أقسم إقساما: إذا حلف. كذا فى «المصباح» - وهو الغاية القصوى فى الكلام، ولذا لا يخاطب به خالى الذهن، وإنما يخاطب به المكذب والمنكر. وعلماء المعانى يجعلونه من الإنشاء الذى ليس لنسبته مدلول فى الخارج بل معناه قائم بنفس المتكلم. وأركانه أربعة: (مقسم- ومقسم به- مقسم عليه- وأداة القسم). وقد أورد بعضهم شبهة مفاداها ما حكمة قسمه- سبحانه- أو قسم نبيه صلّى الله عليه وسلم؛ لأن قسمه- سبحانه- وقسم نبيه صلّى الله عليه وسلم لمؤمن فلا حاجة له، أو لكافر فلا ينفعه بل ينفعه الدليل؟ وقد أجاب السيوطى عن هذه الشبهة بأن لغة العرب من عادتها القسم عند التأكيد، والقرآن نزل بلغتهم، ونقل جواب القشيرى بأن ذكر القسم لكمال الحجة والتأكيد؛ لأن الحكم يفصل فيه بالشهادة أو القسم، وقد جاء بهما- سبحانه- فى كتابه فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ (¬1)، وقال سبحانه وتعالى: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ (¬2). وأرى أن أمثل ما يجاب به: أن القسم إنما جاء لفرط أهمية المقسم عليه عند المقسم، وهذه فائدة يجدر بك أن تبينها للمؤمن والكافر على حد سواء. وجواب آخر أعظم من السابق: أن القسم منه دليل وبرهان على قدرته على فعل المقسم عليه. أركان القسم: أولا: المقسم: المقسم فى القرآن أربعة: (أ) الله تعالى نفسه، وهو كثير ولب موضوعنا كقوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (¬3). (ب) رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو غيره من الرسل كقوله تعالى: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ (¬4)، وقول إبراهيم: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (¬5). (ج) غير الرسل كما فى قوله تعالى: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (¬6). (د) غير البشر، كالذى جاء عن رأس الكفر ¬

(¬1) سورة آل عمران (18). (¬2) سورة يونس (53). (¬3) سورة الحجر (92، 93). (¬4) سورة يونس: (53). (¬5) سورة الأنبياء (57). (¬6) سورة القلم (17).

إبليس فى قوله تعالى: قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (¬7). ثانيا: المقسم به: جاء القسم فى القرآن بالله- سبحانه- أو أحد صفاته، أو بصفة فعله كبناء السماء وطحو الأرض، وبالمخلوقات كالصافات والذاريات والطور، وحياة النبى صلّى الله عليه وسلم خاصة فى قوله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (¬8). فالحلف به- سبحانه وتعالى- أو بصفته أو صفة فعله لا إشكال فيها، وينعقد اليمين بها، ولزمته الكفارة فى الحنث، ولكن الكلام فى حلفه بمخلوقاته- سبحانه. والجواب ذكره السيوطى فذكر أوجها له: أحدها: أنه على حلف مضاف تقديره (ورب التين). والثانى: العرب تعظم الأشياء وتقسم بها، فنزل بلغة العرب. والثالث: أن القسم بما يعظمه المقسم، وعليه فالقسم بالمخلوق هو قسم بالخالق. ونقل السيوطى مثل هذا المعنى عن ابن أبى الأصبع فى (أسرار الفواتح) - ثم ذكر آثارا عن الصحابة والتابعين فى القسم بالنبى صلّى الله عليه وسلم، وأنه كان لبيان مكانته عند ربه- سبحانه. وأرى: أن ثانى الأجوبة التى ذكرها السيوطى لا معنى له؛ ولذا لم يذكره الحافظ ابن حجر مع استيفائه لأحاديث هذه المسألة فأورد الجواب الأول وهو حذف المضاف، والثالث: وهو أنه خاص بالله لتعظيم المقسم به. ونقل الحافظ عن ابن عبد البر جعل لفظ (أفلح وأبيه) من الحديث غير محفوظة، وتردها الأحاديث الصحيحة. وقد ورد فى غير حديث مرفوع القسم بقوله: (وأبيك) فى مثل إجابته عن أى الصدقة أفضل؟ فقال: «وأبيك لتنبأن». فإذا ثبت ذلك، فالجواب عليه بأجوبة: الأول: أنه كان يجرى على ألسنتهم دون قصد القسم والمنهى عنه قصد القسم بها. وإليه مال البيهقى وارتضاه النووى. والثانى: أنه يقع فى كلامهم للتعظيم والتأكيد، والنهى كان عن التعظيم. فمن أمثلة ما وقع فى كلامهم للتأكيد لا للتعظيم قول الشاعر: فإن تلك ليلى استودعتنى أمانة ... فلا وأبى أعدائها لا أذيعها فلا يمكن أن يكون معظما لأبى أعدائها، بل قصد تأكيد كلامه. والثالث: أن هذا كان جائزا ثم نسخ، قاله الماوردى، وحكاه البيهقى، وقال السبكى: أكثر الشّراح عليه. وقال ابن العربى: وروى أن ¬

(¬7) سورة ص (82). (¬8) سورة الحجر (72).

النبى صلّى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه ثم نهى عن ذلك. وقال المنذرى: دعوى النسخ ضعيفة لعدم تحقق التاريخ. والرابع: أن فى الجواب حذفا تقديره (أفلح ورب أبيه). قاله البيهقى. والخامس: أنه للتعجب. قاله السهيلى. والسادس: أنه خاص بالشارع دون أمته. ورد بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال. ثم تكلم الحافظ ابن حجر عن القسم بغير الله، وذهب إلى أنه لا ينعقد، ونقل عن بعض الحنابلة استثناءهم للحلف بالنبىّ صلّى الله عليه وسلم القول بالانعقاد فى الحلف به صلّى الله عليه وسلم ووجوب الكفارة فى الحنث، لأنه أحد ركنى الشهادة. وأطلق ابن العربى النسبة لمذهب أحمد ورد هذا. ثم استنبط من الحديث المشروح- (أفلح وأبيه) - أن من قال: إن فعلت كذا فهو يهودى أو نصرانى. انعقد يمينه. ثم ذكر عن ابن المنذر أنه نقل الخلاف فى الحلف بغير الله، فنقل عن طائفة أن النهى خاص بأيمان الجاهلية لتعظيمهم فيها الأوثان، فهذه يأثم صاحبها ولا تنعقد. وأما ما كان يؤول إلى تعظيمه- سبحانه وتعالى- والقربة إليه ليس داخلا فى النهى، ومن قال به أبو عبيد وطائفة، ودليله إيجاب الصحابة على الحالف بالهدى والصدقة والعتق، وهذا يعنى أنهم فهموا النهى ليس عاما، وتعقبه ابن عبد البر بأنه ليس حلفا. ونقل عن الطبرى عدم انعقاد الحلف بغير الله، وأن ابن عباس علل قسمه- سبحانه- بالمخلوقات ليعجب بها المخلوقين ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم. ونقل الإجماع عن ابن هبيرة على انعقاد الحلف بالله- والاتفاق على عدم جواز الحلف بمعظم، ونقل انفراد أحمد بانعقاد الحلف بالنبى صلّى الله عليه وسلم، ونقل عن عياض عدم الخلاف بين الفقهاء من انعقاد الحلف بالله أو بصفاته إلا ما روى عن الشافعى باشتراط نية الحالف بالصفات. وهذا النقل عن الشافعى غير صحيح؛ لأن الشافعى يشترط النية فى ما يصح إطلاقه عليه- سبحانه وتعالى- وعلى غيره. ونقل عن وجه للشافعية أن اليمين الصريح عندهم بلفظ (الله)، وعن المالكية التعميم، وكذلك الحنابلة (¬9). ثالثا: أداة القسم: الغالب فيها أن تكون فعلا كأقسم، ويجب حذف هذا الفعل من الواو القسمية ك (والله)؛ لأن هذه الواو لا تدخل إلّا على الاسم الظاهر، وكذلك يجب حذفه مع التاء، وهى مختصة بلفظ الجلالة (تالله) وتفيد مع القسم معنى التعجب كقول أخوة يوسف: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ (¬10)، وغالبا يذكر الفعل مع الباء القسمية ك (أقسم ¬

(¬9) فتح البارى: (ج 11 ص 533 - 535). (¬10) سورة يوسف (85).

بالله لأفعلن كذا).، وقلما يحذف كما فى قوله تعالى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (¬11). ولقد ذكر جار الله الزمخشرى الفرق بين الباء والتاء: أن الباء الأصل، والتاء مبدلة من الواو التى مبدلة منها، وفى التاء زيادة معنى التعجب (¬12). فالغالب فى أداة القسم ائتلافها من فعل وحرف على ما وصفنا. وقد يكون القسم جملة اسمية، فيحذف خبرها وجوبا إذا كان المبتدأ نصا فى اليمين كقولهم: (لعمر الله لأفعلن كذا)، وقوله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (¬13) وتقدير المحذوف: يمينى أو قسمى، فإن لم يكن نصا فى اليمين أو القسم جاز حذف الخبر وذكره، كما فى قولهم: (عهد الله لأفعلن كذا). نصّ على ذلك ابن عقيل فى شرحه «لألفية ابن مالك». و «فى حاشية الخضرى» شرح معنى قولهم: (نصا فى القسم) بأن يكثر ويغلب استعماله فى القسم. وبيّن أن (عهد الله) يعتبرها بعضهم (نصا فى القسم)، فلا إشكال فى تسوية الفقهاء بينها وبين (العمر)؛ لأنهما كناية يمين، ولا ينعقد بهما إلّا مع النية (¬14) وقد تحذف أداة القسم والمقسم به معا ويدلّ عليهما باللام الموطئة للقسم كقوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً (¬15)، وقد يحذفان فلا يدلّ عليهما إلّا المعنى، قال السيوطى نحو: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها (¬16). رابعا: المقسم عليه: الأصل فيه وهو جواب القسم، أن يذكر كما سبق فى الأمثلة، وقد يحذف، فقد ذكر أبو على الفارسى أن الألفاظ الجارية مجرى القسم قسمان: أولهما: التى كغيرها من الأخبار وليست بقسم، فلا تجاب بجواب، كما فى قوله: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا (¬17). فتجوز أن تكون قسما أو حالا للخلو من الجواب. وثانيهما: ما يتلقى بجواب القسم كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ (¬18). بل يحذف جواب القسم مع هذا الثانى لحكمة. وقد بيّن شمس الدين ابن القيم فى (التبيان فى أقسام القرآن) أن القسم فى القرآن بأمور: على أمور، فيقسم- سبحانه- بذاته وصفاته، وآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وبعض المخلوقات ليدل على عظيم آياته، ثم بين أن الغالب على القسم الجملة الخبرية، وقد تكون طلبية كقوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (¬19)، وقد ¬

(¬11) سورة ص (82). (¬12) الكشاف (ج 3 ص 14). (¬13) سورة الحجر (72). (¬14) حاشية الخضرى على شرح ابن عقيل (ج 1 ص 107). (¬15) سورة آل عمران (186). (¬16) سورة مريم (71). (¬17) سورة البقرة (93). (¬18) سورة النور (53). (¬19) سورة الحجر (92، 93).

يراد تحقيق المقسم عليه، فيكون من باب الخبر، وقد يراد به تحقيق القسم. والأشياء الواضحة الجلية يقسم بها لا عليها، ويجوز ذلك فى القرآن. وذكر أن فى القرآن تارة يذكر جواب القسم، وتارة يحذف، والأول الغالب. والحالف لا يعيد المقسم عليه ولو كرر القسم، ولما كان القسم يكثر فى الكلام حذف فعله واكتفى بالباء، ثم حذفت وعوض عنها بالواو فى الأسماء الظاهرة والتاء فى أسماء الله. فسبحانه وتعالى يقسم على أصول الإيمان وأن الرسول حق، وأن الجزاء والوعد والوعيد حق، وحال الإنسان. فمن الأول: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (¬20) إلى قوله: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (¬21)، ومن الثانى: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (¬22)، ومن الثالث: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (¬23) إلى قوله تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (¬24)، ومن الرابع: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (¬25). ثم ذكر أن الجواب يحذف تارة ولا يراد ذكره، بل يراد تعظيم المقسم به، وهذا يذكر معه الفعل مع حرف القسم كقولك: (فلان يحلف بالله وحده)، وقد يكون بحرف القسم فقط كقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا، ومقلب القلوب»، وتارة بحذف الجواب، وهو مراده لظهوره بدلالة الحال، أو بدلالة السياق، ويكثر إذا كان فى نفس المقسم به ما يدلّ عليه، وهى طريقة القرآن؛ لأن المقصود يحصل بذكر المقسم به، فيكون حذف المقسم عليه أبلغ، كمن أراد أن يقسم على أن الرسول حق فقال: والذى أرسل محمدا بالهدى ودين الحق وأيده بالآيات البينات ... فلا يكون فى حاجة إلى جواب. ومن ذلك قوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (¬26). انتهى ملخصه. تنبيهات: أحدها: قد تقع (لا) قبل فعل القسم كقوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (¬27) واختلف العلماء فى تفسير المراد عندئذ على ثلاثة أقوال مبناها اختلاف فى (لا): 1 - أن (لا) نافية فهو نفى للجملة، وليس نفيا لاستحقاقها القسم بها. 2 - أن (لا) نافية نفت الكلام السابق وجملة القسم مثبتة وهو أضعفها. 3 - أن (لا) زائدة لمجرد التأكيد، وجملة القسم مثبتة. وعليه يكون القسم حاصلا على قولين وغير حاصل على قول. ¬

(¬20) سورة الصافات (1). (¬21) سورة الصافات (3). (¬22) سورة يس (1 - 3). (¬23) سورة الذاريات (1). (¬24) سورة الذاريات (5، 6). (¬25) سورة العصر (1 - 3). (¬26) سورة ص (1). (¬27) سورة القيامة (1).

ثانيها: (المسميات الإيمانية والتربوية للقسم): جعل الله من مقتضى الإيمان الكامل عدم جعل اسم الله عرضة للقسم، فقال تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (¬28)، والجعل متعلق بالاسم لا بالذات كما نصّ عليه الطاهر بن عاشور. والعرضة: على وزن الفعلة وزن دالّ على المفعول. وهو مشتق من عرضه إذا وضعه على العرض أى الجانب. والمقصود جعل الشيء حاجزا. فالعرضة تطلق على المعنيين، ويمكن حمل الآية على المعنيين. والمعنى الثانى شاع حتى ساوى الحقيقة. واللام فى (لأيمانكم) لتعدية الفعل. أى تحلفوا بالله على الامتناع عن التقوى والبر والإصلاح. وسمّى الحلف يمينا؛ لأن العرب كانت من عادتهم أن يمسك المتحالفان كل واحد منهما يمين الآخر. ثم اختصروا فقالوا: صدرت منه يمين أو حلف يمينا، فهى من تسمية الشيء بما يقارنه ويلازمه، فلما كان أغلب حلفهم معاهدة بحيث يضع المتعاهدون أيديهم بعضا على بعض، فشاع إطلاق اليمين على الحلف. وهو يرجع إلى إشهاد الله على صدق الحالف. ومعنى الآية- لو كانت العرضة بمعنى الحائل- أى لا تجعلوا اسم الله حائلا معنويا بينكم وبين فعل البر والتقوى والإصلاح. كما وقع من أبى بكر عند ما أقسم ألّا ينال مسطحا بخير بعد أن خاض فى الإفك. وأما على تقدير أن تكون العرضة بمعنى الشيء المعرّض، فالمعنى: لا تجعلوا اسم الله معرضا لأن تحلفوا به فى الامتناع عن البر والتقوى والإصلاح. وقدّرت (لا) بعد (أن) فصار المعنى أن لا تبروا كما فى قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا (¬29) لأن تعظيم الله يجب أن لا يكون سببا فى قطع ما أمر به ونهى عن عدم البر والتقوى والإصلاح. وهذا النهى يستلزم أن الحلف لو وقع على ترك البر فلا حرج من تركه. وعليه يكون قوله: أَنْ تَبَرُّوا مفعولا لأجله فهو علة النهى أى إنما نهيتكم لتكونوا أتقياء أبرارا مصلحين. فعلى التقدير الأول يكون هناك عذر فى الحنث، وعلى التقدير الثانى يكون هناك تحذير من الحلف. ومن تمام ما يتعلق بالآية السابقة من آداب سامية فى الحلف معالجة المشقة التى تقع على الذين جرت الأيمان على ألسنتهم، فما حكم أيمانه؟ ويظهر الحاجة إلى فهم قوله تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ ¬

(¬28) سورة البقرة (224). (¬29) سورة النساء (176).

يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (¬30). وقد ذكر الطاهر بن عاشور فى تفسير هذه الآية ما ملخصه: أن النفوس بعد سماع الآية السابقة تزداد الهواجس من كثرة تردد الأيمان على الألسنة. فجاء قوله تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ (¬31) الآية. والمؤاخذة مفاعلة من الأخذ بمعنى المحاسبة. فالمفاعلة للمبالغة فى الأخذ والمحاسبة، واللغو مصدر من لغا: إذا قال كلاما باطلا. ويقال: لغا يلغو لغوا، كدعا، ولغا يلغى لغيا كسعى. ولغة القرآن بالواو، وفى اللسان «أنه لا نظير له إلّا قولهم أسوته أسوا وأسى». ويطلق اللغو أيضا على الكلام الساقط الذى لا يعتد به وهو الخطأ وهو إطلاق شائع. واقتصر عليه الزمخشرى فى «الأساس» وفى «الكشاف». و (فى) للظرفية المجازية يراد بها الملابسة، وهى صفة للغو أو حال منه، وكذلك قدره الكواشى فيكون المعنى: لا يؤاخذكم الله بأن تلغوا لغوا ملابسا للأيمان. هذا إن جعلت اللغو مصدرا، أما إذا جعلته اسما للكلام الساقط فيكون المعنى: لا يؤاخذكم الله فى أيمانكم باللغو. فكثرة جريان الحلف على الألسنة جعلته يشبه اللغو فى الكلام. وقد اختلف العلماء فى مراد اليمين فى الآية: الجمهور على أنها الأيمان الجارية على الألسنة بغير قصد الحلف، وهذا قول عائشة والشعبى وأبى قلابة، وعكرمة، ومجاهد، وأبى صالح وبه أخذ الشافعى. ودليله أن اللغو وردت فى الآية فى مقابلة المنعقدة، فلا بد أن هذه التى لا قصد فيها أى غير منعقدة فلا إثم ولا كفارة عليها، وفى غيرها الكفارة المذكورة فى سورة المائدة: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ (¬32) فيكون فى الغموس، والمعلق، وعلى الظن الذى يتبين خلافه. وذهب مالك إلى أن اللغو هو الذى يقسم فيه على شىء يظنه كذلك، أو يتبين خلافه ظنه، وهو مروى فى غير «الموطأ» عن أبى هريرة، وقال به الحسن، وإبراهيم، وقتادة والسدى، ومكحول، وابن أبى نجيح، ودليله من الآية المؤاخذة على كسب القلب لا على أصل القسم، فعلم أن المراد بكسبه كسب الحنث أى تعمده، فالحالف على ظن يظهر خطؤه لا يتعمد الحنث، فهو الملغو ولا مؤاخذة فيه. ومن قال: لا والله. وهو كاذب فهو قسم عنده، وجاءت عليه الكفارة؛ لأنه حلف حين حلف وهو حانث، وإنما جعلنا تفسير (ما كسبت قلوبكم) كسب الحنث، لأن مساق الآية للحنث، لأن قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ ¬

(¬30) سورة البقرة (225). (¬31) سورة البقرة (225). (¬32) سورة المائدة (89).

عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ (¬33) إما إذن فى الحنث، أو نهى عن الحلف خشية الحنث. وقال جماعة: اللغو لم يقصد به الكذب، فشمل القسمين: ما كان بلا قصد، وما كان بقصد مع اعتقاد الصدق، وممن قال به ابن عباس، والشعبى، وأبو حنيفة وعلله بمثل ما سبق ذكره من عدم تعلق المؤاخذة بأصل الحلف. والمنعقدة من العقد، وهو فى اللغة بمعنى: الربط- فهى يمين فيه تعليق، ومقابل اللغو؛ المنعقدة والغموس، فالمنعقدة والغموس نوعان، وفى الحنث بالمنعقدة الكفارة. وقوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (¬34) تدليل لحكم نفى المؤاخذة. ثالثها: كما وقع القسم فى الدنيا يقع فى الآخرة، ومن ذلك قول أهل الجنة: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (¬35). وكذلك يقع من الكافرين فى قولهم: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (¬36). والله أعلم. أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة مصادر هذ الموضوع (1) الإتقان فى علوم القرآن، للسيوطى. (2) التبيان فى أقسام القرآن، لشمس الدين ابن القيم، ط دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان. (3) التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور. (4) تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير. (5) الجامع الصحيح، للبخارى. (6) شرح ابن عقيل لألفية بن مالك وحاشية الخضرى عليه، ط عيسى الحلبى. (7) صحيح مسلم. (8) فتح البارى شرح صحيح البخارى، للحافظ ابن حجر العسقلانى. (9) الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل، لجار الله الزمخشرى. ¬

(¬33) سورة البقرة (224). (¬34) سورة المائدة (101). (¬35) سورة الصافات (56). (¬36) سورة الأنعام (23).

الأسماء والكنى والألقاب فى القرآن

الأسماء والكنى والألقاب فى القرآن فى هذا النوع من علوم القرآن، حفل كلام السيوطى بالكثير من الأخبار المنكرة والباطلة، وما لا أصل له، وما هو من الإسرائيليات التى لا أصل لها فى الكتاب والسنة؛ ولذا فإنا نطرح كل ذلك، ونكتفى بمجرد المس الخفيف لما عرض له القرآن من هذه الأنواع الثلاثة، دون الدخول فى الشرح التفصيلى لمعنى أى منها، فضلا عما وراء ذلك من سبب التسمية وذكر الأنساب وغيرهما، على ما وقع من السيوطى فى الكثير من هذا. أولا: الأسماء: ذكر الله- تعالى- من الأسماء فى القرآن العظيم أعلاما وأسماء أجناس، فمن الأعلام: وأشرفها، أسماء القرآن، وقد مرت، وأسماء الكتب المتقدمة (التوراة كتاب موسى، والزبور كتاب داود، والإنجيل كتاب عيسى، عليهم السلام)، ويلى ذلك فى الشرف أسماء الأنبياء وبعض الملائكة عليهم السلام. فأما أسماء الأنبياء، فقد ذكر الله منها ستة وعشرين اسما لخمسة وعشرين نبيا، منهم ثمانية عشر اسما فى قوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (¬1) ويبقى سبعة وهم إدريس وهود وشعيب وذو الكفل وصالح وآدم، وقد نظمهم بعضهم فقال: فى تلك حجتنا منهم ثمانية ... من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو إدريس هود شعيب صالح وكذا ... ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا وإنما كانت الأسماء ستة وعشرين مع كون المسمين- عليهم السلام- خمسة وعشرين، لأن لنبينا صلّى الله عليه وسلم اسمين مذكورين فى القرآن «محمد» فى أربع سور (آل عمران- والأحزاب ¬

_ (¬1) الأنعام الآيات من 83 إلى 86.

- ومحمد- والفتح) «وأحمد» فى (سورة الصف). وأما ما جاء من أسماء بعض الملائكة فجبريل، وميكال أو ميكائيل- وقرئ بهما- عليهما السلام. ومنها أعلام لبشر غير أنبياء، كلقمان فى سورته على القول بأنه غير نبى، «وكزيد» أى ابن حارثة مولى النبى صلّى الله عليه وسلم وقع التنصيص على اسمه ليكون واقعة عين مشهودة فى قاعدة إبطال التبنى، وهدم ما كان معروفا فى الجاهلية من توريث المتبنى وتحريم زواج من تبناه بامرأته، على ما جاء فى سورة الأحزاب من تزويج الله تعالى نبيه بزينب امرأة زيد الذى كان متبناه. ومن تلك الأعلام: «مريم» أم عيسى عليهما السلام- ولها سورة فى القرآن مسماة باسمها، ولم يذكر علم لأحد من النساء سواها؛ لكونها وابنها آية للعالمين. وهؤلاء جميعا من البشر المؤمنين. ومن أعلام كفار البشر: «آزر» أبو إبراهيم- عليه السلام- خلفه حقا وحقيقة، لا مجازا على ما يدعيه البعض. ومنهم: «قارون وهامان» وقد ذكرا فى «القصص» و «غافر». ومنهم: «جالوت» الذى قتله داود- عليه السلام- على ما جاء فى قصة طالوت وجنوده من سورة البقرة. ومن غير البشر والملائكة جاء علم لجنى واحد هو إبليس رأس الكفر- لعنه الله. ومن أعلام القبائل: (عاد، وثمود، ومدين) فى مواضع عديدة من القرآن. و (يأجوج ومأجوج) فى الكهف. والأنبياء و (سبأ) فى سورتها. و (قريش) فى سورتها. وكما رأى القارئ الكريم، فإن ما ذكر إلى الآن أعلام أشخاص للعقلاء أفرادا كانوا أو جماعات. ومن الأعلام المذكورة فى القرآن لغير العاقل: (أ) أعلام للأصنام- وقد جاء من هذا: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، أصنام قوم نوح على ما جاء فى سورة نوح- عليه السلام. واللات، والعزى، ومناة. أصنام مشركى قريش والعرب، وذكرت فى سورة النجم. (ب) ومنها أعلام الأمكنة والبلدان والأنهار والوديان وما إلى ذلك. فمن البلدان: مكة وبكة، بالميم والباء. والمدينة لمدينة النبى صلّى الله عليه وسلم، وهو علم بالغلبة، ويثرب لها أيضا. ومصر الممنوعة من الصرف فى أربعة مواضع من القرآن: موضع فى يونس، واثنان فى يوسف، ورابع فى الزخرف. وبابل فى قصة هاروت وماروت من سورة البقرة. ومن الأمكنة: بدر، وحنين، والمشعر الحرام- وهو علم بالغلبة على المزدلفة، أو على جبل

ثانيا: الكنى:

بها، والصواب الأول. والحجر: مساكن قوم صالح- عليه السلام- وفى التنزيل سورة باسمه. والأحقاف: مساكن عاد قوم هود، وفى القرآن سورة بهذا الاسم كذلك. والكهف: علم بالغلبة على الذى أوى إليه الفتية وله سورة باسمه كذلك. وعرفات: اسم للمكان المخصوص أو للجبل والصواب الأول. ومن الجبال: «طور سيناء». ومن أسماء الأنهار: «الكوثر»: نهر فى الجنة. وسلسبيل وتسنيم عينان فى الجنة كذلك. ومن الأودية: «ويل»: اسم واد فى جهنم، على ما أخرج الترمذى بسند حسن من حديث أبى سعيد الخدرى مرفوعا. وأشرف أعلام الأمكنة على الإطلاق- (العرش العظيم)، ثم الفردوس: اسم لأعلى الجنة وأوسطها، وفوقها- بالضم أى سقفها- عرش الرحمن. ثم مكة، فالمدينة. فهذه هى الأعلام. وأما أسماء الأجناس فهى كثيرة جدا كالإنس، والجان، والملائكة، والطير، والشمس، والقمر، والنجوم، والكواكب، والجبال، والشجر، والدواب إلى غير ذلك مما يطول ذكره ولا يفيد استقصاؤه. ثانيا: الكنى: ولم يأت منها فى القرآن إلا واحدة فى قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ لعم النبى صلّى الله عليه وسلم واسمه عبد العزى على ما هو معروف مشهور فى السير والمغازى. ثالثا: الألقاب: وأما الألقاب فكثيرة منها: النبى، والرسول، والخليل لإبراهيم عليه السلام، وإسرائيل بمعنى عبد الله ليعقوب عليه السلام، والمسيح لعيسى عليه السلام. ومنها: فرعون لقب لمن ملك مصر قديما ومنهم فرعون موسى، وتبّع لمن ملك اليمن. ومن ألقاب غير البشر وشرها على الإطلاق: الشيطان: لقب لإبليس- لعنه الله- ثم استعمل فى كل من بلغ من الشر أقصى غاية- كشياطين الجن والإنس، وكذلك الوسواس الخناس مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ. والله أعلم أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة

الموصول لفظا المفصول معنى

الموصول لفظا المفصول معنى أفرد السيوطى نوعا وذكر أنه جدير بالإفراد بالتصنيف، وبه تحصل فوائد وحل إشكالات، وحاصل هذا النوع فى أمرين: أحدهما: أن يتبادر معنى لا يصلح أن يكون مرادا ويندفع الإشكال بحمله على آخر. ثانيهما: أن يتوهم أن صاحب الكلام واحد فيندفع هذا التوهم ببيان قائله. والمعنى الجامع لهما هو: قطع آخر الكلام عن أوله لحكمة، ومن مثل الأمر الأول التى صدّر بها السيوطى بحثه قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها حتى قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. فالحديث فى قصة آدم كما جاء التصريح بذلك، أخرجه ابن أبى حاتم وغيره عن ابن عباس بسند صحيح، وعند أحمد والترمذى وحسنه، والحاكم وصححه من طريق الحسن عن سمرة مرفوعا. ولكن آخر الآية مشكل لما فيه من نسبة الإشراك لآدم. وهناك من حمل الآية على غير آدم، وعلّل الحديث- أى جعله معلولا- وحكم بنكارته، وحاصل ما دفع به السيوطى الإشكال مستندا إلى قولى السدى وأبى مالك أن قوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ مفصول عما قبله وهو مختص بمشركى العرب. ثم نقل السيوطى ثلاث روايات عند ابن أبى حاتم بهذا المعنى فاتضحت المعضلة. ويوضح ذلك تحول الضمير من التثنية العائد لآدم وحواء فى قوله تعالى: آتاهُما إلى الجمع فى قوله تعالى: يُشْرِكُونَ. وأرى أن الإشكال ما زال قائما لقوله تعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما. ومن خير ما وقفت عليه فى تفسير هذه الآية ما قاله جمال الدين القاسمى فى تفسيرها حيث ذكر تنبيها: بأن هذه الآية سيقت لتوبيخ المشركين فى جنايتهم بالشرك، وذلك أن الله أنعم عليهم بالخلق، وجعل الزوج للسكينة، فتتدرج فى الخلق من العدم إلى الوجود، ومن الضعف إلى القوة، ثم أخذ المواثيق عليهم إن آتاهم ما يطلبون أن يشكروه ولا يكفروا. ونقل عن المفسرين أحاديث وآثارا تشير إلى أن المراد من القصة آدم وحواء، وحكم على هذه

الروايات بأنها واهية معللة، ونقل ذلك عن الحافظ ابن كثير، وقال: إنها من أقاصيص مسلمة أهل الكتاب. ثم بين ما ارتضاه فى تفسير الآية الذى قاله غير واحد، منهم الحسن وهو: أن المعنى به: ذرية آدم ومن أشرك بعدهم، ونقل تحسين ابن كثير لهذه الروايات عن الحسن، ونقل عن القفال أن القصة على جهة ضرب المثل، ونقل عن الناصر فى (الانتصاف) متعقبا على الزمخشرى: الأسلم أن يكون المراد جنس الذكر والأنثى، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس، وإن كان فيهم موحدون من باب (بنو فلان قتلوا قتيلا) فالنسبة للبعض (¬1). والحاصل: أنه إن أريد بالنفس الواحدة الأب وزوجها الأم بما يشمل كل أم وأب فلا إشكال. وإن أريد آدم وحواء فالوجه أن فى الكلام استخدام (¬2) - وهو محسن بديعى- بأن يعود الضمير فى (يسكن) على آدم وفى (إليها) إلى حواء، ثم يعود فى أول الضميرين فى (يغشاها) للذكر وثانيهما للأنثى. فينحل الإشكال بالكلية. ثم إن السيوطى نقل مثلا لمثل ما قاله ولكنه لا يسلم فى سورة يوسف فى قول امرأة العزيز: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (¬3). والصحيح الذى نذهب إليه: أن الجميع كلام امرأة العزيز، وإن كان الأكثرون على أن كلامها انتهى عند قوله: وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فليس فى الكلام وصل وفصل فى آية يوسف (¬4). أ. د./ إبراهيم عبد الرحمن خليفة ¬

_ (¬1) محاسن التأويل (ح 3 ص 678: 680). (¬2) انظر: التحرير والتنوير (ح 9 ص 210) فما بعدها. (¬3) سورة يوسف: 51: 53. (¬4) انظر: هذا النوع فى الإتقان (ح 1 ص 309: 312).

خواص القرآن

خواص القرآن أفرد الإمام الغزالى بالتصنيف (خواص القرآن)، ويقصد بها ما لآى القرآن من خواص مادية فى الشفاء من الأمراض، وإبطال السحر، والنجاة من العدو، وكل هذا توصل إليه العلماء من تجاربهم الشخصية؛ لأنهم يعتقدون البركة فى القرآن، وهذا لا ينفع إلا من اعتقد اعتقادهم، وإن كان فعل هؤلاء العلماء له أصل فى السنة، فى حديث رقية أبى سعيد لديغا بالفاتحة فبرأ، فأقره النبى صلّى الله عليه وسلم وقال: «ما يدريك أنها رقية»، على ما فى البخارى من فضائل الفاتحة. وثبت أن آية الكرسى تحرز من الشيطان، على ما فى نفس المصدر، وكذلك أن سور الإخلاص والمعوذتين تشفى من الوجع على وجه مخصوص، هذا ما ذكره الكاتبون فى هذا المعنى من أمثال الزركشى فى «برهانه» والسيوطى فى «إتقانه»، ولو عمم المسلمون ذلك ليشمل القرآن بخواصه جميع مناحى الحياة- لأن القرآن كتاب جميع أصول الخيرات من أصول اعتقاد وتشريع، كما جمع محاسن الأخلاق- لدفعهم إلى التقدم والرقى الحضارى. أ. د./ إبراهيم عبد الرحمن خليفة

جمع القرآن

جمع القرآن ذكر الشيخ غزلان فى كتابه (البيان فى مباحث القرآن) أن جمع الشيء فى اللغة هو: استقصاؤه والإحاطة به. فجمع القرآن معناه: استيعابه والإحاطة به. وذلك بطريقتين هما: حفظه كله، أو كتابته كله، فالأولى فى الصدور، والثانية فى السطور. وقد وردت الروايات الصحيحة باستخدام لفظ (الجمع) فى التعبير عن الطريقتين: فقد روى عن أنس أنه سئل عمّن جمع القرآن فى عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أى: أتم حفظه. وقول عبد الله بن عمرو: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة. ومن الثانى: قول أبى بكر لزيد بن ثابت رضي الله عنه: (تتبع القرآن فاجمعه) أى اكتبه. وقد توفر للقرآن الجمع بنوعيه منذ أول عهده إلى الآن تحقيقا لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (¬1). أوّلا: جمع القرآن بمعنى حفظه: بدأ هذا الجمع من أول نزول القرآن، وبالطبع كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أول الحفاظ وسيدهم، وقد تكفل الله- سبحانه وتعالى- بجمعه له فى صدره قال تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ الآيات الثلاث (¬2). فكان يمليه ويقرأ به صلّى الله عليه وسلم فى قيامه، وكان يعارضه به جبريل فى كل عام مرة. أما صحابته- رضى الله عنهم- فكانوا أهل حفظ، وعربا خلصا، لهم من صفاء القريحة ما ساعدهم على حفظه، هذا بجانب حرصهم الشديد على القرآن؛ لأنه معجزة الله الباهرة، ومصدر الشريعة، وحفظه وقراءته وتلاوته لها الثواب والأجر العظيم، وقد وعد الله- سبحانه- النبى صلّى الله عليه وسلم بأن يكون الكتاب المنزل عليه لا يغسله الماء، ففي صحيح مسلم فى كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها فيه: «وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرأه نائما ويقظان». الحديث؛ ولذا قال الحافظ ابن الجزرى: «إن الاعتماد فى نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة». (¬3) ثم بيّن أن أهل الكتب السابقة لم تكن لهم نفس الخصيصة، ¬

(¬1) البيان فى مباحث القرآن: (ص 145) وما بعدها. (¬2) سورة القيامة: 17 - 19. (¬3) النشر فى القراءات العشر (ص 6).

ثانيا: جمع القرآن بمعنى كتابته:

فكل قراءتهم كانت من الكتب، ولكن هذه الأمة تحفظ كتابها بحركاته وسكناته. ونقل عن أبى عبيد القاسم بن سلام أنه فى أول كتابه «القراءات» ذكر كثيرا من الصحابة الذين رويت عنهم القراءة. وذكر ابن الجزرى أن هذه الكثرة التى ذكرها أبو عبيد كانت على جهة المثال فقط لا الحصر. فلا شك أن عددا كبيرا من الصحابة كان يحفظ القرآن. أما ما روى من أحاديث فى حصر من جمع القرآن فى أربعة هم: أبىّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. الحديث فى صحيح البخارى عن أنس (¬4). وفى رواية أخرى: استبدال أبىّ بأبى الدرداء، وفى الرواية الثانية: حصر الجامعين بالنفى فى الأربعة فقال: مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة. فقد ذهب بعض العلماء إلى اضطراب هذه الروايات وتضعيفها، مع ملاحظة كونها موقوفة على الصحابى. وهذا ما مال إليه القاضى الباقلانى فى «الانتصار» ولكنه ذكر أوجها متكلفة فى تأويله. ومن أمثل ما قيل فى توجيه روايتى أنس، ما ذكره الحافظ ابن حجر وملخصه: أن أول الحديث كان فيه نوع تفاخر بين الأوس والخزرج، فتفاخر الأوس بأربعة، وتفاخر الخزرج بأربعة جمعوا القرآن. ثم ذكر أنه قد يراد هذا الحصر فى الخزرج فقط، فلا ينفى ذلك عن غيرهم من الصحابة. ونقل احتمال التوجيه بأن أنسا اقتصر عليهم لتعلق غرضه بهم، وحكم عليه بالبعد. ثم ذكر أن الظاهر من أحاديث كثيرة حفظ أبى بكر الصديق للقرآن فى حياة النبى صلّى الله عليه وسلم، وقد قدّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم للصلاة بالناس وكان قد قال: «يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله». وذكر عن علىّ أنه جمع القرآن على ترتيب النزول بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم. وعبد الله بن عمر، وابن مسعود، وسالم مولى أبى حذيفة روى عنهم جمعهم للقرآن. وقد ذكر ابن أبى داود فى كتاب «الشريعة» تميم بن أوس الدارى، وعقبة بن عامر أنهما جمعاه. وعدّ معهم أبو عمرو الدانى: عمرو بن العاص، وسعد بن عبادة، وأم ورقة. ثانيا: جمع القرآن بمعنى كتابته: لكتابة القرآن ثلاثة عهود: أحدها: عهد النبى صلّى الله عليه وسلم، ثانيها: عهد أبى بكر الصديق رضي الله عنه، ثالثها: عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه. (أ) عهد النبى صلّى الله عليه وسلم: وقعت الكتابة للقرآن رسميا وشخصيا، فقد كتب القرآن بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ¬

(¬4) الجامع الصحيح (كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم).

المستوى الرسمى بكتابة القرآن، واتخذ كتابا للوحى، وقد بوب البخارى بابا سماه (كاتب النبى صلّى الله عليه وسلم) لم يذكر فيه إلّا زيد بن ثابت، وذكر الحافظ أربعة عشر. وما يدلّ على الكتابة الرسمية ما رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان من حديث ابن عباس عن عثمان بن عفان قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم مما يأتى عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: ضعوا هذه فى السورة التى فيها كذا» (¬5). وما أخرجه الحاكم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع» (¬6) الحديث. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى. فهذان الحديثان فوق دلالتهما على الكتابة الرسمية يدلان على التوقيف فى ترتيب آيات السور. وتأليف القرآن المقصود: جمعه وترتيبه كما صرح بذلك الحافظ فى «الفتح». (¬7) أما الكتابة على المستوى الشخصى، فلا شك أن الصحابى الذى كان يعرف الكتابة كان يكتب لنفسه، ويدلّ على وقوع تلك الكتابة حديث أبى سعيد عند مسلم فى (كتاب الزهد باب التثبت وحكم كتابة العلم)، أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تكتبوا عنى، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه». وسواء كان النهى لعدم اختلاف الكتاب بالسنة، أم كان النهى بخصوص كتابة السنة مع القرآن، أم لتوجيه الهمة للقرآن وحده سواء علينا أكان هذا أم ذاك، فإن الحديث صريح فى كتابة القرآن، بل فيه حض عليه. فالكتابة على المستويين تمت ووقعت فى عهده صلّى الله عليه وسلم. والسؤال: على أى شىء كانوا يكتبون؟ يقول زيد بن ثابت فى حديثه فى جمع القرآن: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب، واللخاف، وصدور الرجال». وقد شرح الحافظ بعض هذه الألفاظ فذكر: أن العسب- بضمتين ثم موحدة- جمع عسيب، وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون فى الطرف العريض. وقيل: العسيب طرف الجريدة العريض الذى لم ينبت عليه الخوص، والذى ينبت عليه الخوص هو السعف. ووقع فى رواية ابن عيينة عن ابن شهاب: «القصب، والعسب، والكرانيف، وجرائد النخل». ووقع فى رواية شعيب «من الرقاع جمع رقعة، وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد». وفى رواية عمار بن غزية: «وقطع الأديم» وفى رواية ابن أبى داود من طريق أبى داود الطيالسى عن إبراهيم بن سعد: «والصحف». ¬

(¬5) انظر: فتح البارى: (ح 9 ص 22). (¬6) انظر: كتاب التفسير من المستدرك على الصحيحين تحت عنوان: جمع القرآن لم يكن مرة واحدة. (¬7) انظر: الفتح (ح 9 ص 39).

الباعث على كتابة القرآن فى هذا العهد:

قوله: «واللخاف» بكسر اللام ثم خاء معجمة خفيفة وآخره فاء، جمع لخفة، بفتح اللام وسكون المعجمة، ووقع فى رواية أبى داود الطيالسى فى روايته: هى «الحجارة الرقاق» وقال الخطابى: صفائح الحجارة الرقاق. قال الأصمعى: فيها عرض ودقة. وسيأتى للمصنف فى الأحكام عن أبى ثابت أحد شيوخه أنه فسره بالخزف- بفتح المعجمة والزاى ثم فاء- وهى الآنية التى تصنع من الطين المشوى، ووقع فى رواية شعيب: «والأكتاف» جمع كتف وهو العظم الذى للبعير أو الشاة، كانوا إذا جف كتبوا فيه. وفى رواية عمارة «وكسر الأكتاف»، وفى رواية ابن مجمع عن ابن شهاب عند ابن أبى داود «والأضلاع»، وعنده من وجه آخر «والأقتاب» - بقاف ومثناة وآخره موحدة- جمع قتب- بفتحتين «وهو الخشب الذى يوضع على ظهر البعير ليركب عليه، وعند ابن أبى داود أيضا فى «المصاحف» من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: «قام عمر فقال: من كان تلقى من رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به. وكانوا يكتبون ذلك فى الصحف والألواح والعسب». (¬8) انتهى المقصود منه. وترك الحافظ- رحمه الله- مما يستحق الشرح كلمتى «الكرانيف، والقصب»، أما الكرانيف: ففي اللسان: (الكرناف والكرناف «أى بكسر الكاف وضمها»، أصول الكرب التى تبقى فى جذع السعف وما قطع من السعف فهو الكرب- الواحدة كرنافة- وفيه قول ابن سيده: الكرنافة والكرنوفة- أصل السعفة الغليظ الملتزق بجذع النخلة، وقيل: الكرانيف: أصول السعف الغلاظ العراض التى إذا يبست صارت أمثال الأكتاف. وفى حديث الزهرى: والقرآن فى الكرانيف، يعنى: أنه كان مكتوبا عليها قبل جمعه فى الصحف). وأما القصب فإنما يصلح من معانيه هنا ما فى اللسان وغيره من كونه ثياب الكتان الرقاق الناعمة. فيحتمل أنهم كانوا يكتبون أيضا على قطع من قماش الكتان الرقيق الناعم. كيف كانت كتابتهم؟: لا نعرف للقوم كيفية معينة يومئذ فى الكتابة. كما لا نعرف هذه الكيفية فى كتابتهم للصحف البكرية. والظاهر أنها كانت مماثلة أو عين الكيفية التى كتبوا بها المصاحف العثمانية، فإن أحدا لم ينقل فرقا فى كيفية الكتابة بين العهود الثلاثة فيما أعلم. الباعث على كتابة القرآن فى هذا العهد: على الرغم من أن القرآن كان محفوظا بأكمله للنبى صلّى الله عليه وسلم ومحفوظا بالتواتر عند أصحابه، فقد كتب القرآن فى هذا العهد، وذكر الشيخ غزلان لهذه الكتابة أسبابا ثلاثة: ¬

(¬8) فتح البارى: (ح 9 ص 14).

(ب) ما وقع من الجمع الكتابى فى عهد أبى بكر للقرآن:

أحدها: المحافظة على النص القرآنى من أن يطرأ عليه تغير؛ لأن الكتابة تظاهر الحفظ. ثانيها: تمام العناية به وزيادة التوثق له فلا يكون لخوف الضياع عليه أدنى شائبة. ثالثها: الفائدة العظيمة التى ظهرت بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم عند جمع القرآن فى العصر البكرى، حيث كان للصحابة فى هذا الجمع مصدران اعتمدوا عليهما. لماذا لم يجمع النبىّ صلّى الله عليه وسلم القرآن فى مصحف واحد؟ السؤال: لم لم يتحد نوع ما كتب عليه ليسهل الرجوع إليه؟ أول جواب على ذلك: أن فى عهده صلّى الله عليه وسلم كان على التيسير ورفع الحرج؛ فمن ثم اختلف النوع؛ لأن المهم هو سرعة التدوين والكتابة، بخلاف ما كان عليه الأمر فى عهد الصديق أبى بكر. وقد جلّى الجواب الشيخ غزلان فذكر: أن القرآن كان يتتابع نزوله، فكان صعبا أن نجعله فى كتاب واحد، وأن القرآن فى عهده صلّى الله عليه وسلم كان عرضة للنسخ، وعليه يكون عرضة لتغيير الكتابة بعد الجمع والترتيب. وكانت الآيات الكثيرة تنزل ثم يعلم الترتيب فلو وضعت فى مصحف واحد لكان فى المشقة ما فيه. (ب) ما وقع من الجمع الكتابى فى عهد أبى بكر للقرآن: قتل أثناء حروب الردة سبعون من حفاظ القرآن الكريم فى يوم اليمامة خاصة، فخشى على القرآن أن يضيع منه شىء، وخاصة أن ما كتب فى عهد النبىّ صلّى الله عليه وسلم كان أشتاتا فيمكن أن يضيع منه شىء مع من مات، فمن ثم كان الجمع فى العهد البكرى. فقد أخرج البخارى من صحيحه فى كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن عن زيد بن ثابت قال: «أرسل إلىّ أبو بكر الصديق بعد مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتانى فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإنى أخشى إن استحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإنى أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعنى حتى شرح الله صدرى لذلك، ورأيت فى ذلك الذى رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفونى نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علىّ مما أمرنى به من جمع القرآن قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير.

فلم يزل أبو بكر يراجعنى حتى شرح الله صدرى للذى شرح له صدر أبى بكر وعمر رضى الله عنهما. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبى خزيمة الأنصارى لم أجدها مع أحد غيره: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبى بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه». ويستفاد من هذا الحديث أمور: أولها: إعطاء كل حال حكمها اللائق بها؛ ولذا عملوا على جمع القرآن؛ لأن الحال تغير عنه فى عهد النبى صلّى الله عليه وسلم؛ فخوفا من ضياع شىء من القرآن جمع أبو بكر الصديق القرآن بعد أن شرح الله صدره وصدر عمر وزيد بن ثابت لذلك. ثانيها: اختيار الأكفاء فى المهام الصعبة كاختيار أبى بكر زيد بن ثابت لجمع القرآن لتوفر العقل والأمانة والديانة والشباب فيه. والممارسة والخبرة التى لها دخل عظيم فى إنجاح الأعمال. ثالثها: الشعور عند العمل العظيم بالمسئولية الجسيمة. رابعها: دفع شبهة كيف لم يجد زيد بن ثابت هاتين الآيتين، وكيف اكتفى برجل واحد فى نقل قرآنيتهما؟ وقد دفع شيخنا غزلان هذه الشبهة بأن بدأ بذكر ما يجب مراعاته عند التعرض لهذه الشبهة: 1 - عدم إمكان أن يكون النبى صلّى الله عليه وسلم خصّ أبا خزيمة لتبليغ هاتين الآيتين؛ لأن القرآن لا يحل روايته بالمعنى، فلا يمكن الاطمئنان إلى روايته بلفظه دون تغيير حرف منه إلا تبليغ جماعة كبيرة. 2 - أن إجماع الصحابة على أن كتابتهما فى المصحف لا تكون برواية الواحد؛ ولذا لا بدّ أن الصحابة كتبوهما بعد روايتهما عن جماعة كثيرة، ويكون معنى كلام زيد: «لم أجدهما مع أحد غيره» دائرا بين أمرين: إما أن يكون مراده أنه لم يجدهما مكتوبتين عند أحد غير أبى خزيمة، فهو انفراد بكتابتهما فقط. وإما أن يكون مراده أنه انفرد بكتابتهما وحفظهما، فلم يجدهما عند غير أبى خزيمة، فظل أبو خزيمة لمّا علم ذلك يحدث بهما ويحدث بهما أيضا زيد بن ثابت، حتى حفظها من لم يحفظها وتذكرها من نسيها حتى تواتر نقلها، فتوفر شرط القرآنية لهاتين الآيتين فأثبتهما زيد فى المصحف.

(ج) الجمع العثمانى للقرآن:

وقد نقل الحافظ أن هناك روايات عن الصحابة تكشف عن أن منهم من كانت معه هاتان الآيتان، منها عن خزيمة بن ثابت، وعثمان، وأبى بن كعب- رضى الله عنهم (¬9). فأبو خزيمة لم ينفرد بتلقيهما، بل تلقاهما الكثير. وقد ذهب إلى ذلك أيضا أبو حيان. وأرى: أن نفى زيد بن ثابت لوجود الآيتين كان نفيا لوجودهما من كل وجه. ولكن من المعقول أن يكون زيد بن ثابت قد اقتصر فى بحثه على أهل المدينة، ولا يعقل أنه ذهب لكل الأماكن لتقصى ذلك، والصحابة فى المدينة كانوا قليلين. ونحن لا نوافق شيخنا غزلان فى افتراض ذهول الأكثرين مع اشتراطه فى أول الكلام أن يكون النقلة من حيث العدد ممن تحيل العادة عليهم النسيان. وخلاصة القول: أن هاتين الآيتين توفر لهما من شروط النقل ما توفر لسائر آى القرآن. ولقد حققت الكتابة غايتها المقصودة. والظاهر أن زيد بن ثابت لم ينفرد بمهمة الجمع وحده، بل عاونه غيره كأبى بكر وعمر وأبى كما تفيده الروايات المتعددة كما ذكر الحافظ فى «الفتح». ولقد تم الجمع فى العهد البكرى على أمثل ما يكون فى الاحتياط والعناية اللائقين بجلال القرآن. ولقد عرف الصحابة لأبى بكر الصديق فضله حتى قال فيه علىّ: «أعظم الناس فى المصاحف أجرا أبو بكر، هو أول من جمع كتاب الله». ومن أعظم فوائد الجمع فوق ما هو مقصود من حكمته الرئيسية الداعية إليه، اتصال السند الكتابى بالأخذ عن الصحف التى كتبت بين يدى النبىّ صلّى الله عليه وسلم كاتصال السند المتواتر فى الرواية والتلقى على الشيوخ. (ج) الجمع العثمانى للقرآن: إذا كان الجمع الكتابى فى الصحف للقرآن قد تمّ فى العصر البكرى ليكون مرجعا للحفاظ عند إرادة العودة إليه، فقد كان الجمع العثمانى لغرض وداع آخر هو: تجريد جميع المصاحف والصحف مما ليس بقرآن كالدعوات المأثورة، والتفسير، وما نسخت تلاوته، وحاشا أن يلبسوا على من بعدهم، ولكن ذلك كان بغرض حفظ القرآن وذلك بعد تفرق الصحابة الذين تلقيت القراءات على أيديهم فى الأمصار، وربما فسر صحابى لفظا غريبا أو معنى وألحقه تلامذته على مصاحفهم فوجدت فى المصاحف أشياء مذكورة ودعوات مثل دعاء الحفد والخلع، حتى استفحل الأمر، واتسع الخرق؛ فرأى الخليفة الراشد عثمان تدارك هذا الأمر، وجمع الناس على مصحف واحد جرده من كل هذه المصاحف، ونفى عنه كل ما ليس بقرآن، فى مصحف واحد يجرده من عين المصاحف البكرية التى لم يكن فيها إلا القرآن فحسب، على ما أخرج البخارى رضي الله عنه فى جمع القرآن ¬

(¬9) انظر: فتح البارى: (ح 9 ص 11 - 12).

من «صحيحه» من حديث ابن شهاب- يعنى الزهرى أن أنس بن مالك حدثه «أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازى أهل الشام فى فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم فى القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا فى الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلى إلينا بالصحف ننسخها فى المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها فى المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى شىء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف فى المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن فى كل صحيفة أو مصحف أن يحرق». هذا هو الباعث على جمع عثمان للمصاحف فى مصحف واحد، وليس كما قال بعضهم: من أن السبب فى الاختلاف كانت الأحرف السبعة. وقد فندنا هذه الدعوى فى مبحث الأحرف السبعة. ولا نريد أن نعيد استدلالا، ولكن لو كانت الأحرف قد أخذ عثمان بحرف واحد منها فكيف وصلت القراءات إلينا بالتواتر. ودعوى أن هذا كله حرف قريش مكابرة. ولو كان كذلك لجمعهم على حرف واحد بدون اختلاف فى أدائه، وإلا لكان بقاء القراءات مانعا من الوصول لدرء الخلاف على زعمهم، والمصحف العثمانى كالمصحف البكرى فى جمعه للأحرف السبعة. فخبرنى بربك إذا كان من القراءات التى تركها عثمان ما قد يختلف معناه اختلافا بينا عن القراءة الأخرى، إلى حد يصل إلى عدم جواز اجتماع المعنيين أحيانا فى شىء واحد؛ لكونهما نفيا وإثباتا مثلا، وإنما تتفق القراءتان إذ ذاك من وجه آخر لا يقتضى التضاد، وذلك كقراءة وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (¬10) بكسر اللام الأولى من (لتزول) وفتح الثانية على أن «إن» نافية نفت إزالة مكرهم للجبال، وقرئت بفتح اللام الأولى ورفع الأخرى على أن «إن» مخففة من الثقيلة واللام الأولى المفتوحة هى الفارقة بين «إن» النافية و «إن» المخففة المهملة. والمعنى على هذه القراءة: «إن مكرهم يزيل الجبال». والقراءتان سبعيتان متواترتان بلا شبهة ومعناهما لا يمكن أن يجتمع فى شىء واحد كما ترى. وإن اتفقا من وجه آخر لا يقتضى التضاد، بل تكون معه الآية على غاية من الاستقامة والسداد، فيراد من الجبال على ¬

(¬10) سورة إبراهيم 46.

قراءة النفى أمر محمد صلّى الله عليه وسلم ودين الإسلام، ويراد منها على قراءة الإثبات الجبال الحقيقية- والمسألة مبسوطة فى كتب التفسير وفى «النشر» لابن الجزرى. نقول: إذا كان من القراءات ما قد يختلف فأيهما كان أدعى للخلاف على النحو الذى زعموا، وأيهما كان أرفع له؟. أهو اختلاف المعنى البالغ هذا الحد. أم هو مجرد اختلاف الألفاظ المترادفة المتفقة المعنى تماما على ما زعموا فى المراد من الأحرف؟ أفيقع الخلاف بسبب تعدد تلك الألفاظ المترادفة ليرفعه عثمان بإبقاء واحد فقط من تلك الألفاظ؟ أم يقع بسبب مثل هذا الاختلاف البالغ فى المعنى ويكون أجدر بدرجات أن يرفع لأجله عثمان إحدى القراءتين؟. فإذا أبقى عثمان رضي الله عنه هاتين القراءتين جميعا- مع أن الأمر فيهما هو على الاختيار لأى منهما- فما ذاك إلا لكونه لا يستجيز، بل لا يجرؤ هو ولا غيره حتى لو كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم نفسه على حذف شىء مما أنزله الله ولم يأذن برفعه. وهكذا كان رضى الأصحاب أيضا، إذن- معالجة عثمان للخلاف هو على النحو الذى وصفنا من هذا الخلاف، ودفعه- أعنى تجريد عثمان للمصحف- من كل ما ليس بقرآن، وإحراق كل ما يشتمل مع القرآن على غيره من الصحف أو المصاحف، أخرج ابن أبى داود فى «المصاحف» بسند صحيح- كما قال الحافظ- من طريق سويد ابن غفلة قال: «قال علىّ: لا تقولوا فى عثمان إلا خيرا، فو الله ما فعل الذى فعل فى المصاحف إلا عن ملأ منا، قال: ما تقولون فى هذه القراءة، فقد بلغنى أن بعضهم يقول: إن قراءتى خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفرا، قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت». وهكذا تم لعثمان ما أراد من هذا الجمع بمرضاة من الصحابة. مشكلة عرضت فى هذا الجمع شبيهة بأختها فى الجمع البكرى والحل هو نفس الحل: أخرج البخارى فى سورة الأحزاب من كتاب التفسير عن زيد بن ثابت أنه قال: «لما نسخنا المصحف فى المصاحف، فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصارى الذى جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. قال الحافظ فى «الفتح»: «هذا يدل على أن زيدا لم يكن يعتمد فى جمع القرآن على علمه ولا يقتصر على حفظه، لكن فيه إشكال، لأن ظاهره أنه اكتفى مع ذلك بخزيمة وحده والقرآن إنما يثبت

بالتواتر، والذى يظهر فى الجواب أن الذى أشار إليه أن فقده فقد وجودها مكتوبة لا فقد وجودها محفوظة، بل كانت محفوظة عنده وعند غيره، و «يدل على هذا قوله فى حديث جمع القرآن: فأخذت أتتبعه من الرقاع والعسب». كم مصحفا نسخ عثمان من الصحف البكرية؟ اختلف الناس فى عدد المصاحف التى نسخها عثمان من الصحف، وأقل ما قيل فى العدد: أربعة، وأكثر ما قيل تسعة، والظاهر الذى يتفق مع طبيعة الأمور هو وفرة العدد ولا سيما مع قول أنس بن مالك فى حديث البخارى الذى نقلناه لك فى هذا الجمع: «وأرسل إلى كل أفق بمصحف»، فإنه صريح فى أن المصاحف كانت بعدد الأقطار التى انتشر فيها الإسلام، وإنما كان هذا متفقا مع طبيعة الأمور لأن الغرض هو القضاء على خلاف المختلفين وجمع الكل على مصحف واحد، ولا يتحقق هذا على الوجه الصحيح إلا بأن يرسل إلى كل أفق بمصحف كما قال أنس رضي الله عنه. أين ذهبت الصحف البكرية؟ تبين من حديث زيد بن ثابت فى الجمع البكرى أن الصحف التى جمع فيها القرآن ظلت عند أبى بكر حتى مات، ثم عند عمر حتى مات، ثم عند حفصة. كما تبين من حديث أنس فى الجمع العثمانى أنهم لما نسخوا الصحف فى المصاحف ردها عثمان إلى حفصة. فبقيت عند حفصة طول حياتها دون أن تبالى- رضى الله عنها- بطلب مروان بن الحكم- الذى ولى المدينة بعد وفاة علىّ من قبل معاوية بعد أن آل الأمر إليه- المتكرر لتلك الصحف، فلما ماتت أرسل إلى أخيها عبد الله ابن عمر بالعزيمة أن يرسل إليه بالصحف ففعل، فشققها مروان ثم غسلها بعد ذلك، أو حرقها، أو فعل الأمرين على ما تفيده الروايات التى ذكر الحافظ فى «الفتح» فى هذا المقام. والله أعلم. أ. د./ إبراهيم عبد الرحمن خليفة

كتابة القرآن

كتابة القرآن لا يعرف بالضبط والتحديد الدقيق متى بدأت الكتابة عند العرب الذين هم أمة أمية لا تكتب ولا تحسب كما وصفهم النبى صلّى الله عليه وسلم فى صحيح سننه، بل وصفهم بذلك القرآن العظيم فى غير ما موضع منه، وجميع الروايات التى يذكر الناس فى هذا المقام لا تقوم على قدم أو تعتمد على ساق، والمهم أنه حين نزول القرآن كان من العرب من يكتبون، حتى اتخذ النبى صلّى الله عليه وسلم من المؤمنين به كتابا للوحى، أولهم: فى مكة- عبد الله بن سعد بن أبى سرح، وأولهم بالمدينة أبىّ بن كعب، كما قال الحافظ فى «الفتح». ومن أبرزهم: زيد بن ثابت الذى قال أبو بكر فى حديث البخارى الذى نقلناه لك فى الجمع البكرى: «وقد كنت تكتب الوحى للنبى صلّى الله عليه وسلم». ولكون الكتابة عند العرب كانت محدثة وفى الأقلين منهم، فإنهم حين كتبوا القرآن كتبوه على ما تيسر لهم من تعلم الخط، ولم تكن هذه الصناعة محكمة لديهم إذ ذاك، فخالفوا فى رسم القرآن أصل قاعدة الكتابة المعروفة الآن أحيانا أو فى الكثير من الأحيان، فتارة كانت مخالفتهم بحذف ما حقه أن يثبت وأخرى بإثبات ما حقه أن يحذف، وثالثة بإبدال حرف مكان آخر، ورابعة بقطع الحرف عما بعده حينا ووصله به آخر، والحرفان هما هما فى الموضعين أو المواضع، إلى غير ذلك من المخالفات لقاعدة الكتابة. ومن هنا فقد اختلف الناس فى رسم المصحف: أهو توقيفى واجب الاتباع بحيث تحرم مخالفته؟، وهو قول مالك وأحمد كما صرح به السيوطى فى «الإتقان» فى النوع الذى تحدث فيه عن مرسوم الخط. ولا حجة لأصحاب هذا المقام البتة، فإنه لم يثبت أن النبى صلّى الله عليه وسلم أمرهم بكيفية مخصوصة فى الكتابة، بل وكلّهم فى ذلك إلى ما يحسنون ويطيقون. وما زعم من نحو قوله لبعض كتابه فى كتابة بسم الله الرحمن الرحيم: «ألق الدواة وحرف القلم، وأقم الباء، وفرق السين، ولا تقور الميم» فحديث خرافة من نقلته. وعلى الجملة فقد ضعف الحافظ ابن حجر فى شرحه لحديث عمرة القضاء من «الفتح» جميع الأحاديث الواردة فى تعلم النبى صلّى الله عليه وسلم

الكتابة (¬1)، وما زعموا من تقرير النبى صلّى الله عليه وسلم لكتابه على هذا الرسم، فيكون حجة على توقيفيته، فخلط فاحش فى قواعد الأصول، فإن التقرير إن كان لقول كان حجة على ما تضمنه ذلك القول، فإن كان ما تضمنه القول واجبا كأن قال قائل أمام النبى صلّى الله عليه وسلم: هذا واجب. فلم ينكره النبى عليه، دل على وجوبه، وإن كان حراما فكذلك إلى آخر ما تعرف من أقسام الحكم الشرعى. وإن كان التقرير على فعل لم يدل على أكثر من إباحة ذلك الفعل. فكيف لو كان الفعل مجرد صناعة كالكتابة هنا، وقال الكثير من المحققين بعدم توقيفية هذا الرسم، وأنه مجرد صناعة، وتكليف المرء ما لا يحسنه فيها من التكليف بما لا يطاق، ومن هؤلاء المحققين القاضى أبو بكر الباقلانى فى «الانتصار» وابن خلدون فى «مقدمته» والكرمانى فى «عجائبه» والنيسابورى فى مقدمة تفسيره، وإليه مال الحافظ ابن كثير فى «فضائل القرآن» والعز بن عبد السلام حتى إن الأخير قال بحرمة اتباعه فى أيامه لما يؤدى إليه من اللبس على غير حافظ القرآن حين يقرأه من المصحف، ومنهم الزركشى فى «البرهان» الذى فصل بين الخاصة والعامة، فاستحب للخاصة اتباع هذا الرسم، وللعامة كتابته على حسب القواعد المعروفة التى توافق حالهم (¬2). والتحقيق الذى لا محيد عنه لمنصف هو: أن الرسم مجرد صناعة لا أثر فيها للتوقيف، وما يذكر أصحاب هذا العلم من نكات اختيار الصحابة لكذا دون كذا فى هذا الرسم فسراب. وليت الناس ما شغلوا أنفسهم بهذا فضلا عن أن يجعلوا منه علما حيث لا مبنى لهذا العلم ولا أساس. أ. د./ إبراهيم عبد الرحمن خليفة ¬

_ (¬1) فتح البارى ح 7 ص 504. (¬2) انظر: البرهان فى علوم القرآن، للزركشى ح 1، ص 379.

المصحف نقطه وشكله

المصحف نقطه وشكله رسم المصحف أول ما رسم دون نقط أو شكل لسبب يسير جدا هو: أنه لم يكن شىء من ذلك معروفا فى الكتابة عندئذ، وكانت سليقة العربى الخالص وفطرته النقية أمانا له من الالتباس والنطق بغير ما يصح فى العربية، فلما اتسعت الفتوحات واختلط العرب بالعجم سرت اللكنة إلى ألسنة البعض وخفى ما كان بدهى الظهور، فاحتاج الناس إلى ما يؤمنهم اللبس ولا سيما فى قراءة القرآن من المصحف. (¬1) ولسنا نعرف بالضبط والتحديد الدقيق متى تم هذا النقط والشكل، ولا أول من وقع على يديه. قال السيوطى فيما ذكر من مسائل مرسوم الخط، وفيه أيضا حكم النقط والشكل وحكم ما أضيف من غيرهما إلى المصاحف: (مسألة: اختلف فى نقط المصحف وشكله. ويقال: أول من فعل ذلك: أبو الأسود الدؤلى بأمر عبد الملك بن مروان، وقيل: الحسن البصرى ويحيى بن يعمر، وقيل: نصر بن عاصم الليثى. وأول من وضع الهمز والتشديد والروم والإشمام الخليل. وقال قتادة: بدءوا فنقطوا، ثم خمسوا، ثم عشروا. وقال غيره: أول ما أحدثوا النقط عند آخر الآى، ثم الفواتح والخواتم. وقال يحيى بن أبى كثير: ما كانوا يعرفون شيئا مما أحدث فى المصاحف إلا النقط الثلاث على رءوس الآى. أخرجه ابن أبى داود. وقد أخرج أبو عبيد وغيره عن ابن مسعود، قال: جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء. وأخرج عن النخعى أنه كره نقط المصاحف. وعن ابن مسعود ومجاهد أنهما كرها التعشير. وأخرج ابن أبى داود عن النخعى أنه كان يكره العواشر والفواتح وتصغير المصحف، وأن يكتب فيه سورة كذا وكذا. وأخرج عنه أنه أتى بمصحف مكتوب فيه سورة كذا وكذا آية، فقال: امح هذا فإن ابن مسعود كان يكرهه. وأخرج عن أبى العالية أنه كان يكره الجمل فى المصحف، وسورة كذا، وفاتحة سورة كذا، وقال مالك: لا بأس بالنقط فى المصاحف التى يتعلم فيها الغلمان، أما الأمهات فلا. وقال الحليمى- ¬

(¬1) انظر: البرهان فى علوم القرآن، للزركشى، ح 1، ص 379.

تكره كتابة الأعشار والأخماس (¬2) وأسماء السور وعدد الآيات فيه، لقوله: «جردوا القرآن». وأما النقط فيجوز، لأنه ليس له صورة فلا يتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا. وإنما هى دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها. وقال البيهقى: من آداب القرآن: أن يفخم، فيكتب مفرجا بأحسن خط فلا يصغر ولا تقرمط (¬3) حروفه، ولا يخلط به ما ليس منه- كعدد الآيات والسجدات والعشرات والوقوف واختلاف القراءات ومعانى الآيات. وقد أخرج ابن أبى داود عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: لا بأس بنقط المصاحف. وأخرج عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن أنه قال: لا بأس بشكله. وقال النووى: نقط المصحف وشكله يستحب؛ لأنه صيانة له من اللحن والتحريف. وقال ابن مجاهد: ينبغى ألا يشكّل إلا ما يشكل. وقال الدانى: لا أستجيز النقط بالسواد؛ لما فيه من التغيير لصورة الرسم، ولا أستجيز جمع قراءات شتى فى مصحف واحد بألوان مختلفة؛ لأنه من أعظم التخليط والتغيير للمرسوم، وأرى أن تكون الحركات والتنوين والتشديد والسكون والمد بالحمرة، والهمزات بالصفرة. وقال الجرجانى من أصحابنا فى «الشافعى»: من المذموم كتابة تفسير كلمات القرآن بين أسطره. ثم قال السيوطى: «فائدة»: كان الشكل فى الصور الأول نقطا، فالفتحة نقطة على أول الحرف، والضمة على آخره، والكسرة تحت أوله، وعليه مشى الدانى. والذى اشتهر الآن الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف، وهو الذى أخرجه الخليل، وهو أكثر وأوضح، وعليه العمل، فالفتح شكلة مستطيلة فوق الحرف، والكسر كذلك تحته، والضم واو صغرى فوقه، والتنوين زيادة مثلها؛ فإن كان مظهرا- وذلك قبل حرف حلق ركبت فوقها، وإلا جعلت بينهما، وتكتب الألف المحذوفة والمبدل والتنوين قبل الباء علامة الإقلاب «م» حمراء، وقبل الحلق سكون، وتعرى عند الإدغام والإخفاء، ويسكن كل مسكن، ويعرى المدغم، ويشدد ما بعده إلا الطاء قبل التاء، فيكتب عليها السكون نحو: «فرطت»، ومطة الممدود لا تجاوزه. أه. على أن الأمر قد صار بعد أمد محل تساهل شريطة أمن اللبس، حتى كتب الناس فى مصاحفهم أسماء السور وعدد آيها، وكونها مكية أو مدنية، بل قسموا القرآن إلى ثلاثين جزءا، والجزء إلى حزبين، والحزب إلى أربعة أرباع، وكل ذلك وضعوا له عناوين فى ¬

(¬2) الأعشار هى أن يكتبوا بعد كل عشر آيات كلمة عشر، أو الرمز إليها بحرف «ع»، ويسمى هذا العمل تعشيرا. والأخماس: أن يكتبوا بعد كل خمس آيات كلمة خمس، أو الرمز إليها بحرف «خ»، ويسمى هذا العمل تخميسا. (¬3) يقال: قرمط الكاتب فى الكتابة: جعلها دقيقة متقاربة الحروف والسطور. كما فى المعجم الوسيط.

المصاحف دون نكير من الأوساط العلمية ذات الشأن ما دام اللبس مأمونا والقرآن مميزا لا يختلط بشيء من تلك الإضافات. أحكام أخرى تتعلق بالمصحف ذكرها صاحب «الإتقان»: قال السيوطى- رحمه الله: «فصل فى آداب كتابته:» يستحب كتابة المصحف وتحسين كتابته وتبيينها وإيضاحها وتحقيق الخط دون مشقة، وأما تعليقه فيكره. وكذا كتابته فى الشيء الصغير. أخرج أبو عبيد فى «فضائله» عن عمر أنه وجد مع رجل مصحفا قد كتبه بقلم دقيق، فكره ذلك وضربه، وقال: عظموا كتاب الله. وكان عمر إذا رأى مصحفا عظيما سرّ به. وأخرج عبد الرزاق عن علىّ: أنه كان يكره أن تتخذ المصاحف صغارا وأخرج أبو عبيد عنه أنه كره أن يكتب القرآن فى الشيء الصغير. وأخرج هو والبيهقى فى «الشّعب» عن أبى حكيم العبدى، قال: مر بى علىّ وأنا أكتب مصحفا، فقال: أجل قلمك، فقضمت من قلمي قضمة، ثم جعلت أكتب فقال: نعم، هكذا نوره كما نوره الله. وأخرج البيهقى عن علىّ موقوفا، قال: تنوق رجل فى «بسم الله الرحمن الرحيم» فغفر له. وأخرج أبو نعيم فى تاريخ «أصبهان» وابن أشتة فى «المصاحف» من طريق أبان، عن أنس مرفوعا: «من كتب بسم الله الرحمن الرحيم مجودة غفر الله له». وأخرج ابن أشتة عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عماله: إذا كتب أحدكم بسم الله الرحمن الرحيم، فليمد «الرحمن». وأخرج عن زيد بن ثابت: أنه كان يكره أن تكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» ليس لها سين. وأخرج عن يزيد بن أبى حبيب أن كاتب عمرو بن العاص كتب إلى عمر فكتب: «بسم الله» ولم يكتب لها سينا، فضربه عمر، فقيل له: فيم ضربك أمير المؤمنين؟ قال: ضربنى فى سين. وأخرج عن ابن سيرين: أنه كان يكره أن تمد الباء إلى الميم حتى تكتب السين. وأخرج ابن أبى داود فى «المصاحف» عن ابن سيرين: أنه كره أن يكتب المصحف مشقا (¬4)؛ قيل: لم؟ قال: لأن فيه نقصا. وتحرم كتابته بشيء نجس، وأما بالذهب فهو حسن، كما قاله الغزالى. وأخرج أبو عبيد عن ابن عباس وأبى ذر وأبى الدرداء أنهم كرهوا ذلك. وأخرج عن ابن مسعود: أنه مر عليه مصحف زين بالذهب. فقال: إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته بالحق. قال أصحابنا: وتكره كتابته على الحيطان ¬

(¬4) فى المصباح: «ومشقت الكتاب مشقا، من باب قتل: أسرعت فى فعله» أه. أى فهو يؤدى بما فيه من العجلة إلى إمكان وقوع نقص فى كلمة أو حرف، وهذا هو ما قصده ابن سيرين رحمه الله فيما ذكر من علة كراهته.

والجدران وعلى السقوف أشد كراهة: لأنه يوطأ. وأخرج أبو عبيد عن عمر بن العزيز قال: (لا تكتبوا القرآن حيث يوطأ). وهل تجوز كتابته بقلم غير العربى (¬5)؟ قال الزركشى: لم أر فيه كلاما لأحد من العلماء. قال: ويحتمل الجواز، لأنه قد يحسنه من لا يقرأ بالعربية، والأقرب المنع كما تحرم بغير لسان العرب، ولقولهم: القلم أحد اللسانين. والعرب لا تعرف قلما غير العربى، وقد قال تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ انتهى. وقد كفانا الله هذا كله بما أتاح لنا من المطابع التى بلغت من الجودة مبلغا عظيما. ثم قال السيوطى بعد مسألة النقط والشكل: (فرع): أخرج ابن أبى داود فى كتاب المصاحف عن ابن عباس، أنه كره أخذ الأجرة على كتابة المصحف. وأخرج مثله عن أيوب السّختيانى، وأخرج عن ابن عمر وابن مسعود أنهما كرها بيع المصاحف وشراءها وأن يستأجر على كتابتها، وأخرج عن محمد ابن سيرين: أنه كره بيع المصاحف وشراءها وأن يستأجر على كتابتها، وأخرج عن مجاهد وابن المسيب والحسن أنهم قالوا: لا بأس بالثلاثة. وأخرج عن سعيد بن جبير أنه سئل عن بيع المصاحف فقال: لا بأس، إنما يأخذون أجور أيديهم. وأخرج عن ابن الحنفية أنه سئل عن بيع المصحف قال: لا بأس، إنما تبيع الورق. وأخرج عن عبد الله بن شفيق قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يشددون فى بيع المصاحف. وأخرج عن النخعى قال: المصحف لا يباع ولا يورث. وأخرج عن ابن المسيب: أنه كره بيع المصاحف، وقال: أعن أخاك بالكتاب أو هب له. وأخرج عن عطاء عن ابن عباس، قال: اشتر المصاحف ولا تبعها. وأخرج عن مجاهد أنه نهى عن بيع المصاحف ورخص فى شرائها. وقد حصل من ذلك ثلاثة أقوال للسلف ثالثها: كراهة البيع دون الشراء، وهو أصح الأوجه عندنا، كما صححه فى «شرح المهذب»، ونقله فى «زوائد الروضة» عن نص الشافعى، قال الرافعى: وقد قيل: إن الثمن متوجه إلى الدفتين، لأن كلام الله لا يباع، وقيل: إنه بدل من أجرة النسخ. انتهى. وقد تقدم إسناد القولين إلى ابن الحنفية وابن جبير، وفيه قول ثالث: أنه بدل منهما معا. أخرج ابن أبى داود عن الشعبى، قال: لا بأس ببيع المصاحف، إنما يبيع الورق وعمل يديه. أ. هـ. قلت: الصواب مع المجوزين. ثم قال السيوطى: «فرع»: قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام فى «القواعد»: القيام ¬

(¬5) يريد كتابة كلمات القرآن العربية بحروف غير عربية كاللاتينية فى هذه الأيام مثلا. أى مع نطقها بالعربية كما هى. فتنبه.

للمصحف بدعة لم تعهد فى الصدر الأول. والصواب ما قاله النووى فى التبيان من استحباب ذلك لما فيه من التعظيم وعدم التهاون به. ثم قال السيوطى: «فرع»: يستحب تقبيل المصحف؛ لأن عكرمة بن أبى جهل- رضى الله عنه- كان يفعله. وبالقياس على تقبيل الحجر الأسود. ذكره بعضهم؛ ولأنه هدية من الله تعالى، فشرع تقبيله كما يستحب تقبيل الولد الصغير. وعن أحمد ثلاث روايات: الجواز، والاستحباب، والتوقف، وإن كان فيه رفعة وإكرام لأنه لا يدخله قياس، ولهذا قال عمر فى الحجر: لولا أنى رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. ثم قال السيوطى: «فرع»: يستحب تطييب المصحف، وجعله على كرسى، ويحرم توسده، لأن فيه إذلالا وامتهانا. قال الزركشى: وكذا مد الرجلين إليه. وأخرج ابن أبى داود فى «المصاحف» عن سفيان، أنه كره أن تعلق المصاحف. وأخرج عن الضحاك، قال: لا تتخذوا للحديث كراسى ككراسى المصاحف. ثم قال السيوطى: (فرع): يجوز تحليته بالفضة إكراما له على الصحيح، أخرج البيهقى عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالكا عن تفضيض المصاحف. فأخرج إلينا مصحفا فقال: حدثنى أبى عن جدى: أنهم جمعوا القرآن فى عهد عثمان، وأنهم فضضوا المصاحف على هذا أو نحوه. وأما بالذهب فالأصح جوازه للمرأة دون الرجل، وخص بعضهم الجواز بنفس المصحف، دون غلافه المنفصل عنه، والأظهر التسوية. ثم قال السيوطى: (فرع): إذا احتيج إلى تعطيل بعض أوراق المصحف لبلى ونحوه، فلا يجوز وضعها فى شق أو غيره؛ لأنه قد يسقط ويوطأ، ولا يجوز تمزيقها لما فيه من تقطيع الحروف وتفرقة الكلم، وفى ذلك إزراء بالمكتوب. كذا قال الحليمى. قال: وله غسلها بالماء؛ وإن أحرقها بالنار فلا بأس؛ أحرق عثمان مصاحف كان فيها آيات وقراءات منسوخة، ولم ينكر عليه. وذكر غيره أن الإحراق أولى من الغسل. لأن الغسالة قد تقع على الأرض. وجزم القاضى حسين فى «تعليقه» بامتناع الإحراق، لأنه خلاف الاحترام، والنووى بالكراهة. وفي بعض كتب الحنفية: أن المصحف إذا بلى لا يحرق، بل يحفر له فى الأرض ويدفن. وفيه وقفة لتعرضه للوطء بالأقدام. ثم قال السيوطى: (فرع): روى ابن أبى داود عن ابن المسيب، قال: لا يقول أحدكم:

مصيحف ولا مسيجد؛ ما كان لله تعالى فهو عظيم. ثم قال السيوطى: (فرع): مذهبنا ومذهب جمهور العلماء تحريم مس المصحف للمحدث، سواء كان أصغر أم أكبر، لقوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (¬6). وحديث الترمذى وغيره: «لا يمس القرآن إلا طاهر». ثم قال السيوطى: «خاتمة» روى ابن ماجة وغيره عن أنس مرفوعا: «سبع يجرى للعبد أجرهن بعد موته وهو فى قبره: من علّم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ترك ولدا يستغفر له من بعد موته، أو ورث مصحفا». والله أعلم. أ. د./ إبراهيم عبد الرحمن خليفة (بعض مصادر هذا البحث مرتبة على حروف المعجم): (1) الإتقان فى علوم القرآن، للسيوطى. (2) البرهان فى علوم القرآن، للزركشى. (3) البيان فى مباحث من علوم القرآن، للأستاذ الدكتور عبد الوهاب عبد المجيد غزلان. (4) تفسير النيسابورى بهامش تفسير الطبرى، ط 1 مصطفى الحلبى. (5) الجامع الصحيح، للبخارى. (6) صحيح مسلم. (7) فتح البارى بشرح صحيح البخارى، للحافظ ابن حجر العسقلانى. (8) فضائل القرآن، للحافظ ابن كثير. (9) المستدرك على الصحيحين، لأبى عبد الله الحاكم. (10) مقدمة ابن خلدون. (11) مناهل العرفان فى علوم القرآن، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى. (12) الانتصار للقرآن، للقاضى أبى بكر الباقلانى. (13) النشر فى القراءات العشر، لابن الجزرى. ¬

(¬6) سورة الواقعة: 79.

السور القرآنية

السور القرآنية السورة لغة: قال ابن منظور (¬1): «والسورة: المنزلة، والجمع سور، والسورة من البناء: ما حسن وطال. وقال الجوهرى: والسور جمع سورة، مثل بسرة وبسر، وهى كل منزلة من البناء، ومنه سورة القرآن، لأنها منزلة بعد منزلة، مقطوعة عن الأخرى، والجمع سور ... ويجوز أن يجمع على سورات، وسورات. وقال ابن سيدة: سميت السورة من القرآن سورة لأنها درجة إلى غيرها، ومن همزها جعلها بمعنى بقية من القرآن وقطعة، وأكثر القراء على ترك الهمزة فيها. من سؤرة المال، ترك همزه لما كثر فى الكلام ... وأنشد النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب معناه: أعطاك رفعة وشرفا ومنزلة. وقال ابن فارس (¬2): «سور: السين والواو والراء أصل واحد يدل على علو وارتفاع، من ذلك: سار يسور، إذا غضب وثار، وإنّ لغضبه لسورة، والسّور جمع سورة كل منزلة من البناء». السورة اصطلاحا: طائفة مستقلة من آيات القرآن ذات مطلع ومقطع. يعنى بداية ونهاية (¬3). المناسبة بين المعنى اللغوى والاصطلاحى: سميت جملة الآيات القرآنية ذات المطلع والمقطع سورة لكمالها وتمامها، وشرفها وارتفاعها، فإنها تحيط بآياتها إحاطة السور بالبناء، وترتفع بقارئها وحافظها حيث الشرف فى الدنيا والآخرة. مصدر معرفة تحديد السورة: تحددت السورة القرآنية بفاتحتها وخاتمتها بتوقيف من الله تعالى، وليس باجتهاد من بشر أيا كان، وكان الصحابة- رضى الله عنهم- يعرفون السورة الجديدة بنزول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كما بين النبى صلّى الله عليه وسلم ذلك من خلال قراءته. يقول الزرقانى (¬4) - رحمه الله- «ومرجع الطول والقصر والتوسط، وتحديد المطلع والمقطع إلى الله وحده لحكم سامية». ¬

(¬1) «لسان العرب لابن منظور. ط 3 دار إحياء التراث العربى 1419 هـ/ 1999 م». (¬2) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس ص 475، مادة (سور) طبعة أولى، دار إحياء التراث العربى. (¬3) «الشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى. مناهل العرفان 1/ 350 ط دار الكتب العلمية 1416 هـ 1996 م». (¬4) مناهل العرفان 1/ 351.

عدد سور القرآن:

عدد سور القرآن: يقول الإمام الزركشى: «واعلم أن عدد سور القرآن العظيم باتفاق أهل الحل والعقد مائة وأربع عشرة سورة، كما هى فى المصحف العثمانى، أولها الفاتحة وآخرها الناس. وقال مجاهد: وثلاث عشرة، بجعل الأنفال والتوبة سورة واحدة لاشتباه الطرفين وعدم البسملة. ويرده تسمية النبى صلّى الله عليه وسلم كلا منهما (¬5). والأول هو المعتمد بإجماع الأمة، ولا نزاع فيه. أسماء السور سر التسمية: ذهب جل علماء علوم القرآن إلى أن تسمية سور القرآن الكريم إنما كانت على نسق تسمية العرب لقصائدهم ونحوها، فيقول الإمام الزركشى: «ينبغى النظر فى وجه اختصاص كل سورة بما سميت به، ولا شك أن العرب تراعى فى الكثير من المسميات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون فى الشيء من خلق أو صفة تخصه أو صفة تكون معه أحكم أو أكثر أو أسبق لإدراك الرائى للمسمى، ويسمون الجملة من الكلام أو القصيدة الطويلة بما هو أشهر فيها، وعلى ذلك جرت أسماء سور الكتاب العزيز، كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لقرينة ذكر قصة البقرة المذكورة فيها وعجيب الحكمة فيها، وسميت سورة النساء بهذا الاسم لما تردد فيها من كثير من أحكام النساء» (¬6). أقول: بل إن الأمر على خلاف ذلك، ويعرف هذا بتدبر اسم السورة الذى عرفت به، وتلمس المناسبة بينه وبين كل موضوع من موضوعات السورة، فيبدو جليا أن أسماء السور لها أسرارها الحكيمة، مما يدل على حكمة منزل القرآن، ويشير إلى المناسبة اللطيفة بين اسم السورة وجميع موضوعاتها. أما ما ذهبوا إليه من محاكاة عادة العرب فى تسميتهم، فإنه يجعل الاسم عنوانا على موضوعه فقط لا على السورة كلها، أو كما يقول أهل التصنيف: إنه يجعل الاسم أخص من المسمى. فما معنى تخصيص سورة البقرة بهذا الاسم وقد ذكر فيها. على سبيل المثال- هاروت وماروت، وتحويل القبلة، والقصاص، والصيام، والإيلاء، والرضاع، والتحريم الصريح للربا كله، وآية الدّين، بما لم يذكر ¬

(¬5) «الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى ت 794 هـ- البرهان فى علوم القرآن 1/ 317 ط أولى دار الفكر 1408 هـ 1988 م». (¬6) البرهان 1/ 340.

تعدد أسماء السورة:

فى سورة أخرى، ولم توسم السورة بشيء من هذا كله، رغم أن ذكر شىء من ذلك عنوانا على السورة أشرف من ذكر كلمة البقرة، لولا أن لله الحكمة البالغة فى تخصيص التسمية بهذا الاسم. بدا منها أن نكول بنى إسرائيل عن طاعة الله تعالى ورسوله موسى عليه السّلام ظهر بأقبح صوره وأغرب مناظرة فى قصة أمرهم بذبح بقرة، وحين يدور المتفكر بهذا العنوان [نكول بنى إسرائيل عن أمر الله ورسالته] على كل جزء من السورة يجد له ظلا يتفيؤا بين جنبات السورة. تعدد أسماء السورة: قد يكون للسورة اسم واحد وهو كثير، وقد يكون لها أكثر من اسم كسورة البقرة، يقال لها: فسطاط القرآن. لعظمها وبهائها. ويقال لها: سورة النساء العظمى لما اشتملت عليه من أحكام النساء، وكسورة المائدة، يقال لها: سورة العقود، والمنقذة، وسورة براءة، تسمى التوبة، والفاضحة، والحافرة، والعذاب، والمقشقشة، والبحوث، والمبعثرة. قال الزركشى: وينبغى البحث عن تعداد الأسامى، هل هو توقيفى، أو بما يظهر من المناسبات؟ فإن كان الثانى فلن يعدم الفطن أن يستخرج من كل سورة معانى كثيرة تقتضى اشتقاق أسمائها وهو بعيد. أه (¬7). قلت: بل هذا من قبيل ما يظهر من المناسبات وليس على سبيل التسمية فى الغالب الأعم، بل هو من قبيل الوصف، أو الإشارة إلى خصوص معين. أسماء السور بين التوقيف والاجتهاد: للعلماء فى ذلك مذهبان: المذهب الأول: أن أسماء السور توقيفية. واستدلوا لذلك بذكر النبى صلّى الله عليه وسلم لأسماء بعض السور، كفاتحة الكتاب، وسورة البقرة، وآل عمران، والنساء، وغيرها. وبشهرة السور بأسمائها بين الصحابة- رضى الله عنهم- وتواترها بين أجيال الأمة حتى هذا الحين ... دون أن يختلف عليها أهل قرن عن غيرهم، ولا أهل مكان عمن سواهم. قال الإمام السيوطى (¬8): «وقد ثبتت أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار، ولولا خشية الإطالة لبينت ذلك، ومما يدل لذلك ما أخرجه ابن أبى حاتم عن عكرمة قال: كان المشركون يقولون: سورة البقرة، سورة العنكبوت، يستهزءون بها، فنزل: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ». وتعقبه الدكتور/ إبراهيم خليفة بقوله: «إن كان مراد الحافظ- طيب الله ثراه- من الثبوت الذى زعم مجىء الحديث فى كل اسم ¬

(¬7) البرهان 1/ 339. (¬8) «الإتقان فى علوم القرآن 1/ 166 ط الأولى دار ابن كثير. بتحقيق د/ مصطفى ديب البغا».

ألقاب السور:

من أسماء سور القرآن على درجة صالحة للحجية من تواتر أو صحة أو حسن فغير مسلم، فإن الباحث المتقصى فى كتب السنة وكتب التفسير بالمأثور يدرك لا محالة أن هذا مطلب عزيز المنال، وأن أقصى ما يظفر به فى أسماء بعض السور آثار ضعيفة فردة لا ينجبر ضعفها موقوفة أو مقطوعة فى كثير من الأحيان مما يدل على أن مثل هذه الدعوى من صاحبها لو كانت قصده- رحمه الله- مجازفة. وما أورده من حديث ابن أبى حاتم هنا أعم من المدعى، فإن أقصى ما يدل عليه ثبوت التوقيف فى خصوص ما سماه من البقرة والعنكبوت، فأما ما وراء ذلك فليس فى هذا الحديث عنه عين ولا أثر، ويزيد على ذلك أن الحديث مرسل (¬9). قلت: هذا كلام جليل، غير أنه يبدو لى رجحان القول بالتوقيف وذلك لعدة قرائن: 1 - لا معنى لأن يسمى الله بعض السور دون البعض. 2 - لا يمكن القول بأن النبى صلّى الله عليه وسلم ذكر ما ذكر من أسماء السور بغرض تحديد أسمائها، وإنما ربما كان هذا لمناسبة قراءتها أو التنبيه على فضلها. 3 - أسامى سور القرآن جاءت على خلاف ما يسمى به الناس، فإن كانت السورة الأولى سميت بالفاتحة فلم تسمّ السورة الأخيرة بالخاتمة. وإن سميت بعض السور بأوائلها فلم يطّرد ذلك فى البعض الأكثر. وإن سميت بعضها بأغرب ما فيها فلم يتوافر ذلك فى كل السور. فلو عرضت سورة النمل على اجتهادات البشر لذهبوا إلى تسميتها بسورة الهدهد مثلا لأن قصته أعجب من قصة النملة، ودوره أغرب من دورها. 4 - السر الحكيم وراء أسماء السور، والمناسبة الدقيقة بين اسم السورة وموضوعها العام، ونحو ذلك من وجوه الإعجاز فى هذا الخصوص؛ كل ذلك يحيل أن تكون أسماء السور اجتهادية. المذهب الثانى: أن أسماء السور اجتهادية، ولعلهم اعتمدوا فى هذا على عدم ورود اسم كل سورة من طريق التوقيف، وإن وقع هذا لبعض السور. ويقول بعض المحققين: إن السور التى وردت أسماؤها بطريق التوقيف فتسميتها توقيفية، وما لم يبلغنا فى اسمها توقيف فلا يقال فيها بالتوقيف. ألقاب السور: لقب العلماء السور القرآنية مجملة بألقاب صنفت السور إلى أربعة أصناف: ¬

(¬9) تفسير سورة النور، ص 6، 7 بتصرف.

1 - السبع الطوال. 2 - المئون. 3 - المثانى. 4 - المفصل. ولعلهم اعتمدوا فى هذا على ما أخرج أحمد وأبو عبيد من رواية سعيد بن بشير عن قتادة عن أبى المليح عن واثلة بن الأسقع عن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: «أعطيت السبع الطّول مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثانى مكان الزبور، وفضّلت بالمفصل» (¬10). أما الطوال: ويقال لها الطّول، فسميت بذلك لطولها، وهى سبع سور: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، والسابعة: الأنفال مع التوبة، لقصر كل منهما على حدتها، ولاتحاد موضوعهما وعدم الفصل بينهما بالبسملة، فكانتا كالسورة الواحدة. وصحح صاحب «الإتقان» رواية ابن أبى حاتم وغيره عن سعيد بن جبير، وغيره أن السورة السابعة هى سورة يونس، بدلا من الأنفال والتوبة (¬11). وأما المئون: فهى السور التالية للسبع الطوال إلى سورة الشعراء، وسميت بذلك لأن كل سورة منها مائة آية أو نحوها. وأما المثانى: فهى السور التالية للمئين إلى سورة الحجرات أو سورة [ق]، وسميت بهذا الوصف لأنها ثانية بعد المئين، والمئون أولى بالنسبة لها. «وقال الفراء: هى السورة التى آيها أقل من مائة، ولأنها تثنى أكثر وأسرع مما يثنى الطوال والمئون، أى تطوى بالقراءة». وقيل لتثنية الأمثال فيها بالعبر والخبر، وجاء فى «جمال القراء»: هى السور التى ثنيت فيها القصص. وقد تطلق على القرآن كله وعلى الفاتحة (¬12). وأما المفصل: فهو ما ولى المثانى من السور القصار، من سورة الحجرات أو (ق) إلى سورة الناس- على ما رجحه العلماء ورواه أحمد وغيره من حديث حذيفة الثقفى، وفيه: أن الذين أسلموا من ثقيف سألوا الصحابة- رضى الله عنهم: كيف تحزّبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل من (ق) حتى نختم (¬13). وسمى المفصل بذلك لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة، لقصرها وكثرتها. وقيل: لقلة المنسوخ منه، ولهذا يسمى: بالمحكم، كما رواه البخارى عن سعيد بن جبير (¬14). وهذا المفصل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: ¬

(¬10) البرهان فى علوم القرآن 1/ 307. (¬11) الإتقان 1/ 199. (¬12) «الإتقان 1/ 199». (¬13) الفتح الربانى بترتيب مسند أحمد، ك/ أبواب تحزيب القرآن، وأبو داود فى السنن، ك/ الصلاة ... أبواب قراءة القرآن وتحزيبه. (¬14) «صحيح البخارى: ك/ فضائل القرآن، ب/ تعليم الصبيان القرآن».

ألقاب أخرى:

1 - طوال. 2 - أوساط. 3 - قصار. وطوال المفصل: من أول سورة الحجرات أو (ق) إلى سورة البروج. وأوساطه: من سورة الطارق إلى سورة لَمْ يَكُنِ. وقصاره: من سورة الزلزلة إلى آخر سورة الناس. ألقاب أخرى: جاء فى كتاب «جمال القراء» عن بعض السلف أنهم كانوا يقولون: فى القرآن: ميادين، وبساتين، ومقاصير، وعرائس، وديابيج، ورياض. فميادينه: جمع ميدان، وهو ما افتتح ب (الم). وبساتينه: جمع بستان، وهو ما افتتح ب (الر). ومقاصيره: جمع مقصورة، وهى الحامدات، أى السور المبدوءة ب (الحمد لله). وعرائسه: هى المسبحات، أى السور المبدوءة بصيغة من صيغ التسبيح. وديابيجه: جمع ديباجة، وهى آل عمران. ورياضه: جمع روضة وهى المفصل. ترتيب السور: لقد جاء ترتيب السور القرآنية على نسق غير مألوف، وأبرز ما يميز ذلك، أن ترتيب السور فى المصحف كان على خلاف ترتيب النزول، فتجد السورة المدنية المتأخرة نزولا مقدمة فى المصحف على السورة المكية المتقدمة نزولا، والعكس كذلك، بل ربما وقع هذا فى الآيات نفسها كآيتى عدة المرأة المتوفى عنها زوجها. كما تتقدم السورة القصيرة على الطويلة، والعكس أيضا، وتجتمع سور متشابهات فى نسق متتابع، مثل السور التى تبدأ ب (حم)، بينما تأتى فى مقام آخر فى نسق متفرق، مثل المسبحات، ومع هذا فقد اختلف العلماء فى كون هذا الترتيب بالتوقيف، أو بالتوفيق والاجتهاد، وذهبوا فى ذلك إلى ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: أن ترتيب السور كان باجتهاد من الصحابة- رضى الله عنهم- واستدلوا لذلك باختلاف الترتيب فى مصاحف الصحابة، فكان مصحف على رضي الله عنه مرتبا على حسب النزول، فأوله سورة اقرأ، فالمدثر، ف (ق)، فالمزمل، فتبت، فالتكوير. وكان مصحف ابن مسعود رضي الله عنه أوله: البقرة، فالنساء، فآل عمران.

المذهب الثانى:

ومصحف أبى بن كعب رضي الله عنه كان يبدأ بسورة الفاتحة، فالبقرة، فالنساء، فآل عمران. كما استدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنه عند أحمد والترمذى وغيرهما، قال: «قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهى من المثانى، وإلى براءة وهى من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ووضعتموها فى السبع الطوال، قال عثمان رضي الله عنه: كانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب سطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ووضعتهما فى السبع الطوال (¬15). قلت: وهذا وذاك استدلال ضعيف، ذلك لأن ترتيب مصاحف الصحابة- رضى الله عنهم- جاء مختلفا حيث كانوا يكتبون لأنفسهم لا للأمة، ولم يؤمروا بترتيب معيّن، ولهذا أقروا بالإجماع على ترتيب السور فى مصحف أبى بكر، بل سلموا صحفهم هذه لعثمان بن عفان رضي الله عنه ليحرقها إجماعا منهم على الترتيب فى مصاحف عثمان الذى وافق ترتيب مصحف أبى بكر، ومن قبل قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا سيما فى العرضة الأخيرة. هذا ردّ لاستدلالهم الأول، أما استدلالهم الثانى بحديث ابن عباس رضي الله عنه فلا تقوم به حجة، لأنه حديث ضعيف، قال فيه الإمام الترمذى- رحمه الله تعالى-: لا نعرفه إلا من حديث عوف بن زيد الفارسى. وقد ذكره البخارى فى كتابه" الضعفاء الصغير" واشتبه فيه: هل هو ابن هرمز، أو غيره؟ كما أن فى متن الحديث ما يرده، مثل قوله:" فقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، لأن هذا لا يخلو أن يكون تقصيرا من النبى صلّى الله عليه وسلم أو قصورا فى الرسالة. وكلا الأمرين باطل محال. المذهب الثانى: أن ترتيب بعض السور توقيفى، وهو ما ورد فيه توقيف، وما عداه فليس توقيفيا، وهو ما لم يرد فيه توقيف. واستدل أصحاب هذا المذهب بما ورد من أحاديث فيها ذكر لبعض السور مرتبا، مثل: ما روى الإمام مسلم عن أبى أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران (¬16). وعند الإمام البخارى- رحمه الله- أن ¬

(¬15) الفتح الربانى 18/ 290. (¬16) صحيح مسلم، ك/ صلاة المسافرين، ب/ فضل قراءة القرآن وسورة البقرة.

المذهب الثالث:

رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ (قل هو الله أحد، والمعوذتين) (¬17). وأقول: إن الأحاديث الواردة بالتوقيف فى ترتيب بعض السور وإن دلت على التوقيف فيها، فإنها لا تدل ضرورة على أن ترتيب البعض الآخر كان بالاجتهاد، بل غاية ما يمكن أن يدل عليه هو احتمال أن يكون ترتيب هذا البعض الآخر اجتهاديا، ويبقى احتمال أن يكون أيضا بالتوقيف. المذهب الثالث: أن ترتيب السور كان بالتوقيف، نزل به جبريل عليه السّلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعلمه كذلك لأصحابه- رضى الله عنهم- فحفظوه وبلغوه لمن بعدهم على ذلك. قال ابن حجر- رحمه الله- «ترتيب بعض السور على بعضها، أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفيا، والأدلة على ذلك: 1 - قول الله تعالى أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء 82] وفى عموم هذه الآية أقول: لو كان ترتيب سور القرآن باجتهاد الناس لتنوع واختلف على اختلاف نظر كل قائم بهذا العمل، كما اختلف ترتيب مصاحف كتبة الوحى حين كانوا يكتبون القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى صحفهم الخاصة بهم، فلم تكن على ترتيب واحد، وبالتالى فوحدة ترتيب سور القرآن منذ عهد النبوة- قراءة- وإلى الآن- قراءة وكتابة- دليل على توقيف هذا الترتيب. 2 - أخرج الإمام البخارى- رحمه الله- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال عن سور «بنى إسرائيل- يعنى الإسراء- والكهف ومريم وطه والأنبياء: إنهن من العتاق الأول وهن من تلادى» (¬18). وروى أحمد وأبو داود (¬19) من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تأخر عليهم ولم يخرج، ولما خرج سألوه؟ فقال: «طرأ علىّ حزبى من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه". فسألنا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل حتى نختم". 3 - إجماع الأمة قاطبة على هذا الترتيب، وعلى حرمة مخالفته فى كتابة المصاحف، وبهذا كله يتبين رجحان القول بتوقيف ترتيب السور القرآنية فى المصحف، واختار هذا المذهب الإمام أبو جعفر النحاس، وعزاه إلى علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه. ¬

(¬17) صحيح البخارى، ك/ فضائل القرآن، ب/ فضل المعوذات. (¬18) البخارى، ك/ التفسير، ب/ سورة بنى إسرائيل. ومعنى العتاق: السور الجيدة القديمة فى نزولها. وتلادى: يعنى معهوداتى ومحفوظاتى. (¬19) الفتح الربانى بترتيب المسند 18/ 29، وأبو داود، ك/ الصلاة، ب/ قراءة القرآن وتحزيبه. وقال الشيخ البنا: وحسّن إسناده الحافظ ابن كثير فى فضائل القرآن.

تناسب السور القرآنية:

4 - قال صاحب البرهان: «تنبيه: لترتيب وضع السور فى المصحف أسباب تطلع على أنه توقيفى صادر عن حكيم؛ أحدها: بحسب الحروف، كما فى الحواميم. وثانيها: لموافقة أول السورة لآخر ما قبلها، كآخر الحمد فى المعنى وأول البقرة. وثالثها: للوزن فى اللفظ، كآخر (تبت) وأول الإخلاص. ورابعها: لمشابهة جملة السورة لجملة الأخرى مثل (والضحى) و (ألم نشرح). تناسب السور القرآنية: إن سور القرآن كلها مترابطة فيما بينها برباط وثيق، ومناسبة لطيفة، يدركها المتدبرون، قال الله سبحانه وتعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82]، ويلاحظ العلماء هذا التناسب على وجهين: الوجه الأول: مناسبة السورة لما قبلها وما بعدها. ولهذا الوجه مسلكان: المسلك الأول: تناسب لفظى حيث الفواتح والخواتم. فواتح السور وخواتمها وجه مشرق من وجوه الإعجاز القرآنى، ولذلك اهتم بها العلماء أيما اهتمام، فقاموا يتلمسون التناسب الدقيق بين أجزاء التركيب القرآنى، فأبرزوا ذلك بشكل جلى واضح، وكان من ذلك وجه التناسب بين فاتحة السورة وخاتمة غيرها، وبالنظرة العامة إلى سور القرآن تتميز فواتح السور على أشكال: 1 - الثناء على الله، مثل: الإسراء والكهف. 2 - الأحرف المفردة، مثل: البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم. 3 - النداء، مثل: النساء والمائدة، والطلاق والتحريم. 4 - الشرط، مثل: التكوير والانفطار. 5 - الأمر، مثل: الإخلاص والفلق والناس. 6 - الاستفهام، مثل: الإنسان والنبأ. 7 - الدعاء، مثل: المعوذتين. 8 - القسم، مثل: الفجر والبلد والشمس والليل والضحى. 9 - الخبر، مثل: القمر والرحمن، والحديد والمجادلة. 10 - الحمد، مثل: سبأ وفاطر. 11 - التسبيح، مثل: الصف والجمعة. وخواتم السور كذلك على أشكال: 1 - الدعاء، مثل: الفاتحة والبقرة. 2 - وحدانية الله، مثل: التكوير

وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ والانفطار يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ. 3 - خبر الكافرين، مثل: النازعات كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها وعبس أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ. 4 - خبر المؤمنين، مثل: سورة المطففين فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ والانشقاق إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. 5 - الثناء على الله، مثل الأنبياء وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ والحج هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. 6 - التسبيح، مثل سورة يس فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، والصافات سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. 7 - التنبيه، مثل فصلت أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ والشورى أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ. 8 - ذكر الخاص بعد العام، مثل الحجرات إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ مع سورة ق نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ. والتناسب قائم بوضوح بين السور المسبحات، التى افتتحها الله تعالى بإحدى صيغ التسبيح، وكذا بين الحامدات المفتتحة بصيغة الحمد لله، والسور المفتتحة ب حم، ومثلها الطواسين، وهى السور التى بدأها الله بأحرف (طس) وما زاد عليها، وذلك من حيث التشابه فى البدء وفى الموضوع. ومن أمثلة تناسب فاتحة السورة مع خاتمة السورة التى قبلها: خاتمة الإسراء وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ الآية) مع فاتحة الكهف الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. وخاتمة الطور وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ مع فاتحة سورة النجم وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. وخاتمة الواقعة فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ مع فاتحة الحديد سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وربما كانت المناسبة من هذا النوع دقيقة بعض الشيء بما يحتاج إلى تدبر؛ نحو ما يمكن أن يقال فيما بين سورتى الحج والمؤمنون من أن آخر الحج أمر للمؤمنين بالإخلاص لله والاعتصام بدينه، وأول سورة المؤمنون يقدم البشرى بالفلاح على ذلك. كما يمكن أن يقال فيما بين العنكبوت والروم: فخاتمة العنكبوت ذكرت المجاهدين فى سبيل الله ومعونته لهم، وفاتحة الروم ذكرت أن الحرب سجال ودول غير أن العاقبة لأصحاب الشريعة السماوية. المسلك الثانى: التناسب بين الموضوع الرئيس فى كل سورة: وهذا مسلك أعمق وأدق فى الملاحظة، حيث يربط بين الروحين الساريين فى السورتين، ومن أمثلة ذلك ما يلى: - بين سورة الفاتحة والبقرة: يمكن القول بأن سورة البقرة تفصيل لإجمال سورة الفاتحة. - وبين سورتى البقرة وآل عمران: يمكن القول بأن سورة البقرة بينت قبح اليهود، بيانا واقعيا من خلال واقع حياتهم، مما يبعث فى النفوس المطمئنة بغضا عظيما، ونفورا بعيدا من اليهود، ثم جاءت سورة آل عمران لتعلن أن اليهود (ليسوا سواء) فلقد كان منهم آل عمران الذين اصطفاهم الله (مع آدم ونوح وآل إبراهيم) كما قال فى سورتهم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ الآية 33 فعمران، وامرأته، وابنتهما مريم، وحفيدهما عيسى ابن مريم كل أولئك كانوا صالحين على خلاف بنى إسرائيل، بدليل أنه جاء منهم عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. - وبين سورة الطلاق والتحريم والملك، يمكن أن يقال: فى سورة التحريم يقرر الله قاعدة عقدية عظيمة، وهى أن التحريم حق خالص لله، لا يجوز لأحد- مهما كان- أن ينازع الله فيها ولو كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه وتعالى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل 116] وفى سورة الطلاق قبلها أمر بأن يكون التحريم- فيما أذن الله فيه لعباده أن يحرموه- على منهج الله- سبحانه وتعالى- فى التحريم، على حد قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ لأول إقبال

عدتهن وهو الطهر الطاهر الذى لم يقع فيه جماع. ثم تأتى سورة الملك لتثبت أن الملك كله لله لا ينازعه فيه أحد، وكأنها بذلك تقدم تبريرا لانفراد الله بتحريم الحرام وإباحة الحلال. فهذه السور الثلاث بهذا الترتيب تتلخص فى جمل متراصة: - إذا حرمتم شيئا مما أذن الله لكم بتحريمه فلا تحرموا إلا على منهج الله، فإنه لا يجوز لأحد أن يحرم شيئا من دون الله، لأن الله- سبحانه وتعالى- هو مالك الملك كله، لقوله سبحانه وتعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. الوجه الثانى: التناسب داخل السورة الواحدة: وهذا التناسب نوعان: النوع الأول: التناسب بين فاتحة السورة وخاتمتها. وهذا يسمى: ترابط الأطراف، أو: رد العجز على الصدر. يقول الدكتور القيعى- رحمه الله-" ومما تجدر الإشارة له: التعرف على الانسجام الكامل بين أول السورة ونهايتها (¬20). ومن أمثلة هذا النوع فى سورة البقرة مثلا: فاتحتها ثناء على المتقين الذين آمنوا بالقرآن وما فيه حتى ما لم يعرفوه مثل (الم)، واهتدوا بهداه، وخاتمة السورة شهادة لهم بالإيمان الذى حققوه: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. وسورة النور: لما كان أولها: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ ولما كان معلوما لله تعالى أن الكافرين وأمثالهم سيقولون: وما شأن الله أن يفرض علينا ولنا عقولنا التى نعقل بها أمورنا وندبر بها حياتنا جاء ختام السورة: أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وهذا كالجواب على السؤال المثار على أول السورة، أى أن الله أنزل ما أنزله وفرضه لأنه مالك السموات والأرض وهو بكل شىء عليم. ونحوها سورة الممتحنة: فأولها وآخرها اجتمعا على شىء واحد وهو نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء، أما أولها فقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي ¬

(¬20) الأصلان ص 63».

الآيات القرآنية:

وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ وأما آخرها فقول الله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ. النوع الثانى: التناسب بين اسم السورة وموضوعها: وهذا مبحث عظيم يبرز الأسرار الكامنة وراء أسماء السور القرآنية، بما يقتضيه ذلك من كون أسماء السور توقيفية من عند الله. ومثال ذلك: - سورة يوسف تشتمل على عبر وعظات تتلخص فى قوله تعالى فى نفس السورة: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فليس موضوع السورة الأسف والحزن الذى يدل عليه معنى كلمة يوسف، ألا يكون المناسب أنه هو النبى الذى تدور حوله أحداث السورة تناسب أن تسمى باسمه؟. - وكذلك سورة الحجرات، فمعنى هذا الاسم مأخوذ من الحجر بمعنى المنع، والحجرات جمع حجرة، وهى: المكان المحجور عليه بجدار محيط به، والمراد بالحجرات هنا بيوت النبى صلّى الله عليه وسلم والسورة الكريمة فى مجمل موضوعها تدور فى فلك الحجر على بعض السلوكيات الاجتماعية السيئة وتطهير المجتمع المسلم منها، مثل سوء الاستئذان على البيوت، والأخذ بنميمة الفاسق، والتقاتل، والاستهزاء، والتنابز بالألقاب، والغيبة، ونحو ذلك مما يتنافى مع الآداب الإسلامية العظيمة. الآيات القرآنية: الآية فى اللغة: لها عدة معان، منها: 1 - الدليل والبرهان: كما فى قوله عز وجل: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم 20]. 2 - العبرة: كما فى قوله عز وجل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ [هود 103]. 3 - المعجزة: كما فى الآية: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء 101]. 4 - البناء الرفيع: كما فى قوله عز وجل: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ: [الشعراء 128]. وفى الاصطلاح: تعنى: جملة من كلمات القرآن ذات مطلع ومقطع، مندرجة فى سورة قرآنية. وبهذا المعنى وردت كلمة آية فى قول الله

المناسبة بين المعنى اللغوى والمعنى الاصطلاحى:

عز وجل: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل 101]. المناسبة بين المعنى اللغوى والمعنى الاصطلاحى: هى أن الآية القرآنية دليل على إثبات عديد من الحقائق مثل وحدانية الله، وهى حاملة للعبر والمواعظ النافعة، وهى معجزة تؤيد صدق نبوة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وتعلن ربانية القرآن الكريم، كما أنها بناء رفيع جدا فى اختيار وتركيب حروف كلماتها، وفى ترتيب الكلمات فى سياقها، وهى مع آيات سورتها لبنة تكوّن بناءها. عدد آيات القرآن الكريم: اتفق العلماء على أن عدد الآيات القرآنية (6200) ستة آلاف ومائتا آية، واختلفوا فيما زاد على ذلك ما بين أربع، إلى ست وثلاثين آية. ويجدر التنبيه هنا إلى أن هذا الاختلاف لا يمس حقيقة القرآن فى شىء، حيث إن القرآن المقروء، أو المكتوب واحد عند جميع العلماء فى المشرق والمغرب، فى القديم والحديث، لا ينقص كلمة هنا ولا حرفا هناك، وإنما غاية الأمر أنهم اختلفوا فى عد وتقسيم هذا الكم القرآنى إلى آيات، ومن أسباب ذلك: - اختلافهم فى اعتبار الحروف الفواتح مثل الم طه يس ق آية، أو جزءا من آية. - اختلافهم فى اعتبار البسملة آية، أو فاتحة للسورة فحسب. - اختلافهم فى عد ما وقف عليه النبى صلّى الله عليه وسلم أثناء قراءته للقرآن، وما وصله. وعلى هذا فالاختلاف بين العلماء فى هذا الشأن إنما هو اختلاف شكلى. والله أعلم. ترتيب الآيات القرآنية: قال الزرقانى- رحمه الله-: «انعقد إجماع الأمة على أن ترتيب آيات القرآن الكريم على هذا النمط الذى نراه اليوم بالمصاحف كان بتوقيف من النبى صلّى الله عليه وسلم عن الله- سبحانه وتعالى- وأنه لا مجال للرأى والاجتهاد فيه. بل كان جبريل عليه السّلام ينزل بالآيات على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويرشده إلى موضع كل آية من سورتها، ثم يقرؤها النبى صلّى الله عليه وسلم على أصحابه- رضى الله عنهم- ويأمر كتاب الوحى بكتابتها معيّنا لهم السورة التى تكون فيها الآية، وموضع الآية من هذه

تناسب الآيات:

السورة، وكان يتلوه عليهم مرارا وتكرارا فى صلاته وعظاته وفى حكمه وأحكامه، وكان يعارض به جبريل كل عام مرة، وعارضه به فى العام الأخير مرتين، وكل ذلك كان على الترتيب المعروف لنا فى المصاحف». ومن الأدلة على ذلك: ما أخرجه الشيخان عن أبى مسعود قال: قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة فى ليلة كفتاه». وعند مسلم عن أبى الدرداء: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال». وفى رواية: «العشر الأواخر من سورة الكهف». كما ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: كان النبى صلّى الله عليه وسلم يقرأ فى الجمعة فى صلاة الفجر الم (1) تَنْزِيلُ السجدة، وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ. وعند مسلم عن أبى واقد الليثى أن النبى صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ فى الأضحى والفطر ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وأخرج الإمام مسلم عن عمر رضي الله عنه قال: ما سألت النبى صلّى الله عليه وسلم عن شىء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه فى صدرى، وقال: «تكفيك آية الصيف التى فى آخر سورة النساء». وروى الإمام أحمد عن عثمان بن أبى العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: «أتانى جبريل فأمرنى أن أضع هذه الآية هذا الموضع من السورة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى. وهذا كله، وغيره كثير .. يدل على أن الآيات القرآنية نزلت بهذا الترتيب الموجود فى المصحف. تناسب الآيات: إن آيات القرآن الكريم لترتبط فيما بينها ارتباطا وثيقا، يعتبر مظهرا جليلا من مظاهر الإعجاز القرآنى، وتبدو آيات السورة الواحدة بهذا الترابط حلقات فى سلسلة، سلك فيها عقد جميل، ومن جمال تناسب الآيات أن كان على أشكال متنوعة أنظمها فى نوعين: النوع الأول: تناسب أجزاء الآية الواحدة، ولهذا النوع أشكال: أحدها: تناسب القسم مع المقسم به، مثل: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى والمناسبة هنا هى تشبيه النبى صلّى الله عليه وسلم بالنجم فى الاهتداء به.

ثانيها: السؤال والجواب، مثل الآية أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس 81]. فآخرها جواب على أولها. ثالثها: تناسب ألفاظ الآية مع حالها ومعناها، مثل آية سورة البقرة وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ [126] بالتنظير مع آية سورة إبراهيم: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [35]، ففي الآية الأولى حيث كانت مكة مكانا منكرا غير معروف جاء لفظه نكرة (بلدا)، ولما أصبح مكانا معروفا يرتاده الناس ويستوطنونه جاء اللفظ المعبر عنه معرفة (البلد) كما فى الآية الثانية. ومثل قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام 151]، بالتنظير مع آية الإسراء وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [31]. فحيث كان الفقر واقعا جاء التعبير مِنْ إِمْلاقٍ وطمأن الأسرة على رزقها فقدم خبرها نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وحيث كان الفقر متوقعا أشار إلى ذلك فقال: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ كما أشار إلى أن الأولاد يخلقهم ربهم وقد قدر لهم أرزاقهم، فقدم خبرهم فقال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ. رابعها: تناسب خاتمة الآية مع موضوعها ... مثل قول الله- سبحانه وتعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة 209]، ذكر الإمام القرطبى حكاية عن النقاش: أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن، فأقرأه الذى كان يعلمه (فاعلموا أن الله غفور رحيم) على سبيل الخطأ- فقال كعب: إنى لأستنكر أن يكون هكذا، ومر بهما رجل فقال كعب: كيف تقرأ هذه الآية؟ فقال الرجل: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فقال كعب: هكذا ينبغى. وقيل: سئل كعب: وكيف عرفت وأنت لا تحفظها؟ فقال: ما كان لمن توعد وتهدد أن يغفر ويرحم، وإنما يعز ويحكم. النوع الثانى: تناسب الآيات مع بعضها داخل السورة الواحدة: ولهذا النوع أيضا أشكال: أولها: البيان والتفسير: كما فى الآيات: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ

فواصل الآيات:

جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج 19 - 21]. فقوله: هلوعا فسره ما بعده. الثانى: التأكيد: مثل قول مؤمن آل فرعون: وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ [غافر 41، 42]، فالآية الثانية تؤكد موضوع الآية الأولى. الثالث: المقابلة: مثل قوله- سبحانه وتعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار 13، 14]. الرابع: البدل للإيضاح لا للطرح: مثل قوله- سبحانه وتعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة]. الخامس: جواب الشرط: كما فى أول سورة النصر: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً. فواصل الآيات: فاصلة الآية تطلق على الجملة أو الكلمة الأخيرة منها، وهى سر من أسرار القرآن الكريم، وهى قرينة القافية فى الشعر، واللازمة فى السجع، مع الفارق حيث إن الفاصلة فى القرآن لا تقصد لذاتها، وإنما تتبع المعانى، بينما نظائرها فى كلام الناس تقصد لذاتها، ويتوقف عليها المعنى، وعلى ذلك فالفاصلة بلاغة، ونظائرها عجز ونقص. وحصر الإمام الزركشى فواصل الآيات فى أربعة أمور: التمكين، والتصدير، والتوشيح، والإيغال. أما التمكين فمعناه: أن تكون الفاصلة خالصة مركزة لما قبلها، مما يعتبر تمهيدا لها، بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ ومثال ذلك قول الله عز وجل: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [الأحزاب 25] فلولا الفاصلة لربما ظن أحد أن رد الكافرين كان أمرا اتفاقيا [يعنى صدفة] فأعلن الله بالفاصلة عن قدرته، تطمينا للمؤمنين، وتهديدا للكافرين. وأما التصدير فمعناه: أن يكون لفظ الفاصلة مذكورا فى لفظ الآية، كما فى قوله- عز وجل: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس 19]، وفى

البسملة آية أم لا؟

الآية العاشرة من سورة نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. وأما التوشيح فيعنى: أن تكون الفاصلة مذكورة بمعناها فى صدر الآية- فبينه وبين التصدير شبه قريب، غير أن التصدير يكون باللفظ والتوشيح يكون بالمعنى. كما قال الزركشى: «ويسمى به لكون نفس الكلام يدل على آخره، نزّل المعنى منزلة الوشاح، ونزّل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح، اللذين يجول عليهما الوشاح». وذلك مثل: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ [يس 37]، وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الملك 13]. وأما الإيغال فهو: أن تفيد الفاصلة معنى جديدا بعد تمام معنى صدر الآية، فى مضمونه. ومثال ذلك: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء 88]، فقد تم الكلام عند قوله: لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ويصح الاكتفاء به، ثم جاءت الفاصلة لتضيف معنى جديدا، وهو أنهم لا يأتون بمثل القرآن ولو تعاونوا على ذلك جميعا. ومثاله فى قول الله- عز وجل: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ المائدة 50. ومما تجدر الإشارة إليه فى هذا المقام: تلك الفواصل المشتملة على وصف لله مركب من اسمين من أسمائه، أو صفتين من صفاته، مثل غَفُورٌ رَحِيمٌ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وهكذا، ومن أعظم وأبرز مظاهر الإبداع فى هذا التركيب: إثبات كمال الصفة لله بما يدفع توهم نقصانها أو طغيانها، فالعزيز- مثلا- وهو القوى الذى لا يغلبه غيره، قد تطغيه قوته، وأمان ذلك أن يكون القوى حكيما، فلا تدفعه قوته إلى ظلم أبدا، كما قال الله عن نفسه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء 40]. البسملة آية أم لا؟ البسملة: هى قول القائل: بسم الله الرحمن الرحيم، ويعرف هذا بالتوليد، ومثلها الحوقلة، وهى: لا حول ولا قوة إلا بالله، والسبحلة، وهى: سبحان الله، والحمدلة، والتهليل، وهكذا.

معناها:

معناها: قال جلة من العلماء: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة، يقسم لعباده: إن هذا الذى وضعت لكم يا عبادى فى هذه السورة حق، وإنى أوفى لكم بجميع ما ضمنت فى هذه السورة من وعدى ولطفى وبرّى. القرطبى (1/ 79). وقيل: معناها الاستعانة، أى: أستعين على قراءتى، ونحوها ب (اسم الله الرحمن الرحيم). ويقال: للتبرك عند البدء والشروع فى الشيء، أى أبدأ عملى متبركا ب (اسم الله الرحمن الرحيم). منزلتها من القرآن: اختلف العلماء حول إن كانت البسملة قرآنا، أو مجرد استفتاح للسور القرآنية كما هى استفتاح لكل عمل ذى بال: فقال الإمام مالك: ليست البسملة آية من الفاتحة ولا من غيرها. وقال الإمام عبد الله بن المبارك: إنها آية من كل سورة. وقال الإمام الشافعى: هى آية من الفاتحة، وتردد قوله فى سائر السور، فقال مرة: هى آية من كل سورة، وقال مرة أخرى: ليست آية إلا فى الفاتحة فقط. غير أنهم أجمعوا على كونها بعض آية من سورة النمل: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الآية 30]. وأرجح هذه الأقوال ما ذهب إليه الإمام مالك، فمستنده أقوى من مستند غيره، ولا يعترض عليه بأن البسملة مثبتة فى المصاحف وليس فيها إلا ما هو قرآن، لأن الخلاف حول كونها من كل سورة، وليس حول قرآنيتها، ولا ينفى الإمام مالك كونها قرآنا، وإنما لا يعدها آية من كل سورة، ويؤيد هذا القول اختلاف العلماء حولها، ولو كانت قرآنا متواترا معدودا فى آيات السور القرآنية لما ترك النبى صلّى الله عليه وسلم قراءتها عند قراءته لأول السورة كما صح ذلك عنه كثيرا، ولما ساغ للعلماء أن يختلفوا فيها هذا الاختلاف. ويتفرع على هذا الاختلاف تنوع القول فى حكم قراءتها فى الصلاة وخارجها، وبسط ذلك فى كتب فقه الفروع. الحروف المفردة فى فواتح السور: افتتح الله- تعالى- تسعا وعشرين سورة ببعض الحروف الهجائية، بلغ عددها بدون تكرار أربعة عشر حرفا. مثالها ق طه الم المص كهيعص. ولما كان التعبير بها عجيبا اختلف العلماء

حول معناها والمراد بها اختلافا يمكن إجماله فى قولين: أحدهما: أن هذه الحروف سر من أسرار الله فى قرآنه، لا سبيل إلى كشفه، بل هو من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه، فلم يطلبوا لها معنى، ولم يلتمسوا لها فى الإعراب وجها، ونسب هذا القول إلى الخلفاء الأربعة وابن مسعود وغيرهم من الصحابة- رضى الله عنهم- وتبعهم على هذا جماعة من الخلف. ثم جاء من يقول أيضا: إنها سر ولكنه من قبيل الرمز الذى يمكن الوصول إليه بالتدبر، فقال بعضهم: إنها حروف مقتضبة من أسماء الله وصفاته، فقالوا فى الم: الألف إشارة إلى أحد، واللام إشارة إلى لطيف، والميم إشارة إلى ملك. وقيل: إنها لأسماء الله- جل جلاله- والرسول صلّى الله عليه وسلم والملك عليه السّلام، فالألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد. وقيل غير ذلك. القول الآخر: قول جمهور العلماء، وهو: أنه لا يليق بالقرآن العربى المبين أن يكون فيه شىء غير مفهوم، وإنما جاء الأمر على هذا الوجه من الغموض طلبا للتدبر، كما قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد 24]. ولما كان الأمر قائما على التدبر لا جرم تنوعت كلمات العلماء فى بيان ذلك، ومنه: قول البعض: إنها أسماء للسور التى افتتحت بها، فهذه سورة ن، يس وهكذا. ولكن يرده أنه ليس أمرا مطردا فى جميع سور القرآن، وأن التسمية التى يطلب بها التمييز لا يتحقق مطلوبها هنا، فهناك عدة سور تسمى- على هذا- ب الم، ومجموعة سور أيضا تسمى ب حم، ومثلها تسمى ب الر. وقيل: إنها أسماء للقرآن، بدعوى أنه يتبعها فى سورها تعظيم للقرآن مثل: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [أول البقرة]. وإنما يبطل هذا القول أن هذا ليس مطردا فى كل المواضع مثل سورة العنكبوت: الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وقيل: هى أقسام أقسم الله بها. ورده العلماء بحجة حذف حرف القسم، وهو لا يحذف إلا مع اسم الجلالة عند البصريين، وبأنه يلزم على هذا القول الجمع بين قسمين،

كما فى ن وَالْقَلَمِ. يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وقد كره العلماء هذا. وأرجح الأقوال فى هذا الشأن: أن معنى هذه الحروف هو ما تصدق عليه من حروف الهجاء، ف الم هى: الألف واللام والميم، وهكذا دواليك. والمراد بها على هذا الوجه هو الإعجاز، بمعنى: كأن الله يقول للمنكرين لربانية القرآن: هذه هى الحروف التى تركبت منها كلمات القرآن، ومنها تركبون كلامكم، فإن كان القرآن- كما تزعمون- افتراء محمد، أو من تعليم بشر، أو سحر يؤثر، وليس من عند الله، فافتروا قرآنا مثله، كما جاء ذلك صريحا فى قول الله- سبحانه وتعالى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [الطور 33 - 34] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [هود 13]، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة 23]. ولم يستطيعوا شيئا من ذلك، بل لم يرفعوا بذلك رأسا ولا عقيرة، فوقع الحق وظهر أمر الله، كما قال- سبحانه وتعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء 88]. واستأنس البعض لهذا القول ببعض النكات الحسان منها: 1 - أن هذه الحروف أربعة عشر حرفا، على النصف من عدد الحروف الهجائية الثمانية والعشرين، وعدد السور المفتتحة بها تسع وعشرون سورة، على عدد حروف الهجاء عند من يعتبر الألف المهموز حرفا، وغير المهموز حرفا آخر. 2 - أنها اشتملت أنصاف الحروف من حيث الصفات، ففيها نصف حروف الهمس، والجهر، والشدة، والرخاوة، والإطباق، والانفتاح، وغير ذلك. 3 - أن عددها الأربعة عشر، مطرد فى كثير من الخلق، مثل مفاصل كل يد فى جسم الإنسان، ومنازل القمر فى البروج الشمالية، أو الجنوبية ... وهكذا. هذا والله تعالى أعلى وأعلم وهو ولى الهداية والتوفيق د./ عبد البديع أبو هاشم محمد

مراجع للتوسع: (1) البرهان فى علوم القرآن. للإمام بدر الدين الزركشى. (2) الإتقان فى علوم القرآن. للإمام جلال الدين السيوطى. (3) مناهل العرفان فى علوم القرآن. للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى. (4) مباحث فى علوم القرآن، للشيخ مناع القطان.

التفسير والمفسرون

التفسير والمفسرون 1 - التفسير لغة واصطلاحا ووجه الحاجة إليه التفسير والمفسرون: 1 - التفسير لغة واصطلاحا ووجه الحاجة إليه: التفسير لغة: الكشف والإيضاح، سواء أكان لمحسوس أم لمعقول، وإن كان استعماله فى الثانى أكثر من استعماله فى الأول. ومن استعماله فى المحسوس قولهم: فسرت الفرس، إذا عريته لينطلق فى حصره (¬1)، أى كشفت ظهره، وهو مشدود بالحصار- وهو اللجام- ليسرع فى عدوه. ومن استعماله فى المعنويات قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان: 33] أى أحسن إيضاحا وتفصيلا. معنى التفسير اصطلاحا: أما معناه اصطلاحا، فقد اختلفت عبارات العلماء فى ذلك، ومن أشهرها: 1 - ما قاله أبو حيان فى مقدمة تفسيره: «التفسير: علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التى تحمل عليها حالة التركيب، وتتمات لذلك». ثم شرحه بقوله: «فقولنا: (علم) هو جنس يشمل سائر العلوم، وقولنا: (يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن) هذا هو علم القراءات، وقولنا: (ومدلولاتها) أى مدلولات تلك الألفاظ، وهذا هو علم اللغة، وقولنا: (وأحكامها الإفرادية والتركيبية) هذا يشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع، وقولنا: (ومعانيها التى تحمل عليها حالة التركيب) يشمل ما دلالته بالحقيقة وما دلالته بالمجاز، وقولنا: (وتتمات لذلك) هو معرفة النسخ، وسبب النزول، وقصة توضح ما انبهم فى القرآن، ونحو ذلك» (¬2). 2 - وعرفه الزركشى بقوله: «علم يعرف به ¬

(¬1) انظر القواميس، مادة (فسر)، والبحر المحيط لأبى حيان: 1/ 13، ط./ دار الفكر. (¬2) البحر المحيط: 1/ 13، 14 باختصار يسير.

وجه الحاجة إلى التفسير:

فهم كتاب الله تعالى، المنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه» (¬3). وقد ذكر السيوطى فى إتقانه عدة تعريفات كثيرة للتفسير، واعتبر فى كتابه «التحبير فى علم التفسير» تعريف أبى حيان أحسن تعريف. (¬4) ولعل خير ما يجمع تلك التعاريف كلها، ذلك الذى ذكره الزرقانى فى مناهله، حيث يقول: «والتفسير فى الاصطلاح: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم، من حيث دلالته على مراد الله تعالى، بقدر الطاقة البشرية» (¬5). وهذا التعريف- على الرغم من إيجاز عبارته- تعريف جامع مانع، يناسب المطلوب من الصياغة فى مثل هذا المقام. ثم شرح الزرقانى تعريفه هذا شرحا وافيا، ثم بين لنا سبب تسمية هذا العلم بذلك الاسم، ووجه اختصاصه بها دون بقية العلوم، فقال: «وسمى علم التفسير لما فيه من الكشف والتبيين، واختص بهذا الاسم دون بقية العلوم- مع أنها كلها مشتملة على الكشف والتبيين- لأنه لجلالة قدره، واحتياجه إلى زيادة الاستعداد، وقصده إلى تبيين مراد الله من كلامه، كان كأنه هو التفسير وحده، دون ما عداه» (¬6). وجه الحاجة إلى التفسير: أولا: من أهداف نزول القرآن الكريم الدلالة على صدق النبوة والرسالة، أى أنه نزل ليكون المعجزة الكبرى للنبى صلّى الله عليه وسلم، ومعرفة أوجه إعجازه لا تتم إلا عن طريق تفسيره. ثانيا: ومن أهداف القرآن الكريم كذلك أن الله أنزله ليكون روحا لهذه الحياة، ونورا للناس يهديهم إلى ما فيه سعادتهم فى الدنيا، وفلاحهم فى الآخرة، أنزله ليكون منهج حياتهم فى أمور العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق، وسائر شئون الدين والدنيا والآخرة، ولن يتأتى للأمم والجماعات والأفراد الرقى فى مدارج الكمالات إلا بالعمل بهذا القرآن، ولن يتأتى العمل به إلا بعد فهمه فهما صحيحا، وهذا الفهم الصحيح لا يتأتى إلا بتفسير القرآن. ثالثا: معلوم أن العلوم تنقسم إلى علوم دنيوية، وعلوم شرعية، والعلوم الدنيوية يتوقف الانتفاع بها على الوجه الأكمل والأصلح للبشرية على العلوم الشرعية، والتخلق بالآداب الإلهية، وإلا كانت دمارا ¬

(¬3) البرهان: 2/ 104، 105، ط./ دار المعرفة. (¬4) التحبير 36، ط./ دار المنار. (¬5) مناهل العرفان: 2/ 3، ط./ الفنية المتحدة بالقاهرة. (¬6) المصدر السابق: 2/ 10.

2 - التأويل والتفسير:

للبشرية، وهذا ما نراه فى عصرنا، حينما تحللت تلك العلوم من الأخلاق الربانية، فكانت نقمة ووبالا على أهلها، وعلى الدنيا كلها، والعلوم الشرعية متوقفة أيضا بدورها على القرآن الكريم، والقرآن الكريم لا يمكن الاستفادة منه- كما ذكرنا- إلا بتفسيره، فثبت من هذا أن كل كمال دينى أو دنيوى متوقف على تفسير القرآن الكريم. 2 - التأويل والتفسير: التأويل لغة: مأخوذ من الأول، وهو الرجوع، قال ابن منظور: «الأول: الرجوع، آل الشيء يؤول أولا، ومآلا: رجع، وقال أبو عبيد: التأويل: المرجع والمصير». (¬7) وقيل: إن التأويل مأخوذ من الإيالة، وهى السياسة، قال الزبيدى: «آل الملك رعيته يؤول إيالا: ساسهم وأحسن رعايتهم، وآل المال: أصلحه وساسه» (¬8). وعلى ذلك: فإن قلنا: إن التأويل مأخوذ من الأول، وهو الرجوع، فلأن فيه إرجاع الآية إلى ما تحتمله من المعانى، وإن قلنا: إنه مأخوذ من الإيالة وهى السياسة، فلأن المؤول يسوس الكلام، ويضعه فى معناه اللائق به. أما استعمالات التأويل، فإنه يطلق على ما يأتى: 1 - يطلق على التفسير، وهو الإيضاح والتبيين، فيكون التفسير والتأويل بمعنى واحد، وهذا ما جرى عليه ابن جرير الطبرى فى تفسيره، حينما يقول: القول فى تأويل قوله تعالى كذا وكذا، وبقوله: اختلف أهل التأويل فى هذه الآية. 2 - ويطلق على حقيقة الشيء ذاته، ونفس المراد بالكلام، فإذا قيل: غربت الشمس، فتأويل هذا هو نفس غروبها، وهذا- فى نظر ابن تيمية رحمه الله (¬9) - هو لغة القرآن التى نزل بها. 3 - ويطلق على صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معنى آخر مرجوح، وهو بهذا الإطلاق نوعان: صحيح، وفاسد. الفرق بين التفسير والتأويل: يرى بعض العلماء أن التأويل مرادف للتفسير، ويرى الآخرون أن هناك فرقا بينهما، ولكن هؤلاء اختلفوا فى هذا الفرق. فمنهم من يقول: إن التفسير يخالف التأويل بالعموم والخصوص، فالتفسير أعم ¬

(¬7) لسان العرب (أول) ط./ دار المعارف. (¬8) تاج العروس للزبيدى (أول) ط./ الكويت. (¬9) كما يقول الدكتور محمد الذهبى فى: التفسير والمفسرون: 1/ 20، طبعة المدنى.

المتشابه فى أسماء الله وصفاته:

من التأويل، وكأنه يريد من التفسير بيان مدلول اللفظ مطلقا، سواء كان بالمتبادر، أم بغير المتبادر، ويريد من التأويل بيان مدلول اللفظ بغير المتبادر منه لدليل. ومنهم من يرى أن الاختلاف بينهما إنما هو بالتباين، فكل منهما مباين للآخر، ولكن إلى أى شىء يرجع هذا التباين؟ هنا تختلف عبارات العلماء. فمنهم من يقول: التفسير: بيان وضع اللفظ، إما حقيقة، وإما مجازا، والتأويل: بيان باطن اللفظ. ومنهم من يقول: التفسير يتعلق بالرواية، والتأويل يتعلق بالدراية. ومنهم من يقول: التفسير للمحكمات، والتأويل يتعلق بالدراية. ومنهم من يقول: التفسير للمحكمات، والتأويل للمتشابهات. ومنهم من يقول: التفسير هو القطع بأن مراد الله كذا، والتأويل ترجيح أحد المحتملات، بدون قطع. ومنهم من يقول: التفسير هو بيان المعانى التى تستفاد من وضع العبارة، والتأويل هو بيان المعانى التى تستفاد بطريق الإشارة (¬10). المتشابه فى أسماء الله وصفاته: التشابه فى اللغة: يطلق على معنيين، على التماثل، وعلى الالتباس، جاء فى لسان العرب: أشبه الشيء الشيء: ماثله، وفى التنزيل: مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ [الأنعام: 141]، والشبهة: الالتباس (¬11). والآيات والأحاديث الخاصة بصفات الله تعالى- مثل: الاستواء، واليد، والعين، والقدم، ونحوها- من هذا القبيل الثانى، أى من الأمور المشكلة، ولذلك اختلف فى فهمها: 1 - فالسلف كان منهجهم تجاه تلك النصوص، الإقرار والإثبات والإمرار، من غير تعرض لتأويلها، مع تنزيهه تعالى عن التمثيل والتشبيه. يقول ابن قدامة: «قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل- رضى الله عنه- فى قول النبى صلّى الله عليه وسلم: «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، وإن الله يرى فى القيامة»، وما أشبه هذه الأحاديث: نؤمن بها، ونصدق بها، لا كيف ولا معنى، ولا نرد شيئا منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه، وبلا حدّ ولا غاية، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]، ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه، لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين، نؤمن ¬

(¬10) انظر فى ذلك: التيسير فى علم التفسير، لعمر النسفى: 1/ 54 من تحقيق د. جمال مصطفى النجار، رسالة دكتوراة، وتاج العروس 7/ 215، والبرهان للزركشى: 2/ 286، والإتقان للسيوطى: 2/ 173، طبعة دار الندوة الجديدة ببيروت، ومناهل العرفان: 2/ 5. (¬11) لسان العرب: (شبه).

تأويل ما يمتنع - عقلا أو شرعا - حمله على ظاهره:

بالقرآن كله، محكمه ومتشابهه، ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلم، وتثبيت القرآن». وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعى- رضى الله عنه: «آمنت بالله وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله». وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف- رضى الله عنهم- كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات، لما ورد من الصفات فى كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله» (¬12). 2 - أما الخلف: فقد أوّل جمهوره هذه الصفات بمعان لم يقل بها السّلف. حيث أوّلوا الاستواء بمعنى الاستيلاء أو القهر، واليد بمعنى القدرة، ومجيئه تعالى بمجيء أمره، وعين الله بمعنى عنايته ورعايته، ولفظ اليمين بالقوة، والفوقية بالعلو المعنوى لا الحسّى، والعنديّة فى مثل قوله تعالى فى سورة الأنعام: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ بالإحاطة والتمكن، وهكذا. وحجة هؤلاء: أنه يجب تنزيه الله- تعالى- عن مماثلة خلقه، ولكن الحقيقة أن مذهب السلف لا يقتضى المماثلة، فإذا كان للخلق علم وسمع وبصر ورحمة، فلله تعالى أيضا علم وسمع وبصر ورحمة، ولكن من قال من السلف أو الخلف إن علم الله وسمعه وبصره ورحمته مثل علم خلقه وسمعهم وبصرهم ورحمتهم؟ وهل يعقل أن يكون فهم الخلف لآيات الصفات أحسن من فهم السلف؟ تأويل ما يمتنع- عقلا أو شرعا- حمله على ظاهره: وإذا كان هذا موقف السلف والخلف من نصوص الصفات، فإن الأمر يختلف مع تلك النصوص التى يمتنع عقلا وشرعا حملها على ظاهرها، مثل نصوص معية الله- تعالى- كقوله عز وجل: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: 4]. فالله تعالى منزه عن أن يكون معنا بذاته فى حجراتنا وداخل دورات مياهنا، وحماماتنا ونحو ذلك، فالمراد بمعيته هنا معيته بالعلم والسمع والبصر، فهو يعلم كل ما يصدر عنا ويسمعه ويبصره. تأويل المتشابه اللفظى: يقصد بالمتشابه اللفظى: ما تكرر من القرآن لفظا، أو مع اختلاف فى العبارة ¬

(¬12) لمعة الاعتقاد، لابن قدامة، 35، 36 بشرح محمد العثيمين: طبعة الدار السلفية بالإسماعيلية.

المصنفات فى التأويل:

والتركيب بأى صورة من الصور، كالتقديم والتأخير، والزيادة والنقصان، وإبدال حرف بآخر، أو كلمة بأخرى، وغير ذلك. ومثاله: قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 58]، مع قوله تعالى: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 161]. والمقصود بتأويل المتشابه اللفظى هنا: بيان السر فى التكرار، وفى اختلاف التركيب فى كل موضع من المواضع المكررة، بحيث يظهر لنا وجه إعجاز القرآن، الذى صرف فيه القول بأساليب متعددة، عجز الخلق جميعا عن مجاراته ولو بأسلوب واحد منها. وعلى هذا: فإن المقصود بتأويل المتشابه اللفظى يختلف عن المقصود بتأويل متشابه الصفات، ولقد اعتنى العلماء بدراسة هذه الناحية فى القرآن عناية فائقة وكان على رأسهم الخطيب الإسكافى فى كتابه «درة التنزيل وغرة التأويل»، ومحمود بن حمزة الكرمانى فى كتابه «البرهان فى توجيه متشابه القرآن»، وابن الزبير الغرناطى فى كتابه «ملاك التأويل». المصنفات فى التأويل: أما المصنفات فى تأويل الصفات فبلغت من الكثرة مبلغا فائقا، نقتصر منها على ما يلى: 1 - تأويلات القرآن لأبى منصور الماتريدى. 2 - تأويل المتشابهات فى الأخبار والآيات لعبد القاهر البغدادى. 3 - مجالس فى المتشابه من الآيات القرآنية، لابن الجوزى. 4 - الإكليل فى المتشابه والتأويل، لابن تيمية. 5 - القواعد المثلى فى صفات الله وأسمائه الحسنى، لمحمد الصالح العثيمين. 3 - نشأة علم التفسير: القرآن الكريم هو منهج الله- تعالى- للناس فى كل ما يتعلق بأمور دينهم ودنياهم

وأخراهم، من اتبع هداه فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا، ويحشر يوم القيامة أعمى، ولما كان العمل به متوقفا على بيان نصه، وتوضيح غرضه، فقد تكفل الله بذلك، حتى لا يكون للناس على الله حجة، قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة: 17 - 19]. ومن هذا المنطلق فقد قيض الله للبشر فى كل عصر من يبين لهم هذا النص القرآنى، ويوضح لهم المقصود منه، وبدا هذا التقييض واضحا منذ عهد النبى صلّى الله عليه وسلم إلى الآن، قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل 44]. جلس النبى صلّى الله عليه وسلم بين أصحابه، ليفصل لهم ما أجمل من القرآن، وليزيل عن أذهانهم ما علق بها من لبس، وليبين لهم تخصيص العام، وتقييد المطلق، وتوضيح المبهم، وغير ذلك مما سنوضحه- إن شاء الله- فى حديثنا عن التفسير النبوى. وكان الصحابة- رضوان الله عليهم- حريصين كل الحرص على ملازمة مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بل وجدنا بعضهم كان يتناوب مع صاحبه حضور المجلس النبوى إذا لم يستطع الملازمة. أخرج البخارى فى صحيحه عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال: «كنت أنا وجار لى من الأنصار فى بنى أمية بن زيد- وهى من عوالى المدينة- نتناوب النزول على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحى وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك» (¬13). فلما انتقل الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى قيض الله- عز وجل- للناس صحابته الكرام، ليبينوا لهم مراده من كلامه. وقد ظل الصحابة يفسرون للناس ما احتاجوا إلى تفسيره. فلما جاء عصر التابعين قيض الله منهم من يأخذ العلم على أيدى المفسرين من الصحابة، حتى صاروا علماء نابغين، بل كان منهم من يفتى فى وجود أستاذه بأمر منه. وكان للتابعين مقومات جيدة كانوا يعتمدون عليها فى تفسيرهم، سوف نتحدث عنها- إن شاء الله- قريبا، ولقد أنتج لنا التابعون كما عظيما من التفسير. وظل التفسير بالمأثور- قرآن، وسنة، ¬

(¬13) البخارى: كتاب العلم، باب التناوب فى العلم، طبعة عيسى الحلبى.

4 - تدوين التفسير:

وأقوال للصحابة والتابعين- يتناقل شفهيا، حتى دخل عصر التدوين، ثم دخل التفسير فى أطوار أخرى من عصر إلى عصر، تتلون ألوانه بتلون اتجاهات أصحابها، حتى وصل إلى عصرنا هذا، وقد أخذ من كل لون، ولا غرو فى ذلك، فهو ماسة ربانية، ينظر كل منهم إلى زاوية من زواياها، فتستهويه، ولا يكاد يصرف نظره عنها، وهو البحر الذى لا ساحل له ولا قرار، وبقدر ما عند الصياد من استعداد وأدوات، بقدر ما يصطاد منه، ليأكل ويبيع ويقتات. 4 - تدوين التفسير: التدوين فى بداية الأمر كان خاصا بالقرآن الكريم، دون الحديث النبوى، حتى لا يلتبس شىء من القرآن بغيره، قال صلّى الله عليه وسلم: «لا تكتبوا عنى، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه» (¬14). فلما أمن اللبس أباح النبى صلّى الله عليه وسلم كتابة الحديث أيضا، ويدل لذلك قوله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، لما طلب أبو شاة أن يكتب له خطبته: «اكتبوا لأبى شاة». (¬15) وإذا أردنا أن نقف على بداية تدوين التفسير، وتطور هذا التدوين، فإننا نقرر ما يلى: أولا: إن تدوين التفسير كعلم مستقل عن الحديث، وليس كباب من أبوابه بدأ فى مرحلة مبكرة، على أيدى التابعين، الذين جمعوا قدرا كبيرا منه على أيدى الصحابة، ومما يدل على ذلك: ما جاء عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وأبى العالية، والحسن البصرى. فأما سعيد بن جبير فقد ذكر الحافظ ابن حجر فى ترجمته لعطاء بن دينار الهذلى، أن عبد الملك بن مروان سأل سعيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بهذا التفسير، فوجده عطاء فى الديوان، فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير. (¬16) وأما مجاهد فقد روى عنه الذهبى أنه قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية أسأله، فيم نزلت؟ وكيف نزلت؟ (¬17). وروى ابن جرير الطبرى عن أبى مليكة قال: «رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحه، فقال ابن عباس: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله». (¬18) وأما أبو العالية- وهو رفيع بن مهران، أحد تلامذة ابن عباس وأبى بن كعب- فقد ¬

(¬14) مسلم، كتاب الزهد، باب التثبيت فى الحديث، وحكم كتابة العلم، طبعة/ دار إحياء الكتب العربية. (¬15) البخارى، كتاب اللقطة، باب كيف تعرف لقطة أهل مكة. (¬16) انظر تهذيب التهذيب: 5/ 566 ط/ دار الفكر. (¬17) تذكرة الحفاظ: 1/ 92 طبعة/ حيدرآباد بالهند. (¬18) تفسير ابن جرير الطبرى: 1/ 90 ط/ دار المعارف.

كتب نسخة فى التفسير عن أبىّ، بإسناد قال عنه السيوطى فى «الإتقان»: «وهذا إسناد صحيح». وقد أخرج من هذه النسخة جماعة من العلماء، كالإمام أحمد فى مسنده، والحاكم فى مستدركه، وغيرهما. (¬19) أما الحسن البصرى، فقد جاء فى «وفيات الأعيان»: أن شيخا من شيوخ المعتزلة، وهو عمرو بن عبيد كتب تفسيرا للقرآن عنه. (¬20) ثانيا: وبناء على ما سبق، فإن ما فعله الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، حينما أمر واليه على المدينة، أبا بكر بن حزم (¬21) (سنة مائة)، بجمع الحديث، فكلّف أبو بكر ابن شهاب الزهرىّ بذلك، لا يعتبر الحلقة الأولى لتدوين التفسير، حتى وإن كان بابا من أبواب الحديث، فالتدوين للتفسير- وكعلم مستقل أيضا- كان سابقا لخلافة عمر بن عبد العزيز- رحمه الله. ثالثا: ثم تأتى مرحلة ابن جريج، فقد كتب فى التفسير ثلاثة أجزاء كبار، عن ابن عباس رضى الله عنهما. (¬22) رابعا: ثم خطا التفسير بعد ذلك خطوة أقرب إلى الشمولية لمعظم آيات القرآن الكريم، حيث كتب الفراء (المتوفى سنة 207 هـ) كتابا فى معانى القرآن، متتبعا آيات القرآن، حسب كتابتها فى المصحف الشريف، كما ظهر تفسير ليحيى بن سلام المتوفى سنة 200 هـ، اهتم فيه بإيراد الأخبار وتعقبها بالنقد والاختيار، كما اهتم فيه بالنواحى الإعرابية والقراءات وتوجيهها. (¬23) خامسا: وما زال التفسير ينمو ويزدهر، حتى وصل إلى مرحلة الاستقصاء لكل آية من آياته، وظهر ذلك على أيدى مجموعة من العلماء، وكان من أشهرهم محمد بن جرير الطبرى المتوفى سنة 310 هـ، وتفسيره يعتبر أقدم تفسير وصل إلينا، وابن أبى حاتم المتوفى سنة 327 هـ، وابن مردويه المتوفى سنة 410 هـ، وغيرهم من الأئمة الفضلاء. ولكن الملاحظ على هذه التفاسير التى دونت حتى هذه الفترة أنها كانت لا تهتم إلا بالمأثور فقط، ما عدا تفسير ابن جرير، فإنه كان يزيد على المأثور توجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، وذكر الإعراب والقراءات، واستنباط الأحكام وغير ذلك، فلذلك كان عظيم الفائدة. سادسا: ثم بعد ذلك اتسعت دائرة التفسير الكامل للقرآن كله، وكثرت فيه ¬

(¬19) انظر الإتقان: 2/ 189. (¬20) وفيات الأعيان: 3/ 462 ط/ دار صادر. (¬21) انظر صحيح البخارى، كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم. (¬22) انظر الإتقان: 2/ 188. (¬23) نص على هذا الشيخ محمد الفاضل بن عاشور فى كتابه: «التفسير ورجاله» 29، ط/ مجمع البحوث الإسلامية.

خطآن شائعان:

التصانيف المستقلة، وتعددت ألوانه، ورأينا كما هائلا من التفسير، يتناسب مع مكانة وأهمية الكتاب المفسّر، وهو القرآن الكريم، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. خطآن شائعان: وفى هذا المقام لاحظت خطأين شائعين فى كتب من صنف فى مناهج المفسرين: الخطأ الأول: هو القول بوجود مرحلتين منفصلتين للتفسير، مرحلة شفهية، شملت عصر الصحابة والتابعين، تليها مرحلة تدوينية لم تظهر إلا فى عصر تابعى التابعين، ولعلّ أول من وقع فى هذا الخطأ أستاذ العصر بلا منازع فى مجال مناهج المفسرين، وهو أستاذ أساتذتنا الشيخ الدكتور/ محمد الذهبى- رحمه الله، حيث نص صراحة فى سفره القيم «التفسير والمفسرون»، على وجود هذا الانفصال الزمنى، بين التفسير فى مرحلة الرواية، والتفسير فى مرحلة التدوين. (¬24) أما الخطأ الثانى: فهو قولهم: إن استقلال التفسير عن السنة بالتدوين، كان فى عصر تابعى التابعين، أو بعد هذا العصر. فها هو ذا أحد أساتذتنا الأجلاء (¬25) - أكرمه الله- يقول عن ابن جريج- وهو من تابعى التابعين-: «فهو أول من صنف فى تفسير القرآن على استقلال، فكتب فيه ثلاثة أجزاء كبار، عن ابن عباس- رضى الله عنهما». بل إن الدكتور محمد الذهبى- رحمه الله- ليذهب إلى تأخير هذا الاستقلال إلى ما بعد جيل ابن جريج- رحمه الله. (¬26) فالروايات التى ذكرناها سابقا، والتى تنص صراحة على أن جماعة من التابعين، كسعيد ابن جبير، ومجاهد، وأبى العالية، والحسن البصرى الذين أخذوا التفسير عن الصحابة، كانوا يدونونه فى نفس الوقت الذى كانت الروايات التفسيرية تتناقل شفهيا، فى عصر الصحابة والتابعين، كما تدل الروايات عن هؤلاء التابعين بصراحة على أن تدوينهم للتفسير كان على جهة الاستقلال، وليس على أنه باب من أبواب السنة كما قيل، ولا يعنى هذا إنكار وجود من دوّن التفسير بعد ذلك مختلطا بالسنة، على أنه باب من أبوابها، ثم انتهى الأمر بعد هذا الاختلاط إلى الاستقلال التام، والاستقصاء الكامل، لتفسير كل آيات القرآن وسوره، على حسب الترتيب المعروف فى المصحف الشريف. ¬

(¬24) انظر: التفسير والمفسرون: 1/ 151. (¬25) هو فضيلة الأستاذ الدكتور/ محمد جبريل فى كتابه القيم: «مدخل إلى مناهج المفسرين» 83، طبعة الرسالة بالباب الأخضر بالقاهرة. (¬26) انظر التفسير والمفسرون: 1/ 152 وهو يتحدث عن الخطوتين الثانية والثالثة.

5 - مصادر التفسير:

5 - مصادر التفسير: للتفسير خمسة مصادر مرتبة، لا يجوز لأحد أن يتخطى المقدم منها إلى ما بعده، إلا إذا لم يجد بغيته فى هذا المقدم، والمصادر الخمسة هى: أولا: القرآن نفسه، إذ أن الموضوع الواحد قد يكون له عدة آيات متناثرة فى ثنايا القرآن. فقد يجد المفسر فيها مطلقا فيحمله على المقيد، أو عاما فيحمله على الخاص، أو مجملا فيحمله على المبيّن، أو موجزا فيوضحه بما جاء مطنبا، ونحو ذلك من صور تفسير القرآن بالقرآن. ثانيا: السنة النبوية، وهذا أمر بدهى، لأن السنة النبوية مبينة للقرآن، مع ضرورة الاقتصار على الصحيح، والبعد عن الموضوع والضعيف. ثالثا: أقوال الصحابة- رضى الله عنهم أجمعين، لأنهم هم الذين عاصروا الوحى والتنزيل، وشاهدوا ملابسات القرآن الكريم. رابعا: أقوال التابعين، فهى موروث عظيم، لجيل تربى على أيدى الصحابة الكرام، وعنهم أخذوا القرآن وسنة النبى- عليه الصلاة والسلام. خامسا: وبعد مرور المفسّر بالمصادر السابقة، وعدم وجوده بغيته فيها يأتى المصدر الخامس، ألا وهو إعمال عقله، وكد ذهنه، للوصول إلى مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية، بعد توافر شروط التفسير فيه، ومراعاة الضوابط المطلوبة لسلامة تفسيره، واتباعه خطوات المنهج الأمثل فى التفسير، التى خصصنا لكل منها قدرا معينا فى هذا المدخل، فليرجع إليها. 6 - مناهج المفسرين: مصطلح «مناهج المفسرين» مركب إضافى مكون من جزءين: أما الجزء الأول، وهو كلمة «مناهج» فى اللغة فهى جمع «منهج»، والمنهج هو الطريق الواضح، سواء كان حسيا، أم معنويا، بل إنه فى الأصل كان يطلق على الطريق الحسى، ثم استعمل بعد ذلك فى الطريق المعنوى، ثم غلب عليه بعد ذلك، حتى أضحى الآن لا يكاد يستعمل إلا فى الطريق المعنوى. (¬27) أما الجزء الثانى، وهو كلمة «المفسرين»، فهى جمع مفسّر، والمفسر وإن كان يطلق على كل من يفسر ويوضح أى شىء، فإن المراد به الآن عند الإطلاق: هو المشتغل بتفسير كلام خاص، وهو القرآن الكريم. ¬

(¬27) انظر لسان العرب، والقاموس المحيط للفيروزآبادى، طبعة الرسالة، ومفردات الراغب الأصفهانى، مادة (نهج)، طبعة دار القلم.

شروط المفسر:

وبناء عليه: فإن المراد بمناهج المفسرين اصطلاحا: هو ذلك العلم الذى يبحث فيه عن طرق المفسرين، فى تناولهم بيان المراد من النص القرآنى، والحكم على كل طريقة من طرق هؤلاء المفسرين، بالصواب أو الخطأ، كما يبحث فيه عن تتمات لا بدّ منها، تتعلق بالتفسير والمفسرين، كتعريف التفسير، وأقسامه، ومصادره، وشروطه، وفائدته، ووجه الحاجة إليه، والفرق بينه وبين التأويل، وغير ذلك. ولقد صار علما مستقلا يدرس بكليات أصول الدين بجامعة الأزهر. شروط المفسر: التفسير هو الترجمة عن الله- تعالى- لبيان مراده- عز وجل- من كلامه، لذلك لا يجوز لأى أحد اقتحام هذا المجال إلا بعد أن تتوافر فيه شروط خاصة نص عليها علماء الأمة، ألخصها فيما يأتى: (أ) الإسلام، لأن الكافر غير مؤتمن على الدنيا، فكيف نأتمنه على الدين؟ (ب) اتباع مذهب السلف الصالح- رضى الله عنهم- فمن كان صاحب بدعة لبّس على الناس مقصود الله- تعالى- ليحملهم على اعتقاد بدعته. (ج) صحة المقصد، بأن يبتغى بتفسيره وجه الله- تعالى- دون سمعة أو رياء، ليلقى السداد والقبول. (د) أن يعتمد أول ما يعتمد على المأثور، فلا يجوز إعمال عقله، وترك المأثور. (هـ) أن يقف على العلوم الواجب توافرها فيمن يتصدى لتفسير القرآن، وهى خمسة عشر علما، على النحو التالى: (¬28) 1 - علم اللغة؛ لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها، بحسب الوضع. 2 - النحو، لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب. 3 - التصريف، لأن به تعرف الأبنية والصّيغ، فكلمة (وجد) مثلا كلمة مبهمة، فإذا صرفناها اتضحت بمصدرها. 4 - الاشتقاق، لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف باختلافهما، كالمسيح، هل هو من السياحة أم من المسح؟ 5، 6، 7 - علوم البلاغة الثلاثة، «المعانى ¬

(¬28) انظر الإتقان: 2/ 181.

7 - التفسير بالمأثور:

والبيان والبديع» لأنه يعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، وبالثانى خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث وجوه تحسين الكلام، ولأن إعجاز القرآن البلاغى لا يدرك إلا بهذه العلوم. 8 - علم القراءات، لأن به يعرف كيفية النطق بالقرآن، وبالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض. 9 - علم أصول الدين، ليعلم ما يجب لله- تعالى- وما يستحيل عليه، وما يجوز فى حقه، وكذلك بالنسبة للأنبياء، ما يجب لهم، وما يستحيل عليهم وما يجوز فى حقهم. 10 - أصول الفقه، إذ به يعرف وجه الاستدلال على الأحكام والاستنباط. 11 - أسباب النزول، والقصص، لأن بعض الآيات لا يمكن فهمها إلا به. 12 - الناسخ والمنسوخ، ليعلم المحكم من غيره. 13 - الفقه. 14 - الأحاديث المبينة للمجمل والمبهم. 15 - علم الموهبة، وهو علم يورثه الله- تعالى- لمن عمل بما علم. 7 - التفسير بالمأثور: كلمة (مأثور) فى اللغة- مأخوذة من الأثر، والأثر يطلق- كما قال ابن منظور فى «اللسان» - على أمرين: على بقية الشيء، وعلى الخبر، أى على الكلام المخبر به عن شخص آخر. (¬29) والمعنى الثانى من معانى المأثور هو المراد عند المفسرين، حينما يطلقون مصطلح التفسير بالمأثور، إلا أن دائرته عندهم محدودة، وليست عامة. فالتفسير بالمأثور عند العلماء يراد به: ما جاء فى القرآن الكريم نفسه من آيات تبين آيات أخرى، وما ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وكذلك عن التابعين، على اختلاف بين العلماء، فيما جاء عن التابعين، على ما سنوضحه فى موضعه قريبا إن شاء الله- تعالى. حتمية الأخذ بالتفسير المأثور وتقديمه على التفسير بالرأى: لا يجوز لأحد بحال من الأحوال أن يفسر القرآن الكريم قبل أن يمر على كل مصدر من مصادر التفسير بالمأثور الأربعة، مرتبة ترتيبا وجوبيا على النحو الذى ذكرناه سابقا. ¬

(¬29) لسان العرب: (أثر).

المصنفات فى التفسير بالمأثور:

فيجب أن نبحث فى القرآن أولا عن المعنى الذى نريده، فقد نجد فيه بغيتنا، وإنما قلنا يجب ذلك لما يأتى: 1 - لأن صاحب أى كلام أدرى بمقصوده من غيره، فما بالنا إذا كان المبين هو الله تعالى؟ 2 - ولأن الشرع أمر باتباع ما جاء عن الله- تعالى- ونهى عن التقديم بين يديه- عز وجل. فإن لم يجد المفسر بيانا وإيضاحا لمعنى الآية فى القرآن، فعليه أن يلجأ إلى سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قبل أى شىء، لما يأتى: 1 - لقيام الأدلة المتعددة على حجية السنة. 2 - وأيضا فإن الإجماع قد قام على حجية السنة، أطبق على ذلك السلف والخلف، فى جميع العصور. 3 - وأيضا فإن وظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلم هى تبيين القرآن. 4 - وأيضا فإن الرسول صلّى الله عليه وسلم معصوم عن الخطأ فى أمور الوحى. من أجل هذا لا يجوز للمفسر أن يتخطى البيان النبوى لغيره، إن وجد. فإن لم يجد المفسر بيانا نبويا ذهب إلى أقوال الصحابة، فإنهم شاهدوا الوحى والتنزيل، ورأوا التفسير العملى للقرآن متجسدا فى أقوال الرسول صلّى الله عليه وسلم، وأفعاله، وأيضا لما خصوا به من الفهم التام، والعلم الصحيح، والدراية بعادات العرب وأحوالهم، وإتقان لغتهم. فإن لم يجد المفسر بغيته فى أقوال الصحابة انتقل إلى أقوال التابعين، الذين تتلمذوا على أيدى الصحابة، وعليهم أثنى الرسول صلّى الله عليه وسلم وصحابته الكرام خيرا، على خلاف بين العلماء فى مدى حجية أقوالهم. فإن فقد المفسر مطلوبه فى هذه المصادر الأربعة انتقل إلى التفسير بالرأى، بعد توافر الشروط المطلوبة، والضوابط الواجب مراعاتها. المصنفات فى التفسير بالمأثور: والمصنفات فى التفسير بالمأثور خاصة، أو التى غلب فيها المأثور كثيرة، يأتى على رأسها ما يلى: 1 - جامع البيان عن تأويل القرآن، لابن جرير الطبرى. 2 - بحر العلوم، لأبى الليث، نصر بن محمد السمرقندى.

مظان التفسير بالمأثور فى غير المصنفات الخاصة به:

3 - معالم التنزيل، لأبى محمد الحسن بن مسعود البغوى. 4 - المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، لأبى محمد عبد الحق بن غالب بن عطية. 5 - تفسير القرآن العظيم، لأبى الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير. 6 - الجواهر الحسان فى تفسير القرآن، لأبى زيد عبد الرحمن بن محمد الثعلبى. 7 - الدر المنثور فى التفسير بالمأثور، للحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى. 8 - فتح القدير، الجامع بين فنّى الرواية والدّراية من علم التفسير، لمحمد بن على الشوكانى، وهو- كما هو ظاهر من عنوانه- شامل للتفسير بالمأثور، والتفسير بالرأى. 9 - أضواء البيان فى إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ محمد الأمين الشنقيطى. مظان التفسير بالمأثور فى غير المصنفات الخاصة به: التفسير بالرأى لا يعنى ترك صاحبه للتفسير المأثور، فإن جل التفاسير بالرأى- إن لم تكن كلها- تحوى كثيرا من روايات التفسير بالمأثور تقوية لمعنى أو ترجيحا لرأى على آخر، ونحو ذلك، ومن هذه التفاسير ما يأتى: 1 - الكشاف، للزمخشرى. 2 - مفاتيح الغيب، للفخر الرازى. 3 - الجامع لأحكام القرآن، للقرطبى. 4 - روح المعانى، للآلوسى. 5 - التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور. 6 - محاسن التأويل، للقاسمى. 8 - تفسير القرآن بالقرآن: ذكرنا قريبا أن تفسير القرآن بالقرآن يعتبر المصدر الأول من مصادر التفسير بالمأثور، الذى لا ينبغى لأحد أن يتعداه إلى غيره، ما لم يجد مقصوده فيه، وذلك أرقى أنواع التفسير. ولتفسير القرآن بالقرآن عدة وسائل، نوضح أبرزها فيما يلى: أولا: شرح الموجز بالمطنب: فقارئ القرآن يرى فيه نصوصا موجزة فى بعض المواضع، ويرى فى الوقت نفسه نصوصا مطنبة فى الموضوع ذاته، فى مواضع

ثانيا: تفسير المجمل بالمبين:

أخرى، كما ورد فى قصص الأنبياء، مثل قصة آدم، ونوح، وإبراهيم، وهود، وصالح، وموسى، وعيسى، وغيرهم، كما يرى موضوعات أخرى تفرقت أجزاؤها فى ثنايا القرآن، كموضوعات الربا والخمر، ومشاهد يوم القيامة والمرأة ونحوها. فعلى المفسر أن يجمع أجزاء الموضوع الواحد، من كل مكان، ليكتمل الموضوع كله أمامه، ثم يشرع فى تفسيره، فى ضوء جميع هذه الأجزاء، حتى لا يلتبس عليه الأمر، أو يخرج ناقص التصور، أو مخطئا فى الحكم. ثانيا: تفسير المجمل بالمبين: الناظر فى القرآن يجده ينقسم- من حيث وضوح الدلالة على المراد، وعدم هذا الوضوح- إلى قسمين: 1 - قسم بيّن واضح، غير مفتقر إلى ما يبينه. مثل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. 2 - وقسم يحتاج إلى بيان، لأنه غير واضح الدلالة على المراد. صور التبيين القرآنى للمجمل: وهذا المجمل الذى يأتى تبيينه بالقرآن له ثلاث صور كالآتى: 1 - إما أن يكون متصلا باللفظ المجمل. 2 - وإما أن يكون منفصلا عنه، ولكن فى السورة نفسها. 3 - وإما أن يكون منفصلا عنه فى سورة أخرى. فمثال ما جاء متصلا بالمجمل عقبه مباشرة قوله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ بيّنهم بقوله تعالى: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: 155، 156]. أما المجمل الذى انفصل عنه ما يبينه، ولكن فى السورة نفسها، فمثاله قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [المائدة: 1] فالمستثنى المحرّم مجمل، فسرته الآية الثالثة من السورة نفسها، وهى قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ الآية. أما ما جاء مبيّنا ولكنه منفصل عن المجمل فى سورة أخرى، فكثير، منه قوله تعالى: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ [الحج: 24]، بيّن بقوله تعالى: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي

ثالثا: حمل العام على الخاص:

هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ [الأعراف: 43]. ثالثا: حمل العام على الخاص: ومن تفسير القرآن بالقرآن حمل العام على الخاص. والمراد بالعام- على ما عرفه السرخسى: «كل لفظ ينتظم جمعا من الأسماء، لفظا أو معنى، فلفظا مثل زيدون، ومعنى مثل (من) و (ما) وما أشبههما. (¬30) أما الخاص: فيطلق- كما قال الآمدى- على اللفظ الواحد، الذى لا يصلح مدلوله لاشتراك كثيرين فيه، كأسماء الأعلام، مثل زيد، وعمرو ونحوه. (¬31) المخصص المتصل: والعام قد يخص بمتصل، أو منفصل. والمخصص المتصل أنواع، أشهرها ما يلى: الأول: الاستثناء. الثانى: التخصيص بالشرط. مثاله: قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور: 33]، فلا يجب على السيد مكاتبة عبده إلا بالشرط المذكور. الثالث: التخصيص بالغاية، مثل قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222]. الرابع: التخصيص ببدل البعض من الكل، كقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97]. المخصص المنفصل: أما المخصص القرآنى المنفصل، فمن أمثلته: قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ الآية 23 من النساء، حيث خصّصت الآية الثالثة من السورة نفسها، وهى قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ. رابعا: حمل المطلق على المقيد: ومن تفسير القرآن بالقرآن حمل مطلقه على مقيده. والمطلق عبارة عن: النكرة فى سياق الإثبات، أو هو اللفظ الدال على مدلول شائع فى جنسه، مثل رقبة، وعبد، ونحوهما. والمقيد يطلق باعتبارين، الأول: ما كان من الألفاظ الدالة على مدلول معين، كزيد وعمرو، وهذا الرجل، ونحوه. ¬

(¬30) أصول الفقه للسرخسى: 1/ 152، طبعة دار الكتاب العربى بالقاهرة. (¬31) الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى: 2/ 55، طبعة/ محمد صبيح.

خامسا: الجمع بين ما يوهم ظاهره التناقض:

والثانى: ما كان من الألفاظ دالا على وصف مدلوله المطلق، بصفة زائدة عليه، كقولك: دينار مصرى، ودرهم مكى. والفرق بين العام والمطلق: أن المطلق يدل على فرد شائع، أو أفراد شائعة فى جنسه، لا على جميع الأفراد، بينما العام يدل على شمول اللفظ لجميع أفراده، من غير حصر. وإنما يحمل المطلق على المقيد إذا لم يكن للمطلق إلا أصل واحد. مثال ذلك: إطلاق الشهادة فى البيوع وغيرها، واشتراط العدالة فيها فى الرجعة والوصية، فيحمل المطلق على المقيد، فتكون العدالة شرطا فى كل شهادة، وكذا إطلاق الميراث فيما أطلق فيه، وتقييد ميراث الزوجين بقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ (النساء: 11 - 12) فيحمل المطلق على المقيد، ولا يوزع الميراث فى أى حالة، إلا بعد تنفيذ الوصية، وسداد الدين. فإن كان للمطلق أصلان، فلا يحمل المطلق على المقيد، وإنما يبقى المطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده. مثاله: كفارة اليمين، وقضاء رمضان، جاء مطلقا دون تقييد بالتتابع أو بالتفريق، بينما جاء صوم كفارة التمتع فى الحج مقيدا بالتفريق، ثلاثة أيام فى الحج، وسبعة بعد الرجوع، وجاء صوم كفارة القتل مقيدا بالتتابع، فهذان أصلان، تقييد بالتفريق، وتقييد بالتتابع، فماذا نفعل فى إطلاق صوم كفارة اليمين، وقضاء رمضان؟ إلى أى أصل من الأصلين يرد هذا الإطلاق؟ إلى التقييد بالتفريق أم إلى التقييد بالتتابع؟ هنا نقول: يبقى هذا المطلق على إطلاقه، ولا يقيد بأحد القيدين، لأن حمله على أحدهما ليس بأولى من حمله على الآخر. خامسا: الجمع بين ما يوهم ظاهره التناقض: ومن تفسير القرآن بالقرآن الجمع بين ما يوهم التعارض من آياته، لأن الاختلاف نوعان: 1 - اختلاف حقيقى، وهو ما لا يمكن الجمع فيه بين الشيئين، بأى وجه من الوجوه، وهذا غير موجود فى القرآن على الإطلاق. 2 - اختلاف غير حقيقى، وهو الذى يبدو للناظر فى بعض الآيات من أول نظرة سطحية لها، وحين التدقيق بين النصوص يتضح عدم التعارض.

سادسا: بيان الناسخ والمنسوخ:

فيجب على المفسر أن ينظر إلى الأسباب التى أدت إلى هذا الإيهام، ثم يقوم بإزالة هذا التعارض الظاهرى. سادسا: بيان الناسخ والمنسوخ: ومن وسائل تفسير القرآن بالقرآن، بيان ناسخه من منسوخه، والمراد من النسخ هنا: رفع الحكم الشرعى بدليل شرعى متأخر. وإنما يجب على المفسر بيان ذلك، حتى لا يظن جاهل أن هناك تعارضا بين نصوص القرآن الكريم فى الحكم على الشيء الواحد بأكثر من حكم، بالجواز والمنع، أو بالحل والحرمة، أو بالأمر والنهى، وحتى يعرف المسلم آخر حكم استقر عليه الأمر فى نهاية المطاف، فيعمل بالناسخ، ويترك المنسوخ، دون أن يفعل العكس. 9 - التفسير النبوى: ذكرنا قريبا أن السنة هى المصدر الثانى من مصادر التفسير بالمأثور، الذى يجب أن لا يتخطاه المفسر، بعد أن لم يجد ما يفسر به من خلال القرآن ذاته. وإنما قلنا: إنه لا يجوز للمفسر أن يتخطى التفسير النبوى لتوافر الأدلة على ذلك، من القرآن والسنة والإجماع. فمن الأدلة القرآنية: قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65]. وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44]. ومن الأدلة النبوية: قوله صلّى الله عليه وسلم: (ألا إنى أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله). (¬32) أما الإجماع: فإن الأمة سلفا وخلفا انعقد قولها على حجية السنة، قال الإمام الشافعى رحمه الله: «أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس». (¬33) الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يفسر كل القرآن الكريم: ومن البدهى الذى نود تقريره هنا أن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يفسر كل القرآن الكريم، والأدلة على ذلك كثيرة، من القرآن والسنة والعقل: ¬

(¬32) سنن أبى داود، كتاب السنة، باب (5)، طبعة/ دار الفكر، وسنن الترمذى، كتاب العلم، باب (10)، طبع دار الكتب العلمية. (¬33) إعلام الموقعين: 2/ 361 طبعة/ دار الجيل.

القدر الذى بينه النبى صلى الله عليه وسلم:

فمن القرآن: تلك الآيات التى تدل على أن فى القرآن ما يستنبطه أولو العلم باجتهادهم، كقوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83]. قال أبو حامد الغزالى: «فأثبت لأهل العلم استنباطا، ومعلوم أنه وراء السماع. (¬34) فلو كان الرسول صلّى الله عليه وسلم قد بين كل معانى القرآن فماذا بقى لأولى العلم؟». ومن السنة: دعاء النبى صلّى الله عليه وسلم لابن عباس بقوله: «اللهم فقهه فى الدين، وعلمه التأويل» (¬35). قال أبو حامد الغزالى- معلقا على هذا الحديث: «فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل، ومحفوظا مثله، فما معنى تخصيصه بذلك؟» (¬36). ومن الأدلة العقلية: 1 - اختلاف الصحابة فى التفسير، وتعدد أقوالهم، فلو كان الرسول صلّى الله عليه وسلم قد فسر القرآن كله لما وجدنا ذلك الاختلاف، بل لما وجدنا لهم تفسيرا من أصله. 2 - وأيضا: فإنه لو كان للرسول صلّى الله عليه وسلم تفسير كامل للقرآن لنقل إلينا، كما نقل عنه كل شىء، يتعلق بالدين والدنيا معا، مثل ما يتعلق بآداب النوم وقضاء الحاجة وغيرهما. وليس من حق أحد أن يدعى أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قد فسر القرآن كله لفظة لفظة، ثم فقد كله إلا القليل منه، أو النادر، لأن التفسير النبوى الكامل مما تتوافر الدواعى على نقله، فأين أهمية نقل آداب النوم، وقضاء الحاجة، من أهمية نقل تفسير كامل للقرآن، لو أثر عنه صلّى الله عليه وسلم؟ وليس من حق أحد أيضا أن يدعى أنه أثر عنه صلّى الله عليه وسلم تفسير كامل للقرآن، لكن الصحابة لم يبلغوه لمن خلفهم، لأن هذا قادح فى عدالة الصحابة التى ثبتت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولتنافى ذلك مع كفاحهم فى نشر كتاب الله- تعالى- وتبيينه للناس. القدر الذى بيّنه النبىّ صلّى الله عليه وسلم: من خلال الواقع الذى نقل شفهيا وكتابة، عن طريق الرواة وكتب السنة والتفسير، يتضح لنا بجلاء أن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يفسر من القرآن إلا قدرا يسيرا، لو قيس بما لم يفسره، وإن كان فى حد ذاته كثيرا. والسبب فى ذلك: أنه لم يكن فى عصر النبوة من داع لتفسير نبوى كامل للقرآن، وخاصة إذا علمنا أن هناك من القرآن الكريم ما قد استأثر الله- تعالى- بعلمه، وأن منه ما يعلم معناه من له أدنى دراية بلغة العرب، ¬

(¬34) إحياء علوم الدين: 1/ 290، طبعة/ دار البيان العربى. (¬35) مسند أحمد: 1/ 335 طبعة/ دار الفكر. (¬36) إحياء علوم الدين: 1/ 290.

أوجه بيان السنة للقرآن:

ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير الطبرى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- حيث يقول: (التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله). (¬37) أوجه بيان السنة للقرآن: لبيان السنة للقرآن أنواع كثيرة، نذكر أشهرها فيما يأتى: أولا: تفصيل المجمل: فقد ورد فى القرآن مجمل كثير، لا يستطيع الإنسان فهمه إلا من خلال السنة، كآيات الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، فلم يرد فى القرآن عدد فروض الصلاة موضحة، ولا عدد ركعاتها، ولا بيان أوقاتها، ولا كيفيتها ولا مبطلاتها، وغير ذلك، والزكاة أيضا كذلك، من ناحية الأنواع والنصاب، والمقادير، وسائر تفصيلاتها، وكذلك الحج، لم يرد فى القرآن كيفيته، أو مبطلاته، وغير ذلك من سائر أحكامه. قال تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]. ثانيا: إزالة اللبس: ومن أمثلة ذلك: ما أخرجه مسلم وغيره عن المغيرة بن شعبة قال: «بعثنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى نجران، فقالوا: أرأيت ما تقرءون يا أُخْتَ هارُونَ [مريم: 28]، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم». (¬38) ثالثا: تخصيص العام: ومثاله: أنه قد ورد فى القرآن تحريم الميتة والدم على العموم، ولكن السنة خصصت هذا العموم، حيث قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان: السمك، والجراد، وأحل لنا دمان: الكبد، والطحال» (¬39). رابعا: تقييد المطلق: ومن أمثلته: قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء: 11، 12] فقد وردت الوصية هنا مطلقة بدون تحديد، فقيدها الرسول صلّى الله عليه وسلم بالثلث، فى حديث سعد ابن أبى وقاص حيث جاء فيه: «قلت: يا رسول الله، أوصى بمالى كله؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: فالثلث والثلث كثير» (¬40). ¬

(¬37) تفسير ابن جرير: 1/ 34 معارف. (¬38) مسلم: كتاب الآداب، باب (9). (¬39) أبو داود: كتاب الأطعمة، باب (34)، وسنن ابن ماجة: كتاب الأطعمة، باب (31)، طبعة/ دار الفكر العربى. (¬40) البخارى: كتاب الوصايا، باب (2).

خامسا: بيانه صلى الله عليه وسلم أن المنطوق لا مفهوم له:

قال ابن حجر عن هذا الحديث: «فيه تقييد مطلق القرآن بالسنة». (¬41) خامسا: بيانه صلّى الله عليه وسلم أن المنطوق لا مفهوم له: ويظهر هذا إذا كان فى الآية قيد لم يقصد به الاحتراز، وإنما خرج مخرج الغالب. ومن أمثلة ذلك: قيد السفر فى الرهان المقبوضة، فى قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة: 283] قال الشوكانى: «قال أهل العلم: الرهن فى السفر ثابت بنص التنزيل، وفى الحضر بفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كما فى الصحيح، أنه صلّى الله عليه وسلم رهن درعا له عند يهودى». (¬42) سادسا: توضيح المبهم: وذلك يتناول أشياء كثيرة، منها: 1 - تعيين أشخاص. 2 - تعيين جماعات أو أقوال. 3 - تعيين أماكن. 4 - تعيين أوقات. 5 - تعيين أعمال. 6 - تعيين أشجار. 7 - تعيين أقوال. 8 - تعيين مواقف. 9 - تعيين كيفية من الكيفيات. 10 - تعيين مسافة من المسافات. 11 - تعيين معيشة من المعيشات. 12 - تعيين صلاة من الصلوات. 13 - تعليل تسمية من التسميات. ولنضرب لذلك بعضا من الأمثلة، لبعض هذه الأنواع: (¬43) 1 - فى تعيين أقوام: عن عدى بن حاتم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن المغضوب عليهم هم اليهود، وإن الضالين هم النصارى». (¬44) 2 - فى تعيين أماكن: عن أنس- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الكوثر نهر، أعطانيه ربى- عز وجل- فى الجنة». (¬45) 3 - فى تعيين أعمال: عن أم هانئ- رضى الله عنها- عن النبى صلّى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت: 29] قال: «كانوا يحذفون أهل الطريق، ويسخرون منهم». (¬46) 4 - فى تعيين أشجار: عن أنس- رضى الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [إبراهيم: 24] قال: «هى «النخلة» وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ [إبراهيم: 26] قال: «هى الحنظل» (¬47). ¬

(¬41) فتح البارى: 5/ 434، طبعة/ الريان. (¬42) فتح القدير للشوكانى: 1/ 335، طبعة/ دار الخير، والحديث فى صحيح البخارى كتاب الجهاد باب (89) وفى كتاب المغازى، باب (86). (¬43) انظر فى تفصيل تلك الأنواع: التفسير بالمأثور: للدكتور جمال مصطفى النجار: 117 وما بعدها، طبعة/ الحسين الإسلامية. (¬44) مسند أحمد: 4/ 378، وسنن الترمذى: كتاب التفسير، تفسير الفاتحة. (¬45) صحيح مسلم: كتاب الصلاة، باب (53، 54). (¬46) سنن الترمذى: كتاب التفسير، تفسير سورة العنكبوت. (¬47) المصدر السابق فى تفسير سورة إبراهيم.

سابعا: بيان المراد من لفظ أو ما يتعلق به:

5 - فى تعيين أقوال: عن أبى بن كعب- رضى الله عنه- أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الفتح: 26] قال: لا إله إلا الله». (¬48) 6 - فى تعيين مواقف: عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلّى الله عليه وسلم فى قوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] قال: «هو المقام الذى أشفع لأمتى فيه». (¬49) 7 - فى تعيين مسافة: عن أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه- عن النبى صلّى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة: 34] قال: «ارتفاعها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام». (¬50) 8 - فى تعيين صلاة: قال صلّى الله عليه وسلم: «الصلاة الوسطى صلاة العصر» (¬51). سابعا: بيان المراد من لفظ أو ما يتعلق به: ومن أمثلة ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] قال: «عدلا». (¬52) ثامنا: التأكيد لما جاء فى القرآن: ومن أمثلة ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلم فى قصة موسى والخضر: «كانت الأولى من موسى نسيانا، والوسطى شرطا، والثالثة عمدا» (¬53). فهذا تأكيد لما حدث بالفعل من موسى، كما أخبر القرآن الكريم. تاسعا: بيان أحكام لم يرد ذكرها فى القرآن: وهذا من قبيل: ما جاء فى قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]، ومن أمثلة ذلك: (أ) تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، أو بينها وبين خالتها. (ب) ميراث الجدة. (ج) الحكم بشاهد ويمين. (د) صدقة الفطر. (هـ) أحكام الشّفعة. (و) تحريم كل ذى ناب من السباع، وكل ذى مخلب من الطيور، والحمر الأهلية. (ز) حرمان الكافر من ميراث قريبه المسلم، وكذلك حرمان القاتل والرقيق. 10 - تفسير الصحابة: أقوال الصحابة فى التفسير هى المصدر الثالث من مصادر التفسير بالمأثور، بعد القرآن الكريم، والتفسير النبوى، كما سبق ¬

(¬48) المصدر السابق فى تفسير سورة الفتح. (¬49) مسند أحمد: 2/ 441. (¬50) سنن الترمذى: كتاب التفسير، تفسير سورة الواقعة. (¬51) مسند أحمد: 5/ 12، والترمذى: فى كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة الآية: 238. (¬52) سنن الترمذى، كتاب التفسير، باب تفسير سورة البقرة. (¬53) البخارى، كتاب التفسير، تفسير سورة الكهف.

مقومات اجتهاد الصحابة فى التفسير:

ذكره؛ لأن علمهم مقدم على علم كل من أتى بعدهم. مقومات اجتهاد الصحابة فى التفسير: والصحابة حينما كانوا يفسرون، فإنما كان ذلك لارتكازهم على عدة مقومات، أبرزها ما يلى: 1 - قوة حافظتهم، ودقة فهمهم. 2 - وقوفهم على مفردات اللغة وتراكيبها، ومعرفتهم أساليبها ومراميها، وبلوغهم قمة الفصاحة، وسنام البلاغة. 3 - معرفتهم لعادات العرب وطبائعها. سمات تفسير الصحابة: اتسم تفسير الصحابة للقرآن بعدة سمات، من أهمها ما يأتى: 1 - كانوا يكتفون فى الغالب الأعم بمدلول الآية العام، أو المراد منها باختصار، دون التطرق إلى تفاصيل ليسوا فى حاجة إليها، أو التقعر فى أمور بعيدة الصلة عن الآية. 2 - البعد عن الإسرائيليات، حتى يظل للإسلام نبعه الصافى. 3 - قلة الاختلاف بينهم فى التفسير، ومعظم اختلافهم كان اختلاف عبارة، ومن الممكن الجمع بين أقوالهم فيه. 4 - عدم تطويع الآيات لمذهب معين، لأن تشتت الأمة وتمذهبها بمذاهب دينية وسياسية متعددة لم يحدث إلا بعد عصرهم. 5 - كان غالب التفسير فى عهدهم شفهيا، فلم يدون منه إلا القليل، على أيدى نفر من الصحابة، على هوامش مصاحفهم، أو فى صحيفة خاصة بصاحبها. 6 - عدم الاهتمام بذكر السند، لأن الصحابة عدول، وما وقع من تشدد فى بعض الوقائع فإنما كان لزيادة التثبت، وليس للشك فى أحدهم. 7 - لم يرو عن الصحابة تفسير كامل للقرآن، لعدم اقتضاء ما يوجب ذلك. مدى حجية تفسير الصحابة: اتفق العلماء على أن تفسير الصحابى يأخذ حكم الحديث المرفوع إذا: 1 - شهد الصحابى الوحى والتنزيل. 2 - وكان كلامه فيما لا مجال للرأى والاجتهاد فيه، كالحديث عن أسباب النزول، أو عن مشاهد يوم القيامة، والجنة والنار، والملأ الأعلى، ونحو ذلك. 3 - وكان الصحابى غير معروف بالأخذ عن ثقافة بنى إسرائيل. 4 - وصح السند إلى هذا الصحابى.

الموقوف على الصحابة:

مثال ذلك: ما أخرجه البخارى وغيره عن جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما- أنه قال: «كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها فى قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله- عز وجل: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» (¬54) [البقرة: 223]. الموقوف على الصحابة: أما الموقوف على الصحابة فقد اختلف العلماء فى حكم الأخذ به: 1 - فمنهم من قال: لا يجب الأخذ به، لأنهم فى اجتهادهم كسائر المجتهدين، الذين يصيبون ويخطئون، فكيف يجب تقليدهم؟ 2 - ومن العلماء من رأى ضرورة الأخذ بتفسيرهم، لأنهم عاشوا عصر تنزيل القرآن، وشاهدوا التفسير العملى له، من خلال حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولبلوغهم قمة الفصاحة والبلاغة. رأينا فى المسألة: ما ورد فى التفسير عن الصحابة لا يخلو من أحوال ثلاث: 1 - إما إجماع منهم. 2 - وإما اختلاف بينهم. 3 - وإما قول لا يعرف له مخالف أو موافق. فإن أجمعوا على شىء؛ كان إجماعهم حجة، يجب الأخذ به، لأن إجماع الأمة فى أى وقت على أمر ما يجب الانقياد له، فكيف بإجماع أشرف قرن على الإطلاق، بخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم حيث قال: «خير الناس قرنى». (¬55) أما إذا اختلفوا، بحيث تعددت أقوالهم: حاولنا أن نجمع بينها، لأن أغلب اختلافهم اختلاف تنوع وعبارة، وليس اختلاف تضاد، فإن لم يمكن الجمع اخترنا الراجح وفقا لضوابط الترجيح، ولا نخرج عن أقوالهم. وإن كان فى الآية قول لصحابى، لم يعرف له مخالف ولا موافق، فالأحوط والأولى أن نأخذ به، لما امتازوا به من أمور لم تتوافر لغيرهم. قال الشافعى- رحمه الله- عن الصحابة: (¬56) «أدوا إلينا سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشاهدوه والوحى ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله ¬

(¬54) صحيح البخارى، كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة، ومسلم فى كتاب النكاح، باب (117، 118). (¬55) البخارى، كتاب فضائل الصحابة، باب (1). (¬56) كما فى إعلام الموقعين: 1/ 80، ط. دار الجيل.

المفسرون من الصحابة:

صلّى الله عليه وسلم، عاما وخاصا، وعزما وإرشادا، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا فى كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وأمر استدرك به علم، واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا، ومن أدركنا ممن يرضى، أو حكى لنا عنه ببلدنا، صاروا- فيما لم يعلموا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فيه سنة- إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره، أخذنا بقوله». المفسرون من الصحابة: رغم الكثرة الكاثرة، والآلاف المؤلفة، من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، الذين عاصروا الوحى، وشاهدوا التنزيل، وأحاطوا بملابسات القرآن وأسباب نزوله، فإننا لم نر منهم من اشتهر بالتفسير إلا عددا قليلا، عدهم السيوطى فى إتقانه بأنهم عشرة. حيث يقول رحمه الله: «اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة: الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن عباس، وابن مسعود، وأبىّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعرى، وعبد الله بن الزبير، أما الخلفاء فأكثر من روى عنه منهم على بن أبى طالب، والرواية عن الثلاثة نزرة جدا، وكان السبب فى ذلك تقدم وفاتهم، كما أن ذلك هو السبب فى قلة رواية أبى بكر رضي الله عنه للحديث، ولا أحفظ عن أبى بكر رضي الله عنه فى التفسير إلا آثارا قليلة جدا، لا تكاد تجاوز العشرة». (¬57) وإذا كان هؤلاء العشرة هم الذين اشتهروا بالتفسير، فإن هناك من الصحابة من تكلم فى التفسير، ولكن ليس بدرجة هؤلاء العشرة، وعلى رأس هؤلاء: أبو هريرة، وعائشة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجابر بن عبد الله. بل إن هؤلاء العشرة لم يكونوا على درجة واحدة من التكلم فى التفسير، كما صرح السيوطى سابقا. فإذا نظرنا إلى الخلفاء الأربعة، وجدنا الرواية عن أبى بكر وعمر وعثمان فى التفسير قليلة، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها ما يلى: 1 - اشتغالهم بأمور الحكم ومصالح العباد، فى الداخل، وإرسال الجيوش فى الخارج. 2 - لم يكن لمعاصريهم حاجة شديدة إلى التفسير، حيث كان هؤلاء المعاصرون عربا يتمتعون بالسليقة العربية، بالإضافة إلى وقوفهم على أسباب النزول. 3 - تقدم وفاتهم، فلم يعمروا كثيرا كما عمّر غيرهم. ¬

(¬57) الإتقان: 2/ 187.

11 - تفسير التابعين:

أما الخليفة الرابع، فالرواية عنه فى التفسير أكثر من الثلاثة السابقين، لما يأتى: 1 - لم يشتغل بأمور الخلافة، طيلة العهود الثلاثة السابقة. 2 - اشتدت حاجة معاصريه لما عنده من التفسير، لاتساع الفتوحات الإسلامية، واعتناق كثير من الأعاجم دين الإسلام. 3 - تأخر وفاته رضي الله عنه. أما الستة الباقون، فمنهم ثلاثة مكثرون، وثلاثة دونهم فى الكثرة، أما المكثرون فعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأبى بن كعب، وأما الثلاثة الأقل منهم تفسيرا، فهم زيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعرى، وعبد الله ابن الزبير. وبناء على ما سبق: فإن هناك أربعة من العشرة فاقوا إخوانهم فى الكثرة لأسباب خاصة، هؤلاء الأربعة هم: علي بن أبى طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبى بن كعب، وعبد الله ابن عباس، وإذا أردنا ترتيبهم من ناحية الكثرة فى الرواية بدأنا بعبد الله بن عباس، ثم بعبد الله بن مسعود، ثم على بن أبى طالب، ثم أبى بن كعب، رضى الله عنهم أجمعين. 11 - تفسير التابعين: التابعون: جمع تابع، ويقال له تابعى أيضا. والتابعى- فى نظر بعضهم كالخطيب البغدادى والحافظ ابن كثير- من صحب الصحابى (¬58)، وعلى ذلك: فلا يكتفى بمجرد رؤية الصحابى ولقائه، بل لا بد له من الصحبة. وذهب أكثر أهل الحديث إلى عدم اشتراط الصحبة، والاكتفاء باللقى والرواية. وأيّا مّا كان الأمر فالمراد بالتابعين هنا: هم تلاميذ صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذين تعلموا العلم على أيديهم، وعلموه المسلمين. مقومات التفسير عند التابعين: كان للتابعين عدة مقومات، ارتكزوا عليها فى تفسيرهم، على رأسها ما يلى: 1 - القرآن الكريم نفسه. 2 - السنة النبوية. 3 - أقوال الصحابة. 4 - أقوال من أسلم من أهل الكتاب. 5 - إجادتهم للغة العرب التى أتقنوها تمام الإتقان. 6 - توافر أدوات الاجتهاد عندهم، حيث وقفوا على تلك العلوم الواجب توافرها، فيمن يتصدى لتفسير كتاب الله تعالى. سمات تفسير التابعين: وقد تميز تفسيرهم بعدة سمات، أبرزها ما يلى: ¬

(¬58) الكفاية فى علم الرواية، للخطيب البغدادى: 48، طبعة/ دار الكتب الحديثة.

مدى حجية تفسير التابعين:

1 - غلبة الطابع الشفهى للتفسير. 2 - عدم ورود تفسير كامل للقرآن عنهم. 3 - اتساع رقعة الاختلاف فى التفسير بينهم، ولكنه أقل مما حدث بعدهم. 4 - احتشاد تفسير التابعين بالإسرائيليات، نتيجة لدخول عدد من أهل الكتاب فى الإسلام، وتوقان بعض المسلمين لسماع تفاصيل ما رأوه مجملا فى القصص القرآنى. 5 - حمل تفسير التابعين نواة الاختلاف المذهبى، واصطبغ به، نتيجة لظهور الفرق الإسلامية على مسرح الأحداث بعد مقتل عثمان رضي الله عنه. مدى حجية تفسير التابعين: ذهب كثير من العلماء إلى ضرورة الأخذ بأقوال التابعين فى التفسير. وحجتهم فى ذلك: أن التابعين تتلمذوا على أيدى الصحابة، وحفظوا القرآن على أيديهم، وعنهم أخذوا تفسيره، وعليهم أثنى الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله: «خير الناس قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». (¬59) وسعيد بن جبير مثلا، يقول عنه أستاذه ابن عباس لأهل الكوفة الذين جاءوا يستفتونه: «أليس فيكم ابن أم الدهماء؟ يعنى سعيد بن جبير» (¬60). وهذا مجاهد يقول: «عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة». (¬61) أى لتمام ضبطه، وحسن قراءته وأدائه، ويقول أيضا: «عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها». (¬62) وهذا عكرمة مولى ابن عباس يقول: ما زلت أبين له- أى لأستاذه ابن عباس- نجاة من قالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً [الأعراف: 164] عرف أنهم نجوا، فكسانى حلة». (¬63) وبينما يذهب كثير من العلماء إلى ضرورة الأخذ بتفسير التابعين، نرى بعضا آخر يرى عدم الأخذ به، وحجتهم فى ذلك: 1 - أن التابعين لم يسمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى يمكن حمل ما قالوه على سماعهم منه صلّى الله عليه وسلم، كما قيل عن تفسير الصحابى. 2 - أن التابعين لم يشاهدوا الوحى والتنزيل، ولم يعايشوا ملابسات القرآن، مثل الصحابة، فتفسيرهم عرضة للخطأ. 3 - عدالة التابعين غير ثابتة، كما ثبتت عدالة الصحابة، بالكتاب والسنة. والذى نميل إليه: ¬

(¬59) البخارى: كتاب فضائل الصحابة، باب (1). (¬60) تهذيب التهذيب: 4/ 12، طبعة/ دار الفكر. (¬61) ميزان الاعتدال: 3/ 9، طبعة/ عيسى الحلبى. (¬62) تفسير الطبرى: 1/ 90 ط./ المعارف. (¬63) تهذيب التهذيب: 7/ 265.

المفسرون من التابعين:

1 - أن التابعين إذا أجمعوا على شىء كان إجماعهم حجة، ويجب الأخذ بقولهم، لأن الإجماع لا بدّ وأن يستند إلى دليل شرعى، ولا تجتمع الأمة على ضلالة. 2 - أما إذا اختلفوا فلا يكون قولهم حجة. 3 - فإن قال أحدهم بتفسير، ولم يأت تفسير غيره: (أ) فإن كان مما لا مجال فيه للرأى والاجتهاد، ولم يعلم عن هذا التابعى أخذ عن ثقافة أهل الكتاب، فالأخذ به أولى من تركه، لاحتمال أن يكون سمعه من صحابى، أخذه هو الآخر بدوره من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. (ب) أما إذا كان فيه مجال للرأى والاجتهاد، فنحن مخيرون بين قبوله ورده. المفسرون من التابعين: ولقد شهد جيل التابعين عددا عظيما من المفسرين، نذكر منهم: سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة البربرى، وعطاء ابن أبى رباح، وطاوس بن كيسان، وعلقمة بن قيس، ومسروق بن الأجدع، وعبيدة بن عمرو، وعبيد بن نضيلة، والأسود بن يزيد، وأبا عبد الرحمن السلمى، وعامر الشعبى، والحسن البصرى، وقتادة بن دعامة، وأبا العالية، وسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم، وغيرهم ممن أسهم فى محيط التفسير بما لا يزال وسيظل- إن شاء الله- ثروة تفسيرية، ينتفع بها طلاب العلم ورواد الثقافة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فجزاهم الله خير الجزاء، ورضى عنهم فى الأولين والآخرين، وفى الملأ الأعلى إلى يوم الدين. 12 - اختلاف السلف فى التفسير: قلنا سابقا: إن من سمات تفسير الصحابة قلة اختلافهم فيه، وهو وإن ازدادت رقعته بين التابعين إلا أنه إذا قيس باختلاف من بعدهم يعتبر قليلا، ويمكن أن نقول: إن الاختلاف بين السلف معظمه اختلاف تنوع فى العبارة، وليس اختلاف تضاد، ويمكن إرجاعه إلى الأسباب الآتية: (¬64) السبب الأول: تنوع الأسماء والصفات، بأن يعبر كل مفسر عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى فى المسمى، غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى، مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأسماء القرآن. فأسماء الله الحسنى كلها تدل على مسمى واحد، فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادا لدعائه باسم آخر، قال تعالى: قُلِ ¬

(¬64) انظر فى ذلك مقدمة فى أصول التفسير لابن تيمية: 38 - 50، طبعة/ دار ابن حزم.

ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110]. فكل اسم من أسماء المولى- عز وجل- يدل على شيئين، على ذات الله- عز وجل- وعلى الصفة التى تضمنها هذا الاسم، كالرحيم يدل على الله، ويدل على صفة الرحمة، والقدير يدل على الله، ويدل على صفة القدرة، وهكذا. والأمر كذلك مع أسماء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأسماء القرآن، فالرسول صلّى الله عليه وسلم له أسماء متعددة، كمحمد، وأحمد، والماحى، والحاشر، والعاقب، والقرآن له أسماء متعددة كذلك، مثل القرآن، والكتاب، والفرقان، والشفاء، والبرهان. ومن أمثلة هذا النوع: اختلاف المفسرين فى معنى الصراط المستقيم، فقد قال بعضهم: هو القرآن، وقال بعضهم: هو الإسلام، وقال بعضهم: هو السنة والجماعة، وقال بعضهم: هو طريق العبودية، وقال آخرون، هو طاعة الله ورسوله، ولا تنافى بين جميع هذه الأقوال، لأنهم جميعا أشاروا إلى ذات واحدة، ولكن كل واحد منهم وصفها بصفة من صفاتها. السبب الثانى: التعبير بالمثال، حيث يذكر كل واحد منهم من الاسم العام بعض أنواعه، لا على سبيل مطابقة الحد للمحدود، فى عمومه وخصوصه، ولكن على سبيل التمثيل، بتنبيه الإنسان على النوع، كسائل أعجمى سأل عن مسمى لفظ البرتقال، فأرى برتقالة، وقيل له: البرتقال هذا، فالإشارة هنا إلى النوع، لا إلى البرتقالة وحدها. مثال ذلك: قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: 32]. فالمعروف أن الظالم لنفسه هو الذى ترك المأمورات، وارتكب المحظورات، وأن المقتصد هو الذى اقتصر على فعل المأمورات وترك المحظورات، وأما السابق فهو الذى زاد على أداء الواجبات فعل المستحبات، وزاد على ترك المحظورات توقى الشبهات، ولكن المفسرين اختلفت عباراتهم فى تفسيرها، فقد قال بعضهم: السابق الذى يصلى فى أول الوقت، والمقتصد الذى يصلى فى أثنائه، والظالم لنفسه الذى يؤخر العصر إلى الاصفرار. وقال بعضهم: الظالم آكل الربا، أو مانع الزكاة، والمقتصد الذى يؤدى الزكاة المفروضة، ولا يأكل الربا، والسابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات، إلى غير ذلك من عباراتهم.

اختلاف التضاد:

فكل نوع من هذه الأنواع التى ذكروها داخل تحت الآية، وأنه أريد به التنبيه على مثيله، لأن التعريف بالمثال قد يكون فى بعض الأحوال أفضل من التعريف بالحد المطابق. السبب الثالث: ما كان الاختلاف فيه راجعا إلى احتمال أمرين أو أكثر، كلفظ «قسورة»، فيحتمل أن يراد به الرامى، ويحتمل أن يراد به الأسد، ونحو ذلك من الألفاظ المشتركة، التى اتحد لفظها واختلف معناها، كلفظ اليمين، يطلق على اليد، وعلى القوة، وعلى القسم، وكلفظ العين، يطلق على البئر، وعلى الباصرة، وعلى الجاسوس، ونحوها. السبب الرابع: التفسير بألفاظ متقاربة، لا مترادفة. فقد يعبر المفسر عن اللفظ بلفظ قريب، لا بلفظ مرادف له، لأن الترادف فى لغة العرب قليل، وقد يندر وجوده فى القرآن، أو ربما ينعدم. ومثال ذلك: ما ذكره المفسرون فى قوله تعالى: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ [الأنعام: 70]، فقد فسر بعضهم قوله: (تبسل) بمعنى تحبس، وقال بعضهم: ترتهن، وليس هناك تضاد بين القولين، فإن المحبوس قد يكون مرتهنا، وقد لا يكون، فالمفسر حين يفسر إنما يريد تقريب المعنى. اختلاف التضاد: هذا عن اختلاف التنوع، الذى يوجد بكثرة فى أقوال السلف، فإن معظم اختلافهم يندرج تحته، أما اختلاف التضاد، وهو ما كانت العبارات فيه متعارضة، بحيث إذا أخذ بأحد الأقوال لا يؤخذ بغيره، فهو قليل بين السلف. ومثال ذلك: تعيين الصلاة الوسطى، فقد قيل فيها أقوال متعددة شملت الصلوات كلها. فما موقفنا تجاه تلك الأقوال؟ وكيف نرجح قولا على ما عداه؟ هذا ما سوف نجيب عنه- إن شاء الله- فى موضوع الترجيحات فى التفسير. 13 - التفسير بالرأى: التفسير بالرأى قسيم التفسير بالمأثور، ولكن علام يطلق الرأى؟ وما المراد بالتفسير بالرأى؟ يطلق الرأى على المعانى الآتية: 1 - على الاعتقاد، يقال: هذا رأيى فى كذا، أى اعتقادى فيه. 2 - وعلى الاجتهاد. 3 - وعلى القياس، والمحدّثون يسمون أصحاب القياس أصحاب الرأى. (¬65) ولكن العلماء خصوه- كما يقول ابن القيم ¬

(¬65) انظر فى ذلك: القاموس المحيط ولسان العرب (رأى)، وتفسير ابن جرير الطبرى:/ 8، 35، ط/ المعارف.

معنى التفسير بالرأى:

رحمه الله-: «بما يراه القلب بعد فكر وتأمل، وطلب لمعرفة وجه الصواب، مما تتعارض فيه الأمارات، فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرا غائبا عنه مما يحس به إنه رأيه، ولا يقال أيضا للأمر المعقول الذى لا تختلف فيه العقول، ولا تتعارض فيه الأمارات إنه رأى، وإن احتاج إلى فكر وتأمل، كدقائق الحساب ونحوها». (¬66) معنى التفسير بالرأى: والتفسير بالرأى يراد به: بيان معانى الآيات القرآنية، بغير المأثور، من القرآن، أو السنة، أو أقوال الصحابة والتابعين. التفسير بالرأى قسمان: المفسر بغير المأثور إن توافرت فيه شروط التفسير وضوابطه، كان تفسيره محمودا، وإلا كان مذموما. فالتفسير بالرأى المحمود هو: ذلك التفسير الذى أعمل فيه المفسر عقله، للوصول إلى مراد الله- تعالى- بقدر الطاقة البشرية، مستعينا فى ذلك بكل الأدوات والشروط والعلوم الواجب توافرها فى مجال التفسير، على نحو ما بيناه سابقا، وما سنبينه أكثر لاحقا- إن شاء الله- أثناء حديثنا عن ضوابط سلامة التفسير. أما التفسير بالرأى المذموم: فهو ما خالف فيه المفسر تلك الشروط، ولم يكن ملما بتلك الأدوات، أو لم يراع تلك الضوابط. اختلاف العلماء فى جواز التفسير بالرأى المحمود: اتفق علماء الأمة سلفا وخلفا على منع التفسير بالرأى المذموم، أما التفسير بالرأى المحمود، فقد اختلفوا فى جوازه- اختلافا حقيقيا لا لفظيا كما فهم بعض الباحثين وبعض المؤلفين- إلى فريقين: فريق يمنعه منعا باتا، مهما كان المفسر ملما بعلوم الأولين والآخرين، ومتوافرا فيه شروط وأدوات التفسير، وفريق يرى جوازه لمن توافرت فيه تلك العلوم والشروط والأدوات، يقول الراغب الأصفهانى: «اختلف الناس فى تفسير القرآن، هل يجوز لكل ذى علم الخوض فيه؟ فبعض تشدد فى ذلك وقال: لا يجوز لأحد تفسير شىء من القرآن، وإن كان عالما أديبا متسعا فى معرفة الأدلة، والفقه، والنحو، والأخبار والآثار، وإنما له أن ينتهى إلى ما روى له عن النبى صلّى الله عليه وسلم، وعن الذين شهدوا التنزيل، من الصحابة- رضى الله عنهم- أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين، وذكر آخرون أن من كان ذا أدب وسيع فموسع له أن يفسره، فالعقلاء والأدباء فوضى (¬67) فى معرفة الأغراض». (¬68) ¬

(¬66) إعلام الموقعين 1/ 66. (¬67) أى شركاء، كما فى لسان العرب (فوض)، طبعة/ دار القلم. (¬68) مقدمة جامع التفاسير للأصفهانى: 93، طبعة/ دار الدعوة.

أدلة المانعين ومناقشتها:

وللسيوطى فى إتقانه عبارة تحمل معنى ما قاله الراغب بالتمام. (¬69) وإنما قلنا: إن الخلاف بين الرأيين حقيقى لا لفظى، لعدة اعتبارات، على رأسها ما يأتى: 1 - العبارتان الصريحتان لكل من الراغب الأصفهانى، والحافظ السيوطى فى ذلك، واللتان تنصان صراحة على أن المانعين أرادوا منع أى تفسير بغير المأثور، بصرف النظر عن كونه بالرأى المحمود أو بالرأى المذموم. 2 - أدلة المانعين، وردود المجيزين تفيد التعميم، وسيتضح ذلك التعميم من خلال ما يأتى: أدلة المانعين ومناقشتها: استدل المانعون لتفسير القرآن بغير المأثور- ولو مع توافر كل الشروط والأدوات والعلوم- بأدلة من القرآن والسنة، وآثار عن الصحابة والتابعين. الأدلة من القرآن: 1 - استدلوا بقوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33]. حيث قالوا: إن القول على الله بغير علم محرم؛ لأنه فى الآية معطوف على محرم، والتفسير بالرأى قول على الله بغير علم، فيكون محرما. ويرد على هذا الاستدلال: بأن التفسير بالرأى المحمود ليس قولا على الله بغير علم، وإنما هو إدراك الطرف الراجح، باستخدام العلوم التى يحتاج إليها المفسر بعد انعدام العلم اليقينى، فالقول بغلبة الظن حينئذ يكفى، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] بل إن المجتهد حينئذ مأجور، حتى لو لم يحالفه التوفيق، كما صح فى الحديث. 2 - واستدل المانعون أيضا بقوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] حيث قالوا: التفسير بالرأى قول بغير علم، فيكون منهيا عنه. ويرد عليهم فى ذلك بما رددنا عليهم فى استدلالهم السابق. 3 - كما استدلوا بقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44]، حيث قالوا: إنه ليس لغير النبى صلّى الله عليه وسلم أن يتكلم فى شىء من معانى القرآن، لأن النبى هو المبين له. ويرد عليهم فى ذلك: بأن الآية ليس فيها ¬

(¬69) انظر الإتقان: 2/ 180.

أدلة المانعين من السنة:

قصر البيان عليه صلّى الله عليه وسلم، لأنه كان مأمورا ببيان ما خفى عليهم، أو اختلفوا فى فهمه، كما نصت الآية 64 من السورة ذاتها، حيث يقول تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، وأما ما كان واضحا فى عصره صلّى الله عليه وسلم، فلم يكن مأمورا ببيانه، ولكن لما اتسعت الفتوحات الإسلامية، ودخل العجم فى دين الله، وبعد الناس عن عهد النبوة، وفشا الجهل فيهم بلغة العرب، وأسباب النزول، وملابسات القرآن احتاجوا إلى بيان، حيث لم يكفهم ما نقل من طريق السماع. أدلة المانعين من السنة: استدل المانعون بحديثين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: 1 - الحديث الأول: رواه الترمذى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الحديث عنى إلا ما علمتم، فمن كذب علىّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال فى القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار». (¬70) 2 - الحديث الثانى: أخرجه الترمذى وأبو داود عن جندب أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قال فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ». (¬71) وهذان الحديثان لا يدلان فى الواقع على المنع، لا سندا ولا متنا. أما سند الأول منهما، ففيه عبد الأعلى ابن عامر الثعلبى، والترمذى وإن حسن له إلا أن العلماء ضعفوه، كما نقل الحافظ ابن حجر عنهم فى تهذيبه أثناء ترجمته له. (¬72) أما سند الحديث الثانى، فهو ضعيف أيضا، لوجود سهيل بن أبى حازم القطعى فيه، وقد ضعفه العلماء، كما نقل عنهم الذهبى فى ميزانه، وابن حجر فى تهذيبه. (¬73) أما من ناحية المتن: فإن المراد بالرأى فى هذين الحديثين لا يخرج عن الصور الآتية: 1 - الرأى القائم على غير علم، بأن صدر من شخص لم تتوافر فيه شروط المفسر، ولا ضوابط التفسير، ويدل لصحة هذا التوجيه ما أخرجه ابن جرير الطبرى من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار». (¬74) 2 - أو أن المراد من الرأى: الخوض فيما استأثر الله- تعالى- بعلمه، وجعله من المتشابه الذى لا يعلمه إلا هو، كالروح ونحو ذلك. 3 - أو أن المراد من الرأى: الرأى الذى يجعل المذهب أصلا ومتبوعا، والتفسير فرعا وتابعا، كما يفعله مفسرو الفرق المبتدعة. ¬

(¬70) سنن الترمذى: كتاب التفسير، باب (1). (¬71) الترمذى فى الموضع السابق، وأبو داود فى كتاب العلم، باب (5). (¬72) تهذيب التهذيب: 5/ 4، ط/ دار الفكر. (¬73) ميزان الاعتدال: 1/ 432، وتهذيب التهذيب 4/ 261. (¬74) تفسير ابن جرير: 1/ 78 - ط/ المعارف.

أدلة المانعين من آثار الصحابة والتابعين:

4 - أو أن المراد من الرأى: الهوى والاستحسان، كما يفعله بعض الوعاظ، حينما يقصدون أغراضا صحيحة، فيلجئون إلى آراء خاصة، ترغيبا وترهيبا للمستمع. 5 - أو أن المراد من الرأى: الرأى القائم على ترك المأثور، والأخذ بظاهر العربية، فإن الأخذ بظاهر العربية فقط لا يكفى، بل لا بد من الاعتقاد على المأثور أولا. أدلة المانعين من آثار الصحابة والتابعين: كما استدل المانعون بآثار عن الصحابة والتابعين، منها: 1 - قول أبى بكر رضي الله عنه: «أى أرض تقلنى، وأى سماء تظلنى إن قلت فى آية من كتاب الله برأيى، أو بما لا أعلم». (¬75) 2 - وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: «إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، فمن قال بعد ذلك برأيه فما أدرى أفى حسناته يجد ذلك، أم فى سيئاته».؟ (¬76) ويمكن أن يرد على هذه الآثار وما شاكلها بما يأتى: أوّلا: إن امتناع السلف عن التفسير إنما كان فيما لا علم لهم به، أما ما كانوا يعلمونه فكانوا يقولون به ولا يكتمونه، وإلا لكانوا من الذين يكتمون العلم، والذين هددهم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم بالعذاب الأليم. والدليل على ذلك: (أ) أن كتب الحديث والتفسير مملوءة بتفاسير صحيحة عنهم. (ب) وبدليل أن الروايات الواردة عنهم فى ذم التفسير بالرأى تنص على أن المراد التفسير بغير علم، كما جاء عن أبى بكر وغيره قوله: «بما لا علم لى». ثانيا: أو أن امتناع من امتنع منهم كان على سبيل التورع والاحتياط، خوفا من عدم إصابة قول الحق. ثالثا: أو أن امتناع من امتنع إنما كان لعدم وجوب ذلك عليهم، نظرا لوجود آخرين يسدون مسده، كما كانوا يفعلون مع من يطلق امرأته ثلاثا، كل منهم يدفعه للآخر. وبناء عليه: فإن ما استدل به المانعون لا يدل لهم بحال من الأحوال. القائلون بالجواز: أما القائلون بجواز التفسير بالرأى المتوافر له شروطه، فقد استدلوا لصحة مذهبهم بأدلة من القرآن والسنة، وآثار عن السلف الصالح، وبأدلة عقلية. ¬

(¬75) الموضع السابق. (¬76) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: 2/ 136، طبعة المنيرية.

فمن الأدلة القرآنية:

فمن الأدلة القرآنية: 1 - تلك الآيات التى تدعو إلى التدبر والتذكر، كقوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: 82، ومحمد: 24]، فقد دلت هذه الآية وأمثالها على أن تفسير ما لم يستأثر الله- تعالى- بعلمه ليس محظورا على العلماء، وأهل الفكر والنظر. 2 - تلك الآيات التى تدل على أن فى القرآن ما يستنبطه أولو العلم باجتهادهم، مثل قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83]. قال الغزالى: «فأثبت لأهل العلم استنباطا، ومعلوم أنه وراء السماع». (¬77) ومن الأدلة النبوية: دعاء النبى صلّى الله عليه وسلم لابن عباس بقوله: «اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل». (¬78) قال الغزالى معقبا على هذا الدعاء: «فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل، ومحفوظا مثله، فما معنى تخصيصه بذلك؟». (¬79) ومن آثار السلف: قول أبى بكر فى الكلالة: «أقول فيها برأيى» (¬80). وقول مجاهد: «عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها». (¬81) ومن الأدلة العقلية على الجواز: 1 - اختلاف الصحابة فى التفسير، فلو كان التفسير بالرأى ممنوعا عليهم، ومقصورا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما تجرءوا على التفسير، ولما حدث بينهم هذا الاختلاف. 2 - لو منع التفسير بالرأى لمنع الاجتهاد فى الدين، ولو منع الاجتهاد فى الدين لتعطل كثير من الأحكام، ولوقع الناس فى حرج عظيم، لكن التالى باطل لقوله تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78]، فما أدى إليه وهو منع التفسير بالرأى باطل، خاصة أن الرسول صلّى الله عليه وسلم مات ولم يتعرض لتفسير كل الآيات القرآنية، ولم يؤثر عنه استنباط لكل الأحكام الفقهية التى يمكن أن تشملها الآية. الرأى الراجح: من عرضنا لأدلة المانعين، وردودنا عليها، ولأدلة المجيزين ووضوحها ودلالتها على الجواز، يترجح لدينا جواز التفسير بالرأى، إذا توافرت فى المفسر الشروط الواجب توافرها فى هذا المجال. ¬

(¬77) إحياء علوم الدين: 1/ 290. (¬78) مسند أحمد 1/ 266. (¬79) الإحياء: 1/ 290. (¬80) تفسير ابن جرير: 8/ 53، ط/ المعارف. (¬81) تفسير ابن جرير: 1/ 90، ط./ المعارف.

اختلاف مشارب العلماء فى التفسير بالرأى:

اختلاف مشارب العلماء فى التفسير بالرأى: نتيجة لتنوع البشر فى ميولهم واتجاهاتهم، وكذلك اختلاف صبغتهم واهتماماتهم، فقد رأينا المفسرين بالرأى يتجهون بتفاسيرهم اتجاهات شتى، ولا يمكن لاتجاه من هذه الاتجاهات المحمودة أن يستغنى عنه باتجاه آخر. فمنهم من غلبت عليه الناحية الفقهية، ومنهم من طغت عليه النزعة الصوفية، ومنهم من انغمس فى الآراء الفلسفية، ومنهم من كان جلّ اهتمامه النواحى العقلية والكونية، ومنهم من ألبس تفسيره ثوب ما يعرف بالنزعة العلمية، ومنهم من أضفى على تفسيره الصبغة الأدبية، ومنهم من آثر المسحة البلاغية، ومنهم من نظر إلى موضوع بذاته من موضوعات القرآن، تناثرت آياته فى ثناياه، ليخرج لنا بأحكام عامة، تمثل لنا منهج الله فى كل زاوية من زوايا هذه الحياة، ولهذا وجدنا أمامنا كما هائلا من التفاسير، فى المجال الفقهى والصوفى والبلاغى والأدبى والفلسفى، وغير ذلك، مما سوف نتعرض لبعضه قريبا- إن شاء الله. أبرز المصنفات فى التفسير بالرأى المحمود: 1 - مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازى. 2 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل، للقاضى عبد الله بن عمر البيضاوى. 3 - مدارك التنزيل وحقائق التأويل، لأبى البركات عبد الله بن أحمد النسفى. 4 - لباب التأويل فى معانى التنزيل، لعلاء الدين على بن محمد الخازن. 5 - البحر المحيط، لمحمد بن يوسف، الشهير بأبى حيان. 6 - غرائب القرآن ورغائب الفرقان، لنظام الدين بن الحسن النيسابورى. ومن تفاسير الرأى المذموم، أو الفرق المبتدعة: 1 - تنزيه القرآن عن المطاعن، للقاضى عبد الجبار المعتزلى. 2 - الكشاف، لأبى القاسم محمود بن عمر الزمخشرى، جار الله المعتزلى. 3 - مجمع البيان لعلوم القرآن، لأبى على الفضل بن الحسن الطبرسى، الشيعى. 14 - تفاسير القرآن: المتصفح لكتب التفاسير التى خلفها لنا علماء أمتنا الفضلاء، يرى تنوعا كبيرا بينها، بحيث يمكن تقسيمها إلى عدة أقسام، بالنظر إلى عدة اعتبارات، ونستطيع أن نرجع أهم تلك الأقسام إلى اعتبارات ثلاثة:

15 - التفسير التحليلى والإجمالى:

1 - الاعتبار الأول: من حيث المصادر التى يستمد منها التفسير، وهو بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسمين، تفسير بالمأثور، وتفسير بالرأى، ويدخل تحت التفسير بالرأى كل أنواع التفسير بالرأى المحمود، والمذموم، بسائر اتجاهاته الفقهية، والصوفية، والبلاغية، والأدبية، والموضوعية، والتحليلية، والإجمالية، والعلمية، وغير ذلك. 2 - الاعتبار الثانى: من حيث التوسع والإيجاز فى التفسير، وهو بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسمين، تفسير تحليلى، وتفسير إجمالى. 3 - الاعتبار الثالث: من حيث عموم موضوعات التفسير، التى تقابل المفسر فى كل سورة، ومن حيث خصوص موضوع بعينه فى القرآن كله، وهو بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسمين، تفسير عام، وتفسير موضوعى. ولا شك فى أنه لا مانع أن يدرج تفسير معين، تحت أكثر من قسم من هذه الأقسام، باعتبارات مختلفة، لأن هذه الاعتبارات لم يراع فيها المقابلة، فلم تكن العلاقة بينها علاقة تناقض. 15 - التفسير التحليلى والإجمالى: ينقسم التفسير من حيث التوسع فى بيان ألفاظ القرآن ومعانيه، وعدم التوسع فى ذلك إلى قسمين: تحليلى، وإجمالى. أما التفسير التحليلى: فهو مأخوذ من الحل بمعنى: الفتح، ونقض المنعقد. قال ابن منظور: «وحلّ العقدة يحلها حلا، فتحها ونقضها، فانحلت». (¬82) وهو فى الاصطلاح قريب من هذا المعنى اللغوى، حيث يراد به: بيان الآيات القرآنية بيانا مستفيضا من جميع نواحيها، بحيث يسير المفسر فى هذا البيان مع آيات السورة آية آية، شارحا مفرداتها، وموجها إعرابها، وموضحا معانى جملها، وما تهدف إليه تراكيبها من أسرار وأحكام، ومبينا أوجه المناسبات بين الآيات والسور، مستعينا فى ذلك بالآيات القرآنية الأخرى ذات الصلة، وبأسباب النزول، وبالأحاديث النبوية، وبما صح عن الصحابة والتابعين، وبغير ذلك من العلوم التى تعينه على فهم النص القرآنى وتوضيحه للقراء، مازجا ذلك بما يستنبطه عقله، وتمليه عليه نزعته. المصنفات فيه: لما كانت الاعتبارات مختلفة فى تقسيم التفاسير، فإنه من البدهى إمكان إدراج تفسير واحد تحت أكثر من قسم، بأكثر من اعتبار، فمثلا يمكن إدراج تفسير ابن جرير الطبرى ضمن كتب التفسير بالمأثور، وضمن ¬

(¬82) لسان العرب (حل).

التفسير الإجمالى:

كتب التفسير التحليلى، ويمكن إدراج تفسير القرطبى ضمن كتب التفسير بالرأى، وضمن كتب التفسير التحليلى، وضمن كتب التفسير الفقهى وهكذا، لأن العلاقة بين كل اعتبار وآخر ليست قائمة على المقابلة أو التضاد، وبالتالى فإن معظم ما ذكرناه من كتب التفسير بالرأى يصح أن يكون نموذجا للمصنفات فى التفسير التحليلى. التفسير الإجمالى: أما التفسير الإجمالى فإنه فى الغالب يكون موجها للقاعدة العريضة من الناس، وبالتالى فلا يدخل المفسر فى التفاصيل الدقيقة، والمباحث المتخصصة. وإنما يهتم ببيان المعنى العام باختصار، سائرا مع الآيات حسب ترتيبها فى المصحف الشريف، وهو- أى المفسر- كما يقول الدكتور أحمد السيد الكومى- رحمه الله-: «إذ ينطق بعبارته التى صاغها من ألفاظه يأتى- بين الفينة والفينة- بلفظ من ألفاظ القرآن، حتى يشعر السامع أنه لم يكن بعيدا فى تعبيره عن سياق القرآن، ولا مجانبا لمجموع ألفاظه، وحتى يحقق التفسير من جانب، آخر، ويكون رابطا نفسه بنظم القرآن من جانب آخر، ويكون فى الموضع الذى يجانب فيه لفظ القرآن آتيا بلفظ أوضح عند السامعين، وأيسر فى الفهم عند المخاطبين» (¬83) والمفسر- فى سبيل ما تهدف إليه الجمل من معان، وما ترمى إليه من مقاصد- لا بدّ له من الاستعانة بما يحتاج إليه من آية أخرى، أو حديث نبوى، أو أثر صحيح عن السلف، أو بيت من أشعار العرب، أو حكمة مأثورة عن الحكماء والبلغاء. هذا هو الغالب عند من يفسرون القرآن تفسيرا إجماليا، لأنهم يخاطبون به الجانب الأعظم من المسلمين، فلذلك لا يتعرضون لمعالجة الجزئيات والتفاصيل بصورة متخصصة، ولكننا وجدنا بعضا ممن كتب فى التفسير الإجمالى يتعرض لبعض المسائل التى لا يفهمها إلا المتخصصون، كما فعل الجلالان، جلال الدين المحلى، وجلال الدين السيوطى فى «تفسير الجلالين»، حيث تعرضا لأوجه الإعراب، ونبها على بعض القراءات، ونحو ذلك مما لا يفهمه إلا المتخصصون، ولا يدركه غيرهم. أهم كتب التفسير الإجمالى: معظم كتب هذا الاتجاه ظهرت فى العصر الحديث، ويأتى على رأسها التفاسير التالية: ¬

(¬83) التفسير الموضوعى، للدكتور أحمد الكومى: 6، مذكرة مقررة على طلاب كلية أصول الدين.

16 - التفسير الفقهى:

1 - المصحف المفسر، للأستاذ محمد فريد وجدى. 2 - التفسير الوسيط، إصدار مجمع البحوث الإسلامية. 3 - التفسير الحديث، لمحمد عزة دروزة. 4 - التفسير الواضح، للدكتور محمد محمود حجازى. 16 - التفسير الفقهى: ومن العلماء من اتجهت همته فى تفسير القرآن إلى تفسيره تفسيرا فقهيا. والمقصود من هذا الاتجاه: الاعتناء بآيات الأحكام، واستنباط القواعد منها والأصول، واكتشاف الثروة التشريعية لبيان أحكام الله- تعالى- التى كلف عباده الامتثال لها، ومدى حاجة جميع الأزمنة والأمكنة إلى هذه الثروة التشريعية، ليضمنوا السعادة فى الدنيا، والفوز بالآخرة. والتفسير الفقهى بدت جذوره واضحة منذ العهد النبوى على يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كبيانه صلّى الله عليه وسلم للخيط الأبيض والأسود بأنهما بياض النهار وسواد الليل، حين التبس الأمر على عدى بن حاتم، لما أحضر خيطين؛ أبيض وأسود، فلما توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلم جدّت للصحابة أمور لم تقع من قبل، فاتجهت عقولهم لإيجاد الحكم الشرعى لها من القرآن، فإن وجدوا فيه الحكم أنزلوه على الحادثة، وإلا انتقلوا إلى السنة النبوية، فإن لم يجدوا فيها حكما أعملوا عقولهم، واجتهدوا بما عندهم من مقومات الاجتهاد، حتى يخرجوا بالحكم المناسب. وظل الأمر هكذا فى عهد الصحابة وعهد التابعين إلى عهد أئمة المذاهب الأربعة وغيرها. هذا العصر شهد أمورا وحوادث كثيرة لم يكن لها مثيل من قبل، فاجتهد هؤلاء الأئمة فى ضوء القرآن والسنة وغيرهما من مصادر التشريع، وقد ضرب لنا هؤلاء الأئمة المثل العليا فى التسامح وعدم التعصب لآرائهم. فلما خلف جيل الأئمة جيل المقلدين، رأينا التعصب الأعمى على أشده، وكأن قول من قلدوه قرآن لا يقبل المناقشة، أو سنة قاطعة لا يجوز مخالفتها. وإحقاقا للحق، وإنصافا لأهل الفضل، فقد وجدنا من هؤلاء المقلدين من كان عفيف اللسان، ودائرا مع الدليل حيث يدور. المصنفات فى التفسير الفقهى: قبل عصر التدوين لم نر مصنفات فى التفسير الفقهى، باستثناء مسائل متفرقة

أولا: من الأحناف:

يرويها أصحاب الكتب المختلفة عن الصحابة والتابعين، أما بعد عصر التدوين، فقد وجدنا كثيرا من المصنفات فى ذلك، على اختلاف مذاهب العلماء الفقهية، ونستطيع أن نذكر أهم المصنفات فى التفسير الفقهى على النحو التالى: أولا: من الأحناف: 1 - تفسير «أحكام القرآن»، لأبى بكر الرازى المعروف بالجصاص، والمتوفى سنة 370 هـ. 2 - تفسير «التفسيرات الأحمدية فى بيان الآيات الشرعية» لأحمد أبى سعيد المدعو ب (ملاجيون) من علماء القرن الحادى عشر الهجرى. ثانيا: الشافعية: 1 - «أحكام القرآن»، للشافعى، من جمع أبى بكر البيهقى صاحب السنن. 2 - تفسير «أحكام القرآن» للكيا الهراسى المتوفى سنة 504 هـ. ثالثا: المالكية: 1 - «أحكام القرآن» لابن العربى، المتوفى سنة 543 هـ. 2 - «الجامع لأحكام القرآن»، للإمام القرطبى المتوفى سنة 671 هـ. هذه أهم المصنفات فى التفسير الفقهى لأئمة المذاهب من أهل السنة، أما الفرق الأخرى من الشيعة وغيرها فلها مؤلفات فى ذلك، ولكنها لا تخلو من التعصب الشديد، بحيث تؤول النصوص القرآنية تأويلا يخدم مبادئها، أو على الأقل لا تتعارض معها، بما يخرج فى النهاية بالألفاظ القرآنية عن معانيها ومدلولاتها. 17 - التفسير البلاغى: ومن اتجاهات المفسرين للقرآن الكريم، الاتجاه البلاغى، حيث قصد أصحابه بيان إعجاز القرآن للناس جميعا فى هذه الناحية، فإذا كان العرب قد اشتهروا بتباريهم فى الفصاحة، وتسابقهم فى البلاغة، وإذا كانوا قد جعلوا للكلام مملكة بدون ملك، فإنهم حينما جاءهم القرآن وجدوا فيه ذلك الملك الذى ينصاعون لنظامه، ويحتكمون لبيانه، فما فتئ إلا وقد ملك قلوبهم، وبهر عقولهم، فانحنت هذه العقول لفصاحته راكعة، وخرت تلك القلوب لبلاغته ساجدة. والتفاسير جميعها تكاد لا تخلو من الاعتناء بهذه الناحية البلاغية، ولكن هناك تفاسير فاقت غيرها فيها، ويأتى على رأسها:

18 - التفسير الصوفى:

1 - «تفسير الكشاف»، لمحمود بن عمر الخوارزمى، المعتزلى، الملقب بجار الله الزمخشرى، وهذا التفسير- بصرف النظر عما فيه من اعتزاليات- أبرز بلاغة القرآن، من معان وبيان، بما يتضح لكل منصف كيف فاقت بلاغة القرآن كل بلاغة، وكيف أن القرآن صار للعرب معجم بلاغتهم، فما من نوع راق من أنواع البلاغة إلا رأوه قد جنح فيه إلى الوضع والتأصيل، وحينما قارنوا بينه وبين أسمى ما نطق به أعظم بلغائهم، وجدوا الفرق بين البلاغتين كالفرق بين النابغ والمقلد، وإن دققت قلت: كالفرق بين الخالق والمخلوق. 2 - ومن التفاسير البلاغية أيضا: تفسير «أنوار التنزيل، وأسرار التأويل» للقاضى البيضاوى. ومع أنه اختصر تفسيره من الكشاف، إلا أنه أعمل فيه عقله، وضمنه نكتا بارعة، ولطائف رائعة، واستنباطات دقيقة. 3 - ومن هذه التفاسير البلاغية أيضا: تفسير «إرشاد العقل السليم، إلى مزايا الكتاب الكريم»، لأبى السعود محمد بن محمد بن مصطفى العماد الحنفى. وقد اهتم أبو السعود فى تفسيره هذا بإبراز النواحى البلاغية للقرآن، حيث كشف لنا عن أسرار التقديم والتأخير، والإيجاز والإطناب، والفصل والوقف، والتعبير بلفظ دون آخر، واستنباط المعانى الدقيقة المستورة فى خبايا المفردات والتراكيب، وغير ذلك من أسرار علوم البلاغة الثلاثة، المعانى والبيان والبديع، التى لا يهتدى إليها إلا من منحه الله بصيرة نافذة، وحسا ثاقبا، وممن تأثر بتفسير أبى السعود فى الناحية البلاغية تأثرا عظيما، الإمام الآلوسي- رحمه الله تعالى- فى تفسيره «روح المعانى». ويأتى فى المكانة- بعد تلك التفاسير- من الاهتمام بالناحية البلاغية تفاسير أخرى، نقرأ فيها كثيرا من أسرار بلاغة القرآن، كتفسير أبى البركات النسفى، وتفسير «البحر المحيط» لأبى حيان، و «غرائب القرآن» للنيسابورى، و «تفسير الجلالين»، لجلال الدين المحلى، وجلال الدين السيوطى، وغيرها قديما وحديثا. 18 - التفسير الصوفى: ومن التفاسير التى ظهرت على ساحة الثقافة الإسلامية تفاسير الصوفيين، وكلمة (صوفى) اختلف العلماء فى أصلها اللغوى الذى اشتقت منه، على عدة أقوال لم تسلم كلها من النقد والاعتراض، إما لغة وإما واقعا تاريخيا، ما عدا القول الذى ينص على أنه

الصوفية وتفسير القرآن:

مشتق من الصوف، فاللغة تؤيده، والواقع يؤكده، لأنهم لبسوه زهدا فى الحياة، وتخشنا فى المعيشة. والتصوف فى نظر أصحابه يعنى الزهد والورع، ومجاهدة الهوى والنفس والشيطان، للوصول بالروح إلى أعلى درجات الصفاء بقدر الإمكان. وأول ما ظهرت الصوفية- كطريقة لها جماعة خاصة، ونظام معين- بالبصرة، وعرفوا آنذاك بالمبالغة فى الزهد والعبادة أكثر من غيرهم، لذلك كان يقال: فقه كوفى وعبادة بصرية. الصوفية وتفسير القرآن: تحت شعار «للقرآن ظاهر وباطن» انطلق الصوفيون يفسرون القرآن، وهو شعار ظالم باطل، لأن القرآن عربى، نزل يخاطب الناس بلغتهم، فإذا كانت ألفاظه تمثل الظاهر، فإن المراد من الباطن تلك المعانى التى تدل عليها تلك الألفاظ، أما أن تكون أفهام هؤلاء القوم- التى لم تؤسس على قوانين اللغة، ولم تراع مدلولات الألفاظ وفق استعمال العرب الذين نزل القرآن بلغتهم- هى المرادة بهذا الباطن، فذلك هو الشذوذ فى الفهم، والتطرف فى الفكر. ولقد أنتجت لنا مراحل التطور الصوفى نوعين من التفسير: أحدهما: التفسير الصوفى النظرى، ويعتبر ابن عربى إمام هذا النوع، وثانيهما: التفسير الصوفى العملى الإشارى. أما التفسير الصوفى النظرى فهو عبارة عن: صرف معانى القرآن الظاهرة إلى معان فلسفية وافدة من مجتمعات كافرة، تتعارض مع الإسلام. ومن أبرز المصنفات فى هذا النوع ما جاء فى كتابى «الفتوحات المكية» و «الفصوص» لابن عربى، والتفسير المنسوب إليه. أما التفسير الإشارى: فهو شرح الآيات بخلاف ما يظهر منها عن طريق الإلهامات والمكاشفات، التى لا يمن الله بها إلا على أرباب السلوك- كما يقولون- دون نفى الظاهر، الذى تدل عليه لغة العرب. وأهم المؤلفات فى التفسير الإشارى: 1 - «حقائق التفسير»، لأبى عبد الرحمن السلمى. 2 - «تفسير القرآن العظيم»، لسهل التسترى. 3 - «غرائب القرآن ورغائب الفرقان» للنيسابورى، وإن كان غالب اهتمامه بغير التفسير الإشارى.

4 - «روح المعانى» للآلوسى، وهو كسابقه أيضا، غالب اهتمامه بغير التفسير الإشارى. بالإضافة إلى التفسير المنسوب لابن عربى، فكما اهتم فيه بالتفسير الصوفى النظرى اهتم فيه أيضا بالتفسير الإشارى. موقفنا من التفسير الصوفى: بالنسبة للتفسير الصوفى النظرى: فإنه بالتأمل فيه، وبخاصة فيما ورد عن إمام هذا النوع فى التفسير المنسوب إليه، وفى كتابيه «الفتوحات المكية» و «الفصوص» لا يمكننا أن نعتبر ذلك تفسيرا للقرآن، وإنما هو فكر شاذ أريد به الذيوع، عن طريق التستر بزى تفسير الكلام الإلهى، وعباءة البيان القرآنى، لأن هذا التفسير قائم على القول بوحدة الوجود، ومعناه عندهم أنه ليس هناك إلا وجود واحد، كل العالم مظاهر ومجال له، فالله عندهم هو الموجود بحق، وكل ما عداه أوهام وخيالات، ووصفها بالوجود إنما هو على سبيل المجاز، فإذا أضيف إلى ذلك بقية الأفكار الفلسفية التى تتعارض مع الإسلام، والتى قام عليها هذا التفسير، كان ذلك أدعى إلى نبذ هذا التفسير، لأنه انحراف ظاهر، وشذوذ واضح. أما التفسير الإشارى: فرغم أنه لا ينفى الظاهر المراد، فقد رأينا فيه أيضا العجب العجاب، بحيث إنه لا يمكننا فى كثير منه- إن لم يكن فى أكثره- الجمع بين ما يقال إنه إشارات إلهية والظاهر المراد، وأرى أن الأولى لنا- فيما لم يكن ظاهره البطلان والفساد- التوقف فى قبوله، لأنه مبنى على الوجدان، وهذا أمر لا نقطع بصحته لصاحبه، إضافة إلى أنه يفتح المجال واسعا لادعاء الكاذبين فى التقول على الله- تعالى- بغير علم. وإذا كان الآلوسي يقول فى مقدمة تفسيره: «فالإنصاف كل الإنصاف التسليم للسادة الصوفية، الذين هم مركز للدائرة المحمدية ما هم عليه، واتهام ذهنك السقيم فيما لم يصل لكثرة العوائق والعلائق إليه. وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار». (¬84) فإن الدكتور/ محمد الذهبى- رحمه الله- يعقب على قوله هذا وعلى قول مثله لابن عربى بقوله: «ومثل هذه الأقوال أشبه ما تكون بالإكراه لنا على قبول وجدانيات القوم وشطحاتهم مهما أوغلت فى البعد والغرابة، وتوريط لنا بتسليم كل ما يقولون تحت تأثير ما لهم فى نفوسنا من المكانة العلمية والدينية». إلى أن يقول: «إن مثل هذه التفاسير الغريبة للقرآن مزلة قدم لمن لم يعرف مقاصد القوم، وليتهم احتفظوا بها ¬

(¬84) روح المعانى: 1/ 18، ط./ دار الفكر.

19 - التفسير الفلسفى:

عند أنفسهم، ولم يذيعوها على الناس فيوقعهم فى حيرة واختلاف، إذا لأراحونا من هذه الحيرة وأراحوا أنفسهم من كلام الناس فيهم، وقذف البعض لهم بالكفر والإلحاد فى آيات الله». (¬85) 19 - التفسير الفلسفى: ومن العلماء من اتجه فى تفسير القرآن اتجاها فلسفيا. ففي العهد العباسى شجع العباسيون حركة الترجمة إلى العربية بصورة كبيرة وخطيرة فى الوقت ذاته، حتى أضحت بغداد كعبة علمية وجامعة ثقافية، يفد إليها طلاب العلم من كل حدب ينسلون، ومن الكتب التى ترجمت كتب الفلسفة، التى وقف حيالها علماء المسلمين فريقين: (أ) فريق معارض محارب، حيث رآها تتعارض مع القرآن الكريم، وكان على قمة هذا الفريق الإمام أبو حامد الغزالى، والفخر الرازى، الذى امتلأ تفسيره بالرد على هذه الفلسفة، فى المواضع المناسبة. (ب) وفريق أعجب بها إلى حد كبير، رغم هذا التعارض الظاهر، لأنه رأى أنه يمكن التوفيق بين القرآن والفلسفة بإحدى وسيلتين: 1 - الوسيلة الأولى: تأويل النص القرآنى بما يساير أقوال الفلاسفة، وهذا من الخطورة بمكان، لأن فيه ليّا لعنق الآية الكريمة، وإكراه ألفاظها على معان لا تحتملها، وليست مرادة لله- عز وجل- من قرآنه، هذا فوق ما فيه من شطط واضح، وإلحاد ظاهر فى آيات الله. 2 - الوسيلة الثانية: شرح النصوص القرآنية بآراء الفلاسفة، وتلك أخطر من سابقتها، حيث تجعل كلام الفيلسوف هو الأصل المتبوع، وكلام الله- عز وجل- هو الفرع التابع، وفى هذا قلب للموازين، وإلحاد أعظم وأخطر من سابقه. ولكن هذا التوفيق رغم الجهد الجهيد من أصحابه، كان فى غاية الضعف والهزال، ولذلك لم يجد من تصدى لهدم تلك الآراء الفلسفية صعوبة فى الإتيان عليها من قواعدها، فخر عليها سقفها من فوقها. المؤلفات فى التفسير الفلسفى: المتتبع لمؤلفات من طغت عليهم تلك النزعة التفسيرية، لا يرى لهم تفسيرا كاملا للقرآن الكريم، وإنما هى شروح مبثوثة لهم ضمن مؤلفاتهم، ومن أبرز هؤلاء: 1 - أبو نصر الفارابى المتوفى سنة 339 هـ، فى كتابه «فصوص الحكم». (¬86) ¬

(¬85) التفسير والمفسرون: 2/ 408 بشيء من الاختصار. (¬86) انظر نماذج لذلك فى «فصوص الحكم»: 146 - 175، ط/ السعادة.

20 - التفسير الأدبى الاجتماعى:

2 - إخوان الصفا، الذين يمتون فى أغلب الظن بصلة إلى الباطنية الإسماعيلية، حيث كانت لهم رسائل عرفت باسمهم «رسائل إخوان الصفا»، ضمنوها كثيرا من هذه التأويلات الملحدة. (¬87) 3 - ابن سينا المتوفى سنة 370 هـ، ويعتبر بطل هذه النزعة، وكان له مسلك خطير فى ذلك، حيث كان يقوم على إلغاء الظاهر، واعتباره رمزا لمعان أخرى، ففسر الجنة والنار والصراط، والملائكة والشياطين، وغير ذلك تفسيرا يخرج بالإنسان عن ملة الإسلام، حيث يسلبه الفهم الصحيح لأركان الإسلام، ومقومات الإيمان. (¬88) 20 - التفسير الأدبى الاجتماعى: وهو لون جديد من ألوان التفسير ظهر فى العصر الحديث، أراد به رواده البعد عن المباحث التحليلية الدقيقة، والمصطلحات والتخصصات العميقة، التى ربما تقف حائلا دون هداية الناس إلى المراد من إنزال القرآن الكريم. فتناولوا بيان النص القرآنى بطريقة تظهر مواضع دقته وبلاغته، بأسلوب شائق جذاب، ثم طبقوا ذلك النص على ما فى الكون من نظم العمران، وسنن الاجتماع، بما يظهر للناس أن سعادتهم فى الدنيا وفوزهم فى الآخرة رهن العمل بهذا القرآن. رواد هذا الاتجاه: وأهم رواد هذا الاتجاه: الشيخ محمد عبده، الذى يعتبر زعيم وعميد هذا الاتجاه، وتلميذه البار به الشيخ الأستاذ محمد رشيد رضا، والشيخ محمد مصطفى المراغى شيخ الجامع الأزهر. ومن أبرز مزايا هذا الاتجاه: (¬89) 1 - بيان أن القرآن الكريم هو الأصل فى التشريع. 2 - إظهار ما فى القرآن الكريم من شفاء لكل الأمراض الاجتماعية. 3 - تفنيد كل الشبهات التى أثيرت حول الإسلام. 4 - البعد عن الأحاديث الموضوعة والضعيفة. 5 - تحذير الناس من الإسرائيليات، لما لها من آثار خطيرة فى التفسير، بل فى العقيدة ذاتها، لأنها تصور الإسلام على أنه دين خرافات وأوهام. ولكن أصحاب هذه الاتجاه، وقعوا فيما حذروا الناس منه، فرأيناهم فى بعض المواضع يروون تلك الإسرائيليات ولا يعقبون عليها، كذلك رأيناهم يرجعون إلى التوراة والإنجيل، ويفسرون بهما مبهمات القرآن ¬

(¬87) انظر نماذج لذلك فى رسائل إخوان الصفا: 1/ 91، 98، 4/ 110، 172 - 185، ط. تحفة الأخبار. (¬88) انظر نماذج لذلك فى رسائل ابن سينا: 124 - 132، طبعة/ الهند 1908. (¬89) انظر ذلك بالتفصيل فى كتابنا: التفسير بالرأى: 311 - 341، طبعة/ الحسين الإسلامية.

ومجمله، بل تجاوزوا حدهم حينما رأيناهم أحيانا يصرفون المعنى المتبادر من ظاهر النص القرآنى، ليوافق ما جاء فى التوراة. 6 - عدم الخوض فيما استأثر الله- تعالى- بعلمه، وعدم التكلف- غالبا- فى تعيين مبهمات القرآن، حتى يظل للإسلام نبعه الصافى بعيدا عن الظنون والتخيلات. 7 - سهولة العبارة وبلاغتها، وعدم استخدام مصطلحات العلوم والفنون، إلا بقدر الضرورة، لأن الزج بتلك المصطلحات يصرف الناس عن تدبر القرآن، والعمل به. أما عن عيوب هذا الاتجاه فيأتى على رأسها ما يلى: 1 - الحرية المطلقة للعقل فى فهم النصوص الشرعية، فلئن قال الزمخشرى المعتزلى قديما: «امش فى دينك تحت راية السلطان- أى العقل- ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان». (¬90) فإن عميد هذا الاتجاه وهو الشيخ محمد عبده حيث يقول عن العقل: «ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه». (¬91) ويقول أيضا: «إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل». (¬92) بل إن الشيخ عبد العزيز جاويش أحد أتباع هذا الاتجاه يقول: «إن من الممكن أن تصل العقول البشرية بالبحث والتنقيب والتجارب إلى ما تصبو إليه النفس الإنسانية من مراتب الكمال فى الأحكام والتصورات، والنظم الاجتماعية، والمسائل العلمية، والآداب الخلقية». (¬93) لقد نسى هؤلاء أو تناسوا أنه لا تعارض على الإطلاق بين الدين والعقل، أو بين الدين والعلم، وإذا كان العقل يستطيع أن يصل إلى قمة التشريع فى كل نواحى الحياة فلماذا أرسل الله الرسل؟ ولماذا قال تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15]؟ 2 - ونتيجة لهذا الخطأ القاتل وجدناهم يقعون فى خطأ آخر وهو: صرف النصوص الشرعية عن ظواهرها لتتفق مع عقولهم القاصرة، بما أدى بهم فى النهاية إلى إنكار أشياء ثابتة بالشرع ثبوتا حقيقيا، ومتواترة باللفظ والمعنى من جيل إلى جيل، وتذرعوا فى ذلك بالتمثيل والتخييل، فأنكروا الملائكة، والجن، والسحر، والمعجزات الحسية. 3 - ومن عيوب هذا الاتجاه أيضا: رد الأحاديث الصحيحة، التى تتعارض مع مبادئهم، بزعم أنها أحاديث آحاد، أو باحتمال ¬

(¬90) أطواق الذهب للزمخشرى: 110، ط./ دار الفضيلة. (¬91) الإسلام والنصرانية للشيخ محمد عبده: 51، طبعة/ محمد صبيح. (¬92) المصدر السابق: 52، 53. (¬93) الإسلام دين الفطرة والحرية، لعبد العزيز جاويش 137، ط./ دار المعارف.

أهم المصنفات فى هذا الاتجاه:

أن الصحابة حدثوا بها عن أهل الكتاب، ونحو ذلك من التعليلات الباطلة التى لا تستطيع الصمود أمام النقد العلمى النزيه. أهم المصنفات فى هذا الاتجاه: 1 - تفسير جزء «عم» للشيخ محمد عبده. 2 - «تفسير المنار» لرشيد رضا. 3 - «تفسير المراغى» للشيخ محمد مصطفى المراغى. 4 - «تفسير القرآن الكريم» للشيخ محمود شلتوت من أول الجزء الأول من القرآن إلى نهاية الجزء العاشر منه. 21 - التفسير الموضوعى: كما اهتم العلماء بدراسة السورة القرآنية كلها من أول آية منها إلى آخر آية فيها، مهما تعددت موضوعاتها، فقد اهتموا كذلك بإفراد موضوع خاص بالبحث والتحليل، وعرف ذلك فى الوسط التفسيرى ب «التفسير الموضوعى». وقد بدا ذلك الاهتمام فى نواح ثلاث: 1 - دراسة موضوعات تتعلق بمفردات القرآن، أو أساليبه، أو بيان ناسخه ومنسوخه، أو أسباب نزوله، ونحو ذلك. مثل: «مفردات القرآن» للراغب الأصفهانى، و «التبيان فى أقسام القرآن» لابن القيم، و «الناسخ والمنسوخ» لأبى جعفر النحاس، و «أسباب النزول»، لكل من الواحدى والسيوطى. 2 - الوحدة الموضوعية للسورة، وذلك بالكلام عن السورة ككل، من ناحية أغراضها العامة والخاصة، مع ربط موضوعاتها، بعضها ببعض، حتى تبدو السورة، وهى فى منتهى التناسق والإحكام، وكأنها عقد من لؤلؤ منظوم فى غاية الإبداع. يقول الشاطبى: «إن السورة الواحدة مهما تعددت قضاياها فهى تكون قضية واحدة، تهدف إلى غرض واحد، أو تسعى لإتمامه، وإن اشتملت على عديد من المعانى». (¬94) ومن أبرز من اهتم بهذه الناحية الفخر الرازى- رحمه الله- فى تفسيره «مفاتيح الغيب» ثم البقاعى فى تفسيره «نظم الدرر» ثم سيد قطب فى تفسيره «فى ظلال القرآن» بصورة لم يسبق إليها، ولم يقاربه فيها أحد إلى الآن، وكذلك الدكتور محمد محمود حجازى فى رسالة الدكتوراة «الوحدة الموضوعية فى القرآن الكريم»، وفى تفسيره المسمى ب «التفسير الواضح». 3 - جمع الآيات القرآنية التى تتحدث عن موضوع واحد من موضوعات العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق وغيرها، ¬

(¬94) الموافقات: 3/ 249، ط./ محمد صبيح.

منهج الدراسة فى التفسير الموضوعى:

وبيانها بالشرح والتحليل والاستنباط، وذلك منهج حديث معاصر، اهتمت به كلية أصول الدين فى جامعة الأزهر، اهتماما عظيما، حيث قعّدت قواعده، وأصّلت أصوله، وخطّت منهجه الواضح من خلال جعله مادة مقررة على طلابها، ومن خلال توجيه همة طلاب الدراسات العليا فى مرحلتى الماجستير والدكتوراة لإعداد رسائل فى موضوعات هذا النوع من التفسير. وهذه الأنواع الثلاثة التى تهتم بإفراد موضوع خاص من الموضوعات التى تتعلق بالقرآن الكريم لم تظهر فى وقت واحد، وإنما ظهرت على مراحل متدرجة، فأقدمها النوع الأول، يليه الثانى، ثم الثالث، وإن كان الثالث يضرب بجذوره فى القدم، ليصل إلى العهد النبوى، ويدل على ذلك تفسيره صلّى الله عليه وسلم للظلم المراد فى قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82] بقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]، فقد جمع الرسول صلّى الله عليه وسلم الآيات التى تتحدث عن موضوع واحد وهو الظلم، وخرج لنا بالمعنى المراد لله- تعالى- منه فى سورة الأنعام. ولكن هذا النوع الثالث، لم تكتمل صورته، ولم يأخذ سماته الأخيرة وشكله النهائى ومنهجه الواضح إلا فى هذا العصر الحديث على أيدى أساتذة كلية أصول الدين جامعة الأزهر كما سبق ذكره. (ملاحظة): مصطلح التفسير الموضوعى إذا أطلق الآن لم يرد منه إلا هذا النوع الثالث، الذى نستطيع وضع تعريف له على النحو التالى: التفسير الموضوعى هو: بيان مراد الله- تعالى- بقدر الطاقة البشرية- فى موضوع معين من موضوعات القرآن الكريم، عن طريق جمع الآيات الخاصة به، ودراستها وفق منهج خاص، يبرز لنا هدف هذا الموضوع وأبعاده، ويبين غنى الإسلام تماما عن كل منهج سواه، ويوضح أن السعادة كل السعادة فى اتباع المنهج الإلهى، والشقاء كل الشقاء فى الإعراض عنه. منهج الدراسة فى التفسير الموضوعى: تتمثل أبرز نقاط هذا المنهج فى الخطوات الآتية: 1 - اختيار الموضوع القرآنى المراد دراسته دراسة موضوعية، ووضع اسم خاص له. 2 - حصر آيات هذا الموضوع مكيها

المصنفات فى التفسير الموضوعى:

ومدنيها، وعدم ترك آية منه، فقد تمثل تلك الآية الحكم النهائى فى الموضوع، فيخرج الحكم خاطئا. 3 - ترتيب آيات هذا الموضوع ترتيبا زمانيا قدر الإمكان، حسب نزولها على النبى صلّى الله عليه وسلم. 4 - الاستعانة بأسباب نزول هذه الآيات. 5 - الاستعانة بالأحاديث النبوية وآثار السلف الخاصة بالموضوع. 6 - بيان مناسبة كل آية من هذه الآيات فى سورها. 7 - دراسة هذه الآيات دراسة موضوعية متكاملة، يراعى فيها التوفيق بين مطلقها ومقيدها، وعامها وخاصها، ودفع ما يوهم التعارض بين ظاهرها، والتنبيه على ناسخها ومنسوخها، بحيث تلتقى الآيات وما استعين به من أحاديث وآثار فى مصب واحد، دون لىّ عنق إحداها على معنى لا تحتمله. 8 - وفى النهاية يصاغ الموضوع صياغة جيدة بأسلوب شائق، ويوضع فى إطار جميل، وهيكل متناسق. المصنفات فى التفسير الموضوعى: والمصنفات فى التفسير الموضوعى بمعناه الشائع الذى وضحناه بلغت من الكثرة ما يفوق الحصر، خاصة بعد أن حذت الجامعات الإسلامية، وأقسام الدراسات الإسلامية والعربية فى مصر وفى جميع أنحاء العالم حذو- كلية أصول الدين- بجامعة الأزهر فى هذا الاتجاه، وفتحت أعين المهتمين بالدراسات القرآنية فى هذا المجال، بالدرجة التى يستحيل على أى باحث حصر الإنتاج العلمى العالمى فى التفسير الموضوعى، ولكننا نذكر على سبيل المثال بعضا من هذه المصنفات: 1 - «المرأة فى القرآن الكريم»، لعباس العقاد. 2 - «الربا فى القرآن الكريم»، لأبى الأعلى المودودى. 3 - «الوصايا العشر»، لشيخ الأزهر الأسبق، الشيخ محمود شلتوت. 4 - «البداية فى التفسير الموضوعى»، للدكتور/ عبد الحى الفرماوى. 5 - «الجدل فى القرآن الكريم»، للدكتور/ زاهر عواض الألمعى. 6 - «الجيش المسلم، غايته وقيادته وجنده فى ضوء القرآن الكريم»، للدكتور/ جمال مصطفى عبد الحميد النجار. 22 - الترجيحات فى التفسير: قلنا سابقا إن الاختلاف بين المفسرين قسمان: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد،

المرجحات فى التفسير 97:

واختلاف التنوع يمكن لنا الجمع بين الأقوال فيه، أما اختلاف التضاد فلا يمكن لنا الجمع فيه بين تلك الأقوال. وموقفنا مع روايات السلف التى لا يمكن الجمع بينها كالآتى: (أ) إن كان فى الروايتين أو الروايات صحيح وضعيف، قدم الصحيح على الضعيف. (ب) وإن كانت الروايات كلها صحيحة رجحنا ما كان منها معتمدا على الشرع، فإن لم يكن شرع يقوى أيا منها أخذنا ما اعتمد على دليل من اللغة أو غيرها. فإن تعارضت الأدلة أو لم نستطع ترجيح قول على آخر بأى وسيلة فوضنا الأمر لله- تعالى- وآمنا بما جاء فى كتابه، ويعامل هذا النص القرآنى معاملة المتشابه. قال الإمام أبو طالب الطبرى- فيما ينقله عنه السيوطى فى شأن اختلاف الصحابة: «وإذا تعارضت أقوالهم وأمكن الجمع بينها فعل، نحو أن يتكلم على الصراط المستقيم، وأقوالهم فيه ترجع إلى شىء واحد، فيدخل منها ما يدخل فى الجمع، فلا تنافى بين القرآن، وطريق الأنبياء، وطريق السنة، وطريق النبى صلّى الله عليه وسلم، وطريق أبى بكر وعمر، فأى هذه الأقوال أفرده كان محسنا. وإن تعارضت رد الأمر إلى ما ثبت فيه السمع، فإن لم يجد سمعا وكان للاستدلال طريق إلى تقوية أحدها رجح ما قوى الاستدلال فيه، وإن تعارضت الأدلة فى المراد، علم أنه قد اشتبه عليهم، فيؤمن بمراد الله- تعالى- ولا يتهجم على تعيينه، وينزله منزلة المجمل قبل تفصيله، والمتشابه قبل تبيينه». (¬95) هذا كله إذا كانت الروايات واردة عن شخصين أو أكثر، فإن كانت واردة عن شخص واحد قدمنا الصحيح على غيره، فإن كانت مستوية فى الصحة قدم المتأخر على المتقدم، فإن لم نعرف المتأخر من هذه الروايات الصحيحة سلكنا معها مثل ما سلكنا مع الروايات الصحيحة الواردة عن شخصين أو أكثر. ويرى بعض العلماء- كالزركشى- أنه إذا تعذر الجمع بين أقوال الصحابة قدم قول ابن عباس- رضى الله عنهما- على غيره، لدعاء النبى صلّى الله عليه وسلم له، بينما يرى الشافعى- رحمه الله- تقديم قول زيد بن ثابت فى مسائل المواريث، لشهادة رسول الله صلّى الله عليه وسلم له فيها. (¬96) المرجحات فى التفسير (¬97): بالإضافة إلى ما قررناه الآن يوجد عدة مرجحات يرجع إليها، لترجيح رأى على غيره، ويأتى على رأس هذه المرجحات: ¬

(¬95) الإتقان: 2/ 176. (¬96) البرهان: 2/ 313. (¬97) انظر هذا الموضوع بتوسع فى كتابنا: التفسير بالرأى 115 - 226.

أولا: مرجحات قرآنية:

1 - مرجحات قرآنية. 2 - مرجحات حديثية. 3 - مرجحات إجماعية. 4 - مرجحات تاريخية. 5 - مرجحات لغوية. أولا: مرجحات قرآنية: وأبرز هذه المرجحات ما يأتى: 1 - قبول ما وافق القرآن، ورد ما خالفه. 2 - ترجيح ما تأيد بالقرآن على غيره. 3 - قبول القول المبنى على قراءة متواترة، ورد ما بنى على قراءة شاذة. 4 - القول المبنى على قراءة ثابتة مقدم على القول المبنى على ردّ هذه القراءة. 5 - ترجيح ما وافق رسم المصحف، على ما خالفه. 6 - ترجيح ما كان موافقا للسياق القرآنى على غيره. ثانيا: مرجحات حديثية: وأبرزها ما يلى: 1 - القول المؤيد بالحديث مرجح على غيره. 2 - ترجيح ما وافق السنة على ما خالفها. 3 - القول المؤيد بسبب النزول مقدم على غيره. ثالثا: مرجحات إجماعية: ويأتى على رأسها: كل ما خالف الإجماع فهو مردود. رابعا: مرجحات تاريخية: ويأتى على رأسها: القول المؤيد بالتاريخ مقدم على المخالف للتاريخ. خامسا: مرجحات لغوية: ويأتى على رأسها: 1 - تقديم ما كان موافقا لظاهر اللفظ القرآنى المعهود، على ما كان مخالفا له. 2 - تقديم المعهود من كلام العرب على غيره. 3 - تقديم المعنى الشرعى على المعنى اللغوى. 4 - القول بالحقيقة مقدم على القول بالمجاز، إن لم تكن قرينة تؤيد المجاز. 5 - تقديم المعنى العرفى على المعنى اللغوى. 6 - الأصل وجوب حمل الكلام على الترتيب دون ادعاء تقديم أو تأخير فى الألفاظ.

23 - الدخيل فى التفسير:

7 - متى صح القول بعدم القلب فلا يجوز القول به. (¬98) 8 - القول بعدم الزيادة أرجح من القول بها. 9 - القول بالتغاير أولى من القول بالترادف. 10 - تقديم القول بالعموم على القول بالخصوص، بدون دليل. 11 - تقديم القول بالإطلاق على القول بالتقييد بدون دليل. 12 - القول بعدم الحذف مقدم على القول بالحذف. 13 - ترجيح المؤيد بالتصريف أو الاشتقاق على غيره. 14 - الأصل فى الأمر الوجوب، وفى النهى التحريم. 15 - تقديم القول بالتأسيس على القول بالتأكيد. 23 - الدخيل فى التفسير: حينما يسمع الإنسان كلمة (دخيل) يتبادر إلى ذهنه كلمة (أصيل)، وبيانهما هنا فى غاية الأهمية، لأننا لا نستطيع أن نقف على الدخيل فى التفسير إلا إذا وقفنا على الأصيل فيه. وكلمة الأصيل لغة تطلق على عدة معان يجمعها قدر مشترك، وهو: ما له أساس متين، وأصل ثابت مكين. (¬99) أما فى مجال التفسير فيطلق على: ما ثبت عن طريق القرآن أو السنة أو أقوال الصحابة أو التابعين ثبوتا مقبولا، وعلى ما ورد عن طريق التفسير بالرأى المحمود. وذلك لأن نظر المفسر يتجه أول ما يتجه فى بيان المراد إلى القرآن ذاته فإن لم يجد فيه ما يفسر به نظر إلى السنة، فإن لم يجد فيها اتجه إلى أقوال الصحابة ثم أقوال التابعين، فإن لم يجد، أعمل رأيه وكدّ ذهنه للوصول إلى المراد بعد توافر شروط وأدوات وعلوم المفسر فيه. أما الدخيل فيطلق لغة على عدة معان، يقول ابن منظور: «والدّخل: ما داخل الإنسان من فساد فى عقل، أو جسم، والدّخل والدّخل: العيب الداخل فى الحسب، وفلان دخيل فى بنى فلان، إذا كان من غيرهم، فتدخل فيهم». (¬100) وعلى ذلك فالدخيل لغة: يطلق على ما ليس له أصل ثابت، ولم يقم على أساس متين أو ركن ركين، فى ذلك المجال الذى اقتحمه. وبناء على تقسيمنا الأصيل إلى الأصيل فى المأثور (القرآن والسنة وأقوال الصحابة ¬

(¬98) المقصود من قلب الكلام: أن بعض ألفاظه قد حلّ مكان بعض آخر منه، وأخذ حكمه أيضا، أما التقديم والتأخير فلا يأخذ أحدهما حكم الآخر. (¬99) انظر لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير، مادة (أصل). (¬100) لسان لعرب (دخل). باختصار.

أنواع الدخيل فى المأثور:

والتابعين) وأصيل فى الرأى، وهو الرأى المحمود، فإننا نستطيع أن نقسم الدخيل إلى دخيل فى المأثور، ودخيل فى الرأى، ونقول إن الدخيل فى الاصطلاح هو: ما نسب كذبا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو إلى صحابى، أو تابعى، أو ما ثبتت روايته عن صحابى أو تابعى، ولكن هذه الرواية فقدت شروط القبول، وعلى ما صدر عن رأى فاسد، لم تتوافر فيه شروط التفسير بالرأى المحمود. أنواع الدخيل فى المأثور: ويضم الدخيل فى المأثور الأنواع التالية: 1 - الأحاديث الموضوعة على الرسول صلّى الله عليه وسلم. 2 - الأحاديث الضعيفة، خاصة إذا كان ضعفها لا ينجبر بحال، وفق ما قرره علماء الحديث. 3 - الإسرائيليات المخالفة للقرآن والسنة، وكذلك التى يعبر عنها بالمسكوت عنه، حيث لا مؤيد لها ولا مخالف لها فى شرعنا. 4 - ما نسب إلى الصحابة ولم يثبت عنهم. 5 - ما نسب إلى التابعين ولم يثبت عنهم. 6 - ما تعارض من أقوال الصحابة أو أقوال التابعين مع القرآن أو السنة أو العقل تعارضا حقيقيا لا يمكن الجمع بينه وبين هذه الأشياء. أنواع الدخيل فى الرأى: تتعدد أنواع الدخيل فى الرأى وفقا لسبب الخطأ فى التفسير بالرأى، فهذه الأسباب متعددة يأتى على رأسها ما يلى: 1 - الإلحاد فى آيات الله- تعالى- مع سوء القصد. 2 - الأخذ بظاهر المنقول، دون النظر إلى ما يليق بذاته- تعالى- وما لا يليق. 3 - تحريف النصوص الشرعية عن مواضعها، وتعطيلها وصرفها عن ظواهرها. 4 - التنطع فى استخراج معان من بطون النصوص، دون دليل عليها. 5 - التنطع فى اللغة والنحو، والخروج عن القواعد المألوفة فيهما. 6 - تفسير القرآن مع فقد شروط وأدوات وعلوم المفسر. 7 - التكلف فى التوفيق بين النصوص القرآنية، ومكتشفات العلم الحديث. وبناء على تلك الأسباب، فإن لكل سبب نوعا من أنواع الدخيل على النحو التالى:

24 - الإسرائيليات فى التفسير:

1 - الدخيل عن طريق الملاحدة، ويأتى على رأس هؤلاء فرق الباطنية قديما، والبهائية والقاديانية حديثا. 2 - الدخيل عن طريق المشبّهة والمجسّمة. 3 - الدخيل عن طريق الفرق الإسلامية المبتدعة، كالشيعة والمعتزلة والخوارج. 4 - الدخيل عن طريق الشطحات الصوفية. 5 - الدخيل عن طريق اللغة والنحو. 6 - الدخيل عن طريق افتقاد المفسر لأدوات التفسير. 7 - الدخيل عن طريق التفسير العلمى، كما وقع ويقع لكثير ممن يتحدثون فى الإعجاز العلمى للقرآن، بدعوى أن القرآن سبق العلماء بأكثر من أربعة عشر قرنا فى الحديث عن أمور تتعلق بالكون والنفس، ولم يعرف عنها العلماء شيئا إلا فى أيامنا هذه. 24 - الإسرائيليات فى التفسير: هذا النوع من أخطر أنواع الدخيل فى التفسير بالمأثور. ولفظة (الإسرائيليات) جمع، مفردها إسرائيلية، وهى فى أصل إطلاقها حكاية أو قصة تذكر عن مصدر إسرائيلى، نسبة إلى بنى إسرائيل، وبنو إسرائيل ينسبون إلى جدهم الأعلى إسرائيل عليه السّلام، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله تعالى. ولفظ بنى إسرائيل يطلق على كل من جاء من ذرية إسرائيل عليه السّلام إلى عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولكن غلب إطلاق لفظ اليهود على من تناسل من أبناء يعقوب ولم يؤمن بعيسى عليه السّلام، أما من آمن بعيسى منهم فيطلق عليهم النصارى. وقد توسع العلماء فى إطلاق تلك التسمية (الإسرائيليات) حتى صارت تطلق على كل ما تطرق إلى التفسير والحديث من أساطير قديمة، يهودية أو نصرانية وغيرها، وعلى ما لا أصل له فى مصدر قديم، وعلى ما دسّه أعداء الإسلام كذبا وزورا ليشوهوا به صورة هذا الدين العظيم. وإنما غلّب اللون اليهودى على غيره، لأن غالب ما دخل من الخرافات والأباطيل فى كتب التفسير كان عن طريق اليهود. وكان من أبرز أسباب دخول الإسرائيليات فى حقل الثقافة الإسلامية ما يأتى: 1 - اعتناق طائفة من اليهود الإسلام نفاقا، ليحاربوا الإسلام، من داخل صفوفه بعد أن عجزوا عن محاربته وجها لوجه، كما حدث من عبد الله بن سبأ اليهودى.

أقسام الإسرائيليات:

2 - اعتناق جماعة من أهل الكتاب الإسلام عن حب واقتناع، مثل عبد الله بن سلام، وتميم الدارى، وكعب الأحبار، وجلوس بعض من المسلمين إليهم ليحدثوهم عن تفصيل بعض ما أجمل فى القرآن، من قصص الأنبياء، والأمم السابقة. أقسام الإسرائيليات: تنقسم الإسرائيليات من حيث صدقها وكذبها إلى ثلاثة أقسام: 1 - القسم الأول: ما جاء موافقا لما فى شرعنا، فهذا نؤمن به ونصدقه، ومثاله: ما جاء فى «صحيح البخارى» وغيره فى صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى التوراة، وأنه موصوف فيها كصفته فى القرآن، حيث قال عطاء بن يسار لعبد الله بن عمرو: «أخبرنى عن صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى التوراة، فقال له: والله إنه لموصوف فى التوراة كصفته فى القرآن ... ». الخ (¬101) 2 - القسم الثانى: ما جاء مخالفا لما فى شرعنا، كتلك الروايات التى تصف الله- تعالى- ورسله- عليهم السلام- بما لا يليق، كتعب الله- تعالى- من خلق السموات والأرض، وحزنه على خلق الإنسان لما رأى كثرة ذنوبه، وزنا لوط بابنتيه، وحملهما وإنجابهما منه، وزنا داود بامرأة أوريا وحملها منه سفاحا، وصنع هارون العجل الذى عبده بنو إسرائيل، فهذا القسم مرفوض مردود، لا يجوز تصديقه بحال من الأحوال. 3 - القسم الثالث: ما هو مسكوت عنه، لعدم وجود دليل فى شرعنا يؤيده، أو يرفضه، وهذا القسم غالبه مما لا فائدة فيه، مثل تعيين بعض البقرة الذى ضرب به قتيل بنى إسرائيل، والشجرة التى أكل منها آدم- عليه السلام. وهذا القسم نتوقف فى الحكم عليه، فلا نصفه بالصدق أو الكذب، لعدم وجود دليل يبين لنا صدقه من كذبه، وعليه يحمل حديث «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم». (¬102) حكم رواية الإسرائيليات: 1 - القسم الأول وهو الموافق لشرعنا: تجوز روايته، وعليه يحمل حديث: «وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج». (¬103) وسائر النصوص المشابهة. 2 - أما القسم الثانى وهو المخالف لشرعنا: فلا تجوز روايته، ولا يعقل أن تحمل عليه النصوص الدالة على التحديث عنهم، لأن رواية المكذوب لا تجوز إلا إذا اقترنت ببيان كذبها. 3 - أما القسم الثالث وهو المسكوت عنه: ¬

(¬101) انظر صحيح البخارى، كتاب التفسير، تفسير سورة الفتح، وكتاب البيوع، باب كراهية الصخب فى السوق. (¬102) البخارى: كتاب التفسير، باب (وقالوا اتخذ الله ولدا). (¬103) البخارى: كتاب الأنبياء (فتح البارى: 6/ 496).

25 - بدع التفاسير وغرائبه:

فإن بعض العلماء، كابن تيمية والدكتور محمد الذهبى (¬104) - رحمهما الله تعالى- يرى جواز روايته، استنادا لما فهموه من الإباحة فى حديث «حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج» ولكن بعضا من العلماء رفضوا رواية هذا القسم، وقالوا كما توقفنا فى تصديقه نتوقف فى روايته، فأى تصديق لرواياته أقوى من أن نقرنها بالقرآن الكريم، فيتوهم القارئ أن فيها تفصيلا لما أجمل، وتبيينا لما أبهم؟ وعلى رأس هؤلاء الرافضين الدكتور محمد أبو زهو، والشيخ أحمد شاكر والدكتور/ عبد الوهاب عبد الوهاب فائد- رحمهم الله جميعا- (¬105) وهو رأى فى غاية القوة، وأحق أن يتبع، سدا للذريعة، وصيانة لصورة الإسلام العظيم، وكتابه الحكيم. 25 - بدع التفاسير وغرائبه: ويقصد بهذا العنوان تلك المفاهيم التى استحدثها بعض الناس، ووضعوها لمعان عجيبة ودخيلة على فهم السلف الصالح، وعلماء الأمة المعتدّ بهم، فى بيان المعنى المراد من النص القرآنى. وعلى هذا: فإن بدع التفاسير وغرائبه تعتبر من الدخيل فى التفسير بالرأى. أسباب هذه البدع والغرائب: يمكننا أن نعتبر كل ما ذكرناه من أسباب الدخيل فى التفسير بالرأى أسبابا لهذه البدع والغرائب، ولكننا نخص بعضها هنا بالذكر، وعلى رأسها ما يأتى: 1 - عدم اجتناب الأمور التى يجب على المفسر اجتنابها. 2 - تفسير القرآن باللغات الغريبة النادرة. 3 - تخريج إعراب القرآن على الوجوه الضعيفة أو الشاذة. 4 - عدم مراعاة سياق الآية. 5 - تحريف الكلم عن موضعه، بتقطيع اللفظة الواحدة إلى لفظتين، أو تحويل اللفظتين إلى لفظة واحدة. ومن أمثلة تلك البدع والغرائب: 1 - ما ذكره الزمخشرى والمعتزلة فى تفسير قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [البقرة: 255] بأن المراد بالكرسى: علم الله تعالى. 2 - ما ذكره بعض المتصوفة فى الآية نفسها، فى قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ بأن المعنى (من ذلّ)، من الذل (ذى) يعنى النفس (يشف) من الشفاء، (ع) من الوعى، فقطعوا الكلمة الواحدة إلى أجزاء، وعلى عكس ذلك جعلوا ¬

(¬104) انظر: مقدمة فى أصول التفسير: 34، والإسرائيليات للذهبى: 86، 87، طبعة/ مجمع البحوث الإسلامية. (¬105) انظر رأيهم فى: عمدة التفسير، للشيخ أحمد شاكر: 1/ 15، طبعة/ دار المعارف، والدخيل للدكتور فائد: 1/ 157، طبعة حسان.

26 - ضوابط سلامة التفسير:

الكلمتين كلمة واحدة، فى تفسير قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69] حيث جعلوا من (اللام) و (مع) التى تفيد المعية كلمة واحدة، من اللمعان، فقالوا: إن (لمع) بمعنى أضاء. (¬106) 3 - وما ذكره بعضهم فى تفسير قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السّلام: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] من أن إبراهيم كان له صديق وصفه بأنه قلبه، أى ليسكن هذا الصديق إذا عاين الإحياء. (¬107) ومن الكتب التى اهتمت ببيان هذه البدع والغرائب كتاب «العجائب والغرائب» لمحمود الكرمانى، وكتاب «بدع التفاسير» لعبد الله الغمارى، وخصص لها السيوطى النوع التاسع والسبعين فى إتقانه. 26 - ضوابط سلامة التفسير: لكى يضمن المفسر سلامة تفسيره، عليه أن يراعى الضوابط الآتية: 1 - أن يتجنب ما يأتى: (أ) التفسير من غير حصول العلوم التى يجوز معها التفسير. (ب) تفسير المتشابه الذى لا يعلمه إلا الله تعالى. (ج) التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بأن يجعل مذهبه أصلا، وتفسيره فرعا. (د) التفسير مع الجزم بأن مراد الله كذا، من غير دليل قاطع. (هـ) التفسير بالهوى والاستحسان. (¬108) 2 - مراعاة سبب النزول، فإن كثيرا من الآيات يتوقف فهمها على معرفته. 3 - مطابقة التفسير لهدى النبى صلّى الله عليه وسلم وسيرته. 4 - مراعاة ما هو معروف، من نظام الكون، وسنن الاجتماع، وتاريخ البشرية العام وتاريخ العرب الخاص، ووقت نزول القرآن. 5 - مراعاة المؤاخاة بين المفردات فى النص القرآنى. 6 - ملاحظة المعانى المستعملة زمن نزول القرآن الكريم. 7 - مراعاة المعنى الحقيقى والمعنى المجازى، فقد يكون أحدهما هو المراد دون الآخر، مع ملاحظة أن الأصل هو تقديم المعنى الحقيقى، إلا لقرينة ترجح المعنى المجازى. 8 - مراعاة سياق الكلام. 9 - مراعاة الغرض الذى سيق له الكلام. ¬

(¬106) انظر التفسير والمفسرون: 2/ 409. (¬107) الإتقان: 2/ 186. (¬108) الإتقان: 2/ 83 نقلا عن ابن النقيب.

10 - تقديم المعنى الشرعى على المعنى اللغوى. 11 - تقديم المعنى العرفى على المعنى اللغوى. 12 - عدم القول بالترادف ما أمكن، فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد. 13 - اجتناب ادعاء التكرار ما أمكن، فإن التركيب يحدث معنى زائدا، وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك كثرة الألفاظ. 14 - ترك ما لا يصح سنده من أسباب النزول وأحاديث الفضائل، ففيما صحّ غنية عما لم يصح. 15 - ترك الإسرائيليات المخالفة لما فى شرعنا، وكذلك المسكوت عنها، ففيها من الخطر على العقيدة والإسلام الكثير والكثير. 16 - استعمال قواعد الترجيح، إذا تعددت الأقوال. 17 - عدم التسرع إلى التفسير بظاهر العربية، من غير نظر إلى القرآن نفسه، والمنزل عليه، والمخاطب. 18 - حمل كلام الله- تعالى- على المعنى الأغلب والأشهر من اللغات، دون توجيهه إلى الأنكر أو الشاذ، ما وجد إلى ذلك سبيلا. 19 - حمل كلام الله تعالى على عرف القرآن الخاص، ومعانيه المعهودة دون غيرها. 20 - الاعتناء بتدبر الألفاظ، ومعانى الدلالات، ومعرفة معانى الأدوات، من الأسماء والأفعال والحروف والظروف، لأن الأداة ترد بمعان مختلفة، يختلف معها المعنى باختلاف موقعها. 21 - أن يراعى ضوابط إعراب القرآن. (¬109) 22 - معرفة موضوع القرآن وهدفه، فهدف القرآن: هداية الناس إلى أحسن حال، وأفضل مآل، وكذلك التدليل على صحة نبوة النبى صلّى الله عليه وسلم، فإخراجه عن هذين الهدفين لا يجوز بحال من الأحوال، كما يلتمس بعض أصحاب التفسير العلمى لكل نظرية علمية آية من القرآن. 23 - الوقوف على عادات العرب، فإن بعض الآيات لا يمكن فهمها إلا من خلال معرفة هذه العادات. 24 - استحضار جميع الآيات التى تندرج ضمن موضوع واحد، قبل البدء فى تفسير أى آية منها، حتى يخرج بحكم صحيح. 25 - مراعاة الربط بين الآية وتذييلها، فهذا يساعد على إدراك الإعجاز القرآنى. ¬

(¬109) انظر فى ضوابط إعراب القرآن، كتاب: تفسير القرآن الكريم، أصوله وضوابطه، للدكتور على العبيد، طبعة/ الرياض.

27 - خطوات المنهج الأمثل فى التفسير:

26 - الوقوف على موهم الاختلاف والتناقض، ومعرفة إزالة هذا التناقض الظاهرى. 27 - معرفة الكليات والأفراد فى القرآن الكريم، والمراد بالكليات: الألفاظ والأساليب الواردة فى القرآن على معنى مطرد، أما الأفراد: فهى تلك الألفاظ أو الأساليب التى أتت بمعنى غير المستعمل عادة. 27 - خطوات المنهج الأمثل فى التفسير: بعد أن يراعى المفسر: 1 - توافر شروط المفسر فيه وإلمامه بالعلوم المطلوبة منه. 2 - واجتنابه الأمور المحظورة فى التفسير. 3 - والضوابط المطلوبة لسلامة تفسيره، والتى تحدثنا عن كل منها سابقا، عليه اتباع ما يلى: أولا: المرور بمصادر التفسير بالمأثور، على الترتيب الواجب، فيطلب المعنى أولا من القرآن نفسه، فإن لم يجده فمن السنة، وإلا فمن أقوال الصحابة، ثم من أقوال التابعين، على التفصيل الذى بيناه فى موضعه. ثانيا: إن لم يجد المفسر المعنى فى مصادر التفسير بالمأثور، فعليه إعمال عقله، مستعينا بالعلوم المطلوبة للمفسر، مراعيا الأمور المحظورة، وضوابط السلامة السابقة. ثالثا: ذكر مناسبة الآية لما قبلها. رابعا: ذكر سبب النزول. وقد وقع خلاف بين العلماء فى بأيهما يبدأ؟ ولعل التفصيل الذى ذكره الزركشى فى «البرهان» هو الأفضل، حيث قال- رحمه الله: «واعلم أنه جرت عادة المفسرين أن يبدءوا بذكر سبب النزول، ووقع البحث فى أنه أيهما أولى البداءة به، بتقديم السبب على المسبب؟ أو بالمناسبة؟ لأنها المصححة لنظم الكلام وهى سابقة على النزول، والتحقيق التفصيل بين أن يكون وجه المناسبة متوقفا على سبب النزول، كالآية السابقة فى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: 58]، فهذا ينبغى فيه تقديم ذكر السبب، لأنه حينئذ من باب تقديم الوسائل على المقاصد، وإن لم يتوقف على ذلك فالأولى تقديم وجه المناسبة». (¬110) خامسا: ثم البداءة بعد ذلك بالمفردات، من جهة اللغة والتصريف والاشتقاق. سادسا: ثم التعرض لما يتعلق بتراكيب الكلام، فيبدأ بإعراب ما يتوقف المعنى على إعرابه، ثم ما يتعلق بعلوم البلاغة الثلاثة، ¬

(¬110) البرهان: 1/ 129، ط. دار المعرفة.

28 - طبقات المفسرين ومدارسهم:

المعانى، فالبيان، فالبديع، لإظهار أسرار الإعجاز البلاغى. سابعا: ثم يبين المعنى المراد بعبارة سلسة بليغة، مطابقة للنص المفسّر، دون تزيد على معناه، أو إنقاص شىء من محتواه. ثامنا: استنباط ما يمكن استنباطه، من أمور تتعلق بالعقيدة، أو بالأحكام الفقهية، أو البلاغية، أو غير ذلك، فى حدود القوانين الشرعية، والقواعد اللغوية. مع ملاحظة أمرين فى غاية الأهمية: أولهما: اجتناب كل ما يعتبر من قبيل الحشو، فلا يشحن تفسيره بمسائل الإعراب، وعلل النحو، ودلائل أصول الفقه، ودلائل مسائل الفقه، فكل ذلك مقرر فى تأليف هذه العلوم، وإنما يؤخذ ذلك مسلما به فى علم التفسير، دون استدلال عليه. ثانيهما: التركيز على العنصر العملى فى القرآن، ببيان أن القرآن ليس كتاب تلاوة وثقافة فقط، ولكنه كتاب علم وعمل، فيجب على المسلمين أن يتحركوا به فى دنيا الواقع، كما فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم وصحابته الكرام- رضى الله عنهم أجمعين. 28 - طبقات المفسرين ومدارسهم: لما أنزل الله- تعالى- القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمره بتبليغ ألفاظه، وتبيين ما احتاج الناس إلى بيانه، قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67]، وقال أيضا: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44]. فامتثل النبى صلّى الله عليه وسلم لأمر ربه، فبين لهم ما كان خافيا عليهم، وأزال عن قرآنه ما التبس منه، ففهم الصحابة قرآن ربهم وعملوا به، ولما انتقل الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى جوار ربه ترك عبء الدعوة الإسلامية، وتبليغ كتاب الله- عز وجل- وتبيينه على عاتق أصحابه الكرام، فكان هؤلاء الصحب عند حسن الظن بهم، فانتشروا فى البلاد شرقا وغربا، وأسسوا للناس مدارس، تعلمهم كتاب ربهم، وتفقههم فى أمور دينهم. وقد اشتهر من بين هؤلاء الصحابة: الخلفاء الراشدون الأربعة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأبىّ بن كعب، وأبو موسى الأشعرى، وعبد الله بن الزبير، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وعائشة، وعبد الله ابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجابر بن عبد الله. ثم جاء بعد طبقة الصحابة طبقة التابعين الذين تتلمذوا على أيدى صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وما هى إلا سنوات قلائل إلا وقد وجدنا

لجهد الصحابة الثمرة المرجوة منه، حيث لم يخلد هؤلاء الصحابة للراحة فى المدينة أو فى الأمصار المفتوحة، وإنما كانوا منارات علم وتعليم، فأسسوا المدارس من أجل إنشاء جيل صار خير الأجيال بلا منازع بعد جيل الصحابة- رضى الله عن الجميع. وكان من أبرز تلك المدارس ثلاث مدارس، أثرت فى الحركة التفسيرية تأثيرا منقطع النظير، هذه المدارس هى: (أ) مدرسة مكة: وكان أستاذها عبد الله ابن عباس، وكان أبرز طلابها: سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة أبو عبد الله البربرى، وعطاء بن أبى رباح، وطاوس بن كيسان. (ب) مدرسة الكوفة: وأستاذها عبد الله ابن مسعود، وكان من أبرز تلاميذ هذه المدرسة الذين صاروا أئمة فى التفسير: علقمة بن قيس، وزر بن حبيش، ومسروق بن الأجدع، وعبيدة بن عمرو، وعبيد بن نضيلة، والأسود بن يزيد، وأبو عبد الرحمن السلمى، وعامر الشعبى، والحسن البصرى، وقتادة بن دعامة السّدوسى. (ج) مدرسة المدينة: ومؤسسها وأستاذها أبىّ بن كعب، ومن أبرز تلاميذ هذه المدرسة الذين صاروا أئمة فى التفسير: أبو العالية رفيع بن مهران الرياحى البصرى، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن كعب القرظى، وزيد بن أسلم. ثم بعد هذه الطبقة جاءت طبقة أخرى اهتمت بجمع أقوال الصحابة والتابعين فى التفسير، وعلى رأس هذه الطبقة: سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وشعبة بن الحجاج، وآخرون. ثم جاءت بعدها طبقة أخرى، وعلى رأسها: محمد بن جرير الطبرى، وابن أبى حاتم، وابن ماجة، والحاكم، وابن مردويه، وابن حبان، وابن المنذر، وهذه التفاسير كلها بالمأثور، ليس فيها غيره، إلا تفسير ابن جرير الطبرى، فإنه فى معظم الأحيان يتعرض لتوجيه الأقوال التى يذكرها ويرجح بعضها على بعض، كما يتعرض للمسائل الفقهية، وأصول الفقه والقراءات والإعراب وغير ذلك، مما جعل تفسيره فى غاية الأهمية لدى المشتغلين بالمأثور وبالرأى على حد سواء، وإن كانت الصبغة المأثورية هى الغالبة عليه. وبعد هذه الطبقة التى كانت تهتم بذكر السند جاءت طبقة أخرى، أهملوا الإسناد، فالتبس الصحيح بالعليل، وتسلل الدخيل إلى التفسير. إلى أن جاءت طبقة أخرى كان الواحد

منهم أشبه بحاطب ليل، ثم خطا المفسرون بعد ذلك خطوة متخصصة، أو قريبة منها، حيث رأينا الواحد منهم يصبغ تفسيره بالصبغة التى برع فيها، أو طغت عليه، فوجدنا بعضهم يهتم بالإعراب وقواعد النحو وفروعه، كما هو صنيع الزجاج، والواحدى، وأبى حيان، ووجدنا آخرين جعلوا كل همهم سرد القصص عن السابقين، بصرف النظر عن صحتها أو بطلانها، كما فعل الثعلبى، ووجدنا صنفا آخر صب اهتمامه على مسائل الفقه، وكأنه أراد بتفسيره أن يكون موسوعة فقهية، كما فعل القرطبى، كما رأينا صنفا آخر جعل العلوم العقلية والفلسفية بؤرة اهتمامه فى التفسير، كالفخر الرازى. أما أصحاب البدع، كالمعتزلة والخوارج، فمتى لاحت لهم شاردة تخدم بدعتهم وخيّل لهم أن لها موضعا فى تفسير الآية سارعوا فى وضعها، كما فعل الزمخشرى فى كشافه، وكذلك فعل الملاحدة، كالباطنية فى تفاسيرهم. ومع امتداد الزمان وتنوع العلوم، ووقوف العلماء على كثير من أسرار هذا الكون، ومع تعدد نظم الاجتماع والعمران، رأينا فى كل عصر طبقة تهتم بناحية أو أكثر من نواحى القرآن. أ. د./ جمال مصطفى عبد الحميد عبد الوهاب النجار

مراجع الاستزادة: للاستزادة والتوسع فى موضوعات هذا المدخل يرجع إلى: (1) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى. (2) الإسرائيليات فى التفسير والحديث للدكتور/ محمد الذهبى. (3) أصول الدخيل فى تفسير أى التنزيل، للدكتور/ جمال مصطفى النجار. (4) البرهان فى علوم القرآن للزركشى. (5) التفسير بالرأى، للدكتور/ جمال مصطفى النجار. (6) التفسير بالمأثور، للدكتور/ جمال مصطفى النجار. (7) التفسير والمفسرون، للدكتور/ محمد الذهبى. (8) الدخيل فى تفسير القرآن الكريم، للدكتور/ عبد الوهاب فائد. (9) دراسات فى مناهج المفسرين، للدكتور/ إبراهيم خليفة. (10) لمعة الاعتقاد، لابن قدامة. (11) مدخل إلى مناهج المفسرين، للدكتور/ محمد جبريل. (12) مقدمة فى أصول التفسير، لابن تيمية. (13) مناهل العرفان فى علوم القرآن، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى.

القراءات والقراء

القراءات والقراء حقيقة القراءات، وحدّها: القراءات لغة: جمع قراءة. وهى (مصدر قرأ أى نطق باللفظ. فهى: التلفظ) (¬1). (وتستعمل بمعنى اسم المفعول، فيراد بها: اللفظ المنطوق) (¬2). وقراءات القرآن هى: (صور نظم كلام الله تعالى من حيث وجوه الاختلافات المتواترة، المنسوبة إلى أئمة معينين ناقلين لها) (¬3)، كقراءات نافع، وابن كثير، وأبى عمرو. فقراءة القرآن الواحدة هى: (صورة نظم كلام الله تعالى من حيث ما فيها من وجوه الاختلافات المتواترة، المنسوبة إلى إمام معين ناقل لها)، كقراءة نافع، أو ابن كثير، أو أبى عمرو. - وقد يراد من القراءات: الصور الواردة بالتبادل على اللفظ، كقولنا: قراءات لفظ الصِّراطَ (الفاتحة: 6) ثلاث: الصاد الخالصة، والصاد المخلوطة بصوت الزاى، والسين (¬4). - وقد يراد من القراءات: الكلمات والكيفيات الواردة فى قراءة واحد معين- كابن كثير مثلا- المختلفة عما ورد فى قراءة غيره، كقولنا: قراءات ابن كثير فى سورة الفاتحة هى: الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (الفاتحة: 3 - 4) بإظهار الميمين- خلافا لمن أدغمهما-، و (ملك) بدون ألف- خلافا لمن قرأها (مالك) بالألف، و (الصراط) بالسين من رواية قنبل عنه- خلافا لمن قرأها بالصاد الخالصة، وخلافا لمن قرأها بالصاد المخلوطة بصوت الزاى-، و (عليهم) بكسر الهاء- خلافا لمن ضمها-، وبصلة ميم الجمع- خلافا لمن أسكنها (¬5). - ويتبين مما سلف أن حقيقة هذا المركب: (قراءات القرآن) تعنى الأجزاء، والكيفيات المخصوصة الداخلة فى ذات القرآن وصفاته (¬6). ¬

(¬1) انظر لسان العرب لابن منظور، والمعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية مادة (قرأ). (¬2) هذا يؤخذ من كون القراءة والقرآن مصدرين، وأنه إذا أطلق انصرف لغة إلى الكلمات والحروف، لأنها هى التى تقرأ، كما فى المصباح المنير للفيومى مادة (قرئ)، وغيره. (¬3) يؤخذ هذا من جملة تعريفية فى مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده (2/ 6، 371) تحقيق كامل بكرى وزميله، طبعة دار الكتب الحديثة بدون تاريخ، ومنجد المقرئين لابن الجزرى، نشره القدسى سنة 1350 هـ المطبعة الوطنية الإسلامية. (¬4) هذا شائع فى كتب القراءات، ككتاب «البدور الزاهرة» للشيخ عبد الفتاح القاضى- رحمه الله تعالى. (¬5) انظر السابق، وغيره، فى مواضع كثيرة، مثل «إتحاف فضلاء البشر» للبنا ص 118 - 125 طبعة عبد الحميد أحمد حنفى 1359 هـ. (¬6) انظر- مثلا- رسالة (القراءات دراسات فيها وتحقيقات) للدكتور عبد الغفور محمود مصطفى بمكتبة كلية أصول الدين رقم 832 إلخ ص 186 وغيرها.

الحروف:

وهى- حينئذ-: ما يستحق أن يسمى قراءات حقيقة، ويسمى قرآنا، وهى المتواترة، المجمع عليها، المعمول بها فى التلاوة التعبدية، لا غير ذلك. - وهذه أمثلة من (صور النظم، والكلمات، والكيفيات)، أى من (القراءات): - فمن صور النظم: (قراءة فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ (البقرة: 37) بنصب (آدم)، ورفع (كلمات) لابن كثير، وبرفع (آدم)، ونصب (كلمات) بالكسر لغيره) (¬7). - ومن الكلمات المختلفة المتواردة على الموضع الواحد: الواو فى قراءة وَلا يَخافُ عُقْباها (الشمس: 15) بالواو لغير نافع وابن عامر وأبى جعفر، والفاء فى قراءتها بها لهؤلاء الثلاثة) (¬8). - ومن الكيفيات: إدغام الميمين فى الرَّحِيمِ (3) مالِكِ (الفاتحة: 3 - 4) لبعض القراء العشرة، والإظهار للبعض الآخر (¬9)، وضم الهاء فى عَلَيْهِمْ (الفاتحة: 7) لحمزة، وكسرها لغيره (¬10). الحروف: قد تسمى القراءات- أعنى الكلمات المختلفة وما إليها- حروفا، فيقال: حروف القرآن، حروف القراء السبعة- مثلا- حروف نافع. - وقد أطلق العلماء لفظ حرف، وحروف، وقراءة، وقراءات بأكثر من إطلاق، فعلينا أن نتعرف على المراد من اللفظ المستعمل بمعونة السياق والمقام، فقد يراد من لفظ (القراءات) مثلا ما هو أعم من المتواترات، وإليك بيان المراد من قولهم فى كتب الفن: فرش الحروف: قال ابن القاصح: «القراء يسمون ما قل دوره من حروف القراءات المختلف فيها فرشا، لأنها لما كانت مذكورة فى أماكنها من السور فهى كالمفروشة، بخلاف الأصول، لأن الأصل الواحد منها ينطوى على الجميع، وسمى بعضهم الفرش فروعا، مقابلة للأصول» (¬11). ومن أمثلة الفرش: إمالة التَّوْراةَ (آل عمران: 3) لأبى عمرو والكسائى ومن وافقهما إمالة كبرى، والفتح لعاصم ومن وافقه (¬12). ومن أمثلة الأصول: إمالة كل ألف بعدها راء متطرفة مكسورة لأبى عمرو ومن وافقه، وفتحها لابن كثير ومن وافقه، مثل عُقْبَى الدَّارِ (الرعد: 22) إلى آخر ما يشبه ذلك (¬13). ... ¬

(¬7) انظر إتحاف فضلاء البشر السابق 134. (¬8) انظر السابق 440. (¬9) انظر السابق 122. (¬10) انظر السابق 123. (¬11) سراج القارئ المبتدى لابن القاصح ط 3 الحلبى 1954 م. (¬12) انظر إتحاف ... السابق 170. (¬13) انظر السابق 83.

توقيف القراءات:

توقيف القراءات: القراءات العشر المعمول بها، المعروفة فى هذا الفن توقيفية. ومعنى التوقيف: التعليم. وهو تعليم النبى صلّى الله عليه وسلم للأمة. والأدلة على التوقيف عديدة، والفقرات التالية تتضمن قدرا من تلك الأدلة: - قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9) فالقرآن منزل من عند الله تعالى، ولا قرآن بدون قراءة، والقراءات العشر متساوية- كما بيّناه فى موضعه- فهى منزلة من عند الله تعالى، فهى توقيفية، والذى علّمها لنا هو الله تعالى، وقد قال سبحانه: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (الرحمن: 1 - 2). وأول من تعلم القرآن من البشر هو النبى صلّى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى له: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (القيامة: 17 - 18). وقام الرسول صلّى الله عليه وسلم بتعليم الأمة، قال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (الإسراء: 106). وأمر الله الأمة بقبول تعليم القرآن والشريعة، قال تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (الحشر: 7). وأمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن، كما دلّ عليه قوله تعالى: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ (النمل: 91 - 92)، كما أمر سبحانه الأمة بقراءته فقال: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (المزمل: 20)، ومدح المشتغلين بتلاوته فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (فاطر: 29 - 30). فقامت الأمة بواجبها، واتبعوا، ولم يبتدعوا، وتعلموا من نبيهم صلّى الله عليه وسلم، ثم علّم بعضهم بعضا، ويبقى أمر التوقيف على نمطه هذا إلى ما شاء الله تعالى. - واشتملت كتب الحديث على جزئيات كثيرة من القراءات، مسندة إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم، سالكة طرقا غير طرق القراء، إذ هى طرق المحدثين- ولكل قوم طرقهم، وهذه طائفة من تلك الجزئيات نذكرها تدليلا على التوقيف، واستئناسا- وإن كانت هى وسائر ما رووه لم يقصدوا به رواية ختمة: عن أنس- رضى الله عنه- أن النبى صلّى الله عليه وسلم قرأ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (الفاتحة: 4) بالألف. وعن أم سلمة- رضى الله عنها- أنه قرأه بدون ألف. (والضمير فى (أنه) هنا وفيما يأتى للنبى- عليه الصلاة والسلام).

وروى أبىّ- رضى الله عنه- أنه قرأ وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ (البقرة: 48، 58) بالتاء: ولا تقبل. وأنه قرأ فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ (البقرة: 283) بدون ألف، وبضم كل من الراء والهاء. وأنه أقرأه بقراءتين: الياء، والتاء، فى: فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (يونس: 58). وأنه أقرأه فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ (الكهف: 86) بالهمز. وروى أيضا عنه صلّى الله عليه وسلم: حامية بالألف بدون همز. وقرأ صلّى الله عليه وسلم: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (الكهف: 77) بتشديد التاء الأولى فى لَاتَّخَذْتَ، وإدغام الذال فى التاء، وقرأها أيضا لتخذت بحذف همزة الوصل، وتخفيف التاء، وإظهار الذال، وكسر الخاء. وكل ذلك فى قراءات العشرة. إلى غير ذلك من جزئيات كثيرة فى أكثر من مائة وأربعين حديثا شريفا (¬14). - واشتملت المصاحف العثمانية على جزئيات كثيرة من القراءات كان الرسم نصا فيها، وكلها فى قراءات العشرة، وهى منقولة من صحف الصدّيق- رضى الله عنه- ومن مصاحف الصحابة التى كتبت بين يدى النبى صلّى الله عليه وسلم، كما أن صحف الصدّيق منقولة مما كان فى بيوت أزواج النبى صلّى الله عليه وسلم مما كتب بحضرته، ومما كان مع الصحابة مما كتبوه أيضا بين يديه- عليه الصلاة والسلام (¬15). وهذه طائفة منها لخدمة هذا الغرض بنحو ما أشرنا إليه آنفا من تدليل، واستئناس: كتب: أَرَأَيْتَ (العلق: 9) مثلا بألف بعد الراء فى بعض المصاحف العثمانية، وبدونها فى بعضها الآخر، وبهما قرئ (15). وكتب: نَخْشى (المائدة: 52) بالياء فى بعض المصاحف، وبالألف فى بعضها، وقرئ بالإمالة إلى الياء، وبالفتح (¬16). وكتب: إِلَّا قَلِيلٌ (النساء: 66) قليلا بالألف فى المصحف الشامى، وبدونها فى بقية المصاحف، وقرئ بالنصب، والرفع (86). وكتب: مَنْ يَرْتَدَّ (المائدة: 54) بدال واحدة فى المكى والبصرى والكوفى، وبدالين فى البقية، وقرئ بالإدغام، والفك (87). وكتب: وَيَقُولُ الَّذِينَ (المائدة: 53) بواو العطف فى العراقية، وبدونها فى البقية، وبهما قرئ (¬17). ¬

(¬14) انظر رسالة (القراءات ... ) ص 214 - 273 تجد هذه الجزئيات وغيرها وأحاديثها، وتجد توضيح هذا الدليل بتوسع. (¬15) انظر إتحاف فضلاء البشر ص 444. (¬16) انظر سمير الطالبين للضباع ص 62، ط الأولى المكتبة الأزهرية للتراث سنة 1999 م، وباب الإمالة فى النشر. (¬17)،

تواتر القرآن:

وكتب: ذُو الْجَلالِ (الرحمن:) بالواو فى غير المصحف العثمانى الشامى، وبالياء فى الشامى، وبهما قرئ (¬18). إلى غير ذلك من الجزئيات المكتوبة فى المصاحف العثمانية الستة، نصا، أو إشارة (¬19). - وأسانيد القراء العشرة، وطرق قراءاتهم التى بلغت زهاء ألف طريق مفصلة متصلة مرفوعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتلاوة كل واحد على الآخر، وكلهم ثقات، متقنون، آخذون بالتوقيف البالغ الغاية فى الدقة، الواصل إليهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عن جبريل- عليه السلام- عن اللوح المحفوظ، عن رب العالمين- جل جلاله (¬20). وقد فصل ابن الجزرى تلك الأسانيد فى كتابه الكبير «النشر فى القراءات العشر» فى حوالى مائة صفحة (¬21). وذكر شارح «مسلّم الثبوت» أن أسانيد القراء العشرة صحيحة بالإجماع، متلقاة بالقبول، وأنها أصح الأسانيد، وأن غيرها إذا عارضها فإنه يكون سندا لا يعبأ به (¬22). وهناك غير ذلك من الأدلة الدالة على أن القراءات المعمول بها مروية بالتوقيف (¬23). تواتر القرآن: التواتر هو نقل جمع عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، كما يؤمن وقوع الكذب منهم فى المنقول وقوعا اتفاقيا بدون تواطؤ فى كل طبقة، من أول السند إلى منتهاه. والقرآن الكريم منقول بهذه الصفة فى كل طبقة. والأدلة على تواتر القرآن عديدة، نسوقها فى فقرات، تنطوى كل فقرة منها على بعضها، على النحو التالى: 1 - قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (المائدة: 67). والبلاغ العام إنما هو بالتواتر (¬24) وقد كان. ويلاحظه من يلاحظ القرون. وقال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (الأعلى: 6) كما قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9) وأجمعت الأمة على أن المراد بذلك حفظه على المكلفين للعمل به، وحراسته من وجوه الغلط والتخليط (¬25) والحفظ إنما يتحقق بالتواتر (¬26). وهذا النص القرآنى قد صارت به الأمة آمنة من أن يكون نقل القرآن آحاديا فى وقت من الأوقات (¬27). 2 - وقد عرض القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم السادة عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب وأبى بن كعب وعبد الله بن مسعود ¬

(¬18) انظر كل ما سبق فى سمير الطالبين السابق 74 - 76. (¬19) انظر تفصيل هذا الدليل، واستقصاء جزئياته فى رسالة (القراءات ... ) ص 273 - 295. (¬20) انظر العجالة البديعة الغرر للمتولى، مطبوعة مع شرح الطيبة للنويرى ص 42 - 43. (¬21) انظر الجزء الأول منه 98 - 194. (¬22) انظر فواتح الرحموت 2/ 10. (¬23) انظر تفصيل تسعة أدلة على أن القراءات توقيفية فى رسالة (القراءات دراسات فيها وتحقيقات) ص 204 - 376. (¬24) انظر البرهان للزركشى 2/ 125 طبعة دار المعرفة بيروت بدون تاريخ. (¬25) انظر البرهان السابق 127. (¬26) انظر السابق 125. (¬27) انظر رفع الحاجب لابن السبكى الورقة 128 مخطوط مكتبة الأزهر رقم 455 أصول فقه.

وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعرى وأبو الدرداء (¬28) وقد حفظوه فى حياة النبى صلّى الله عليه وسلم، وأخذ عنهم عرضا، وعليهم دارت أسانيد قراءة الأئمة العشرة (¬29). وقد جمع القرآن غيرهم من الصحابة كمعاذ بن جبل وأبى زيد وسالم مولى أبى حذيفة وعبد الله بن عمر وعتبة بن عامر (¬30). وعرض القرآن على بعض من ذكروا السادة أبو هريرة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن السائب والمغيرة بن شهاب المخزومى والأسود بن يزيد النخعى وعلقمة ابن قيس وأبو عبد الرحمن السلمى وأبو العالية الرياحى (¬31). ومن لاحظ العصور وأحوال الرجال وجد الحصر للأعداد الكثيرة الناقلين للقرآن الكريم غير ممكن، ووجد الدقة والإتقان وسعة العلم أمرا راسخا يقطع به على تواتر كتاب الله وسلامته، بل وجد عددا يبلغ أضعاف أضعاف ما يطلبون للتواتر من عدد (¬32). فهذا هو أبو الدرداء- رضي الله عنه- يقرأ عنده نيّف وستمائة وألف، لكل عشرة منهم مقرئ، وكان أبو الدرداء- رضي الله عنه- يكون عليهم قائما، وإذا أحكم الرجل منهم تحول إلى أبى الدرداء رضي الله عنه (¬33). وهذا ابن مسعود يأمر قارئا متعجّلا بالترتيل. «قال إبراهيم النخعى: قرأ علقمة على عبد الله، فكأنه عجل، فقال: فداك أبى وأمى رتّل، فإنه زين القرآن (¬34)». هذا مع أنها عجلة- كما يبدو- لم تصل إلى درجة الإخلال بشيء فى القراءة. وكان ابن مسعود يقرئ رجلا، فقرأ الرجل: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ (سورة التوبة الآية 60)، مرسلة فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: كيف أقرأكها يا أبا عبد الرحمن، فقال: أقرأنيها: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ، فمدها (¬35). وعدد من ذكرت من الصحابة أقل من نصف عدد المذكورين فى لطائف الإشارات للقسطلانى، ولم يرد الحصر بل أشار إلى أن هناك غيرهم من الصحابة القراء أيضا (¬36). وذكر الذهبى واحدا وعشرين من التابعين القراء وجعلهم الطبقة الثالثة، وهو كغيره لا يريد، ولا يدعى، ولا يمكنه الحصر (¬37). ومعلوم أن الإسلام فى امتداد، والقراء فى ازدياد. وهذه «غاية النهاية» لابن الجزرى، بلغت ترجمات القراء فيها ما يقرب من أربعة آلاف ¬

(¬28) انظر معرفة القراء الكبار للذهبى 1/ 38. (¬29) انظر السابق 39. (¬30) انظر السابق 39. (¬31) انظر السابق 40 - 41. (¬32) انظر- مثلا- السابق برمته، وهو جزآن. (¬33) انظر السابق 1/ 38 - 39، وغاية النهاية 1/ 6 - 7 إلخ. (¬34) انظر معرفة القراء الكبار 1/ 45. (¬35) أخرجه سعيد بن منصور فى سننه، والطبرانى فى الكبير، وهو حديث حسن، ورجال إسناده ثقات. انظر الإتقان للسيوطى 1/ 96 ط الحلبى- القاهرة. (¬36) انظر لطائف الإشارات للقسطلانى 1/ 50 - 51. (¬37) انظر مقدمة كتابه (معرفة القراء الكبار)، مع ص 51 إلى ص 82 منه الجزء الأول.

ترجمة، فإذا كان هذا عدد القراء المقرئين فكم يكون عدد التلاميذ الحفاظ؟! وإن لنا أن نعتبر بعدد تلاميذ أبى الدرداء المذكور آنفا، وطائفة قرأت على ابن مسعود (¬38)، وأولاد جمعهم سيدنا عمر- رضى الله عنه-، فى المكتب، ليحفظوا القرآن (¬39) وبلوغ عدد التابعين إلى أربعين فى عد «الإتقان» (¬40)، وأربعة وأربعين فيما نعده فى النشر (¬41) ونعتبر بالازدياد كما أشرنا، فنعلم أن التواتر والصحة فى جميع العصور من بدهيات الأمور، ونعلم أن المستقبل على نمط الماضى. 3 - ولا غرو بعد وضوح هذا الواقع التاريخى للناس، المبين لما أشرنا إليه أن يجمع المسلمون، وتتفق الكلمة على أن القرآن متواتر صحيح يمتاز فى ذلك عن كل ما عداه. قال فى «تيسير التحرير»: (والقرآن كله متواتر إجماعا) (¬42). وذكر ابن أمير الحاج فى «شرح التحرير»: (أن جميع القرآن متواتر إجماعا) (¬43). وقال النويرى: (القرآن عند الجمهور من أئمة المذاهب الأربعة، منهم الغزالى وصدر الشريعة، وموفق الدين المقدسى وابن مفلح والطوفى، هو: ما نقل بين دفتى المصحف نقلا متواترا. وقال غيرهم: هو الكلام المنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه. وكل من قال بهذا الحد اشترط التواتر- كما قال ابن الحاجب رحمه الله- للقطع بأن العادة تقضى بالتواتر فى تفاصيل مثله، والقائلون بالأول لم يحتاجوا للعادة لأن التواتر عندهم جزء من الحد، فلا يتصور ماهية القرآن إلا به. وحينئذ فلا بد من حصول التواتر عند أئمة المذاهب الأربعة، ولم يخالف منهم أحد فيما علمت- بعد الفحص الزائد- وصرح به جماعات لا يحصون كابن عبد البر وابن عطية وابن تيمية والتونسى فى تفسيره، والنووى والسبكى والإسنوى والأذرعى والزركشى والدميرى والشيخ خليل وابن الحاجب وابن عرفة وغيرهم رحمهم الله. وأما القراء فأجمعوا فى أول الزمان على ذلك، وكذلك فى آخره، ولم يخالف من المتأخرين إلا أبو محمد مكى، وتبعه بعض (¬44) المتأخرين). ثم جوّز النويرى أن يكون الإجماع انعقد قبل مكى، بل قال النويرى: (بل هو الراجح لما تقدم من اشتراط الأئمة ذلك، كأبى عمرو بن العلاء وأعلى منه، بل هو الحق الذى لا محيد عنه) (¬45). 4 - والعلم الضرورى- من وراء تلك الأدلة النقلية- حاصل والضرورى لا يحتاج إلى دليل ¬

(¬38) انظر السابق 34. (¬39) انظر عنوان البيان ص 29 لمخلوف ط الأولى 1344 هـ مطبعة المعاهد. (¬40) انظر هذا العدد فى الإتقان 1/ 72 - 73. (¬41) تأمل النشر لابن الجزرى 1/ 8. (¬42) انظر 5 - ج 3/ 12 ط الحلبى 1932 م. (¬43) انظر تقرير التحبير الجزء الثانى. ط القاهرة وغيرها. (¬44) انظر شرح الطيبة للنويرى ظهر 18، ووجه 19 رقم 374 رافعى 26610 قراءات بمكتبة الأزهر (وقد طبع محققا). (¬45) انظر السابق وجه الورقة 20.

- بأن القرآن الكريم مصون، ونقلته يفوقون الحصر. وفى القرطبى: أنه يعلم على القطع والبتات، أن قراءة القرآن تلقينا متواترة عن كافة المشايخ، جيلا فجيلا، إلى العصر الكريم، إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬46). وذكر عبد الجبار أن كون القرآن منقول بالتواتر، معلوم بالضرورة (¬47). 5 - والأصل أن القرآن متواتر بتفاصيله وجوبا. ودليل هذا الأصل: أن القرآن الكريم لكونه كلام الله تعالى ولكونه مشتملا على الأحكام الشرعية ولكونه معجزا، فإنه مما تتوافر الدواعى على نقله بتفاصيله، وتقضى العادة بحفظه، فلا بد من تواتره بتفاصيله. هكذا قرّر أهل الأصول التواتر (¬48). والتفاصيل المتواترة وجوبا- أو التى دلّ الدليل على وجوب تواترها- هى إجمالا: المتن، والهيئة، وعدم الزيادة، وعدم النقصان، بل يدخلان فى الهيئة. وقال الغزالى: (حد الكتاب ما نقل إلينا بين دفتى المصحف على الأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا. ونعنى بالكتاب القرآن المنزّل. وقيدناه بالمصحف لأن الصحابة بالغوا فى الاحتياط فى نقله، حتى كرهوا التعاشير والنقط، وأمروا بالتجريد كيلا يختلط بالقرآن غيره. «ونقل إلينا متواترا، فنعلم أن المكتوب فى المصحف المتفق عليه هو القرآن، وأن ما هو خارج عنه ليس منه، إذ يستحيل فى العرف والعادة مع توافر الدواعى على حفظه أن يهمل بعضه فلا ينقل أو يخلط به ما ليس منه». ثم قال: فإن قيل: لم شرطتم التواتر؟. قلنا: ليحصل العلم به، لأن الحكم بما لا يعلم جهل، وكون الشيء كلام الله تعالى أمر حقيقى ليس بوضعى، حتى يتعلق بظنّنا، فيقال: إذا ظننتم كذا فقد حرمنا عليكم فعلا، أو حلّلنا لكم، فيكون التحريم معلوما عند ظنّنا، ويكون ظنّنا علامة لتعلق التحريم به، لأن التحريم بالوضع، فيمكن الوضع عند الظنّ، وكون الشيء كلام الله تعالى أمر حقيقى، ليس بوضعىّ، فالحكم فيه بالظن جهل) (¬49). وقال محب الله، وعبد العلى: (قالوا اتفاقا: ما نقل آحادا فليس بقرآن قطعا، ولم يعرف فيه خلاف لواحد من أهل المذاهب، واستدل بأن القرآن مما تتوافر الدواعى على نقله، لتضمّنه التحدى، ولأنه أصل الأحكام، باعتبار المعنى والنظم جميعا، حتى تعلق بنظمه أحكام كثيرة، ولأنه يتبرك به فى كل عصر بالقراءة ¬

(¬46) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبى 1/ 13 ط الشعب. (¬47) انظر المغنى فى أبواب التوحيد والعدل لعبد الجبار 16/ 156. طبعة دار الكتب المصرية سنة 1960 م. (¬48) راجع إرشاد الفحول للشوكانى ص 30 ط الحلبى. (¬49) انظر المستصفى 1/ 101 ط الأميرية 1324 هـ. وقد نقل صاحب مناهل العرفان معظمه 1/ 424 - 425 ط عيسى الحلبى.

هل قرئ بالشاذ على أنه قرآن؟

والكتابة، ولذا علم جهد الصحابة فى حفظه بالتواتر القاطع. وكل ما تتوافر دواعى نقله ينقل متواترا عادة، فوجوده ملزوم التواتر عند الكل عادة، فإذا انتفى اللازم وهو التواتر انتقى الملزوم قطعا، والمنقول آحادا ليس متواترا فليس قرآنا) (¬50). - وقال السيوطى: (لا خلاف أن كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواترا فى أصله وأجزائه، وأما فى محله ووضعه وترتيبه فكذلك عند محققى أهل السنة. للقطع بأن العادة تقضى بالتواتر فى تفاصيل مثله، لأن هذا المعجز العظيم، الذى هو أصل الدين القويم، والصراط المستقيم مما تتوافر الدواعى على نقل جمله وتفاصيله. فما نقل آحادا، ولم يتواتر يقطع بأنه ليس من القرآن) (¬51). - وبهذا اتضحت دلالة النقل، والعقل، والواقع الماثل للعيان على تواتر القرآن وجوبا، جملة، وتفصيلا، مادة وهيئة، ومحلا. - ويؤخذ من التواتر القطع بأنه لا وصف لشىء من القرآن وراء التواتر البتة من شهرة أو صحة غير مصحوبة بالتواتر، فضلا عما دون ذلك. - ويؤخذ مما سلف- وخصوصا من كلام الغزالى- أن تواتر القرآن يدفع فرية الزيادة فيه، وفرية النقص منه، ويقطع دابرهما. - ويؤخذ من جملة الأدلة أنه لا سبيل أصلا إلى القطع بنموذج لقرآن منسوخ التلاوة، لأنه لا تدعى قرآنيته اليوم، ولا يدل دليل قطعى على أنه كان متواترا، فكيف يقال إنه كان قرآنا؟!، أو يجب الإيمان بأنه كان قرآنا؟!. هكذا يقال فى كل نموذج على حدته. - أما إذا بلغ عدد النماذج إلى ما يفيد التواتر المعنوى فإنه يفيد القطع- فى الجملة- بأن من القرآن ما نسخت تلاوته. وأما إذا ثبت نموذج ثبوتا ظنيا، وأفاد هذا النموذج حكما عمليا فإن الأخذ به يصح عند الجمهور، شأنه شأن العمل بالقراءة الشاذة (¬52). هل قرئ بالشاذ على أنه قرآن؟ لم يقرأ بالشاذ- بحال- على أنه قرآن. هذا هو حال أهل الحق. والشاذ آحادي- قطعا، والقرآن متواتر- قطعا- فكيف يلتقيان؟! ومن انحرف عن حال أهل الحق فقد أدبوه، واستتابوه، فتاب، وأناب (¬53). القرآن والقراءات: إذا قرأت القرآن ثلاث مرات- مثلا- بثلاث قراءات، لأبى جعفر، ويعقوب، وخلف ¬

(¬50) انظر مسلم الثبوت بشرحه فواتح الرحموت 2/ 9 ط الأميرية سنة 1324 هـ. ونقله إلا كلمتين صاحب مناهل العرفان 1/ 426. (¬51) انظر الإتقان السابق 1/ 77 - 78 وقد استفاد كثيرا من البرهان للزركشى 2/ 125 إلخ. (¬52) انظر رسالة (القراءات ... ) السابقة ص 730 - 759. (¬53) انظر شرح النويرى على الطيبة بتحقيق الدكتور عبد الفتاح أبو سنة طبعة مجمع البحوث الإسلامية سنة 1986 م ص 73، 75، 76.

القراءات والأحرف السبعة:

العاشر وجدت المرّة الأولى مشتملة على تشديد الْمَيْتَةَ (البقرة: 173)، وكسر الطاء فى فَمَنِ اضْطُرَّ (البقرة: 173)، وحذف الهمز ونقل حركته إلى النون، مع كسرها فى مِنْ أَجْلِ ذلِكَ (المائدة: 32)، وغير ذلك مما فى قراءة أبى جعفر (¬54). ووجدت المرة الثانية مشتملة على إثبات الياء وقفا فى وَاخْشَوْنِ (المائدة: 3)، وفتح الفاء دون تنوين فى فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ (المائدة: 69)، وغير ذلك مما فى قراءة يعقوب (¬55). ووجدت المرة الثالثة مشتملة على قراءة هُزُواً (المائدة: 57) بسكون الزاى، وهمز مفتوح بعدها، وغير ذلك مما فى قراءة خلف (¬56). وتجد القرآن واحدا فى الجميع، وما الفرق بينها وبينه إلا أنها صور مختلفة له، يفترق بعضها عن بعض بما تشتمل عليه كل ختمة فى مواضع منها من وجوه تخصها، وتجعل لها صورة تفترق بها عن غيرها. وننظر إلى القراءات التى تتوارد على الموضع القرآنى وننظر إلى القرآن فى ختمة فنقول: القراءات التى دخلت فى الختمة أجزاء دخلت فى القرآن، وهو كل لها- فالفرق بينهما هو الفرق بين الكل وأجزائه. والقراءات التى لم تدخل فى هذه الختمة أجزاء للقرآن فى غير هذه الختمة (¬57). ... القراءات والأحرف السبعة: أنزل الله تعالى القرآن على سبعة أحرف لتيسير تلاوته على الأمة (والراجح فى معنى الأحرف السبعة أنها سبع لغات من أفصح لغات العرب، كلغة قريش، ولغة تميم، ولغة أسد. ولكل واحد أن يقرأ بما تيسر له منها كما علّم. ومن تعلمها وميز بعضها عن بعض استطاع أن يقرأ سبع ختمات كل ختمة على حرف. واللغة الواحدة تشتمل على أكثر من وجه فى بعض الألفاظ، وفى بعض الأساليب، فالحرف الواحد يتسع لأكثر من قراءة تشتمل كل قراءة منها على بعض الوجوه التى تميزها مفترقة عن صورة غيرها. فمن قرأ ختمتين بقراءتين فى ظل حرف وجد- بوضوح- أن عدد القراءات يزيد عن عدد الأحرف واتضح أن الفرق بينهما هو أن القراءات فروع عن الأحرف، كفروع الشجرة، فهى منها، والشجرة أصلها. وإذا كانت هذه الزيادة فى ظل الحرف الأول مثلا فقس ذلك تجد مزيدا من القراءات والأصل واحد وهو الأحرف السبعة. ¬

(¬54) انظر روضات الجنات للشيخ محمود بسة 21 - 22 وسائره. مطبعة الرافعى 1960 م ط الأولى. (¬55) انظر السابق. (¬56) انظر السابق. (¬57) انظر (القراءات ... ) ص 169 وما حولها.

وهذا مثال توضيحى: قرئ لفظ لِجِبْرِيلَ (البقرة: 97) مثلا- بالهمز- والهمز ينسب إلى لغة تميم- وبدونه- وهذا فى لغة قريش، وفى المهموز قراءتان: (جبرئيل) بفتح كل من الجيم والراء، وبياء ممدودة بعد الهمزة، وبدون هذه الياء. فهذان وجهان وقراءتان فى لغة من الهمز. وفى غير المهموز قراءتان (جبريل) بكسر كل من الجيم والراء، وبياء ممدودة بعد الراء، وبفتح الجيم فهذان وجهان وقراءتان فى لغة من لا يهمزون. ولزيادة عدد القراءات عن عدد الأحرف سبب آخر، وهو تداخل الأحرف، إذ لم يرد منعه، ويظهر أن النبى صلّى الله عليه وسلم علّم من علّم بعض القرآن على حرف، وبقية القرآن على حرف آخر، فينتج من ذلك صورة ختمة مفترقة عن كل واحدة من السبع التى تكون كل واحدة منها على حرف واحد. ولا تخفى الكثرة الكاثرة من القراءات التى تنشأ عن تغيير مواضع الانتقال فى الختمة من حرف أول إلى حرف ثان، ومن حرف أول إلى حرف ثالث، وهلم جرا. والحديث الصحيح لا يأبى هذا التداخل، إذ يقول: ( .... إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه) (¬58) ولم يقل منها، فكان أوضح فى العموم، إذا المعنى: فاقرءوا ما تيسر من المنزل- وهو السبعة، أعم من أن تكون مميزة واحدا واحدا أو متداخلة. وهذا مثال توضيحى: (قرأ حفص: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها (هود: 41) بإمالة مَجْراها، وفتح مُرْساها، (¬59)، والإمالة لغة عامة أهل نجد، والفتح لغة أهل الحجاز) (¬60)، وهى قراءة- كغيرها من سائر قراءات العشرة من الروايات والطرق المعيّنة- مسندة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومتواترة، فدل ذلك على أن القراءة الواحدة اشتملت فى بعض الجزئيات على حرف ولغة، وبعضها الآخر على حرف آخر ولغة أخرى وهذا هو التداخل، وبه زاد عدد القراءات على عدد الأحرف السبعة، وتفرع الكثير عن القليل، وكان الفرق- على نحو مما سبق- كالفرق بين أجزاء من الشيء وجملة ذلك الشيء) (¬61). - وبهذا ظهر اتحاد القراءات مع الأحرف السبعة اتحاد الأجزاء المعنية للشيء مع الشيء وسائر أجزائه، ونعنى بسائر أجزاء القرآن أجزاءه التى تنطق على وجه واحد فى كل القراءات وفى كل اللهجات التى نزل عليها القرآن الكريم، مثل ألفاظ سورة الفاتحة التى بهذه الصفة كلفظ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ، الرَّحِيمِ، يَوْمِ الدِّينِ، ¬

(¬58) انظر فتح البارى 19/ 30 - 31 كتاب فضائل القرآن باب (أنزل القرآن على سبعة أحرف) طبعة مكتبة الكليات الأزهرية. 1978 م مراجعة وتعليق طه عبد الرءوف وزميليه. (¬59) انظر غيث النفع 249. (¬60) انظر النشر 2/ 30. (¬61) انظر (القراءات ... ) ص 377 - 475.

تواتر القراءات العشر:

مع ألفاظها الأخرى المقروءة بقراءات تنتسب إلى لهجات، أو تنتسب- بعبارة أخرى- إلى حرفين فأكثر من الأحرف السبعة. ... تواتر القراءات العشر: - المراد بالقراءات العشر: القراءات المعمول بها فى التلاوة التعبدية، المجمع عليها، المعروفة فى كتب الفن «كالشاطبية» «والدرة» «والطيبة»، أو ما يتضمن ما تضمنته هذه الكتب الثلاثة. - ومعنى التواتر مبين فى موضوع (تواتر القرآن) من هذا البحث. - والفقرات التالية تتضمن الدليل تلو الدليل على أنها متواترة حرفا حرفا: - القراءات العشر أجزاء مادية، وصورية للقرآن، وقد قام الدليل على وجوب تواتره مادة وهيئة، فهى متواترة. - وهى سواء فى ذلك وفى صحة النقل من باب أولى، ليست إحداها أقل من غيرها فى هذا الشأن، فالمعنى الذى يقوم ببعضها فيوجب تواتره موجود فى البعض الآخر، فثبت أنها سواء، متواترة كلها (¬62). - والوجوه المقروء بها حتى من قبل ظهور القراء العشرة، كقراءات لفظ الصِّراطَ بالصاد الخالصة، وبالصاد المخلوطة بصوت الزاى، وبالسين (¬63) هذه وغيرها من سائر جزئيات القراءات العشر جاءتنا كل جزئية منها من طريق وهو طريق القرآنية، وهو طريق واحد، لا يمر به إلا ما كان موصوفا بوصف القرآنية، ولم تأت من طرق بأوصاف مختلفة، وما دام الطريق واحدا فكل جزئية من العشر قرآن، وبالتالى كل منها متواتر. وإلا فلو قلنا: إن إحداها متواترة دون غيرها- مع أن طريق الورود واحد لكان ذلك تحكما باطلا، وتضمن ترجحا لإحدى المتساويات على غيرها دون مرجح، وهو باطل.، فحينئذ تكون الوجوه كلها متواترة، وهو المطلوب (¬64). - والواقع يشهد بالتواتر، فإن جزئيات القراءات قد رواها معظم الصحابة- رضى الله عنهم- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ورواها عن الصحابة التابعون، وأتباع التابعين عن سلفهم، ومن هؤلاء وهؤلاء أئمة الأداء وشيوخ الإقراء، ورواها عنهم أمم لا يحصون عددا، وهكذا فى جميع العصور والأمصار، إلى يومنا هذا، ويستمر ذلك إلى ما يشاء الله. وأسماء الرجال الذين نقلوا العشر فى كل طبقة- فى كتب الطبقات وما إليها- أكثر مما يعتبر فى عدد التواتر. هذا مع اعتراف ¬

(¬62) انظر رسالة (القراءات ... ) ص 640. (¬63) انظر إتحاف فضلاء البشر 123. (¬64) انظر رسالة (القراءات ... ) ص 639 - 640.

التواتر وآحادية المخرج:

المؤلفين فى الرجال بأنهم لم يستقصوا كل رواة العشر (¬65). - والإجماع قائم على قبول القراءات العشر، وعلى تواترها (¬66). - والعلم الضرورى بتواترها حاصل لدى العلماء، وما علم بالضرورة لا يحتاج إلى دليل، كما قاله صاحب «فواتح الرحموت» (¬67)، وأشار على من كان فى ريب أن يلاحظ القرون (¬68). - وانحصار عدد القراء الأئمة فى عشرة أمر اتفاقى لا يقدح فى تواتر أى جزئية من جزئيات قراءاتهم، وذلك لما سلف آنفا من أدلة التواتر. وهناك من الأمور ما قد يوهم عدم التواتر، ولو فى بعض من قراءات العشرة، وفيما يلى بيان ذلك، وإزالة الشبهة فيه. وببيانه وإزالة الشبهة فيه يزداد أمر تواتر القراءات العشر اتضاحا. وها هو البيان: التواتر وآحادية المخرج: تواتر قراءات العشرة ليس عن طريق ما دوّن فى الأسانيد، لأنها ترجع إلى عدد محصور، ولكن إذا نظرت إلى أن هذا العدد المحصور لم يختص بها، بل كانت روايته هذه يقرأ بها غيره ممن لا حصر لهم- غاية الأمر أن المدوّنين اقتصروا على هؤلاء ليضبطوا ما دوّنوه ويحرروه- فإنك تعلم قطعا أنها كانت متواترة ولا تزال متواترة. فليست القراءات كالحديث مخرجها كمخرجه إذا كان مدارها على واحد كانت آحادية- ليس الأمر كذلك- ولكنها إنما نسبت إلى ذلك الإمام اصطلاحا، وإلا فأهل كل بلدة كانوا يقرءونها أخذوها أمما عن أمم، ولو انفرد واحد بقراءة دون أهل العلم بالقراءات لم يوافقه على ذلك أحد، بل كانوا يجتنبونها ويأمرون باجتنابها (¬69). تواتر ما اختلفت الطرق فى نقله وما انفرد بعضها به: ليس المعتبر فى العلم بصحة النقل والقطع على ثبوته أن لا يخالف فيه مخالف، وإنما المعتبر فى ذلك مجيئه عن قوم بهم يثبت التواتر وتقوم الحجة، سواء اتفق على نقلهم أو اختلف فيه (¬70). فإذا تحقق التواتر بالطرق الناقلة عن القراء فلا أثر لغيرها، سواء نفى (¬71) فيه نسبة شىء من المعمول به إلى قارئه أو سكت فيه عنها، لأن غاية النفى أنه ظنى، وهو ملغى مع القطع الحاصل بالتواتر (¬72). وعلى هذا فمن الباطل الزعم بأن ما اختلفت الطرق فى نقله قرآن غير متواتر. ولا يشفع لهذا الزاعم ¬

(¬65) انظر السابق 630. (¬66) انظر السابق 71، 527، 528. (¬67) اسمه عبد العلى محمد. وهو أصولى مشهور. انظر كتابه. (¬68) انظر فواتح الرحموت 2/ 16. (¬69) انظر منجد المقرئين 67، والمنهج الحديث فى علوم الحديث قسم الرواية والرواة للأستاذ الدكتور محمد محمد السماحى- رحمه الله تعالى- طبع دار الأنوار سنة 1964 م. (¬70) انظر البرهان للزركشى 2/ 126 ط 2 دار المعرفة بيروت دون تاريخ. (¬71) الضمير راجع إلى (غير) وهو غير القائل بما يخالف المتواتر، أو الساكت- كما يذكر بعد. (¬72) انظر الآيات البينات للعبادى فى أصول الفقه 1/ 314 المطبعة الكبرى 1289 هـ.

التواتر وقبيل الأداء:

أنه يوجب قبوله إذا اشتهر (¬73) واستفاض فهذا الحكم ثابت عندنا من التواتر الذى طالعنا دليله أكثر من مرة. ونحو ذلك يقال فى انفرادات باقية فى المعمول به (¬74). التواتر وقبيل الأداء: المد والإمالة- مثلا- من صفات الأداء المتواترة، ومن أجزاء القرآن كما سبق فى بيان تواتر القراءات، إذ اللفظ مادة وهيئة، والهيئة تسمى صفة، وصورة. أما قبيلها: فقبيل المد هو ذلك الاختلاف فى قدره، وقبيل الإمالة هو ذلك الاختلاف فى قدر ما تنحى به الإمالة (¬75). وقس على ذلك بقية صفات الأداء وقبيلها (¬76). وما كان من هذا القبيل واضحا فهو منقول متواتر لأنه جزء من القرآن، كزيادة المد المتصل على الطبيعى. وما كان دقيقا غامضا ككون هذه الزيادة بمقدار زمنى من الثوانى هو كذا وكذا، أو ككون نطقى بالمد فى طوله كنطق شيخى بلا أدنى زيادة ولا أدنى نقصان، أو ككون نطقى بالمد فى المرة الثانية جاء على طول المرة الأولى التى رضيها شيخى بلا أدنى زيادة ولا أدنى نقصان، فإن هذا القبيل الدقيق الغامض نوع آخر ليس من نوع ما يتواتر أو لا يتواتر، وليس داخلا فيما يقع به التكليف، بل الأمر فيه على السعة واليسر بدون إفراط ولا تفريط. والخلاصة أن ما أدركه القراء بآذانهم وشعورهم ونقلوه فى التلاوة فهو من أجزاء القرآن المتواترة، من قبيل الأداء كان ومن الهيئة أو من قبيل جواهر الألفاظ، كمد مالِكِ، وقصرها، والصاد المخلوطة بالزاى فى الصِّراطَ، والإمالة الكبرى، والإمالة الصغرى. وما كان من الأمور الغامضة والعسيرة والمتعذرة فلا كلام فيه. وما كان من إفراط فى المد مثلا، أو مبالغة فى الإمالة حتى صارت كسرا أو صارت قريبة منه جدا فإنه من نوع قبيل الأداء، لكنه القبيل الذى أدركه أهل الصنعة وأدركوا أنه غير منقول، فمنعوا منه (¬77). ثم ننبه إلى أمر، وهو: الشاذ المروى عن بعض العشرة- فنقول: المعمول به فى التلاوة التعبدية هو المتواتر عن القراء العشرة، وما شذ عن المعمول به فهو شاذ- كما سبق- حتى لو كان منسوبا إلى بعض العشرة. وذلك أن الإمام منهم كان يقرئ بالوجوه ¬

(¬73) انظر منجد المقرئين 62 - 64 والمرشد الوجيز لأبى شامة فى هذه المسألة. (¬74) مثال ما اختلفت الطرق فى نقله: الفتح أو الإمالة من طرق دورىّ الكسائى فى (يوارى) و (أوارى) فى المائدة، و (يوارى) فى الأعراف، و (فلا تمار) فى الكهف، فإنها من طريق الضرير عن دورىّ الكسائى من طرق الضرير الثانى عشرة بالإمالة، ومن طريق النصيبى عن دورىّ الكسائى من طرق النصيبى الستة بالفتح. فمن زعم أن الفتح مثلا غير متواتر عن الدورى عن الكسائى قلنا له: الدليل العقلى قائم على تواتر تفاصيل القرآن- وهذا منها- وهو مبين فى موضعه من هذا البحث- والإجماع على هذا الفتح وغيره مما استقر فى المعمول به عن القراء العشرة من أى طريق حاصل، والناقلون أكثر بكثير جدا مما اقتصر عليه فى تدوين العلم، وكل طريق فى طبقة فإنها فيها وليست وحدها، فلو كانت أتت بما لا تعرفه الجماعة، ما سكتت الجماعة. وفوق هذا كله أن أى ختمة من أى طريق من الطرق المعمول بها لا يمكن أن يستقر فيها ما ليس من القرآن- والقرآن متواتر بالإجماع- لأن الله تعالى تولى حفظه بنفسه، قال- سبحانه-: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ انظر مرجع الحاشية (14) ص 573 وغيرها. ومثال الانفرادات الباقية فى المعمول به: قراءة (سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) بلفظ الجمع (سقاة)، و (عمرة) فى وجه عن ابن وردان عن أبى جعفر. فمن زعم أن مثل هذه الانفرادة الباقية فى المعمول به غير متواترة ويكفى أنها صحيحة السند قلنا له مثل ما قلنا، آنفا، وزدنا على سبيل الدراية مع صحة الرواية والتواتر أنه لولا قرآنية هذه الانفرادات التى خلت منها بعض كتب ابن الجزرى بعد إثباته لها فى النشر، ودخلت فى بعض كتبه أخيرا- لولا قرآنيتها ما ساغ له أن يذكرها ويقرئ بها القرآن، ويجعل ذلك آخر أمره. انظر المرجع السابق ص 557 - 579 وغيرها. هذا والانفرادات الباقية فى المعمول به، وما اختلفت الطرق فى نقله وعمل بمختلفه مستقرأ فى تلاوة القرآن الكريم- كلاهما شىء واحد، وإنما ميزناهما لوقوع الكلام عليهما فى المراجع هكذا كأنهما نوعان. وقيد البقاء فى المعمول به ضرورى، فإن مما اختلفت الطرق فى نقله ما عدّ من قبيل الوهم، فلا يجوز العمل به، كما أن من الانفرادات ما ترك ففقد التواتر، وانقطع سنده، فلا يجوز العمل به أيضا. وتفصيل ذلك كله يعلم من رسالة (القراءات ... ) وغيرها. (¬75) انظر منع الموانع للشيخ زكريا الأنصارى وجه الورقة 55 مخطوط مكتبة الأزهر رقم 1451 أصول فقه. (¬76) وهى محصورة ومشروحة تفصيلا فى رسالة (القراءات ... ) ص 368 وغيرها. (¬77) انظر التفاصيل فى المرجع السابق 368 - 372، 584 - 587، وما تدل عليه من صفحات أخرى مثل ص 579 إلخ.

أنواع اختلاف القراءات العشر:

المتواترة، وكان يعلّم وجوها أخرى غير متواترة، لا ليتعبّد بها، ولكن لتستفاد- ما دامت صحيحة السند- فإنها تتضمن لغة، أو تفسيرا، أو غير ذلك، كما سيأتى فى بيان أثر القراءات الشاذة. والرواة مميزون غاية التمييز بين المتواتر والشاذ، ولا يمكن أن يلتبس ما هو قرآن بغيره. وعلى هذا فلا نستغرب ولا يشكل علينا أن يوصف وجه بالشذوذ وهو ينسب إلى بعض العشرة، ولا أن يوصف وجه بالشذوذ ويحتج به فى التفسير أو غيره، فما هو إلا الشذوذ الذى يعنى الخروج عن المعمول به، المتواتر، وهذا لا يمنع الاستفادة به فى غير التلاوة التعبدية. وهذه نماذج منه: مَعايِشَ (الأعراف: 10) قرأها نافع معايش بالهمز. بُشْراً (الأعراف: 57) قرئت بالباء وضمتين والتنوين فى وجه عن عاصم (¬78). وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ (الحاقة: 14) بتشديد الميم عن ابن عامر (¬79). لا تُضَارَّ (البقرة: 233) بتشديد الراء مع تسكينها لأبى جعفر (¬80). فمثل هذا يستفاد به فى غير التلاوة التعبدية إذا كان منقولا نقلا يرتضيه العلماء، ولا يتلى على أنه قرآن. ... أنواع اختلاف القراءات العشر: اختلاف القراءات العشر اختلاف تنوع وتغاير، لا اختلاف تضاد وتناقض، فإن هذا محال أن يكون فى كلام الله تعالى، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (النساء: 82). وأنواع اختلاف القراءات العشر ثلاثة: - الأول: اختلاف اللفظ مع اتحاد المعنى. مثل قراءة الصِّراطَ (الفاتحة: 6) بالصاد، وقراءتها بالسين، فالمعنى واحد، واللفظ مختلف. - الثانى: اختلافهما جميعا مع جواز اجتماعهما فى شىء واحد، مثل قراءة مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (الفاتحة: 4) بالألف، وقراءتها بدون ألف، فالقراءتان مختلفتان فى اللفظ، ومعنى الملك يختلف عن معنى المالك- كما هو واضح والمراد فى القراءتين هو الله تعالى، لأنه مالك يوم الدين، وملكه، فالاسمان والوصفان مجتمعان له تعالى. - الثالث: اختلافهما جميعا مع امتناع ¬

(¬78) انظر المحتسب 1/ 155. (¬79) انظر السابق 2/ 328. (¬80) انظر السابق 1/ 125.

جواز اجتماعهما فى شىء واحد، بل يتفقان من وجه آخر لا يقتضى التضاد، مثل: قراءة عَلِمْتَ بضم التاء للمتكلم، وقراءتها بفتحها للمخاطب، فاللفظ مختلف، والمعنى مختلف. ولا تناقض، فإن المتكلم يعلم، والمخاطب يعلم. وبيان ذلك أن قوله تعالى: قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ (الإسراء: 102) على القراءة بفتح التاء يعنى أن الله تعالى لما آتى موسى- عليه السلام- تسع آيات بينات، وهى اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنون، ونقص الثمرات، ومع ذلك أصر فرعون على الكفر، قال له موسى: لقد علمت يا فرعون أن هذه الآيات ما أنزلها إلا الله تعالى للعبرة، ولكنك تعاند. ففرعون هو الذى أضيف إليه العلم فى هذه القراءة. والمعنى على القراءة بالضم أن موسى- عليه السلام- هو الذى أضيف إليه العلم، أضافه موسى إلى نفسه، وأخبر بعلمه بذلك، يعنى أن العالم بذلك ليس مسحورا أى مجنونا أو مخدوعا أو مغلوبا على عقله، فاختلفت القراءتان فى اللفظ وفى المعنى، ولم يمكن اجتماعهما فى شىء واحد، ومع ذلك لم يتضادا، لأنهما اجتمعا من وجه، وهو حصول العلم بالغرض من الآيات لكل من موسى عليه السلام، وفرعون- لعنه الله. - وعلى هذا فليس فى شىء من القراءات تناف، ولا تضاد، ولا تناقض (¬81). - وقد ينظر فى تنويع اختلاف القراءات- مع النظر إلى اللفظ والمعنى- إلى صورة الخط، والإثبات وعدمه، والتقديم والتأخير، فيخرج الناظر بهذه الطريقة بأنواع سبعة، وهى: - الاختلاف فى الحركات، بلا تغير فى المعنى والصورة، مثل يَحْسَبُ (سورة الهمزة: 3 - وجميع النظائر) بفتح السين وكسرها. - الاختلاف فى الحركات، مع التغير فى المعنى، وعدم التغير فى الصورة، مثل فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ (البقرة: 37) بضم ميم (آدم) وكسر تاء (كلمات)، وبفتح الميم، وضم التاء. - الاختلاف فى الحروف مع التغير فى المعنى لا الصورة، مثل تَبْلُوا (يونس: 30)، وتتلوا. - الاختلاف فى الحروف والتغير فى الصورة دون المعنى، مثل الصِّراطَ (الفاتحة: 6)، و (السراط) (وإن كانت صورة ¬

(¬81) انظر النشر 1/ 49 - 51 وتفسير الجلالين مثلا 1/ 235 ط دار إحياء الكتب العربية 1342 هـ.

فوائد اختلاف القراءات العشر:

السين ليست فى المصاحف العثمانية فى هذا اللفظ ونحوه). - الاختلاف فى الحروف وتغير المعنى، وتغير الصورة، مثل: أَشَدَّ مِنْكُمْ. وأَشَدَّ مِنْهُمْ (غافر: 21). - الاختلاف فى التقديم والتأخير، نحو فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ (التوبة: 111) ببناء الأول للمعلوم والثانى للمجهول، وبتأخير المبنى للمعلوم وتقديم المبنى للمجهول. - الاختلاف فى الإثبات، وعدمه، كإثبات واو العطف، وحذفها فى وَسارِعُوا (آل عمران: 133) (¬82). وكل هذه القراءات، وسائر المعمول به للعشرة على ما ذكرنا من البراءة من أى اختلاف ضارّ. وتوجيهها، وبسط معانيها مكفول فى كتب التفسير، وكتب التوجيه. وهذا الاختلاف الثابت- بأنواعه- أشار إليه السكاكى فى خاتمة «المفتاح» إشارة العارف بما هو سائغ: مروى أنزله الله تعالى فى الأحرف السبعة ونزّه كتابه العزير عن كل شائبة. فوائد اختلاف القراءات العشر: للقراءات العشر أثر يظهر بفوائده الكثيرة فى مجالات عديدة، وإليك بيان ذلك: فى العقائد وكتب علم الكلام: - قرأ عاصم، والكسائى، ويعقوب، وخلف العاشر قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (الفاتحة: 4) بالألف، والباقون ملك بدون ألف (¬83). فأفادت كل قراءة اسما من أسمائه تعالى، مركبا إضافيا، جزؤه الثانى يَوْمِ الدِّينِ، وهذا هو مناط هذه الفائدة، وإلا ففي القرآن الكريم. مالِكَ الْمُلْكِ (آل عمران: 26)، وفيه مَلِكِ النَّاسِ (الناس: 2). والاسمان المستفادان من القراءتين لم يذكرهما البيهقى فى كتابه «الأسماء والصفات». - وقوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (البروج: 15) قرأ المجيد بالجر حمزة والكسائى وخلف- نعتا للعرش- والباقون بالرفع- نعتا لله تعالى (¬84). ومعنى المجيد: الرفيع العالى، والكريم (¬85). فاستفيد من القراءتين جواز إطلاق هذا الاسم الدال على صفة الرفعة والعلو والكرم على الله تعالى، على وجه الكمال المطلق فى الصفة، وعلى العرش، لكن على وجه الكمال المحدود بحدود المخلوق. ¬

(¬82) انظر النشر 1/ 26 - 27. (¬83) انظر النشر فى القراءات العشر لابن الجزرى 1/ 271. (¬84) انظر النشر فى القراءات 2/ 399. (¬85) انظر القاموس المحيط- مادة (مجد). وانظر النشر 2/ 398 - 399.

فى الأحكام الشرعية:

وقوله تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (التكوير: 24) قرأه بالضاد نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر وروح عن يعقوب وخلف، وقرأه الباقون بالظاء (¬86). والمعنى على قراءة الضاد: وما هو على الغيب ببخيل بل هو معصوم من البخل بما أنزل إليه من ربه. فهذه القراءة تثبت عقيدة العصمة من الكتمان، وتثبت وجوب التبليغ، والأمانة. والمعنى على قراءة الظاء: وما هو على الغيب بمتهم، بل هو معصوم من الوهم والخطأ والنسيان، وكل ما يسبب تهمة له فيما يبلغه من وحى الله تعالى، فهذه القراءة تثبت عقيدة العصمة فى هذا الشأن، عقيدة الصدق المطابق للحق بلا أدنى شائبة، وعقيدة الفطانة المنافية للغفلة، وما أثبتته القراءتان ثابت بأدلة كثيرة، ففائدتهما إثباته مرة أخرى، وتوكيده، اهتماما به، وتعميقا له فى نفوس المؤمنين، مع هذا الإيجاز البليغ المعجز. - وقوله تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها (البقرة: 148) قرأها بالياء من عدا ابن عامر، وقرأه ابن عامر مولاها: بالألف. ومعنى القراءة الأولى أن لكل قاصد جهة يتجه إليها، ويوليها وجهه. ومعنى القراءة الثانية أن غيره هو الذى يوجهه إليها، ويوليها وجهه. والفاعل هنا هو الله تعالى فاعل التولية، وفاعلها فى القراءة الأولى هو العبد، فأفادت القراءتان أن الفعل الواحد يصح أن ينسب إلى الفاعل المختار- جلّ جلاله- وإلى العبد، وهو كذلك فإنه ينسب إلى الله تعالى إيجادا، وخلقا، وإلى العبد تلبسا وكسبا، أو اكتسابا، كما هى عقيدة أهل السنة والجماعة. - وللقراءات أثر ضئيل فى كتب علم الكلام، «كشرح المواقف»، «والإنصاف» للباقلانى، «وشرح الفقه الأكبر» للقارى. وينبغى أن يتناول علم الكلام بين دفتيه القراءات بتوسع، لوجوب احترامها، والإيمان بها حرفا حرفا، فإنها قرآن من القرآن (¬87). فى الأحكام الشرعية: - قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (البقرة: 125) قراءة نافع وابن عامر بفتح الخاء، وباقى العشرة بكسرها (¬88). والقراءة بالفتح تفيد الإخبار عن متبعى سيدنا إبراهيم عليه السلام بأنهم اتخذوا من الحجر الذى تعرفه الناس اليوم مصلى يصلون عنده (¬89) ركعتى طواف القدوم، كما هو فى شريعتنا. ¬

(¬86) انظر النشر 2/ 223. (¬87) انظر رسالة (القراءات ... ) ص 769 لكاتب هذا الموضوع. (¬88) انظر النشر 2/ 222. (¬89) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبى 2/ 117 - 118 تحقيق د. محمد الحفناوى وزميله ط 2 دار الحديث 1996 م.

والقراءة بالكسر تفيد الأمر بذلك (¬90) حتى قال المالكية بوجوبهما (¬91). - وقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ (البقرة: 191)، قرأه حمزة والكسائى وخلف العاشر بدون ألف، أى ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم (¬92). وجاء فى التفسير أن معناها: ولا تبدءوهم بالقتل حتى يبدءوكم به فإن بدءوكم بالقتل فاقتلوهم (¬93). وهذه القراءة نص فى مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل فيه (¬94). وقرأه الباقون بالألف (¬95)، فيكون نهيا عن سبب القتل، فهو نهى عن القتل من باب أولى (¬96). - وقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ (البقرة: 222) قرأه بسكون الطاء وضم الهاء حفص ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب، وقرأه بفتح الطاء والهاء مع تشديدهما الكسائى وخلف العاشر وأبو بكر شعبة: (¬97). أفادت القراءة الأولى أن غاية الحل الطهر فلا يقربها زوجها حتى ينقطع دم الحيض، وأفادت القراءة الثانية أن الغاية التطهر فلا يقربها حتى تغتسل. قال الشوكانى: «إن الله سبحانه جعل للحل غايتين كما تقتضيه القراءتان: إحداهما: انقطاع الدم، والأخرى: التطهر منه، والغاية الأخرى مشتملة على زيادة، على الغاية الأولى، فيجب المصير إليها. وقد دل أن الغاية الأخرى هى المعتبرة قوله تعالى بعد ذلك: فَإِذا تَطَهَّرْنَ (البقرة: 222) فإن ذلك يفيد أن المعتبر التطهر لا مجرد انقطاع الدم. وقد تقرر أن القراءتين بمنزلة الآيتين، فكما أنه يجب الجمع بين الآيتين المشتملة إحداهما على زيادة بالعمل بتلك الزيادة، كذلك يجب الجمع بين القراءتين» (¬98). - وقوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ (النساء: الآية 25) قرأه حمزة والكسائى وخلف وأبو بكر أُحْصِنَّ بفتح الهمزة، وفتح الصاد، وقرأه الباقون بضم الهمزة وكسر الصاد (¬99). ومعنى القراءة الأولى: فإذا أسلمن. جاء ذلك مرويا فى التفسير، وهو قول الجمهور، وعليه فلا تحدّ المملوكة الكافرة إذا زنت- وهو قول الشافعى- ولكن تضرب تأديبا. ومعنى القراءة الثانية: فإذا أحصنهنّ أزواجهن فعليهن نصف ما على المحصنات- بمعنى المسلمات غير المتزوجات- من العذاب أى الحد، والنصف خمسون جلدة. ¬

(¬90) انظر السابق. (¬91) انظر أحكام القرآن لابن العربى 1/ 60 مراجعة وتخريج وتعليق محمد عبد القادر عطا دار الكتب العلمية بيروت ط 1/ 1988 م. (¬92) انظر النشر 2/ 227. (¬93) انظر حجة القراءات لابن نجلة ص 128 تحقيق د. الأفغانى ط أولى 1974 م. جامعة بن غازى ليبيا. (¬94) انظر روائع البيان للصابونى ط 2/ 1977 م مكتبة الغزالى دمشق. (¬95) انظر النشر السابق. (¬96) راجع روائع البيان السابق. (¬97) انظر النشر السابق. (¬98) فتح القدير للشوكانى 1/ 334 - 335 تحقيق ... سيد إبراهيم ط أولى 1993 م دار الحديث. (¬99) انظر النشر 2/ 249.

والإحصان يفسر فى كل موضع بما يناسبه، وهذا الحكم لا يلغى الحكم المستفاد من القراءة الأولى وإنما يبيّن أن الأمة المسلمة التى تحدّ وإن لم تتزوج كما هو مقتضى القراءة الأولى تحد نفس الحدّ إذا تزوجت، وهو خمسون جلدة، ولا يزيدها الزواج وإن كان يزيد الحرة، فإن الحرة المسلمة التى لم تتزوج تجلد مائة جلدة (¬100)، والتى تزوجت ترجم. فأفادت القراءة الأولى الحكم المذكور، وأفادت القراءة الثانية أنه هو هو فى صورة فيها زيادة وصف قد يظنّ منه أنه يفيد حكما زائدا. - وقوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ (النساء: 43) قرأه هكذا بالألف من عدا حمزة وخلفا العاشر والكسائى، وقرأه هؤلاء الثلاثة بدونها (¬101). والقراءة الأولى تفيد حكم الجماع، لأن الملامسة هى الجماع، والقراءة الثانية تفيد حكم التقاء بشرة الرجل ببشرة المرأة، لأن اللمس هو الجس باليد، لكن توسع فيه فليس قاصرا على خصوص اليد. فمن لم يجد الماء وقد أصابه الحدث الأكبر بالملامسة، أو الأصغر باللمس، أجزأه التيمم، فأفادت كل قراءة حكما شرعيا (¬102). وقال بعض العلماء: إن اللمس لا يختصّ بالجماع فتكون الملامسة كذلك لتتفق القراءتان، فتحمل الملامسة على الأعم، ويكون أولى، لأن قراءة اللمس تدل عليه بخلاف حملها على الأخص، وهو الإجماع، فليس له قراءة أخرى تؤيده (¬103). فنراه نزّل قراءة الألف على قراءة ترك الألف، وبيّن أن أثر القراءة بالألف هذا الحكم الفقهى حكم الجس باليد ونحوه، وأن أثر القراءة الثانية هو تأييد ذلك الحكم. - وقوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (المائدة: 6) قرأه نافع وابن عامر والكسائى ويعقوب وحفص بنصب الأرجل، وقرأه الباقون بالخفض (¬104). وقراءة النصب ظاهرة فى الغسل لأن الأرجل حينئذ عطف على المغسول فى الآية فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، وقراءة الخفض ظاهرة، فى المسح؛ لأن الأرجل حينئذ عطف على الممسوح فى الآية: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ وظهور كل منهما فيما دلت عليه متساو، مما جعل الطبرى وداود يذهبان إلى أن الحكم من الواجب المخير، فيغسل أو يمسح، كالتخيير فى كفارة اليمين بين الإطعام والكسوة وعتق رقبة (¬105). وذهب بعض العلماء إلى أن الحكم المستفاد ¬

(¬100) انظر حجة القراءات السابق 198، والجامع لأحكام القرآن السابق 5/ 147 - 149، وفتح القدير السابق 1/ 673 - 675، وأحكام القرآن للهراسى 2/ 319 - 321 تحقيق موسى محمد على، والدكتور عزت عطية ط دار الكتب الحديثة بدون تاريخ. (¬101) انظر النشر 2/ 250. (¬102) انظر الإتقان للسيوطى 2/ 1218 تقديم وتعليق مصطفى البغا ط الثالثة 1996 م دمشق بيروت دار ابن كثير. (¬103) انظر حاشية البيجرمى على الخطيب (تحفة الحبيب) 1/ 172 مطبعة التقدم العلمية بدون تاريخ. (¬104) انظر النشر 2/ 254. (¬105) انظر- مثلا- بداية المجتهد لابن رشد 1/ 17 - 18 تحقيق د. محمد سالم محيسن وزميله مكتبة الكليات الأزهرية 1982 م.

من قراءة النصب هو غسل الرجلين فى حالة ظهور القدمين ببيان السنة الفعلية، والمستفاد من قراءة الخفض هو المسح على الخفين ببيان السنة أيضا، حيث لم يفعل النبى صلّى الله عليه وسلم المسح إلا فى هذه الحالة، كما أنه فى حالة ظهورهما لم يكن منه إلا الغسل (¬106). - وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ (المائدة: 95) قرأه الكوفيون ويعقوب فَجَزاءٌ بالتنوين، مثل بالرفع (¬107)، وذهب الشافعى إلى أن الرجل إذا أصاب صيدا وهو محرم فى الحرم يجب عليه من النعم مثل المقتول من الصيد مثلية من طريق الخلقة، فإن أصاب حمار وحش فعليه بدنة (¬108) وإن أصاب ظبيا فعليه شاة. وهذه القراءة تدل على ذلك، فإن معناها: فجزاء ذلك الفعل: مثل ما قتل. والمثل- فى ظاهره- يقتضى المماثلة من طريق الصورة، لا من طريق القيمة (¬109). وقرأه الباقون بالإضافة بدون تنوين وبخفض اللام (¬110). ومذهب أبى حنيفة أن الصيد المقتول يقوّم بقيمته من الدراهم ثم يشترى القاتل بهذه القيمة فداء من النعم ثم يهديه إلى الكعبة. واستدل بهذه القراءة، فإن التقدير: فعليه جزاء مثله، أو: فجزاء مثل المقتول واجب عليه. ووجه الدليل فى هذا أنك إذا أضفته يجب أن يكون المضاف غير المضاف إليه، لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، فيجب أن يكون المثل غير الجزاء (¬111). فالنتيجة بالنسبة إلينا ثراء فقهى من أثر القراءات. - وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ (الأنفال: 72) قرأه حمزة بكسر واو وَلايَتِهِمْ والباقون بفتحها (¬112). وفسرت الولاية بالكسر بالميراث، فأفادت هذه القراءة أنه لا ميراث بالإيمان إلا إذا تمت الهجرة. وكان هذا فى مرحلة من تاريخ أحكام الميراث. والولاية بالفتح بمعنى النصرة فى أكثر استعمالها، فأفادت هذه القراءة أنه لا تجب النصرة للمؤمن الذى لم يهاجر. ثم أوجبتها الآية فى حالة خاصة، وهى ما إذا طلبت. كما ¬

(¬106) انظر شرح الفقه الأكبر لملا على قارى ص 75 ط الثانية الحلبى 1955 م. (¬107) انظر النشر 2/ 255. (¬108) البدنة: البعير ذكرا كان أو أنثى. قال مالك والشافعية والحنابلة: بشرط أن يكون مجزئا فى الأضحية، وهو ما بلغ خمس سنين وطعن فى السادسة. انظر الإقناع للشربينى 1/ 247، 2/ 240 الطبعة الأخيرة الحلبى 1940 م، والموسوعة الفقهية 2/ 118 وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويت إعادة طبع 1414 هـ- 1993 م. (¬109) انظر حجة القراءات 235 - 236. (¬110) انظر النشر السابق. (¬111) انظر حجة القراءات 236 - 237. (¬112) انظر النشر 2/ 277.

فى النحو والصرف:

دلت عليه الألف والسين والتاء فى اسْتَنْصَرُوكُمْ، وكما دل عليه الشرط نفسه وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ ثم رفعت الآية وجوب النصرة فى هذه الحالة الخاصة إذا كانت على قوم لهم عند المسلمين ميثاق إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ (¬113). - وقوله تعالى: فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ (النمل: 24 - 25) قرأه أبو جعفر والكسائى ورويس بتخفيف لام ألا ووقفوا- للبيان- على أَلَّا وعلى يا التى رسمت موصولة بفعل الأمر اسْجُدُوا هكذا يَسْجُدُوا، وابتدءوا بالفعل اسْجُدُوا بهمزة وصل مضمومة، على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا. وقرأه الباقون بتشديد لام أَلَّا ويَسْجُدُوا عندهم كلمة واحدة (¬114). وتفيد القراءة الأولى وجوب سجود التلاوة، لأنها أمر، والأمر للوجوب. وتفيد القراءة الثانية ذم تارك السجود (¬115). إلى غير ذلك من قراءات وأحكام شرعية (¬116). فى النحو والصرف: - نصب المضارع بعد الفاء أو الواو إذا سبقت بحصر. هذه قاعدة جديدة زادها ابن مالك فى مواضع نصب المضارع (¬117)، وهى أثر من آثار القراءات إذ قرأ ابن عامر: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (البقرة: 117) بنصب يكون (¬118). - والعطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار. هذا الحكم أفادته قراءة حمزة: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ (النساء: 1) بجرّ (الأرحام) (¬119). وقال بجواز ذلك الكوفيون وابن مالك (¬120) ويونس (¬121) والأخفش (¬122) والشلوبين (¬123)، كما فى المراجع (¬124). - الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول. أجازه الكوفيون ومن وافقهم وابن مالك، وقال فى «الكافية الشافية»: ابن عامر (وحجتى قراءة ابن عامر فكم لها من عاضد وناصر) وذلك أن ابن عامر قرأ: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ (الأنعام: 137) بضم الزاى وكسر الياء من (زين) ورفع لام (قتل) ونصب دال (أولادهم) وخفض همزة (شركائهم) بإضافة (قتل) إليه، وهو فاعل فى المعنى، وقد فصل بين المضاف وهو (قتل) وبين (شركائهم) وهو المضاف إليه بالمفعول وهو ¬

(¬113) انظر حجة القراءات 314، والجمل على الجلالين 2/ 259 ط عيسى الحلبى، ورسالة (القراءات ... ) ص 777. (¬114) راجع النشر 2/ 337. (¬115) انظر الجامع لأحكام القرآن 13/ 196. (¬116) انظر المزيد فى رسالة (القراءات ... ) ص 769 - 778. (¬117) انظر همع الهوامع للسيوطى 2/ 16 ط الأولى الخانجى 1327 هـ، وحاشية الصبان على الأشمونى 3/ 446 مراجعة وتقديم طه عبد الرءوف سعد المكتبة التوفيقية بدون تاريخ. (¬118) انظر النشر 2/ 220. (¬119) انظر النشر 2/ 247. (¬120) هو صاحب الألفية وغيرها فى النحو الإمام المشهور محمد بن عبد الله (ت 1274 م)، انظر تقديم طه عبد الرءوف سعد لحاشية الصبان السابقة. (¬121) هو يونس بن حبيب البصرى (ت 182 هـ) كان بارعا فى النحو صاحب قياس فيه ومذاهب. انظر طبقات المفسرين للداودى 2/ 385 دار الكتب العلمية بيروت بدون تاريخ. (¬122) هو أبو الحسن سعيد بن مسعدة البلخى البصرى من أئمة النحو المشهورين. انظر السابق 1/ 191 - 193. (¬123) هو أبو على عمر بن محمد (ت 645 هـ) كان إمام العربية فى عصره. انظر بغية الوعاة 364 للسيوطى مطبعة السعادة 1328 هـ. (¬124) مثل كتاب «الدفاع عن القرآن ... » للدكتور أحمد مكى الأنصارى، ومراجعه كالبحر المحيط لأبى حيان، وإعراب القرآن للسفاقسى ...

(أولادهم). وفى المصحف العثمانى الذى أرسل إلى الشام (شركائهم) بالياء، وفيما عداه من المصاحف العثمانية (شركاؤهم) بالواو. وواضح أن هذا الحكم لا يختص بضرورة الشعر (¬125). ومعنى هذه القراءة: (زين لكثير من المشركين قتل شركائهم لأولادهم، أى استحسنوا ما توسوسه شياطين الإنس من سدنة الأصنام وشياطين الجن من قتل الأولاد. فكأن هؤلاء الشركاء هم الذين قتلوهم. ففائدة هذه القراءة إذن: تذكر أولئك السفهاء بقبح طاعة أولئك الشركاء فى أفظع الجرائم والجنايات وهو قتل الأولاد) (¬126). وفائدة قراءة غير ابن عامر: بيان قبح ذلك الفعل من أفعال الشركاء وهو التزيين المذكور. وهذا من بديع أمر القراءات أن يتعدد المعنى وتكثر معانى القرآن مع غاية من الإيجاز، حتى كانت القراءات وجها من وجوه إعجاز القرآن، أو معمّقة لإعجازه البيانى (¬127). دخول لام الأمر على المضارع المبدوء بتاء الخطاب: (احتج على جواز إدخال لام الأمر على المضارع المبدوء بتاء الخطاب بقراءة قوله تعالى: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا (يونس: 58) (فلتفرحوا) (بالتاء) (¬128). وهى قراءة رويس عن يعقوب من العشرة (¬129)، فهى متواترة، فليحذر من القول بشذوذها أخذا من ظاهر سياق السيوطى فى «الاقتراح»، أو من نسبتها إلى أبىّ وأنس فقط كما فى شرح «الأشمونى» على «الألفية». وهى قراءة جماعة، فضلا عن أنها لغة النبى صلّى الله عليه وسلم (¬130). - سكون لام الأمر بعد ثمّ: أثبته ابن مالك بقراءة حمزة (¬131) ثُمَّ لْيَقْطَعْ (الحج: 15)، وهى قراءة جماعة منهم عاصم (¬132) الذى نقرأ بقراءته من رواية حفص. وفى ذلك رد على من قال إنه خاص بالشعر. وليس ضعيف ولا قليل- خلافا لمن زعم ذلك. هكذا قرره ابن هشام (¬133)، والأشمونى على الألفية (¬134). - تأنيث الفعل مع مرفوعه المذكر المجازى: استدل سيبويه على جواز ذلك بقراءة ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (الأنعام: 23) بتأنيث (تكن) ونصب (¬135) (فتنتهم) فهى خبر (تكن) مقدم، واسمها المصدر المؤول (أن قالوا ... ) وهو مرفوعها. واستشهد بغيرها أيضا (¬136)، وإن كانت كافية، لكن لا بأس، كما لا بأس بأن يذكر الحكم أولا ثم يستدل عليه بالقراءة، وإن كنا نرى الوجاهة فى ذكر القراءة أولا ثم استفادة الحكم منها (¬137). إلى غير ذلك من قراءات وآثار لها فى الأحكام النحوية ¬

(¬125) انظر النشر 2/ 263. (¬126) انظر تفسير المنار 8/ 109 - 110 طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1974. (¬127) رسالة (القراءات ... ) فيها شرح ذلك كله بتوسع فى صفحات كثيرة. (¬128) انظر النشر 2/ 285. (¬129) انظر السابق. (¬130) انظر حجة القراءات 333 - 334، ورسالة (القراءات ... ) ص 806. (¬131) انظر الاقتراح فى أصول النحو للسيوطى 58 - 59. (¬132) انظر النشر 2/ 326 للاستنتاج منه. (¬133) انظر مغنى اللبيب لابن هشام 1/ 185 - 186 ط عيسى الحلبى. (¬134) انظر على هامش حاشية الصبان 4/ 5 السابقة. (¬135) وهى قراءة نافع وجماعة. انظر النشر 2/ 257. (¬136) انظر «سيبويه والقراءات» د. أحمد مكى الأنصارى (ص 205 - 206) دار المعارف 1972 م. (¬137) انظر رسالة (القراءات ... ) ص 810.

فى البلاغة والإعجاز:

والصرفية، ما بين جديدة ومدعّمة لأحكام معروفة (¬138). فى البلاغة والإعجاز: - فى القراءات لغات مختلفة كتحقيق الهمز وتخفيفه، والفتح والإمالة، وضم الهاء وكسرها فى نحو (عليهم)، وصلة الميم بواو فى نحو (إليهم)، وصلة الهاء بياء فى نحو (فيه)، إلى غير ذلك. وهذه القراءات من أفصح لغات العرب، ولا يجوز الخروج عنها. وفى هذا نهوض بمستواهم فى اللغة، وتأنيس لهم، وتنشيط يدركه من يدركه، وترقية للتفكير، وسبب لزيادة التدبر. وهى أمور من أغراض الأدباء بمكان- والقرآن وقراءاته المثل الأعلى فى البيان. - وفى القراءات أساليب متنوعة، فمن غيبة فى قراءة إلى خطاب فى أخرى فى نفس الموضع، ومن تذكير إلى تأنيث، ومن إفراد إلى جمع، ومن، ومن ... وهذا منهج أدبى تستريح إليه الحاسة البيانية، ويدعو إلى زيادة التأمل، ويشتمل على المعانى البلاغية (¬139) وما أكثرها فى القراءات. - (وفى القراءات معان مختلفة كثيرة، غير متناقضة، وذلك حين تفيد القراءة معنى غير ما تفيده القراءة الأخرى فى نفس الموضع، مع إيجاز اللفظ، إذ تكون كل قراءة بمنزلة آية، ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدتها لم يخف ما كان فى ذلك من التطويل. وذلك من نهاية البلاغة، ومن وجوه إعجاز القرآن الكريم) (¬140). ونقتصر على قليل من النماذج الموضحة لبعض ما سبق فنقول: - قوله تعالى: طه (طه: 1) (قرئ بفتح الطاء فتحا خالصا، وألف خالصة بعدها، وكذلك الهاء. وقرئ بإمالة فتحة الطاء إلى جهة الكسرة، وألفها إلى جهة الياء، وكذلك الهاء) (¬141). والقراءة بالإمالة كأنها نص فى كون الكلمتين (طا)، و (ها) اسمين لحرفين من حروف الهجاء، ولا يتأتى فيها أن يكون الأصل (طأها) أمرا من وطئ بمعنى: دس عليها، أى على الأرض بقدميك (¬142). وفى التركيز على كونهما اسمين لحرفين اهتمام بالإشارة إلى إعجاز القرآن من جهة التنبيه بسرد الحروف التى فى أوائل السور من مثل ن (القلم: 1)، حم (غافر: 1) على أن القرآن مؤلف من حروف لغتكم ومع ذلك عجزتم عن الإتيان بمثله، فهو- إذن- من عند الله تعالى، ودليل على صحة النبوة والرسالة (¬143). فأفادت هذه القراءة أنه ينبغى الاعتناء بقضية الإعجاز ودليله. ¬

(¬138) انظر السابق 802 - 812. (¬139) انظر السابق 782 - 786 مثلا. (¬140) انظر النشر 1/ 52، والتحرير والتنوير لابن عاشور 1/ 83 الدار التونسية للنشر 1984 م تونس- وغيرها. (¬141) انظر إتحاف فضلاء البشر 302. (¬142) انظر مثلا تفسير القرطبى 11/ 175 - 176. (¬143) انظر مثل روح المعانى للآلوسى فى أوائل تفسير سورة البقرة.

والقراءة بالفتح تحتمل الإشارة إلى دليل الإعجاز، وهو أن القرآن مؤلف من هذه الحروف التى نسرد عليكم أسماء بعضها، وهى حروفكم وهو يتحداكم أن تأتوا منها بمثله، وأنتم الفصحاء، ومع ذلك عجزتم ولجأتم إلى السيوف والدماء بدلا من مقارعة الحجة بمثلها لو كنتم تملكونها. هذا معنى. وتحتمل أنها تخفيف (طأها) بإبدال الهمزة ألفا، فتفيد معنى آخر، وهو الحكم بوضع الرّجل المرفوعة على الأرض، وترك ما يبلغ حد المشقة الداعية إلى المراوحة بين الرّجلين (¬144) من طول القيام فى صلاة الليل (¬145). فلم تقتصر الفائدة على كون الفتح والإمالة من لغات القراءات ذات النهوض بالمستوى اللغوى- إلى آخر ما سبق- بل جاءت الثمرة، تلو الثمرة. وهذا مع جملة ما يندرج تحت عنوان (أثر القراءات) أخذناه عن سلفنا الذين قالوا- بسببه: (إن القراءات من وجوه الإعجاز، وكماله، ومحاسنه) (¬146). - وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (العنكبوت: 57) قرئ بالخطاب والغيبة (¬147). والخطاب للمؤمنين، وهو وعد لهم بحسن الجزاء، والغيبة يحتمل فيها أن تكون الواو للكافرين المعادين للمؤمنين، ويكون الكلام وعيدا لهم، وأن تكون الواو لكل نفس، ويكون الكلام وعدا للمؤمنين ووعيدا لغيرهم (¬148). وهذا من تعدد الأساليب، وتعدد المعانى، ومن فنون البلاغة العالية. - وقوله تعالى: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ (يونس: 78) قرئ (وتكون) بالتاء، وبالياء (¬149). والقائلون قوم فرعون، والمراد من المثنى موسى وهارون- عليهما السلام (¬150). والقراءة بتاء المؤنث لأن (الكبرياء) مؤنث- وإن كان تأنيثه مجازيا. هذا هو الأصل المتعارف فى لغة العرب (¬151). ثم إن اللغة صدى لما فى النفس وتصوير لشعورها، والمؤنث فى المخلوقات ضعيف عادة بالقياس إلى المذكر، فالقراءة الأولى تشعر بأن القوم فى بعض أوقاتهم هوّنوا من شأن الكبرياء تزهيدا لموسى وأخيه فى ثمرة لا تستحق عناء محاولتهما المستحيل وهو ترك ما وجدوا عليه آباءهم، وعناء العداوة التى تتأجج بسبب تلك المحاولة. وهذا على ما يتصورون من أن غرضهما هو الحصول على الكبرياء فى الأرض. والقراءة بالتذكير لأن التأنيث غير حقيقى فضلا عن أنه مفصول عن الفعل بقوله (لكما) (¬152). وتذكير الفعل مع المؤنث المجازى يكون للتعظيم والتفخيم (¬153). ¬

(¬144) راوح بين رجليه: قام على كل منهما مرة. انظر المعجم الوسيط مادة (روح) وذلك لتسترح الرجل المرفوعة، ثم ينزلها ويرفع. (¬145) انظر تفسير القرطبى السابق. (¬146) انظر رسالة (القراءات ... ) ص 785 بهوامشها. (¬147) انظر النشر 2/ 343. (¬148) انظر التحرير والتنوير 21/ 22 - 23، ورسالة (القراءات ... ) ص 765. (¬149) انظر إتحاف فضلاء البشر 253. (¬150) انظر روح المعانى 11/ 165. (¬151) انظر باب الفاعل فى مثل حاشية الصبان على الأشمونى. (¬152) انظر روح المعانى السابق. (¬153) انظر شرح عقود الجمان للمرشدى 1/ 116 ط 2/ 1955 م الحلبى.

فتشعر هذه القراءة بأن القوم فى بعض أوقاتهم استعظموا الكسب الذى يحصل عليه موسى وأخوه- وهو الكبرياء فى الأرض على ما توهموا أنه غرضهما- لو نجحا فى صرفهم عما وجدوا عليه آباءهم. فأفادت القراءتان معنيين، واستوفتا حالتى القوم اللتين اعتبرت كل حالة منهما القوم فى بعض الأوقات. ويجوز وجه آخر، وهو أن تكون قراءة التأنيث مفيدة لحالة فريق من القوم استصغر ثمرة الدعوة، وقراءة التذكير مفيدة لحالة فريق آخر منهم استعظمها- على الوجه المذكور فى الاستصغار والاستعظام. وهذه المعانى، وهذا الاستيفاء للأحوال، والأوقات، والجماعات من البلاغة بمكان. - وقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ الأنعام: 115) (قرئ كلمة ربك) بالإفراد، و (كلمات ربك) بالجمع (¬154). (فالانفراد على إرادة الجنس) (¬155)، وهو معنى يقصده المتكلم. (والجمع لتنوع الكلمات الربانية أمرا، ونهيا، ووعدا، ووعيدا) (¬156). وهو معنى آخر من مقاصد الكلام. وكل هذا يعدّ من التوسعات البيانية، ومن التخفيف النفسى حيث لا حبس على وجه واحد. وليس ممّا تختلف فيه لهجات العرب. وقوله: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ بالجمع وجها واحدا فاتفق معه الجمع فى القراءة الثانية، إذ الجمعان بمعنى واحد. والإفراد فى القراءة الأولى ينوب عن الجمع؛ لأنه اسم جنس. وكل قراءة على انفرادها جاءت على أسلوب فصيح، واجتماعهما على موضع واحد أمر يمتاز به القرآن الكريم فى إيجازه وبلاغته الفائقة (¬157). - وقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً (النساء: 94) قرئ (السلم) بدون ألف بعد اللام، وقرئ (السلام) بالألف (¬158). (وفسّر من ألقى السلم بأنه من استسلم فأظهر الانقياد لما دعى إليه من الإسلام. وفسر من ألقى السلام بأنه من أظهر تحية الإسلام، وقد كان ذلك علما لمن أظهر به الدخول فى الإسلام) (¬159). إلى غير ذلك من قراءات كثيرة ذات معان شريفة وفيرة. وبهذا قدمنا صورة- وإن كانت مصغرة جدا- لأثر القراءات فى بلاغة القرآن، وإعجازه. ولم يظهر أثرها فى علم البلاغة لوجهين: أحدهما: الاكتفاء بعلم إعجاز القرآن (¬160)، والآخر: أن علم البلاغة يقدم قواعد يستثمرها من يستطيع فيأتى بالكلام ¬

(¬154) انظر النشر 2/ 262. (¬155) انظر الفتوحات الإلهية (الجمل على الجلالين) 2/ 81. (¬156) انظر السابق. (¬157) انظر رسالة (القراءات ... ) ص 456. (¬158) انظر النشر 2/ 251. (¬159) انظر أحكام القرآن للجصاص 2/ 247 ط باكستان بدون تاريخ. (¬160) وكتبه كثيرة، وأشهرها «إعجاز القرآن» للباقلانى، طبع مرارا، وحقق.

فى التفسير:

البليغ المشابه لما أتى به فصحاء العرب، والقراءات تستعصى على العلم أن يجعلها قاعدة يستثمرها أحد فيأتى بنتاج أدبى ذى قراءات شريفة شرف قراءات القرآن، أو تكاد. (ومن أقل القليل أن تجد نظيرا للقراءات فى أدب الفصحاء القدماء من رجال الجاهلية أو من رجال الإسلام) (¬161). (وإن وجدت نظيرا كمثل المقامة القهقرية عند الحريرى فليست فى العير ولا فى النفير من يسر وشريف معنى، وروعة أسلوب، وتغذية قلوب) (¬162) وما ذلك إلا لأن القراءات وجه من وجوه الإعجاز، ولن يطالعك بهذا الوجه إلا القرآن. أما أثر القراءات أو تسببها فى ظهور دراسات بلاغية حولها فهذا شىء طبيعى من عادة المسلمين فى خدمة الكتاب العزيز، ومع ذلك فلا زالت تلك الدراسات قليلة (¬163)، مع أن الداعى إلى زيادتها ذو صوت جهير. فى التفسير: أثر القراءات فى تفسير القرآن الكريم أثر كبير، وهذه نماذج منه: - قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (البقرة: 219) العفو: الفضل (¬164). وقرئ بالنصب، والرفع (¬165) وقراءة النصب تفسر (ماذا) إذ تدل على أنها كلمة واحدة مفعول مقدم لينفقون، حتى تكون جملة السؤال فعلية لتطابق الجواب، فإن الجواب (العفو) تقديره: (أنفقوا العفو) جملة فعلية، والتطابق هو الأولى بالرعاية، فتقدير السؤال: (أىّ شىء ننفق؟) كما تستدعيه هذه القراءة. وقراءة الرفع تفسر (ماذا) بتفسير آخر، إذ تدل على أن (ما) كلمة، وهى مبتدأ، و (ذا) كلمة، وهى خبر، والأولى اسم استفهام، والثانية اسم موصول بمعنى الذى، وصلته الجملة التى بعده، والعائد محذوف، والتقدير (ينفقونه). فالسؤال جملة اسمية كالجواب، فتطابقا. وتقدير السؤال: ما الذى ننفقه؟، وتقدير الجواب: الذى تنفقونه العفو (¬166) (¬167). - وقوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (المسد: 4) قرئ بنصب (حمالة) وبالرفع (¬168). أما النصب فيشير إلى أن (حمالة) بدء جملة، وإلى أن (امرأته) عطف مفرد على مفرد هو ضمير سَيَصْلى (المسد: 3) وعلى ذلك يسوغ الوقف على (وامرأته)، وينكشف أن المعنى والتقدير: سيصلى نارا ذات لهب هو وامرأته، أعنى حمالة الحطب. وأما الرفع فيكشف عن معنى آخر، وهو أن امرأة أبى لهب امرأة حمالة للحطب. فامرأته مبتدأ، و (حمالة الحطب) خبر، ¬

(¬161) انظر رسالة (القراءات ... ) ص 208 - 212 مثلا. (¬162) انظر السابق 801. (¬163) منها ما فى رسالة (القراءات ... ) ص 782 - 801، وبحث للدكتور فتحى فريد الأستاذ بكلية اللغة العربية عن القراءات وإعجازها، وكتاب «التوجيه البلاغى للقراءات القرآنية» للدكتور أحمد سعد محمد، وما يدل عليه من دراسات فى هذا المجال. انظر (ص 11 - 12) ط 2 سنة 2000 م مكتبة الآداب. (¬164) انظر مدارك التنزيل للنسفى 1/ 86 المطبعة الحسينية المصرية 1344 هـ. (¬165) انظر النشر 2/ 227. (¬166) راجع مدارك التنزيل السابق. (¬167) أضف إلى هذا الأثر التفسيرى ما تلمسه من أثر لغوى حيث أفادت القراءتان أن (ماذا) تستعمل على أنها كلمة واحدة اسم استفهام، وعلى أن (ما) كلمة، اسم استفهام، و (ذا) كلمة ثانية، اسم موصول بمعنى الذى. وتأمل أيضا إفادة هاتين القراءتين لمعنيين. وهكذا شأن القراءات تتكاثر فوائدها، لا فى هذا المقام فقط، أو هذا المثال فقط. (¬168) انظر النشر 2/ 404.

والعطف عطف جملة على جملة، ولا يسوغ الوقف على (وامرأته) لأنه لا يوقف على المبتدأ دون خبره (¬169). - وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً (النساء: 94) (قرئ: (فتبينوا) وقرئ: (فتثبتوا) (¬170). (وفسر ابن الأنبارى الأولى بالثانية، فجعلهما بمعنى واحد، وذلك أن أحد المترادفين قد يكون أجلى فيكون شارحا) (¬171). إلى غير ذلك (¬172). - هذا وأثر القراءات فى علم التفسير ماثل فى كتبه بما لا حصر له. ومن فوائد اختلاف القراءات- بالإضافة إلى ما سلف: - ما فى ذلك الاختلاف- كما قال ابن الجزرى- «من عظيم البرهان وواضح الدلالة، إذ هو مع كثرة هذا الاختلاف وتنوعه لم يتطرق إليه تضاد ولا تناقض ولا تخالف، بل كله يصدق بعضه بعضا، ويبين بعضه بعضا، ويشهد بعضه لبعض، على نمط واحد، وأسلوب واحد، وما ذاك إلا آية بالغة، وبرهان قاطع على صدق من جاء به صلّى الله عليه وسلم. - ومنها سهولة حفظه، وتيسير نقله على هذه الأمة، إذ هو على هذه الصفة من البلاغة والوجازة، فإنه من يحفظ كلمة ذات أوجه أسهل عليه وأقرب إلى فهمه وأدعى لقبوله من حفظه جملا من الكلام تؤدى معانى تلك القراءات المختلفات، لا سيما فيما كان خطه واحدا، فإن ذلك أسهل حفظا، وأيسر لفظا. - ومنها إعظام أجور هذه الأمة من حيث إنهم يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم فى تتبع معانى ذلك واستنباط الحكم والأحكام من دلالة كل لفظ، واستخراج كمين أسراره وخفى إشاراته، وإنعامهم النظر، وإمعانهم الكشف عن التوجيه والتعليل والترجيح والتفصيل، بقدر ما يبلغ غاية علمهم، ويصل إليه نهاية فهمهم .. والأجر على قدر المشقة. - ومنها بيان فضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم، من حيث تلقيهم كتاب ربهم هذا التلقى، وإقبالهم عليه هذا الإقبال، والبحث عنه لفظة لفظة، والكشف عنه صيغة صيغة، وبيان صوابه، وبيان تصحيحه، وإتقان تجويده، حتى حموه من خلل التحريف، وحفظوه من الطغيان والتطفيف، فلم يهملوا تحريكا ولا تسكينا، ولا تفخيما ولا ترقيقا، حتى ضبطوا مقادير المدّات، وتفاوت الإمالات، وميزوا بين الحروف بالصفات، مما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم، ولا يوصل إليه إلا بإلهام بارئ النسم. ¬

(¬169) راجع مدارك التنزيل 4/ 284 - 285 وغيره. (¬170) انظر النشر 2/ 251. (¬171) انظر رسالة (القراءات ... ) ص 827. (¬172) انظر السابق 824 - 827.

- أنواع القراءات:

- ومنها ما ادخره الله من المنقبة العظيمة، والنعمة الجليلة الجسيمة لهذه الأمة الشريفة، من إسنادها كتاب ربها، واتصال هذا السبب الإلهى بسببها خصيصة الله تعالى هذه الأمة المحمدية، وإعظاما لقدر أهل هذه الملة الحنيفية، وكل قارئ يوصل حروفه بالنقل إلى أصله، ويرفع ارتياب الملحد- قطعا- بوصله. - ومنها ظهور سر الله تعالى فى توليه حفظ كتابه العزيز (متواترا) على ممر الدهور، منقوشا فى المصاحف والصدور (¬173). - ومنها إعطاء ثروة ضخمة يسعد بها الباحثون الذين يمارسون الدراسات الصوتية واللغوية الحديثة. - ومنها تقويم اللسان. - ومنها شحذ الأذهان. - إلى آخر ما تجده فى المراجع (¬174). - أنواع القراءات: المقصود هنا مطلق القراءات، لا المتواترة فقط. والتصور الواعى أن القراءات نوعان: متواترة معمول بها مجمع عليها، وشاذة (¬175). وهناك نظر توقف عند مظهر للقراءات، ولم يتجاوزه إلى مخبرها، فرأى أن منها القراءة المشهورة، والقراءة الضعيفة، إلى آخر ما سنذكره. ومما يؤسف له أن هذا النظر القاصر أخرج من المتواترة قدرا كبيرا، وأدخله فى بعض الأنواع النازلة عن التواتر- وهو قول باطل. وجريا على ما تداولته كتب علوم القرآن ونحوها من ذلك القول نذكر تلك الأنواع، لكن لا بدّ من إظهار بطلان الباطل فيها. وهى ستة: - القراءة المتواترة: وهى العشر التى تقرر فى هذا البحث تواترها من طرقها المعروفة فى الفن تواترا شاملا لأصولها وفرشها وما اختلفت فيه الطرق فضلا عما اتفقت عليه- إلى آخر ما هنالك. - القراءة المشهورة: وهى ما صح سندها ولم يبلغ درجة التواتر، ووافقت العربية والرسم، واشتهرت عند القراء فلم يعدوها من الغلط، ولا من الشذوذ. وحكمها: أنها يقرأ بها. هكذا قال السيوطى (¬176). ومثل له: بما رواه بعض الرواة دون بعض، وقال إن أمثلته كثيرة فى فرش الحروف، وإن من أشهر ما صنف فى ذلك «التيسير» للدانى. وهذا الذى قاله عما رواه البعض دون البعض مردود بقيام أدلة التواتر المذكورة فى ¬

(¬173) النشر- وانظره- 1/ 52 - 53. (¬174) انظر فى هذه المجموعة الأخيرة من الفوائد- وفى زيادة عليها- رسالة (القراءات ... ) ص 827 - 829. (¬175) انظر غيث النفع للسفاقسى على هامش سراج القارئ المبتدى ص 6 ط الحلبى 1939 م. (¬176) انظر الإتقان 1/ 241 - بتصرف.

- الآحادية (الشاذة) وحكمها:

هذا البحث، كما أن العبرة ليست بأن يرويه البعض أو الكل، فإنهم لا يمثلون عدد التواتر، والتواتر حاصل بمن روى ومن وافقوه، وإن كان هناك غيرهم لم ينقلوا ذلك الوجه. ومن ذهب إلى قراءات الأربعة الزائدين على العشرة وجد فيها أمثلة للمشهور (¬177). ولا يقرأ إلا بالمتواتر، فلا قرآن إلا المتواتر. - الآحادية (الشاذة) وحكمها: جعل أهل الأصول شذوذ القراءة منوطا بنقل الآحاد، فليس عندهم إلا المتواتر والشاذ، أو المتواتر والآحاد. والحكم أنه لا يقرأ إلا بالمتواتر. أما فى الأحكام الأدبية فالعلماء من مختلف التخصصات يقبلون ما نقل على مستوى مقبول، ولا يشترط فيه التواتر فى تلك الأحكام (¬178). وجعل السيوطى الآحاد نوعا، والشاذ نوعا، وقال: إنه لا يقرأ بهما. فالآحاد عنده هو ما صح سنده وخالف الرسم، أو العربية، أو لم يشتهر الاشتهار المذكور. ومن أمثلته عنده: (من قرات أعين) فى قراءة قوله تعالى: مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ (السجدة: 17). وقوله: (أو العربية). فيه نظر، فإن ما خالف العربية خطأ غير منقول، ولو تراكم الخطأ فيه صار مشهورا، ثم لا تنفعه شهرته. وقوله: (الاشتهار المذكور). يجعل الاشتهار مستويين. وهذا ونحوه عناء لا طائل وراءه. لكن ما الحيلة؟!. والشاذ عند السيوطى هو ما لم يصح سنده. ومن أمثلته قراءة ملك يوم الدين (الفاتحة: 4) بفتح حروف (ملك) فعلا ماضيا. وهو مذهب للسيوطى فى «الإتقان» مخالف لمصطلح علماء الحديث فى تعريفهم للشاذ. وما كان بالصفة التى ذكرها (لم يصح سنده) فإنه لا يقبل فى شىء. أما ما صح ولم يتواتر فقد تكرر أنه يقبل فى الأحكام الأدبية اتفاقا- ونجد جمهور الفقهاء يقبلونه فى الأحكام الشرعية العملية إذا تضمن شيئا منها. - القراءة المدرجة (أو التفسيرية): ظهر للسيوطى نوع من أنواع القراءات قال إنه يشبهه من أنواع الحديث المدرج، وقال: «وهو ما زيد فى القراءات على وجه التفسير، كقراءة سعد بن أبى وقاص: (وله أخ أو أخت من أم) فى قوله تعالى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ (النساء: 12) «أخرجها سعيد بن منصور» (¬179). وواضح أنها ليست قرآنا يتلى تعبدا، وإنما يستفاد بها فى التفسير اتفاقا. ¬

(¬177) انظر رسالة (القراءات ... ) ص 480. (¬178) انظر مناهل العرفان للزرقانى 1/ هامش 417 - 418. (¬179) انظر الإتقان 1/ 243 وما قبلها.

توجيه القراءات:

- القراءة الضعيفة: هى ما ضعف سندها. وهناك كلمة عامة لابن الجزرى أن الضعيف: هو ما اختل فيه ركن من أركان القرآنية الثلاثة عنده، وهى موافقة وجه نحوى، واحتمال الرسم العثمانى، وصحة السند. ومن أمثلة الضعيف التى ذكرها قراءة أبى السمال وغيره بالحاء بدل الجيم فى قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ (يونس: 92). وواضح أن القراءة الضعيفة لا يقرأ بها القرآن، ولا يستفاد بها فى شىء (¬180). - القراءة الموضوعة: هى المختلفة. مثالها قول من قال من الرافضة بأن (المضلين) بفتح اللام وكسر النون مثنى يقصد به أبو بكر وعمر- رضى الله عنهما. وهذا تحريف لا خلاف فى أنه كفر. والآية الكريمة بكسر اللام وفتح النون جمعا مذكرا سالما فى قوله تعالى: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (الكهف: 51). ومن أراد الكثير من التوضيح والنماذج والأنواع وجد (¬181). ... توجيه القراءات: معناه: هو عبارة عن بيان وجه القراءة من حيث اللغة والمعنى. - وقد صار التوجيه علما، يعرّف بأنه: (علم باحث عن لميّة القراءات) (¬182). وتعطينا كتبه تصورا له مفصلا، فنعرّفه بقولنا: (علم توجيه القراءات: علم يبحث عن القراءات من جوانبها الصوتية، والصرفية، والنحوية، والبلاغية، والدلالية). - وله أسماء: منها: الاحتجاج، حجج- أو حجة- القراءات، علل القراءات، علم القراءات دراية، فقه القراءات (¬183). توجيه المتواتر: لا يخفى أن التوجيه تفسير، ثم هو تفسير يبذل فيه جهد زائد لتأمل القراءتين والفرق بينهما، والتعرف على جلالة المعانى، وجزالتها، فإن القراءات من محاسن وجوه الإعجاز، وهى أجزاء من القرآن (¬184). وبما أن التوجيه عمل بشرى فإن فيه الحسن، والأحسن، وفيه ما قاله قائله فكان فى قوله غير موفق (¬185). ومما حظره العلماء أن يقوم المتفحص للقراءتين بترجيح إحداهما على الأخرى ترجيحا ينتقص من الأخرى غافلا عن أنها قرآن من القرآن. فهذا قد يتجه فى بعض القراءات الشاذة، أما المتواترة فلا (¬186). ¬

(¬180) انظر رسالة (القراءات ... ) ص 481، 512. (¬181) فانظر- إن شئت- الرسالة السابقة ص 478 - 523. (¬182) انظر مفتاح السعادة تأليف طاش كبرى زاده ج 2 ص 371. (¬183) انظر رسالة (القراءات ... ) ص 816، 151 أيضا. (¬184) بعض ذلك فى البرهان للزركشى 1/ 339. (¬185) انظر رسالة (القراءات ... ) ص 817. (¬186) انظر البرهان السابق 339 - 341.

توجيه الشاذ:

توجيه الشاذ: الشاذ الذى يستحق أن يشتغل بتوجيهه هو الشاذ الوارد بسند مقبول، أو الذى عرفنا العلماء أنه مقبول، فاشتغلوا به رواية، ودراية. وحكم الشاذ من حيث الاحتجاج به فى الأحكام الأدبية، والشرعية له موضعه من هذا البحث. وتوجيهه علم من العلم، وكثيرا ما يصعب إدراك وجهه، ولهذا صار يقال بشأنه: إن توجيه القراءة الشاذة أقوى فى الصناعة من القراءة غير الشاذة (¬187). وقد أتى علم التوجيه للمتواتر، وللشاذ ثمارا منهما معجبة بارعة فى المجالات العلمية المختلفة ذات العلاقات بتلك القراءات. أثر توجيه القراءات القرآنية فى إظهار ثروة من المعانى القرآنية: رغم أن التوجيه تفسير إلا أنه عمل متميز- كما سلف- ولهذا صح أن نقول: إنه ذو أثر متميز فى إبراز معان قرآنية لا يتيسر استشرافها فى كتب التفسير، قال الشيخ طاهر الجزائرى: (واعلم أن المشتغلين بفن القراءات وتوجيهها يلوح لهم من خصائص اللغة العربية ودلائل إعجاز الكتاب العزيز ما لا يلوح لغيرهم، ويحصل لهم من البهجة ما يعجز اللسان عن بيانه، فينبغى لمن سمت همته أن يقدم على ذلك، بعد أن يقف على الفنون التى يلزم أن يوقف عليها من قبل، فالأمر يسير على من جد جده، والله ولى التوفيق) (¬188). ونكتفى بنموذج، فنقول: قرئ فى العشر الكبرى قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً (الحديد: 27): (رآفة) بمد الهمزة، و (رأفة) بسكونها. وهما مصدران لا فرق بينهما فى المعنى عند المفسرين. ولم يقرأ فى العشر إلا بسكون الهمزة فى قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ (النور: 2). وتوجيه ذلك أن زيادة المبنى فى (رآفة) تدل على زيادة المعنى، فهى رأفة عظيمة، وكيف لا وهى من إيجاد الله تعالى إيجادا خاصا. أما فى سورة النور فالمقام مقام نهى عن أى رأفة فى تنفيذ حكم الله تعالى فى مرتكبى الفاحشة، لا نهى عن رأفة عظيمة (¬189). ومن أراد العديد من النماذج وجد (¬190). ... ¬

(¬187) انظر السابق. (¬188) التبيان للجزائرى ص 120 ط المنار 1334 هـ. (¬189) انظر (محاضرات فى مقارنة القراءات للدكتور عبد الغفور محمود مصطفى (مخطوطة بأيدى طلبة الفرقة الثانية دراسات عليا كلية القرآن الكريم فى طنطا سنة 2002 م). (¬190) انظر- مثلا- رسالة (القراءات ... ) ص 817 إلخ، وكذا (محاضرات فى مقارنة القراءات) السابقة.

القراء المشهورون من الصحابة:

القراء المشهورون من الصحابة: الذين نقل عنهم شىء من القراءات من الصحابة- رضى الله عنهم- كثيرون، منهم: - عثمان بن عفان (ت 35 هـ). قرأ عليه المغيرة بن أبى شهاب المخزومى، وأبو عبد الرحمن السلمى، وزر بن حبيش، وأبو الأسود الدؤلى (¬191). - على بن أبى طالب (ت 40 هـ). قرأ عليه أبو عبد الرحمن السلمى، وأبو الأسود الدؤلى، وعبد الرحمن بن أبى ليلى (¬192). - أبىّ بن كعب (ت قبل مقتل عثمان بجمعة أو شهر). قرأ عليه النبى صلّى الله عليه وسلم للإرشاد والتعليم، وأبو هريرة، وابن عباس، وابن السائب، وغيرهم (¬193). - عبد الله بن مسعود (ت آخر سنة 32 هـ). قرأ عليه كثير، منهم: الحارث بن قيس، وذر ابن حبيش، وعلقمة، والسلمى (¬194). - زيد بن ثابت (ت 45 هـ). قرأ عليه أبو هريرة، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمى، وأبو العالية الرياحى (¬195). - أبو موسى الأشعرى (ت 44 هـ) هو عبد الله بن قيس اليمانى. قرأ عليه حطاب الرقاشى، وأبو رجاء العطاردى، وأبو شيخ الهنائى (¬196). - أبو الدرداء (ت 32 هـ) هو عويمر بن زيد الأنصارى الخزرجى. قرأ عليه عبد الله بن عامر اليحصبى أحد القراء السبعة، وخليد ابن سعد، وخالد بن معدان، وغيرهم (¬197). وقد حفظ هؤلاء السبعة القرآن الكريم فى حياة النبى صلّى الله عليه وسلم، وعرضوه عليه، وأخذ عنهم عرضا، وعليهم دارت أسانيد الأئمة العشرة (¬198). والحفاظ من الصحابة غير هؤلاء كثير (¬199). ... القراء المشهورون من التابعين: تلقى التابعون- رضى الله عنهم- القراءات عن الصحابة- رحمهم الله- وتلقى بعضهم عن بعض، وقاموا مقام الصحابة فى حفظ القراءات، وتبليغها، ونشرها فى الأقطار الإسلامية. وإليك ما يتيسر من ذلك: بالمدينة: - أبو الحارث عبد الله بن عياش (ت 69 هـ). قرأ عليه الإمام أبو جعفر أحد القراء العشرة، ويزيد بن رومان، وشيبة، ومسلم بن جندب، وغيرهم (¬200). ¬

(¬191) انظر غاية النهاية 1/ 507. (¬192) انظر السابق 546. (¬193) انظر السابق 31. (¬194) انظر السابق 458 - 460. (¬195) انظر السابق 296 - 297. (¬196) انظر غاية النهاية ورسالة (القراءات ... ) 26. (¬197) انظر غاية النهاية ورسالة (القراءات ... ) 25 - 27 - 52. (¬198) انظر رسالة (القراءات ... ) ص 26 - 52. (¬199) انظر رسالة (القراءات ... ). (¬200) انظر معرفة القراء الكبار للذهبى 1/ 49.

بمكة:

- سعيد بن المسيب (ت 94 هـ). قرأ عليه محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى (¬201). - عبد الرحمن بن هرمز الأعرج (ت 117 هـ). قرأ عليه الإمام نافع أحد القراء السبعة، وروى عنه الحروف أسيد بن أبى أسيد (¬202). - محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى (ت 124 هـ). قرأ عليه الإمام نافع، وروى عنه الحروف عثمان بن عبد الرحمن الوقاصى. وروى عنه مالك بن أنس، وغيره (¬203). - عروة بن الزبير (ت 93 هـ). وردت الرواية عنه فى حروف القرآن. وروى عنه أولاده والزهرى وجماعة (¬204). - سالم بن عبد الله (ت 106 هـ). وردت عنه الرواية فى حروف القرآن. وهو أحد الفقهاء السبعة (¬205). - عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ). وردت الرواية عنه فى حروف القرآن وكان حسن الصوت بالقرآن، ومناقبه كثيرة (¬206). - سليمان بن يسار (ت 107 هـ). وردت عنه الرواية فى حروف القرآن. وهو تابعى جليل (¬207). وغيرهم (¬208). بمكة: - عبد الله بن كثير. وهو مذكور فى القراء السبعة. - عطاء بن أبى رباح (ت 115 هـ). قرأ عليه أبو عمرو، ووردت عنه الرواية فى حروف القرآن (¬209). - طاوس بن كيسان اليمانى (ت 106 هـ). وردت عنه الرواية فى حروف القرآن. وهو تابعى كبير مشهور (¬210). - مجاهد بن جبر (ت 103 هـ). قرأ عليه ابن كثير أحد القراء السبعة، وكذا أبو عمرو ابن العلاء، وقرأ عليه أيضا الأعمش وابن محيصن وحميد بن قيس وغيرهم (¬211). - عكرمة مولى ابن عباس (ت 105 هـ). وردت الرواية عنه فى حروف القرآن، وقرأ عليه علباء بن أحمر، وأبو عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة، وروى عنه خلق، واعتمده البخارى (¬212). - عبيد بن عمير (ت 74 هـ). وردت عنه الرواية فى حروف القرآن. وروى عنه مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار (¬213). - عبد الله بن عبيد الله بن أبى مليكة (ت 117 هـ). وردت الرواية عنه فى حروف القرآن كما قاله الدانى وهو تابعى مشهور (¬214). - ابن محيصن (ت 123 هـ). وهو محمد ابن عبد الرحمن بن محيصن السهمى. قرأ عليه شبل بن عباد، وعيسى بن عمر القارى، ¬

(¬201) انظر غاية النهاية 1/ 308. (¬202) انظر السابق 381. (¬203) انظر السابق 2/ 262 - 263. (¬204) انظر السابق 1/ 511. (¬205) انظر السابق 301. (¬206) انظر السابق 593. (¬207) انظر رسالة (القراءات ... ) ص 53. (¬208) انظر السابق 53 - 55. (¬209) انظر غاية النهاية 1/ 513. (¬210) انظر السابق 341. (¬211) انظر السابق 2/ 41 - 42. (¬212) انظر السابق 1/ 515. (¬213) انظر السابق 496 - 497. (¬214) انظر السابق 430.

بالكوفة:

وأبو عمرو أحد القراء السبعة. وحدث عنه جماعة، وهو ثقة (¬215). بالكوفة: - سليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ). قرأ عليه الإمام حمزة أحد القراء السبعة، وابن أبى ليلى، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم. وروى عنه الحروف محمد بن ميمون، ومحمد بن عبد الله المعروف بزاهر (¬216). - عاصم بن بهدلة، أحد القراء السبعة ومذكور معهم. - علقمة بن قيس (ت 62 هـ). قرأ عليه النخعى، وأبو إسحاق السبيعى، ويحيى بن وثاب، وغيرهم. ومناقبه جليلة (¬217). - الأسود بن يزيد (ت 75 هـ). قرأ عليه إبراهيم النخعى، وأبو إسحاق السبيعى، ويحيى بن وثاب. وهو إمام جليل، كان يختم القرآن كل ست ليال، وفى رمضان كل ليلتين (¬218). - أبو عبد الرحمن السلمى (ت 74 هـ) هو عبد الله بن حبيب. قرأ عليه الحسن والحسين- رضى الله عنهما، وعاصم، وعطاء ابن السائب، ويحيى بن وثاب، وعامر الشعبى، وغيرهم (¬219). - زر بن حبيش (ت 82 هـ). قرأ عليه عاصم، والأعمش، والسبيعى، وابن وثاب. وكان ابن مسعود يسأله عن اللغة (¬220). - سعيد بن جبير (ت 95 هـ). كان يؤم الناس فى شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت. قرأ عليه أبو عمرو بن العلاء من السبعة، والمنهال بن عمرو (¬221). وكان بالكوفة غير هؤلاء أيضا (¬222). بالبصرة: - أبو عمرو بن العلاء. وهو مذكور فى القراء السبعة. - أبو العالية الرياحى (ت 90 هـ) وهو رفيع ابن مهران. قرأ عليه شعيب بن الحبحاب، والحسن بن الربيع، وأبو عمرو المذكور فى القراء السبعة، وغيرهم (¬223). - يحيى بن يعمر (ت 90 هـ). قرأ عليه أبو عمرو المذكور فى القراء السبعة، وعبد الله بن أبى إسحاق. ويحيى أول من نقط المصاحف (¬224). - نصر بن عاصم (ت 90 هـ) قرأ عليه أبو عمرو المذكور فى القراء السبعة، وعبد الله بن أبى إسحاق الحضرمى، وروى عنه الحروف عون العقيلى، ومالك بن دينار (¬225). ¬

(¬215) انظر معرفة القراء الكبار 1/ 81 - 82. (¬216) انظر غاية النهاية 1/ 315 - 316. (¬217) السابق 516. (¬218) السابق 171. (¬219) انظر السابق 413. (¬220) انظر السابق 294. (¬221) انظر السابق 305 - 306. (¬222) انظر (القراءات ... ) السابق. (¬223) انظر السابق 284 - 285. (¬224) انظر السابق 2/ 381. (¬225) انظر السابق 336.

بالشام:

- معاذ بن معاذ العنبرى قاضى البصرة (ت 196 هـ) قرأ عليه ابنه عبيد الله، وروح بن عبد المؤمن. وحدث عنه بندار، وأحمد، وقال: إليه المنتهى فى التثبت بالبصرة (¬226). - أبو رجاء العطاردى (ت 105 هـ) هو عمران بن تيم. قرأ عليه أبو الأشهب العطاردى، وقال: كان أبو رجاء يختم القرآن فى كل عشر ليال (¬227). وكان بالبصرة غير هؤلاء (¬228). بالشام: - عبد الله بن عامر اليحصبى. وهو مذكور فى القراء السبعة. - يحيى بن الحارث الذمارى (ت 145 هـ وله تسعون سنة). قرأ عليه سعيد بن عبد العزيز، وهشام بن الغازى، ويحيى بن حمزة، وغيرهم (¬229). - المغيرة بن أبى شهاب المخزومى (ت 91 هـ). قرأ عليه عبد الله بن عامر المذكور فى القراء السبعة، ولا يكاد المغيرة يعرف إلا من قراءة ابن عامر عليه، مع أن المغيرة كان يقرئ بدمشق فى دولة معاوية (¬230). - عطية بن قيس الكلابى (ت 121 هـ). وردت عنه الرواية فى حروف القرآن، وقرأ عليه على بن أبى حملة، والحسن بن عمران العسقلانى. وروى عنه عبد الرحمن بن يزيد، وغيره (¬231). - أبو حيوة شريح بن يزيد (ت 203 هـ) له اختيار فى القراءة رواه عنه ابنه حيوة، وروى أيضا عنه قراءة الكسائى، ومحمد بن عمرو ابن حنان الكلبى. وروى عنه قراءة الحمصيين عيسى بن المنذر، ومحمد بن المصفّى، ويزيد بن قرة (¬232). وكان بالشام غير هؤلاء (¬233). - وكل من ذكرناهم فى هذه الأقطار من التابعين هم بعض المشهورين بالقراءات، وليس استقصاء. - وقراءات الأقطار الإسلامية هى قراءات هؤلاء، وأضرابهم، ممن أسندوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. لكن المتواتر من قراءتهم هو ما دخل فى قراءات القراء العشرة من طرقهم المعروفة فى الفن. ... ¬

(¬226) انظر السابق 302. (¬227) انظر السابق 1/ 604. (¬228) انظر (القراءات ... ) 26، 50 - 52، وإبراز المعانى ص 3 ط الحلبى 1349 هـ. (¬229) انظر غاية النهاية 2/ 367 - 368. (¬230) انظر معرفة القراء الكبار 1/ 43، وغاية النهاية 2/ 305 - 306. (¬231) انظر غاية النهاية 1/ 513 - 514. (¬232) انظر السابق 325. (¬233) انظر (القراءات ... ) السابق.

القراء السبعة

القراء السبعة الإمام نافع بن عبد الرحمن المدنى (70 هـ- 169 هـ): هو نافع بن عبد الرحمن بن أبى نعيم، وكنيته أبو رويم قرأ على سبعين من التابعين، منهم أبو جعفر يزيد بن القعقاع أحد القراء العشرة، وعبد الرحمن بن هرمز، وشيبة بن نصاح، ويزيد بن رومان، ومسلم بن جندب، وصالح بن خوات، والأصبغ بن عبد العزيز النحوى، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد ابن أبى بكر الصديق، والزهرى. ونافع أحد الأعلام، ثقة صالح، عالم بوجوه القراءات، متبع لآثار الأئمة الماضين ببلده. وكان زاهدا، جوادا، ومن أطهر الناس خلقا. اشتغل؛ بالإقراء أكثر من سبعين سنة، وهو الإمام الذى قام بالقراءة بعد التابعين بمدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ذكر ابن الجزرى أسماء أكثر من أربعين راويا عنه من المدينة. ومصر، والشام، والأندلس. منهم الإمام مالك صاحب المذهب، والليث بن سعد، وأشهب بن عبد العزيز، والغازى بن قيس، وأبو عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة، وعبد الله بن وهب، والأصمعى، وراوياه المشهوران الآتيان (¬234). قالون (120 هـ- 220 هـ): هو عيسى بن مينا، وكنيته أبو موسى. وقالون معناها: جيد بالرومية، لقبه شيخه بذلك لجودة قراءته. وهو قارئ المدينة، ونحويها، أخذ عن نافع قراءة نافع نفسه، وقراءة أبى جعفر شيخ نافع، وعرض أيضا على ابن وردان أحد راويى أبى جعفر المشهورين. وروى عن قالون جماعة، منهم أحمد بن صالح المصرى، وإسماعيل بن إسحاق القاضى، ومحمد بن هارون المروزى. أمره شيخه أن يجلس للإقراء بعد أن قرأ عليه مرارا لا تحصى (¬235). ورش (110 هـ- 197 هـ): هو أبو سعيد عثمان بن سعيد المصرى. مولده ووفاته بمصر، لقبه شيخه بورش لشدة بياضه، اشتغل بالقرآن، والعربية، فمهر فيهما، وكان شيخ القراء المحققين، وإمام أهل ¬

(¬234) انظر غاية النهاية 2/ 330 - 334. (¬235) انظر السابق 1/ 615 - 616.

الإمام ابن كثير (45 هـ - 120 هـ):

الأداء المرتلين، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالديار المصرية فى زمانه. رحل إلى نافع فعرض عليه عدة ختمات. عرض عليه القرآن جماعة، منهم أحمد ابن صالح، وداود بن أبى طيبة، ويونس بن عبد الأعلى، وأبو يعقوب الأزرق. وكان ورش ثقة، حجة فى القراءة، حسن الصوت. ولما تعمق فى النحو وأتقنه اختار لنفسه مقرأ يسمى مقرأ ورش، مما قرأ به على شيخه نافع (¬236). الإمام ابن كثير (45 هـ- 120 هـ): هو عبد الله بن كثير بن عمرو، أبو معبد، المكّى، مقرئ أهل مكة، ومولده ووفاته بها، كان فصيحا، بليغا، مفوها، عليه السكينة، والوقار. وكان أعلم بالعربية من مجاهد. ولم يزل هو الإمام المجتمع عليه فى القراءة بمكة حتى مات. لقى بمكة عبد الله بن الزبير، وأبا أيوب الأنصارى، وأنس بن مالك، ومجاهد بن جبر، ودرباس، وروى عنهم، وأخذ القراءة عرضا عن عبد الله بن السائب، وعرض أيضا على مجاهد، ودرباس. روى القراءة عنه إسماعيل بن عبد الله القسط، وإسماعيل بن مسلم، وجرير بن حازم، وأبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، وابن عيينة، وابن جريج، وغيرهم. وقد سمى ابن الجزرى ثلاثين شخصا أخذوا القراءة عنه (¬237). وأسند عنه قراءته راوياه المشهوران الآتيان: البزى (170 هـ- 250 هـ): هو أحمد بن محمد البزى المكى، كنيته أبو الحسن. كان مؤذن المسجد الحرام، وإمامه. انتهت إليه مشيخة الإقراء بمكة. وكان أستاذا، محققا، ضابطا، متقنا، قرأ على أبيه، وعبد الله بن زياد، وعكرمة بن سليمان، ووهب بن واضح. وأصحاب البزى هم شيوخه فى قراءة ابن كثير. وسمى ابن الجزرى خمسة عشر رجلا قرءوا على البزى، منهم إسحاق بن محمد الخزاعى، وأحمد بن فرح، وموسى بن هارون، وأبو معمر الجمحى، وروى عنه القراءة: قنبل، وحدّث عنه أبو بكر أحمد ابن عميد بن أبى عاصم النبيل، وابن صاعد، وغيرهم. وروى حديث التكبير مرفوعا من آخر الضحى، وأخرجه الحاكم فى «المستدرك» من طريقه (¬238). قنبل (195 هـ- 291 هـ): هو أبو عمر محمد بن عبد الرحمن، انتهت إليه مشيخة الإقراء بالحجاز، ورحل إليه الناس من الأقطار. قرأ على أصحابه فأخذ عنهم قراءة ابن كثير. أخذ قنبل القراءة ¬

(¬236) انظر السابق 502 - 503. (¬237) انظر السابق 443 - 445. (¬238) انظر السابق 119 - 120، وإتحاف فضلاء البشر ص 7، ولطائف الإشارات للقسطلانى 1/ 101 تحقيق الشيخ عامر السيد عثمان، والدكتور عبد الصبور شاهين ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية 1972 م.

الإمام أبو عمرو (69 هـ - 154 هـ):

عرضا عن أحمد بن محمد النبال، وروى القراءة عن البزى، وجوّد القراءة على أبى الحسن القواس. وكان قنبل قد ولى الشرطة فى مكة فى وسط عمره، فحمدت سيرته، وكان لا يليها إلا رجل من أهل الفضل والخير والصلاح، ليكون لما يأتيه من الحدود والأحكام على صواب، فولوها له لعلمه وفضله عندهم. قرأ عليه خلق كثير، منهم أبو بكر ابن مجاهد، وأبو الحسن بن شنبوذ، ومحمد بن عبد العزيز بن الصباح (¬239). الإمام أبو عمرو (69 هـ- 154 هـ): هو زبان بن العلاء. لقب بسيد القراء. ولد بمكة، ونشأ بالبصرة، وتوفى بالكوفة، وهو إمام البصرة، ومقرئها. كان أعلم الناس بالقرآن، والعربية، وأعرفهم بالشعر، وأيام العرب. قرأ على شيوخ كثيرين بمكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وقد سمى ابن الجزرى ثمانية عشر من هؤلاء الشيوخ، منهم الحسن البصرى، وحميد بن قيس، وأبو العالية، وسعيد بن جبير، وشيبة بن نصاح، وعاصم أحد القراء السبعة، وكذا ابن كثير، كما قرأ على أبى جعفر أحد القراء العشرة، ويحيى ابن يعمر، وسمع أنس بن مالك، وغيره. روى القراءة عنه عرضا وسماعا ختن ليث واسمه أحمد بن محمد، وإسحاق ابن يوسف الأزرق، وشجاع بن أبى نصر البلخى. (ممن أخذ عنه الحروف سيبويه، وأشهر الآخذين عنه يحيى بن المبارك اليزيدى، وهو الواسطة بين أبى عمرو وراوييه الآتيين (¬240). الدورى (150 هـ- 246 هـ): هو أبو عمر حفص بن عمر الدورى، رحل فى طلب القراءات، وقرأ على شيوخ كثيرين، فجمع القراءات متواترها وشاذها سماعا. ومن أجلّ شيوخه يحيى بن المبارك اليزيدى، أخذ الدورى عنه القراءة، وهو عن أبى عمرو. ومن شيوخ الدورى: إسماعيل بن جعفر، وأخوه يعقوب، والكسائى أحد القراء السبعة، وشجاع بن أبى نصر. وقرأ عليه خلق، منهم أحمد بن حرب، وأبو جعفر المفسر، وأحمد بن يزيد الحلوانى، وكتب عنه العلم الإمام أحمد بن حنبل. والدورى إمام القراءة، وشيخ الناس فى زمانه، ثقة ثبت، كبير، ضابط (¬241). السوسى (حوالى 173 هـ- 261 هـ): هو أبو شعيب، صالح بن زياد بن عبد الله. مقرئ، ضابط، محرر، ثقة، أخذ القراءة ¬

(¬239) انظر غاية النهاية 2/ 165 - 166، ومعرفة القراء الكبار 1/ 186 - 187. (¬240) انظر غاية النهاية 1/ 288 - 292، ولطائف الإشارات 1/ 95. (¬241) انظر غاية النهاية 1/ 255 - 257، والنشر 1/ 133، وغيرهما.

ابن عامر (21 هـ - 118 هـ):

عرضا وسماعا عن أبى محمد اليزيدى، وهو من أجلّ أصحابه، وسمع بالكوفة من عبد الله ابن نمير، وأسباط بن محمد، وبمكة من سفيان بن عيينة. قرأ عليه ابنه أبو المعصوم محمد، وموسى بن جرير النحوى، وأبو عثمان النحوى، والحافظ النسائى صاحب السنن، وغيرهم. وحدّث عنه أبو بكر بن أبى عاصم، وأبو عروبة الحرانى، وأبو على محمد بن سعيد الرقى. وقال أبو حاتم: صدوق (¬242). ابن عامر (21 هـ- 118 هـ): هو عبد الله بن عامر اليحصبى، التابعى الجليل، كان فصيح اللسان، صحيح النقل، عارفا، فهما، مشهورا فى علمه، جمع له بين الإمامة والقضاء ومشيخة الإقراء بدار الخلافة دمشق محط رحال العلماء. قرأ على جماعة من الصحابة والتابعين، وسمع من جماعة كذلك، وممن قرأ عليهم: المغيرة بن أبى شهاب، وأبو الدرداء، وفضالة ابن عبيد. وثبت سماعه من معاوية بن أبى سفيان، والنعمان بن بشير، وواثلة بن الأسقع، وغيرهم. روى القراءة عنه عرضا يحيى بن الحارث الذمارى، وإسماعيل بن عبيد الله بن أبى المهاجر، وخلاد بن يزيد بن صبيح المرى، وغيرهم، ومناقبه رضي الله عنه كثيرة (¬243). وراوياه المشهوران الآخذان عنه بواسطة الإسناد هما: هشام (153 - 245 هـ): هو أبو الوليد هشام بن عمار الدمشقى، قاضى دمشق، وخطيبها، كان فصيحا، واسع الرواية مقرئا، محدثا، مفتيا، وعلى دراية. أخذ القراءة عن جماعة، منهم أيوب بن تميم، وهو عن يحيى بن الحارث، وهو عن ابن عامر. وروى عن مالك بن أنس، وابن عيينة، والدراوردى، وخلق، وأخذ القراءة عنه جماعة كبيرة، سماهم ابن الجزرى، ومنهم: أبو عبيد القاسم بن سلام، وأحمد بن يزيد الحلوانى، وأبو زرعة عبد الرحمن بن عمر، وهارون بن موسى الأخفش. وروى عنه الوليد بن مسلم، ومحمد بن شعيب- وهما من شيوخه- والبخارى فى صحيحه، وأبو داود، والنسائى، وابن ماجة فى سننهم، وخلق (¬244). ابن ذكوان (173 هـ- 242 هـ): هو أبو عمرو عبد الله بن أحمد بن بشير ابن ذكوان الدمشقى، الإمام، الأستاذ الشهير، الثقة، إمام جامع دمشق، وشيخ الإقراء بالشام. ألّف كتاب «أقسام القرآن وجواباتها»، و «ما يجب على قارئ القرآن عند حركة ¬

(¬242) انظر غاية النهاية 1/ 332 - 333، ومعرفة القراء الكبار 1/ 159. (¬243) انظر غاية النهاية 1/ 423 - 425. (¬244) انظر لطائف الإشارات 1/ 102، وغاية النهاية 2/ 354 - 356، والنشر 1/ 143 - 144.

الإمام عاصم ( ... هـ - 127 هـ):

لسانه». قرأ على جماعة، منهم: الكسائى، وأخذ الحروف عن ابن المسيبى عن نافع، وأخذ القراءة عرضا عن أيوب بن تميم، وهو عن الذمارى، وهو عن ابن عامر، وروى القراءة عنه ناس، سمى ابن الجزرى منهم ثلاثة وعشرين رجلا، منهم: ابنه أحمد، وسهل بن عبد الله الزاهد، وأبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقى (¬245). الإمام عاصم ( ... هـ- 127 هـ): هو أبو بكر عاصم بن أبى النجود، الكوفى، من التابعين، لغوى نحوى، وإمام فى القراءة، والحديث، كان ثقة، صالحا، فصيحا. قرأ على زر بن حبيش، وأبى عبد الرحمن السلمى، وأبى عمرو الشيبانى، وروى القراءة عنه جماعة سمى منهم ابن الجزرى أكثر من عشرين رجلا، منهم راوياه المشهوران: شعبة، وحفص. وقد أقرأ كلا منهما بقراءة، فأقرأ شعبة بما كان يعرضه على زر، عن ابن مسعود رضي الله عنه. وأقرأ حفصا بما قرأ به على أبى عبد الرحمن السلمى، عن على- كرم الله وجهه (¬246). شعبة (95 هـ- 193 هـ): هو أبو بكر شعبة بن عياش بن سالم. كان إماما كبيرا، عالما عاملا، ثقة، من أئمة السنة، ختم فى زاوية له ثمانية عشر ألف ختمة، عرض القرآن على عاصم ثلاث مرات، وعلى عطاء بن السائب، وأسلم المنقرى. وعرض عليه القرآن خمسة سماهم ابن الجزرى، وسمى كثيرا أخذوا عنه الحروف (¬247). حفص (90 هـ- 180 هـ): هو أبو عمر حفص بن سليمان بن المغيرة البزاز، كان فى القراءة ثقة ثبتا ضابطا، أخذها عرضا وتلقينا عن عاصم، وأقرأ الناس دهرا. وروى الحديث عن عاصم أيضا، وعن خلق، منهم علقمة بن مرثد، وثابت البنانى، وأبو إسحاق السبيعى. وقرأ عليه عرضا وسماعا عبيد بن الصباح، وعمرو بن الصباح، وأبو شعيب القواس، وخلق سواهم (¬248). الإمام حمزة (80 هـ- 156 هـ): هو أبو عمارة حمزة بن حبيب الزيات الكوفى، أدرك الصحابة بالسن فيحتمل أن يكون رأى بعضهم فيكون تابعيا، واشتهر بالزيات لأن الزيت كان بعض تجارته. كان حمزة إماما حجة ثقة ثبتا رضى، قيما بكتاب الله، بصيرا بالفرائض، عارفا بالعربية، حافظا للحديث، وكان عابدا خاشعا زاهدا ورعا قانتا لله. عديم النظير. ¬

(¬245) انظر لطائف الإشارات السابق، والنشر السابق، وغاية النهاية 1/ 404 - 405. (¬246) انظر غاية النهاية 1/ 347 - 349. ولطائف الإشارات 1/ 96. (¬247) انظر لطائف الإشارات 1/ 102 - 103، وغاية النهاية 1/ 325 - 327. (¬248) انظر غاية النهاية 1/ 254 - 255، ومعرفة القراء الكبار 1/ 116 - 117.

خلف (150 هـ - 229 هـ):

أخذ القراءة عن سليمان الأعمش، وجماعته. وقد سمى ابن الجزرى عددا كبيرا قرءوا على هذا الإمام. أما راوياه المشهوران فيرويان عنه بواسطة سليم بن عيسى الكوفى عن حمزة (¬249)، وهما: خلف (150 هـ- 229 هـ): هو أبو محمد خلف بن هشام البزار، روى القراءة عن سليم، عن حمزة. وأخذ القرآن عن جماعة، منهم: عبد الرحمن بن أبى حماد، ويعقوب بن أبى خليفة، وأبو زيد سعيد ابن أوس. وروى الحروف عن جماعة منهم إسحاق المسيّبى، وإسماعيل بن جعفر، ويحيى بن آدم. وقرأ عليه أحمد بن إبراهيم الوراق، وأحمد بن يزيد الحلوانى، وإدريس بن عبد الكريم الحداد، وإسحاق بن إبراهيم (¬250). خلاد ( ... هـ- 220 هـ): هو خلاد بن خالد الصيرفى الكوفى أبو عيسى. أخذ القراءة عن سليم عن حمزة، وروى قراءة عاصم من رواية أبى بكر، وروى عن أبى جعفر الرؤاسى. وقد سمى ابن الجزرى ستة عشر رجلا رووا القراءة عن خلاد. وكان إماما فى القراءة ثقة عارفا محققا أستاذا (¬251). الإمام الكسائى (119 هـ- 189 هـ): هو أبو الحسن على بن حمزة الكسائى أخذ القراءة عن حمزة، وعن محمد بن أبى ليلى، وعيسى بن عمر الهمدانى، وروى الحروف عن جماعة منهم أبو بكر بن عياش. وقد كثر الآخذون عنه وهم مسمّون عند ابن الجزرى، وروى عنه الأئمة كأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبى عبيد، والفراء. وهو إمام المدرسة النحوية الكوفية فى زمانه (¬252). وراوياه المشهوران هما: أبو الحارث ( ... هـ- 240 هـ): هو الليث بن خالد البغدادى. وهو ثقة، معروف، حاذق، ضابط. قرأ على الكسائى، وروى الحروف عن اليزيدى، وغيره. وقد سمى ابن الجزرى أربعة قرءوا عليه. وروى أبو الحارث قراءة حمزة أيضا عن سليمان بن يحيى الضبى (¬253). الدورى: هو الراوى المذكور مع الإمام أبى عمرو، وذكر هنا لأنه روى عن الإمام الكسائى أيضا (¬254). هؤلاء هم القراء السبعة، وأشهر رواتهم. ¬

(¬249) انظر غاية النهاية 1/ 261 - 263، 318. (¬250) انظر السابق 272 - 274. (¬251) انظر السابق 274 - 275. (¬252) انظر غاية النهاية 1/ 535 - 540، ولطائف الإشارات 1/ 97 وحاشيته الرابعة. (¬253) انظر غاية النهاية 2/ 34، وجمال القراء للسخاوى 2/ 474 - 475 والهامش الثانى ص 474 منه، تحقيق الدكتور على حسن البواب الطبعة الأولى مكتبة التراث مكة المكرمة 1408 هـ 1987 م مطبعة المدنى القاهرة. (¬254) انظر غاية النهاية 1/ 255 - 257، وغيرها.

المكملون للعشرة

المكملون للعشرة الإمام أبو جعفر ( ... هـ- 130 هـ): هو يزيد بن القعقاع التابعى المدنى. قرأ القرآن على عبد الله بن عباس، وأبى هريرة، وابن عياش، وروى عنهم- رضى الله عنهم- وأقرأ الناس من قبل سنة ثلاث وستين، فلا حصر لمن أخذوا عنه القرآن، ومنهم الإمام نافع، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وإسماعيل، ويعقوب، وميمونة- الثلاثة أولاد الإمام أبى جعفر. وهى أسرة مباركة فقد روى عن ميمونة ابنها أحمد، وغيره. ولم يكن أحد أقرأ للسنة من أبى جعفر، وكان إمام الناس بالمدينة، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، ويصلى فى جوف الليل، ويدعو عقب الصلاة لنفسه وللمسلمين ولكل من قرأ بقراءته. ومناقبه كثيرة. وأشهر رواته الراويان الآتيان (¬255): ابن وردان ( ... هـ- 160 هـ): هو عيسى بن وردان الحذاء المدنى. قرأ على الإمام أبى جعفر، ثم على نافع، وهو من قدماء أصحابه، وقد شاركه فى الإسناد. وابن وردان مقرئ، حاذق، وراوى محقق، ضابط. قرأ عليه إسماعيل بن جعفر، وقالون، ومحمد بن عمر الواقدى (¬256). ابن جماز ( ... هـ- 170 هـ): هو أبو الربيع سليمان بن مسلم بن جماز. مقرئ جليل ضابط. قرأ على أبى جعفر، وشيبة، ثم على نافع. وأقرأ بحرف أبى جعفر، ونافع. قرأ عليه إسماعيل بن جعفر، وقتيبة بن مهران (¬257). الإمام يعقوب (117 هـ- 205 هـ): هو أبو محمد يعقوب بن إسحاق الحضرمى البصرى. أخذ القراءة من سلام الطويل، وغيره. وروى عن سلام حرف أبى عمرو الإدغام. وسمع الحروف من الكسائى، وابن زريق عن عاصم. وقرأ على أبى عمرو. وسنده متصل بسند على رضي الله عنه. وقرأ عليه وروى عنه عدد كبير، منهم: أبو حاتم السجستانى، وأبو عمر الدورى. وروى حمدان ابن محمد الساجى عنه حرف أبى عمرو بن ¬

(¬255) انظر غاية النهاية 2/ 382 - 384، 325 أيضا. (¬256) انظر غاية النهاية 1/ 616. (¬257) انظر السابق 315، ولطائف الإشارات 1/ 104.

رويس ( ... هـ - 238 هـ):

العلاء. وحدث عنه أبو حفص الفلاس، وغيره. كان يعقوب من أروى الناس لحروف القرآن وأعلمهم بمذاهب أهل النحو فى القرآن، وأرواهم لحديث الفقهاء، ومن أهل بيت العلم بكلام العرب (¬258) وراوياه المشهوران هما: رويس ( ... هـ- 238 هـ): هو أبو عبد الله محمد بن المتوكل المعروف برويس، أخذ القراءة عن يعقوب الحضرمى، وختم عليه ثلاث ختمات، روى القراءة عنه الإمام أبو عبد الله الزبير بن أحمد، ومحمد ابن هارون التمار. وكان- كما قال التمار- يأخذ على المبتدئين بتحقيق الهمزتين من كلمة، وعلى الماهر بتخفيف الثانية. وكان مشهورا جليلا (¬259). روح ( ... هـ- 234 هـ أو 235 هـ): هو أبو الحسن روح بن عبد المؤمن البصرى النحوى. قرأ على يعقوب الحضرمى، وروى الحروف عن جماعة سماهم ابن الجزرى وقرأ عليه جماعة وسمع منهم حروف بعضهم، وهم عند ابن الجزرى بأسمائهم. وروى عنه البخارى فى صحيحه (¬260). الإمام خلف العاشر: هو الراوى الأول من الراويين المشهورين عن الإمام حمزة، وترجمته هناك، وذكر هنا مميزا بلقب (العاشر لأن المقصود هنا هو قراءته التى اختارها مما رواه عن شيوخه، وتفرغ للإقراء بها زمنا، فكثر الآخذون بها عنه)، وأشهر رواة اختياره الراويان الآتيان: إسحاق ( ... هـ- 286 هـ): هو أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم المروزى ثم البغدادى، ورّاق خلف وراويه الأول. قرأ عليه، وعلى الوليد بن مسلم، وكان قيما بالقراءة. وقرأ عليه جماعة، منهم محمد بن عبد الله النقاش، وابن شنبوذ، وابنه محمد ابن إسحاق، وغيرهم (¬261). إدريس (199 هـ- 292 هـ): هو أبو الحسن إدريس بن عبد الكريم البغدادى الحداد. قرأ على خلف بالقراءة المذكورة التى اختارها، وبالرواية التى رواها عن الإمام حمزة، وقرأ أيضا على غيره. وروى القراءة عنه جماعة منهم الإمام ابن مجاهد، وابن شنبوذ، وابن مقسم، وموسى بن عبيد الله الخاقانى، وأبو بكر النقاش (¬262). هؤلاء هم الأئمة المكملون للعشرة، وأشهر رواتهم. ***** ¬

(¬258) انظر غاية النهاية 2/ 386 - 389، ولطائف الإشارات 1/ 97، 98. (¬259) انظر غاية النهاية 2/ 234 - 235. (¬260) انظر السابق 1/ 285. (¬261) انظر السابق 1/ 155. (¬262) انظر السابق 1/ 154.

المؤلفون فى القراءات

المؤلفون فى القراءات المقصود هنا المؤلفون فى علم القراءات رواية. وعلم القراءات رواية: علم يبحث فيه عن صور نظم كلام الله تعالى من حيث وجوه الاختلافات المتواترة. قيل: وقد يبحث فيه أيضا عن نظم الكلام من حيث الاختلافات الواصلة إلى حد الشهرة التى لم تتواتر، المروية عن الموثوق بهم. والواقع أن المؤلفين فى هذا العلم منهم من يقتصر على المعمول به من قراءات العشرة أو بعضهم، ومنهم من يجمع كل ما وصله من متواتر وشاذ- لغرض- ومنهم من يقتصر على الشواذ أو بعضها- لغرض. وهذه طائفة من جموع كثيرة: يحيى بن يعمر (ت قبل 90 هـ): ألف كتابا فى القراءات جمع فيه ما روى من القراءات المختلفة، الموافقة لخط المصحف العثمانى الخالى من النقط والشكل، لئلا يظن أحد أن ضبطه لمصحف على قراءة واحدة مانع من سائر القراءات الموافقة للرسم. واستمر الناس على ذلك زمانا طويلا. هارون بن موسى (ت قبل 200 هـ): سمع بالبصرة وجوه القراءات، وألفها وتتبع الشاذ منها، وبحث عن إسناده. يعقوب الحضرمى (ت 205 هـ): أحد القراء العشرة ألف كتاب «الجامع فى القراءات» منسوبة إلى أئمتها. أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ): الإمام المعتبر ألف كتابا ذكر فيه مع القراء السبعة خمسة وعشرين قارئا. أبو عمر الدورى (ت 246 هـ): الراوى عن أبى عمرو، وغيره، جمع القراءات وألفها، وروى ابن الجزرى من طريقه قراءات العشرة، فيكون كتاب الدورى مشتملا عليها كلها.

ابن مجاهد (ت 324 هـ):

ابن مجاهد (ت 324 هـ): شيخ الصنعة، وأوّل من سبّع السبعة- وإن كانوا قد لاموه على أنه لم يزد عليهم أو ينقص، فالتبس على بعضهم ظنا أنه قصد الأحرف السبعة فلا مزيد على ما جمعه- ألف كتاب السبعة، وطبع محققا. أبو بكر الداجونى (ت 324 هـ): ألف قبل ابن مجاهد كتابا أدخل فيه قراءة أبى جعفر أحد القراء الثلاثة المكملين للعشرة. - ومن هنا، ومما سلف عن الدورى نعرف أن قراءات العشرة مؤلفة من قبل ابن مجاهد، وأنه هو الذى اقتصر على السبعة. ابن مهران أحمد بن الحسين (ت 381 هـ): ألف كتاب «الغاية فى القراءات العشر»، واشترط على نفسه الأشهر، واختار ما قطع به عنده، وتلقى الناس كتابه بالقبول، وأجمعوا عليه من غير معارض. - وهكذا شأن القراءات العشر فى كل زمان: قبولها، والإجماع عليها، فضلا عن تواترها. فمن خفى عليه تواتر شىء منها كفاه الإجماع، والإجماع لا يخفى على من يرى، ويتتبع ولو بجهد قليل. ونترك هذا الذى يطول سرده، ونقول: المعول عليه- والكل من بعده عالة عليه- رجلان، وثلاثة كتب: الإمام الشاطبى: أبو القاسم وأبو محمد القاسم بن فيّره بن خلف المتوفى سنة (590 هـ)، صاحب المنظومة الشهيرة، المنسوبة إليه (الشاطبية) فى القراءات السبع، واسمها «حرز الأمانى ووجه التهانى». وتكاد الدنيا كلها تحفظها وتقرأ بما تضمنته بعد تحريره من القراءات السبع الصغرى. الإمام ابن الجزرى: هو محمد بن محمد ابن الجزرى، وكنيته أبو الخير. توفى سنة (833 هـ). ألف «متن الدرة»، وهى منظومة شهيرة سماها «الدرة المضية»، وهى فى القراءات الثلاث المكملة للعشر الصغرى. وألف «متن الطيبة»، وهو منظومة شهيرة، أيضا، سماها «طيبة النشر فى القراءات العشر» - وهى العشر الكبرى. ومن المؤلفين الجامعين فى كتبهم بين الرواية والدراية:

المصنفات فى توجيه القراءات:

الهذلى: يوسف بن جبارة (ت 465 هـ)، وكتابه يسمى «الكامل»، وقد ضم فيه إلى القراء العشرة أربعين قارئا، ودرج فيه على أن يختار، ويعلل لاختياره، فأودع الكتاب مع الرواية الواسعة قدرا من التوجيه طيبا. ابن سوار: أبو طاهر أحمد بن على (499 هـ)، له كتاب «المستنير» جمع فيه بين الرواية والدراية، وذكر ما تلا به دون ما سمعه فى القراءات العشر. النويرى: أبو القاسم محمد النويرى (ت 857 هـ) له شرح حافل على «طيبة النشر» لشيخه ابن الجزرى، مشتمل على وجوه القراءات معزوة إلى طرقها، وعلى توجيهها بشكل جيد موجز. وهو من كتب القراءات العشر الكبرى. مطبوع محقق فى ستة أجزاء، والسابع فهارس. القسطلانى: أبو العباس أحمد بن محمد (ت 923 هـ)، له كتاب «لطائف الإشارات لفنون القراءات» مشتمل على الرواية والدراية للقراء الأربعة عشر، وعلى وسائل علم القراءات كعلم مرسوم الخط، وفن عدد الآيات، والوقف والابتداء، وغيرها. وأودعت تلك الوسائل الجزء الأول المطبوع محققا فى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. ونرجو الله أن تنشر بقية أجزائه المشتملة على أصول القراءات، وفرشها، وتوجيهها. البنا: أحمد بن محمد الدمياطى الشهير بالبنا (ت 1117 هـ) له كتاب «إتحاف فضلاء البشر». وهو شبيه بالكتاب السابق للقسطلانى، مع الإيجاز. وقد طبع فى مجلد، ثم محققا فى ثلاثة مجلدات فى مصر، وبتحقيق آخر جيد كذلك مع الاقتصار فى التعليق على المهم، وطبعته بيروت فى مجلد كبير (¬263). ... المصنفات فى توجيه القراءات: - كتاب احتجاج القراءة للمبرد (ت 286 هـ). - كتاب احتجاج القراءات. - كتاب السبعة بعللها الكبيرة. كلاهما لابن مقسم (ت 368 هـ). - معانى القراءات لأبى منصور الأزهرى (ت 370 هـ). وهو مطبوع محقق فى عدة أجزاء، وهو مشتمل على توجيه القراءات ¬

(¬263) ما ذكر عن المؤلفين مأخوذ من كتبهم، ومن رسالة (القراءات ... ) ص 110 - 132.

العشر، وإن كان لم يسم خلفا العاشر، فوجوه قراءته مندرجة فى قراءات التسعة الذين سماهم. - الحجة لأبى على الفارسى (ت 377 هـ). وهو مطبوع فى عدة مجلدات ومحقق. - الحجة فى القراءات السبع. - إعراب القراءات السبع وعللها. كلاهما لابن خالويه (ت 370 هـ) وهذا مطبوع محقق فى مجلدين كبيرين، والأول مطبوع فى مجلد واحد ومحقق. - المحتسب لابن جنى (ت 392 هـ). وهو مطبوع محقق فى مجلدين وخاص بالقراءات الشاذة. - حجة القراءات لأبى زرعة عبد الرحمن، من رجال القرن الرابع. وهو يحتج لقراءات السبعة وينسب كل وجه إلى صاحبه. وهو مطبوع محقق. - الكشف عن علل القراءات السبع، لمكى ابن أبى طالب (ت 437 هـ) وهو مطبوع محقق فى مجلدين. - إعراب القراءات الشواذ لأبى البقاء العكبرى عبد الله بن الحسين (ت 616 هـ). وهو مطبوع محقق فى مجلدين كبيرين. وهو بين التصريف والإعراب والمعانى وغير ذلك. - قلائد الفكر فى توجيه القراءات العشر للدجوى وقمحاوى وهو مطبوع ومتداول، وحجمه لطيف. - القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب للشيخ عبد الفتاح القاضى (1403 هـ). وهو كتاب صغير، جيد، ومطبوع ومتداول. اقتصر فيه على قراءات الأربعة الزائدين على العشرة. - وطبع حديثا كتاب محقق لنصر بن على ابن أبى مريم (ت 565 هـ). فى توجيه قراءات السبعة ويعقوب (¬264). هذا: والكتب الجامعة بين الرواية والدراية، المذكورة تحت عنوان (المؤلفون فى القراءات) مشتملة- كما هو واضح- على توجيه القراءات المذكورة فيها للسبعة، أو لأكثر. أ. د./ عبد الغفور محمود مصطفى ¬

(¬264) ما ذكر عن المصنفات فى توجيه القراءات مأخوذ من كتب أصحابها، ومن رسالة (القراءات ... ) ص 823 - 824.

مراجع الاستزادة:- إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات فى جميع القرآن، تأليف أبى البقاء العكبرى تصحيح وتحقيق إبراهيم عطوة عوض- مطبعة مصطفى الحلبى سنة 1961 م. - الانتصار للقرآن للإمام الباقلانى أبى بكر بن الطيب، تحقيق الدكتور محمد عصام القضاة، الطبعة الأولى سنة 1422 هـ- 2001 م دار الفتح الأردن- دار ابن حزم لبنان. - تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه- تأليف محمد طاهر بن عبد القادر الكردى، طبع فى جدة سنة 1365 هـ. - تفسير القاسمى المسمى محاسن التأويل، تأليف محمد جمال الدين القاسمى، وقف على طبعه وتصحيحه ورقمه وخرج آياته وأحاديثه وعلق عليه محمد فؤاد عبد الباقى. دار إحياء الكتب العربية (عيسى الحلبى ... ) 1957 م. - الجمع الصوتى الأول للقرآن الكريم أو المصحف المرتل بواعثه ومخططاته بقلم لبيب السعيد. دار الكاتب العربى للطباعة والنشر القاهرة- سنة 1967 م. - السيوف الساحقة لمنكر نزول القراءات من الزنادقة، تأليف محمد بن على بن خلف الحسينى الحداد. مطبعة المعاهد سنة 1344 هـ. - القراءات الشاذة وتوجيهها النحوى، تأليف الدكتور محمود أحمد الصغير. الطبعة الأولى سنة 1999 م دار الفكر دمشق. - القراءات القرآنية تاريخ وتعريف. تأليف الدكتور عبد الهادى الفضلى. دار المجمع العلمى بجدة الطبعة الأولى سنة 1399 هـ- 1979 م. - القراءات المتواترة وأثرها فى الرسم القرآنى والأحكام الشرعية، تأليف الدكتور محمد الحبش، الطبعة الأولى سنة 1999 م دار الفكر دمشق.

علم التجويد فى القرآن الكريم

علم التجويد فى القرآن الكريم على كل من شرع فى تعلم علم من العلوم أن يعرف مبادئه العشرة ليكون على بينة مما يتعلمه وهى: الأول: حده «تعريفه» : التجويد مصدر جوّد تجويدا، والاسم منه الجودة ضد الرداءة (¬1)، وهو فى اللغة التحسين، يقال: جوّد الرجل الشيء إذا أتى به جيدا، ويستوى فى ذلك القول والفعل. ويقال لقارئ القرآن المحسن لتلاوته: «مجوّد» - بكسر الواو- إذا أتى بالقراءة مجوّدة- بفتح الواو- الألفاظ بريئة من الجور والتحريف حال النطق بها. وفى الاصطلاح: إخراج كل حرف من مخرجه وإعطاؤه حقه ومستحقه من الصفات. وحق الحرف: صفاته اللازمة التى لا تنفك عنه بحال من الأحوال، كالجهر والشدة والاستعلاء والاستفال والإطباق إلى غير ذلك. ومستحق الحرف: صفاته العرضية الناشئة عن الصفات الذاتية كالتفخيم فإنه ناشئ عن الاستعلاء، وكالترقيق فإنه ناشئ عن الاستفال وهكذا. الثانى: موضوعه : الكلمات القرآنية من حيث حروفها وإتقان النطق بها، وبلوغ الغاية فى تحسينها وإجادة التلفظ بها. وزاد بعض العلماء الحديث الشريف، ولكن الجمهور على أن موضوع التجويد هو القرآن الكريم فقط. الثالث: ثمرته : صون اللسان عن اللحن فى لفظ القرآن الكريم حال الأداء. الرابع: فضله : من أشرف العلوم وأفضلها لتعلقه بكلام الله- عز وجل- فإن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه. الخامس: نسبته : هو أحد العلوم الدينية المتعلقة بالقرآن الكريم. السادس: واضعه : أما الواضع له من الناحية العملية فهو سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه نزل عليه القرآن من عند الله تعالى مجودا، وتلقاه- صلوات الله وسلامه عليه- من الأمين جبريل- عليه السلام- كذلك، وتلقته عنه الصحابة، وتلقاه عن الصحابة التابعون، وهكذا إلى أن وصل إلينا متواترا. ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور، مادة «جود» 1/ 720 طبعة دار المعارف.

السابع: اسمه

وأما الواضع له من ناحية قواعده وقضاياه العلمية ففيه خلاف، فقيل: أبو الأسود الدؤلى. وقيل: أبو عبيد القاسم بن سلام. وقيل: الخليل بن أحمد الفراهيدى. وقيل: غير هؤلاء. السابع: اسمه : علم التجويد. الثامن : استمداده: هذا العلم مستمد من قراءة النبى- صلّى الله عليه وسلم- ثم من قراءة الصحابة من بعده والتابعين وأتباعهم، وأئمة القراءة إلى أن وصل إلينا عن طريق مشايخنا. التاسع: حكمه : العلم به فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين. وأما العمل به ففرض عين على كل قارئ مسلم ومسلمة لقوله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (سورة المزمل آية 4) وقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق والكبائر، فإنه سيجىء أقوام من بعدى يرجعون القرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنواح لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم» (¬2). العاشر: فائدته وغايته: 1 - بلوغ النهاية فى إتقان لفظ القرآن على ما تلقى من الرسول صلّى الله عليه وسلم. 2 - صون اللسان عن الخطأ واللحن فى كتاب الله تعالى. 3 - إرضاء الله تعالى والحصول على الأجر العظيم، والفوز بالسعادة فى الدارين (¬3). أ. د. السيد إسماعيل على سليمان ¬

_ (¬2) الحديث: ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد، كتاب التفسير، باب القراءة بلحون العرب 7/ 169 وعزاه للطبرانى فى الأوسط وقال: فيه راو لم يسم وفيه بقية أيضا. وقال المناوى: قال ابن الجوزى: حديث لا يصح وأبو محمد مجهول، وبقية يروى عن الضعفاء ويدلسهم. وقال الذهبى فى الميزان: والخبر منكر. (¬3) هداية القارى إلى تجويد كلام البارى ص 37 - 41 بتصرف للشيخ/ عبد الفتاح السيد المرصفى، طبعة دار النصر للطباعة الإسلامية- شبرا مصر، الطبعة الأولى 1492 هـ 1982 م، وبغية عباد الرحمن لتحقيق تجويد القرآن ص 17 - 20 بتصرف، لمحمد بن شحادة الغول، طبعة دار الأرقم- الثالثة- بالسعودية 1414 هـ 1993 م.

مراتب التلاوة

مراتب التلاوة مراتب التلاوة بالنظر إلى سرعة الأداء وبطئه هى: 1 - التحقيق: وهو فى اللغة: التدقيق والتأكد والإنجاز. وفى الاصطلاح: التأنى فى القراءة بإعطاء كل حرف حقه من إشباع المد وتحقيق الهمزات، وإتمام الحركات، واعتماد الإظهار والتشديدات، وتوفية الغنات، وتفكيك الحروف وإخراج بعضها من بعض بالسكت والترسل واليسر والتؤدة، وملاحظة الجائز من الوقوف بلا قصر ولا اختلاس ولا إسكان محرك، ولا إدغامه إلخ من مراعات جميع أحكام التجويد (¬1). يقول السيوطى: «التحقيق يكون لرياضة الألسن وتقويم الألفاظ، ويستحب الأخذ به على المتعلمين من غير أن يتجاوز فيه إلى حد الإفراط بتوليد الحروف من الحركات، وتكرير الراءات، وتحريك السواكن، وتطنين النونات بالمبالغة فى الغنات، كما قال حمزة- رحمه الله تعالى- لبعض من سمعه يبالغ فى ذلك: «أما علمت أن ما فوق البياض برص، وما فوق الجعودة قطط، وما فوق القراءة ليس بقراءة»؟ (¬2). 2 - الحدر: فى اللغة: الإسراع. وفى الاصطلاح: هو إدراج القراءة وسرعتها وتخفيفها بالقصر والتسكين، والاختلاس والبدل والإدغام الكبير وتخفيف الهمزة، ونحو ذلك مما صحت به الرواية مع مراعاة إقامة الإعراب وتقويم اللفظ، وتمكن الحروف بدون بتر حروف المد، واختلاس أكثر الحركات، وذهاب صوت الغنة، والتفريط إلى غاية لا تصح بها القراءة، ولا توصف بها التلاوة، وهذا النوع مذهب ابن كثير، وأبى جعفر، ومن قصر المنفصل كأبى عمرو ويعقوب (¬3). ويتلخص من ذلك: أن الحدر: هو الإسراع فى القراءة مع مراعاة الأحكام. 3 - التدوير: وهو فى اللغة: جعل الشيء على شكل دائرة أى حلقة، وفى الاصطلاح: هو مرتبة متوسطة بين الترتيل والحدر، أو بين التحقيق والحدر. قال السيوطى: «وهو الذى ورد عن أكثر الأئمة ممن مدّ المنفصل ولم يبلغ فيه الإشباع، وهو مذهب سائر القراء، وهو المختار عند أكثر أهل الأداء» (¬4). 4 - الترتيل: وهو فى اللغة: الترسل. ¬

(¬1) بغية عباد الرحمن لتحقيق تجويد القرآن ص 7. (¬2) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى 1/ 132 طبعة الحلبى الرابعة 1398 هـ 1978 م. (¬3) المصدر السابق. (¬4) نفس المصدر.

حكم الاستعاذة

ويقال: رتل الكلام: أحسن تأليفه وأبانه وتمهل فيه. وترتيل القراءة: الترسل فيها والتبيين من غير بغى (¬5). وفى الاصطلاح: القراءة بتؤدة واطمئنان مع تدبر المعانى ومراعاة أحكام التجويد من إعطاء الحروف حقها من الصفات والمخارج، ومد الممدود وقصر المقصور، وترقيق المرقق وتفخيم المفخم مما يتفق وقواعد التجويد. وهو أفضل المراتب الأربعة، فقد أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم فقال جل شأنه: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (سورة المزمل آية 4) والفرق بين الترتيل والتحقيق- فيما ذكره بعض العلماء- أن التحقيق يكون للرياضة والتعليم والتمرين، والترتيل يكون للتدبر والتفكر والاستنباط، فكل تحقيق ترتيل، وليس كل ترتيل تحقيقا (¬6). وقول السيوطى: «كل تحقيق ترتيل وليس كل ترتيل تحقيقا». يريد به بيان النسبة بين الترتيل والتحقيق- على ما أعتقد- مما يكون فى مقام التعليم يطلق عليه تحقيق ويطلق عليه ترتيل أيضا؛ لأن مقام التعليم لا ينافى التدبر والتفكر، وما يكون فى مقام التدبر والتفكر يطلق عليه ترتيل، ولا يطلق عليه تحقيق لأنه ليس مقام تعليم وتمرين. إذن: فالتحقيق أعم والترتيل أخص، والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، وهو أن يجتمع الشيئان فى شىء واحد وينفرد الأعم. حكم الاستعاذة اتفق العلماء على أن الاستعاذة مطلوبة من مريد القراءة، واختلفوا بعد ذلك هل هذا الطلب على سبيل الندب أو على سبيل الوجوب؟. فذهب جمهور العلماء وأهل الأداء إلى أنه على سبيل الندب، وقالوا: إن الاستعاذة مندوبة عند إرادة القراءة، وحملوا الأمر فى قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (سورة النحل آية 98). على الندب فلو تركها القارئ لا يكون آثما. وقال ابن سيرين- وهو من القائلين بالوجوب-: لو أتى الإنسان بها مرة واحدة فى حياته كفاه ذلك فى إسقاط الواجب عنه. وصيغة الاستعاذة عند جميع القراء: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». لأن هذا الصيغة هى الواردة فى القرآن الكريم كما فى الآية السابقة، وهى الواردة أيضا عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين من حديث سليمان بن صرد- رضى الله عنه- قال: «استبّ رجلان عند رسول صلّى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمرّ وجهه، فقال النبى ¬

(¬5) لسان العرب، لابن منظور مادة «رتل» 3/ 1578 طبعة دار المعارف. (¬6) الإتقان فى علوم القرآن لجلال الدين السيوطى 1/ 132.

البسملة وحكمها

صلّى الله عليه وسلم: «إنى لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجده، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». (¬7) ولا خلاف بينهم فى جواز غير هذه الصيغة من الصيغ الواردة عن أهل الأداء سواء نقصت عن هذه الصيغة نحو: «أعوذ بالله من الشيطان»، أم زادت نحو: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» إلى غير ذلك من الصيغ الواردة عن أئمة القراءة. كيفيتها: يرى بعض الأئمة: أن المختار الجهر بالاستعاذة مطلقا، وقيل: المختار الإسرار بها مطلقا. وقيل: الجهر بالتعوذ أفضل إذا كان بحضرة القارئ من يسمع قراءته، لينصت السامع للقراءة، وأما إذا لم يكن بحضرته من يسمع، أو كان ولكنه أراد أن يقرأ سرا، فلا يطلب الجهر. وهذا المعنى هو الفارق بين القراءة فى الصلاة وخارجها (¬8)، فإن المختار فى الصلاة الإخفاء لأن المأموم منصت من أول الإحرام بالصلاة. البسملة وحكمها البسملة: مصدر بسمل إذا قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أو إذا كتبها فهى بمعنى القول أو الكتابة. ثم صارت حقيقة عرفية فى نفس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وهو المراد هنا. ولا خلاف بين العلماء فى أن البسملة بعض آية من سورة النمل، كما أنه لا خلاف بين القراء فى إثباتها أول سورة «الفاتحة» سواء وصلت بسورة «الناس» أو ابتدئ بها، لأنها وإن وصلت لفظا فهى مبتدأ بها حكما، وقد أجمع القراء السبعة أيضا على الإتيان بها عند الابتداء بأول كل سورة سوى سورة «براءة» وذلك لكتابتها فى المصحف. ويجوز لكل القراء الإتيان بالبسملة وتركها فى أواسط السور، لا فرق فى ذلك بين سورة «براءة» وغيرها، وذهب بعض العلماء إلى استثناء براءة فألحقها بأولها فى عدم جواز الإتيان بالبسملة فى أوسطها لأحد من القراء (¬9). الأوجه التى تجوز للقارئ فى الاستعاذة مع البسملة والسورة أربعة أوجه وهى: 1 - وصل الجميع: بمعنى: أن يصل الاستعاذة بالبسملة ووصل البسملة بالسورة. 2 - قطع الجميع: بمعنى: عدم وصل الاستعاذة بالبسملة، وعدم وصل البسملة بالسورة. 3 - وصل الاستعاذة بالبسملة والوقف على البسملة، ثم يبدأ فى قراءة السورة. 4 - قطع الاستعاذة عن البسملة، ووصل البسملة بالسورة. ¬

(¬7) الحديث أخرجه أبو داود فى سننه برقم 4780، والحاكم فى المستدرك 2/ 441، والطبرانى فى الكبير 7/ 116. (¬8) انظر: النشر فى القراءات العشر للحافظ ابن الجزرى 1/ 252 - 259 طبعة دار الكتب العلمية ببيروت. والإتقان فى علوم القرآن للسيوطى 1/ 139. (¬9) القول السديد فى فن التجويد ص 54 بتصرف للدكتور/ أحمد عبد الغنى الجمل، طبعة أولى- مطبعة الحسين الإسلامية- 1411 هـ 1990 م.

أما أوجه البسملة بين السورتين فيجوز للقارئ فيها ثلاثة أوجه وهى: 1 - وصل الجميع: أى: وصل آخر السورة بالبسملة، ووصل البسملة بأول السورة الأخرى. 2 - قطع الجميع، بمعنى: عدم وصل آخر السورة بالبسملة، وعدم وصل البسملة بأول السورة الأخرى. 3 - قطع البسملة عن آخر السورة، ووصلها بأول السورة الأخرى. وهناك وجه ممنوع عند الجميع لا يصح وهو: وصل البسملة بآخر السورة الأولى وقطعها عن الأخرى. أ. د. السيد إسماعيل على سليمان

مخارج الحروف

مخارج الحروف المخارج: جمع مخرج، وهو فى اللغة: اسم لمكان خروج الشيء. وفى الاصطلاح: محل خروج الحرف الذى ينقطع عنده صوت النطق به فيتميز عن غيره. كيفية معرفة مخرج الحرف: ولمعرفة مخرج أى حرف ينبغى أن ندخل عليه حرفا متحركا مع تسكين الحرف المراد مخرجه أو تشديده، ثم نصغى إليه حال النطق به، فحيث انقطع صوت النطق بالحرف فهو مخرجه. هذا بالنسبة لحروف الهجاء ما عدا حروف المد واللين. أما هذه الحروف فتعرف مخارجها بإدخال حرف مفتوح على الألف، ومكسور على الياء، ومضموم على الواو. عدد مخارج الحروف: لما كانت مادة الحروف هى الصوت الذى هو الهواء الخارج من الرئة إلى الفم، لذا رتب العلماء مخارج الحروف باعتبار الصوت، فقدموا فى الذكر ما هو أقرب إلى الرئة ثم ما يليه إلى الفم وهكذا. واختلف العلماء فى عدد مخارج الحروف، والمختار ما ذهب إليه الجمهور، وهو أن المخارج سبعة عشر مخرجا منحصرة فى خمسة مخارج عامة، وهى: الأول: الجوف: ومعناه فى اللغة: الخلاء. وفى الاصطلاح: الخلاء الواقع داخل الحلق والفم. وتخرج منه الألف المدية المفتوح ما قبلها نحو: «قال»، والياء المدية المكسور ما قبلها نحو: «قيل»، والواو المدية المضموم ما قبلها نحو: «يقول». وتسمى هذه الحروف الثلاثة الجوفية لخروجها من الجوف، وتسمى أيضا مدية وذلك لامتداد الصوت بها فى يسر عند النطق بها. الثانى: الحلق: وهو مخرج كلى وفيه ثلاثة مخارج جزئية هى: 1 - أقصى الحلق، وتخرج منه الهمز والهاء. 2 - وسط الحلق: وتخرج منه العين والحاء. 3 - أدنى الحلق: وتخرج منه الغين والخاء. وتسمى جميع هذه الحروف بالحلقية لخروجها من الحلق. الثالث: اللسان: وهو مخرج كلى وفيه عشرة مخارج جزئية وهى:

1 - أقصى اللسان من فوق مما يلى الحلق مع ما يحاذيه من الحنك الأعلى، ومنه تخرج القاف. 2 - أسفل أقصى اللسان مع ما يحاذيه من الحنك الأعلى، ومنه تخرج الكاف. 3 - وسط اللسان مع ما يليه من الحنك الأعلى، ومنه تخرج الجيم والشين مطلقا، والياء المتحركة. 4 - إحدى حافتى اللسان الأمامية مما يلى الأضراس العليا، أى جانبيه من الداخل ومنها تخرج الضاد، ومن الجانب الأيسر أسهل وأكثر استعمالا. 5 - أدنى حافتى اللسان إلى منتهاه مما يلى الأنياب، أى جانبه من الخارج مع ما يحاذيه من لثة الأسنان العليا، ومنه تخرج اللام. 6 - طرف اللسان تحت مخرج اللام قليلا مع ما يحاذيه من لثة الأسنان العليا، ومنه تخرج النون الساكنة ولو تنوينا. 7 - أدنى اللسان من ظهره أدخل من النون قليلا مع ما يحاذيه من لثة الأسنان العليا، ومنه تخرج الراء. هذا وقد اشتركت النون والراء فى المخرج إلا أن الراء أدخل إلى ظهر اللسان من مخرج النون. 8 - طرف اللسان مع أصول الثنايا العليا، ومنه تخرج الطاء والدال والتاء. 9 - طرف اللسان من فوق الثنايا السفلى مع مراعاة الانفراج القليل بين طرف اللسان والثنايا عند النطق، ومنه تخرج الصاد والزاى والسين. 10 - طرف اللسان مع أطراف الثنايا العليا، ومنه تخرج الظاء والذال والثاء. وهذه الحروف الثلاثة هى المطلوب إخراج اللسان عند النطق بها. الرابع: الشفتان: وفيهما مخرجان هما: 1 - بطن الشفة السفلى مع أطراف الثنايا العليا، ومنه تخرج الفاء. 2 - الشفتان معا، ومنهما تخرج الباء والميم مع انطباق الشفتين، والواو مع انفتاح الشفتين وانفراجهما قليلا. والمراد بالواو هنا غير المدية، أما المدية فتخرج من الجوف كما سبق، وتسمى هذه الحروف الشفهية. الخامس: الخيشوم: وهو أعلى الأنف وأقصاه من الداخل، ومنه تخرج الغنة المركبة فى جسم النون ولو تنوينا، والميم فقط (¬1). أ. د. السيد إسماعيل على سليمان ¬

_ (¬1) انظر فى هذا الموضوع نهاية القول المفيد فى علم التجويد من ص 31 - 41 للشيخ محمد مكى نصر. طبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاده بمصر سنة 1349 هـ.

صفات الحروف

صفات الحروف والصفات: جمع صفة وهى فى اللغة: ما قام بالشىء من المعانى حسيا كالبياض والحمرة أو معنويا كالأدب والعلم. وفى الاصطلاح: كيفية تعرض للحرف عند النطق به كجريان النفس فى الحروف المهموسة وعدم جريانه فى الحروف المجهورة وما أشبه ذلك. الفرق بين الصفة والمخرج: فالمخرج: هو المحل والمكان والموضع الذى يخرج منه الحرف، كالحلق، أو الجوف، أو الخيشوم إلخ. أما الصفة: فهى كيفية تولد الحرف وخروجه من مخرجه كالجهر أو الهمس أو الشدة أو الرخاوة، إلخ. فوائد معرفة الصفات: 1 - تمييز الحروف المشتركة فى المخرج إذ لولا الصفات لما تميزت الطاء عن التاء، ولما تميزت الظاء عن الذال، لأن الطاء والتاء مخرجهما واحد، وكذلك الظاء والذال مخرجهما واحد. 2 - تحسين لفظ الحروف المختلفة فى المخرج. 3 - معرفة قوىّ الحروف وضعيفها. وتنقسم الصفات إلى قسمين: الأول: صفات لازمة «أصلية»: وهى الملازمة للحرف فلا تفارقه بحال من الأحوال كالجهر، والهمس، والشدة، والرخاوة، والاستعلاء، والإطباق، والاستفال، والانفتاح، والإصمات، والتفشى، والاستطالة، واللين، والقلقلة، والصفير، والتكرير، والانحراف. الثانى: صفات عارضة: وهى التى تعرض للحرف فى بعض الأحوال وتنفك عنه فى أحوال أخرى كالترقيق، والتفخيم، والإدغام، والإخفاء، والإقلاب، والإظهار، والمد، والقصر، والغنّة وغيرها. والصفات الأصلية تنقسم من ناحية أخرى إلى قسمين: صفات لها أضداد وهى عشرة، خمس ضدها خمس، فالحروف الهجائية موزعة على الصفتين، فما كان فى هذه فلا يكون فى ضدها. وصفات لا ضد لها وهى سبع.

أولا: الصفات التى لها أضداد، وتعريف كل صفة وبيان حروفها وذلك فيما يلى:

أولا: الصفات التى لها أضداد، وتعريف كل صفة وبيان حروفها وذلك فيما يلى: 1 - الهمس: ومعناه فى اللغة: الخفاء. وفى الاصطلاح: خفاء الحرف لضعفه وجريان النفس منه عند النطق به لضعف الاعتماد عليه فى مخرجه. وحروفه عشرة وهى: الفاء، والحاء، والثاء، والهاء، والشين، والخاء، والصاد، والسين، والكاف، والتاء. مجموعة فى قول ابن الجزرى: «فحثه شخص سكت». 2 - الجهر: وهو ضد الهمس، وهو فى اللغة: بمعنى الإعلان والإظهار. وفى الاصطلاح: ظهور الحرف وإعلانه لقوته وانحباس النفس معه عند النطق به لقوة الاعتماد عليه فى مخرجه. وحروفه تسعة عشر حرفا، وهى الباقية من حروف الهجاء بعد حروف الهمس العشرة. والفرق بين الهمس والجهر قائم على جريان النفس فى الأول وانحباسه فى الثانى. 3 - الشدة: وهى فى اللغة: بمعنى القوة. وفى الاصطلاح: انحباس جريان الصوت عند النطق بالحرف لقوة الاعتماد على مخرجه. وحروفه ثمانية جمعها ابن الجزرى فى قوله: «أجد قط بكت». 4 - الرخاوة: وهى فى اللغة بمعنى اللين. وفى الاصطلاح: جريان الصوت عند النطق بالحرف لضعف الاعتماد على مخرجه. وحروفها: ستة عشر حرفا ما عدا الشدة والتوسط، مع ملاحظة أن هذه الصفة هى الوحيدة من بين الصفات التى لها ضدان هما الشدة والتوسط. 5 - التوسط: أى البينية بين الشدة والرخاوة. والتوسط فى اللغة: الاعتدال. وفى الاصطلاح: اعتدال الصوت عند النطق بأى حرف من حروف التوسط لعدم كمال انحباسه كما فى الشدة، وعدم كمال جريانه كما فى الرخاوة. وحروفه خمسة مجموعة في قول ابن الجزرى: «لن عمر». 6 - الاستعلاء: وهو فى اللغة: بمعنى العلو والارتفاع. وفى الاصطلاح: ارتفاع أقصى اللسان إلى الحنك الأعلى عند النطق بالحرف فيرتفع الصوت معه، ولذلك سمى مستعليا. وحروفه سبعة وهى المجموعة فى قول ابن الجزرى: «خص ضغط قظ». 7 - الاستفال: وهو ضد الاستعلاء، ومعناه فى اللغة: الانخفاض. وقيل: الانحطاط. وفى الاصطلاح: انخفاض أقصى اللسان أو انحطاطه عن الحنك الأعلى عند النطق بالحرف فينخفض معه الصوت إلى قاع الفم ولذا سمى مستفلا.

وحروفه اثنان وعشرون حرفا وهى الباقية من حروف الهجاء بعد حروف الاستعلاء السبعة المتقدمة. ومن هنا يؤخذ أن حروف الهجاء موزعة على الصفتين، فما كان من حروف «خص ضغط قظ» فهو مستعل، وما كان من غيرها فهو مستفل. كما يؤخذ أيضا من التعريف الاصطلاحى للصفتين أن الفرق بينهما قائم على ارتفاع أقصى اللسان بالحرف إلى الحنك الأعلى عند النطق به أو انخفاضه عنه، فما كان من الحروف مرتفع مع اللسان فهو مستعل، وما كان منها منخفض معه فهو مستفل، ويترتب على صفة الاستفال الترقيق لحروفها، كما يترتب على صفة الاستعلاء التفخيم لحروفها. 8 - الإطباق: وهو فى اللغة بمعنى الإلصاق. وفى الاصطلاح: إلصاق اللسان بالحنك الأعلى عند النطق بالحرف. وحروفه أربعة وهى: الصاد، والضاد، والطاء، والظاء. والصاد والضاد متوسطتان. 9 - الانفتاح: ضد الإطباق، وهو فى اللغة: بمعنى الافتراق، وفى الاصطلاح: انفتاح قليل بين اللسان والحنك الأعلى، ويصح أن يقال فى تعريفه: تجافى كل من طائفتى اللسان والحنك الأعلى عن الأخرى حتى يخرج الريح من بينهما عند النطق بأى حرف من حروفه. وحروف الانفتاح خمسة وعشرون حرفا، وهى الحروف الباقية من حروف الهجاء بعد حروف الإطباق الأربعة. 10 - الإذلاق: وهو فى اللغة: بمعنى الفصاحة والخفة. وفى الاصطلاح: خفة الحرف عند النطق به لخروجه من ذلق اللسان والشفة. وحروفه ستة جمعها ابن الجزرى فى قوله: «فر من لب»، وسميت هذه الصفة بذلك لذلاقتها أى خفتها وسرعة النطق بحروفها، لأن بعضها يخرج من ذلق اللسان أى: طرفه، وهو الراء، واللام، والنون، وبعضها يخرج من ذلق الشفة وهو الفاء، والباء، والميم. 11 - الإصمات: وهو ضد الإذلاق، ومعناه فى اللغة: المنع، وفى الاصطلاح: ثقل الحرف بخروجه من غير اللسان والشفة، ويمكن أن يقال فى تعريفه: امتناع حروفه من الانفراد أصولا فى الكلمات الرباعية والخماسية. فالحروف المصمتة منعت أن تختص ببناء كلمة أصلية رباعية أو خماسية فى لغة العرب، وذلك لصعوبة هذه الحروف على اللسان، فكل كلمة أصلية رباعية أو خماسية فى لغة العرب يمتنع أن تكون حروفها كلها مصمتة، بل لا بدّ أن تشتمل على بعض حروف الإذلاق، وإلا كانت الكلمة غير عربية ككلمة

ثانيا: الصفات التى لا ضد لها وهى:

«عسجد» اسم للذهب، وكلمة «عسطوس» اسم شجر. وحروف الإصمات ثلاثة وعشرون حرفا وهى الباقية من حروف الإذلاق. ثانيا: الصفات التى لا ضد لها وهى: 1 - الصفير: وهو فى اللغة: حدة الصوت. وفى الاصطلاح: صوت زائد يشبه صوت الطائر يخرج من بين الشفتين عند النطق بالحرف. وحروفه ثلاثة: الصاد، والزاى، والسين. فصفير الصاد يشبه صوت الأوز، وصفير الزاى يشبه صوت النحل، وصفير السين يشبه صوت الجراد. 2 - القلقلة: وهى فى اللغة: الصياح والتحريك والاضطراب. وفى الاصطلاح: اضطراب اللسان عند النطق بالحرف ساكنا حتى يسمع له نبرة قوية. وحروفها خمسة مجموعة فى قولك: «قطب جد». وسبب قلقلة هذه الحروف أنها مجهورة وشديدة، فالجهر يمنع جريان النفس والشدة تمنع جريان الصوت. فلما امتنع جريان النفس والصوت احتيج إلى التكلف فى بيان إخراجها شبيهة بالمتحرك وهى أقرب إلى الفتحة. ومراتب القلقلة ثلاث: أعلاها الطاء، وأوسطها القاف، وأدناها الباقى. وقيل: أعلاها المشدد الموقوف عليه، ثم الساكن فى الوقف، ثم الساكن وصلا، ثم المتحرك. 3 - اللين: ومعناه فى اللغة: السهولة. وفى الاصطلاح: خروج الحرف من مخرجه بيسر من غير كلفة على اللسان. وحروفه: الواو والساكنة المفتوح ما قبلها نحو كلمة «خوف»، والياء الساكنة المفتوح ما قبلها نحو كلمة «قريش». 4 - الانحراف: وهو فى اللغة بمعنى: الميل والعدول. وفى الاصطلاح: ميل الحرف بعد خروجه حتى يتصل بمخرج غيره، وله حرفان: اللام، والراء. أى أن هذين الحرفين لهما قابلية شديدة للانحراف عن مخرجهما، فاللام تنحرف بعد خروجها من مخرجها إلى طرف اللسان أى إلى مخرج النون، ولذلك يقرأها الألثغ نونا. والراء تنحرف بعد خروجها من مخرجها إلى ظهر اللسان إلى جهة اللام، ولذلك يقرأها الألثغ لاما. 5 - التكرار: وهو فى اللغة بمعنى: الإعادة للشيء مرة أو أكثر. وفى الاصطلاح: ارتعاد طرف اللسان عند النطق بالحرف ساكنا أو مشددا، وله حرف واحد وهو الراء. ووصف الراء بالتكرار لأنها قابلة له وليس المقصود الإتيان به، وإنما المقصود اجتنابه والحذر منه.

6 - التفشى: وهو فى اللغة بمعنى الانتشار والاتساع. وفى الاصطلاح: انتشار الريح في الفم عند النطق بالحرف حتى يتصل بمخرج الظاء. وللتفشى حرف واحد وهو الشين. 7 - الاستطالة: وهى فى اللغة بمعنى: الامتداد. وفى الاصطلاح: امتداد الصوت من أول حافة اللسان إلى آخرها عند النطق بالضاد الذى هو حرفها الوحيد. (¬1). هذه هى صفات الحروف بقسميها: الصفات التى لها أضداد، والصفات التى ليس لها أضداد. وإليك ما جاء فى متن الجزرية: صفاتها جهر ورخو مستفل ... منفتح مصمتة والضد قل مهموسها فحثه شخص سكت ... شديد لفظ أجد قط بكت وبين رخو والشديد لن عمر ... وسبع علو خص ضغط قظ حصر وصاد ضاد طاء ظاء مطبقة ... وفر من لب الحروف المذلقة صفير صاد وزاى سين ... قلقلة قطب جد واللين واو وياء سكنا وانفتحا ... قبلهما والانحراف صححا فى اللام والراء وبتكرير جعل ... وللتفشى ضادا استطل أ. د. السيد إسماعيل على سليمان ¬

_ (¬1) انظر: كتاب بغية عباد الرحمن لتحقيق تجويد القرآن من ص 131 - 154. وانظر: كتاب نهاية القول المفيد فى علم التجويد من ص 43 - 58 طبعة الحلبى سنة 1349 هـ للشيخ/ محمد مكى نصر. وراجع أيضا كتاب هداية القارى إلى تجويد كلام البارى من ص 75 - 100 وانظر كتاب كيف تقرأ القرآن قراءة شرعية من ص 82 - 95 للدكتور سيد مرسى إبراهيم البيومى. طبعة دار التوفيقية للطباعة بالأزهر.

التفخيم والترقيق

التفخيم والترقيق التفخيم فى اللغة: التسمين، وفى الاصطلاح: هو عبارة عن تسمين الحرف بجعله فى المخرج سمينا وفى الصفة قويا، ويرادفه التغليظ إلا أن التفخيم غلب استعماله فى الراءات، والتغليظ غلب استعماله فى بعض اللامات. والترقيق ضدهما، وهو فى اللغة التنحيف. وفى الاصطلاح: هو عبارة عن تنحيف الحرف بجعله فى المخرج نحيفا وفى الصفة ضعيفا. والحروف الهجائية بالنسبة للتفخيم والترقيق ثلاثة أقسام: منها ما يفخم قولا واحدا، ومنها ما يرقق قولا واحدا أيضا، ومنها ما يرقق تارة ويفخم تارة أخرى، لسبب من الأسباب، وإليك بيان هذه الأقسام الثلاثة فيما يلى: أولا: الحروف التى تفخم قولا واحدا: وهى حروف الاستعلاء السبعة، المجموعة فى قول ابن الجزرى: «خص ضغط قظ» بدون استثناء شىء منها، وهى على خمسة مراتب: الأولى: وهى أعلى مراتب التفخيم: أن يكون حرف التفخيم مفتوحا بعده ألف مثل كلمة: «الطامة»، «الضالين»، «الظانين»، «القارعة»، «الغافلين»، «الخائنين». المرتبة الثانية: وهى أن يكون الحرف مفتوحا ليس بعده ألف. مثل كلمة: «طبع»، «ضرب»، «ظلم»، «صبر»، «القتل»، «غضب»، «خبير». المرتبة الثالثة: وهى أن يكون الحرف مضموما سواء كان بعده واو أو ليس بعده واو مثل كلمة: «اضطر»، «ضرب»، «ظلم»، «صرفت»، «قتل»، «غرفة»، «خذ». المرتبة الرابعة: وهى أن يكون الحرف ساكنا. مثل كلمة: «أطوارا»، «اضرب»، «أظلم»، «واصبر»، «بمقدار»، «تغرب»، «اخرج». المرتبة الخامسة: وهى أن يكون الحرف مكسورا مثل كلمة: «يطع»، «ضياء»، «ظلا»، «خصيما»، «قيل»، «وغيض»، «داخرين». ثانيا: الحروف التى ترقق قولا واحدا: وهى حروف الاستفال، الحروف الباقية من حروف الهجاء بعد حروف

الاستعلاء السبعة المتقدم ذكرها، باستثناء ألف المد والراء واللام من لفظ الجلالة خاصة فى بعض الأحوال. ثالثا: الحروف المرققة تارة والمفخمة تارة أخرى: وهى: الراء واللام والألف المدية ويتبعها الغنة. وإليك بيان هذه الأحرف: أولا: أحكام الراء: وللراء من حيث التفخيم والترقيق ثلاث حالات هى التفخيم والترقيق وجواز الوجهين، وذلك فيما يلى: الحالة الأولى: تفخيم الراء فى الحالات التالية: 1 - إذا كانت الراء مضمومة مثل قوله تعالى: «روح القدس»، «نصر الله». 2 - إذا كانت الراء مفتوحة، مثل قوله تعالى: «وترى الجبال»، «رابية». 3 - إذا كانت الراء ساكنة بعد ضم مثل قوله تعالى: «زرتم المقابر»، «القرآن». 4 - إذا كانت الراء ساكنة بعد فتح مثل قوله تعالى: «بردا وسلاما»، «من خردل». 5 - إذا كانت الراء واقعة بعد حرف ساكن غير الياء، وقبل ذلك الحرف الساكن فتح أو ضم كما فى قوله تعالى: «ليلة القدر»، «لفى خسر». 6 - إذا كانت الراء ساكنة بعد كسر عارض، مثل قوله تعالى: «لمن ارتضى»، «رب ارجعون». 7 - إذا كانت الراء ساكنة بعد كسر أصلى، ولكن وقع بعدها حرف من حروف الاستعلاء واتصل معها فى كلمة ولم يكن حرف الاستعلاء مكسورا نحو: «قرطاس»، «فرقة»، «مرصادا». الحالة الثانية: ترقق الراء فى الحالات التالية: 1 - إذا كانت الراء مكسورة مثل قوله تعالى: «رزقا للعباد». 2 - إذا كانت الراء ساكنة بعد كسر أصلى متصل بها فى كلمة واحدة ولم يقع بعدها حرف استعلاء متصل بها مثل كلمة «فرعون»، «الفردوس». 3 - إذا كانت الراء ساكنة متطرفة بعد حرف ساكن غير الياء وقبل هذا الحرف كسر مثل كلمة «الذكر» و «السحر» و «الشعر» وهذا لا يكون إلا فى حالة الوقوف على الراء، فإذا وصلت تحركت، وحينئذ يكون حكمها حسب حركتها، ويشترط أن لا يكون الحرف الساكن حرفا من حروف الاستعلاء. 4 - إذا كانت الراء ساكنة متطرفة بعد ياء ساكنة مثل: «قدير»، و «نذير» وهذا أيضا لا يكون إلا فى حالة الوقف.

تغليظ اللام:

5 - إذا كانت الراء ساكنة بعد كسر أصلى ووقع بعدها حرف استعلاء ولكنه منفصل عنها فى كلمة أخرى مثل: «أن أنذر قومك»، «ولا تصعر خدك». الحالة الثالثة: جواز الترقيق والتفخيم: يجوز الترقيق والتفخيم فى «الراء» إذا كانت الراء ساكنة بعد كسر أصلى ولكن وقع بعدها حرف استعلاء متصل بها فى كلمة واحدة، وكان حرف الاستعلاء مكسورا، وذلك فى كلمة واحدة هى: «فرق» فى سورة الشعراء. وكذلك يجوز الترقيق والتفخيم فى حالة الوقف إذا سكنت الراء فى الآخر ووقع بينها وبين الكسر حرف ساكن، وكان هذا الحرف ضادا أو طاء، فمن نظر إلى كونه حرف استعلاء وهو حاجز حصين فخم الراء، ومن لم يعتد به رقق الراء، والمختار التفخيم فى راء «مصر»، والترقيق فى راء «القطر» نظرا للوصل وعملا بالأصل، وقد أشار إلى ذلك بعضهم بقوله: واختير أن يوقف مثل الوصل ... فى راء مصر القطر يا ذا الفضل ثانيا: أحكام اللام: وقبل البدء ببيان أحكام تفخيم اللام أو ترقيقها أقول: إن اللام فى غير لفظ الجلالة لا تكون إلا مرققة ويجب المحافظة على ترقيقها خاصة إذا وليها حرف تفخيم كما فى «وليتلطف»، وكما فى «وعلى الله»، ويجب عدم المبالغة فى ترقيقها حتى كأنها ممالة. كما يجب إظهارها إذا كانت لام جر كما فى «ولله الأسماء الحسنى»، ولا تكون اللام مفخمة إلا فى لفظ الجلالة المسبوق بفتح أو ضم. وترقق اللام فى جميع كلمات القرآن وعلى أى وضع كانت كما فى «لا ريب» «للمتقين»، «الضالين» وغير ذلك، وفى لفظ الجلالة «الله» ولفظ «اللهم» المسبوق بكسر سواء كان كسرا أصليا كما فى «بالله»، و «رضوان الله» أو كسرا عارضا للتخلص من التقاء الساكنين كما فى «قل هو الله أحد الله الصمد» فلفظ الجلالة الثانى اللام فيه مرققة لأنها مسبوقة بكسر عارض على نون التنوين للتخلص من التقاء الساكنين. وكما فى: «قل اللهم» فإن اللام فى لفظ: «اللهم» مرققة لأنها مسبوقة بكسر عارض على اللام فى «قل» وذلك للتخلص من التقاء الساكنين. تغليظ اللام: اصطلح العلماء على تسمية اللام المفخمة بالمغلظة. وهى لا تكون مغلظة إلا فى لفظ الجلالة: «الله» أو لفظ: «اللهم» المسبوق بفتح أو ضم كما سبق بيان ذلك.

ثالثا: أحكام ألف المد: ألف المد لا توصف بتفخيم ولا بترقيق ولكنها تتبع حالة الحرف الذى قبلها، فإن كان مرققا تبعته فى الترقيق كما فى «الأنهار»، «تجارة»، وإن كان الحرف الذى قبلها مفخما تبعته فى التفخيم كما فى «الطامة»، «الضالين»، «الظالمين» إلى غير ذلك. رابعا: أحكام غنة الإخفاء الحقيقى: الغنة لا توصف بتفخيم ولا ترقيق ولكنها عكس الألف تتبع حرف الإخفاء الذى يأتى بعدها، فإن كان مفخما كالصاد، والضاد، والطاء، والظاء، والقاف، فإنها تفخم تبعا له كما فى: «من طين»، «من ظلم»، «من ضل»، «من قبل»، «ولمن صبر»، أما الغين والخاء فليس معهما غنة لأنهما من حروف الإظهار. وإن كان الحرف مرققا كالتاء والثاء والجيم وغير ذلك من حروف الإخفاء الحقيقى فإنها ترقق تبعا لها كما فى «من تحتها»، «فمن ثقلت»، «من جاء» إلى غير ذلك من الأمثلة (¬1). أ. د. السيد إسماعيل على سليمان ¬

_ (¬1) راجع نهاية القول المفيد فى علم التجويد من ص 93 - 103، وهداية القارى إلى تجويد كلام البارى من ص 103 - 156 وبغية عباد الرحمن لتحقيق تجويد القرآن من ص 59 - 180 والنشر فى القراءات العشر 1/ 215 - 221 والمنح الفكرية شرح المقدمة الجزرية ص 54 - 31 طبعة الحلبى سنة 1367 هـ 1948 للشيخ/ ملا على بن سلطان محمد القارى، والبرهان فى تجويد القرآن ص 25 - 27 طبعة محمد على صبيح وأولاده بمصر 1978 م.

أحكام النون الساكنة والتنوين

أحكام النون الساكنة والتنوين تعريفها: النون الساكنة هى التى لا حركة لها كنون «من وعن» وهى تثبت لفظا وخطا، ووصلا ووقفا، وتكون فى الاسم والفعل والحرف وتقع متوسطة ومتطرفة. والتنوين فى اللغة معناه: التصويت. يقال: نوّن الطائر إذا صوّت. وفى الاصطلاح: هو نون ساكنة زائدة تلحق آخر الاسم لفظا وتفارقه خطا ووقفا. الفرق بين النون الساكنة والتنوين: بتأمل التعريفين السابقين يظهر لنا أن هناك خمسة فروق بين النون الساكنة والتنوين هى: 1 - النون الساكنة حرف أصلى من حروف الهجاء، والتنوين زائد. 2 - النون الساكنة ثابتة لفظا وخطا، والتنوين ثابت فى اللفظ دون الخط. 3 - النون الساكنة ثابتة فى الوصل والوقف، والتنوين ثابت فى الوصل دون الوقف. 4 - النون الساكنة تكون فى الأسماء والأفعال والحروف، والتنوين لا يكون إلا فى الأسماء دون الأفعال والحروف. 5 - النون الساكنة تقع فى وسط الكلمة وفى آخرها، والتنوين لا يكون إلا فى آخر الكلمة. هذا: وللنون الساكنة والتنوين بالنسبة لما يأتى بعدهما من حروف الهجاء أربعة أحكام هى: الإظهار، والإدغام، والإقلاب، والإخفاء، وإليك بيان هذه الأحكام فيما يلى: الأول: الإظهار: الإظهار فى اللغة معناه: الكشف والوضوح والبيان. وفى الاصطلاح: إخراج كل حرف من مخرجه من غير غنة فى الحرف المظهر. وقال بعضهم: هو فصل الحرف الأول من الثانى من غير سكت عليه. وقيل غير ذلك. وحروف الإظهار ستة هى: الهمزة، والهاء، والعين، والحاء، والغين، والخاء. وهى المسماة بحروف الحلق، ولذا سمى إظهارا سواء كان معها فى كلمة أم كان منفصلا عنها بأن كانت النون آخر الكلمة وحرف الحلق أول الثانية، أو بعد التنوين- ولا يكون إلا من كلمتين- وجب الإظهار.

الثانى: الإدغام:

ومن أمثلة النون فى كلمة ومن كلمتين مع الهمزة: «ينأون»، «من آمن»، ومع الهاء: «منهم»، «من هاجر»، ومع العين: «أنعمت»، «من عمل»، ومع الحاء: «ينحتون»، «فإن حاجوك»، ومع الغين: «فسينغضون» «من غل»، ومع الخاء: «والمنخنقة»، «ومن خزى». ومن أمثلة التنوين مع الهمزة: «جنات ألفافا»، ومع الهاء: «جرف هار»، ومع العين: «سميع عليم»، ومع الحاء: «عليم حكيم»، ومع الغين: «عزيز غفور»، ومع الخاء: «لطيفا خبيرا». والعلة فى إظهار النون والتنوين عند هذه الأحرف بعد المخرج أى: بعد مخرج النون والتنوين عن مخرج حروف الحلق، فالنون والتنوين يخرجان من طرف اللسان، والحروف الستة تخرج من الحلق. وأعلى مراتب الإظهار عند الهمز والهاء، وأوسطه عند العين والحاء، وأدناه عند الغين والخاء. وسمى إظهارا لظهور النون الساكنة والتنوين عند ملاقاتهما بحرف من هذه الأحرف. وسمى حلقيا لخروج حروفه من الحلق. الثانى: الإدغام: والإدغام فى اللغة معناه: إدخال الشيء فى الشيء، وفى الاصطلاح: التقاء حرف ساكن بمتحرك بحيث يصيران حرفا واحدا مشددا يرتفع عنه اللسان ارتفاعة واحدة. ومعنى ذلك: أن الإدغام: هو إدخال الحرف الأول فى الحرف الثانى بحيث يصيران حرفا واحدا مشددا. وحروف الإدغام ستة مجموعة فى كلمة: «يرملون» وهى الياء والراء والميم واللام والواو والنون. فإذا وقع حرف من هذه الأحرف الستة بعد النون الساكنة بشرط أن تكون النون آخر الكلمة، وأحد هذه الحروف الستة أول الكلمة الثانية، أو بعد التنوين- ولا يكون إلا من كلمتين- وجب إدغامها. وينقسم الإدغام إلى قسمين: الأول: إدغام بغنة وله أربعة حروف مجموعة فى لفظ «ينمو» وهى الياء والنون والميم والواو. فإذا وقع حرف من هذه الأحرف الأربعة بعد النون الساكنة والتنوين بشرط أن ذلك يكون من كلمتين، بأن تكون النون فى كلمة وأحد الحروف فى كلمة أخرى، أو بعد التنوين- ولا يكون إلا من كلمتين- وجب الإدغام، ويسمى إدغاما ناقصا، لذهاب الحرف وهو النون، أو التنوين وبقاء الصفة وهى الغنة. ومن أمثلة النون الساكنة مع الياء: «من يقول» ومع النون: «من نذير»، ومع الميم: «من مسد»، ومع الواو: «من ولى». ومن أمثلة التنوين مع الياء: «وبرق يجعلون»، ومع النون: «يومئذ ناعمة»،

الثالث: الإقلاب:

ومع الميم: «عذاب مقيم»، ومع الواو: «يومئذ واهية». أما إذا وقع حرف من هذه الأحرف الأربعة السابقة بعد النون الساكنة فى كلمة واحدة وجب الإظهار مطلقا لعدم تقييده بحلق أو شفة، ولم يقع فى القرآن بعد النون من كلمة إلا الياء والواو، فالياء فى كلمتى «الدنيا»، و «بنيان»، والواو فى كلمتى: «صنوان»، و «قنوان». ووجب الإظهار فى هذه الكلمات الأربع لئلا يشتبه بالمضاعف- وهو ما تكرر أحد أصوله «كصنوان» «ودنيا»، فلو أدغمت النون فى الياء أو فى الواو، وقيل الديا وصوان، فيلتبس الأمر بين ما أصله النون فأدغمت نونه، وبين ما أصله التضعيف، فلهذا أظهرت النون خوف الالتباس. الثانى: إدغام بغير غنة، وله حرفان: اللام والراء. فإذا وقعت اللام أو الراء بعد النون الساكنة أو التنوين وجب الإدغام، ويسمى إدغاما بغير غنة، ووجه حذف الغنة مع اللام والراء: المبالغة فى التخفيف، ويسمى هذا القسم من الإدغام إدغاما كاملا، لذهاب الحرف والصفة معا. ومن أمثلة اللام بعد النون الساكنة: «ولكن لا يعلمون»، ومثال الراء بعد النون الساكنة: «من ربهم»، ومثال اللام بعد التنوين: «هدى للمتقين»، ومثال الراء بعد التنوين: «رءوف رحيم». الثالث: الإقلاب: والإقلاب فى اللغة معناه: تحويل الشيء عن وجهه، وفى الاصطلاح: جعل حرف وهو الميم، مكان حرف آخر، وهو النون الساكنة أو التنوين، مع مراعاة الغنة والإخفاء. ويصح أن يقال فى تعريفه: هو قلب النون الساكنة أو التنوين ميما عند الباء، مع مراعاة الغنة والإخفاء. وله حرف واحد هو الباء، فإذا وقعت الباء بعد النون الساكنة من كلمة أو من كلمتين، أو بعد التنوين ولا يكون إلا من كلمتين وجب الإقلاب، أى قلب هذه النون أو التنوين ميما عند الباء مع الإخفاء بغنة. ومن أمثلة النون الساكنة مع الباء: «أنبئهم» «أن بورك»، ومثال التنوين مع الباء: «سميع بصير». ووجه الإقلاب هنا هو: عسر الإتيان بالغنة فى النون الساكنة والتنوين مع الإظهار، ثم إطباق الشفتين لأجل الباء، وعسر الإدغام كذلك لاختلاف المخرج وقلة التناسب، وحينئذ يتعين الإخفاء، ثم توصل إليه بالقلب ميما لمشاركتها للباء مخرجا وللنون غنة. الرابع: الإخفاء: والإخفاء فى اللغة معناه: الستر، تقول: أخفيت الشيء أى: سترته. وفى الاصطلاح: هو عبارة عن النطق بحرف ساكن عار من التشديد على صفة بين الإظهار والإدغام مع

بقاء الغنة فى الحرف الأول وهو هنا النون الساكنة والتنوين. وحروف الإخفاء: خمسة عشر حرفا وهى التى جمعها الجمزورى فى تحفته فى أوائل كلمات البيت التالى: صف ذا ثنا كم جاد شخص قد سما ... دم طيبا زد فى تقى ضع ظالما وهى: الصاد، والذال، والثاء، والكاف، والجيم، والشين، والقاف، والسين، والدال، والطاء، والزاى، والفاء، والتاء، والضاد، والظاء. فإذا وقع حرف من هذه الأحرف بعد النون الساكنة سواء كان متصلا بها فى كلمتها أم منفصلا عنها، أو بعد التنوين ولا يكون إلا من كلمتين كما هو مقرر وجب إخفاؤهما، ويسمى إخفاء حقيقيا لأنه متحقق فى النون الساكنة والتنوين أكثر من غيرهما. ومن أمثلة إخفاء النون الساكنة مع هذه الحروف من كلمة ومن كلمتين: «منصورا» «أن صدوكم»، «منذر»، «من ذكر»، «منثورا»، «من ثمرة»، «ينكثون»، «من كل»، «أنجيناكم»، «أن جاءكم»، «المنشئون»، «لمن شاء»، «أندادا»، «من دابة»، «ينقضون»، «فإن قاتلوكم»، «منسأته»، «من سيئاتكم»، «ينطقون»، «من طيبات»، «فأنزلنا»، «فإن زللتم»، «انفروا»، «وإن فاتكم»، «منتهون»، «من تحتها»، «منضود»، «من ضل»، «انظروا»، «من ظهير». ومن أمثلة التنوين مع هذه الحروف: «ريحا صرصرا»، «سراعا ذلك»، «أزواجا ثلاثة»، «عادا كفروا»، «فصبر جميل»، «بأس شديد»، «ثمنا قليلا»، «ورجلا سلما»، «قنوان دانية»، «شرابا طهورا»، «مباركة زيتونة»، «خالدا فيها»، «جنات تجرى»، «قوما ضالين»، «ظلا ظليلا». ووجه إخفاء النون الساكنة والتنوين عند هذه الأحرف هو: أن النون الساكنة والتنوين لم يقربا من هذه الأحرف الخمسة عشر مثل قربهما من حروف الإدغام حتى يدغما، ولم تبعد النون الساكنة والتنوين من هذه الأحرف مثل بعدهما عن حروف الإظهار فيظهرا، فهما لم يأخذا القرب الموجب للإدغام، ولم يأخذا صفة البعد الموجب للإظهار، ومن هنا فقد أعطيت النون الساكنة والتنوين عند الأحرف الخمسة عشر السابقة حكما متوسطا بين الإظهار والإدغام، هذا الحكم المتوسط، هو الإخفاء كما اتضح لنا معناه. وللإخفاء مراتب ثلاثة: أعلى عند الطاء والدال والتاء. وأدنى عند القاف والكاف. وأوسط عند باقى الحروف الخمسة عشر. وقد أشار صاحب التحفة إلى هذه الأحكام الأربعة بقوله:

للنون إن تسكن وللتنوين ... أربع أحكام فخذ تبيينى فالأول الإظهار قبل أحرف ... للحلق ست رتبت فلتعرف همز فهاء ثم عين حاء ... مهملتان ثم غين خاء والثانى إدغام بستة أتت ... فى يرملون عندهم قد ثبتت لكنهما قسمان قسم يدغما ... فيه بغنة بينمو علما إلا إذا كان بكلمة فلا ... تدغم كدنيا ثم صنوان تلا والثانى إدغام بغير غنة ... فى اللام والراء ثم كرّرنه والثالث الإقلاب عند الباء ... ميما بغنة مع الإخفاء والرابع الإخفاء عند الفاضل ... من الحروف واجب للفاضل فى خمسة من بعد عشر رمزها ... فى كلم هذا البيت قد ضمنتها صف ذا ثنا كم جاد شخص قد سما ... دم طيبا زد فى تقى ضع ظالما (¬1) أ. د. السيد إسماعيل على سليمان ¬

_ (¬1) النجوم الطوالع شرح الدرر اللوامع فى أصل مقرأ الإمام نافع للعلامة المحقق الشيخ سيدى إبراهيم أحمد المارغنى ص 96 وما بعدها طبع المطبعة التونسية بسوق البلاط بتونس عام 1354 هـ 1935 م. وانظر: هداية القارى إلى تجويد كلام البارى ص 159 وما بعدها طبعة دار النصر للطباعة الإسلامية الأولى سنة 1402 هـ 1982 م للشيخ/ عبد الفتاح السيد عجمى المرصفى. وانظر البرهان فى تجويد القرآن ص 7 - 11 طبعة مطبعة محمد على صبيح وأولاده بميدان الأزهر سنة 1978 للشيخ/ محمد الصادق قمحاوى. وكتاب كيف تقرأ القرآن قراءة شرعية ص 115 - 123. طبعة دار التوفيقية بالأزهر سنة 1400 هـ 1980 م للأستاذ الدكتور سيد مرسى إبراهيم بيومى.

فى الغنة وأحكامها وأقوال العلماء فى ذلك

فى الغنة وأحكامها وأقوال العلماء فى ذلك الغنة فى اللغة: صوت يخرج من الخيشوم لا عمل للسان فيه. وفى الاصطلاح: صوت أغن مركب فى جسم النون ولو تنوينا والميم مطلقا- أى أن صوت الغنة صفة لازمة للنون والميم سواء كانتا متحركتين أو ساكنتين مظهرتين أو مدغمتين أو مخفاتين. ومحل الغنة فى النون والميم لا فى غيرهما من الحروف. والنون أغن من الميم ويلحق بالنون التنوين. مخرج الغنة: أما مخرج الغنة فمن الخيشوم، وهو خرق الأنف المنجذب إلى داخل الفم- وقيل: هو أقصى الأنف- أى: أن صوت الغنة بجميع أحواله يخرج من الخيشوم. ودليل ذلك أنه لو أمسك بالأنف لا انحبس خروجه مطلقا حتى فى حال ضعفه عند تحريك النون والميم مخففتين، أو سكونهما مظهرتين، كما يشهد بذلك النطق. مراتب الغنة: يرى جمهور العلماء أن للغنة خمس مراتب هى: الأولى: المشدّد، ويشمل ما كان فى كلمة وما كان فى كلمتين، فالذى فى كلمة هو النون والميم المشدّدتان مطلقا مثل: «يمنّون» «همّت به». والذى فى كلمتين يشمل أربعة أنواع وكلها فى الإدغام التام: الأول: الإدغام التام المصحوب بالغنة وهو إدغام النون الساكنة والتنوين فى النون والميم نحو: «إن نشأ»، «من مال الله» الثانى: إدغام الميم الساكنة فى مثلها نحو: «كم من فئة». الثالث: إدغام المتجانسين الصغير المصحوب بالغنة وهو إدغام الباء الساكنة فى الميم فى قوله تعالى: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا (سورة هود آية 42) عند من أدغم ومنهم حفص عن عاصم من طريق الشاطبية. الرابع: إدغام اللام الشمسية فى النون نحو: «إلى النور»، ويسمى كل من النون والميم

فيما ذكر حرف غنة مشددا. ويجب إظهار غنته، كما يجب الاحتراز من المد عند الإتيان بالغنة فى مثل قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، وقوله تعالى فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ. المرتبة الثانية: المدغم، والمراد به هنا الإدغام بالغنة الناقص، وهو إدغام النون الساكنة والتنوين فى الواو والياء. المرتبة الثالثة: المخفى، ويشمل أنواعا ثلاثة هى: الأول: إخفاء النون الساكنة والتنوين عند حروف الإخفاء الخمسة عشر. الثانى: إخفاء الميم المقلوبة من النون الساكنة والتنوين عند ملاقاتهما بالباء مثل: «ينبت»، «عليم بذات». الثالث: إخفاء الميم قبل الباء نحو: «فاحكم بينهم». المرتبة الرابعة: الساكن المظهر، ويشمل إظهار النون الساكنة والتنوين عند حروف الحلق، وكذلك الميم الساكنة حال إظهارها إذا لم يأت بعدها باء أو ميم. المرتبة الخامسة: المتحرك المخفف، ويشمل النون الساكنة والميم الخفيفتين المتحركتين بأى حركة كانت. مقدار الغنة: حركتان كالمد الطبيعى، أى غنة كاملة من غير تفاوت فى المراتب الثلاث الأولى، وأما مقدارها فى المرتبتين الأخيرتين فهو أصل الغنة فقط (¬1). أ. د. السيد إسماعيل على سليمان ¬

_ (¬1) انظر: هداية القارى إلى تجويد كلام البارى ص 177 - 188. للشيخ/ عبد الفتاح المرصفى.

فى تعريف الميم الساكنة وأحكامها

فى تعريف الميم الساكنة وأحكامها الميم السكنة هى التى سكونها ثابت فى الوصل والوقف نحو: «الحمد لله»، وتكون هذه الميم فى الاسم والفعل، وتكون متوسطة ومتطرفة. ولها قبل حروف الهجاء كلها ما عدا الألف اللينة- ألف المد- أحكام ثلاثة وهى: الإخفاء الشفوى، والإدغام الصغير، والإظهار الشفوى، وهذه الأحكام بيانها فيما يلى: أولا: الإخفاء الشفوى: والإخفاء فى اللغة: بمعنى الستر. وفى الاصطلاح: النطق بالميم الساكنة على صفة بين الإظهار والإدغام مع مراعاة الغنة وعدم التشديد. وله حرف واحد فقط وهو الباء، وسمى بالإخفاء: لإخفاء الميم الساكنة عند الباء. وسمى بالشفوى: لأن الميم والباء كليهما يخرجان من الشفتين، ووجهه: التجانس فى المخرج وفى أكثر الصفات. ومن أمثلة الإخفاء الشفوى: قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ (سورة المائدة آية: 48). ثانيا: الإدغام الصغير: والإدغام الصغير له حرف واحد وهو «الميم»، فإذا وقع بعد الميم الساكنة سواء كان معها فى كلمة واحدة أم فى كلمتين وجب إدغام الميم الساكنة فى الميم المتحركة، ويسمى إدغام مثلين صغيرا مع الغنة. فالذى من كلمة نحو «الم»، «المر»، والذى من كلمتين نحو «كم من فئة»، «ولكم ما كسبتم»، ومنه إدغام النون الساكنة والتنوين فى الميم نحو: «من مال الله»، وذلك لقلب المدغم من جنس المدغم فيه، وكذلك يطلق على كل ميم مشددة نحو «دمّر» «ويعمّر» «وهمّ». وسمى إدغاما لإدغام الميم الساكنة فى المتحركة. وسمى بالمثلين لكون المدغم والمدغم فيه مؤلفان من حرفين اتحدا مخرجا وصفة أو اتحدا اسما ورسما. وسمى صغيرا لكون الأول من المثلين ساكنا والثانى متحركا، أو لقلة عمل المدغم. وسمّى بالغنة لكون الغنة مصاحبة له هنا بالإجماع. ووجهه: التماثل. ثالثا: الإظهار الشفوى: والإظهار الشفوى له ستة وعشرون حرفا وهى الباقية من الحروف الهجائية بعد إسقاط حرف الباء الذى تقدم ذكره فى الإخفاء الشفوى، وحرف الميم الذى ذكره فى الإدغام الصغير. فإذا وقع حرف من هذه الأحرف بعد الميم الساكنة سواء كان معها فى كلمة واحدة أو فى كلمتين وجب إظهار الميم، ويسمى إظهارا شفويا.

فالذى من كلمة واحدة نحو: «الحمد لله»، «أنعمت»، «قمتم»، والذى من كلمتين نحو: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ (البقرة: 232) إلى غير ذلك. ثم إن إظهار الميم الساكنة يكون عند الفاء والواو آكد خوفا من أن يسبق اللسان إلى إخفائهما عند هذين الحرفين لقربهما من الفاء فى المخرج، واتحادهما مع الواو فى المخرج. وسمى إظهارا: لإظهار الميم الساكنة عند ملاقاتها بحرف من حروف الإظهار الستة والعشرين. وسمى شفويا: لخروج الميم الساكنة المظهرة من الشفة. ووجهه: التباعد، أى بعد مخرج الميم عن أكثر مخارج حروف الإظهار. وقد أشار الجمزورى فى تحفة الأطفال إلى أحكام الميم الساكنة بقوله: ... والميم إن تسكن تجى قبل الهجا ... لا ألف لينة لذى الحجا أحكامها ثلاثة لمن ضبط ... إخفاء إدغام وإظهار فقط فالأول الإخفاء عند الباء ... وسمه الشفوى للقراء والثانى إدغام بمثلها أتى ... وسم إدغاما صغيرا يا فتى والثالث الإظهار فى البقية ... من أحرف وسمها شفوية واحذر لدى واو وفا أن تختفى ... لقربها والاتحاد فاعرف (¬1) ... أ. د. السيد إسماعيل على سليمان الهوامش: ¬

_ (¬1) انظر: نهاية القول المفيد فى علم التجويد ص 26 - 128 طبعة الحلبى سنة 1349 هـ- للشيخ محمد مكى نصر. وهداية القارى إلى تجويد كلام البارى ص 191 - 198 طبعة دار النصر للطباعة الإسلامية الأولى سنة 1402 هـ 1982 م للشيخ عبد الفتاح السيد عجمى المرصفى. وبغية عباد الرحمن لتحقيق تجويد القرآن ص 207 - 214 طبعة دار ابن القيم الثالثة 1414 هـ 1993 م بالمملكة العربية السعودية، والبرهان فى تجويد القرآن ص 12، 13 طبعة محمد على صبيح وأولاده سنة 1978 م.

اللامات السواكن اللام الساكنة فى القرآن الكريم على خمسة أنواع هى: لام أل، ولام الفعل، ولام الأمر، ولام الاسم، ولام الحرف. وإليك تعريف كل واحدة من هذه الأنواع، وبيان حكمها مع التمثيل عليها فيما يلى: أولا: لام التعريف «أل»: هى لام ساكنة زائدة عن بنية الكلمة مسبوقة بهمزة وصل مفتوحة عند البدء وبعدها اسم سواء صح تجريدها عن هذا الاسم كالشمس والقمر، أم لم يصح كما فى لفظ الجلالة، والذى، والتى. حكمها: إذا وليها أحد الحروف الهجائية الثمانية والعشرين والتى ليس منها حروف المد الثلاثة- لأنه عندئذ تكون جميعا بين ساكنين- لها حكمان: الأول: الإظهار القمرى: وذلك إذا جاء بعد أحد الحروف القمرية الأربعة عشر المجموعة فى قول صاحب التحفة: «ابغ حجك وخف عقيمه»، وهى الهمزة، والباء، والغين، والحاء، والجيم، والكاف، والواو، والخاء، والفاء، والعين، والقاف، والياء، والميم، والهاء. فإذا جاء أحد حروف هذه الجملة بعد لام «أول» وجب إظهارها، ويسمى إظهارا قمريا كما فى «الأنهار»، «البوار»، «الغفور»، وتسمى اللام حينئذ لا ما قمرية لظهورها عند النطق بها فى لفظ «القمر»، وسمى إظهارا لظهور لام التعريف عند هذه الأحرف. ووجهه: التباعد، أى بعد مخرج اللام عن مخرج هذه الأحرف. الثانى: الإدغام، وذلك إذا جاء بعدها أحد الحروف الشمسية الأربعة عشر الباقية من حروف الهجاء والتى رمز إليها صاحب التحفة فى أوائل كلمات هذا البيت: طب ثم صل رحما تفز ضف ذا نعم ... دع سوء ظن زر شريفا للكرم وهى: الطاء، والثاء، والصاد، والراء، والتاء، والضاد، والذال، والنون، والدال، والسين،

والظاء، والزاى، والشين، واللام، فإذا وقع حرف من هذه الأحرف بعد لام «أل» وجب إدغامها. ويسمى إدغاما شمسيا، وتسمى اللام حينئذ لاما شمسية لعدم ظهورها عند النطق بها فى لفظ «الشمس» وذلك كما فى: «الطيبات»، «الثواب»، «الصابرون». وهكذا فى بقية الحروف. وسبب هذا الإدغام التماثل فى اللام، وفى بقية الحروف التقارب. ثانيا: لام الفعل: وهى أحد حروف الفعل الأصلية، وهى إما أن تكون متوسطة، وإما أن تكون متطرفة. فإن كانت متوسطة وجب إظهارها كما فى لفظ «ألهاكم»، «يلتقطه»، وإن كانت متطرفة ففيها حكمان: الأول: الإدغام، وهو إذا جاء بعدها لام أو راء، كما فى قوله: «ألم أقل لكم»، وقوله: «وقل رب»، وسبب إدغامها فى اللام التماثل، وفى الراء التقارب. الثانى: الإظهار، وهو أن يأتى بعد لام الفعل حرف آخر من حروف الهجاء غير اللام والراء، فيجب عند ذلك إظهارها، كما فى قوله: «قل أتخذتم»، «قل بئسما». ثالثا: لام الأمر: وهى لام زائدة عن أصل الكلمة، ويأتى بعدها فعل مضارع فقط وهى متصلة به، ولا تكون إلا ساكنة، وتأتى بعد الفاء، أو الواو، أو ثم، كما في قوله: «فلينظر»، وقوله: «وليملل»، وقوله: «ثم ليقطع». فهذه اللام يجب إظهارها. رابعا: لام الاسم: وهى أحد حروف الاسم الأصلية بخلاف لام «أل» والمقصود بلام الاسم هى ما كانت ساكنة متوسطة، ولا تكون متطرفة أبدا، وهذه اللام يجب إظهارها كما في قوله: «ألسنتكم»، «بسلطان». خامسا: لام الحرف: وهى لام أصلية ساكنة، وهذه اللام لها حكمان: الأول: الإدغام، وذلك إذا جاء بعدها لام أو راء، كما فى قوله: «هل لك»، «بل لا تكرمون». والراء فى القرآن لا تقع بعد لام الحرف إلا مع «بل» كما فى قوله: «بل ربكم»، ويستثنى منها راء واحدة وقعت فى القرآن بعد «بل» فلا تدغم، وهى قوله: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (سورة المطففين، آية: 14)، وذلك بسبب السكت، والسكت مانع من الإدغام. الثانى: الإظهار، وذلك إذا جاء بعدها أىّ حرف من حروف الهجاء غير اللام والراء، كما فى قوله: «هل تعلم» «بل طبع».

وإليك ما قاله الجمزورى فى تحفة الأطفال: ... للام أل حالان قبل الأحرف ... أولاهما إظهارها فليعرف قبل أربع من عشرة خذ علمه ... من ابغ حجك وخف عقيمه ثانيهما إدغامها فى أربع ... وعشرة أيضا ورمزها فع ... طب ثم صل رحما تفز ضف ذا نعم ... دع سوء ظن زر شريفا للكرم واللام الأولى سمها قمرية ... واللام الأخرى سمها شمسية وأظهرن لام فعل مطلقا ... فى نحو قل نعم وقلنا والتقى (¬1) أ. د. السيد إسماعيل على سليمان ¬

_ (¬1) البرهان فى تجويد القرآن ص 14 - 16 طبعة محمد صبيح وأولاده 1978 م للشيخ محمد الصادق قمحاوى. وهداية القارى إلى تجويد كلام البارى ص 201 - 214 طبعة دار النصر للطباعة الإسلامية الأولى 1402 هـ 1982 م للشيخ عبد الفتاح المرصفى.

«المثلان، والمتقاربان، والمتجانسان، والمتباعدان» الحرفان المتلاقيان لفظا وخطا، أو خطا فقط ينقسمان إلى أربعة أقسام: مثلين، ومتقاربين، ومتجانسين، ومتباعدين، كما يقتضى ذلك القسمة العقلية، ثم إن كلا من الأقسام الأربعة ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وذلك فيما يلى: أولا: المثلان: وهما الحرفان اللذان اتحدا مخرجا وصفة كالباءين نحو: «اضرب بعصاك»، وكالدالين نحو: «وقد دخلوا». وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - مثلان صغير: وهو أن يكون الحرف الأول ساكنا والثانى متحركا كما فى الأمثلة المتقدمة. وحكمه: وجوب الإدغام لجميع القراء، وذلك إن لم يكن الأول حرف مد نحو «قالوا وهم»، أو هاء سكت نحو: «ماليه هلك»، وإلا وجب الإظهار. 2 - مثلان كبير: وهو أن يكون الحرفان متحركين نحو: «فيه هدى»، «الرحيم مالك»، وحكمه: الإظهار لجميع القراء ما عدا السوسى. 3 - مثلان مطلق: وهو أن يكون الحرف الأول متحركا والثانى ساكنا نحو «ما ننسخ» «شققنا»، وحكمه الإظهار من غير خلاف. ثانيا: المتقاربان: وهما الحرفان اللذان تقاربا مخرجا وصفة كالذال والزاى نحو: «إذ زين»، أو مخرجا لا صفة كالدال والسين نحو: «قد سمع»، وكالذال والجيم نحو: «إذ جاءوكم». وهو ثلاثة أقسام: 1 - متقاربان صغير: وهو أن يكون الحرف الأول منهما ساكنا والثانى متحركا مثل النون مع اللام فى نحو: «ولكن لا يعلمون» والقاف مع الكاف فى نحو: «ألم نخلقكم»، حكمه: الإظهار إلا اللام والراء نحو: «قل رب» «بل ران» لغير حفص، فإنه يجب الإدغام. وأما حفص فله على لام «بل ران» سكتة لطيفة والسكت يمنع الإدغام. 2 - متقاربان كبير: وهو أن يتحرك الحرفان معا كالقاف مع الكاف فى نحو: «رزقكم»، والدال مع السين فى نحو: «عدد سنين». وحكمه: الإظهار لغير السوسى. 3 - متقاربان مطلق: وهو أن يتحرك الأول منهما ويسكن الثانى كالهمزة مع الحاء فى نحو «أحمل»، والياء مع الضاد فى نحو «يضلل». وحكمه: الإظهار وجوبا لجميع القراء. ثالثا: المتجانسان: وهما الحرفان اللذان اتحدا مخرجا واختلفا صفة كالدال والتاء فى نحو: «قد تبين»، والثاء مع الذال فى نحو «يلهث ذلك»، وهو ثلاثة أقسام: 1 - متجانسان صغير: وهو أن يكون الحرف الأول منهما ساكنا والثانى متحركا كالتاء مع الطاء فى نحو: «همت طائفة»، وحكمه الإظهار إلا فى خمسة مواضع يجب

الإدغام فيها، وهى: الدال فى التاء نحو «قد تبين»، والتاء فى الدال والطاء نحو: «أثقلت دعوا»، «همت طائفة»، والذال فى الظاء نحو «إذ ظلمتم»، والثاء فى الذال نحو: «يلهث ذلك»، والباء فى الميم نحو: «اركب معنا». 2 - متجانسان كبير: وهو أن يتحرك الحرفان معا كالتاء مع الطاء فى نحو: «الصالحات طوبى». وحكمه: الإظهار لغير السوسى. 3 - متجانسان مطلق: وهو أن يتحرك الحرف الأول ويسكن الثانى، كالياء مع الشين فى نحو: «يشكر». وحكمه: الإظهار وجوبا للجميع. رابعا: المتباعدان: وهما الحرفان اللذان تباعدا مخرجا واختلفا صفة. وهو ثلاثة أقسام: 1 - المتباعدان الصغير: وهو أن يكون الأول ساكنا والثانى متحركا كالهمزة مع اللام فى نحو: «تألمون». 2 - المتباعدان الكبير: وهو أن يتحرك الحرفان معا كالزاى مع الهمزة فى نحو: «استهزئ». 3 - المتباعدان المطلق: وهو أن يتحرك الحرف الأول ويسكن الثانى، كالقاف مع الواو. وحكم المتباعدين: الإظهار وجوبا عند جميع القراء سواء كان صغيرا أم كبيرا أم مطلقا، لأن الإدغام بشروطه مطلقا إنما يسوغه التماثل أو التقارب أو التجانس. **** وقد أشار الجمزورى فى تحفة الأطفال إلى الأقسام الثلاثة الأولى بقوله: إن فى الصفات والمخارج اتفق ... حرفان فالمثلان فيهما أحق أو يكون مخرجا تقاربا ... وفى الصفات اختلفتا يلقبا متقاربين أو يكونا اتفقا ... فى مخرج دون الصفات حققا بالمتجانسين ثم إن سكن ... أول كل فالصغير سمّين أو حرك الحرفان فى كل فقل ... كل كبير وافهمنه بالمثل (¬1) وأشار صاحب كتاب انشراح الصدور إلى المتباعدين بقوله: وإن يكونا مخرجا تباعدا ... وفى الصفات اختلفا مباعدا (¬2) أ. د. السيد إسماعيل على سليمان ¬

_ (¬1) انظر: البرهان في تجويد القرآن ص 28 - 30 طبعة مطبعة محمد على صبيح وأولاده سنة 1978 م للشيخ/ محمد الصادق قمحاوى. وهداية القارى إلى تجويد كلام البارى ص 217 - 227، طبعة دار النصر للطباعة الإسلامية الأولى 1402 هـ 1982 م. (¬2) انشراح الصدور فى تجويد كلام الغفور للشيخ وهبة سرو المحلى ص 30 طبعة مطبعة المليجى بالقاهرة 1923.

فى المد والقصر

فى المدّ والقصر الأصل فى هذا الباب ما رواه البخارى بسنده عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك- رضى الله عنه- عن قراءة النبى- صلّى الله عليه وسلم- فقال: كان يمد مدّا (¬1). ورواه النسائى عن قتادة بلفظ سألت أنسا كيف كانت قراءة رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- قال كان يمدّ صوته مدّا (¬2). وما أخرجه سعيد بن منصور فى سننه قال: حدثنا شهاب بن خراش، حدثنى مسعود بن يزيد الكندى قال: كان ابن مسعود يقرئ رجلا، فقرأ الرجل: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ (سورة التوبة آية 60) مرسلة- أى مقصورة من غير مدّ- فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها النبى- صلّى الله عليه وسلم- فقال: وكيف أقرأكها؟ قال: أقرأنيها: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ فمدها (¬3). تعريف المدّ: المدّ فى اللغة: مطلق الزيادة، ومنه قوله تعالى: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ (سورة نوح آية 12) أى يزدكم- وفى الاصطلاح: إطالة الصوت بحرف من حروف المدّ الثلاثة عند ملاقاة همزة أو سكون. حروف المدّ: وحروف المدّ الثلاثة يجمعها لفظ «واى» وهى الواو الساكنة المضموم ما قبلها نحو «يقول»، والألف الساكنة المفتوح ما قبلها نحو «قال»، والياء الساكنة المكسور ما قبلها نحو «قيل» ويجمع الكل بشروطها المذكورة الكلمات: «نوحيها»، «أوتينا»، «أوذينا». وتسمى هذه الحروف: حروف المدّ واللّين، لخروجها بامتداد ولين من غير كلفة على اللسان لاتساع مخرجها. وأما حرفا اللين فهما الواو والياء الساكنتان المفتوح ما قبلهما. **** جاء فى متن التحفة: حروف ثلاثة فعيها ... من لفظ واى وهى فى نوحيها والكسر قبل الياء وقبل الواو ضم ... شرط وفتح قبل ألف يلتزم واللين منها الياء وواو سكنا ... إن انفتاح قبل كل أعلنا ¬

(¬1) الحديث: أخرجه البخارى فى صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب مدّ القراءة 6/ 240، 241 طبعة الشعب بالقاهرة سنة 1378 هـ. (¬2) سنن النسائى بشرح جلال الدين السيوطى وحاشية الإمام السندى 2/ 179، الناشر المكتبة التجارية بمصر الطبعة الأولى سنة 1348 هـ 1930 م. (¬3) الدر المنثور فى التفسير بالمأثور 3/ 250 طبعة دار المعرفة. بيروت. لجلال الدين السيوطى وقال السيوطى: أخرجه سعيد بن منصور، والطبرانى، وابن مردويه. وذكره ابن الجزرى فى كتاب النشر فى القراءات العشر 1/ 315، 316 وقال: هذا حديث حجة ونص فى هذا الباب ورجال إسناده ثقات، رواه الطبرانى فى معجمه الكبير.

تعريف القصر:

تعريف القصر: القصر فى اللغة: الحبس والمنع، ومنه قوله تعالى: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (سورة الرحمن آية 72) أى محبوسات فيها. وفى الاصطلاح: إثبات حرف المد من غير زيادة عليه. المدّ والقصر حقيقة واصطلاحا: وحقيقة المدّ تحققه بأى مقدار ولو حركتين. وحقيقة القصر عدم المدّ مطلقا. لكن المصطلح عليه فى علم التجويد كما يستفاد من تعريفى المدّ والقصر السابقين أن القصر هو مقدار حركتين، والمد هو ما فوق ذلك. تعريف الحركة: الحركة: هى إطالة الصوت بمدّ الحرف بمقدار قبض الأصبع أو بسطه. وقيل: إن مقدار الحركة هو مقدار النطق بحرف هجائى على الوجه الذى يقرأ به القارئ من السرعة والبطء وعلى ذلك فإن الذى مقداره حركتان يكون مقداره، مقدار النطق بحرفين، وما حقه أن يمد مقدار أربع حركات يكون بمقدار النطق بأربعة أحرف هجائية وهكذا إذ أنه أضبط فى ذاته وأنسب إلى مراتب القراءة المختلفة سرعة وبطء. أقسام المدّ: ينقسم المدّ إلى قسمين: الأول: المد الأصلى ، وهو المد الطبيعى الذى لا تقوم ذات الحرف إلا به، ولا يتوقف على سبب من همز أو سكون، بل يكفى فيه وجود أحد حروف المد الثلاثة. وسمى طبيعيا لأن صاحب الطبيعة السليمة لا يزيد فيه ولا ينقص عن مقداره. ومقداره ألف، والألف حركتان، والحركة مقدار قبض الأصبع أو بسطه. مثل: «قال، يقول، قيل». **** قال الشيخ الجمزورى فى متن تحفة الأطفال: وسم أولا طبيعيا وهو ما لا توقف له على سبب ... ولا بدونه الحروف تجتلب بل أى حرف غير همز أو سكون ... جاء بعد مدّ فالطبيعى يكون ملحقات المدّ الطبيعى «الأصلى»: يلحق بالمدّ الطبيعى المدود التالية: 1 - مدّ العوض: وهو الوقوف على تنوين بالفتح على غير تاء التأنيث كما فى «ميقاتا»،

شروط هذا المد:

«نباتا»، «ألفافا» فإن القارئ يقف على كل منها بألف مدّ، وذلك عوضا عن التنوين، ولذلك سمى بمد العوض. أما إذا كان الوقف على تاء التأنيث المنونة بالفتح، فإن القارئ يقف عليها بالسكون فقط كما فى كلمات: «رحمة»، «لاغية»، «حامية» فإن الوقف على كل من هذه التاءات بهاء ساكنة. 2 - مدّ البدل الصغير: وهو إبدال همزة ثانية ساكنة حرف مدّ يتناسب مع حركة الهمزة الأولى، وليس بعده همزة، فإن كانت حركة الهمزة الأولى فتحة أبدلت الهمزة الثانية ألفا كما فى (ءامن)، (ءادم) إذ أصلها «أأمن، أأدم»، وإن كانت حركة الهمزة الأولى ضمة أبدلت الهمزة الثانية واوا كما فى (اؤتمن)، (أوذوا) إذ أصلها «أأذوا» فضمت الهمزة الأولى وسكنت الثانية فأبدلت بواو لمناسبة حركة الأولى وهى الضمة. وإن كانت حركة الهمزة الأولى كسرة، فإن الهمزة الثانية تبدل ياء، كما فى (إيمانا)، فإن أصلها «إأمانا» فكسرت الهمزة الأولى وسكنت الثانية، فأبدلت الثانية ياء لمناسبة حركة الأولى. مع ملاحظة أن مدّ البدل فى بعض القراءات الأخرى- كما هو الحال عند الإمام نافع- يمد حركتين وأربعا وستا، وعند ذلك يلحق بالمدّ الفرعى. 3 - مدّ الصلة الصغرى: وهو عبارة عن هاء الضمير المفرد الغائب المضمومة أو المكسورة إذا وقعت بين متحركين الثانى منهما ليس همزة قطع ولم يوقف عليها. شروط هذا المدّ: (أ) أن تكون الهاء ضمير غائب مفردا. (ب) أن تكون الهاء مضمومة أو مكسورة. (ج) أن يكون الحرف الذى قبلها متحركا والحرف الذى يليها في أول الكلمة التى بعدها متحركا. (د) أن يكون الحرف المتحرك الذى بعدها ليس همزة قطع، فإن كان همزة قطع فعند ذلك يسمى صلة كبرى. (هـ) أن لا يوقف عليها، فإذا وقف القارئ على الهاء فإنه يقف بالسكون من غير مدّ. 4 - مدّ التمكين: وهو عبارة عن ياءين الأولى مشددة مكسورة والثانية حرف مدّ. وسمى تمكينا لأنه يتمكن كل أحد من إخراجه وتطبيقه بسبب الشدة، كما فى «حيّيتم» «النبيّين»، فإن الياء الأولى مشددة مكسورة فى كل من الكلمتين والثانية حرف مدّ. وهذا المدّ هو من المدّ الطبيعى غير أنه أفرد باسم مستقل. القسم الثانى: المدّ الفرعى: وهو المدّ الزائد على مقدار المدّ الطبيعى، وهو الذى يتوقف على سبب من الأسباب. وسمى بالفرعى لتفرعه من المدّ الطبيعى. أسباب المدّ الفرعى: أمران: أحدهما: لفظى: وهو إما همز أو سكون. نحو «جاء، يا أيها، نستعين، آمنوا،

أنواع المد الفرعى:

الضالين»، فإذا وجد القارئ بعد حرف المدّ همزا أو سكونا وجب أو جاز أو لزم مدّه زيادة على مقدار المدّ الطبيعى كما سيأتى بيان ذلك. الثانى: معنوى: وهو لقصد المبالغة فى النفى للتعظيم، وهو من الأسباب القوية المقصودة عند العرب، وإن كان ضعيفا عند القراء، وهو نوعان: الأول: المدّ للتعظيم، وهو فى «لا» النافية للجنس فى كلمة التوحيد خاصة وهى: «لا إله إلا الله»، «ويسمى بمدّ المبالغة أيضا لأنه طلب للمبالغة فى نفى الألوهية عما سوى الله تعالى. الثانى: مدّ التبرئة، وهو ثابت عند الإمام حمزة أحد القراء السبعة فى أحد الوجهين عنه من طريق طيبة النشر، لكن لا يبلغ به حدّ الإشباع، بل يقتصر فيه على التوسط، وقدره أربع حركات، وذلك لضعف سببه عن السبب اللفظى. ومثاله: «لا ريب» «لا شية فيها». أنواع المدّ الفرعى: علم مما تقدم أن للمدّ الفرعى سببين لفظيين هما: الهمز والسكون، فالهمز سبب لثلاثة أنواع منه، وهى المدّ المتصل، والمنفصل، والبدل. والسكون سبب لنوعين من المدّ، ولا يكون إلا بعد حرف المدّ دائما، فإن كان ثابتا فى الوصل والوقف فهو المدّ اللازم نحو «الصاخة» وإن كان ثابتا فى الوقف دون الوصل فهو المدّ العارض للسكون نحو «نستعين»، وبيان هذه الأنواع فيما يلى: 1 - المدّ المتصل: هو أن يأتى بعد حرف المدّ همز فى كلمة واحدة نحو «جاء»، «السوء» «تفيء» وسمى متصلا لاتصال الهمز بحرف المدّ فى كلمة واحدة. وهذا النوع حكمه الوجوب. لوجوب مدّه زيادة على مقدار المدّ الطبيعى عند جميع القراء، ولا يعرف لأحد منهم فيه خلاف. إلا أنهم اختلفوا فى مقدار الزيادة على حسب مذاهبهم، فمنهم من قرأ بمرتبة الإشباع وقدرها ست حركات. ومنهم قرأ بمرتبة دونه وقدرها خمس حركات، وهو الإمام عاصم شيخ حفص. ومنهم من قرأ بمرتبة التوسط وقدرها أربع حركات، ومن بينهم الإمام عاصم كذلك. ومنهم من قرأ بمرتبة فويق القصر وقدرها ثلاث حركات، ولا أقل من ذلك. ومما تقدم يعلم أن المدّ المتصل لا يزيد عن الحركات الست ولا ينقص عن الثلاث فمراتبه أربع فقط، كما يعلم أيضا أنه لا يجوز القصر فيه كالطبيعى. قال الحافظ ابن الجزرى: «وقد تتبعته- أى القصر فى المتصل- فلم أجده فى قراءة صحيحة ولا شاذة بل رأيت النص بمدّه (¬4). كما أشار إليه فى المقدمة الجزرية بقوله: وواجب إن جاء قبل همزة ... متصلا إن جمعا بكلمة ¬

(¬4) انظر: النشر فى القراءة العشر 1/ 315 طبعة دار الكتب العلمية بيروت للحافظ أبى الخير محمد بن محمد الدمشقى الشهير بابن الجزرى.

2 - المد المنفصل:

هذا ووجه المدّ فى المتصل: هو أن الهمزة ثقيلة فى النطق بها لأنها حرف شديد جهرى- كما تقدم فى الصفات- فزيد فى المدّ قبلها للتمكن من النطق بها على حقها مع شدتها وجهرها. وقيل: إن حرف المدّ ضعيف خفى والهمز قوى صعب فزيد فى المدّ تقوية لضعفه عند مجاورته القوى. 2 - المدّ المنفصل: وهو أن يأتى بعد حرف المدّ همزة قطع فى كلمة أخرى، نحو «بما أنزل»، «قالوا ءامنا»، «وفى أنفسكم». وسمى منفصلا لانفصال الهمزة عن حرف المدّ فى كلمة أخرى. وحكمه: الجواز، لجواز قصره عند البعض، كالمدّ الأصلى الطبيعى بمقدار حركتين، وجواز مدّه، وحفص يمدّه بمقدار أربع حركات أو خمس حركات. مع ملاحظة إذا اجتمع مدّان متصلان أو أكثر كما فى قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً (سورة البقرة آية 22) فلا يجوز التفرقة بينهما فى المدّ بحجة جواز الوجهين فى كل منهما بل تجب التسوية فى الكل إما بالحركات الأربع فى الجميع أو بالخمس فيها. وكذلك الحكم بعينه إذا اجتمع مدّان منفصلان أو أكثر كما فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ (سورة النساء آية 136) فلا يجوز التفرقة بين هذه المدود بحجة جواز الوجهين أيضا بل يجب التسوية بينها بأن يكون المنفصل الثانى وما بعده مساويا للأول توسطا أربع حركات أو فويقه خمس حركات، لأن التسوية فى هذا وذاك من جملة التجويد وهذا ما أشار إليه الحافظ ابن الجزرى فى المقدمة الجزرية بقوله: «واللفظ فى نظيره كمثله». ومن المدّ المنفصل أيضا مدّ الصلة الكبرى، وهو هاء الضمير الغائب المفرد المضمومة أو المكسورة الواقعة بين متحركين الثانى منهما همزة قطع ولم يوقف عليها كما فى قوله: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (سورة الهمزة آية 3) فإنه يمدّ أربع أو خمس حركات. 3 - مدّ البدل: هو أن يتقدم الهمز على حرف المدّ: «ءامنوا» «أوتوا» «إيمانا» وسمى بدلا لإبدال حرف المدّ من الهمز. وقد سبق الكلام عنه على أنه مد طبيعى وليس مدا فرعيا يمكنه أن يزيد على المد الطبيعى- فينبغى التوضيح.

4 - المد العارض للسكون:

4 - المدّ العارض للسكون: هو أن يأتى بعد حرف المدّ أو اللين سكون عارض وقفا لا وصلا. أى: أن الحرف الذى بعد حرف المدّ أو اللين متحرك فى الأصل، ولكن السكون عرض له لأجل الوقف، لما تقرر فى القواعد من أنه لا يوقف على متحرك مثل: «الرحيم» «نستعين» «يوقنون» فى حالة الوقف. وسمى عارضا لعروض المدّ بعروض السكون، أى: أنه طارئ بسبب سكون الوقف، ولو تحرك الحرف الذى بعد حرف المدّ أو اللين بسبب وصل الكلمة بما بعدها لما وجد المدّ. أحوال هذا المدّ: إما أن يكون مهموزا. وإما أن يكون غير مهموز. وكل من القسمين إما أن يكون مفتوح الآخر، أو مكسور الآخر، أو مضموم الآخر، فالأقسام ستة حاصلة من ضرب اثنين فى ثلاثة. وإليك حكم كل قسم: الأول: حكم المدّ العارض للسكون الذى ليس مهموزا: ينقسم هذا المدّ إلى ثلاثة أقسام، وكل قسم له حكم على النحو التالى: (أ) المفتوح الآخر: فيه ثلاثة أوجه: القصر، والتوسط، والمدّ، وذلك نحو «العالمين». (ب) المكسور الآخر، نحو مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وفيه أربعة أوجه وهى: 1 - القصر بالسكون المحض. 2 - التوسط بالسكون المحض. 3 - المدّ بالسكون المحض. 4 - الروم على القصر. (ج) المضموم الآخر، نحو وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وفيه سبعة أوجه هى: 1 - القصر بالسكون المحض. 2 - التوسط بالسكون المحض. 3 - المدّ ست حركات بالسكون المحض. 4 - الإشمام مع القصر. 5 - الإشمام مع التوسط. 6 - الإشمام مع المدّ ست حركات. 7 - الروم مع القصر. الثانى: حكم المدّ العارض للسكون المهموز: (أ) المفتوح الآخر نحو شاء، وجاء، وفيه المدّ أربع أو خمس أو ست حركات بالسكون المحض. (ب) المكسور الآخر نحو «من السماء» وفيه خمسة أوجه هى: 1 - المدّ أربع حركات بالسكون المحض. 2 - المدّ خمس حركات بالسكون المحض. 3 - المدّ ست حركات بالسكون المحض. 4 - الروم على المدّ أربع حركات. 5 - الروم على المدّ خمس حركات.

5 - مد اللين:

(ج) المضموم الآخر نحو «يشاء»، «السفهاء» وفيه ثمانية أوجه هى: 1 - المدّ أربع حركات بالسكون المحض. 2 - المدّ خمس حركات بالسكون المحض. 3 - المدّ ست حركات بالسكون المحض. 4 - الإشمام على المدّ أربع حركات. 5 - الإشمام على المدّ خمس حركات. 6 - الإشمام على المدّ ست حركات. 7 - الروم على المدّ أربع حركات. 8 - الروم على المدّ خمس حركات. 5 - مدّ اللين: سبق أن قلنا أن حرفى اللين هما الواو والياء الساكنتان المفتوح ما قبلهما نحو «القول» «الصّيف» ولهذين الحرفين حالتان: الأولى: أن يقع بعدهما همز متصل بهما فى كلمة واحدة نحو «شىء» و «سوء». الثانية: ألا يقع بعدهما همز نحو «السّير»، «فلا خوف». فأمّا اللذان بعدهما همز متصل بهما فى كلمة واحدة نحو «سوأة»، «كهيئة» فقد قرأ ورش من طريق الأزرق فيهما بوجهين هما: التوسط والإشباع، ويستوى فى ذلك عنده الوصل والوقف. أما باقى القراء فليس لهم إلا القصر، وهذا فى حالة الوصل، أما فى حالة الوقف فيدخل فى حكم المدّ العارض للسكون، ويكون لهم فيه حينئذ القصر والتوسط والإشباع بالسكون المحض أو بالسكون مع الإشمام أو الروم حسب نوع العارض. وأما اللذان ليس بعدهما همز، فللقراء فيهما تفصيل: حالة الوصل: حاصله أن نحو «لومة»، «وأحيينا» فيه القصر فى الحالين على نحو ما مر. وكذلك الحكم بعينه لجميع القراء- باستثناء ورش- فى حرفى اللين اللذين بعدهما الهمز المنفصل عنهما، أى: أن حرفى اللين فى آخر الكلمة الأولى والهمز فى أول الكلمة الثانية نحو «بنى آدم» «ولو أننا نزلنا». وأما نحو: «لا خوف» و «فلا فوت» فقد أجمع القراء العشرة على القصر فى حالة الوصل. وأما فى حالة الوقف ففيه المدّ أربع حركات أو خمس حركات أو ست حركات، ويدخل حينئذ فى المدّ العارض للسكون. 6 - المدّ اللازم: هو أن يأتى بعد حرف المدّ سكون لازم وصلا ووقفا، نحو «آية»، «الآن»، «الم»، وسمى لازما للزوم سببه وهو السكون وصلا ووقفا. وهو ينقسم إلى أربعة أقسام:

الأول: المد اللازم الكلمى المثقل:

الأول: المدّ اللازم الكلمى المثقل: هو أن يأتى بعد حرف المدّ سكون أصلى لازم ثابت وصلا ووقفا فى كلمة تزيد على ثلاثة أحرف، مع الإدغام، أى: إدغام الحرف الساكن فيما بعده نحو «الحاقّة»، «دابّة» وسمى كلميا لاجتماع المدّ مع السكون فى كلمة، وسمى مثقلا من أجل الإدغام. الثانى: المدّ اللازم الكلمى المخفف: هو أن يأتى بعد حرف المدّ سكون أصلى ثابت وصلا ووقفا فى كلمة تزيد على ثلاثة أحرف من غير إدغام، وذلك فى كلمة فى موضعين بسورة «يونس» - عليه السلام- وهى: آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ «آية 51»، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ آية 91 وسمى كلميا لاجتماع المدّ مع السكون فى كلمة، وسمى مخففا لعدم الإدغام. الثالث: المدّ الحرفى المثقل: هو أن يأتى بعد حرف المدّ سكون ثابت وصلا ووقفا فى حرف هجاؤه على ثلاثة أحرف وسطها حرف مدّ ولين أو حرف لين فقط مع الإدغام، أى: إدغام الساكن فيما بعده، وسمى حرفيا لاجتماع المدّ والسكون اللازم فى حرف، وسمى مثقلا لأجل الإدغام. الرابع: المدّ اللازم الحرفى المخفف: هو: أن يأتى بعد حرف المدّ سكون ثابت وصلا ووقفا فى حرف هجاؤه على ثلاثة أحرف وسطها حرف مدّ ولين، أو حرف لين فقط من غير إدغام. وعلة التسمية تفهم مما تقدم. واللازم الحرفى بقسميه لا يكون إلا فى فواتح السور فى ثمانية أحرف منها مجموعة فى هذه العبارة «كم عسل نقص» وهى الكاف، والميم، والعين، والسين، واللام، والنون، والقاف، والصاد. وقد اجتمع المدّ اللازم الحرفى بنوعيه فى قوله: «الم» فلام مثقل وميم مخفف. وإليك ما قاله الشيخ الجمزورى فى تحفة الأطفال: أقسام لازم لديهم أربعة ... وتلك كلمى وحرفى معه كلاهما مخفف مثقل ... فهذه أربعة تفصل فإن بكلمة سكون اجتمع ... مع حروف مد فهو كلمى وقع أو فى ثلاثى الحروف وجدا ... والمدّ وسطه فحرفى بدا كلاهما مثقل إن أدغما ... مخفف كل إذا لم يدغما واللازم الحرفى أول السور ... وجوده، فى ثمان انحصر يجمعهما حروف كم عسل نقص

حكم المد اللازم:

حكم المدّ اللازم: لزوم مده بمقدار ثلاث ألفات، أى يلزم مدّه ست حركات بلا زيادة ولا نقص عند جمهور القراء. ومن نقص أو زاد فقد أساء وظلم. وهذا الحكم سواء كان فى حالة الوصل أو الوقف. وهو إما أن يكون مرفوعا أو منصوبا أو مجرورا، فإن كان مرفوعا فله فى الوقف عليه ثلاثة أوجه: السكون والروم والإشمام نحو: «ولا جان»، وإن كان مجرورا ففيه وجهان: السكون المحض. والروم نحو: «غير مضار»، وإن كان منصوبا ففيه وجه واحد وهو السكون المحض نحو: «صوآف». وقال الجمزورى: ولازم إن السكون أصلا ... وصلا ووقفا بعد مدّ طولا وقال ابن الجزرى: فلازم إن جاء بعد حرف مدّ ... ساكن حالين وبالطول يمدّ حكم الحروف الموجودة فى أوائل السور: تنقسم الحروف الأربعة عشر الموجودة فى أوائل السور المبدوءة بالحروف المقطعة والتى جمعها صاحب التحفة فى قوله: «صله سحيرا من قطعك» إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما يمدّ مدّا لازما، وهى الحروف الثمانية والتى قلنا عنها إنها مجموعة فى قول صاحب التحفة: «كم عسل نقص» أو فى قول بعضهم: «سنقص علمك»، فهذه الحروف تمدّ مدّا لازما ست حركات ما عدا العين من فاتحة سورة «مريم» فى قوله: «كهيعص»، وفاتحة سورة «الشورى» فى قوله: «حم عسق» ففيها التوسط والطول، أى: المدّ ست حركات، وهو الأفضل. قال صاحب التحفة: واللازم الحرفى أول السور ... وجوده وفى ثمان انحصر الثانى: ما يمدّ مدّا طبيعيا، أى يمدّ حركتين، وهو خمسة أحرف مجموعة فى عبارة «حىّ طهر» وهى الحاء، والياء، والطاء، والهاء، والراء. الثالث: ما لا يمدّ أصلا، لا مدّا أصليا ولا فرعيا، وهو الألف، وذلك لأن كل حرف وضعه على ثلاثة أحرف وليس وسطه حرف مدّ ساكن لا يمدّ أصلا.

قواعد لها علاقة بالمد:

قال صاحب التحفة: وما سوى الحرف الثلاثى لا ألف ... فمدّه مدا طبيعيا ألف وذاك أيضا فى فواتح السور ... فى لفظ حى طهر قد انحصر. قواعد لها علاقة بالمدّ: أولا: إذا اجتمع مدّان لازمان، أو مدّان متصلان، أو مدّان منفصلان لا يجوز مدّ أحدهما دون الآخر بل تجب التسوية، لقول ابن الجزرى: واللفظ فى نظيره كمثله. ثانيا: إذا كان الحرف الساكن فى كلمة وحرف المدّ فى كلمة أخرى حذف حرف المدّ فى الوصل نحو: «وقالوا اتخذ»، «والمقيمى الصلاة». ثالثا: مراتب المدّ: أقوى المدود: اللازم، فالمتصل، فالعارض للسكون، فالمنفصل، فالبدل. رابعا: إذا اجتمع سببان من أسباب المدّ قوى وضعيف ألغى الضعيف وعمل بالقوى نحو: «ولا آمين» ففيه بدل ولازم فيلغى البدل لأنه ضعيف ويعمل باللازم لأنه قوى (¬5). أ. د. السيد إسماعيل على سليمان ¬

(¬5) انظر: هداية القارى إلى تجويد كلام البارى ص 267 - 363 للشيخ/ عبد الفتاح المرصفى.

الوقف والابتداء

الوقف والابتداء أهمية هذا الباب: يعتبر الوقف والابتداء من أهم أبواب علم التجويد التى ينبغى للقارئ أن يهتم بها، ويجب عليه معرفتها، وهو علم جليل إذ بمعرفته نستطيع أن نقف على كيفية أداء القراءة. ومما يدل على أهمية تعلم هذا العلم أن الإمام عليا رضي الله عنه سئل عن قوله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (سورة المزمل آية: 4) فقال: الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف. وبما ورد عن ابن عمر أنه قال: «لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على النبى صلّى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها وأمرها وزجرها وما ينبغى أن يوقف عنده منها» (¬1). قال ابن الجزرى: ففي كلام على رضي الله عنه دليل على وجوب تعلمه ومعرفته، وفى كلام ابن عمر- رضى الله عنهما- برهان على أن تعلمه إجماع من الصحابة- رضى الله عنهم، وصح بل تواتر عندنا تعلمه والاعتناء به من السلف كأبى جعفر يزيد بن القعقاع إمام أهل المدينة الذى هو من أعيان التابعين وصاحبه الإمام نافع بن أبى نعيم، وأبى عمرو ابن العلاء، ويعقوب الحضرمى، وعاصم بن أبى النجود وغيرهم من الأئمة وكلامهم فى ذلك معروف (¬2). ومن أقوى الأدلة فى هذا الباب ظاهر الحديث الذى رواه أبو داود عن أم سلمة- رضى الله عنها- أن النبى صلّى الله عليه وسلم كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية، يقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، ثم يقف. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ثم يقف. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثم يقف (¬3). وفى مسند الإمام أحمد، وسنن أبى داود، وصحيح ابن خزيمة، ومستدرك الحاكم، عن أم سلمة، قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقطع قراءته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» وقال الدارقطنى: صحيح الإسناد (¬4). تعريف الوقف وأقسامه: الوقف فى اللغة: الكف والحبس، يقال: أوقفت الدابة أى حبستها. ¬

(¬1) لطائف الإشارات لفنون القراءات 1/ 249 طبع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة سنة 1392 هـ 1972 م للإمام شهاب الدين القسطلانى تحقيق وتعليق الشيخ/ عامر السيد عثمان، ودكتور عبد الصبور شاهين. ونهاية القول المفيد ص 152 للشيخ محمد مكى نصر طبعة الحلبى سنة 1349 هـ. (¬2) النشر فى القراءات العشر 1/ 225 طبعة دار الكتب العلمية بيروت- لبنان. (¬3) الحديث: أخرجه الحاكم فى المستدرك، كتاب التفسير: 2/ 232 وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين. (¬4) الحديث: أخرجه الحاكم أيضا: 2/ 231.

أقسام الوقف:

وفى الاصطلاح: قطع الصوت عن الكلمة زمنا يتنفس فيه القارئ عادة بنية استئناف القراءة لا بنية الإعراض عنها، ويأتى فى رءوس الآى، وأوساطها، ولا بدّ معه من التنفس، ولا يأتى فى وسط الكلمة، ولا فيما اتصل رسما. أقسام الوقف: للوقف أربعة أقسام تسمى الأقسام العامة وهى ما يأتى: 1 - الوقف الاضطرارى: وهو ما يعرض للقارئ بسبب ضيق للنفس أو عجز أو نسيان، أو ما أشبه ذلك من الأعذار التى تعرض للقارئ أثناء قراءته فتضطره إلى الوقوف على ما لا يصلح الوقف عليه، وحينئذ يجب عليه أن يعود إلى الكلمة التى وقف عليها فيصلها بما بعدها إن صح الابتداء بها. 2 - الوقف الاختبارى: بالباء الموحدة، وهو الذى يتعلق بالرسم لبيان المقطوع والموصول، والثابت والمحذوف ونحوه، ولا يوقف عليه إلا لحاجة كسؤال ممتحن أو تعليم قارئ كيف يقف إذا اضطر لذلك. 3 - الوقف الانتظارى: وهو الوقف على الكلمة التى قرئت بأكثر من وجه لاستيعاب ما بها من أوجه، وهو خاص بتلقى القراءات، وذلك كالوقف على قوله: وَفِي أَنْفُسِكُمْ من قوله تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (سورة الذاريات آية 21)، وذلك بين من يمدّ ويقصر، ومن يصل ميم الجمع من القراء- وحكمه: الجواز. 4 - الوقف الاختيارى: بالياء المثناة من تحت، وهو الوقف باختيار القارئ وإرادته بدون سبب من الأسباب المتقدمة، وهذا القسم هو المعنىّ به هنا فى باب الوقف والابتداء وأقسامه أربعة هى: الأول: الوقف التام: وهو الوقف على كلام تام فى ذاته غير متعلق بما بعده لفظا ولا معنى. ويوجد غالبا فى أواخر الآى، وأواخر القصص. كالوقف على «الرحيم» من قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (سورة الشعراء آية 9) وما بعدها فى مواضعها الثمانية لانتهاء الكلام عندها عن قصة، والبدء فى قصة أخرى، وعند انقطاع الكلام على موضع معين للانتقال إلى غيره، كالوقف على تعلمون من قوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (سورة البقرة آية 232) لأنه نهاية الكلام على أحكام الطلاق، وما بعده كلام آخر فى أحكام أخرى. وقد يكون الوقف التام قبل تمام الآية، كالوقف على قوله: «أذلة» من قوله تعالى

الثانى: الوقف الكافى:

حكاية عن ملكة سبأ: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (سورة النمل آية 34)، ثم يكون الابتداء بقوله تعالى: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ لأن هذا من كلام الله تعالى، وليس حكاية لكلام أحد. وقد يكون الوقف التام بعد انقضاء الآية كالوقف على قوله تعالى: (وبالليل) من قوله: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ (سورة الصافات آية: 137، 138) لأنه معطوف على ما قبله باعتبار المعنى، أى: وإنكم لتمرون عليهم بالصبح وبالليل. وحكم هذا الوقف: يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده. الثانى: الوقف الكافى: هو الوقف على ما تم فى نفسه وتعلق بما بعده من حيث المعنى لا من حيث اللفظ. ومن أمثلة هذا النوع: الوقف على قوله تعالى: (لا يؤمنون) من قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (سورة البقرة آية: 6)، ثم يكون الابتداء بقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ الخ. حكم هذا الوقف: يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده، وقد يتفاضل هذا النوع فى الكفاية، كالوقف على قوله: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فإنه كاف، والوقف على قوله: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً أكفى منه، والوقف على قوله: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ أكفى منهما. الثالث: الوقف الحسن: هو الوقف على ما تم فى ذاته، ولكن تعلق بما بعده لفظا ومعنى، لكونه إما موصوفا وما بعده صفة له، أو مبدلا منه وما بعده بدلا، أو مستثنى منه وما بعده مستثنى ونحو ذلك. ومن أمثلة هذا النوع من الوقف: الوقف على لفظ الجلالة من قوله تعالى فى سورة الفاتحة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ وإن كان كلاما أفهم معنى، لكنه تعلق بما بعده لفظا ومعنى، لأن ما بعد لفظ الجلالة متعلق به على أنه صفة له. حكمه: يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده إن كان الوقف على رأس آية كالوقف على الْعالَمِينَ من قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ بل هو سنة، فقد كان النبى صلّى الله عليه وسلم إذا قرأ قطع قراءته آية آية يقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثم يقف ثم يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ثم يقف. إلى آخر الحديث، وهو أصل فى هذا الباب.

الرابع: الوقف القبيح:

الرابع: الوقف القبيح: هو الوقف على ما لم يتم معناه، وتعلق بما بعده لفظا ومعنى كالوقف على المضاف دون المضاف إليه، أو على المبتدأ دون خبره، أو على الفعل دون فاعله. ومن أمثلة هذا النوع من الوقف: الوقف على قوله: الْحَمْدُ من قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أو على لفظ «بسم» من بِسْمِ اللَّهِ وهكذا كل ما لا يفهم منه معنى، لأنه لا يعلم إلى أى شىء أضيف. فالوقف عليه قبيح لا يجوز تعمده إلا لضرورة كانقطاع نفس أو عطاس أو نحو ذلك. فيوقف عليه للضرورة، ويسمى وقف ضرورة. ثم يرجع ويبتدئ بما قبله ويصل الكلمة بما بعدها، فإن وقف وابتدأ بما بعده اختيارا كان قبيحا. وأقبح القبح الوقف والابتداء الموهمان خلاف المعنى المراد، كالوقف على قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي، أو على إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي. وأقبح من هذا وأشنع الوقف على المنفى الذى بعده الإيجاب وفى هذا الإيجاب وصف لله تعالى أو لرسله عليهم الصلاة والسلام، وذلك كالوقف على لا إِلهَ من قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ (سورة محمد آية 19)، وكالوقف على لفظ أَرْسَلْناكَ من قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (سورة الأنبياء آية 107) فكل هذه الوقوف وما ماثلها يجب ألا يوقف على شىء منها لأنه يؤدى إلى نفي الألوهية، وإلى نفى رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلم، قال ابن الجزرى: وبعد تجويدك للحروف ... لا بدّ من معرفة الوقوف والابتداء وهى تقسم إذن ... ثلاثة تام وكاف وحسن وهى لما تم فإن لم يوجد ... تعلق أو كان معنى فابتدى فالتام فالكافى ولفظا فامنعن ... إلا رءوس الآى جوز فالحسن وغير ما تم قبيح وله ... يوقف مضطرا ويبدأ قبله تعريف الابتداء: الابتداء فى عرف القراء هو: الشروع فى القراءة بعد قطع أو وقف، فإذا كان بعد القطع فيتقدمه الاستعاذة ثم البسملة إذا كان الابتداء من أوائل السور، وإذا كان من أثنائها فللقارئ التخيير فى الإتيان بالبسملة أو عدم الإتيان بها بعد الاستعاذة. هذا: ويطلب من القارئ حال الابتداء

تعريف القطع:

ما يطلب منه حال الوقف، فلا يكون الابتداء إلا بكلام مستقل موفّ بالمقصود غير مرتبط بما قبله فى المعنى لكونه مختارا فيه، بخلاف الوقف فقد يكون مضطرا إليه، وتدعوه الحاجة إلى أن يقف فى موضع لا يجوز الوقف عليه كما تقدم توضيحه. وعليه: فلا يجوز أن يبدئ بالفاعل دون فعله، ولا بالوصف دون موصوفه، ولا باسم الإشارة دون المشار إليه، ولا بالخبر دون المبتدأ، ولا بالحال دون صاحبها، ولا بالمعطوف عليه دون المعطوف، وهكذا إلى آخر المتعلقات. وخلاصة القول أنه لا يبتدأ بالمعمول دون عامله، ويستثنى من ذلك ما إذا كان الابتداء فى كل ما ذكرناه برءوس الآى، فإنه يجوز حينئذ لما تقدم. وقد أحسن ابن الجزرى حيث ذكر في كتابه «النشر» قاعدة فيما يبتدأ به فقال- رحمه الله تعالى-: «كل ما أجازوا الوقف عليه أجازوا الابتداء بما بعده» (¬5). تعريف القطع: القطع فى اللغة: بمعنى الإبانة والإزالة، تقول: قطعت الشجرة إذا أبنتها وأزلتها. وفى الاصطلاح: قطع القراءة رأسا، أى: الانتهاء منها، فالقارئ به- أى بالقطع- كالمعرض عن القراءة، والمنتقل منها إلى حالة أخرى غيرها، وينبغى بعد القطع إذا أراد العودة إلى القراءة الإتيان بالاستعاذة ثم البسملة إن كان العود من أول السورة، وإن كان من أثنائها فله التخيير بالبسملة بعد التعوذ أو عدم الإتيان بها. ولا يكون القطع إلا على رءوس الآى، لأن رءوس الآى فى نفسها مقاطع. قال ابن الهذيل: «وكانوا يكرهون أن يقرءوا بعض الآية ويدعو بعضها. لذلك ورد عنه أنه قال: إذا افتتح أحدكم آية يقرؤها فلا يقطعها حتى يتمها (¬6). تعريف السكت: السكت فى اللغة: بمعنى المنع. وفى الاصطلاح: قطع الصوت زمنا دون زمن الوقف من غير تنفس بنية العودة إلى القراءة فى الحال، ويكون فى وسط الكلمة وفى آخرها وعند الوصل بين السورتين لمن له ذلك من القراء، وأكثره وقوعا على الساكن قبل الهمز سواء كان هذا الساكن صحيحا أو شبه صحيح أو حرف مدّ. فالساكن الصحيح نحو قوله تعالى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (سورة البقرة آية: 4) وهو المعروف بسكت «أل»، ونحو قوله تعالى: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (سورة فاطر آية ¬

(¬5) النشر فى القراءات العشر لابن الجزرى 1/ 234 طبعة دار الكتب العلمية بيروت. (¬6) المصدر السابق 1/ 239.

23) وهو المعروف بسكت المفصول، ونحو القرآن فى قوله تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (أول سورة الرحمن) وهو المعروف بسكت الموصول. والساكن شبه الصحيح ما كان فيه حرف لين فقط ويشمل المفصول نحو قوله: خَلَوْا إِلى، ويشمل كذلك الموصول قوله: فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي (سورة المائدة أية 31). والساكن حرف «مدّ» نحو قوله: قالُوا آمَنَّا وقوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ وقوله: لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وهو المعروف بسكت المدّ. وقد سكت حفص عن عاصم، وكذلك ابن ذكوان عن ابن عامر، وإدريس عن خلف العاشر على الساكن قبل الهمز ما لم يكن حرف مدّ فى أحد الوجهين عنهم عن طريق طيبة النشر. وكذلك سكت حمزة على الساكن قبل الهمز عموما سواء كان الساكن صحيحا أو شبه صحيح أو حرف مدّ من طريق طيبة النشر، وهو المعروف: «بالسكت المطلق». وقد ورد عن حفص عن عاصم من طريق الشاطبية أنه كان يسكت سكتة لطيفة من غير تنفس بقدر حركتين فى حالة الوصل فى أربعة مواضع فى القرآن بالاتفاق وهى كالآتى: السكتة الأولى: على الألف المبدلة من التنوين فى لفظ عِوَجاً بأول سورة الكهف حالة الوصل، ثم يقول: قَيِّماً. وهذا لا يمنع الوقف على عِوَجاً لأنه رأس آية. وإنما السكت حالة وصل عِوَجاً ب قَيِّماً. السكتة الثانية: على الألف من لفظ مَرْقَدِنا بسورة ياسين، ثم يقول: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (آية 52)، وهو تام كما ذكره الصفاقسى فى غيث النفع (¬7) وعليه فلا سكت عندئذ، وعند عدم الوقف يجب السكت من طريق الشاطبية. السكتة الثالثة: على النون من لفظ «من» فى قوله تعالى: وَقِيلَ مَنْ راقٍ (سورة القيامة آية: 27)، ويلزم من السكت إظهار النون الساكنة عند الراء لأن السكت يمنع الإدغام. السكتة الرابعة: على اللام من لفظ «بل» فى قوله تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (سورة المطففين آية: 14)، ويلزم من هذا السكت أيضا إظهار اللام عند الراء لأن السكت يمنع الإدغام. وسكت حفص فى هذه المواضع الأربعة من النوع الذى يأتى على آخر الكلمة. قال الإمام الشاطبى- رحمه الله تعالى: ¬

(¬7) انظر: غيث النفع فى القراءات السبع ص 333 لولى الله تعالى سيد على النورى الصفاقسى بهامش شرح الشاطبية لابن الفاصح طبعة الحلبى الثالثة سنة 1373 هـ 1954 م.

وسكتة حفص دون قطع لطيفة ... على ألف التنوين فى عوجا بلا وفى نون من راق ومرقدنا ولا ... م بل ران والباقون لا سكت موصلا (¬8) وهذا السكت- كما سبق أن قلنا- من طريق الشاطبية، أما من طريق طيبة النشر فإن لحفص فيها خمسة مذاهب وهى: الأول: السكت على الجميع. الثانى: عدم السكت على الجميع. السكت على عوجا ومرقدنا وحدهما. الرابع: على «من راق» و «بل ران». دون غيرهما. الخامس: عدم السكت على «مرقدنا» والسكت فى غيره. وكذلك يسكت حفص فى وجه له بين السورتين من غير تنفس فى موضع واحد من القرآن، وهو بين آخر سورة الأنفال وأول سورة براءة ومحله على الميم من «عليم» ثم يقول: «براءة»، وعلى الهاء من لفظ «ماليه» فى قوله تعالى: ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (سورة الحاقة آية 28، 29)، والوجهان صحيحان مقروء بهما والسكت هو المقدم فى الأداء (¬9). الجزرية: هى: مقدمة منظومة فى تجويد القرآن مكونة من مائة وتسعة أبيات من نظم شيخ الإسلام أبى الخير محمد بن محمد الدمشقى الشهير بابن الجزرى رحمه الله تعالى رحمة واسعة. ولهذه المقدمة شروح عديدة من أشهرها: شرح متن الجزرية فى معرفة تجويد الآيات القرآنية لشيخ الإسلام زكريا الأنصارى- رحمه الله تعالى. أ. د. السيد إسماعيل على سليمان ¬

(¬8) حرز الأمانى ووجه التهانى- المعروفة بالشاطبية ص 68 طبعة مصطفى الحلبى وأولاده بمصر سنة 1355 هـ 1937 م. للإمام أبى القاسم ابن فيرة ابن خلف أحمد الشاطبى. (¬9) هداية القارى إلى تجويد كلام البارى ص 409 - 414 بتصرف شديد. طبعة دار النصر للطباعة الإسلامية بشبرا مصر الأولى سنة 1402 هـ 1982 م للشيخ/ عبد الفتاح السيد عجمى المرصفى.

الوقف على آخر الكلم

الوقف على آخر الكلم للوقف فى كلام العرب أوجه متعددة، والمستعمل عند أئمة القراءة تسعة أوجه وهى: السكون، والرّوم، والإشمام، والإبدال، والنقل، والإدغام، والجذف، والإثبات، والإلحاق. الوقف بالسكون فأما السكون: فهو الأصل فى الوقف على الكلمة المحركة وصلا، لأن معنى الوقف: الترك والقطع، ولأنه ضد الابتداء، فكما لا يبتدأ بساكن لا يوقف على متحرك، وهو اختيار كثير من القراء. هذا: والوقف بالسكون المحض يكون فى كل من المرفوع والمجرور والمنصوب فى المعرب، وفى كل من المضموم والمكسور والمفتوح فى المبنى، ويستوى فى ذلك المخفف والمشدد، والمهموز المحقق والمنون إلا ما كان فى الاسم المنصوب نحو حُوباً كَبِيراً أو فى الاسم المقصور مطلقا نحو عمى، كما يستوى أيضا سكون ما قبل الحرف الأخير الموقوف عليه أو تحركه. الوقف بالرّوم وأما الروم: فهو فى اللغة بمعنى الطلب، وفى الاصطلاح: هو تضعيف الصوت بالحركة حتى يذهب بذلك التضعيف معظم صوتها. وقال بعض العلماء: هو الإتيان ببعض الحركة. وقدر العلماء تضعيف الصوت بالحركة أو الإتيان ببعضها بالثلث، أى: أن المحذوف من الحركة أكثر من الثابت فى حالة الروم، ومن ثمّ ضعف صوتها لقصر زمنها فيسمعها القريب المصغى ولو كان أعمى دون البعيد. ولذلك لا يؤخذ الروم إلا بالمشافهة. ويكون الوقف بالروم فى المرفوع والمجرور من المعرب وفى المضموم والمكسور من المبنى سواء أكان الحرف الموقوف عليه مخففا أم مشددا، مهموزا أم غير مهموز، منونا أم غير منون. ونعنى بالمنون- هنا- ألا يكون منصوبا نحو «سميعا»، وألا يكون فى الاسم المقصور نحو «هدى» فإن التنوين فى هذين يبدل ألفا فى الوقف، وسواء سكن ما قبل الحرف الموقوف عليه أم تحرك. هذا: ولا يكون الوقف بالروم فى المنصوب

ولا المفتوح. وعلة ذلك: خفة الفتحة وخفاؤها، فإذا خرج بعضها حالة الروم خرج سائرها، وذلك لأنها لا تقبل التبعيض بخلاف الضمة والكسرة فإنهما تقبلانه لثقلهما. ولا بدّ من حذف التنوين من المنون حالة الوقف بالروم كما مر. وقد أشار إلى ما سبق الإمام ابن برى بقوله: فالروم إضعافك صوت الحركة ... من غير أن يذهب رأسا صوتكه يكون فى المرفوع والمجرور ... معا وفى المضموم والمكسور ولا يرى فى النصب للقراء ... والفتح للخفة والخفاء (¬1) الوقف بالإشمام وأما الإشمام فى عرف القراء: عبارة عن ضم الشفتين من غير صوت بعد النطق بالحرف الأخير ساكنا إشارة إلى الضم ولا بدّ من إبقاء فرجة «أى انفتاح» بين الشفتين لإخراج النفس، وضم الشفتين للإشمام يكون عقب سكون الحرف الأخير من غير تراخ، فإن وقع التراخى فهو إسكان محض لا إشمام معه. وهذا ما أشار إليه الإمام الشاطبى بقوله: والإشمام إطباق الشفاه بعيد ما ... يسكّن لا صوت هناك فيصحلا (¬2) والإشمام يرى بالعين ولا يسمع بالأذن ولهذا لا يأخذه الأعمى عن القارئ، بل يأخذه عنه المبصر ليرى كيفيته. هذا: والإشمام يكون فى المرفوع من المعرب وفى المضموم من المبنى دون غيرهما من الحركات لأنه المناسب لحركة الضمة لانضمام الشفتين عن النطق بها، ولا يجوز أن يكون الإشمام فى المجرور والمنصوب والمكسور والمفتوح لخروج الفتحة بانفتاح الفم والكسرة بانخفاضه، ولأن الإشمام فى المفتوح والمكسور يوهم حركة الضم فيهما فى الوصل بينما هما ليسا كذلك وهذا هو وجه المنع. وقد أشار إلى صفة الإشمام وما يجرى فيه الإمام ابن برى بقوله: وصفة الإشمام إطباق الشفاه ... بعد السكون والضرير لا يراه من غير صوت عنده مسموع ... يكون فى المضموم والمرفوع (¬3) الوقف بالإبدال وأما الوقف بوجه الإبدال فيجرى فى شيئين اثنين: الشيء الأول: ويشمل ثلاثة أنواع: ¬

(¬1) الدرر اللوامع فى أصل مقرأ الإمام نافع بشرح العلامة المارغنى ص 158 نظم الشيخ أبى الحسن سيدى على الرباطى المعروف بابن برى طبع بالمطبعة التونسية بسوق البلاط بتونس سنة 1354 هـ 1935 م. (¬2) الوافى فى شرح الشاطبية فى القراءات السبع ص 175 طبع مكتبة السوادى للتوزيع بالمدينة المنورة الثالثة 1411 هـ 1990 م للشيخ عبد الفتاح عبد الغنى القاضى. (¬3) الدرر اللوامع بشرح العلامة المارغنى ص 160.

الأول: التنوين فى الاسم المنصوب سواء رسمت الألف فيه أم لم ترسم نحو «وكيلا» فى قوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (سورة الأحزاب آية 3، 48) ونحو «دعاء ونداء» فى قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً (سورة البقرة آية 171). الثانى: التنوين فى الاسم المقصور مطلقا سواء أكان مرفوعا أم مجرورا أم منصوبا نحو «عمى ومصفى وغزى» فى قوله تعالى: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى (سورة فصلت آية 44) وقوله تعالى: وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى (سورة محمد آية 15) وقوله تعالى: أَوْ كانُوا غُزًّى (سورة آل عمران آية 156). الثالث: لفظ «إذا» المنون نحو قوله تعالى: فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. فكل هذه الأنواع وما شاكلها يبدل فيها التنوين ألفا فى الوقف، ومثلها فى ذلك إبدال نون التوكيد الخفيفة بعد الفتح ألفا لدى الوقف فى موضعين اثنين فى التنزيل بالإجماع وهما قوله تعالى: وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (سورة يوسف آية 32)، وقوله تعالى: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (سورة العلق آية 15). الشيء الثانى: تاء التأنيث المتصلة بالاسم المفرد كما فى قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (سورة النحل آية 125) فهذه التاء فى الأسماء الثلاثة تبدل هاء عند الوقف، فإن كانت منونة نحو قوله تعالى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ (سورة الشعراء آية 22) حذف التنوين وأبدلت هاء أيضا عند الوقف. النقل وأما النقل: فيكون فيما آخره همزة بعد ساكن، فإنه يوقف عليه عند حمزة بنقل حركتها إليه، فيحرك بها ثم تحذف هى سواء كان الساكن صحيحا نحو: «دفء»، فى قوله تعالى وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ (سورة النحل آية 5) أم ياء أو واو أصليتين سواء كانتا مدّ نحو «المسيء»، «تبوء» فى قوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ (سورة غافر آية 58) وقوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (سورة المائدة آية 29) أو كانتا حرف لين نحو «سيئ»، «سوء» فى قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (سورة فاطر آية 43) وقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (سورة الأنبياء آية 74).

الإدغام وأما الإدغام فيكون فيما آخره همز بعد ياء أو واو زائدتين فإنه يوقف عليه عند حمزة أيضا بالإدغام بعد إبدال الهمز من جنس ما قبله نحو «برىء»، «قروء» فى قوله تعالى: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (سورة الأنعام آية 78)، وقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (آية 238 من سورة البقرة). الحذف وأما الحذف فيكون فى الياءات الزوائد عند من يثبتها وصلا ويحذفها وقفا، والياءات الزوائد هى التى لم ترسم. الإثبات وأما الإثبات فيكون فى الياءات المحذوفات وصلا عند من يثبتها وقفا نحو «وال»، «واق»، «باق». الإلحاق وأما الإلحاق فيكون فيما يلحق آخر الكلم من هاءات السكت عند من يلحقها فى «عم، فيم، بم، لم، مم»، والنون المشددة من جمع الإناث نحو «هن»، «ومثلهن»، والنون المفتوحة نحو «العالمين، والذين»، والمشدد المبنى نحو «ألا تعلوا علىّ»، «خلقت بيدىّ» (¬4). علامات الوقف وضع العلماء فى المصاحف علامات لأنواع الوقف التى سبق الكلام عنها، وعلى كل من يقرأ فى المصحف الشريف ملاحظة هذه العلامات والعمل بمقتضاها، وهى فيما يلى: 1 - الوقف اللازم: وعلامته «م» ومثال ذلك ما جاء فى قوله تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ (سورة الأنعام آية 36) فقد وضعت العلامة على قوله: «يسمعون» ومن هنا يلزم القارئ الوقف على «يسمعون» ثم ليبتدئ بعد ذلك بقوله: «والموتى يبعثهم الله». 2 - الوقف الممنوع: وعلامته «لا» ومثال ذلك ما جاء فى قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ (سورة النحل آية 32) فقد وضعت العلامة على قوله: «طيبين» ومن هنا يكون الوقف عليها ممنوعا، ويجب وصلها بما بعدها. 3 - الوقف الجائز جوازا مستوى الطرفين: وعلامته «ج»، ومثال ذلك ما جاء ¬

(¬4) انظر الإتقان فى علوم القرآن 1/ 117، 118 طبعة الحلبى الرابعة 1398 هـ 1978 م للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطى.

فى قوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (سورة الكهف آية 13)، فقد وضعت العلامة على قوله: «بالحق»، ومن هنا يجوز الوقف عليه والابتداء بما بعده، ويجوز أيضا وصله بما بعده، فالوجهان جائزان جوازا مستوى الطرفين، ولا أفضلية لأحدهما على الآخر. 4 - الوقف الجائز مع كون الوصل أولى: وعلامته «صلى»، ومثال ذلك ما جاء فى قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (سورة الأنعام آية 17) فقد وضعت العلامة على قوله: «فهو»، ومن هنا فإن الوقف عليه والابتداء بما بعده جائز ولكن الوصل أولى وأحسن من الوقف. 5 - الوقف الجائز مع كون الوقف أولى: وعلامته «قلى»، ومثال ذلك ما جاء فى قوله تعالى: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً (سورة الكهف آية 22)، فقد وضعت هذه العلامة على قوله «قليل»، ومن هنا فإن الوقف على قوله «قليل» والابتداء بما بعده جائز، وأيضا وصله بما بعده جائز، ولكن الوقف أولى. 6 - الوقف على أحد الموضعين دون الآخر: وعلامته (؟؟؟) وتسمى هذه العلامة: علامة تعانق الوقف بحيث إذا وقف على أحد الموضعين لا يصح الوقف على الآخر. ومثال ذلك ما جاء فى قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (سورة البقرة آية 2) فقد وضعت هذه العلامة على قوله: «فيه» فإذا وقف القارئ على قوله: «لا ريب» لا يصح أن يقف على «فيه»، وكذلك أيضا إذا وقف على «فيه» لا يصح أن يقف على قوله: «لا ريب» (¬5). أ. د. السيد إسماعيل على سليمان المصادر والمراجع: ¬

(¬5) راجع علامات الوقف فى موضوع تعريف المصحف الشريف، طبعة الملك فهد بالسعودية ص ى.

النقل وغيره من سبل تخفيف الهمزة

النقل وغيره من سبل تخفيف الهمزة اعلم أن الهمز لما كان أثقل الحروف نطقا وأبعدها مخرجا تنوع العرب فى تخفيفه بأنواع التخفيف- وكانت قريش وأهل الحجاز أكثرهم تخفيفا، ولذلك أكثر ما يرد تخفيفه من طرقهم كابن كثير من رواية ابن فليح، وكنافع من رواية ورش، وكأبى عمرو، فإن مادة قراءته عن أهل الحجاز- وأحكام الهمز كثيرة نقتصر فى الكلام على أمور أربعة هى: 1 - النقل: وهو نقل حركة الساكن إلى ما قبله، وذلك كما فى قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ بفتح الدال، وبه قرأ نافع من طريق ورش، وذلك حيث كان الحرف الساكن صحيح الآخر والهمز أولا- واستثنى أصحاب يعقوب عن ورش «كتابيه- إنى ظننت» فسكنوا الهاء وحققوا الهمز- وأما الباقون من القراء فحققوا الهمز وسكنوا فى جميع القرآن. 2 - الإبدال: وهو أن تبدل الهمزة الساكنة حرف مدّ من جنس حركة ما قبلها فتبدل ألفا بعد الفتح نحو قوله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ، وتبدل واوا بعد الضم نحو قوله: يُؤْمِنُونَ، وتبدل ياء بعد الكسر نحو: جِئْتَ وبه قرأ أبو عمرو، سواء كانت الهمزة فاء أم عينا أم لاما، إلا أن يكون سكونها جزما نحو: «ننسأها» ونحو: «أرجئه»، أو يكون ترك الهمز فيه أثقل، وهو فى قوله: وَتُؤْوِي إِلَيْكَ (سورة الأحزاب آية 51) أو يوقع فى الالتباس، وهو فى قوله: وَرِءْياً (سورة مريم آية 74)، فإن تحركت فلا خلاف عنه فى التحقيق. 3 - التسهيل: وهو التسهيل بين الهمزة وبين حركتها، وذلك عند اجتماع همزتين فى الكلمة. فإن اتفق الهمزتان فى الفتح سهّل الهمزة الثانية الحرميان وأبو عمرو وهشام، وأبدلها ورش ألفا، وابن كثير لا يدخل قبلها ألفا، وقالون وهشام وأبو عمرو يدخلونها، والباقون من السبعة يحققون. وإن اختلفا بالفتح والكسر سهل الحرميان وأبو عمرو الثانية. وأدخل قالون وأبو عمرو قبلها ألفا، والباقون يحققون- وإن اختلفا بالفتح والضم وذلك فى قوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ وقوله: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ وقوله: أَأُلْقِيَ فقط فالقراء الثلاثة وهم

الحرميان وأبو عمرو يسهلون، وقالون يدخل ألفا، والباقون يحققون. 4 - الإسقاط بلا نقل: وبه قرأ أبو عمرو إذا اتفقا فى الحركة وكانا فى كلمتين، فإن اتفقا كسرا نحو قوله: هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ جعل ورش وقنبل الهمزة الثانية كياء ساكنة، وقالون والبزى كياء مكسورة، وأسقطها أبو عمرو، والباقون يحققون. وإن اتفقا فتحا نحو: جاءَ أَجَلُهُمْ، حيث جعل ورش وقنبل الثانية كمدّة، وأسقط الحرميان وأبو جعفر الأولى، والباقون يحققون. وإن اتفقا ضما وهو: أَوْلِياءُ أُولئِكَ فقط، وقد أسقطها أبو عمرو، وجعلها قالون والبزى كواو مضمومة، والحرميان يجعلان الثانية كواو ساكنة، والباقون يحققون. ثم اختلف فى الساقط هل هو الأولى أو الثانية؟ والأول عن أبى عمرو، والثانى عن الخليل من النحاة، وتظهر فائدة الخلاف فى المدّ، فإن كان الساقط الأولى فهو منفصل، وإن كان الثانية فهو المتصل (¬1). أ. د. السيد إسماعيل على سليمان المصادر والمراجع: ¬

_ (¬1) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى 1/ 127، 128 طبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاده بمصر- الرابعة سنة 1398 هـ 1978 م.، وانظر النشر فى القراءات العشر لابن الجزرى 1/ 362 وما بعدها طبعة دار الكتب العلمية، وانظر سراج القارئ المبتدئ وتذكار المقرئ المنتهى- شرح منظومة حرز الأمانى ووجه التهانى- للإمام أبى القاسم على بن عثمان بن محمد بن أحمد بن الحسن القاصح ص 62 وما بعدها طبعة مكتبة الرياض الحديثة سنة 1401 هـ 1981 م. وانظر الوافى فى شرح الشاطبية فى القراءات السبع- للشيخ عبد الفتاح القاضى- ص 91 وما بعدها طبعة مكتبة السوادى للتوزيع، ومكتبة المدينة المنورة- الثالثة 1411 هـ- 1990 م.

الإمالة والتقليل

الإمالة والتقليل الفتح والإمالة لغتان مشهورتان على ألسنة الفصحاء من العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، فالفتح لغة أهل الحجاز، والإمالة لغة أهل نجد من تميم وأسد وقيس- قال الدانى: والأصل فيها حديث حذيفة مرفوعا: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم وأصوات أهل الفسق وأهل الكتابين» ثم قال: لا شك أن الإمالة من الأحرف السبعة ومن لحون العرب وأصواتها. والإمالة فى اللغة بمعنى التعويج. يقال: أملت الرمح ونحوه إذا عوجته عن استقامته. والإمالة من الأحكام ذوات الأضداد وضدها الفتح، والمراد به فتح القارئ فمه بالحرف لا فتح الألف إذ الألف لا تقبل الحركة. والإمالة فى اصطلاح القراء: أن ينحو بالفتحة نحو الكسرة وبالألف نحو الياء كثيرا وهو المحض. ويقال له الاضجاع، والبطح، والكسر، وهو بين اللفظين، ويقال له أيضا التقليل، والتلطيف، وبين بين. وتنقسم إلى قسمين: كبرى وصغرى: فالكبرى: أن تقرب الفتحة من الكسرة والألف من الياء من غير قلب خالص ولا إشباع مبالغ فيه، وهذه هى الإمالة المحضة، وإذا أطلقت الإمالة انصرفت إليها أى: إلى المحضة، وكما تسمى بالمحضة تسمى أيضا بالاضجاع وبالبطح لأنك إذا قربت الفتحة من الكسرة والألف من الياء فكأنك بطحت الفتحة والألف أى: رميتهما وأضجعتهما إلى الكسرة. والصغرى: هى ما بين الفتح والإمالة المحضة. ولهذا يقال لها: بين بين، وبين اللفظين: أى بين لفظ الفتح ولفظ الإمالة. ولما كان فى القسمين أى: الإمالة الكبرى والإمالة الصغرى، تغيير للألف بتعويجها عن استقامتها فى النطق وميلها عن مخرجها إلى نحو مخرج الياء ولفظها، سمى ذلك التغيير إمالة. أ. د. السيد إسماعيل على سليمان المصادر والمراجع: (1) انظر: النجوم الطوالع شرح الدرر اللوامع فى أصل مقرأ الإمام نافع ص 115 للشيخ/ سيدى إبراهيم أحمد المارغنى طبعة المطبعة التونسية بسوق البلاط بتونس سنة 1354 هـ 1935 م. وانظر: الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى 1/ 120 - 123 طبعة الحلبى، وانظر: الوافى فى شرح الشاطبية فى القراءات السبع للشيخ عبد الفتاح القاضى ص 139 - 160 طبعة مكتبة السوادى للتوزيع الثالثة 1411 هـ- 1990 م.

المقطوع والموصول

المقطوع والموصول المقطوع هو: كل كلمة مفصولة عن غيرها رسما نحو: «أن لن»، و «حيث ما». والموصول هو: كل كلمة متصلة بغيرها رسما مفصولة عنها لغة نحو «ويكأن» أو غير مفصولة نحو «إلياس». أهمية هذا الموضوع: هو احترام واتباع الرسم العثمانى وعدم مخالفته. فائدته: لا بدّ للقارئ من معرفته ليقف على المقطوع فى محل قطعه عند الضرورة أو عند اختباره، وعلى الموصول عند انقضائه. وإليك بيان ما ورد فى هذا الموضوع تفصيلا: أولا: «أن» و «لا» تقطع «أن» المفتوحة الهمزة الساكنة النون عن «لا» النافية فى عشرة مواضع وهى الآيات 105، 169 من سورة الأعراف، 118 من سورة التوبة، 14، 26 من سورة هود، 26 من سورة الحج، 60 من سورة القلم. ووقع الخلاف فى موضع واحد وهو بالآية 87 من سورة الأنبياء، وما عدا ذلك فهو موصول نحو قوله: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (سورة النجم آية 38) وقوله تعالى: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (سورة النمل آية 31). تنبيه: «إن» مكسورة الهمزة ساكنة النون مع «لا» النافية موصولة اتفاقا نحو إِلَّا تَنْفِرُوا وإِلَّا تَنْصُرُوهُ. ثانيا: «إن» و «ما» تقطع «إن» مكسورة الهمزة ساكنة النون عن «ما» فى موضع واحد فقط. وهو قوله تعالى: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ (سورة الرعد آية 40)، وما عدا ذلك فموصول سواء أكانت الهمزة مكسورة نحو قوله تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ (سورة يونس آية 46)، وقوله: وَإِمَّا تَخافَنَّ (سورة الأنفال آية 58). فإن كانت «أن» مفتوحة الهمزة فهى موصولة كذلك نحو قوله تعالى: أَمَّا اشْتَمَلَتْ (سورة الأنعام آية 143). ثالثا: «عن» و «ما» تقطع «عن» عن «ما» فى موضع واحد وهو قوله تعالى: عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ (سورة الأعراف آية 166)، وما عداه فموصول.

رابعا: «من» و «ما» تقطع «من» مكسورة الميم عن «ما» فى موضعين هما: قوله تعالى: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (سورة الروم آية 28) وقوله تعالى: فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (سورة النساء آية 25)، وأما قوله: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ (سورة المنافقون آية 10) ففيه خلاف. والعمل على القطع، وما عدا ذلك فموصول. خامسا: «أم» و «من» تقطع «أم» مفتوحة الهمزة ساكنة الميم عن «من» مفتوحة الميم فى أربعة مواضع هى: قوله تعالى: أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (سورة النساء آية 109) وقوله تعالى: أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (سورة الصافات آية 11) وقوله تعالى: أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ (سورة فصلت آية 40) وما عدا ذلك فموصول نحو قوله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ (سورة النمل آية 62). سادسا: «أن» و «لم» تقطع «أن» مفتوحة الهمزة ساكنة النون مع «لم» فى موضعين هما: قوله تعالى: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ (سورة الأنعام آية 131)، وقوله تعالى: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (سورة البلد آية 7)، وما عدا ذلك النون فموصول. وأما «إن» مكسورة الهمزة ساكنة فموصولة ب «لم» فى موضع واحد وهو قوله تعالى: فإن لّم يستجيبوا لكم (سورة هود آية 14). سابعا: «إنّ» و «ما» تقطع «إنّ» مكسورة الهمزة مشددة النون عن «ما» فى موضع واحد وهو قوله تعالى: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ (سورة الأنعام آية 134) وما عدا هذا الموضع فموصول كما فى قوله تعالى: إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ (سورة طه آية 69). ثامنا: «أنّ» و «ما» تقطع «أن» مفتوحة الهمزة مشددة النون عن «ما» فى موضعين فقط هما: قوله تعالى: وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ (سورة الحج آية 62)، وقوله تعالى: وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ (سورة لقمان آية 30) وما عدا ذلك فموصول، ووقع الخلاف فى موضع واحد بين القطع والوصل والعمل على الوصل، وهو قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ (سورة الأنفال آية 41). تاسعا: «حيث» و «ما» تقطع «حيث» عن «ما» فى موضعين هما: قوله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (سورة البقرة آية 144، 150). عاشرا: «كل» و «ما» تقطع «كل» عن «ما»

فى موضع واحد فقط وهو قوله تعالى: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ (سورة إبراهيم آية 34)، وما عدا هذا الموضع فموصول، وإن كان فى بعض المواضع قد وقع فيها خلاف ولكن العمل فيها على الوصل، كقوله تعالى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ (سورة الملك آية 8). حادى عشر: «بئس» و «ما» تقطع «بئس» عن «ما» فى جميع المواضع التى وقعت فيها فى القرآن الكريم ما عدا موضعين فبالوصل وهما قوله تعالى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ (سورة البقرة آية 90) وقوله تعالى: بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي (سورة الأعراف آية 150)، وموضع وقع فيه الخلاف بين الوصل والقطع إلا أن العمل فيه على الوصل، وهو قوله تعالى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ (سورة البقرة آية 93). ثانى عشر: «فى» و «ما» تقطع «فى» عن «ما» فى موضع واحد فقط وهو قوله تعالى: أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (سورة الشعراء آية 146) ووقع الخلاف فى عشرة مواضع والعمل فيها على القطع وهى الآيات: 240 من سورة البقرة، 48 من سورة المائدة، 145، 165 من سورة الأنعام، 102 من سورة الأنبياء، 14 من سورة النور، 28 من سورة الروم، 3، 46 من سورة الزمر، 61 من سورة الواقعة، وما عدا ذلك فموصول باتفاق كما فى قوله تعالى: فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ (سورة البقرة آية 234). ثالث عشر: «أين» و «ما» تقطع «أين» عن «ما» فى جميع المواضع التى وقعت فى القرآن الكريم كما فى قوله تعالى: أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً (سورة البقرة آية 148) ما عدا موضعين فبالوصل هما قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (سورة البقرة آية 115) وقوله تعالى: أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ (سورة النحل آية 76)، ووقع الخلاف فى ثلاثة مواضع والعمل فيها على القطع وهى الآية 78 من سورة النساء، والآية 92 من سورة الشعراء، والآية 61 من سورة الأحزاب. رابع عشر: «كى» و «لا» تقطع «كى» عن «لا» فى جميع المواضع التى جاءت فى القرآن الكريم كما فى قوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً (سورة الحشر آية 7) ما عدا أربعة مواضع فجاءت بالوصل وهى الآية 153 من سورة آل عمران، والآية 5 من سورة الحج، والآية 50 من سورة الأحزاب، والآية 23 من سورة الحديد. خامس عشر: «عن» و «من» تقطع «عن»

عن «من» مفتوحة الميم فى موضعين فقط هما قوله تعالى: وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ (سورة النور آية 43)، وقوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا (سورة النجم آية 29). سادس عشر: «يوم» و «هم» تقطع «يوم» عن «هم» فى موضعين فقط هما: قوله تعالى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ (سورة غافر آية 16)، وقوله تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (سورة الذاريات آية 13)، وما عدا ذلك الموضعين فموصول، كقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (سورة الذاريات آية 60). سابع عشر: تقطع لام الجر عن مجرورها فى أربعة مواضع هى الآية 49 من سورة الكهف، والآية 7 من سورة الفرقان، والآية 78 من سورة النساء، والآية 36 من سورة المعارج، وما عدا ذلك فموصول، نحو قوله تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (سورة الليل آية 19). ثامن عشر: «لات» و «حين» تقطع «لات» عن «حين» فى موضع واحد فى القرآن وهو قوله تعالى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (سورة ص آية 3)، كما يضاف إلى المقطوع أيضا «إل» من قوله تعالى: سلام على إل ياسين (سورة الصافات آية 130) ويصح الوقوف على «إل» للتعليم أو الاضطرار، والأوجب فى جميع المواضع المقطوعة عند ما يقف عليها القارئ اضطراريا أو نحوه أن يعود ويصل الكلمة بما بعدها، ولا يجوز البدء بما بعدها. وهذه خلاصة ما جاء فى القرآن الكريم من الكلمات التى رسمت فى المصاحف العثمانية مقطوعة ليقف القارئ عليها عند الضرورة وما عداها فموصول (¬1). أ. د. السيد إسماعيل على سليمان المصادر والمراجع: ¬

_ (¬1) انظر: نهاية القول المفيد فى علم التجويد ص 191 وما بعدها طبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاده بمصر- للشيخ/ محمد مكى نصر/ سنة 1349 هـ، هداية القارى إلى تجويد كلام البارى ص 417 وما بعدها طبعة دار النصر للطباعة الإسلامية بشبرا مصر- للشيخ/ عبد الفتاح السيد عجمى المرصفى. والبرهان فى تجويد القرآن ص 42 وما بعدها للشيخ/ محمد الصادق قمحاوى طبعة محمد على صبيح 1978 م. والقول السديد فى فن التجويد ص 137 وما بعدها- طبعة مطبعة الحسين الإسلامية- الأولى سنة 1411 هـ 1990 م.

همزتا الوصل والقطع

همزتا الوصل والقطع أولا: همزة الوصل: لما كان من المقرر أنه لا يبدأ بساكن ولا يوقف على متحرك، فالحركة لا بدّ منها فى الابتداء، ليتوصل بها إلى النطق بالساكن، ولا يتأتى ذلك إلا بهمزة الوصل عند النطق بالساكن. تعريف همزة الوصل: هى الهمزة الزائدة فى أول الكلمة الثابتة فى الابتداء الساقطة فى الدرج- أى فى الوصل- وسميت بهمزة الوصل لأنها يتوصل بها إلى النطق بالساكن كما مر. وتكون فى الأسماء والأفعال والحروف، فإن كانت فى اسم فإما أن يكون معرفا بأل نحو الْحَمْدُ لِلَّهِ فتفتح الهمزة. وإما منكرا، وذلك فى سبعة ألفاظ وقعت فى القرآن الكريم وهى: ابن، ابنت، امرئ، امرأت، اثنين، اثنتين، اسم. وإذا وقعت همزة الوصل فى فعل فلا تكون إلا فى الماضى والأمر، فإذا وقعت همزة الوصل فى فعل الأمر فينظر إلى ثالثه، فإن كان مكسورا أو مفتوحا فيبدأ فيه بكسر الهمزة نحو «اذهب» و «اضرب» و «ارجع»، وإن كان ثالثه مضموما ضما لازما فيبدأ فيه بضم الهمزة نحو «اتل» و «انظر»، وأما إذا كان ثالثه مضموما ضما عارضا فيبدأ فيه بالكسر نظرا لأصله نحو: «امشوا، اقضوا» لأن أصله امشيوا واقضيوا. وأما وجودها فى الماضى فلا يكون إلا فى الخماسى والسداسى وأمرهما ومصدرهما نحو: «انطلق، انطلق، انطلاق»، و «استخرج، استخرج، استخراج» وأمر الثلاثى، ويبدأ فى ذلك كله بكسر الهمزة. ولا تكون همزة الوصل فى حرف إلا فى «ايم الله» للقسم على القول بحرفيتها، وفى «أل» للتعريف، وتكون مفتوحة وتحذف همزة الاستفهام نحو (استغفرت لهم) و (قل أتخذتم)، فإن وقعت بين همزة الاستفهام ولام التعريف فلا تحذف حتى لا يلتبس الاستفهام بالخبر، بل تبدل ألفا وتمد طويلا لالتقاء الساكنين، أو تسهل بين الهمزة والألف، والإبدال أقوى، وذلك فى ست كلمات فى القرآن باتفاق وهى: (ءآلذكرين) فى موضعى

(سورة الأنعام آية 143، 144، و (ءآلان) فى موضعى يونس آية 51، 91 (ءآلله أذن لكم) و (ء آلله خير) (آية 59 من سورة النمل)، وكلمة عند أبى عمرو وأبى جعفر وهى: (السحر) فى (سورة يونس آية 81)، ويبدأ باللام أو بهمزة الوصل فى قوله تعالى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ «آية 11 سورة الحجرات». ثانيا: همزة القطع: هى التى تثبت فى حالتى الوصل والبدء، وسميت بذلك لثبوتها فى الوصل فينقطع بالتلفظ بها الحرف الذى قبلها عن الحرف الذى بعدها بخلاف همزة الوصل فإنها تثبت فى البدء وتسقط فى الدرج كما سبق، ومن ثم يتضح الفرق بين الهمزتين. وتوجد همزة القطع فى ماضى ومصدر الثلاثى، وماضى وأمر ومصدر الرباعى. وتكون مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة كما يلى: أولا: همزة القطع المفتوحة توجد فى خمسة مواضع هى: 1 - الفعل الماضى الثلاثى المبنى للمعلوم نحو: «أذن»، «أمر». 2 - الفعل الماضى الرباعى المبنى للمعلوم نحو: «ألهاكم». 3 - الفعل المضارع نحو: «أعمل» و «أسمع». 4 - فعل الأمر من الرباعى نحو: «أكرم» و «أصلح». 5 - مصدر الفعل الماضى الثلاثى، وقد تكون همزة القطع فيه مفتوحة نحو: «أمر»، «أكلا». وقد تكون مكسورة الهمزة نحو «إذن»، «إفك». ثانيا: همزة القطع المكسورة، وتوجد فى موضعين هما: 1 - مصدر الفعل الماضى الرباعى نحو: «إطعام» و «إخراج». 2 - مصدر الفعل الماضى الثلاثى فيما صح فيه الكسر نحو «إذن» و «إفك». ثالثا: همزة القطع المضمومة، وتوجد فى أربعة مواضع هى: 1 - الفعل المضارع من الثلاثى المزيد نحو: (أحيى وأميت). 2 - الفعل المضارع من الثلاثى المضعف نحو «أبرئ». 3 - الفعل الماضى الثلاثى المبنى للمجهول نحو «أمر» و «أذن».

4 - الفعل الرباعى المبنى للمجهول نحو «أوتى» و «أخرج». أما فى الحروف فهى فيها همزة قطع من غير شرط نحو «إنّ» و «كأنّ» المشددتين والمخففتين أيضا. ثالثا: همزة الاستفهام: هى إحدى همزات القطع المفتوحة أبدأ وهى ثابتة فى الوصل والابتداء، ولها مع همزة الوصل حالتان عند اجتماعهما، الحالة الأولى: حذف همزة الوصل وبقاء همزة الاستفهام مفتوحة، وذلك إذا كانت همزة الوصل فى فعل وكانت مكسورة فى الابتداء لو تجردت عنها همزة الاستفهام وابتدئ بها. والوارد من ذلك فى القرآن الكريم سبعة مواضع منها خمسة متفق عليها بين القراء العشرة، والموضعان الآخران مختلف فيهما. أما الخمسة المتفق عليها هى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً (سورة البقرة آية 80)، وقوله تعالى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (سورة مريم آية 78)، وقوله تعالى: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ (سورة سبأ آية 8)، وقوله تعالى: أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ (سورة المنافقون آية 6). وأما الموضعان المختلف فيهما فهما: قوله تعالى: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (سورة الصافات آية 153)، وقوله تعالى: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا (سورة ص آية 63). فقد قرأ بعض القراء بوصل الهمزة فيهما على الإخبار، ويبتدئ بكسر الهمزة على القاعدة السابقة، وبعضهم بقطع الهمزة فيهما مفتوحة على الاستفهام. ووجه حذف همزة الوصل فى هذه الأفعال أن الأصل فيها «أاتخذتم. أافترى. أأ استكبرت. أاستغفرت. أأتخذناهم. أاصطفى» بهمزتين. أولاهما: همزة الاستفهام ولا تكون إلا مفتوحة كما مرّ. وثانيهما: همزة الوصل وهى مكسورة لوجودها فى الماضى السداسى فى «استكبرت، واستغفرت»، وفى الماضى الخماسى فى الباقى. فحذفت همزة الوصل فى جميعها استغناء عنها بهمزة الاستفهام ولا يترتب على حذفها التباس الاستفهام بالخبر، لأن همزة الاستفهام إحدى همزات القطع المفتوحة أبدا، وهى ثابتة فى الوصل والابتداء- كما مر- بخلاف همزة

الوصل فإنها ثابتة فى الابتداء ساقطة فى الوصل. وأما حالة بقاء همزة الاستفهام مفتوحة مع همزة الوصل فى كلمة واحدة، فالشرط أن تكون همزة الوصل مفتوحة فى البدء وواقعة فى اسم محلى بأل وحينئذ لا يجوز حذفها بالإجماع لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر فيتغير المعنى تبعا لذلك، والجائز فيها حينئذ وجهان: الأول: إبدالها ألفا مع المدّ الطويل لملاقاتها بالساكن الأصلى. الثانى: تسهيلها بين بين أى بين الهمزة والألف مع القصر والمراد به هنا عدم المدّ مطلقا. والوجهان صحيحان مقروء بهما لكل القراء، ووجه الإبدال هو المقدم فى الأداء، والوارد من ذلك فى القرآن ستة مواضع باتفاق القراء العشرة، وموضع مختلف فيه بينهم. وقد سبق بيان ذلك عند الكلام على همزة القطع فارجع إليه. أ. د. السيد إسماعيل على سليمان

تلاوة القرآن الكريم

تلاوة القرآن الكريم أولا: أدب التلاوة: لما كان قارئ القرآن فى حضرة ربه مناجيا له كان لزاما عليه أن يتأدب بآداب خاصة تليق بحضرة ربه ومناجاته، وقد حدد العلماء الأجلاء هذه الآداب وبيّنوها وسوف ألخص تلك الآداب فيما يلى (¬1): 1 - أن يكون القارئ على طهارة حسّية- أى من الحدث الأكبر والأصغر-، وذلك لأن قراءة القرآن الكريم أفضل أنواع الذكر خاصة وأنها مناجاة بين العبد وربه، فيستلزم لذلك طهارة الظاهر والباطن. 2 - وأن يقرأ فى الأماكن الطاهرة والنظيفة التى تليق بعظمة ومقام القرآن الكريم، ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة فى المسجد لكونه جامعا للنظافة وشرف البقعة ومحصلا لفضيلة أخرى وهى الاعتكاف. وأن يكون أثناء القراءة مستقبلا للقبلة، لأن قراءة القرآن عبادة، واستقبال القبلة من أسباب القبول وأدعى له. 3 - أن يستعمل السواك ويتخلل فيطيب فاهه ويطهره، لأنه الطريق الذى يخرج منه القرآن الكريم، ولقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك» (¬2)، وقال يزيد بن أبى مالك: «إن أفواهكم طرق من طرق القرآن فطهروها ونظفوها ما استطعتم». 4 - أن يخلص فى قراءته ويريد بها وجه الله تعالى دون شىء آخر من تصنع لمخلوق أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة أو مدح أو رئاسة أو وجاهة أو ارتفاع على أقرانه ونحو ذلك. 5 - أن يستحضر فى ذهنه أنه يناجى ربه ويقرأ كتابه، فيتلوه على حالة من يرى الله تعالى فإن لم يكن يراه فإن الله سبحانه وتعالى يراه. 6 - أن يعظم القرآن ويوقره، فيتجنب الضحك، والحديث الأجنبى خلال القراءة إلا لحاجة، وألا يعبث باليد ونحوها، وألا ينظر إلى ما يلهى أو يبدد الذهن. 7 - أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند ابتدائه للقراءة، وهذا ما عليه جمهور العلماء قديما وحديثا. وقيل: بعدها. وأوجبها ¬

(¬1) انظر: هداية القارى إلى تجويد كلام البارى: ص 497 - 511 - طبعة دار النصر للطباعة الإسلامية بشبرا مصر- الأولى سنة 1402 هـ 1982 م- للشيخ/ عبد الفتاح السيد عجمى المرصفى. (¬2) الحديث: أخرجه ابن ماجة فى سننه فى كتاب الطهارة رقم 17، وذكر فى إتحاف السادة المتقين 2/ 340، وكنز العمال رقم 2751، وحلية الأولياء 4/ 296 وجمع الجوامع برقم 6249 والدر المنثور فى التفسير بالمأثور 1/ 113.

قوم لظاهر الأمر فى الآية، وهى قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (سورة النحل آية 98)، وصيغتها المختارة عند عامة الفقهاء وجميع القراء: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، وكان بعض السلف يزيدون «السميع العليم»، ولا خلاف بين أهل الأداء فى الجهر بها عند افتتاح القراءة، والإخفاء أولى إذا كان يقرأ وحده خاليا عن الناس أو فى الصلاة، ويكفيه تعوذ واحد ما لم يقطع قراءته بكلام أجنبى أو فصل طويل. 8 - أن يحافظ على قراءة البسملة أول كل سورة غير سورة «براءة»، لأن أكثر العلماء على أنها آية من أول كل سورة، فإذا أخل بها كان تاركا لبعض الختمة عند الأكثرين، أما فى الابتداء بما بعد أوائل السور ولو بكلمة فتجوز البسملة وعدمها لكل القراء تخييرا. 9 - ويسن للقارئ أن يقرأ على تؤدة وبترتيل، لأن ذلك أدعى للتدبر وأقرب إلى التوقير والاحترام. ولقول الله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (سورة المزمل آية 4)، ولما رواه أبو داود وغيره عن أم سلمة- رضى الله تعالى عنها- «أنها نعتت قراءة النبى- صلّى الله عليه وسلم- قراءة مفسّرة حرفا حرفا» (¬3). وفى صحيح البخارى عن أنس- رضى الله تعالى عنه- أنه سئل عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «كانت مدّا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد الله ويمدّ الرحمن ويمدّ الرحيم» (¬4). واتفق العلماء على كراهة الإفراط فى الإسراع بالقراءة، وقالوا: وقراءة جزء بترتيل أفضل من قراءة جزءين فى قدر ذلك الزمان بلا ترتيل. وقالوا: واستحباب الترتيل للتدبر، لأنه أقرب إلى الإجلال والتوقير، وأشد تأثيرا فى القلب، ولهذا يستحب للأعجمى الذى لا يفهم معناه (¬5). 10 - تدبر ما يتلى: ينبغى على المؤمن أن يقرأ القرآن بالتدبر والفهم، وأن يستعمل فيه ذهنه وفهمه حتى يعقل ما يخاطب به ويتفهمه لقول الله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (سورة ص آية 29) وقوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (سورة محمد صلّى الله عليه وسلم آية 24). والطريق إلى ذلك أن يشغل قلبه بالتفكر فى معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهى، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان مما قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مرّ بآية رحمة استبشر وسأل، ¬

(¬3) الحديث: رواه أبو داود فى كتاب الصلاة 2/ 74 رقم 1466، والترمذى فى فضائل القرآن 5/ 167 رقم 2923 وقال هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ليث بن سعد عن أبى مليكة عن يعلى بن مليكة عن أم سلمة، ورواه النسائى فى الافتتاح 2/ 181 رقم 1022. (¬4) الحديث: رواه البخارى فى فضائل القرآن، باب مد القراءة انظر فتح البارى 8/ 709 رقم 5046. (¬5) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى 1/ 140.

أو عذاب أشفق وتعوذ، أو تنزيه نزه وعظم، أو دعاء تضرع وطلب. فقد روى الإمام مسلم بسنده عن حذيفة- رضى الله تعالى عنه- قال: «صليت مع النبى صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوذ تعوذ» (¬6). ومما يعين على التدبر أيضا تكرير الآية وترديدها، فقد روى النسائى وغيره عن أبى ذرّ- رضى الله تعالى عنه- قال: قام النبى صلّى الله عليه وسلم بآية يرددها حتى أصبح. والآية: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ (¬7). وعن تميم الدارى- رضى الله تعالى عنه- أنه كرر هذه الآية حتى أصبح: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ (¬8) (سورة الجاثية آى 21) وردد ابن مسعود- رضى الله تعالى عنه: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (سورة طه آية 114) وردد سعيد بن جبير قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ (سورة البقرة آية 281) إلى غير ذلك من الأقوال فى هذا الصدد. قال الإمام النووى: «والأحاديث فيه- أى فى التدبر والخشوع عند التلاوة- كثيرة، وأقاويل السلف فيه مشهورة. وقد بات جماعات من السلف يتلون آية واحدة يتدبرونها ويرددونها إلى الصباح. وقد صعق جماعات من السلف عند القراءة، ومات جماعات منهم حال القراءة (¬9). 11 - تحسين الصوت بالتلاوة: أجمع العلماء من السلف والخلف من الصحابة والتابعين- رضى الله تعالى عنهم- ومن بعدهم من علماء الأمصار وأئمة المسلمين على استحباب تحسين الصوت بتلاوة القرآن وتزيينها، لأن ذلك يؤدى إلى التأثير على النفوس، ولقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم» (¬10)، وفى لفظ عند الدارمى: «حسنوا القرآن بأصواتكم» (¬11)، ولما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: «ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى حسن الصوت أن يتغنّى بالقرآن» (¬12). قال ابن كثير: ومعناه أن الله تعالى ما استمع لشىء كاستماعه لقراءة نبى يجهر بقراءته ويحسنها، وذلك أنه يجتمع فى قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم وتمام الخشية وذلك هو الغاية فى ذلك، وهو سبحانه وتعالى يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم، كما قالت عائشة- رضى الله عنها-: سبحان الذى وسع سمعه الأصوات. ¬

(¬6) الحديث: أخرجه مسلم فى صحيحه فى صلاة المسافرين 1/ 536، 537 رقم 772، وأبو داود. فى الصلاة 1/ 543، والترمذى فى الصلاة 2/ 48 رقم 262. (¬7) الحديث: رواه النسائى 2/ 177، وابن ماجة رقم 1350 وأحمد فى المسند 5/ 156، 170. (¬8) الأثر: رواه ابن أبى شيبة 2/ 362 بإسناد صحيح. (¬9) انظر: التبيان فى آداب حملة القرآن ص 60 - 62. (¬10) حديث صحيح أخرجه أبو داود فى سننه 2/ 155 رقم 1468، والنسائى 2/ 179، وابن ماجة 1/ 426 رقم 1342. (¬11) ذكره السيوطى فى الإتقان 1/ 141. (¬12) رواه البخارى فى فضائل القرآن، باب من لم يتغن بالقرآن، انظر فتح البارى لابن حجر 8/ 686 رقم 5024.

ولكن استماعه عباده المؤمنين أعظم كما قال تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ (سورة يونس آية 61)، ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ كما دل عليه هذا الحديث العظيم (¬13). هذا: وقد ضرب لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم المثل الأعلى بنفسه فى تحسين الصوت بالتلاوة، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «سمعت النبى صلّى الله عليه وسلم يقرأ فى العشاء: والتين والزيتون، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه» (¬14). وفى الصحيحين عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ فى المغرب بالطور، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه، وفى بعض الروايات: فلما سمعته قرأ: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السماوات والأرض بل لّا يوقنون (36) أم عندهم خزائن ربّك أم هم المسيطرون (سورة الطور الآيات 35 - 37)، «كاد قلبى أن يطير» (¬15). ولهذا كان أحسن القراءات ما كان عن خشوع من القلب، وهذا ما أشار إليه الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذى إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله» (¬16). 12 - التغنى بالقرآن: ومن أجل تحسين التلاوة وتزيينها أمر النبى صلّى الله عليه وسلم بالتغنى بالقرآن، فعن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: «ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى يتغنى بالقرآن» (¬17). قال سفيان بن عيينة تفسيره: يستغنى به. ولكن الإمام الشافعى رحمه الله تعالى ردّ هذا القول وقال: ليس هو هكذا، ولو كان هكذا لكان يتغانى، إنما هو يتحزن ويترنم به. ويؤيد هذا ما جاء فى الرواية الأخرى: «ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به» (¬18)، قال الطبرى- رحمه الله تعالى: لو كان معناه الاستغناء لما كان لذكر الصوت ولا لذكر الجهر معنى. ومما يؤكد هذا المعنى أيضا ما أخرجه البخارى وغيره عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» (¬19)، والمراد بالتغنى بالقرآن تحسين الصوت وتطريبه وتحزينه والتخشع به لما جاء عن أبى موسى رضي الله عنه قال: قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم: «لو رأيتنى وأنا استمع قراءتك البارحة لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» قلت: أما والله لو علمت أنك تسمع قراءتى لحبرتها لك تحبيرا» (¬20). قال الحافظ ابن كثير بعد أن ذكر هذه ¬

(¬13) فضائل القرآن لابن كثير ص 33 طبعة الحلبى. (¬14) الحديث: رواه البخارى ومسلم. وقال النووى متفق عليه. رياض الصالحين ص 283 طبعة دار التراث العربى الأولى 1402 هـ 1982 م. (¬15) الحديث: أخرجه مالك فى الموطأ 1/ 78 باب القراءة فى المغرب والعشاء، والبخارى فى تفسير سورة الطور فتح البارى 8/ 603 رقم 4854، ومسلم فى كتاب الصلاة، باب القراءة فى الصبح 12/ 41 رقم 174. (¬16) الحديث: رواه ابن ماجة فى سننه، كتاب إمامة الصلاة 1/ 425 رقم 1339، وذكره الألباني فى السلسلة الصحيحة 4/ 112 برقم 1583 بلفظ فيه اختلاف يسير. (¬17) صحيح البخارى 6/ 107، وصحيح مسلم 1/ 545. (¬18) الحديث: 8/ 214 وصحيح مسلم 1/ 545 رقم 792 وأبو داود 2/ 76 رقم 1473 وأحمد فى المسند 2/ 271. (¬19) الحديث: رواه البخارى فى كتاب التوحيد انظر فتح البارى 13/ 510 رقم 7527، وأحمد فى المسند 1/ 172، 175. (¬20) الحديث: رواه البخارى فى فضائل القرآن 8/ 710 رقم 5048 والترمذى فى المناقب 5/ 650 رقم 3855.

الأحاديث وغيرها: والغرض أن المطلوب شرعا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقى، فالقرآن ينزه عن هذا ويجل ويعظم أن يسلك فى أدائه هذا المذهب. وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك كما قال الإمام العلم أبو عبيد القاسم بن سلام- رحمه الله- حدثنا نعيم بن حماد عن بقية بن الوليد عن حصين بن مالك الفزارى قال: سمعت شيخا يكنى أبا محمد يحدث عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين، وسيجىء قوم من بعدى يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح، لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» (¬21). وهذا يدل على أنه محذور كبير وهو قراءة القرآن بالألحان التى يسلك بها مذاهب الغناء، وقد نص الأئمة- رحمهم الله تعالى- على النهى عنه، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذى يزيد بسببه حرفا أو ينقص حرفا، فقد اتفق العلماء على تحريمه- والله أعلم. 13 - التحزين بالقرآن: ويستحب للقارئ البكاء عند قراءة القرآن، والتباكى لمن لا يقدر على البكاء، والحزن والخشوع، لقول الله تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (سورة الإسراء آية 109) وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (سورة الأنفال آية 2)، ولقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» (¬22). وروى أبو داود بسنده عن عبد الله بن الشّخّير عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلى ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء» (¬23) وفى الشّعب للبيهقى عن سعد بن مالك مرفوعا: «إن هذا القرآن نزل بحزن وكآبة، فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» (¬24). وفى مسند أبى يعلى حديث: «اقرءوا القرآن بالحزن فإنه نزل بالحزن»، وعند الطبرانى «أحسن الناس قراءة من إذا قرأ القرآن يتحزن» (¬25). قال أبو حامد الغزالى- رحمه الله تعالى- البكاء مستحب مع القراءة وعندها. قال: ¬

(¬21) الحديث: رواه ابن كثير فى فضائل القرآن ص 36 وهو غير صحيح حيث فى سنده بقية بن الوليد مدلس ولم يصرح بالسماع رواه معنعنا عن حصين بن مالك قال عنه النسائى: فى التهذيب 1/ 475: إذا قال حدثت وأخبرنا فهو ثقة وإذا قال عن فلان فلا يؤخذ عنه لأنه لا يدرى عمن أخذه. وفيه أبو محمد شيخ مجهول وقد ذكر الحديث الهيثمى فى مجمع الزوائد 7/ 169 ونسبه للطبرانى فى الأوسط وقال: فيه راو لم يسم وفيه بقية أيضا. وقال المناوى: قال ابن الجوزى: حديث لا يصح، وأبو محمد مجهول وبقية يروى عن الضعفاء ويدلسهم وقال الذهبى فى «ميزانه» تفرد عن أبى حصين بقية وليس بمعتمد والخبر منكر. (¬22) أخرجه ابن ماجة فى الإقامة باب 176، والزهد 19. (¬23) الحديث: رواه أبو داود فى كتاب الصلاة، باب البكاء فى الصلاة برقم 904، والنسائى فى كتاب السهو، باب البكاء فى الصلاة برقم 1214، والإمام أحمد فى المسند 4/ 35، 36. (¬24) الحديث: ذكره السيوطى فى الإتقان 1/ 141، وابن كثير فى فضائل القرآن عن أبى داود ص 35. (¬25) الحديث: ذكره السيوطى فى الإتقان 1/ 141.

وطرقه فى تحصيله أن يحضر فى قلبه الحزن، بأن يتأمل ما فيه من التهديد، والوعيد الشديد، والمواثيق والعهود، ثم يتأمل تقصيره فى ذلك، فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر الخواص، فليبك على فقد ذلك فإنه من أعظم المصائب (¬26). 14 - حق التلاوة: ينبغى لقارئ القرآن أن يتلو القرآن الكريم حق تلاوته، ويتبع ما جاء فيه من أحكام وآداب حق اتباعه، لقول الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (سورة البقرة آية 121). وروى ابن أبى حاتم بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فى معنى قوله تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قال: إذا مرّ بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مرّ بذكر النار تعوّذ بالله من النار». وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «والذى نفسى بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله» (¬27). وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- فى معنى هذه الآية قال: «يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه» وقال أيضا: يتبعونه حق اتباعه. وقال الحسن البصرى: «يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه» (¬28). وقال الإمام الغزالى: «تلاوة القرآن حق تلاوته أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان: تصحيح الحروف، وحظ العقل: تفسير المعانى، وحظ القلب: الاتعاظ والتأثر والانزجار والائتمار، فاللسان يرتل، والعقل ينزجر، والقلب يتعظ» (¬29). 15 - هيئة قارئ القرآن: يستحب لقارئ القرآن فى غير الصلاة أن يستقبل القبلة. فقد جاء فى الحديث: «خير المجالس ما استقبل به القبلة» (¬30)، ويجلس متخشعا بسكينة ووقار، مطرقا رأسه، ويكون جلوسه وحده فى تحسين أدبه وخضوعه، كجلوسه بين يدى معلمه، فهذا هو الأكمل. ولو قرأ قائما أو مضطجعا، أو فى فراشه أو غير ذلك من الأحوال جاز، وله أجر، ولكن دون الأول. قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ (سورة آل عمران آية: 190، 191). ¬

(¬26) التبيان فى آداب حملة القرآن للنووى ص 63. (¬27) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/ 235. (¬28) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/ 236. (¬29) نهاية القول المفيد فى علم التجويد ص 236 للشيخ/ محمد مكى نصر. طبعة الحلبى. (¬30) الحديث: رواه الطبرانى فى الأوسط 3/ 182، 183 رقم 2375 من حديث أبى هريرة بإسناد حسن.

وثبت فى الصحيح عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتكئ فى حجرى وأنا حائض، فيقرأ القرآن» (¬31)، وعن أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه قال: «إنى أقرأ القرآن فى صلاتى، وأقرأ على فراشى» (¬32)، وعن عائشة- رضى الله عنها- قالت: «إنى لأقرأ حزبى وأنا مضطجعة على السرير» (¬33). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «ينبغى لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس مفطرون، وبحزنه إذ الناس يختالون». وعن الفضيل بن عياض- رحمه الله تعالى- قال: «حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغى له أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو تعظيما لحق القرآن» (¬34). 16 - سجود التلاوة: يسن لقارئ القرآن إذا مرّ بآية فيها سجدة من سجدات القرآن أن يسجد، لما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأها حتى إذا جاء السجدة قال: «يا أيها الناس إنما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر» (¬35). وثبت فى الصحيحين عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قرأ على النبى صلّى الله عليه وسلم «والنجم» فلم يسجد (¬36)، وثبت أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم، قال: فسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسجد من خلفه ... » (¬37). وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: «سجد النبى صلّى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس» (¬38). وأما عدد السجدات ومحلها: فالذى عليه جمهور العلماء أنها أربع عشرة سجدة: فى سورة الأعراف عند نهاية السورة الآية 206، وفى سورة الرعد عند نهاية الآية 15، وفى سورة النحل عند نهاية الآية 50، وفى سورة الإسراء عند نهاية الآية 109، وفى سورة مريم عند نهاية الآية 58، وفى سورة الحج سجدتان عند نهاية الآية 18، وعند نهاية الآية 77، وفى سورة الفرقان عند نهاية الآية 60، وفى سورة النمل عند نهاية الآية 26، وفى سورة «الم تنزيل السجدة» عند نهاية الآية 15، وفى سورة «حم السجدة» عند نهاية الآية 15، وفى سورة «حم السجدة» فصلت عند نهاية الآية 38، وفى سورة النجم عند نهاية الآية 62، وفى سورة «إذا السماء ¬

(¬31) الحديث: أخرجه البخارى 1/ 401 رقم 297، ومسلم فى صحيحه 1/ 246 رقم 301، وأبو داود فى سننه رقم 260 والنسائى 1/ 147، 191، وابن ماجة برقم 634، والإمام أحمد فى المسند 6/ 68، 72، 117، 135. (¬32) التبيان فى آداب حملة القرآن للنووى ص 59. (¬33) المصدر السابق. (¬34) انظر التبيان فى آداب حملة القرآن للنووى ص 44. (¬35) رواه البخارى فى كتاب السجود. انظر فتح البارى 2/ 557 رقم 1077. (¬36) المصدر السابق حديث رقم 1072، ورواه مسلم برقم 577. (¬37) انظر فتح البارى لابن حجر تفسير سورة النجم 8/ 480 رقم 4863. (¬38) المصدر السابق رقم 4862.

انشقت» عند نهاية الآية 21، وفى سورة «اقرأ باسم ربك» عند نهاية السورة الآية 19. وأما سجدة سورة «ص» فمستحبة، وليست من عزائم السجود أى متأكداته، فقد ثبت فى صحيح البخارى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبى صلّى الله عليه وسلم سجد فيها» (¬39). ويشترط لسجود التلاوة ما يشترط للصلاة من الطهارة، وستر العورة، والتوجه إلى القبلة. وينبغى أن يقع السجود عقب آية السجدة التى قرأها أو سمعها، فإن أخر ولم يطل الفصل سجد، وإن طال فقد فات السجود، ولا يقضى على المذهب الصحيح المشهور كما لا يقضى صلاة الكسوف (¬40). أ. د. السيد إسماعيل على سليمان المصادر والمراجع: ¬

(¬39) الحديث: أخرجه البخارى برقم 1079، ورقم 3422، وانظر أيضا فتح البارى كتاب التفسير، تفسير سورة ص حديث رقم 4806، 4807، وأبو داود تحت رقم 1409، والترمذى برقم 577. (¬40) انظر: التبيان فى آداب حملة القرآن للنووى ص 94 - 106.

تنكيس القراءة

تنكيس القراءة قال ابن منظور فى لسان العرب: النكس: قلب الشيء على رأسه، وقراءة القرآن منكوسا أن يبدأ بالمعوذتين ثم يرتفع إلى البقرة، أو من آخر السورة فيقرأها إلي أولها. وهو خلاف الأصل- أى الذى عليه المصحف وجاءت به السنة- إذ الأصل أن يقرأ من الفاتحة مرتبا إلى آخر الناس (¬1). والعلماء فى حكم قراءة القرآن منكوسا تبعا لمذاهبهم فى حكم ترتيب الآى والسور. أما الآى: فقد أجمعوا على أن ترتيبها بتوقيف من النبى صلّى الله عليه وسلم عن الله عز وجل، ولذا فقد اتفقوا على أن قراءة السورة من آخرها إلى أولها ممنوع، ولم يختلفوا فى حرمته، لأنه يذهب بعض ضروب الإعجاز، ويزيل حكمة الترتيب. وأيضا فإن السورة وحدة مستقلة، وتنكيسها إخلال بأجزاء وحدتها وتماسكها، ويترتب عليه إخلال بالمعنى «وكان جماعة يصنعون ذلك فى القصيدة من الشعر مبالغة فى حفظها وتذليلا للسان فى سردها، فمنع السلف ذلك فى القرآن، فهو حرام فيه» (¬2). أخرج الطبرانى بسند جيد عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنه سئل «أرأيت رجلا يقرأ القرآن منكوسا؟ فقال ذلك منكوس القلب. فأتى بمصحف قد زيّن وذهّب، فقال عبد الله: إن أحسن ما زيّن به المصحف تلاوته فى الحق» (¬3). وروى النسائى عن البراء- رضى الله تعالى عنه- قال: «كنا نصلى خلف النبى صلّى الله عليه وسلم فنسمع منه الآية بعد الآيات من سورة لقمان والذاريات»، وعنده أيضا وعند ابن خزيمة نحوه من حديث أنس لكن قال: ب «سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية» (¬4). وأما تنكيس السور: فقد جوزه قوم منهم الإمام الشافعى، وكرهه، قوم منهم الإمام أحمد وأبو حنيفة ومالك والحسن. أما المجوزون فقد قالوا: إن تقديم سورة متأخرة على أخرى تسبقها فى القراءة داخل أو خارج الصلاة ليس بحرام، لأن كل سورة وحدة مستقلة وموضوعها مستقل، فلا يضر تقديمها على غيرها. قال ابن بطال: لا نعلم أحدا قال بوجوب ¬

(¬1) انظر: لسان العرب لابن منظور ص 4541 طبعة دار المعارف، والقاموس المحيط للفيروزآبادى 2/ 256 طبعة دار المأمون الرابعة سنة 1357 هـ 1938 م. (¬2) راجع فتح البارى لابن حجر 8/ 656 طبعة. دار الريان للتراث- الأولى 1407 هـ 1987. (¬3) راجع الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى 1/ 144، وأخرجه الهيثمى فى مجمع الزوائد 7/ 168 وقال: رجاله ثقات، وذكره النووى فى التبيان ص 71 وقال: إسناده صحيح. (¬4) انظر: السنن للنسائى، باب قراءة النهار 1/ 153.

ترتيب السور فى القراءة لا داخل الصلاة ولا خارجها، بل يجوز أن يقرأ الكهف قبل البقرة، والحج قبل الكهف مثلا، وأما ما جاء عن السلف من النهى عن قراءة القرآن منكوسا فالمراد به أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها (¬5). وقال القاضى عياض: وترتيب السور ليس بواجب فى التلاوة ولا فى الصلاة ولا فى الدرس ولا فى التعليم. وأنه لم يكن من النبى صلّى الله عليه وسلم فى ذلك نص ولا حد تحرم مخالفته ... ثم قال: واستجاز النبى صلّى الله عليه وسلم والأمة بعده فى جميع الأعصار ترك ترتيب السور فى الصلاة والدرس والتلقين. ثم قال: إنه لا خلاف فى جواز قراءة المصلى سورة فى الركعة الثانية قبل التى قرأها فى الركعة الأولى، وإنما يكره ذلك فى ركعة، ولمن يتلو فى غير الصلاة. (¬6) وكلامه هذا فيه نظر، لأن الخلاف بين أهل العلم قائم، وإن كان يمكن تقريب وجهة نظرهم. وقال النووى: ولو خالف الموالاة فقرأ سورة لا تلى الأولى، أو خالف الترتيب فقرأ سورة، ثم قرأ سورة قبلها جاز، فقد جاء بذلك آثار كثيرة. وقد قرأ ابن الخطاب رضي الله عنه فى الركعة الأولى من الصبح بالكهف، وفى الثانية بيوسف (¬7). واستدل أصحاب هذا القول بما رواه البخارى بسنده عن يوسف ابن ماهك قال: إنى عند عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها إذ جاءها عراقى فقال: يا أم المؤمنين أرينى مصحفك؟ قالت: ولم؟ قال: لعلى أؤلف القرآن عليه، فإنه يقرأ غير مؤلف، قالت: وما يضرك أيه قرأت قبل، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ... » الحديث (¬8). وبما أخرجه مسلم بسنده عن حذيفة قال: «صليت مع النبى صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت يصلى بها فى ركعة فمضى، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلا، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوذ تعوذ ... » الحديث (¬9). إلى غير ذلك من الأدلة. أما الذين قالوا: إن ترتيب السور بتوقيف من الله تعالى، فقد قالوا: إن الأصل أن تكون القراءة على ترتيب المصحف، وقد فسر بعضهم قوله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (سورة المزمل آية 4) بمعنى اقرأه على هذا الترتيب من غير تقديم ولا تأخير (¬10). قال ابن حجر: وقد نقل البيهقى عن أحمد ¬

(¬5) انظر: فتح البارى لابن حجر 8/ 656، وتفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبى ص 53. (¬6) راجع شرح النووى على صحيح مسلم 3/ 202 طبعة دار الغد الأولى 1409 هـ 1988 م. (¬7) التبيان فى آداب حملة القرآن للنووى ص 70. (¬8) الحديث: ذكره البخارى فى كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، انظر فتح البارى 8/ 655. (¬9) الحديث: ذكره مسلم فى كتاب الصلاة، باب استحباب تطويل القراءة فى صلاة الليل 3/ 199 من شرح النووى، ورواه الترمذى فى الصلاة، باب ما جاء فى التسبيح فى الركوع والسجود 2/ 48، 49. (¬10) البرهان فى متشابه القرآن للكرمانى. انظر: ص 23 من كتاب أسرار التكرار فى القرآن تحقيق/ عبد القادر أحمد عطا طبعة دار الاعتصام الثانية 1396 هـ 1976 م.

والحنفية كراهية قراءة سورة قبل سورة تخالف ترتيب المصحف (¬11). وروى ابن أبى داود عن الحسن: أنه كان يكره أن يقرأ القرآن إلا على تأليفه فى المصحف. وروى أيضا عن إبراهيم النخعى، والإمام مالك بن أنس أنهما كرها ذلك، وأن مالكا كان يعيبه، ويقول هذا عظيم (¬12). وقد استدل هؤلاء العلماء وغيرهم على ما ذهبوا إليه بما رواه الإمام مسلم والترمذى وغيرهما عن النعمان بن بشير رضي الله عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ فى العيدين ويوم الجمعة ب «سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية» قال: وربما اجتمعا فى يوم واحد فقرأ بهما» (¬13). وبما رواه مسلم وغيره عن أبى رافع قال: استخلف مروان أبا هريرة على المدينة، وخرج إلى مكة، فصلى بنا أبو هريرة الجمعة فقرأ بعد سورة الجمعة فى الركعة الأخيرة «إذا جاءك المنافقون» قال: فأدركت أبا هريرة حين انصرف، فقلت له: إنك قرأت بسورتين كان على بن أبى طالب يقرأهما بالكوفة. فقال أبو هريرة: إنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة (¬14). وبالنظر فى أقوال الفريقين وأدلتهم نرى أن الجميع قد اتفقوا على أن تنكيس القرآن خلاف الأصل الذى عليه المصحف وجاءت به السنة، وأن قراءة السورة بعد السورة صواب عند الجميع، وإن عكس فقد جانب الصواب وخالف الأولى عند البعض، وارتكب المكروه عند البعض الآخر. قال الإمام النووى: «قال بعض أصحابنا: ويستحب إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها التى تليها، ودليل هذا أن ترتيب المصحف إنما جعل هكذا لحكمة، فينبغى أن يحافظ عليها، إلا فيما ورد الشرع باستثنائه، كصلاة الصبح يوم الجمعة، يقرأ فى الأولى سورة «السجدة» وفى الثانية «هل أتى على الإنسان»، وصلاة العيد فى الأولى «ق» وفى الثانية «اقتربت الساعة»، وركعتى سنة الفجر فى الأولى «قل يا أيها الكافرون» وفى الثانية «قل هو الله أحد»، وركعات الوتر فى الأولى «سبح اسم ربك الأعلى» وفى الثانية «قل يا أيها الكافرون» وفى الثالثة «قل هو الله أحد والمعوذتين»، ولو خالف الموالاة فقرأ بسورة لا تلى الأولى، أو خالف الترتيب فقرأ سورة ثم قرأ سورة قبلها جاز، فقد جاء بذلك آثار كثيرة ... وقد كره جماعة مخالفة ترتيب المصحف (¬15). أ. د. السيد إسماعيل على سليمان ¬

(¬11) فتح البارى بشرح صحيح البخارى 2/ 299. (¬12) التبيان فى آداب حملة القرآن ص 71. (¬13) الحديث: أخرجه مسلم فى كتاب الجمعة، باب ما يقرأ فى صلاة الجمعة 3/ 15، 16، والترمذى فى أبواب العيدين الحديث رقم 531 انظر تحفة الأحوذى 1/ 393. (¬14) الحديث: أخرجه مسلم فى كتاب الصلاة، باب ما يقرأ فى صلاة الجمعة 3/ 365 من شرح النووى. (¬15) التبيان فى آداب حملة القرآن ص 68 - 70 طبعة مطابع الوفاء بالمنصورة الأولى 1416 هـ 1995 م تحقيق/ أبى عبد الله أحمد بن إبراهيم أبى العينين.

نسيان القرآن

نسيان القرآن ينبغى على المؤمن الحافظ للقرآن أن يتعاهده بالتلاوة والمراجعة حتى لا ينساه، لقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت» (¬1) وقوله صلّى الله عليه وسلم: «مثل القرآن إذا عاهد عليه صاحبه فقرأه بالليل والنهار كمثل رجل له إبل فإن عقلها حفظها وإن أطلق عقالها ذهبت فكذلك صاحب القرآن» (¬2). وجاء عن النبى صلّى الله عليه وسلم ذمّ ووعيد لمن يحفظ شيئا من القرآن ثم ينساه حيث قال: «بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل نسّى، واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم بعقلها» (¬3) وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عرضت علىّ أجور أمتى حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت علىّ ذنوب أمتى فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها» (¬4) قال ابن جريج: وحدثت عن سلمان الفارسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أكبر الذنوب توافى به أمتى يوم القيامة سورة من كتاب الله كانت مع أحدهم ثم نسيها». وقد أدخل بعض المفسرين هذا المعنى فى قوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (سورة طه الآيات 124 - 126). قال ابن كثير: وهذا الذى قاله هذا وإن لم يكن هو المراد جميعه فهو بعضه، فإن الإعراض عن تلاوة القرآن وتعريضه للنسيان، وعدم الاعتناء به فيه تهاون كبير، وتفريط شديد نعوذ بالله منه، ولهذا قال عليه السلام: «تعاهدوا القرآن»، وفى لفظ: «استذكروا القرآن، فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم» والتفصى: التخلص. وعن الضحاك بن مزاحم قال: «ما من أحد تعلم القرآن فنسيه إلا بذنب يحدثه لأن الله تعالى يقول: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (سورة الشورى آية 30)، وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب (¬5). نسأل الله تعالى العفو والعافية منه اللهم آمين. أ. د. السيد إسماعيل على سليمان ¬

(¬1) الحديث: رواه البخارى فى فضائل القرآن رقم 5031 باب استذكار القرآن وتعاهده، فتح البارى 9/ 697 ومسلم فى كتاب الصلاة، باب الأمر بتعاهد القرآن رقم 1808، انظر شرح النووى 3/ 226. (¬2) ذكره ابن كثير فى فضائل القرآن ص 41 وهو من رواية الإمام أحمد، وقال: ذكره ابن الجوزى فى جامع المسانيد. (¬3) الحديث: رواه البخارى فى فضائل القرآن، باب استذكار القرآن وتعاهده رقم 5032 ومسلم فى كتاب الصلاة، باب الأمر بتعهد القرآن، رقم 1810 شرح صحيح مسلم للنووى 3/ 227. (¬4) الحديث: أخرجه الترمذى فى سننه وقال عنه: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. راجع تحفة الأحوذى بشرح جامع الترمذى 8/ 87، أبواب فضائل القرآن، باب 19 حديث رقم 3083. طبعة دار الكتب العلمية. (¬5) فضائل القرآن لابن كثير ص 43.

ختم القرآن

ختم القرآن المدة التى يستحب فيها ختم القرآن بينتها السنة المطهرة فيما رواه البخارى بسنده أن النبى صلّى الله عليه وسلم قال- فى حديث طويل- لعبد الله ابن عمرو- رضى الله عنهما: « .. وكيف تختم؟ قال: كل ليلة. فقال له: اقرأ القرآن فى كل شهر، قال: إنى أطيق أكثر من ذلك. فقال له: اقرأه فى كل سبع ليال مرة .. » وفى رواية أخرى عن عبد الله بن عمرو قال: «قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اقرأ القرآن فى شهر. قلت إنى أجد قوة، حتى قال: فاقرأه فى سبع ولا تزد على ذلك»، وفى رواية أخرى: «أن النبى صلّى الله عليه وسلم قال له: اقرأ القرآن فى شهر. قال إنى أطيق أكثر، فما زال حتى قال فى ثلاث» (¬1). ومن خلال هذه الأحاديث يتبين لنا أن عبد الله رضي الله عنه كان يقرأ القرآن فى ليلة واحدة، فقال له النبى صلّى الله عليه وسلم اقرأه فى شهر؛ لأن لا يلحقه ملل، ولتكون قراءته على تدبر وفهم، فرغب عبد الله أن يقرأ فى أقل من هذه المدة محتجا بقوته على ذلك فتدرج النبى صلّى الله عليه وسلم معه إلى أن وصل إلى سبع، ثم قال له: «ولا تزد على ذلك» لأنه رأى- والله تعالى أعلم- أن التدبر والأمن من الملل لا يكونان فى أقل من هذه المدة، فرغب عبد الله فى أن يقرأه فى أقل من ذلك، فما زال به حتى قال فى ثلاث كما جاء فى بعض الروايات. لذلك نقول: إن المدة المعول عليها فى ختم القرآن هى استطاعة الشخص وعدم استطاعته، لأن النبى صلّى الله عليه وسلم قال لعبد الله اقرأه فى شهر، ثم أذن له أن يقرأه فى أقل من هذه المدة لاستطاعته، فلزم أن تكون الزيادة عليها مأذونا فيها عند الضعف وعند الشواغل الكثيرة التى تحول دون ختمه فى شهر، فقد أخرج ابن أبى داود عن مكحول قال: كان أقوياء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرءون القرآن فى سبع، وبعضهم فى شهر وبعضهم فى شهرين وبعضهم فى أكثر من ذلك. وقد روى عن أبى حنيفة- رحمه الله تعالى- أنه قال: «من قرأ القرآن فى كل سنة مرتين، فقد أدى حقه لأن النبى صلّى الله عليه وسلم عرض القرآن على جبريل فى السنة التى قبض فيها مرتين». وكذلك من نقص عن الشهر لقوته على ذلك يستحب له أن لا ينقص عن سبع لقول النبى صلّى الله عليه وسلم لعبد الله: لا تزد على ذلك، فإن حكمة هذا النهى ¬

(¬1) انظر: صحيح البخارى وشرحه فتح البارى كتاب فضائل القرآن، وكتاب الصيام، باب صيام وإفطار يوم ويوم.

على ما يظهر هى أن ختم القرآن فى أقل من سبع مظنة الملل ونقصان التدبر، والأحكام تبنى على الكثير الغالب لا على القليل النادر، ولإلحاح عبد الله ورغبته فى الإكثار من القراءة واحتجاجه بقوته على ذلك أذن له فى أقل من سبع إلى ثلاث، إلا إن هذا الإذن المترتب على الإلحاح الشديد من عبد الله لا ينفى أن المأذون فيه خلاف الأولى بقرينة اختصاص هذا العدد بالنهى عن النقص عنه دون ما قبله من الأعداد. وهذا المعنى هو الذى فهمه جمهور العلماء واستقر عملهم عليه. وأما الذين يختمون القرآن فى أقل من ثلاث فعملهم مخالف لصريح السنة لما رواه أبو داود والترمذى وصححه من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا: «لا يفقه من قرأ القرآن فى أقل من ثلاث» (¬2) وأخرج ابن أبى داود وسعيد بن منصور عن ابن مسعود موقوفا قال: «لا تقرءوا القرآن فى أقل من ثلاث»، وأخرج أبو عبيد عن معاذ بن جبل أنه كان يكره أن يقرأ القرآن فى أقل من ثلاث» (¬3). أ. د. السيد إسماعيل على سليمان المصادر والمراجع: ¬

(¬2) الحديث: رواه أبو داود فى الصلاة 2/ 116 رقم 1394 والترمذى 5/ 182 رقم 2949 وقال حديث حسن صحيح. (¬3) راجع كتاب كيف تقرأ القرآن قراءة شرعية ص 39 د. سيد مرسى نقلا عن الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى.

الجرس القرآنى

الجرس القرآنى إن طريقة النظم التى اتسقت بها ألفاظ القرآن، وتألفت لها حروف الألفاظ، إنما هى طريقة يتوخى بها إلى أنواع من المنطق وصفات من اللهجة لم تكن على هذا الوجه من كلام العرب، ولكنها ظهرت فيه أول شىء على لسان النبى صلّى الله عليه وسلم، فجعلت المسامع لا تنبو عن شىء من القرآن، ولا تلوى من دونه حجاب القلب، حتى لم يكن لمن يسمعه بدّ من الاسترسال إليه والتوفر على الإصغاء، لا يستمهلهم أمر من دونه وإن كان أمر العادة، ولا يستنسئه الشيطان وإن كانت طاعته عندهم عبادة، فإنه إنما يسمع ضربا خالصا من الموسيقى اللغوية فى انسجامه واطّراز نسقه واتزانه على أجزاء النّفس مقطعا مقطعا ونبرة نبرة كأنها توقعه توقيعا لا تتلوه تلاوة (¬1). ويوضح هذا المعنى الدكتور محمد عبد الله دراز فيقول: دع القارئ المجود يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله نازلا بنفسه على هوى القرآن، وليس نازلا بالقرآن على هوى نفسه، ثم انتبذ منه مكانا قصيا لا تسمع فيه جرس حروفه، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها، ومداتها وغناتها، واتصالاتها، وسكتاتها، ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية وقد جردت تجريدا، وأرسلت ساذجة فى الهواء فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده فى كلام آخر لو جرّد هذا التجريد، وجوّد هذا التجويد. ستجد اتساقا وائتلافا يسترعى من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر، على أنه ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر. وستجد شيئا آخر لا تجده فى الموسيقى ولا فى الشعر، ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هى تتحد الأوزان فيها بيتا بيتا، وشطرا شطرا، وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هى تتشابه أهواؤها، وتذهب مذهبا متقاربا، فلا يلبث سمعك أن يمجها، وطبعك أن يملها، إذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد. بينما أنت من القرآن أبدا فى لحن متنوع متجدد تنتقل فيه بين أسباب وأوتاد، وفواصل على أوضاع مختلفة يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء. فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم. بل لا تفتأ تطلب منه المزيد. ¬

_ (¬1) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ص 181 لمصطفى صادق الرافعى طبعة مكتبة الإيمان للنشر والتوزيع بالمنصورة- الأولى 1417 هـ 1997 م.

هذا الجمال التوقيعى فى لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب. فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟ ثم يقول- أيضا- فإذا ما اقتربت بأذنك قليلا قليلا، فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة. فاجأتك منه لذة أخرى فى نظم تلك الحروف ورصفها، وترتيب أوضاعها فيما بينها: هذا ينقر وذاك يصفر، وثالث يهمس، ورابع يجهر، وآخر ينزلق عليه النّفس، وآخر يحتبس عنده النفس، وهلمّ جرّا، فترى المجال اللغوى ماثلا أمامك فى مجموعة مختلفة مؤتلفة، لا كركرة ولا ثرثرة، ولا رخاوة ولا معاظلة، ولا تناكر ولا تنافر، وهكذا ترى كلاما ليس بالحضرى الفاتر، ولا بالبدوى الخشن، بل تراه وقد امتزجت فيه جزالة البادية وفخامتها، برقة الحاضرة وسلاستها، وقدر فيه الأمران تقديرا لا يبغى بعضهما على بعض. فإذا مزيج منهما كأنما هو عصارة اللغتين وسلاستهما، أو كأنما هو نقطة الاتصال بين القبائل عندها تلتقى أذواقهم، وعليها تأتلف قلوبهم (¬2). أ. د. السيد إسماعيل على سليمان المصادر والمراجع: ¬

_ (¬2) النبأ العظيم نظرات جديدة فى القرآن ص 101 - 104 بتصرف طبعة دار المنار الرابعة 1397 هـ 1977 م.

الاستماع عند التلاوة

الاستماع عند التلاوة ومن إجلال القرآن وتعظيمه الاستماع له والإنصات عند تلاوته، لقول الله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (سورة الأعراف آية 204)، والمعنى: وإذا قرئ القرآن الذى ذكرت خصائصه ومزاياه عليكم فاستمعوا له بتدبر وخشوع، واصغوا إليه أسماعكم وكل جوارحكم لتفهموا معانيه، وتفقهوا توجيهاته، وأنصتوا لقراءته حتى تنقضى تعظيما له، وإكبارا لشأنه، لكى تفوزوا برحمة الله ورضاه. ولقد كان جماعة من السلف يطلبون من أصحاب القراءة بالأصوات الحسنة أن يقرءوا وهم يستمعون، وهذا متفق على استحبابه، وهو عادة الأخيار والمتعبدين وعباد الله الصالحين، وهو سنة ثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقد صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اقرأ علىّ القرآن». فقلت: يا رسول الله اقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: «إنى أحب أن أسمعه من غيرى». فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (آية 41)، قال: «حسبك الآن» فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان (¬1). وبعض العلماء يحمل القراءة فى الآية على القراءة خلف الإمام فى الصلاة، أى: أن على المؤتم أن يستمع إلى قراءة الإمام بتدبر وخشوع، واستدلوا على ذلك بما رواه الإمام مسلم فى صحيحه من حديث أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا» (¬2). وبعضهم يجعل الآية عامة فى وجوب الاستماع إلى قراءة القرآن بتدبر وإنصات وخشوع فى الصلاة وفى غيرها، وحملوا الأحاديث التى أوردها أصحاب الرأى الأول على العموم- أيضا. والذى نراه أن الآية تأمر بوجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن فى الصلاة وفى غيرها، لأن تعاليم الإسلام وآدابه تقتضى منا أن نستمع إلى القرآن الكريم بتدبر وإنصات وخشوع ليؤثر تأثيره الشافى فى القلوب، ¬

_ (¬1) الحديث: أخرجه البخارى فى صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب قول المقرئ للقارئ: حسبك. حديث رقم 5050، انظر فتح البارى 8/ 712. ورواه مسلم فى صحيحه حديث رقم 800، وأبو داود رقم 3668، والترمذى رقم 3025. (¬2) الحديث: أخرجه مسلم فى صحيحه فى كتاب الصلاة، باب التشهد فى الصلاة 2/ 14، 15.

وليقودها إلى الطاعة والتقوى فتنال المغفرة والرحمة. وصدق الله العظيم القائل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (سورة الأنفال آيات من 2 - 4). أ. د. السيد إسماعيل على سليمان المصادر والمراجع:

الاقتباس من القرآن

الاقتباس من القرآن الاقتباس: هو تضمين الشعر أو النثر بعض القرآن لا على أنه منه بأن لا يقال فيه: قال الله تعالى ونحوه، فإن ذلك حينئذ لا يكون اقتباسا، وقد اشتهر عن المالكية تحريمه وتشديد النكير على فاعله. وأما الشافعية فلم يتعرض له الأقدمون ولا أكثر المتأخرين مع شيوع الاقتباس فى عصورهم، واستعمال الشعراء له قديما وحديثا. وقد تعرض له جماعة من المتأخرين، فسئل عنه الشيخ عز الدين بن عبد السلام فأجازه، واستدل له بما ورد عن النبى صلّى الله عليه وسلم من قوله فى الصلاة وغيرها «وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين» (¬1) وقوله: «اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عنى الدين وأغننى من الفقر» (¬2). وفى سياق كلام لأبى بكر الصديق رضي الله عنه: «وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون» (¬3) وفى آخر حديث لابن عمر- رضى الله عنهما-: «قد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة» (¬4). قال السيوطى: «وهذا كله إنما يدل على جوازه فى الشعر وبينهما فرق. فإن القاضى أبا بكر من المالكية صرح بأن تضمينه فى الشعر مكروه، وفى النثر جائز. واستعمله أيضا فى النثر القاضى عياض فى مواضع من خطبة الشفاء. وقال الشريف إسماعيل ابن المقرى اليمنى صاحب مختصر الروضة فى شرح بديعته ما كان منه فى الخطب، والمواعظ، ومدحه صلّى الله عليه وسلم وآله وصحبه، ولو فى النظم فهو مقبول، وغيره مردود. ثم قال: والاقتباس ثلاثة أقسام: مقبول، ومباح، ومردود. فالأول: ما كان فى الخطب والمواعظ والعهود، والثانى: ما كان فى الغزل، والرسائل والقصص. والثالث: على ضربين: أحدهما ما نسبه الله إلى نفسه، ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه كما قيل عن أحد بنى مروان أنه وقع على مطالعة فيها شكاية عماله: «إن إلينا إيابهم. ثم إن علينا حسابهم» (¬5). والآخر: تضمين آية فى معنى هزل، ونعوذ بالله من ذلك كقوله: ¬

(¬1) هذا مقتبس من سورة الأنعام آية 79. (¬2) هذا مقتبس من سورة الأنعام آية 96. (¬3) هذا مقتبس من سورة الشعراء آية 227. (¬4) هذا مقتبس من سورة الأحزاب آية 21. (¬5) هذا مقتبس من سورة الغاشية آية 25، 26.

أرخى إلى عشاقه طرفه ... هيهات هيهات لما توعدون (¬6) وردفه ينطق من خلفه ... لمثل هذا فليعمل العاملون (¬7) قال السيوطى: وهذا التقسيم حسن جدا وبه أقول (¬8). أ. د. السيد إسماعيل على سليمان المصادر والمراجع: ¬

(¬6) هذا مقتبس من سورة المؤمنون آية 36. (¬7) هذا مقتبس من سورة الصافات آية 61. (¬8) انظر: الإتقان فى علوم القرآن 1/ 147، 148.

بلاغة القرآن

بلاغة القرآن الخبر الخبر فى اللغة الإعلام، ومعانيه تدور حول اكتساب المعرفة من مصادرها (¬1). أما معنى الخبر فى اصطلاح البلاغيين فهو: القول الذى يحمل الصدق والكذب لذاته (¬2)، أى دون النظر إلى قائله. أو هو الكلام الذى له نسبة خارجية يراد مطابقتها أو عدم مطابقتها. والأول تعريف القدماء. والثانى يجرى كثيرا على ألسنة المحدثين، وفى كتاباتهم. والخبر له ثلاث نسب، تظهر من تحليل العبارة الآتية، إذا قال قائل: رأيت الهلال الليلة هذه الجملة الخبرية لها نسب ثلاث. الأولى: النسبة الكلامية، وهى: الإخبار برؤية الهلال، وثبوت رؤيته لحظة فى الأفق. الثانية: نسبة ذهنية، وهى تخيّل السامع لهذا الكلام الهلال مرئيا فى الأفق. الثالثة: النسبة الخارجية. وهى كون الهلال مكث لحظة فى الأفق بعد غروب الشمس، فإن كانت هذه النسبة واقعية فعلا فالخبر صادق، لتطابق النسبة واقعية فعلا فالخبر صادق، لتطابق النسبة الخارجية مع النسبة الكلامية. وإن كان الهلال لم يثبت له رؤية، فالخبر كاذب، لأنه لم يطابق الواقع. وهذا هو معنى عبارة المحدثين أن الخبر ما كان له نسبة خارجية (يعنى خارج الذهن) فإن أراد المتكلم بكلامه مطابقتها فيكون صادقا، أو عدم مطابقتها فيكون كاذبا (¬3). والخبر هو شطر اللغة، والشطر الثانى هو الإنشاء وفيهما تنحصر أساليب الأداء اللغوى، وليس لهما ثالث. وكلاهما وارد بكثرة فى القرآن الكريم، بل كل ما فى القرآن، وكل ما فى سوى القرآن لا يخرج عن أسلوبى الخبر والإنشاء، وسيأتى الحديث عنه. والبلاغيون يجمعون على أن وظيفة الخبر التى أرادها منه واضعو اللغة محصورة فى أمرين. الأول: أطلقوا عليه مصطلح «فائدة الخبر» ومعناها أن المتكلم يفيد بخبره المخاطب بالخبر معنى جديدا لم يكن له به علم قبل سماعه الخبر. وهذا هو الأصل فى ¬

(¬1) المصباح المنير والمعاجم اللغوية- مادة خبر. (¬2) بقية الإيضاح (29) ت- الشيخ عبد المتعال الصعيدى. (¬3) المصدر نفسه والموضح.

أغراض الخبر، ومثلوا لهذا بعبارات كثيرة، أغلبها أمثلة مصنوعة، مثل: جاء «زيد» خطابا لمن لا يعلم بمجيء زيد. ومن أمثلة فى القرآن الكريم قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (¬4). هذه الآية أفادت لأول مرة أن الله أنزل القرآن فى ليلة القدر، ولم يكن لدى المخاطبين علم بهذا قبل نزول هذه الآية. أما الغرض الثانى من الخبر، فيطلق عليه البلاغيون مصطلح «لازم الفائدة» وضابط هذه الوظيفة: أن يكون المخاطب عالما بمضمون الخبر، ويكون غرض المتكلم إعلام المخاطب بأنه- أى المتكلم- عالم بمضمون الخبر مثله، كقولك لمن يعلم أنه خالدا حضر من سفره: خالد حضر. فأنت لا تريد إعلامه بحضور خالد، لأنك تعلم أنه يعلم بحضوره وإنما تريد أنك أنت عالم بحضور خالد كما يعلم هو به ومن أمثلته فى القرآن الكريم قوله تعالى حاكيا ما قاله يعقوب عليه السّلام لبنيه: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً (¬5). يعقوب عليه السّلام لم يرد أن يخبر بنيه بأن أنفسهم سوّلت لهم أمر التخلص من يوسف؛ لأنهم كانوا يعلمون بهذا التسويل أكثر منه. وإنما أراد أن يخبرهم أنه عالم بما حدث معهم لأخيهم يوسف. ففائدة الخبر، ولازم فائدته هما الدلالتان اللتان أرادهما واضعو اللغة من الخبر وهما دلالتان حقيقيتان وضعيتان .. كدلالة: السيف والرمح على آلتى القتال المعروفتين. وفى القرآن الكريم- كما فى اللغة بوجه عام- استعمالات لأخبار لا تكاد تحصى فى معان أخرى مجازية، غير فائدة الخبر، ولازم فائدته، تحمل معانى كثيرة يقتضيها المقام فى أغراض شتى. ومن ذلك قوله تعالى: فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ (¬6) لم ترد امرأة عمران أن تخبر الله بما لا يعلم فى قولها إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى فالخبر هنا لم يستعمل فى الإعلام بفائدة الخبر، ولا فى لازم فائدة الخبر، بل خرج إلى معنى مجازى هو إظهار التحسر على إنجابها أنثى، وكانت تطمع أن تلد ذكرا ليكون خادما فى بيت المقدس الذى لم يكن يقوم بالخدمة فيه إلا الذكور. ولم ترد أن تخبر الله عز وجل بما لم لا يعلم فى قولها. وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ بل إن الخبر هنا خرج عن الإعلام بفائدة الخبر، ¬

(¬4) المصدر (1). (¬5) يوسف (19). (¬6) آل عمران (36).

وعن لازم الفائدة، إلى معنى مجازى هو التلطف فى الدعاء والاستعاذة بالله أن يحفظ المولودة وذريتها من الشيطان الرجيم. ومنه فى القرآن الكريم قوله تعالى فى شأن اليهود، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً- يعنى الموت- بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (¬7). خرج الخبر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ عن الإعلام بفائدة الخبر ولازمها إلى معنى آخر مجازى، هو التهديد والوعيد لأن علمه- سبحانه- بالظالمين يقتضى عقابه إياهم على ظلمهم. ومنه قوله تعالى حكاية عما قاله فرعون لموسى عليه السّلام: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ (¬8). لم يرد إعلام موسى عليه السّلام بما فعل حين قتل المصرى. وإنما أراد لومه وانكساره بين يديه، وهو معنى مجازى خارج عن الإعلام بفائدة الخبر، ولازم فائدته. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى المصادر والمراجع: ¬

(¬7) الجمعة (7). (¬8) الشعراء (19).

الإنشاء

الإنشاء الإنشاء لغة: الإيجاد والتكوين، يقال: فلان أنشأ قصيدة أى ألفها بعد أن لم تكن (¬1). أما فى اصطلاح البلاغيين فالإنشاء هو الكلام الذى يطلب به أمر لم يكن موجودا وقت النطق بالكلام. وهو عندهم ما ليس له نسبة خارجة وقت النطق بالكلام الإنشائى، يراد مطابقتها أو عدم مطابقتها. وهو ما لا يحتمل الصدق والكذب: لأن مضمونه لا يقع- أن وقع- إلا بعد النطق بطلبه. وقد يجاب الطلب أو لا يجاب ولذلك فإن الإنشاء ليس له إلا نسبتان من النسب الثلاث التى تقدمت فى مبحث الخبر، بل له نسبتان فقط: * النسبة الكلامية. * النسبة الذهنية. وقد يعبر عنها بالنسبة العقلية، توضيح هذا فى تحليل العبارة الآتية: إذا قال قائل لآخر: «أعرنى كتابك». هذه الجملة إنشائية طلب بها أمر لم يكن موجودا ساعة النطق بها والنسبة الكلامية فيها هى: طلب المتكلم استعارة كتاب المخاطب. أما النسبة الذهنية (العقلية) فهى التصور الذهنى لعملية إعارة الكتاب، سواء تحققت الإعارة أو لم تتحقق. هاتان النسبتان يشترك فيهما الخبر والإنشاء وينفرد الخبر بالنسبة الخارجية (الواقعية) ولو فرضا لا تحقيقا، إذا كان الخبر غير صادق (¬2) والإنشاء هو شطر اللغة الثانى بعد الخبر. ويتكوّن الكلام الإنشائى من عدة أساليب فرعية، هى: * الأمر.* النهى. * الاستفهام.* النداء. * التمنى.* الرجاء. والأصل فى الأمر أن يكون للوجوب، أى وجوب إيجاد شىء لم يكن له وجود ساعة النطق بفعل الأمر. مثل قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ (¬3) مضمون الأمر وَقاتِلُوا هو الوجوب والأصل فى النهى أن يكون لطلب الكف عن شىء على وجه الجزم، ومثله قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا (¬4). ¬

(¬1) اللسان والمعاجم اللغوية. مادة: نشأ. (¬2) البلاغة الواضحة (مبحث الخبر) حامد عونى وبقية الإيضاح. (¬3) البقرة (190). (¬4) آل عمران (130).

والأصل فى الاستفهام أن يكون لإعلام المستفهم أمرا هو يجهله. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن قوم إبراهيم: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا (¬5). والأصل فى النداء أن يكون لطلب الإقبال المادى الحسى ومثاله فى القرآن الكريم قول الله لموسى عليه السّلام: يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ (¬6). والأصل فى التمنى أن يكون لطلب المستحيل أو ما فيه عسر، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عما يقوله الكافر يوم القيامة: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (¬7). والأصل فى الرجاء أن يكون لطلب الممكن المحبوب. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن قول موسى عليه السلام لأهله: إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ (¬8). هذا هو الأصل فى استعمال هذه الأساليب اللغوية لكن بلاغة القرآن المعجز استعملتها فى معان مجازية أخرى يضيق المقام عن ذكرها، وقد كتبت فيها مجلدات دون الإحاطة بها (¬9). وما لا يدرك كله لا يترك كله لذلك نكتفى بأمثلة يسيرة من الأربعة أساليب المذكورة. فالأمر والنهى يستعملان فى ما يقرب من خمسة وعشرين معنى مجازيا. كالتعجيز المستعمل فيه الأمر فى قوله تعالى مخاطبا منكرى البعث: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (¬10). والإهانة فى قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (¬11). والإرشاد المستعمل فيه النهى فى قوله تعالى: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ (¬12). والدعاء المستعمل فيه النهى فى قوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا (¬13). والالتماس المستعمل فيه النهى فى قوله تعالى حكاية عن قول هارون لموسى عليهما السلام: يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي (¬14). وغير ذلك كثير وكثير، استعمل فيه (القرآن) أسلوبى الأمر والنهى فى معان ¬

(¬5) الأنبياء (62). (¬6) القصص (31). (¬7) النبأ (40). (¬8) طه (10). (¬9) التفسير البلاغى للاستفهام فى القرآن الحكيم. مكتبة وهبة. (¬10) الإسراء (49). (¬11) الدخان (49). (¬12) البقرة (282). (¬13) البقرة (286). (¬14) طه (94).

مجازية، مفعمة بالإيحاءات البيانية، لإقرار الحق وإظهاره، ودحض الباطل والتنفير منه. وأكثر الأساليب الإنشائية خروجا عن معانيها اللغوية إلى معان مجازية فى القرآن الكريم هو الاستفهام، وقد ورد منه أكثر من 1260 صورة، فى القرآن الكريم وكان له شأن عظيم فى نصرة الحق وتجليته، ودحر الباطل ومحوه، والمعانى المجازية التى خرج إليها لا تكاد تحصى، وصوره فى القرآن قسمان. قسم صادر عن الله عز وجل، غير محكى عن غيره. وهذا القسم كل صوره مجازية؛ لأن الله قد أحاط بكل شىء علما، فهو منزه عن أن يستفهم طالبا فهم ما لم يفهمه. وقسم صادر عن غيره وحكاه القرآن. وهذا القسم لا تكاد ترى فيه استفهاما حقيقيا إلا نادرا. ومن صور الاستفهام الصادرة عن الله ما يأتى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (¬15). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو إظهار فضل الله وتكريمه لمحمد صلّى الله عليه وسلم. فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (¬16). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو: الأمر، أى: انتهوا. فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (¬17). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو: التقرير. فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (¬18). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو: التعجيز وإقامة الحجة لله على العباد. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (¬19). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو الحث والترغيب. وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (¬20). والمعنى المجازى الذى خرج هو إيناس موسى عليه السّلام. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (¬21). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو الإنكار على المخاطب. سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (¬22). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التسوية. أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (¬23). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التقرير والإنكار معا بحسب جملتى الاستفهام. أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً (¬24). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التعجيب. ¬

(¬15) الشرح (1). (¬16) المائدة (91). (¬17) يونس (32). (¬18) التكوير (26). (¬19) القمر (17). (¬20) طه (17). (¬21) البقرة (255). (¬22) البقرة (6). (¬23) الصافات (62). (¬24) الفرقان (45).

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (¬25). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التهويل. الخ. أما النداء فهو من الأساليب الإنشائية الكثيرة الشيوع فى القرآن الكريم. وله ما للاستفهام من دور جليل الشأن فى أداءات البلاغة القرآنية، وقل أن تجد فيه نداء غير مستعمل فى المعانى المجازية، التى يقتضيها المقام. وقد بلغت الأصناف التى نوديت فى القرآن أكثر من خمسة عشر صنفا شملت العاقل وغير العاقل. ومن نداءات العاقل فى القرآن الكريم: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ وهو أشرف نداءات القرآن الكريم ومثله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ثم مناداة الرسل المفردة يا إِبْراهِيمُ- يا نُوحُ- يا عِيسى. ويلى هذا النداء فى الشرف: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- يا عِبادِيَ ومن نداء غير العاقل فى القرآن الكريم قوله تعالى: يا جِبالُ .. (¬26) يا أَرْضُ ... يا سَماءُ (¬27) يا أَيُّهَا النَّمْلُ (¬28) والمنادى فى القرآن الكريم باعتبار لفظه أربعة مجموعات (¬29): الأولى: نداء أفراد، مثل: يا آدم، يا إبراهيم، يا موسى. الثانية: نداء مثنى، وهو نادر، مثل: يا صاحبى السجن. الثالثة: نداء جماعات مخصوصة، مثل: يا قوم- يا أيها الذين آمنوا، يا أيها الملأ، يا أيها الذين هادوا. الرابعة: نداء جماعات عامة شاملة، مثل: يا أيها الناس، يا بنى آدم. ولكل مجموعة من هذه المجموعات الأربعة غرض خاص يناسب نداءها فى دقة وإحكام. فمثلا يا أَيُّهَا النَّاسُ يأتى عقب ندائها أمر عام يشمل جميع أفراد المنادى. كما جاء فى مطلع سورة «النساء» يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ لأن المخاطبين بالنداء- هنا- ينطبق عليهم هذا الوصف أعنى الخلق من نفس واحدة. وكذلك ما جاء فى مطلع سورة الحج: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا ¬

(¬25) الفيل (1). (¬26) سبأ (10). (¬27) هود (44). (¬28) النمل (18). (¬29) عبد المتعال الصعيدى.

أَرْضَعَتْ فالناس كلهم مطالبون بتقوى الله (التكليف) وهم كلهم سيرون أهوال القيامة أما نداء الذين آمنوا فلا يأتى بعده إلا أمر خاص بالإيمان، وتابع له. مثل قوله تعالى فى مطلع سورة «الحجرات» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فالتزام الأدب والإذعان بين يدى الله ورسوله أمر خاص بالمؤمنين. ونداءات القرآن، وبخاصة ما كان صادرا عن الله عز وجل، خرجت إلى معنى مجازى غير طلب الإقبال المادى الحسى. وهذا هو مكمن البلاغة فى نداءات القرآن الكريم. فمثلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى المراد منه الإقبال الذهنى المعنوى. لتنفرغ أنفس المنادين من كل الشواغل لتلقى ما يتلى عليها فتعيه أكمل وعى. وهكذا كل معانى القرآن الكريم من نداءات. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى المصادر والمراجع:

الإطناب

الإطناب من معانى الإطناب فى اللغة: الإكثار والتطويل، والمبالغة فيما أخذ فيه المرء، ومثله الإسهاب. أما اصطلاح علماء المعانى، فإن ما قالوه فى الإطناب لا يخرج عن معانيه فى اللغة، التى تدور حول كثرة الكلام باعتبار المقام الوارد فيه الكلام، والمعانى التى تراد منه، لا مجردا عن هذه القيود. فالإطناب- عموما- المبالغة فى النطق والوصف، مدحا كان أو ذما، وأطنب فى الكلام بالغ فيه وأطنب فى الوصف إذا بالغ واجتهد. وأطنب فى الكلام أيضا إذا أبعد. وأطنب الإبل إذا اتبع بعضها بعضا (¬1). والإطناب فى الاصطلاح البلاغى له اعتبارات وخصوصيات تميزه عن مفهوم الإطناب بالمعنى اللغوى العام. فالمعنى اللغوى يعتمد على مقياس الزمن الذى يستغرقه الكلام طولا وقصرا. أما فى الاصطلاح البلاغى فإن منزع الإطناب يحصل من المقارنة بين الكلام وبين المعانى المرادة منه، سواء طال زمن الكلام أو لم يطل. لذلك فإنهم فرّعوا على تعريفهم للإطناب صورا ذوات خصوصيات دقيقة، ومعايير فنية محددة أما تعريف الإطناب عندهم، فقد عرفه الإمام أبو يعقوب السكاكى بقوله: «هو تأدية المعنى بأكثر من متعارف الأوساط» (¬2). ويقصد ب «متعارف الأوساط» الحديث اليومى الذى يجرى بين الناس فى تعاملاتهم، وهو عنده لا يمدح ولا يذم (¬3). وفى الواقع نجد الإطناب أحد أوصاف ثلاثة للكلام عموما: فهو إما أن يكون اللفظ مساويا لمعناه وإما أن يكون اللفظ ناقصا عن معناه غير مخل وإما أن يكون اللفظ زائدا على معناه لفائدة وعرفه ابن الأثير ممثلا له فقال. «هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة (¬4)» وقال: إن الإطناب يكون بالحقيقة، ويكون بالمجاز، مثل: «ذقته بفمى» فإن كلمة «بفمى» إطناب لأن الإذاقة لا تكون إلا بالفم. وأما الزيادة (الإطناب) بالمجاز فكقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (¬5). لم يبين ابن الأثير جهة التجوز التى حصل ¬

(¬1) اللسان، ترتيب القاموس، مادة: طنب. (¬2) مفتاح العلوم (132). (¬3) شرح التلخيص (2/ 159) وما بعدها. * الطول (282). * الأطول (2/ 32). * التلخيص (209). (¬4) المثل السائر (2/ 128/ 159). (¬5) الحج (46).

بها الإطناب ولعله أراد أن الاستدراك فى وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أن فِي الصُّدُورِ إطناب، لأن المعروف أن القلوب لا تكون إلا فى الصدور، فإن كان أراد هذا فقد جانبه الصواب؛ لأن هذه العبارة لا مجاز فيها. وإن أراد إثبات عمى القلوب، فهو مجاز حقا، ولكن الجملة الاستدراكية، هذه ليست إطنابا، لأنها أدت معنى جديدا كل الجدة. ومن صور الإطناب فى القرآن الكريم قوله تعالى: قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (¬6). جاءت هذه العبارة جوابا عن سؤال الله موسى عليه السّلام- وهو أعلم-: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى وقد تحقق الجواب بقوله: هِيَ عَصايَ وكان يكفى أن يقول عَصايَ بدون ذكر هِيَ وبدون ذكر أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى. وبلاغة هذا الإطناب أن موسى عليه السّلام زادت رغبته فى التمتع بحديثه مع الله عز وجل. ومن صور الإطناب فى القرآن الكريم- كذلك قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (¬7). لأن كلمة الْمُسْتَقِيمَ كافية فى بيان المراد فجاء ما بعدها إطنابا، وبلاغة هذا الإطناب شدة الرغبة فى مقام المناجاة والدعاء فى حضرة الله عز وجل، والتلذذ بخطابه. هذا. والإطناب جنس عام فى بابه. تندرج تحته صور عدة، لكل صورة منها اسم خاص بها، وضوابط تميزها عن نظيراتها، ومعان بلاغية يقصدها البلغاء منها ومقامات تقتضى استخدام تلك الصور صورة صورة. يأتى الحديث عنها تباعا فى الآتى. أ. د./ عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬6) طه (18). (¬7) فاتحة، الكتاب (6 - 7).

التتميم

التّتميم التتميم فن بديعى، وصورة من صور الإطناب كالاعتراض، والتذييل والإيغال، ومعناه فى اللغة زيادة الناقص ليكون تاما (¬1). أما فى اصطلاح البلاغيين فله عدة تعريفات وضوابط وقد سماه قدامة بن جعفر ب «التمام (¬2)» وسماه الحاتمى وآخرون ب «التتميم (¬3)» وهو ما عليه جمهور البلاغيين (¬4). وسماه أبو هلال العسكرى: التتميم والتكميل، وغيره من البلاغيين لا يخلطون بين التتميم والتكميل، بل لكل منهما معنى خاص به. ثم عرفه قائلا: وهو أن توفّى المعنى حقه، وتعطيه نصيبه من الصحة. ثم لا تغادر معنى فيه تمامه ألا تورده، أو لفظا يكون فيه توكيده ألا تذكره» وعرفه ابن أبى الأصبع فقال (¬5): «أن تأتى فى الكلام كلمة إذا طرحت من الكلام نقص معناه فى ذاته، أو فى صفاته. وإن كان من الموزون نقص وزنه مع معناه، فيكون الإتيان بها- أى بالكلمة المسماة تتميما- لتتميم الوزن والمعنى معا» (¬6). وقد أخذ هذا التعريف وعدّله ابن حجة الحموى فى القرن الثامن الهجرى فقال: التتميم هو «الإتيان فى النظم والنثر بكلمة، إذا طرحت من الكلام نقص حسنه ومعناه، وهو على ضربين: ضرب فى المعانى، وضرب فى الألفاظ. فالذى فى المعانى هو تتميم المعنى. والذى فى الألفاظ هو تتميم الوزن، والمراد هنا تتميم المعنى. ويجيء- أى التتميم عموما- للمبالغة والاحتياط كقول طرفة: فسقى ديارك- غير مفسدها- ... صوب الغمام وديمة تهمى» (¬7) فالتتميم يرد فى النثر والشعر معا. وموضعه فى هذا البيت هو عبارة (غير مفسدها) وهى جملة حالية المراد منها الدعاء. ومن أمثلته فى القرآن الكريم قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً (¬8). «فقوله مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى تتميم، وقوله وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميم ثان وبهذين التتميمين تم الكلام وجرى على الصحة» (¬9). ¬

(¬1) اللسان، وترتيب القاموس، مادة: تم. (¬2) نقد الشعر (49). (¬3) حلية المحاضرة (1/ 153). * المطول (296). * الأطول (2/ 47). (¬4) شروح التلخيص (3/ 235) مطبعة السعادة القاهرة 1343 هـ. * معترك الأقران (1/ 269) دار الفكر العربى- القاهرة. (¬5) الصناعتين (308) مطبعة محمود بك الآستانة 1377 هـ. (¬6) بديع القرآن المجيد (45) دار نهضة مصر- القاهرة ط أولى (1919 هـ). (¬7) خزانة الأدب (1/ 271) ط. أولى. دار ومكتبة الهلال بيروت 1987 م. (¬8) النحل (97). (¬9) بديع القرآن (46).

ومنه قوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (¬10) فقوله تعالى عَلى حُبِّهِ «هو تتميم للمبالغة التى تعجز عنها قدرة المخلوقين» (¬11). والضمير فى حُبِّهِ يجوز عوده على الطعام، أى يطعمون الطعام مع شدة اشتهائهم إياه. وحاجتهم إليه لما بهم من جوع. ويجوز عوده على «الله» عز وجل، أى يطعمون الطعام لا رياء وإنما على حب الله عز وجل. ويرجح هذا قوله بعد الآية المتقدمة. إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً ومن التتميم فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (¬12). فقوله تعالى: وَما كانَ مُنْتَصِراً تتميم؛ لأن ما قبله إعلام بأن المتحدث عنه مقطوع عنه سبب النصر من خارج نفسه، وهذا لا يمنع أن يكون هو قادرا على نصر نفسه، فلما قال: وَما كانَ مُنْتَصِراً تم المعنى المراد من جهتين: الأولى: نفى نصر الأعوان. الثانية: نفى نصر نفسه. إذن، فلا هو منصور بأعوانه، ولا منصور قطعا سواء كان له أعوان، أو لم يكن. ومنه قوله تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها .. (¬13) فكل من: يمشون بها- يبطشون بها- يبصرون بها- يسمعون بها .. من صور التتميم، لأن المراد من الاستفهام فى المواضع الأربعة النفى، أى لا أرجل لهم، ولا أيدى لهم، ولا أعين لهم، ولا آذان لهم، ونفى وظائف هذه الأعضاء وإن كان مفهوما من نفى الأعضاء، فإن ذكر ما يختص بكل عضو منها تمم المعنى وحسّنه. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى المصادر والمراجع: ¬

(¬10) الإنسان (8). (¬11) خزانة الأدب (273). (¬12) الكهف (43). (¬13) الأعراف (195).

التذييل

التّذييل الذيل فى اللغة هو آخر الشيء، مأخوذ من ذيل أو ذنب الحيوانات ذوات الأربع، والحشرات الزاحفة، وذيّل فلان ثوبه، أى طوّله وجعل له ذيلا (¬1). أما تعريفه فى اصطلاح علماء المعانى، فقد قال فيه أبو هلال العسكرى: «للتذييل فى الكلام موقع جليل، ومكان شريف خطير لأن الحق يزداد به انشراحا، والمقصد اتضاحا وقال بعض البلغاء للبلاغة ثلاثة مواضع: الإشارة والتذييل والمساواة ... فأما التذييل فهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى بعينه حتى يظهر لمن لم يفهمه، ويؤكد عند من فهمه ... وينبغى أن يستعمل فى المواطن الجامعة، والمواقف الحافلة لأن تلك المواطن تجمع البطىء الفهم، والبعيد الذهن، والثاقب القريحة، والجيد الخاطر. فإذا تكررت الألفاظ على المعنى الواحد، تأكد عند الذهن اللقن (الذكى) وصح للكليل البليد» (¬2). وذكر ابن حجة الحموى تعريفا للتذييل ارتضاه البلاغيون من قبله ومن بعده، وهو: «أن يذيّل الناظم أو الناثر كلاما بعد تمامه وحسن السكوت عليه، بجملة تحقق ما قبلها من الكلام وتزيده توكيدا، وتجرى مجرى المثل بزيادة التحقيق؟؟ (¬3). يعنى أن التذييل صورة من صور الإطناب لأنه يفيد تقرير معنى ما قبله وتزيده وضوحا وموقف البلاغيين- عموما- لم يختلف عما ذكره الحموى من مفهوم التذييل (¬4). والتذييل كثير الورود فى القرآن الكريم، فى فواصل الآيات، التى هى معاقد المعانى فيها. وكان البلاغيون قد قسموا التذييل قسمين: أحدهما ما يجرى مجرى المثل. والثانى، ما لا يجرى مجرى المثل، وكلاهما ورد فى القرآن الكريم. فمن القسم الأول قوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (¬5). فالجملة الأخيرة إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً هى التذييل. فيها تقرير وتوكيد لمعنى الكلام الذى قبلها. وهى جارية مجرى ¬

(¬1) اللسان، وترتيب القاموس، مادة: ذيل. (¬2) الصناعتين (294). (¬3) خزانة الأدب (1/ 242). * المطول (294).* الأطول (2/ 45).* شرح عقود الجمال (74). (¬4) شروح التلخيص (3/ 235). (¬5) الإسراء (81).

المثل. ومعنى جريانها مجرى المثل، أنه يصح ذكرها فى المقام الذى يستدعيها، دون افتقارها إلى الاعتماد على ذكر ما قبلها. ومنه قوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (¬6) فجملة وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ تزييل مؤكد ومقرر لمعنى ما قبلها ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وهو جار مجرى المثل السائر، فيقال: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ- دون أن يفتقر إلى ما قبله. وقد يأتى التذييل فى القرآن الكريم فى غير الفواصل ومنه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (¬7) فى هذه الآية تذييلان: الأول: وقع فى درج الكلام لا فى الفاصلة، وهو وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ. والثانى: وقع فى الفاصلة وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وفى كلا التذييلين تقرير لمعنى ما تقدم عليه، وتوكيد له. ومن التذييل فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ (¬8). لأن فى الآية الأولى وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ حكما عاما شاملا لزوال كل البشر، فجاءت الآية الثانية: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ مؤكدة لذلك المعنى، ومقررة له. وهى ليست فاصلة بل هى آية قائمة بذاتها. فمجيء التذييل فى الفواصل أغلب لا مطرد. وهو تذييل جار مجرى المثل، لصحة ترديده دون الافتقار إلى ما قبله. ومن التذييل غير الجارى مجرى المثل قوله تعالى: وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (¬9). فقوله إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ تذييل غير جار مجرى المثل، مؤكد لمعنى الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ ومقررة له وهو كثير فى فواصل الآيات. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬6) سبأ (17). (¬7) التوبة (111). (¬8) الأنبياء (34). (¬9) الأنبياء (74).

التكرار

التّكرار التكرار فى اللغة تدور معانيه حول الإعادة، ويكون فى الأفعال كتكرار الزيارة ونحوها، ويكون فى الأقوال وهو إعادة الكلمة، أو الكلام مرتين أو أكثر، وهو المقصود لنا هنا؛ لأن التكرار فن يمارسه المتكلمون كثيرا فإذا دعت إليه حاجة، كان حسنا مقبولا، وإذا لم تدع إليه حاجة، ولم يفد فائدة جديدة كان عيبا مذموما وهو من الأساليب الشائعة فى اللغة العربية، وفى غيرها من اللغات. وقد عرّفه الفرّاء العالم اللغوى بقوله: «والكلمة قد تكررها العرب على التغليظ والتخويف (¬1)» وسماه أبو عبيدة مجاز التكرار (¬2). وعرض له الإمام الخطابى فقال: «تكرار الكلام على ضربين: مذموم وهو ما كان مستغنيا عنه، غير مستفاد به زيادة معنى لم يستفد من الكلام الأول، لأنه حينئذ يكون فضلا- يعنى فضلة- من القول ولغوا، وليس فى القرآن شىء من هذا النوع. والضرب الآخر- يعنى الممدوح- ما كان بخلاف هذه الصفة، فإن ترك التكرار فى الموضع الذى يقتضيه وتدعو الحاجة إليه، فيه إخلال بالبلاغة، مثل تكلف الزيادة فى وقت الحاجة إلى الحذف والاختصار، وإنما، يحسن فى الأمور المهمة، التى قد تعظم العناية بها، ويخاف بتركه وقوع الغلط والنسيان فيها، والاستهانة بقدرها» (¬3). وهو من الأساليب التربوية، لأن الكلام إذا تكرر تقرر فى الذهن. وقد ورد التكرار فى القرآن الكريم بكثرة لخدمة المعانى وتوكيدها، ولوروده فى القرآن دواع بلاغية متفاوتة، ومزايا فنية آسرة. وله صور يأتى فيها منها: * تكرار الأداة مثل «إن» و «ثم» * تكرار الكلمة، مثل «أولئك». * تكرار الجملة، مثل فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. * تكرار الأوامر والنواهى، فى العبادات والمعاملات وغيرهما. * تكرار القصة (¬4). ¬

(¬1) معانى القرآن الكريم للفراء (3/ 287) وينظر (1/ 177). (¬2) مجاز القرآن (1/ 12). (¬3) بيان إعجاز القرآن الكريم (47) ضمن ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن ط: دار المعارف- القاهرة. الطبعة الرابعة. (¬4) خصائص التعبير فى القرآن الكريم وسماته البلاغية (القسم الأول) مكتبة وهبة- القاهرة.

ولم يخل موضع واحد من مواضع التكرار فى القرآن الكريم من فائدة عظيمة، وسر بلاغى من أجله كان التكرار، من ذلك: * تأكيد الإنذار فى قوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (¬5). * تأكيد الإنكار، مثل قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. وقد تكررت هذه العبارة فى سورة الرَّحْمنُ واحدة وثلاثين مرة، بعد تعديد نعم الله على الثقلين الإنس والجن ومع كثرة تكرارها تجد لها حلاوة فى السمع، ووقعا فى النفس، وحياة فى القلب. * تأكيد التعجيب من صنع الله عز وجل بالمكذبين الضالين فى قوله عز وجل: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (¬6). * تأكيد التنبيه وزيادته، كما فى قوله تعالى: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ (¬7). كرر يا قَوْمِ مؤكدا لهم هدايته إليهم سبيل الرشاد وقد تضمن هذا التكرار الإشارة إلى فناء الدنيا وفناء ما فيها من لذائذ ومشتهيات. وقد يكرر اللفظ لطول الكلام مع زيادة التوكيد كما فى قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (¬8). فقد تكرر فى هذه الآية العبارات الآتية: إِنَّ رَبَّكَ وقد تقدمت فى صدر الآية. بَعْدِها وقد تقدم عليها قوله مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وأفاد هذا التكرار فائدتين: الأولى: تكرار التأكيد، ومن دواعى التأكيد مقامات الوعد والضمان. الثانية: طول الفصل بين «إن» واسمها، وبين خبرها، وهو لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. * وقد يأتى التكرار لتفظيع وتهويل ما اقترفه المتحدث عنهم، كما فى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (¬9). هذا التكرار المتواصل فى الآية، فيه تفظيع لما كان يقترفه المنافقون من التذبذب بين الإيمان والكفر، ثم إيثارهم الكفر على الإيمان فى عاقبة أمرهم فى الحياة الدنيا. ¬

(¬5) التكاثر (3 - 4). (¬6) القمر (16). (¬7) غافر (38 - 39). (¬8) النحل (119). (¬9) النساء (137).

أما التكرار فى القصة القرآنية فأسراره البلاغية لا تحصر، ويكفى أن نشير إلى ملامح عامة جاء التكرار فى إطارها. فأولا: لم تكرر قصة فى موضعين أو أكثر على نمط واحد قط. وثانيا: يتراوح تكرار القصة القرآنية بين الطول والقصر. وثالثا: كل صورة ترد عليها القصة المكررة تحمل جديدا فى الصياغة والمعنى لم يرد فى غيرها. ورابعا: كل نمط من أنماط التكرار مناسب للمقام الذى ورد فيه. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى المصادر والمراجع:

التكميل

التّكميل التكميل صورة أخرى من صور الإطناب، قريب الشبه بالإيغال والتتميم، ولقرب التشابه بينها يمكن أن يصلح مثال واحد للاستشهاد على كل منها. والتكميل لغة زيادة الشيء حتى يبلغ النهاية، والكامل ضد الناقص وفوق التام. فالشىء يكون ناقصا، ثم يصير بعد النقص تاما، ثم يصير كاملا بحيث لا يقبل الزيادة (¬1). أما تعريف التكميل فى اصطلاح البلاغيين، فتتعدد عباراته ويتقارب أو يتوحد معناه، ومن تلك التعريفات عرّفه الباقلانى فقال: «ومن البديع التكميل والتتميم، وهو أن يؤتى بالمعنى الذى بدأ به بجميع المعانى المصححة المتممة لصحته المكملة لجودته من غير أن يخل ببعضها، ولا أن يغادر شيئا منها» (¬2). وقال التبريزى: «التكميل أن يذكر الشاعر المعنى، فلا يدع من الأحوال التى تتم بها صحته، وتكمل شيئا إلا أتى به (¬3)» أما ابن أبى الأصبع فعرفه بقوله: «أن يأتى المتكلم أو الشاعر بمعنى من معانى المدح أو غيره من فنون الشعر وأغراضه، ثم يرى مدحه والاقتصار على ذلك المعنى فقط غير كامل فيكمله بمعنى آخر» (¬4) وقال الخطيب القزوينى: «الإطناب بالتكميل أو الاحتراس هو أن يؤتى فى كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه ... » (¬5) وهذا التعريف هو أوجز هذه التعريفات وأحكمها وقد قسم فيه التكميل قسمين، فقال: «وهو ضربان: ضرب يتوسط الكلام كقول طرفة: فسقى ديارك- غير مفسدها- ... صوب الربيع وديمة تهمى وضرب يقع فى آخر الكلام، كقوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ (¬6). ثم قال مبينا موضع التكميل: ¬

(¬1) اللسان، وترتيب القاموس، مادة: كمل. (¬2) إعجاز القرآن الكريم (160) طبعة قديمة. (¬3) الوافى (374). (¬4) بديع القرآن (151). (¬5) الإيضاح (202) طبعة قديمة. (¬6) المائدة (54).

«فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين لفهم أن ذلتهم لضعف، فلما قال: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ علم أنها تواضع منهم لهم. ومن أمثلته فى القرآن الكريم، ولم يذكرها الخطيب قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (¬7). وهذا عكس الأول. لأن فيه استدراكا من ضعف أما هذا ففيه استدراك من قسوة، لأنه لو لم يذكر رُحَماءُ بَيْنَهُمْ لوقع فى بعض النفوس وهم أنهم قساة فى التعامل. ولكن لما قال: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ علم أن مبعث شدتهم هو عدم موالاتهم لأهل الكفر وبخاصة أن الكفار فى عصر نزول القرآن كانوا شديدى القسوة على المؤمنين، فعاملهم المؤمنون بالمثل. ويجوز أن يكون التكميل هو الأول، فيكون من الاستدراك من الضعف، يعنى أنهم يستعملون الشدة فى مواضع الشدة، ويستعملون اللين فى مواضع اللين. وقال ابن أبى الأصبع: «ومن أحسن ما جاء فى هذا الباب وأنصعه قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (¬8). قال: «فإن المعنى قد تم عند قوله: ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ لكن يبقى على ظاهر الآية إشكال من جهة أن الضعيف إذا سمع قوله بعد حكاية التكذيب لنبيه أمر نبيه أن يقول: إن ربهم ذو رحمة واسعة، مقتصرا على ذلك، يتوهم أن رحمته لسعتها ربما شملت من كذب نبيه، فاحترس من هذا الاحتمال، بما جاء به مكملا للمدح بالانتقام من الأعداء، كما يمدح- يعنى الله- بالرحمة للأولياء فقال: وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فجعل الوعيد للمكذبين، بعد تقديم الوعد للمصدقين، فإن البلاغة توجب أن تكون الرحمة الموصوفة بالسعة للمحسنين ليقابل ذلك قوله: وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (¬9) وهذا توجيه سديد، وفهم ثاقب لدقائق كتاب الله العزيز، وروائع أسراره. وبمثل هذا التوجيه السديد وجّه المؤلف قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (¬10) قال: فإن التكميل أتى فى هذه الآية بعد صحة التقسيم لأن الكذب .. على قسمين: قسم مطلق، وقسم مقيد، فالمطلق قوله ¬

(¬7) الفتح (29). (¬8) الأنعام (147). (¬9) بديع القرآن (144). (¬10) الأنعام (93).

تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً والمقيد قوله تعالى: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ .. ثم المقيد أيضا على قسمين فى هذه الآية: قسم كذب الكاذب فيه على الله سبحانه، وقسم كذب الكاذب فيه على نفسه: فالأول أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ والثانى قوله سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ولو وقع الاقتصار على قوله أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ لكان المعنى المراد تاما .. لكن الله كمله بقوله: وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (¬11). أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى المصادر والمراجع: ¬

(¬11) بديع القرآن (145).

الاعتراض

الاعتراض من معانى الاعتراض فى اللغة الإعاقة والدفع، يقال اعترضه وعرض له: وقف فى طريقه، ومنعه من التقدم، وأعرض عنه: انصرف عنه، وعرّضه: جعله عرضة لكذا، واعترض كذا: حال دونه (¬1). وقد أكثر الأدباء والنقاد فى تعريفه، وفى تحديد معناه. وأوردوا فيه ما لم يوردوه فى فنون القول: فبعضهم يسميه التفاتا. قال الحاتمى عن الالتفات: وقد سماه قوم الاعتراض (¬2). ونحا ابن رشيق هذا المنحى (¬3). أما ابن المعتز فكان أقرب القدماء إلى تحديد هذا المعنى إذ قال: «ومن محاسن الكلام والشعر أيضا: اعتراض كلام فى كلام لم يتم معناه، ثم يعود إليه فيتمه فى بيت واحد» (¬4). واستشهد عليه ببيت كثير عزة: لو أن الباخلين- وأنت منهم- ... رأوك تعلموا منك المطالا والاعتراض فى بيت كثير حصل بجملة: «وأنت منهم» حيث جاءت معترضة بين كلامين متصلين معنى، وهما: لو وأن واسمها، ثم جواب لو، وخبر أن. وأصل الكلام: لو أن البخلاء رأوك تعلموا منك البخل والمراد من هذا الاعتراض العتاب والشكوى من الحبيبة إليها. وفى القرن السادس الهجرى حسم الخطيب القزوينى الأمر فوضع للاعتراض تعريفا جامعا مانعا، قال فيه: «هو أن يؤتى فى أثناء الكلام، أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر، لا محل لها من الإعراب لنكتة» (¬5) وتابعه عليه من جاء بعده من البلاغيين، ومنهم شراح التلخيص (¬6). والاعتراض من الفنون البلاغية التى كثر ورودها فى القرآن الكريم، وأريد منه معان غاية فى الروعة والإحكام. ومن ذلك قوله تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ¬

(¬1) اللسان، وترتيب القاموس لطاهر الزاوى، مادة: عرض. (¬2) حلية المحاضرة (1/ 157). (¬3) العمدة لابن رشيق (2/ 54). (¬4) البديع لابن المعتز (59). (¬5) التلخيص (116). * البرهان فى علوم القرآن الكريم (3/ 56) (¬6) الطراز (2/ 167). * عروس الأفراح، لبهاء الدين السبكى (3/ 237). * المطول (296).

فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (¬7). فجملة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ من كلام الله الخالص لا من كلامه المحكى عن امرأة عمران. وهى جملة اعتراضية، وسرها البلاغى الذى جىء بها من أجله دفع توهم غير المراد، حتى لا يقع فى فهم أحد أن قول امرأت عمران: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى إخبار منها لله بأمر هو لا يعلمه- حاش لله- بل إنها تعتذر إلى الله وتتحسر على عدم استطاعتها الوفاء بنذرها؛ لأنها نذرت أن تهب ما فى بطنها لخدمة بيت المقدس والذى يصلح لتأدية هذه الخدمة الذكور دون الإناث. وقوله عز وجل: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (¬8). أصل الكلام هنا: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ... وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ولو لم تأت الجملة الاعتراضية بين نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وبين وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ لتوهم متوهم، أو لادّعى متزندق أن الله- سبحانه كذّب قول المنافقين أن محمدا صلّى الله عليه وسلم رسول الله. وأن فى هذا نفى أن يكون محمد صلّى الله عليه وسلم رسولا من عند الله. ولدفع ذلك التوهم، وقطع طرق ادعاء المتزندقين جىء بهذه الجملة الاعتراضية وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وقد تحول بها قول الله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ إلى فضح هؤلاء المنافقين، وأنهم يقولون بألسنتهم ما لم تعتقده قلوبهم. أى هم كاذبون فى شهادتهم، لا من حيث أن محمدا صلّى الله عليه وسلم ليس رسولا من عند الله- ولكن من حيث أنهم لا يؤمنون بهذه الرسالة، التى أثبتها الله لمحمد بأقطع البراهين (¬9). وقوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ ¬

(¬7) آل عمران (35 - 36). (¬8) المنافقون (1). (¬9) الكشاف (4/ 107).

سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (¬10) فقوله: سُبْحانَهُ- اعتراض بين المعطوف عليه: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ وبين المعطوف: وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ. والمراد من هذا الاعتراض بلاغة هو تنزيه الله عز وجل عما نسبوه إليه اتباعا لأهوائهم وزيغ قلوبهم. أ. د./ عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬10) النحل (57).

الاستقصاء

الاستقصاء الاستقصاء لغة: التتبع والإبعاد، وقصى فلان بعد. واستقصيت الأمر تتبعته حتى نهايته (¬1) والاستقصاء فى اصطلاح البلاغيين: أن يتناول الشاعر (أو المتكلم) معنى فيستقصيه إلى أن لا يترك فيه شيئا لأحد يقوله من بعده (¬2). وتحدث عنه الإمام عبد القاهر الجرجانى، ومثّل له بكلامين من شعر ابن المعتز معناهما العام واحد، إلا أن أحدهما استقصى كل ما يمكن أن يقال فى هذا المقام أما الثانى فقد خلا من الاستقصاء، وترك لقائل آخر فيه مقالا (¬3). وليس الاستقصاء خاصا بالشعر، ولا بكلام الناس بل ورد منه نماذج كثيرة فى كتاب الله العزيز ذكر منها البلاغيون قوله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (¬4). ففي هذه الآية ضروب وألوان من الاستقصاء، هذا بيانها. «وذلك أنه سبحانه بعد قوله جَنَّةٌ التى لو اقتصر على ذكرها لكان كافيا، لم يقف عند ذلك حتى قال فى تفسيرها مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لأن لفظة الجنة تطلق على أى شجر ساتر بظل ورقه الأرض فإذا قال مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ كان مصاب ربها «صاحبها» بها أعظم. ثم لم يقف عند ذلك. حتى قال سبحانه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ متمما لوصفها بذلك. ثم كمل وصفها بأن قال عز وجل: فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ لأن وصفها بالنخيل والأعناب لا يكون به وصفا كاملا. فأتى بكل ما يكون فى الجنان ليشتد الأسف على إفسادها. ثم قال فى وصف صاحب الجنة وَأَصابَهُ الْكِبَرُ ثم استقصى المعنى فى ذلك بما يوجب تعظيم المصاب بقوله بعد وصفه بالكبر وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ حتى وصف الذرية بالضعف، ثم ذكر استئصال تلك الجنة التى ليس لهذا ¬

(¬1) لسان العرب مادة: قصا. (¬2) تحرير التحبير (540) وبديع القرآن المجيد (247). (¬3) أسرار البلاغة (152 - 153) ت: محمد رشيد رضا. (¬4) البقرة (266).

الذى أصابه الكبر، وليس لذريته الضعفاء غيرها بالهلاك في أسرع وقت، حيث قال: فَأَصابَها إِعْصارٌ ... ولم يقتصر على ذلك الإعصار ... فقال فِيهِ نارٌ ثم لم يقف عند ذلك حتى أخبر سبحانه باحتراقها؛ لاحتمال أن تكون النار ضعيفة لا تفى باحتراقها لما فى الجنة من الأنهار ورطوبة الأشجار، فاحترس بقوله فَاحْتَرَقَتْ وهذا أحسن استقصاء وقع فى كلام، وأتمه وأكمله» (¬5). ومن صور الاستقصاء فى القرآن الكريم، ولم يذكره الأقدمون قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬6). فقد استقصت هذه الآية كل صفات الجلال والكمال والجمال لله عز وجل. وبلاغة الاستقصاء فى شموله للمعانى التى يقتضيها المقام والاستئثار بها، وسد كل فجوة يمكن أن تدع مقالا للاحقين. فهو الكلمة الأخيرة فى موضوعه. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬5) بديع القرآن المجيد (249 - 250) ومعجم المصطلحات البلاغية (194) د. أحمد مطلوب. (¬6) آل عمران (26).

الإيضاح

الإيضاح ومن الإطناب فن يقال له الإيضاح، والإيضاح والتوضيح لغة: الكشف والإبانة- ورفع الغموض يقال: وضح الشيء وضوحا إذا ظهر وانكشف، وأوضحه ووضحه. أبانه وأظهره، وأزال ما به من غموض (¬1). ومنه: الضحى؛ لأنه أول النهار بعد ذهاب الليل. أما تعريف الإيضاح بلاغة، فقد عرفه ابن أبى الأصبع بقوله: «هو أن يذكر المتكلم كلاما فى ظاهره لبس، ثم يوضحه فى بقية كلامه» (¬2). وتناقل البلاغيون عن ابن أبى الأصبع هذا التعريف كابن مالك (¬3). والنويرى (¬4)، والعلوى (¬5)، والحموى (¬6)، والسيوطى (¬7)، والمدنى (¬8). وفرق ابن أبى الأصبع بين التفسير، وبين الإيضاح بأن التفسير البديعى هو تفصيل المجمل مثل: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر أما الإيضاح فخاص برفع ما يظهر فى الكلام من لبس وإشكال فيه لفتا للذهن عند سماع الكلام. والإيضاح ورد فى كتاب الله العزيز مرات، وكان له دلالات حكيمة، اقتضاها المقام، فمن ذلك قوله تعالى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً (¬9). هذه الآية تتحدث عن نعيم أهل الجنة وطعامهم وأنهم يقولون كلما يرزقون طعاما. هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ. لكن كلامهم هذا الذى حكاه الله عنهم يثير فى نفس السامع تساؤلا فحواه: هل طعام أهل الجنة نوع واحد يتناولونه فى كل وجبة لا يتغير؟ ومتعة الطعام فى تنوعه لا فى توحده؟! ولكن لما قال عز وجل: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ارتفع ذلك التساؤل لأن هذه العبارة أفادت أن طعام أهل الجنة متنوع مختلف لكنه متشابه، فوضح الأمر؛ لذلك كان قوله سبحانه. وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً إيضاحا؛ لأنه رفع الإشكال الذى ثار فى الذهن من قولهم: ¬

(¬1) اللسان ومعاجم اللغة، مادة: وضح. (¬2) بديع القرآن (259) وتحرير التحبير (559). (¬3) المصباح (9) (¬4) نهاية الأرب (7/ 119). (¬5) الطراز (3/ 101). (¬6) خزانة الأدب (2/ 383). (¬7) شرح عقود الجمان (140). (¬8) أنوار الربيع (6/ 31). (¬9) البقرة (25).

هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وهذا ملمح دقيق لطيف كما ترى. ومن الإيضاح فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (¬10). هذا خطاب من الله لليهود وقت كان القرآن ينزل. وهو وقت خلا من أنبياء الله عز وجل إلا محمدا صلّى الله عليه وسلم. كما أن اليهود الذين خاطبهم القرآن فى عصر النزول لم يقتلوا نبيا، وإنما الذى قتل الأنبياء هم آباؤهم الأقدمون. لذلك كان فى قوله تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ إشكال، حاصله أن اليهود فى عصر الرسالة المحمدية لم يكن منهم قتل للأنبياء وإن كان منهم كفر برسالة خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلم. ولكن لما قال الله عقب هذا مِنْ قَبْلُ زال الإشكال واستقام التاريخ على سوقه وظهر أن الذى كان يقتل الأنبياء هم يهود الأمس لا يهود عصر نزول القرآن. وإنما واجه الله بهذه الجريمة غير فاعليها المباشرين، وهم يهود عصر الرسالة المحمدية، لأنهم راضون بما فعل أسلافهم، فصاروا مثلهم فى اقتراف هذه الجريمة النكراء. ومن الإيضاح فى القرآن الكريم قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (¬11). لأن فى قوله تعالى وَأُولِي الْأَمْرِ إشكالا، لأنه يشمل كل ولاة الأمر، وإن كانوا من غير المؤمنين. وهذا لم يؤذن به فى الإسلام. فلما قال عز وجل مِنْكُمْ ارتفع الإشكال، وحصرت ولاية الأمر فى المؤمنين دون غيرهم من أولياء الأمر والسلاطين. إذن معنى قوله مِنْكُمْ إيضاح كاشف لحقيقة المراد. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى المصادر والمراجع: ¬

(¬10) البقرة (91). (¬11) النساء (59).

الإيغال

الإيغال الإيغال فى اللغة السير حتى النهاية، حسيا كان أو معنويا، ومن معانيه المبالغة فى الطلب حتى لا يترك شيئا يمكن الوصول إليه (¬1). وأصله: الإوغال؛ لأنه من أوغل يوغل. سكنت الواو بعد كسر فقلبت ياء، كأوحى إيحاء، وأوعز إيعازا. ومعناه الاصطلاحى عند البلاغيين مطابق لمعناه عند اللغويين، وقد مهد الأصمعى لإبراز هذا المعنى فكان سابقا فيه غير مسبوق، ولكنه لم يسمه بهذا الاسم (الإيغال) مع حومه حول معناه: فقد ذكر قدامة بن جعفر أن أبا العباس محمد بن يزيد المبرد قال: «حدثنى التوزى قال: «قلت للأصمعى: من أشعر الناس؟ قال: من يأتى إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيرا أو إلى الكبير فيجعله بلفظه خسيسا، أو ينقضى كلامه قبل القافية، فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى قال: قلت: نحو من؟ قال: نحو ذى الرمة حيث قال: قف العيس فى أطلال مية فاسأل ... رسوما كأخلاق الرّداء المسلسل فتم كلامه قبل «المسلسل» ثم قال: المسلسل فأفاد شيئا- يعنى معنى جديدا. ثم قال: أظن الذى يجدى عليك سؤالها ... دموعا كتبديد الجمان المفصّل فتم كلامه، ثم احتاج إلى القافية، فقال: «المفصّل» فزاد شيئا» (¬2). ثم عرّفه قدامة بقوله: «الإيغال هو أن يأتى الشاعر بالمعنى فى البيت تاما، من غير أن يكون للقافية فى ما ذكره صنع، ثم يأتى بها- يعنى القافية- لحاجة الشعر إليها ليكون شعرا. فيزيد بمعناها فى تجويد ما ذكره فى البيت» (¬3). ومثّل له بقول امرئ القيس: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذى لم يثقب ¬

(¬1) لسان العرب، وترتيب القاموس، مادة وغل. (¬2) نقد الشعر (194). (¬3) نفس المصدر.

يريد أن الإيغال فى زيادة (لم يثقب) لأن المعنى تم بدونها- فزاد فيه شيئا. وعرّفه أبو هلال نحو هذا التعريف، ذاكرا ما ذكره قدامة عن التوزى عن الأصمعى (¬4). أما ابن أبى الأصبع فقال: «هو أن يستوفى معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعه، ثم يأتى بالمقطع فيزيد معنى آخر، يزيد به وضوحا وشرحا وتوكيدا وحسنا» (¬5). ومن أمثلة الإيغال فى القرآن الكريم قوله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (¬6) فإن قوله تعالى إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ إيغال أتى بعد تمام المعنى فى قوله وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ فزاد به معنى، وهو إثبات توليهم مدبرين حال الدعاء. وفى ذلك توكيد لنفى الفهم عنهم من جهتين: الأولى: الصمم الذى فى آذانهم. الثانية: كونهم ولّوا فارين معرضين عن الداعى وكل جهة من الجهتين وافية بنفى الفهم عنهم. ومن صور الإيغال فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (¬7) لأن قوله تعالى لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إيغال بعد قوله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لأن أحسنية حكم الله لا يدركها إلا المؤمنون الموقنون. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬4) الصناعتين (301). (¬5) بديع القرآن (92). (¬6) النمل (80). (¬7) المائدة (50).

الإيجاز

الإيجاز الإيجاز من أدق الأساليب وأكثرها حكمة، وأملئها بلاغة، وأوسعها خبرة، وأغزرها معنى، وهو شطر البلاغة، أو هو كل البلاغة كما يرى قوم من خبراء الأساليب، وصيارف الكلام. ومعنى الإيجاز فى اللغة يدور حول الإقلال والاختصار من أوجز بمعنى اختصر، وأصله الإوجاز، سكنت الواو بعد كسر فقلبت ياء، والكلام الوجيز هو الخفيف، أو المختصر (¬1). أما الإيجاز فى اصطلاح البلاغيين فيدور حول قلة الألفاظ مع كثرة المعانى، وكل تعريفاته فى علم المعانى تستهدف هذا الغرض. فالإيجاز عند البلاغيين أحد أقسام الكلام الثلاثة وهى: الإطناب بأنواعه، والمساواة، ثم الإيجاز، ولكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة مقام يقتضيه، وحال تستدعيه، وإيقاع كل قسم في مقامه هو البلاغة وليس من البلاغة الإيجاز فى مقام الإطناب، ولا الإطناب فى مقام الإيجاز، ولا هما فى مقام المساواة ولا المساواة فى مقام أحدهما. ولذلك قال أبو هلال العسكرى: إن الإيجاز والإطناب يحتاج إليهما فى جميع الكلام ولكل نوع منه، ولكل واحد منهما موضعه. فالحاجة إلى الإيجاز فى موضعه، كالحاجة إلى الإطناب فى مكانه. فمن أزال التدبير فى ذلك عن وجهته واستعمل الإطناب فى موضع الإيجاز، واستعمل الإيجاز فى موضع الإطناب أخطأ» (¬2). وسماه الرمانى فقال: «الإيجاز هو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف» (¬3). وتابعه ابن رشيق ولم يزد عليه (¬4). وسماه ابن سنان الخفاجى ب «الإشارة» وعرّفه بقوله: «هو أن يكون المعنى زائدا على اللفظ» (¬5). وقال الرازى: «الإيجاز العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من غير إخلال» (¬6). وقال الزملكانى: «هو إثبات المعانى المتكثرة باللفظ القليل» (¬7). ¬

(¬1) معاجم اللغة، مادة: ووجز. (¬2) الصناعتين (190). (¬3) النكت فى إعجاز القرآن (70). (¬4) العمدة (1/ 250). (¬5) سر الفصاحة (243). (¬6) نهاية الإيجاز (145). (¬7) التبيان (110).

أما الخطيب القزوينى فقد عرف الإيجاز بقوله: «تأدية المعنى الكثير فى لفظ قليل» (¬8). هذه التعريفات كلها، وغيرها كثير، لم تخرج عما أجملناه من قبل من أن الإيجاز فى الكلام: هو الدلالة على المعانى الكثيرة بألفاظ أقل منها، بشرط عدم الإخلال فى تأدية المعنى المراد. والإيجاز، لما يحمل من دقائق وأسرار، كثر وروده فى القرآن الكريم، كثرة مستفيضة، ولم تخل منه آية، أو سورة من آيات القرآن الكريم، حتى فى المواضع التى اصطلح على وسمها بالإطناب أو المساواة تشتمّ فيها رائحة الإيجاز، لذلك نرى بعض الدارسين المحدثين يذهب إلى أن القرآن كله إيجاز، يستوى فى ذلك مواضع إطنابه، ومواضع مساواته، وأن كل معنى مصور على سبيل القصد، غير مائل فيه إلى الإسراف (¬9). وهذا نموذج توضيحى لفكرة الإيجاز فى كتاب الله العزيز وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ (¬10) هذه الآيات تحكى مشاهد من قصة يوسف عليه السّلام فى مصر. وقد شاع الإيجاز فى مواطن فيها نكتفى بذكر ما يأتى منها: * حذف (أرى) فى وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ حيث لم يقل: وأرى سبع سنبلات. واكتفى بذكر «واو العطف» فيها. * حذف كلمة سبع فى قوله وَأُخَرَ يابِساتٍ حيث لم يقل: وسبع أخر يابسات. مع ملاحظة حذف الفعل «أرى» مع حذف (سبع). * حذف المسند إليه (المبتدأ) فى قالُوا أَضْغاثُ والتقدير: قالوا هذه الرؤيا أضغاث أحلام، مع ملاحظة حذف جملة، الرؤيا مع حذف المسند إليه. * حذف المتعلق بالفعل فَأَرْسِلُونِ والتقدير: أرسلونى إلى يوسف فى السجن وهو فتى عالم بتفسير الأحاديث. * حذف إذن الملك وأعوانه له بالذهاب إلى يوسف عليه السّلام والتقدير: فأذنوا له وأرسلوه إلى يوسف فى السجن. ¬

(¬8) التلخيص (106). (¬9) هو الدكتور محمد عبد الله دراز فى النبأ العظيم (111). (¬10) يوسف (43 - 46).

* حذف الكلام الآتى: فذهب إلى يوسف فى السجن، فاستأذن الحراس فى الدخول عليه، وأخبرهم بالمهمة التى أذن له فيها الملك وأعوانه فاستوثقوا من صدق ما قال فأذنوا له بالدخول على يوسف فدخل ثم قال ليوسف. يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ والذى يدل على هذا الكلام الكثير المحذوف هو طرفا الكلام المذكوران وهما: فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ لأن بين هذين الطرفين تلازما طبيعيا فى الوجود الخارجى؛ لأنهم لو لم يأذنوا له ويرسلوه ما حدث قوله ليوسف عليه السّلام. يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الإيجاز بالحذف

الإيجاز بالحذف أجمع البلاغيون على تقسيم الإيجاز قسمين: الأول: إيجاز الحذف، والثانى: إيجاز القصر. وضابط إيجاز الحذف- عموما- عندهم، هو أن يكون فى الكلام لفظ ما محذوفا حذفا ظاهرا بحيث يدركه الناظر فى الكلام، وهو على درجات: * أن يكون المحذوف حرفا من بنية الكلمة كالألف والياء. * أن يكون المحذوف أداة من أدوات المعانى مثل فى ولا. * أن يكون المحذوف كلمة مفردة اسما كانت أو فعلا. * أن يكون المحذوف جملة اسمية أو فعلية. * أن يكون المحذوف أكثر من جملة، مهما طال الكلام المحذوف. ووضعوا للحذف شرطين لازمين: أحدهما: أن يدعو إليه داع بلاغى يجعل الحذف أبلغ من الذكر. الثانى: أن يكون فى الكلام بعد الحذف دليل يدل على المحذوف (¬1). فإذا تخلف الشرط الأول سموا الحذف اعتباطا، أى خاليا من الحكمة. وإن وجد الشرط الثانى. وإذا تخلف الشرط الثانى وحده سموا الحذف إجحافا أى ظلما وقع على الكلام وإن وجد الشرط الأول. وإذا تخلف الشرطان معا سقط الكلام عن درجة البلاغة وصار نوعا من الهذيان. - فحذف الحرف من بنية الكلمة يكثر فى القرآن الكريم فى ثلاثة أحرف: هى الواو، والألف، والياء (¬2)، وهذا يتضح من النماذج الآتية: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (¬3). حذف «الواو» من الفعل يَدْعُ لغير علة صرفية أو نحوية والذى اقتضى حذفه هو الرمز إلى جهل الإنسان وسرعة دعائه طمعا فى الخير، وهو جاهل بعواقب الأمور (¬4) والبلاغيون يسمون حذف الحرف من بنية الكلمة ب «الاقتطاع (¬5)» ومنه قوله تعالى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (¬6) فحذف «الواو» فى الآية لم يكن لعلة صرفية أو نحوية وإنما حذف رمزا إلى معنى ¬

(¬1) شروح التلخيص (2/ باب الحذف). (¬2) البرهان فى علوم القرآن. (¬3) الإسراء (11). (¬4) البرهان (1/ 298). (¬5) الصاحبى (288) لابن فارس. (¬6) القمر (6).

لطيف، وهو أن هذا الدعاء أمر غيبى الآن، ولن يكون إلا يوم القيامة (¬7). أما حذف «الألف» من بنية الكلمة لغير علة صرفية أو نحوية فمنه قوله تعالى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها (¬8). حذف .. الألف» من كلمة اسم والذى اقتضى حذفه الرمز إلى أن المضاف إليه أعظم الأسماء ومبدأ كل شىء، وهو الله عز وجل ويشترط لحذفه شروط. - أن يكون مضافا إلى اسم الجلالة «الله» دون غيره من أسماء الله وصفاته، مثلك رب، فقد جاء معه مذكورا فى نحو: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ (¬9). - أن يكون مجرورا بحرف «الباء» وكذلك حذف «الألف» فى قوله تعالى فى كل اسم أعجمى رمزا إلى أعجمية هذا الاسم مثل «إبراهيم» و «إسحاق» و «إسماعيل» حيث وردت فى كتاب الله العزيز وحذف «الياء» من كلمة «هادى» فى قوله تعالى: وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ (¬10). وفى قوله تعالى: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ (¬11) حذف «الياء» من (هادى) رمز به إلى أن فعل الهداية فى القلوب أمر يختص به الله دون غيره. أما فى «اتبعن» فحذف «الياء» رمزا إلى الهداية المعنوية غير الحسية. هذا الحذف (حذف الحرف فى بنية الكلمة) كثير جدا فى القرآن الكريم، وهو إحدى خصوصيات الرسم العثمانى للمصحف الشريف، واهتمام البلاغيين بهذا النوع من الإيجاز- وهو أول صور الإيجاز لقلة المحذوف من الكلمة الواحدة المفردة فيه- قليل، أما اهتمام الباحثين فى «علوم القرآن» فقد بلغ أقصى مدى. فأبو عمرو الدانى كتب فيه فصولا مطولة، أحصى فيها مواضع هذا الحذف كلمة كلمة، فى سور القرآن كله، لكنه وقف عند حد الإحصاء، ولم يعلل لماذا كان الحذف إلا نادرا. وذلك فى كتابه «المقنع فى رسم مصاحف الأمصار» وأبو العباس أحمد بن محمد الأزدى المراكشى المعروف بابن البناء، المتوفى عام 721 هـ وضع فى الكشف عن أسرار حذف الحروف وزيادتها فى كلمات القرآن كتابا سماه (عنوان الدليل فى مرسوم خط التنزيل) أبدع فيه وأمتع. وعنه أخذ الإمام بدر الدين الزركشى فى كتابه «البرهان فى علوم القرآن. وكذلك الإمام جلال الدين السيوطى فى كتابه المعروف ب «الإتقان فى علوم القرآن» أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى المصادر والمراجع: ¬

(¬7) البرهان (388). (¬8) هود (41). (¬9) الواقعة (74). (¬10) الروم (53). (¬11) آل عمران (20).

الإيجاز بحذف الأداة

الإيجاز بحذف الأداة الإيجاز بحذف الأداة يأتى فى الدرجة الثانية لصور الإيجاز بالحذف، بعد الإيجاز بحذف أحد حروف الكلمة؛ لأننا نسير هنا مع الإيجاز سيرة تصاعدية. والمراد بالأداة التى يترتب على حذفها نوع ما من الإيجاز هى أحرف المعانى، التى تؤدى معنى فى الجملة ولا تستقل هى بدلالة محددة مفيدة، والأدوات العاملة فى غيرها من الأسماء والأفعال، وفى عبارة أشمل، ما لا يظهر له معنى يحسن السكوت عليه إلا بعد انتظامها فى الجمل والتراكيب. ومن الإيجاز بحذف الأداة فى القرآن الكريم قوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (¬1) ففي هذه الآية إيجاز بحذف الأداة، وهى «لا» النافية قبل الفعل تَفْتَؤُا وهو جواب القسم تَاللَّهِ ويدل على حذفها أمران:- الأول: أنه لو كان تَفْتَؤُا مثبتا لوجب اقترانه بلام الابتداء ونون التوكيد (¬2). ولقيل فيه: (لتفتأنّ) فخلوه من لام الابتداء والتوكيد بالنون دليل على أنه منفى، ونفيه حاصل ب «لا» المحذوفة. الثانى: أن زال وتفتأ وبرح وانفك لا تعمل عمل «كان» إلا باعتمادها على النفى، وأم الباب فيه هى «لا» ومثله فى حذف هذه الأداة «لا» قول امرئ القيس، حين أمرته امرأة كان يهواها وهو فى زيارة لها فأمرته بالخروج خشية الفضيحة، فقال لها: فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطّعوا رأسى لديك وأوصالى أما الداعى البلاغى للحذف فى الآية الكريمة، فهو ضيق المقام عند جلساء يعقوب عليه السّلام، من كثرة ذكره ليوسف عليه السّلام، والشعور بالضيق سبب من أسباب الحذف واختصار الكلام. أما الداعى للحذف فى بيت امرئ القيس، فهو كما ترى تحرى استقامة الوزن الشعرى أولا ثم ضيق المقام ثانيا. ومن الإيجاز بحذف الأداة فى القرآن الكريم قوله تعالى: ¬

(¬1) يوسف (85). (¬2) الدر المصون للسمين الحلبى (6/ 546).

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ (¬3) وموطن الحذف فى الآية هو: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ والأداة المحذوفة هى «فى» قبل أَنْ وبعد تَرْغَبُونَ. لأن فعل الرغبة يعدّى ب «فى» إذا كانت الرغبة مطلوبة، ويعدّى ب «عن» إذا كان المقام مقام زهد فى الرغبة ومقام إعراض عنها. يقال رغبت فى كذا، أى أحببته، ورغبت عن كذا، إذا أعرضت عنه وزهدت فيه. أما الداعى البلاغى لحذف الأداة هنا، وهى «فى» فهو الرمز إلى شدة رغبتهم فى نكاح يتامى النساء المتحدث عنهن فى هذه الآية. وقد أشير بهذا الحذف إلى أنهم يرغبون فى سرعة الوصول إلى نكاحهن بدون أية عوائق تعترض طريقهم إليه. وحذف «فى» يرمز إلى هذه الدلالة البالغة اللطافة. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬3) النساء (127).

الإيجاز بحذف الكلمة المفردة

الإيجاز بحذف الكلمة المفردة وهذه هى الدرجة الثالثة صعودا فى صور الإيجاز بالحذف، وضابطها أن المحذوف فيها كلمة مفردة: اسما أو فعلا، ليست حرفا من بنية الكلمة، ولا أداة لها دلالة فى الجملة. ولهذه الصور ورود ملحوظ فى كلام العرب، وفى القرآن الكريم. فمن وروده فى كلام العرب قول ابن مطروح: لا انتهى، لا انثنى، لا ارعوى ... ما دمت فى قيد الحياة، ولا إذا أى: ولا إذا مت، فحذف الفعل «مت» وهي كلمة مفردة (¬1) والذى دل عليها قوله قبلها «فى قيد الحياة» أما الداعى إلى حذفها فهو استقامة الوزن الشعري أما فى القرآن الكريم فمن أمثلة هذا النوع من الإيجاز قوله تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً (¬2) وموطن الإيجاز فى الآية هو: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ لأن الفاء فى فَانْفَجَرَتْ عاطفة على محذوف، والتقدير: فضرب فانفجرت (¬3). وذلك لأن الله جعل ضرب الحجر بالعصى سببا فى تحقيق رغبة موسى لسقى قومه. وانفجار الماء من الحجر اثنتى عشرة عينا دليل قاطع على حصول الضرب، لأنه لو لم يضرب الحجر بعصاه- كما أمره الله، لم يحصلوا على الماء. هذا هو دليل الحذف، وهو التلازم الطبيعى بين الطرفين: الضرب وانفجار الماء؛ لأنهما سبب ومسبب. أما الداعى البلاغى لحذف ضرب فهو إظهار كمال النعمة على بنى إسرائيل (قوم موسى الذين استسقى لهم الله عز وجل، حتى لكأن الماء تفجر بدون ضرب. ومنه فى القرآن الكريم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (¬4) ففي الآية إيجاز بحذف كلمة مفردة بين الْعِجْلَ وبين سَيَنالُهُمْ ¬

(¬1) خزانة الأدب (2/ 282). (¬2) البقرة (60). (¬3) الكشاف (1/ 284). (¬4) الأعراف (152).

غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ والتقدير: اتخذوا العجل إلها (¬5). ودليل الحذف فيها أن مطلق اتخاذ العجل لا يستوجب غضب الله وإذلاله إياهم، فقد يكون اتخاذه للأكل وهذا حلال لا معصية فيه، فتعين أن يكون اتخاذهم العجل معبودا من دون الله؛ لذلك استحقوا هذا الوعيد الشديد .... أما الداعى البلاغى الذى اقتضى هذا الحذف فهو ذو دلالة عميقة ولطيفة، حاصلها أن اتخاذ العجل إلها ينبغى أن لا يكون عقيدة قوم، وألا يكون معمولا للاتخاذ حتى فى مجرد اللفظ، فحذفه من الكلام رمز لطيف على استبعاده من الوجود. ومن مواضع هذا الإيجاز فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (¬6). فى الآية الكريمة موضعان للإيجاز بحذف الكلمة المفردة، يظهران من التقدير الآتى: خلطوا عملا صالحا بسيئ، وآخر سيئا بصالح ودليل الحذف هنا عطف وَآخَرَ سَيِّئاً على خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً إذ ليس المقصود أنهم خلطوا عملا بآخر سيئ، بل المراد أن لهم عملين: * عمل صالح خلطوه بسيئ أقل منه، وعمل سيئ خلطوه بقليل من الصلاح ولو كان المراد المعنى الأول لقيل: خلطوا عملا صالحا بآخر سيئ. فدل العطف على المحذوف فى الموضعين. أما الداعى البلاغى للحذف فى الموضعين فلتحقيق فضيلة الإيجاز، وهو استثمار أقل ما يمكن من الألفاظ، فى أكثر ما يمكن من المعانى. وفى ذلك يقول ابن مالك فى ألفيته: وحذف ما يعلم جائز كما ... تقول زيد بعد من عندكما ومن هذا النوع من الإيجاز فى كتابه العزيز قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (¬7)،ففي الآية الكريمة إيجاز بحذف كلمة «البرد» بعد كلمة الْحَرَّ والتقدير: وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر والبرد (¬8). ودليل الحذف أن هذه السرابيل فى الواقع تحمى الناس من الحر والبرد معا، وإنما أوتر ¬

(¬5) أنوار الربيع (3/ 72). (¬6) التوبة (102). (¬7) النحل (81). (¬8) أنوار الربيع (3/ 72).

ذكر الحر على البرد لأن الحر أكثر إيلاما من البرد، ولأن البرد يمكن الاحتياط منه بخلاف الحر. والبلاغيون يسمون هذا النوع من الإيجاز ب «الاكتفاء» وعرفوه بقولهم: «هو أن يقتضى المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط فيكتفى بأحدهما عن الآخر لنكتة» (¬9). أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬9) أنوار الربيع (3/ 71).

الإيجاز بحذف التراكيب

الإيجاز بحذف التّراكيب هذا النوع من الإيجاز هو أعلى درجاته وصوره؛ لأن المحذوف فيه أكثر من الجملة، الواحدة، فقد يكون المحذوف جملتين أو ثلاثا أو أكثر. وله حد أدنى، وهو حذف جملتين، وأما حده الأعلى فغير منضبط فى عدد معين من الجمل أو التركيب، وبعض البلاغيين يسمى صور الجمل التى يعتريها الحذف أنها جمل ذكرها غير مفيد؛ لأن معناها يدرك وهى محذوفة فيكون ذكرها غير محتاج إليه (¬1). وهذا النوع من الإيجاز له ورود مستفيض فى القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى: قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (¬2). القائل: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ هو مريم رضى الله عنها حين بشرها الملك بعيسى عليه السّلام، وقد اشتملت هذه الآية على إيجاز بالحذف، كان المحذوف فيه جملتين. لأن قوله تعالى: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا تعليل معلله محذوف، أو سبب مسببه محذوف والتقدير: «فعلنا هذا وقدرناه لنجعله آية للناس. ودليل الحذف هو ذكر السبب، وهو يقتضى مسببا؛ لأن بين السبب والمسبب تلازما فى الوجود، وذكر أحدهما يدل على الآخر المحذوف. أما الداعى البلاغى، فهو- كما تقدم مرات- إحكام العبارة ونفى الفضول عنها ومن ذلك قوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا (¬3). فى الآية إيجاز بحذف أكثر من جملة، والتقدير: «لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل (¬4). والدليل على هذا الحذف هو قوله تعالى: أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا فحذف من الأول، لدلالة الثانى عليه والبلاغيون يسمون هذا الحذف: «الاحتباك» وله صورة أخرى، وهى: أن يكون الحذف من الأول لدلالة الثانى عليه (¬5) وفى ¬

(¬1) معجم المصطلحات البلاغية (1/ 358). (¬2) مريم (20 - 21). (¬3) الحديد (10). (¬4) الكشاف (4/ 62). (¬5) ينظر مصطلح الاحتباك الآتى بعد قليل.

الآية دليل آخر على هذا الحذف، ولفت الذهن إليه: وهو الفعل لا يَسْتَوِي فى صدر الآية، لأنه يستدعى طرفين بينهما تفاوت ليتحقق نفى المساواة بينهما. وليس فى صدر الآية إلا طرف واحد موصوف بصفات الكمال. وهذا يقتضى حضور الطرف الثانى فى الذهن ليستقيم الكلام ويحسن السكوت عليه. والداعى البلاغى لهذا الحذف هو تهذيب العبارة لأن المعنى الذى يدركه الفهم إدراكا قويا مع حذف الألفاظ الدالة عليه، يكون فى ذكرها فضول يتنزه عنه البيان الحكيم. ومنه كذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (¬6). وفى هذه الآية حذوفات، والتقدير: «والذين يعطون ما أعطوا من الصدقات وسائر القربات الخالصة لوجه الله تعالى، ويخافون أن ترد عليهم صدقاتهم» أو المحذوف هو: «يخافون أن ترد عليهم صدقاتهم، أن ترد عليهم جميع قرباتهم التى قدموها طامعين فى قبول الله لها، وإثابتهم عليها» ودليل هذه الحذوفات هو قوله تعالى: قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ لأن الوجل الحاصل فى القلوب ليس من نفس الطاعات المرجو بها وجه الله، وإنما من بوارها وكسادها وردّ الله إياها. أما السر البلاغى فهو تحقيق فضيلة الإيجاز وتكثير المعانى مع قلة الألفاظ المستعملة فيها. وفى الإيجاز عموما ميزة لا تنفك أبدا، بل هى ملازمة له ملازمة الروح للجسد النامى بالحياة وهى اختصار الزمن فى النطق، واختصار المساحة فى الورق. وقد بلغ الحذف قدرا كبيرا لم نعهده من قبل، وذلك فى قوله تعالى: قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ (¬7). والإيجاز بالحذف- هنا- موطنه قبل قوله تعالى حكاية عن ملك مصر فى عصر يوسف عليه السّلام: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ لأن الآيات المذكورة قبله كلام قاله يوسف عليه السّلام للفتى الذى أرسله الملك إلى يوسف، ليعبر له رؤياه، ولم يكن الملك حاضرا حين قال يوسف عليه السّلام لرسول الملك هذا الكلام. ولكن الذى حدث- لا محالة- أن الفتى لما رجع من عند يوسف عليه السّلام أبلغ الملك وحاشيته ما قاله له يوسف، بدءا من قوله: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً ¬

(¬6) المؤمنون (60). (¬7) يوسف (47 - 50).

إلى قوله: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ يعنى أن هذه الآيات كررت أو قيلت مرتين: * مرة قالها يوسف لرسول الملك. * ومرة قالها رسول الملك للملك. لكن النظم القرآنى الحكيم اكتفى بذكرها عن يوسف لرسول الملك. وحذف ذكرها على لسان رسول الملك للملك مع حذوفات أخري تتعلق بهذا المقام. وتقدير الكلام مع الاختصار هو الآتى: «ثم عاد رسول الملك من عند يوسف بعد أن سمع منه ما قال ودخل على الملك وحاشيته فقص عليهم ما قاله يوسف .... » وبعد أن فرغ من إبلاغ ما قاله يوسف صدقه الملك وحاشيته وأبدى الملك إعجابه بما قال يوسف ثم قال ائْتُونِي بِهِ هذا كله محذوف؛ لأنه مفهوم من الفجوات التى تخللت الكلام. وهذا يسمى فى الأدب المسرحى الحديث «قص المناظر» التى تترك ليملأ العقل فجوات الفراغ التى بين ثنايا الكلام أما الآيات التى طوى ذكرها فعدد جملها أو تراكيبها اثنا عشر تركيبا، هى: قال- تزرعون- حصدتم- ذروه- تأكلون- يأتى- يأكلن- قدمتم- تحصنون- يأتى- يغاث- يعصرون. أما عدد الكلمات التى تتكون منها هذه التراكيب ولواحقها فهى أكثر من أربعين كلمة ودليل هذا الحذف أمران: * عمل العقل فى ملء الفراغات البدهية. * ذكر ما قاله يوسف دل على ما حكاه رسول الملك للملك. أما الداعى البلاغى فهو تحقيق فضيلة الإيجاز مع تجنب العبث فى البيان، ودفع الملل لدى السامع، لو أعيدت الآيات مرة أخرى بلا فصل طويل. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الإيجاز بحذف الجملة

الإيجاز بحذف الجملة وهذه هى الدرجة الرابعة من صور الإيجاز بالحذف، بعد حذف الحرف الواحد من بنية الكلمة، وحذف الكلمة الواحدة من الجملة، أو التركيب الواحد، والذى عنيناه بحذف «الأداة» ثم حذف الكلمة غير الأداة، اسما أو فعلا. والصورة الرابعة، أو النوع الرابع من الإيجاز بالحذف هو حذف التركيب الواحد من الكلام، نعنى حذف الجملة: اسمية كانت أو فعلية. وهذا النوع من الإيجاز شائع فى الأساليب العربية فى الشعر، وفى النثر، وفى القرآن الكريم، ومن أمثلته الكثيرة فى القرآن الكريم قوله تعالى: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (¬1) ففي هذه الآية الكريمة إيجاز بحذف تركيب مكون من الفعل والفاعل، وتقدير الكلام قبل الحذف: ب احذروا (¬2). وهو فعل أمر، وفاعله واو الجماعة «وكلاهما قد اعتراه الحذف كما ترى. ودليل الحذف فى الآية بقاء المفعول به منصوبا وهو: ناقَةَ اللَّهِ فناقة الله مفعول به منصوب بالفتحة كما ترى، وليس فى الآية لفظ يصلح أن يكون هو عامل النصب فى ناقَةَ بل العامل محذوف. وأن ذلك المحذوف هو: احذروا أو اتركوا أو ذروا وأما الداعى البلاغى لهذا الحذف، فوق تحقيق فضيلة الإيجاز، فهو سرعة الوصول إلى المطلوب، وهو صون حرمة الناقة وما قدّر الله لها من رزق، وفى إضافة ناقَةَ إلى اسم الجلالة تعظيم لحرمتها؛ لأنها ليست مجرد ناقة، بل هى آية من آيات الله المخصوصة بالرعاية والعناية. ومنه فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (¬3). وفى هذه الآية إيجاز بحذف التركيب الواحد (جملة فعلية) موطنه بين قوله تعالى: وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا ¬

(¬1) الشمس (13). (¬2) تفسير البيضاوى (2/ 600). (¬3) الكهف (48).

وقوله: لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وتقدير المحذوف هو «قلنا لهم» (¬4). ودليل الحذف- هنا- هو سياق الكلام، لأن قوله تعالى: لَقَدْ جِئْتُمُونا فيه التفات إلى الخطاب من الغيبة، ففي صدر الآية كان الكلام حديثا عن مشهد من مشاهد يوم القيامة، وهو عرض العباد على الله وكان الحديث عنهم بطريق الغيبة وَعُرِضُوا ثم التفت من هذه (الغيبة) إلى خطابهم: لَقَدْ جِئْتُمُونا فلزم تقدير محذوف بين الغيبة والخطاب وهو: قلنا لهم، أو: نقول لهم. والتركيب المحذوف هنا جملة فعلية. أما الداعى البلاغى للحذف فى الآية، فهو إحكام النظم بحذف فضول الكلام؛ لأن التحول فيها من الغيبة قرينة قوية على إدراك التركيب المحذوف، لأنه لا يستقيم النظم إلا بتقدير التركيب المحذوف، الذى قد اقتضاه طرفا الكلام، وأرشدا إليه حتى لكأنه مذكور فى الكلام صراحة. ومن الإيجاز بحذف التركيب الواحد، أو الجملة فى القرآن الكريم قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (¬5). وموطن الحذف فى الآية بين قوله تعالى: فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وتقدير المحذوف هو: «ألستم ظالمين» (¬6) - وهو جملة اسمية ودليل الحذف هو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لأن الآية مسوقة مساق الإنذار والتهديد، وتعقيب الكلام ينفى هداية الله القوم الظالمين تلويح لهم بأنهم ظالمون بكفرهم بكتاب الله. وليس فى الآية ذكر لقوم ظالمين ينسحب عليهم هذا الوعيد، فدل ذلك على أن المخاطبين هم المعنيون بهذا الوعيد إن لم يوقنوا بما أنزل الله على خاتم رسله. أما الداعى البلاغى للحذف فى الآية، فهو القصد إلى لين الخطاب فى الدعوة، وتجنب تيئيس المخاطبين من رحمة الله، فلم يواجههم بأنهم هم الظالمون وأخرج الكلام مخرج العموم، حتى لكأن الظالم هو غير المخاطبين. وفى ترك المواجهة لهم بأنهم هم الظالمون، الذين لا يهديهم الله إفساح المجال لهم، لمن أراد أن يؤمن منهم، ولا نزاع فى أن بعضهم آمن واهتدى بعد فتح مكة المكرمة. فتأمل ¬

(¬4) فتح القدير للإمام الشوكانى (3/ 346). (¬5) الأحقاف (10). (¬6) معجم المصطلحات البلاغية (1/ 354).

الأسرار الرائعة، التى ترتبت على هذا الحذف فى هذه الآية. ومنه قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ (¬7). موطن الإيجاز فى الآية بعد: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وتقدير المحذوف هو: «فعدتهن كذلك» وهى جملة اسمية من مبتدأ وخبر، ودليل الحذف هو العطف على فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ لأن العطف يشرك المعطوف فى إعراب المعطوف عليه وحكمه. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬7) الطلاق (4).

الاحتباك

الاحتباك الاحتباك لغة: هو شد الإزار، وكل شىء أحكمته وأحسنت عمله فقد احتبكته، والحبك الشد والإحكام (¬1) وقد يستعمل الحبك بمعنى الزينة، وبها فسروا قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (¬2). أما فى الاصطلاح البلاغى، فقد بين الإمام جلال الدين السيوطى الصلة بينه وبين المعنى اللغوى فقال: «ومأخذ هذه التسمية من الحبك، الذى معناه: الشد والإحكام، وتحسين أثر الصنعة فى الثوب. فحبك الثوب سدّ ما بين خطوطه من الفرج ... بحيث يمنع عنه الخلل مع الحسن والرونق. وبيان أخذه منه أن مواضع الحذف فى الكلام شبّهت بالفرج بين الخيوط. فلما أدركها الناقد البصير بصوغه الماهر فى نظمه وحبكه، فوضع المحذوف مواضعه، كان حابكا له، مانعا من خلل يطرقه، فسدّ بتقديره ما يحصل به الخلل مع ما أكسبه من الحسن والرونق». ثم عرفه باسم «الاحتباك» وقال: «إنه من ألطف الأنواع وأبدعها» (¬3). وسماه الإمام الزركشى: الحذف: المقابلى. وعرّفه فقال: «هو أن يجتمع فى الكلام متقابلان، فيحذف من واحد منهما مقابله (فى الآخر) لدلالة الآخر عليه» (¬4) ومن أمثلته فى القرآن الصور الآتية. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (¬5) والمعنى: فإن افتريته فعلىّ إجرامى وأنتم برآء منه، أى من إجرامى، وعليكم إجرامكم وأنا برىء منه. فقد حذف من الثانى «وأنا برىء» أى من إجرامكم لدلالة الأول عليه. وقوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ والمعنى: الله أحق أن ترضوه، ورسوله أحق أن ترضوه. فحذف من الأول أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ لدلالة الثانى عليه الواقع خبرا عن «رسوله» وهو: أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ. ¬

(¬1) لسان العرب، مادة: حبك. (¬2) الذاريات (7) وانظر تفسير الإمام البيضاوى (2/ 437). (¬3) الإتقان فى علوم القرآن (2/ 22) وشرح عقود الجمان (133) ومعترك الأقران فى إعجاز القرآن (1/ 323). (¬4) البرهان فى علوم القرآن (3/ 129). (¬5) هود (35).

وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ (¬6) والمعنى: إن الله يصلى على النبى، وملائكته يصلون على النبى، فحذف من الأول إِنَّ اللَّهَ الفعل (يصلى) لدلالة الثانى (يصلون) عليه. وقوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (¬7). وبلاغة هذا الفن «الاحتباك» هى إحكام العبارة وسلامتها من الخلل، مع قلة الألفاظ وكثرة المعانى التى تدل عليها. والبلاغة الإيجاز، وهو استثمار أقل ما يمكن من الألفاظ فى أكثر ما يمكن من المعانى (¬8). أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬6) الأحزاب (56). (¬7) الرعد (39). (¬8) النبأ العظيم- نظرات جديدة فى القرآن (111) د. محمد عبد الله دراز.

إيجاز القصر

إيجاز القصر هو القسم الثانى من قسمى الإيجاز، بعد الإيجاز بالحذف وصوره الخمس التى تقدمت. والفرق بينهما أن الإيجاز بالحذف يلحظ فيه حذف حرف من بنية الكلمة، أو أداة من أدوات المعانى، أو كلمة مفردة (اسم أو فعل) من تركيب مفيد (جملة تامة) (اسمية أو فعلية) من مجموع كلام، أو يكون المحذوف جملتين فأكثر، مع وجود دليل قوى على المحذوف. أما إيجاز القصر فلا يلحظ فيه شىء محذوف أبدا وإنما يلحظ فيه أن المعانى المشعة منه أكثر من الألفاظ التى استعملت فيها. فمثلا قولنا: «اسأل أهل القرية» كلام مساو لفظه لمعناه، فإذا قارناه بقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (¬1) كان إيجازا بالحذف، والمحذوف هو كلمة «أهل» وهو مفعول به ل سْئَلِ ومضاف إلى الْقَرْيَةَ ودليل الحذف فيه هو حكم العقل، الذى يمنع توجيه السؤال إلى القرية باعتبارها مكانا وأرضا وأبنية وإنما الذى يوجه إليه السؤال عقلا هو أهل القرية فإيجاز الحذف، وإيجاز القصر يشتركان فى أن معانى كل منهما أكثر من الألفاظ المستعملة فيها، ويفترقان فى أن إيجاز الحذف يلحظ فيه ألفاظ محذوفة، أما إيجاز القصر فلا يلحظ فيه ألفاظ محذوفة، يمكن ذكرها فى جمله أو تراكيبه. وكان الجاحظ أول من أشار إليه فى قوله: «الكلام الذى قل عدد حروفه وكثر عدد معانيه» (¬2) ذكر هذه العبارة فى وصف مسهب لحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم جاء العلماء من بعده واعتبروا هذه العبارة تعريفا لفن الإيجاز بالقصر ومنه قوله تعالى: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (¬3) على اعتبار أن هاتين الكلمتين قد جمعتا نفى جميع عيوب خمر أهل الدنيا. وقوله تعالى: لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (¬4) على اعتبار أن هاتين الكلمتين قد جمعتا نفى جميع العيوب ثم قال: «درجت الأرض من العرب والعجم على إيثار الإيجاز وحمد الاختصار وذم الإكثار والتطويل والتكرار وكل ما فضل- أى زاد- على المقدار» (¬5) ويرى ابن الأثير أن التنبه إلى هذا النوع من الإيجاز عسر لأنه يحتاج إلى فضل تأمل (¬6). ¬

(¬1) يوسف (82). (¬2) البيان والتبيين (2/ 19). (¬3) الواقعة (19). (¬4) الواقعة (22). (¬5) رسالة من البلاغة والإيجاز (22) - رسائل الجاحظ (4/ 156). (¬6) المثل السائر (2/ 78).

وقول الله تعالى: الْقِصاصِ حَياةٌ (¬7) والقول المأثور عن العرب «القتل أنفى للقتل» وفى كل منهما إيجاز قصر، وبينوا الوجوه التى سما بها قول القرآن على قول العرب، فى الآتى: فأولا: عدد حروف قول القرآن عشرة أحرف. وعدد حروف القول المأثور عن العرب أربعة عشر حرفا. وثانيا: القول القرآنى فيه تصريح بالمطلوب، وهو الحياة، أما قول العرب فقد خلا من التصريح. وثالثا: تنكير «حياة» فى القول القرآنى يفيد إما التعظيم، وإما النوعية الخاصة، أى حياة آمنة وقد خلا قول العرب منه. ورابعا: القول القرآنى مطرد عام، أما قول العرب ففيه قصور وعجز؛ فليس كل قتل يكون محققا لسلامة الأرواح. بل منها ما يكون سببا فى تفشى القتل، وهو الأخذ بالثأر. والقتل والعدوان أما القول القرآنى فنص على أن القتل هنا هو القصاص الذى يقوم به ولى الأمر، وفيه- فعلا- حسم لمادة الشر. وخامسا: القول القرآنى خلا من عيب التكرار، أما قول العرب فقد تكرر فيه القتل مرتين. وسادسا: استغناء القول القرآنى عن تقدير محذوف يتم به المعنى. أما قول العرب فلا بد من تقدير محذوف فيه هكذا: القتل أنفى للقتل من تركه. وسابعا: القول القرآنى جمع بين القصاص بمعنى القتل، وبين الحياة. وفى هذا محسّن بديعى لطيف المورد، أما قول العرب فقد عرى من هذا التحسين. وثامنا: القول القرآنى جعل «القصاص» منبعا ومصدرا للحياة كاشتمال الظرف على المظروف فيه. أما قول العرب فقد خلا من هذه الاعتبارات اللطيفة الآسرة (¬8). ولهذا الإيجاز قيمة عليا عند البلاغيين وخبراء الأساليب فقد وصفوه- أعنى الإيجاز فى آية القصاص المتقدمة، بأنه: «الذى فاق كل كلام، وهو أعلى طبقات الإيجاز» (¬9) أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬7) البقرة (179). (¬8) المثل السائر (2/ 125) - والصناعتين لأبى هلال العسكرى (175) - ونهاية الإيجاز للفخر الرازى (145) - وبديع القرآن (192) - والإيضاح (182). (¬9) نهاية الإرب للنويرى (7/ 5) - شروح التلخيص (3/ 182) - الطول للسعد (286) - معترك الأقران للسيوطى (1/ 295) - الجامع الكبير لابن الأثير (142).

الفواصل

الفواصل الفواصل جمع فاصلة، والفصل لغة هو البت والقطع يقال فصلت كذا عن كذا: يعنى قطعته عنه (¬1) والفاصلة والفواصل مصطلح خاص بنظم القرآن الكريم، وسمة من سمات بلاغته وبيانه. ومعنى الفاصلة فى اصطلاح علماء علوم القرآن هى الكلمة الأخيرة فى الآية، مثل القافية التى هى الكلمة الأخيرة فى بيت الشعر، ومثل السجع وهو الكلمة الأخيرة فى الجملة، من الكلام المنثور لأن الكلام: إما شعر (ونهايات جمله أو أبياته هى القوافى) وإما غير شعر، وهو قسمان: * القرآن، ونهايات آياته فواصل. * الكلام النثرى سواء كان نثرا فنيا كالقصة والرواية والأقصوصة أو غير فنى ونهايات جمله قد تكون سجعا إذا اتفقت جملتان فأكثر فى الحرف الأخير من الكلمة الأخيرة فيهما وقد تكون ليست سجعا إذا كانت كلمات الجمل الأخيرة فيه غير متفقة فى الحروف الأخيرة من آخر الكلمات فى الجمل التى تقع فى الآخر غير متجانسة. وتسمية الكلمات الأخيرة فى نهايات الآيات القرآنية «فواصل» مأخوذة من قوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ (¬2) وقد تكررت هذه العبارة مرات فى آيات الكتاب العزيز، وقد عرف علماء علوم القرآن الفاصلة القرآنية فقالوا: الفاصلة القرآنية «هى كلمة آخر الآية كقافية الشعر، وقرينة السجع» (¬3). وقال أبو عمرو الدانى: «كلمة آخر الجملة» (¬4)، يقصد أن الفاصلة هى آخر كلمة فى الآية. وقد يطلقون على هذه الفواصل مصطلح: رءوس الآيات، وهذا المصطلح أخص من الفاصلة، لأنهم قد يتسامحون فى إطلاق الفاصلة على جملة فى درج الآية، مثل قوله تعالى: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ (¬5) وهى ليست رأس آية (¬6) والفواصل القرآنية هى مجامع بلاغة القرآن ومعاقد معانيه. والنظر إليها ودراستها يسفر عن عدة خصائص فى إعجازه ونظمه. ومن ذلك: فهى من جهة تتيح استراحة لقارئ القرآن الكريم حيث يسكت قليلا عند نهاية كل آية قبل أن يأخذ فى تلاوة الآية التى ¬

(¬1) اللسان ومعاجم اللغة، مادة: فصل. (¬2) فصلت (2). (¬3) البرهان فى علوم القرآن (1/ 53). (¬4) المصدر نفسه. (¬5) الكهف (64). (¬6) البرهان (1/ 53).

بعدها، وهى من جهة ثانية تحدد نهايات الآيات وبداياتها وتميز بين الآيات؛ لأن من سنن تلاوة القرآن وأدائه الأمثل، هو الوقوف عند رأس كل آية إلا فى مواضع قليلة فى القرآن الكريم، فيحسن وصل الآية بما بعدها. وهى من جهة ثالثة تمكن قارئ القرآن الكريم من حسن الأداء، وتتيح للسامع فرصة حسن المتابعة لما يتلى مع تذوق المعانى وتدبرها. ومن جهة رابعة تؤدى الفواصل القرآنية دورا عظيم الشأن فى انسجام الإيقاع الصوتى مما أضفى على القرآن خاصية فريدة فى نوعها، وهى انفراده بإيقاع صوتى شجى يستولى على القلوب، ويستقطب العقول، ويأسر الأسماع بحلاوة وعذوبة وقعه. ومن أجل هذا اختصت كلمات الفواصل القرآنية بالأمور الآتية: * ختمها- فى الغالب- بحروف المد واللين، وإلحاق الميم والنون بها، ووظيفته التمكن من التطريب، قال سيبويه: «إنهم- أى العرب- يلحقون الألف والياء والنون يريدون مد الصوت، ويتركون ذلك إذا لم يترنموا» (¬7). وهذا الجمال الإيقاعى فى القرآن لا يخفى على أحد (¬8). إن الحروف التى تقع بها الفواصل إما متماثلة وإما متقاربة، ولا تخرج الفواصل عن هذين النوعين فمثال التماثل قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3). ومثال التقارب قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7). فالتماثل فى الكوثر وقع بحرف «الراء» والتقارب فى «الفاتحة» وقع بين النون والميم. * إنها تتقدم عليها ألفاظ، تمهد لها، وتعظم من وقعها فى السمع. وتلك الألفاظ سماها الأقدمون رد الأعجاز على الصدور، وسماها المحدثون ب «التصدير». * التكرار فى بعض الفواصل، كما فى سور: الرحمن، القمر، والمرسلات. لكن هذا التكرار ليس مقصورا على هذه الوظيفة الصوتية، بل هو لها ولخدمة المعانى المرادة من الفواصل وما يتقدمها. وللعلماء نظر خاص فى بناء الفواصل، نتج عنه تقسيم الفواصل عدة أقسام، نذكر منها: ¬

(¬7) الكتاب (2/ 298). (¬8) النبأ العظيم (80).

* الفواصل المتوازية، وضابطها أن تتفق الفاصلتان فى الوزن الصرفى، وفى الحروف، مثل قوله تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (¬9). * والمطرف أن تتفق الفاصلتان فى الحروف دون الوزن مثل قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (¬10). فالفاصلة الأولى على «مفعولة». أما الفاصلة الثانية فعلى وزنى «فعال» و «أفعال». * الفواصل المتوازية، وضابطها أن يراعى فى كلتا الفاصلتين الوزن الصرفى، دون الاتفاق فى الحروف مثل قوله تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (¬11) الوزن واحد «مفعولة» أما الحرفان فهما مختلفان وهما: الفاء والثاء. ويلاحظ أن الفواصل القرآنية فى الآيات القصيرة تكون كلمة معمولة نحويا لعامل فى الآية قبلها، أو معطوفة على كلمة فيها، أو توضيحا لكلمة، أو مضافا إليها كلمة، مثال ذلك: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) ففي الآية الأولى جاءت بِالدِّينِ متعلقة ب يُكَذِّبُ وفى الآية الثانية جاءت الفاصلة الْيَتِيمَ مفعولا به للفعل يَدُعُّ وفى الآية الثالثة جاءت الفاصلة الْمِسْكِينِ مضافا إليها طَعامِ وفى الآية الرابعة جاءت الفاصلة لِلْمُصَلِّينَ خبرا ل فَوَيْلٌ كما جاءت ساهُونَ خبرا عن الَّذِينَ فى الآية الخامسة، وكذلك يُراؤُنَ فى الآية السادسة. أما الْماعُونَ فى الآية السابعة، فجاءت مفعولا به ل يَمْنَعُونَ وهكذا كل فواصل الآيات القصيرة فى القرآن كله. أما الآيات الطويلة فتأتى فاصلتها فى جملة مستقلة، مثل: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (¬12). أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬9) الغاشية (13 - 14). (¬10) نوح (13 - 14). (¬11) الغاشية (15 - 16). (¬12) البقرة (16).

الفصل

الفصل الفصل فى اللغة القطع والتنحية والتفريق بين الأشياء (¬1) أما عند البلاغيين فهو فن من فنون علم المعانى خاص بالعلاقات بين بعض الجمل، وله نظير يقابله فى الدرس البلاغى هو «الوصل» وتعتمد فكرتا الفصل والوصل على عطف جملة، على أخرى ب «الواو» خاصة من دون حروف العطف الأخرى، كالفاء وثم وبل، أو ترك هذا العطف. وقد عرفهما البلاغيون تعريفا واحدا جامعا بين الفصل والوصل، فقالوا. «الوصل هو عطف جملة على أخرى بالواو، والفصل هو ترك ذلك العطف» (¬2). وكان الإمام عبد القاهر الجرجانى هو أول من أفاض فى الحديث عن هذا الفن، ووضع دقائق أصوله وفروعه ولم يترك لمن جاء بعده كبير مجال فيه، إلا بعض إضافات خفيفة لا تخرج عن الأصول التى وضعها هو رحمه الله (¬3) ثم نهج الإمام السكاكى منهج الإمام عبد القاهر فى هذا الدرس (¬4) وتابعهما الخطيب القزوينى (¬5). ثم شراح تلخيصه من بعده (¬6). وهذا البحث (الفصل) خاص بالجمل التى ليس لها محل من الإعراب، مثل الجملة الابتدائية، وجملة صلة الموصول، والجملة الواقعة جوابا لشرط غير جازم. ويجب فصل الجملة الثانية عن الأولى فى الحالات الآتية، التى وضع البلاغيون لها ضوابط على النحو التالى: كمال الانقطاع: فكل جملتين بينهما كمال الانقطاع يجب فصل الثانية منهما عن الأولى، فلا تعطف عليها بالواو، لأن الواو يقتضى العطف بها أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه تناسب، ولا تناسب مع كمال الانقطاع. ويتحقق كمال الانقطاع بين الجملتين إذا اختلفتا فى الخبرية والإنشائية لفظا ومعنى أو معنى فقط. وقد مثل البلاغيون لهذه العلاقة من غير القرآن بقول الشاعر: وقال رائدهم ارسوا نزاولها ... فكل حتف امرئ يجرى بمقدار (¬7) والشاهد فيه فصل جملة «نزاولها»؛ لأنها جملة خبرية لفظا ومعنى، عن جملة «ارسوا»؛ لأنها جملة إنشائية لفظا ومعنى. ¬

(¬1) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: فصل. (¬2) الإيضاح (148). (¬3) دلائل الإعجاز (222 - 244). (¬4) مفتاح العلوم (120). (¬5) الإيضاح (147). (¬6) شروح التلخيص (3/ 2) المطول (247) الأطول (2/ 2). (¬7) البيت للأخطل، انظر الإيضاح (150) المصباح (31).

أما الاختلاف بين الجملتين فى الخبرية معنى فحسب، فقد مثلوا له بقولهم. «مات فلان رحمه الله» فالجملة الأولى «مات فلان» خبرية لفظا ومعنى والجملة الثانية «رحمه الله» خبرية لفظا إنشائية معنى، لأنها فى قوة «اللهم ارحمه» أما فى القرآن الكريم فمن أمثلته قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (¬8). فقد فصلت جملة إِنَّ شانِئَكَ عن جملة وَانْحَرْ لأن الأولى إنشائية لفظا ومعنى. والثانية خبرية لفظا ومعنى، فبين الجملتين كمال الانقطاع كما ترى. ومثلهما قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ (¬9). فصلت جملة قُلْ بَلى وَرَبِّي عما قبلها قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لأن الأولى خبرية لفظا ومعنى، والثانية إنشائية لفظا ومعنى. فبين الجملتين كمال الانقطاع وهذا كثير جدا فى القرآن الكريم، ويأتى على صورتين. * أن تكون الأولى إنشائية والثانية خبرية، كما تقدم فى سورة «الكوثر». * أن تكون الأولى خبرية، والثانية إنشائية، كما فى سورة «سبأ». هذا هو كمال الانقطاع الموجب لفصل الجملة الثانية عن الأولى والفصل هو ترك العطف بالواو خاصة كما تقدم. * كمال الاتصال: ويتحقق كمال الاتصال بين الجملتين بعدة اعتبارات. الأول: أن تنزّل الجملة الثانية منزلة البدل من الجملة الأولى، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (¬10) فصلت جملة أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ عن جملة أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ لأن الجملة الثانية نزلت منزلة البدل مما قبلها. لأن معنى الجملتين واحد، غير أن معنى الأولى مجمل، ومعنى الثانية مفصل، فبين الجملتين كمال الاتصال كما ترى. ويلاحظ أن جملة أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وما عطف عليها منزّلة منزلة بدل البعض من الكل، لأن إمداد الله للعباد أعم من الأنعام والبنين، والجنات والعيون. والداعى البلاغى لهذا الإبدال هو إظهار الامتنان على المخاطبين، بذكر النعم مجملة فى الآية الأولى، ومفصلة بعض التفصيل فى الآية الثانية والثالثة. وقد تكون الثانية منزلة من الأولى منزلة بدل الاشتمال ومثاله قوله تعالى: ¬

(¬8) الكوثر (2 - 3). (¬9) سبأ (3). (¬10) الشعراء (132 - 134).

قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (¬11). فصلت جملة اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً عن جملة قالَ يا قَوْمِ لأن بين الجملتين كمال الاتصال، لأن الأولى مشتملة على معنى الثانية، لأن المرسلين لا يسألون الناس أجرا على تبليغ الرسالة. أو تكون الجملة الثانية بدل كل من كل، ويمكن التمثيل له من القرآن الكريم بقوله تعالى: بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (¬12). لأن ما فى الجملتين الثانية والثالثة، هو الذى قاله الأولون ففصلت جملة قالُوا أَإِذا مِتْنا عن جملة بَلْ قالُوا لما بين الجملتين من كمال الاتصال؛ لتنزيل الثانية من الأولى منزلة بدل الكل من الكل. ويلاحظ أن الجملة الثانية المفصولة فى كل ما تقدم أكثر وضوحا من الجملة الأولى. هذا فى جمل كمال الاتصال دون كمال الانقطاع. وقد يكون كمال الاتصال بين الجملتين بتنزيل الثانية منزلة، التوكيد مما قبلها، معنويا ولفظيا. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً (¬13). فقوله تعالى وَلَّى مُسْتَكْبِراً توكيد لجملة كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها لأنها تؤكد نفى التأثير فى من تليت عليه آيات الله. فبين الجملتين كمال الاتصال؛ لأن الثانية نزّلت منزلة التوكيد المعنوى مما قبلها، لذلك فصلت عنها ولم تعطف عليها. كما فصلت جملة كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً عن جملة كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها لأن بينهما كمال الاتصال، لأن الثانية نزّلت منزلة التوكيد مما قبلها. * وقد يكون كمال الاتصال بين الجملتين بتنزيل الجملة الثانية منزلة عطف البيان مما قبلها (مفسرة) ومثاله فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (¬14). فصلت جملة أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ عن جملة وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ لأن الجملة، الثانية نزّلت منزلة عطف البيان عما قبلها، (جملة تفسيرية) فبين الجملتين كمال الاتصال كما ترى. ومثلها قوله تعالى: ¬

(¬11) يس (20 - 21). (¬12) المؤمنون (80، 81، 82). (¬13) لقمان (7). (¬14) الحجر (66).

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (¬15). فجملة قالَ يا آدَمُ بيان وتفسير لجملة فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ لذلك فصلت الثانية عن الأولى لأن بينهما كمال الاتصال، حيث كانت الثانية بيانا وتفسيرا للأولى. وغير ذلك كثير فى كتاب الله العزيز. * شبه كمال الاتصال: ويسمى: الاستئناف البيانى وضابطه أن تنزّل الجملة الثانية منزلة جواب عن سؤال تضمنته الجملة الأولى. ومن أمثلته المستفيضة فى القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السّلام. وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ .. (¬16). فالجملة الأولى تضمنت سؤالا حاصله: ولماذا لا تبرئ نفسك؟ فكان الجواب: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ففصلت هذه الجملة عن الجملة الأولى؛ لأن الثانية نزّلت منزلة جواب عن سؤال تضمنته الجملة الأولى، فبين الجملتين شبه كمال الاتصال، أو الاستئناف البيانى كما عرفت. ومنه فى القرآن الكريم قوله تعالى: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ يحكى الله فى هذه الآية ما دار بين إبراهيم عليه السّلام والملائكة حين دخلوا عليه. وجملة قالَ سَلامٌ فصلت عما قبلها لأنها بمثابة جواب عن سؤال تضمنته الجملة الأولى: ماذا قال إبراهيم فى رده على الملائكة؟ فكان الجواب: قالَ سَلامٌ فبين الجملتين شبه كمال الاتصال أو الاستئناف البيانى- لذلك فصلت الثانية عن الأولى. ويرى الإمام عبد القاهر الجرجانى أن كل جملة مفصولة بعد جملة «قال» فى القرآن هى جواب عن سؤال مقدر تضمنته الأولى (¬17)، وإذا صح هذا فإن الاستئناف البيانى فى القرآن أكثر صور الفصل فى القرآن الكريم. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى المصادر والمراجع: ¬

(¬15) طه (120). (¬16) يوسف (23). (¬17) دلائل الإعجاز (238).

الوصل

الوصل الوصل فى اللغة: الجمع والضم، ضد التفريق والقطع (¬1) أما فى اصطلاح البلاغيين فهو عطف جملة، لا محل لها من الإعراب، على أخرى لا محل لها من الإعراب بالواو خاصة بشرط مخصوص (¬2). وقد تقدمت الإشارة إليه فى مبحث الفصل قريبا، والذى يقتضى هذا النوع من العطف مناسبة حاصلة فى الجملتين: المعطوف عليها والمعطوفة، وقد عبّر عن هذه المناسبة البلاغيون، وأسموها: - التوسط بين الكمالين: والمراد من الكمالين: * كمال الانقطاع. * كمال الاتصال. اللذان مرّ الحديث عنهما فى مبحث الفصل بين الجمل من قبل. ويتحقق هذا التوسط بين الجملتين إذا اتفقت الجملتان فى الخبرية والإنشائية، بأن تكونا خبريتين معا، أو إنشائيتين. والجملتان الإنشائيتان لا تكونان إلا جملتين فعليتين أما الجملتان الخبريتان فتكونان اسميتين، وتكونان فعليتين إذا كان الفعل فيهما ماضيا، أو مضارعا غير منهى عنه ب «لا» الناهية. وهذا الوصل بين الجمل بضوابطه المشار إليها كثير جدا فى القرآن الكريم، لا تكاد تخلو منه سورة من سوره حتى قصار السور (¬3). ومن أمثلته فى القرآن الكريم قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (¬4) وصلت جملة إِنَّ الْفُجَّارَ بجملة إِنَّ الْأَبْرارَ بالواو؛ لأن بين الجملتين التوسط بين الكمالين لأن كلا منهما خبرية لفظا ومعنى. وقد حسّن هذا الوصل التقابل بين الأبرار والفجار والنعيم والجحيم، ولام التوكيد الداخل على جملة الخبر لَفِي- لفي والجملتان هنا اسميتان ونظيرهما قوله تعالى: ¬

(¬1) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: وصل. (¬2) انظر هوامش مبحث الفصل. (¬3) قصار السور مثل سور جزء (عم) سميت كذلك لكثرة الفصل بينها ب «بسم الله الرحمن الرحيم». (¬4) الانفطار (12 - 13).

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (¬5). عطفت جملة كُونُوا على جملة اتَّقُوا اللَّهَ لاتفاق الجملتين فى الإنشائية لفظا ومعنى، فبين الجملتين التوسط بين الكمالين؛ لأن كلا منهما فعل أمر (¬6). أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى المصادر والمراجع: ¬

(¬5) التوبة (119). (¬6) ينظر الإيضاح وشروح التلخيص والمطول: مبحث الفصل والوصل.

الإخراج على خلاف الظاهر

الإخراج على خلاف الظّاهر الإخراج فى اللغة هو الإظهار (¬1). أما فى اصطلاح البلاغيين فهو فن قولى دقيق المسلك رفيع القدر، يدور معناه حول إفساح الطريق أمام البليغ ليورد كلامه على حسب تقديره الخاص، مخترقا به المعايير النمطية التى يتحتم إيراد الكلام على هداها ويلتزم بها المتكلمون، لأنها أشبه ما تكون باللوغارتمات الصارمة. وهذا المصطلح «الإخراج على خلاف الظاهر» يحتاج فى فهمه إلى تمهيد، ومقدمة خلاصتها أن البلاغيين يشترطون فى بلاغة الكلام أن يكون مطابقا لمقتضى الحال، والحال عندهم هى الأمر أو المناسبة التى تدعو المتكلم إلى الكلام. وهذه المناسبات مختلفة فقد تكون تهنئة أو مواساة، أو إصلاحا بين الخصوم أو ترغيبا فى أمور، أو تحذيرا من أمور. وكل مناسبة منها لها خصوصية أو كلام مخصوص. فإذا وفّق الإنسان لإلقاء الكلام مناسبا للحال التى دعته إلى الكلام كان بليغا، وكان كلامه بلاغة. والمناسبات التى يتحدث الناس فيها لا تكاد تحصر فى عدد محدد، لكن البلاغيين وضحوا هذه الفكرة، وهى مطابقة الكلام لمقتضى الحال من خلال ثلاث مناسبات ضبطوها ضبطا حكيما. وهى بالنسبة للأفكار التى يحملها كلام البليغ أو المعانى التى يريد إذاعتها بين الجمهور. فقد قسموا أحوال المخاطبين أمام الأفكار التى يحملها الكلام ثلاثة أقسام: 1 - أن يكون السامع أو المخاطب خالى الذهن من تلك الأفكار وليس له موقف سابق منها بالإثبات والقبول أو النفى والرفض. 2 - أن يكون المخاطب أو السامع، أو حتى القارئ مترددا بين قبول الفكرة أو رفضها، لعدم ترجيح طرف على آخر من طرفيها. 3 - أن يكون المخاطب رافضا للأفكار التى يحملها الكلام. هذه هى المستويات الثلاثة، التى استعان البلاغيون بها على تحديد الكلام الذى يعد بلاغة. وسموا هذه المستويات أحوالا للمخاطبين، ثم نصوا على ما يناسب كل حال منها من الكلام البليغ. ¬

(¬1) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: خرج.

* فالمناسبة الأولى (خلو الذهن) قالوا إن الكلام المناسب لها أن يكون خاليا من أساليب التوكيد، مثل: إن- أن- القسم- التكرار- نونا التوكيد الخفيفة والثقيلة- لام التوكيد. ومثال مطابقة الكلام لظاهر مقتضى الحال فى هذه الحالة من القرآن الكريم قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (¬2) لم يأت هذا الخبر دفعا لتردد فى استحقاق الله للحمد، ولا لدفع إنكار من منكر. أما من غير القرآن فقد مثلوا لها بقولهم: «عبد الله قائم». * أما المناسبة الثانية (التردد) فالكلام المناسب لها هو التوكيد بمؤكد واحد. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى. إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (¬3). حيث اشتمل الكلام على مؤكد واحد هو إِنَّ أما من غير القرآن فقد مثلوا له بقولهم: «إن عبد الله قائم». * أما المناسبة الثالثة (الإنكار) فالكلام المناسب لها أن يؤكد الخبر الدافع لهذا الإنكار بمؤكدين فأكثر ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (¬4). أكد الخبر هنا بثلاثة مؤكدات هى: أن- لام التوكيد- اسمية الجملة لأن المخاطب؛ كافر. والكافر لا يؤمن بالآخرة. ومثاله من غير القرآن الكريم قولهم: «إن عبد الله لقائم، وفيه ثلاثة، مؤكدات، مثل ما فى الآية، وهى: * إن. * لام التوكيد * اسمية الجملة. وقال البلاغيون فى اختلاف نظم التراكيب الثلاثة، مع أن المعنى- فى الظاهر- واحد: إن التركيب الأول إخبار بقيام عبد الله. والتركيب الثانى إزالة للتردد فى قيامه والثالث إزالة لإنكار منكر قيامه. والكلام فى التركيب الأول سموه الخبر الابتدائى، وفى التركيب الثانى سموه الخبر الطلبى، وفى الثالث الخبر الإنكارى وسموها جميعا- أضرب الخبر (¬5). فإذا خرج المتكلم عن هذه الحدود المرسومة، كأن يؤكد الخبر لخالى الذهن، ويترك التوكيد مع المنكر- لا يسمى الكلام بليغا، ولا المتكلم؛ لأنه أخرج كلامه على خلاف ظاهر مقتضى الحال. أما فى القرآن الكريم فنرى فى مواطن كثيرة إخراج الكلام على مقتضى الحال، وفى مواطن أخرى يأتى الكلام مخرجا على خلاف ¬

(¬2) فاتحة الكتاب (1). (¬3) الإسراء (81). (¬4) الصافات (38). (¬5) بغية الإيضاح (29).

ما يقتضيه ظاهر الحال. ويكون الكلام فى ذروة البلاغة والبيان الرفيع، لأن ذلك الإخراج يجيء فى القرآن لاعتبارات بلاغية خفية تراعى فى البيان القرآنى المعجز (¬6). ومن أمثلة الإخراج على خلاف ظاهر مقتضى الحال فى القرآن الكريم قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (¬7) فى الآية الكريمة الأولى أكد «الموت» بثلاثة مؤكدات هى: اسمية الجملة. إن، لام التوكيد. مع أن الموت لا ينكره أحد قط؛ لأنه حقيقة يؤمن بها كل الناس. فمقتضى ظاهر الحال هنا أن لا يكون فى الكلام توكيد، لكن هذا الظاهر خولف لاعتبار بلاغى عظيم. ذلك أن المخاطبين لما كانوا مفتونين بالدنيا، شديدى الحرص على السعى من أجل الحصول عليها، والتمتع بها وإهمالهم العمل للآخرة، شبّهوا بمن لا يؤمن بالموت فخوطبوا خطاب المنكر الشديد الإنكار لنزول الموت به. وهذا اعتبار بلاغى تربوى كما ترى وكذلك قوله تعالى ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ فيه إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر، فالبعث أنكره كثير من الناس فى حياة كل الرسل، وحكى القرآن الكريم نفسه ما قاله منكرو البعث من مشركى العرب. ومع ذلك ترى القرآن- هنا- لا يؤكد مجىء البعث إلا بمؤكد واحد، وكان الظاهر يقتضى أن يؤكد بثلاثة مؤكدات أو أكثر. فلماذا خولف الظاهر هنا يا ترى؟ الداعى البلاغى لهذه المخالفة، هو إظهار التعريض بغفلة المخاطبين المنكرين للبعث. والإيحاء بأن البعث جدير به أن لا ينكره منكر، لقوة الأدلة عليه، لأن منكرى البعث بنوا إنكارهم على أساس استحالة إحياء الأنفس بعد موتها وصيرورة الأجساد ترابا، وهذه شبهة واهية لأن الله خلق الناس من العدم، فكيف يستحيل عليه أن يعيد حياتهم، وقد خلقهم من قبل ولم يكونوا شيئا. هذا هو الاعتبار أو الداعى البلاغى فى مخالفة الظاهر فى الآيتين معا، وهى اعتبارات بليغة أسمى ما تكون البلاغة. وهذا هو الشأن فى كل صور الإخراج على خلاف ظاهر الحال فى القرآن الكريم. على أننا نجد دواعى أخرى فى القرآن الكريم للإخراج على خلاف الظاهر، نكتفى بمثال واحد منه توخيا للإيجاز. المثال هو قوله تعالى: قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (¬8) هذا كلام الملائكة لله عز وجل، حين طلب ¬

(¬6) وفى كلام البلغاء شعرا ونثرا أمثلة على هذا الإخراج المخالف للظاهر انظر شروح التلخيص (مبحث الخبر). (¬7) المؤمنون (14 - 15). (¬8) البقرة (32). للاستزادة ينظر مبحث الخبر فى: - الإيضاح للخطيب القزوينى. - المطول لسعد الدين التفتازانى. - الأطول لعصام الدين.

منهم أن ينبؤا الله- وهو أعلم- بأسماء الأشياء التى علم الله أسماءهم لآدم. المتكلم فى هذه الآية هم الملائكة. والمخاطب هو الله عز وجل. والملائكة، لا ينكرون أن الله هو العليم الحكيم. والله- وهو المخاطب- لا ينكر أنه هو العليم الحكيم. فكان مقتضى ظاهر الحال أن يقولوا: أنت العليم الحكيم بدون أية مؤكدات. لأن التوكيدات لا تكون إلا مع المنكر. ومع هذا نرى خطاب الملائكة، لله جاءت فيه أربع مؤكدات، هى: إنّ- أنت- اسمية الجملة- تعريف المسند إليه والمسند (المبتدأ والخبر). فالمسند إليه هو «الكاف» فى إِنَّكَ والمسند هو الْعَلِيمُ. فلماذا- إذا- خولف مقتضى ظاهر الحال- هنا- هذه المخالفة القوية الظاهرة؟. إن الداعى والسر البلاغى فى هذه المخالفة هو: «أن مضمون الخبر فى هذا التركيب حقيقة عظيمة، ومن حق الحقائق العظيمة أن يعبر عنها فى البيان العظيم بأسلوب فخم عظيم مثلها» وهذا المنهج خاص ببيان القرآن الكريم، ليس له نظير فى بلاغة البلغاء من البشر، وله فى القرآن الكريم مواطن أخرى فى آيات الله المعجزة. فالتوكيد فى الآية لم يكن مراعا فيه حال المتكلم، ولا حال المخاطب. بل الذى روعى فيه حال المعنى وحده. وللإخراج على خلاف الظاهر فى القرآن الكريم صور أخرى هى: الالتفات- ووضع المظهر موضع المضمر، ووضع المضارع موضع الماضى، ووضع الماضى موضع المضارع، ثم القلب. والمقام- هنا- لا يتسع للحديث عنها. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى المصادر والمراجع:

الالتفات

الالتفات الالتفات لغة التحول والانصراف من جهة إلى أخرى يقال التفت عن الشيء: تحول وانصرف عنه، والتفت إليه إذا أدار وجهه نحوه (¬1). فأصل الالتفات يكون فى الأفعال بإدارة الوجه وحده أو هو والعنق. أما فى اصطلاح علماء البلاغة فالالتفات مقصور على الأقوال دون الأفعال. وله ست صور: * الالتفات فى التعبير من الغائب إلى المخاطب؟ * الالتفات فى التعبير من الغائب إلى المتكلم؟ * الالتفات فى التعبير من المتكلم إلى المخاطب؟ * الالتفات فى التعبير من المتكلم إلى الغائب؟ * الالتفات فى التعبير من الخطاب إلى التكلم؟ * الالتفات فى التعبير من الخطاب إلى الغيبة؟ وقد أورد البلاغيون تعريفات كثيرة للالتفات أكثرها غير واف بالمراد، بدأ من تعريف ابن المعتز للالتفات (¬2) إلى تعريف ابن الأثير له (¬3). ولم يوضع له تعريف فى دقيق إلا على يد الخطيب القزوينى، والذى تابعه عليه شراح تلخيصه وجمهور البلاغيين (¬4). والتعريف الذى كتبه الخطيب وتابعه عليه الجمهور هو: «الالتفات: التعبير عن معنى الطرق الثلاثة التكلم والخطاب والغيبة، بعد التعبير عنه بواحد منها» ومعنى هذا التعريف يؤول إلى الصور الست التى تقدمت. وقد ورد فى القرآن الكريم الالتفات فى صوره المشار إليها من قبل. فالالتفات من الغيبة إلى الخطاب ورد فى مواضع كثيرة منها قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (1) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (4) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فقد بدأ الحديث بطريق الغيبة فى الآيات الثلاث الأولى ثم عدل عن الغيبة إلى الخطاب فى أربعة مواضع فى الآيات الرابعة والخامسة، والسادسة فى الجمل الآتية: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أَنْعَمْتَ ¬

(¬1) لسان العرب والمعاجم اللغوية، مادة لفت. (¬2) البديع (58). (¬3) المثل السائر (2/ 4) والجامع الكبير (98). (¬4) شرح التلخيص للشيخ أكمل الدين البابرتى (257) طرابلس شرح وتحقيق محمد مصطفى رمضان ط أولى عام 1403 هـ/ 1983 م.

ومثال الانتقال من الخطاب للغيبة قوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ .. (¬5). وللالتفات وظيفة بيانية عامة ووظيفة خاصة. فالعامة هى تلوين الخطاب، وفائدته تنشيط ذهن السامع، ودفع الملل عنه، لأن فى انتقال الحديث من أسلوب إلى أسلوب تجديدا لحركة الذهن، وترويحا على المشاعر. وهذا عام فى كل صور الالتفات. وفى ذلك يقول الإمام الزمخشرى: «وتلك على عادة افتنانهم- أى العرب- فى الكلام، وتصرفهم فيه؛ ولأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بفوائد» (¬6). وقد أشار بقوله: «وقد تختص مواقعه بفوائد» إلى ما تختص به كل صورة من صور الالتفات فوق تطرية الكلام وتلوين الخطاب. وتطبيق هذه الملامح البيانية التى تشع من كل صورة من صور الالتفات على ما تقدم من سورتى «أم الكتاب» و «يونس» يرينا ما لهذا الفن البلاغى فى القرآن من دور عظيم الشأن فى التأثير على النفوس. فالانتقال من الغيبة إلى الخطاب فى آيات «الفاتحة» كان عقب ثناء العبد على الله بطريق الغيبة. فهو وحده المستحق للحمد كله. وهو وحده الرحمن الحق، والرحيم الحق وهو وحده مالك شئون يوم الدين. وبعد استحضار هذه الكمالات فى المشاعر، يقترب العبد من حضرة ربه، ويقف بين يديه فيخاطب ربه مخاطبة الحاضر؛ لا مخاطبة الغائب. أما فى آية «يونس» فإن قوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ أى استقررتم وركبتم فيها. والفلك تركب لتجرى بمن فيها، فإذا جرت وأسرعت براكبيها فقد غابوا وهى تمخر بهم عباب الماء. فالتفت القرآن من توجيه الخطاب إليهم إلى الحديث عنهم بطريق الغيبة إشارة إلى نعمة جرى السفن بهم. ومثال الانتقال من الغيبة إلى التكلم قوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ .. (¬7). فقد جرى الحديث أولا عن الغائب، ثم التفت من الغيبة إلى التكلم فقال فَسُقْناهُ. والداعى البلاغى لهذا الالتفات هو التلويح ¬

(¬5) يونس (22). (¬6) الكشاف (1/ 12). (¬7) فاطر (9).

منه تعالى بعظم النعمة، وكمال التدبير، لأن سير السحب فى اتجاهات ملحوظة فى الجو محض تدبير من الله عز وجل بما يصلح أحوال العباد، فهو يصرف السحب عمن ليسوا فى حاجة إلى الماء، إلى قوم يعلم الله شدة حاجتهم إلى الماء، فيأمر السحب بالسير نحوهم. ومثال الانتقال من التكلم إلى الغيبة قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ وكان الأصل أن يقال: فصل لنا، بضمير المتكلم لا الاسم الظاهر (رب) - لأنه من قبيل الغائب. والداعى البلاغى هو إظهار الامتنان على المخاطب؛ وسرعة امتثال الأمر؛ لأن الصلاة المأمور بها هى (لربك) ومن خصائص (رب) الإنعام والرعاية، وفى قوله عز وجل: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ التفات من التكلم إلى الخطاب، حيث أوقع الفعل «فطر» على ضمير المتكلم، ثم التفت منه إلى الخطاب فى تُرْجَعُونَ والداعى البلاغى هو التصريح بتعميم الحكم (الرجوع إلى الله) على جميع الذين فطرهم الله، لئلا يتوهم المخاطبون أنه خاص بالمتكلم. ويجوز أن يكون فى هذه الآية إيجازا بالحذف المسمى «الاحتباك» حيث حذف من الأول (فطرنى) ما دلّ عليه الثانى (ترجعون) ومن الثانى (ترجعون) ما دل عليه الأول (فطرنى) والتقدير وما لى لا أعبد الذى فطرنى وفطركم، وإليه ترجعون وأرجع. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

القصر

القصر القصر فى اللغة الحبس والتضييق والمنع، ومعناه قريب من معنى الحصر (¬1). أما فى اصطلاح البلاغيين فيدور معناه حول معنى التخصيص أى تخصيص أمر بأمر آخر، بمعنى منع الشركة فيه، فهو لمن خصصته به، كما لو قائل قال: هذا الكتاب لخالد، فقد قصر ملكية الكتاب على خالد دون أن يشركه أحد فيه. هذا هو المعنى العام للقصر فى اللغة، أما المعنى فى البلاغة فهو: «تخصيص شىء بشيء بطريق مخصوص» (¬2) هذا تعريف الإمام جلال الدين السيوطى. أما الخطيب القزوينى فقد عرفه بقوله: «تخصيص أحد الأمرين بالآخر وحصره فيه» (¬3) وهو قريب من تعريف السيوطى، بيد أنه لم يذكر الطريق أو الأداة التى تستخدم فى القصر، وقد تداول البلاغيون هذين التعريفين مع ميلهم إلى التعريف الأول. وهذا مثال يوضح مرادهم من التعريف: «ما نجا إلا الصالحون» هذا المثال من صور القصر، لأنه خص أمرا هو «النجاة» بأمر هو «الصالحون» أما الطريق المخصوص، الذى به تحقق القصر فهو «النفى والاستثناء» أى ما وإلا. ومن هذا التحليل يتبيّن أن أسلوب القصر يتكوّن من ثلاثة أركان: الأول: هو الأمر المقصور، وهو فى هذا المثال «النجاة». الثانى: هو المقصور عليه، وهو فى هذا المثال «الصالحون». الثالث: طريق القصر أو أداته، وهو- هنا- النفى والاستثناء، سواء كان بما وإلا، أو بغيرهما. وهناك أمثلة من القرآن الكريم موزعة على أدوات القصر: * النفى والاستثناء، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ .. (¬4). هذا قصر موصوف (محمد) على صفة (رسول) أما أداة القصر فهى (ما، وإلا): أى النفى والاستثناء فقد خصصت ¬

(¬1) اللسان والمعاجم اللغوية مادة: قصر. (¬2) شروح التلخيص (2/ مبحث القصر) ومعترك الأقران للسيوطى (2/ 2). (¬3) شرح التلخيص (321) عمل محمد مصطفى رمضان. (¬4) آل عمران (144).

الآية محمدا صلّى الله عليه وسلم بأنه رسول، كما كان من معانى هذا القصر نفى أن يكون لمحمد صلّى الله عليه وسلم صفة أخرى تخرجه عن بشريته، وعن منع إجراء أحكام البشرية عليه، ومنها الموت، الذى استعظم أصحابه نزوله به عن طريق القتل وغيره. * إنما: ومن أدوات القصر «إنما» ومن أمثلتها فى القرآن الكريم قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ .. (¬5). المقصور هو التحريم، والمقصور عليه هو الميتة وما عطف عليه. وأداة القصر هى «إنما» وهو قصر صفة (التحريم) على موصوف (الميتة وما عطف عليه. وأداة القصر هى «إنما» والمعنى: ما حرّم عليكم إلا كذا والمقصور فى طريق «إنما» هو ما يأتى بعدها مباشرة أما المقصور عليه فهو ما يأتى ثانيا بعد المقصور وأما المقصور فى طريق النفى والاستثناء فهو ما يقع قبل أداة الاستثناء. والمقصور عليه هو ما يقع بعد أداة الاستثناء. * تقديم ما حقه التأخير هذا طريق ثالث من طرق القصر، وهو تقديم ما حقه التأخير، كتقديم الخبر على المبتدأ، وتقديم الحال على صاحبها، وتقديم المفعول على الفعل. ومن تقديم ما حقه التأخير فى القرآن الكريم قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فقد قدّم إِيَّاكَ فى الموضعين على الفعل نَعْبُدُ، نَسْتَعِينُ لإرادة القصر والتخصيص، والمعنى. نخصك بالعبادة، ونخصك بالاستعانة، ولولا إرادة القصر لقيل: نعبدك ونستعينك. لأن هاتين العبارتين لا تمنعان التشريك فى العبادة والاستعانة. والآية اشتملت على صورتى قصر، وفى كل منهما قصر صفة على موصوف: أى قصر العبادة والاستعانة وهما صفتان، على موصوف، وهو الله عز وجل، المكنى عنه ب «الكاف» فى إِيَّاكَ. * تعريف جزئى الجملة الاسمية: ومن طرق القصر تعريف جزئى الجملة الاسمية (المسند إليه والمسند) ومن أمثلته فى القرآن الكريم قوله تعالى. فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ (¬6) المسند إليه «الله» والمسند الْوَلِيُّ أى لا ولى إلا الله، قصر صفة على موصوف على سبيل التحقيق. وأداة القصر هى تعريف كل من المسند إليه فَاللَّهُ والمسند الْوَلِيُّ وقد زاد القصر هنا قوة ضمير الفصل هُوَ. * العطف بلا وبل ولكن، ومن طرق القصر العطف بلا وبل ولكن. ومن أمثلته فى ¬

(¬5) المائدة (115). (¬6) الشورى (9).

القرآن الكريم قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ (¬7). المقصور فى الآية هو (من يقتل في سبيل الله) والمقصور عليه هو أَحْياءٌ وأداة القصر هى بَلْ قصر موصوف على صفة. ويشترط فى إفادة بَلْ القصر أن يتقدم عليها نفى أو نهى. وفى هذه الآية تقدم عليها النهى: وَلا تَقُولُوا. ومثل «لكن» قوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ (¬8) فالمقصور محمد صلّى الله عليه وسلم والمقصور عليه الرسالة، وأداة القصر لكِنْ ويشترط فيها ما اشترط فى بَلْ من تقديم النفى أو النهى عليها. وقد تقدم عليها فى هذه الآية النفى بما. وللقصر أنواع ثلاثة، باعتبار حال المخاطب، فقوله تعالى إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (¬9). يصلح أن يكون قصر قلب، أو قصر إفراد، أو قصر تعيين. * فإن كان المخاطب يعتقد أن محمدا ملك لا بشر كان القصر قصر قلب، أى قلب اعتقاد المخاطب إلى العكس. وإن اعتقد أنه ملك وبشر، كان قصر إفراد. * وإن كان مترددا هل هو ملك أو بشر كان قصر تعيين. وللقصر باعتبار الواقع نوعان: * قصر حقيقى مطابق معناه للواقع، ومثاله من القرآن: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لأن هذا القول مطابق للواقع تماما. * قصر ادعائى أو تنزيلى فإن كان القصر قصر صفة على موصوف فإنك تذهب إلى عدم الاعتداد بكل ما له من صفات سوى الصفة التى قصرته عليها. ومثاله ما تقدم وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى المصادر والمراجع: ¬

(¬7) البقرة (154). (¬8) الأحزاب (40). (¬9) فصلت (6). وللاستزادة: انظر مباحث القصر فى: * دلائل الإعجاز* المطول* الإيضاح

المجاز العقلى

المجاز العقلى المجاز فى اللغة مأخوذ من جاز المكان يجوزه، إذا انتقل من مكان إلى مكان، ويقال جاز الطريق يعنى سار فيه (¬1). وتعريفه فى اصطلاح البلاغيين امتداد لمعناه اللغوى إلا إنه أخص، لأن المعنى اللغوى يشمل كل انتقال، على أن الأصل فى اللغة يدور حول انتقال الأجسام، أما فى البلاغة فهو مقصور على نقل الألفاظ من معنى إلى معنى آخر. وفى هذا المعنى يقول الإمام عبد القاهر الجرجانى «المجاز مفعل من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه وإذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة وضعا على أنه مجاز، على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلى أو جاز هو مكانه الذى وضع فيه أولا» (¬2). وقد تطور هذا التعريف بعد الإمام عبد القاهر فى مباحث الحقيقة والمجاز فى البحث البلاغى، وقد قسموا المجاز قسمين: * المجاز اللغوى وعرفوه بأنه: استعمال اللفظ فى غير ما وضع له لعلاقة بين المعنى الوضعى للفظ، والمعنى المجازى. * المجاز العقلى، وفرقوا بين المجاز اللغوى والمجاز العقلى بأنه فى المجاز اللغوى يتم التصرف فى معانى اللغة كما فى مبحث الاستعارة فاستعارة كلمة أسد للرجل المقدام تم التصرف بإحلال معنى الأسد بالرجل الشجاع، أما المجاز العقلى فتكون معانى الألفاظ فيه مرادا منها المعانى الوضعية دون إدخال أى تغيير عليها، أما تسميته مجازا فله اعتبار آخر، هذا الاعتبار يظهر من تعريف المجاز العقلى كما ذكره الخطيب وتابعه عليه جمهور البلاغيين، وهو: «إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأول» (¬3) ويسمى المجاز الحكمى أو المجاز الإسنادى، لأنه مجاز مركب لا يقع إلا فى الجمل. يعنى أن المجاز العقلى يكون بإسناد الفعل، أو ما فيه معنى الفعل كاسمى الفاعل والمفعول إلى غير فاعله فى حكم العقل والواقع. والفاعل المجازى في المجاز العقلى يشترط فى صحة إسناد الفعل أو ما فى معنى الفعل، إليه أن تكون له صلة بالفعل، فإن لم تكن له بالفعل صلة فلا يجوز إسناد الفعل إليه، ولا إسناد ما فيه معنى الفعل. وهذه الصلة هى التى أشار إليها الإمام الزمخشرى بالملابسة وأخذها عنه الخطيب، وجميع البلاغيين من بعده (¬4) والذى يلابس الفاعل ويكون له بالفعل علاقة هو الآتى، مع التمثيل له من القرآن الكريم. ¬

(¬1) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: جوز. (¬2) أسرار البلاغة (342) دار المعرفة- بيروت- لبنان 1398 هو 1978 م/ ت: محمد رشيد رضا. (¬3) الإيضاح. ضمن شروح التلخيص (1/ 223). (¬4) شروح التلخيص (1/ 225) وما بعدها.

* المكانية من صور المجاز العقلى إسناد الفعل أو ما فى معناه إلى المكان الذى حدث فيه الفعل، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ... يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (¬5) هذان مجازان عقليان أحدهما فى إسناد الإخراج إلى الأرض، والفاعل الحقيقى هو الله. أما الأرض فهى مكان الفعل وليست فاعله، والذى سوّغ أن تكون الأرض فاعلا للإخراج أنها مكان الفعل. فالملابسة والعلاقة هى المكانية. وكذلك إسناد التحديث إلى ضمير الأرض، مجاز عقلى علاقته المكانية، أما الفاعل الحقيقى فهو الله عز وجل ومثلهما قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً ... (¬6) فقد أوقع اسم الفاعل آمِناً وهو في قوة معنى الفعل، على ضمير بَلَداً على سبيل المجاز العقلى والبلد مكان. فالملابسة أو العلاقة فيه هى المكانية وفاعل الأمن الحقيقى هم أهل البلد «مكة» لا البلد. * الزمانية: لكل فعل زمان يقع فيه، لذلك صح أن يسند الفعل إلى زمانه على سبيل المجاز العقلى، ومن أمثلته فى القرآن الكريم: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (¬7) فقد أسند فيه الفعل يَجْعَلُ لضمير يَوْماً على أنه فاعل الشيب فى الْوِلْدانَ أى الأطفال صغار السن، واليوم هو زمان التشييب لا فاعله، لأن الفاعل الحقيقى هو الله عز وجل، واليوم ظرف للتشييب. * السببية، وقد يكون المجاز العقلى حاصلا بإسناد الفعل إلى سببه، وهو كثير فى القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى فى شأن آدم وحواء فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ (¬8) فقد أسند الإخراج إلى ضمير الشَّيْطانُ وهو سبب الإخراج وليس فاعله. والعلاقة فيه هى السببية، والتقدير؛ فأخرجهما الله بسبب وسوسة الشيطان لهما، وإغرائه إياهما على الأكل من الشجرة المحرمة عليهما. ومثله قوله تعالى: ... وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً .. (¬9) والمجاز العقلى- عموما- يفيد المبالغة فى تصوير أثر الفاعل المجازى الذي أسند إليه الفعل في صدور الأثر المراد، بتحويله من كونه مكانا للفعل أو زمانا أو سببا إلى كونه فاعلا للفعل. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬5) الزلزلة (402). (¬6) البقرة (126). (¬7) المزمل (17). (¬8) البقرة (236). (¬9) الأنفال (2).

التشبيه

التّشبيه التشبيه فى اللغة: التمثيل، يقال فلان شبيه بفلان، إذا كانت فيه أوصاف (¬1) تشابه أوصافه. أما فى اصطلاح البلاغيين فقد عرفه الخطيب القزوينى فقال: «التشبيه: الدلالة على مشاركة أمر لآخر فى معنى» (¬2) وهذا التعريف فيه قصور؛ لأنه لم يذكر أداة التشبيه وهو- مع قصوره أقرب تعريفات التشبيه إلى الكمال لأن ما قبله من التعريفات أكثر منه قصورا. وأكمل تعريفات التشبيه ما عليه متأخرو البلاغيين حيث عرفوه بقولهم: «التشبيه هو الدلالة على مشاركة أمر لأمر، فى معنى مشترك بينهما بأداة مذكورة أو مقدرة، لغرض يقصده المتكلم». وإنما كان هذا التعريف أكمل ما قيل فى تصوير التشبيه لأنه اشتمل على كل أركانه وعناصره: فالأمر الأول هو: المشبه. والثانى هو: المشبه به. وفى معنى، هو وجه الشبه. وبأداة، هى أداة التشبيه حرفا كانت مثل الكاف فى قولنا الشمس كالمرآة. أو اسما فى: الشمس مثل المرآة. أو فعلا فى: الشمس تحاكى المرآة. أما: الغرض الذى يقصده المتكلم فهو الغرض البلاغى من كل عملية تشبيهية. كما تضمن هذا التعريف حالتى ذكر الأداة وحذفها، وكذلك حذف وجه الشبه وذكره، وهما ليسا من أطراف التشبيه، بل أمران عارضان وأركان التشبيه هى المشبه، وهو الأمر الأول فى التعريف. المشبه به، وهو الأمر الثانى فى التعريف. الوجه، وهو الصفة المشتركة، بين الأمرين. الأداة، وهى وسيلة الدلالة على المشاركة. والمشبه والمشبه به يسميان: طرفى التشبيه. ومجموع الأربعة، يسمى أركان التشبيه. وللتشبيه عند البلاغيين أربعة ألقاب، وثلاث مراتب: ¬

(¬1) اللسان،- والمعاجم اللغوية مائدة: شبه. (¬2) بغية الإيضاح (2/ 7).

* فاللقب الأول: التشبيه المرسل المفصل وهو ما ذكرت فيه أركانه الأربعة: مثل: (حجة كالشمس فى الظهور) فالحجة هى المشبه، والشمس هى المشبه به، والكاف هى أداة التشبيه. وفى الظهور هو وجه الشبه. وسمى مرسلا لذكر الأداة، ومفصلا لذكر الوجه. واللقب الثانى: التشبيه المرسل المجمل، وهو ما ذكرت فيه الأداة وحذف الوجه، مثل: حجة كالشمس. وسمى مرسلا لذكر الأداة، ومجملا لحذف وجه الشبه. * واللقب الثالث: التشبيه المؤكد المفصل، وهو ما حذفت فيه الأداة، وذكر الوجه، مثل: حجة هى الشمس فى الظهور. * واللقب الرابع: التشبيه المؤكد المجمل، وهو ما حذف فيه الوجه والأداة معا. مثل: حجة هى الشمس. ومراتبه الثلاث من حيث الدلالة على قوة المعنى هى: * أدنى درجاته ومراتبه: ما ذكرت فيه أركانه الأربعة كقول الشاعر: فوجهك كالنار فى ضوئها ... وقلبى كالنار فى حرها فى البيت صورتان تشبيهيتان: المشبه فى الأول وجه المخاطبة، والمشبه به النار، والكاف أداة التشبيه. وفى ضوئها وجه الشبه. والصورة الثانية مثلها، ما عدا وجه الشبه فهو «فى حرها». المرتبة الوسطى: هى ما ذكرت فيها الأداة مع حذف الوجه وما حذفت فيه الأداة مع ذكر الوجه. لأن هاتين الصورتين، وهما الثانية والثالثة، من ألقاب التشبيه، معناهما متكافئان. المرتبة العليا، هى ما حذف فيها الوجه والأداة معا، وإنما كانت هذه المرتبة عليا مراتب التشبيه لأن: فى حذف الأداة دعوى الاتحاد بين الطرفين، حتى لكأن المشبه صار هو المشبه به، دون عازل بينهما. وفى حذف الوجه دعوى مشاركة المشبه للمشبه به فى جميع ما ثبت له من صفات. لذلك يسمى البلاغيون كل تشبيه حذف منه الوجه والأداة معا: التشبيه البليغ: لأنه أقوى مراتبه فى الدلالة على المعنى المراد من التشبيه. وضابط وجه الشبه عندهم أن يكون مجرورا ب «فى» أو منصوبا على التمييز.

مثل أن يقال: خالد كالأسد فى الشجاعة: وخالد كالأسد شجاعة. والتشبيه فى القرآن الكريم لم يخرج عن هذه الضوابط التى ذكرناها تمهيدا لفهم تشبيهات القرآن الكريم ومنزلتها فى البيان المعجز الرفيع. والتشبيه فى القرآن الكريم من أساليب بلاغته العالية وهو فيه كثير الورود، بلغت صوره ما يقارب الخمسمائة صورة، وشملت كل أنماط التشبيه من حيث الإفراد والتركيب فى الطرفين والوجه، ومن حيث الحسية والمعنوية فيهما، وأدت هذه الصور خدمات بيانية وتربوية فى مجال الدعوة تحنو لها الجباه، وكانت وجها أو وجوها من وجوه الإعجاز القرآنى المفحم للإنس والجن، وحفلت بدقائق ولطائف وأسرار ليس لها نظير خارج دائرة البيان القرآنى. وجمعت فى دلالاتها بين إقناع العقل، وإمتاع العاطفة وتغذية القلوب، وكشفت عن خبيئات المعانى، ترغيبا وترهيبا، تحبيبا وتنفيرا، ومثلت الخفى فى صورة الجلى، والغامض فى صورة المكشوف، وخاطبت كل حواس الإدراك فى الإنسان وكل ملكات الفهم والتذوق عند العقلاء. خذ إليك مثلا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (¬5). جاء التشبيه فى نهاية الآية، وقد تقدم عليه ما ينفى عنه كل نقص، هو قوله تعالى: فِي سَبِيلِهِ دفعا للقتال الذى لم يرد به نصرة الحق، كالقتال عصبية، أو ظلما. كما تقدم عليه قوله تعالى صَفًّا إلماحا إلى شدة التماسك بين المجاهدين فى سبيل الله، بحيث لا يترك تماسكهم أدنى خلل يضعف قوتهم. ثم جاء التشبيه شارحا لذلك التماسك المفهوم من قوله: صَفًّا هكذا: كالبنيان ووجه الشبه هو «القوة والإحكام، وهو محذوف وقد صار التشبيه بحذف الوجه مجملا، فأفاد عموم الاشتراك بين المشبه والمشبه به، وهو أحد عنصرى التشبيه البليغ. ومن سحر البيان فى هذا التشبيه إيثار أداة التشبيه كأن وقد تقدم أن ذكر الأداة يكون معه التشبيه مرسلا، والإرسال أدنى دلالة من التوكيد الذى يترتب على حذف الأداة، لكن الأداة كأن دفعت هذا الاحتمال لأن «كأن» مركبة من عنصرين كما ترى: الكاف، ثم أن. وهى من أدوات التوكيد، لأنها من أخوات «إن» هذا التركيب يوحى بأن «الكاف هى أداة التشبيه، أما «أن» فهى أداة توكيد قائمة برأسها. فيكون التشبيه فى الآية مؤكدا، ¬

(3) البلاغة التطبيقية (مبحث التشبيه) د/ أحمد إبراهيم مرسى. (4) بغية الإيضاح (2/ 176). (¬5) الصف (4).

فيزول عن هذه الصورة التشبيهية وصف الإرسال. وحتى لو لم تكن «كأن» مركبة. فهى عند فريق من العلماء تستعمل فى التشبيه المؤكد، فيكون مرسلا من جهة، ذكر الأداة لفظا، ومؤكدا من جهة معنى «كأن». والمشبه به بُنْيانٌ جىء به منكرا بقصد التعظيم أى بنيان عظيم فى قوة تماسكه. أما قوله مَرْصُوصٌ فقد كمل به الحسن من كل وجه، لأن البنيان قد يكون على هيئة لا تماسك فيها. فجاء «مرصوص» بمثابة احتراس لدفع كل عوامل الوهن عن المشبه به. أما من حيث تحليل عناصر هذا التشبيه فإن الملاحظ فيه: أن المشبه مفرد حسى وإن كان جمعا: لأن المثنى والجمع فى هذا المبحث من قبيل الإفراد، وهو الذين يقاتلون فى سبيل الله صفا. والمشبه به مفرد حسى كذلك، وهو البنيان المرصوص والوجه مفرد حسى، وهو: قوة التماسك الملحوظة فى المشبه والمشبه به معا. أما الغرض من التشبيه فهو الترغيب. ومثال آخر، هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (¬6) التشبيه هو قوله تعالى: وَسِراجاً مُنِيراً والخطاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. المشبه فيه هو النبى عليه السلام. والمشبه به هو السراج، وأداة التشبيه محذوفة والوجه محذوف كذلك. وليس هو مُنِيراً لأنه وصف للمشبه به، لا منصوب على التمييز، حتى يصلح أن يكون وجها للتشبيه. وإنما الوجه هو: فى الهداية «لأن الهداية متحققة فى الطرفين المشبه (محمد صلّى الله عليه وسلم) والمشبه به (السراج المنير). والمشبه والمشبه به مفردان حسيان، والوجه (الهداية) مفرد عقلى معنوى. والغرض الثناء وفى هذا التشبيه لطيفة من لطائف البيان العالى والبلاغة الآسرة والإعجاز الحكيم. ذلك أن المشبه به هو السراج، والسراج مصدر ضوئى ذاتى، كالشمس، وليس مصدر إنارة مستمدة من غير السراج. فكان الظاهر أن يقال: وسراجا مضيئا. كما قال: الشَّمْسَ ضِياءً أى جعلناها مضيئة لا منيرة، لأن الضوء ما صدر عن مصدره صدورا مباشرا. أما النور والإنارة فمصدره ¬

(¬6) الأحزاب (45 - 46).

عاكس لضوء غيره. لذلك وصف القمر فى القرآن بأنه نور، ومنير، لأنه يعكس ضوء الشمس، وليس له إشعاع ذاتى. إذن، لماذا وصف القرآن محمدا صلّى الله عليه وسلم بعد تشبيهه بالسراج بأنه مُنِيراً والسراج له ضوء لا نور؟ إن إيثار مُنِيراً على «مضيئا» قبس من ضوء الإعجاز البلاغى فى القرآن الكريم؛ لأن محمدا صلّى الله عليه وسلم لم يخترع الهدى الذى جاء به من عند نفسه وإنما تلقاه عن الله عز وجل، فهو عاكس لهذا الضوء الإلهى ولو قيل «مضيئا» لوقع فى بعض الأفهام أنه مجرد عبقرى من عباقرة البشر، وليس له صلة بالله. وهذا ما يردده بعض المستشرقين الآن، لكن لما قال مُنِيراً أحكم غلق كل النوافذ أمام الأوهام المريضة، عن طريق استخدام مفردات اللغة فى أعلى وأدق وأحكم مستويات استعمالها. كما كان فى إيثار مُنِيراً علي «مضيئا» إثبات لرسالة محمد صلّى الله عليه وسلم؛ لأنه منير عاكس لضوء مصدره الله عز وجل، وليس هو مصدره. ولقائل أن يقول: ولماذا لم يقل القرآن: وقمرا منيرا؟ فيريحنا من تلك التأويلات؟ والجواب: أن البلاغة والإعجاز فى وَسِراجاً مُنِيراً وليس كذلك: وقمرا منيرا. وذلك لأن من منهج القرآن البلاغى ألا يشبه أحدا من الخلق بالقمر «فهذا أمر هجره البيان القرآنى تماما. هذه واحدة. والثانية أن التشبيه بالقمر لا يرقى إلى مستوى التشبيه بالسراج. ولا يؤدى عشر معشار المعانى التى تشع منه، بيان ذلك: أن القمر متقلب لا يدوم على حال. ففي كل يوم له وضع يختلف عما قبله وما بعده: يبدو ضعيفا هزيلا نحيفا فى أولى مراحله، قصير المكث فى الأفق ولا يبلغ تمامه إلا ليلة واحدة فى دورته الشهرية، ثم يعود عكس ما بدأ، يصغر حجمه ليلة قليلة، ثم يختفى تماما فى آخر لياليه. وليس الهدى الذى جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم كذلك فهو مستقر لا متقلب كالقمر، دائم لا تعتريه آفات ولا علل. إن السراج الذى شبه الله به محمدا صلّى الله عليه وسلم لم ينطفئ منذ أشعله الله، ولم يضعف، ولن ينطفئ ولن يضعف. لذلك كان التشبيه به بلاغة وإعجازا. أما التشبيه بالقمر- فى هذا المقام- فعىّ وفهاهة، لذلك لم يشبه الله رسوله به؛ لأن حديث الله أحسن الحديث، وقوله أصدق الأقوال.

فتأمل هذه الروائع واللطائف فى هذا التشبيه، وقس عليها ما شئت من تشبيهات البشر، لتدرك بعد الثريا من الثرى. وصورة ثالثة نعرج عليها فى سرعة، هى قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً (¬7). هذه الآية تتحدث عن رجل أو صنف من الناس كانوا يقفون عقبة كئودا فى وجه الدعوة، ويستجلبون بدائل عنها يلهون بها الناس عن سماع دعوة الحق، ويفرون هم منها فرار الحمر المذعورة من الأسد الهصور. هذه هى القضية، فكيف صورها التشبيه القرآنى للناس، فى كلمات صغار ذوات معان كبار. تعال معى لنرى ونتذوق: صورها أولا: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً والتولى هو الفرار أو الهروب السريع، ثم بين علة هذا الهروب والفزع، وهى الاستكبار، وجعل الاستكبار حالا منه، يعنى هرب يطير به استكباره الخادع. ومن أى شىء هرب مسرعا؟ من آيات الله الهادية إلى سبيل أقوم. هذا التصوير كان كافيا فى رسم شخصية هذا الخصم الألد، لكن القرآن يخطو بنا خطوة أخرى عن طريق التشبيه فيقول: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها شبه حاله فى عدم التأثر بهدى الله، وهو يتلى عليه بحال من لم يسمع تلك الآيات الهاديات. ووجه الشبه هو انعدام الإحساس بما يتلى. ومن دقائق هذه الصورة إيثار (أن) المخففة من الثقيلة (أنّ) لأن هذا الإيثار أتاح حذف ضمير الشأن من (أن) مضافا إلى تخفيف (أن) من التشديد. فكان فى هذين (التخفيف وحذف ضمير الشأن) إسراع إلى وصف هذا الصنف من الناس بعدم السماع، وفى هذا ذم لهم وتسجيل سريع عليهم بالإعراض عن دعوة الحق. والمشبه والمشبه به أمران معنويان: انعدام التأثر، وفقد القدرة على السماع. ووجه الشبه هو شدة التبلد فى كل منهما ثم جاء التشبيه الثانى كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً كاشفا، وشارحا لفقد القدرة على السماع فى التشبيه الأول، مع زيادة تأصيل للصمم الذى حل بالمعرضين عن دعوة الحق، فقد أصيبت أذناه بآفة عطلت وظيفتهما فكأنهما- أعنى أذنيه- غير موجودتين. فتأمل كيف بنى التشبيه الفكرة تصاعديا، حتى وصل بها الذروة فى المعنى المراد: ولى مستكبرا. كأن لم يسمعها. كأن فى أذنيه وقرا. فبشره بعذاب أليم. ¬

(¬7) لقمان (7).

ونشير بعد ذلك إلى أمرين: أولهما أن جميع تشبيهات القرآن تشبيهات مجملة، لم يذكر فيها وجه الشبه ولا مرة واحدة. وثانيهما: أن فى تشبيهات القرآن نوعا أسميناه فى بعض كتبنا: التشبيه السلبى .. وتحته صور كثيرة. هذا النوع نادر جدا فى غير القرآن، وكثير فى القرآن وضابطه أن التشبيه وقع خطأ بين أمرين خارج القرآن. فجاء القرآن ونفى ذلك التشبيه، ومن أمثلته قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (¬8). فهذا التشبيه بين الصالحين والطالحين وقع خارج دائرة القرآن، فى ظن الذين عاندوا الله ورسوله. والذى فى القرآن هو نفى ذلك التشبيه. لذلك أسميناه ب «التشبيه السلبى أو التشبيه المسلوب» (¬9). أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬8) الجاثية: 21. (¬9) خصائص التعبير فى القرآن الكريم وسماته البلاغية (مبحث التشبيه) مكتبة وهبة- القاهرة.

التمثيل

التّمثيل التمثيل فى اللغة المماثلة بين شيئين تجمع بينهما صفات مشتركة فيهما أكثر من الصفات المفرقة بينهما، أو ما فى أحدهما مماثل تماما لما فى الآخر، بحيث لا يعتد بما بينهما من تباين (¬1). أما فى اصطلاح البلاغيين فيطلق التمثيل على عدة فنون بلاغية: يطلق على الاستعارة التمثيلية، وعلى ضرب المثل، وعلى الكناية، وعلى نوع من الاستعارة غير التمثيلية (¬2)، ثم على التشبيه المركب، وهو الذى نخصه بالحديث فى هذا المبحث. والتشبيه المركب هو التشبيه التمثيلى، أو التمثيل، وهو قسيم التشبيه فى الوجود. وبين التمثيل والتشبيه اتفاق واختلاف؛ لأن كل تمثيل تشبيه، وليس كل تشبيه تمثيلا فالتشبيه خاص بما كان طرفاه (المشبه والمشبه به) مفردين ولو كان مثنى أو جمعا، كما تقدم فى مبحث التشبيه، وكذلك وجه الشبه يكون فى التشبيه مفردا، يعنى أمرا واحدا وإن تعدد وجه الشبه، كتشبيه القمر فى أواخر لياليه بالعرجون القديم فى التقوس والشحوب والنحافة (الدقة). أما التمثيل أو التشبيه التمثيلى فيشترط فى طرفيه أن يكونا مركبين من عنصرين فأكثر. هذه هى الفروق بين التشبيه، والتشبيه التمثيلى. وهذا موضع إجماع بين علماء البيان. فإن أطلق وصف التمثيل على التشبيه لم يرد منه التشبيه التمثيلى باتفاق وفى القرآن الكريم صور كثيرة للتشبيه التمثيلى المركب الطرفين والوجه، موزعة على معان وأغراض شتى شارحة، مرغبة، محذرة، ناصرة للحق، داحرة للباطل جامعة فى تصويرها بين مخاطبة كل المدارك والملكات مستخدمة فى أدائها كل عناصر الكشف، وقوة التأثير من ألوان يدركها البصر، وأصوات يتلقاها السمع وطعوم يحس بها الذوق، وشذا مفعم بالأريحية تمتع حاسة الشم، أو دخان خانق يزكم الأنوف. وقد أجمل بعض الباحثين الأغراض التى تراد من التشبيه التمثيلى وغير التمثيلى فى الآتى: * تقرير المعنى المراد فى وعى السامع. ¬

(¬1) المصباح المنير والمعاجم اللغوية، مادة: مثل. (¬2) العمدة لابن رشيق (30).

* الإقناع بفكرة ما خيرية أو شرية. * تحسين أمر للعمل به والحث عليه، أو تقبيح أمر للتنفير منه. * إثارة المشاعر رغبة، أو رهبة. * المدح أو الذم، التعظيم أو التحقير. * إخراج الخفى مخرج الجلى. * إمتاع العواطف وإثارة ملكات الفهم. * عرض المعانى فى أسلوب شيق غير ممل (¬3). وكثيرا ما تأتى صور التشبيه التمثيلى فى القرآن، وطرفا التشبيه فيها كلمة «مثل» بفتح الميم والثاء، أو يأتى «مثل» مشبها مصرحا به دون المشبه به. وقد يؤتى بكلمة «مثل» فى تشبيهات القرآن مرادا بها القصة والشأن العجيب، أو مشارا بها إلى مثل مضروب على غير طريق التشبيه. والمراد من كل استعمالاتها التوضيح والكشف والعظة والاعتبار. وقبل أن نأخذ فى عرض النماذج وتحليلاتها نشير إلى فرق آخر جوهرى بين التشبيه المفرد الطرفين والوجه والتمثيل المركب الطرفين والوجه. ذلك الفرق هو أن التشبيه المفرد يأتى فى نطاق أضيق من حيث الدلالة على المعانى، من التشبيه التمثيلى، حيث ترى نسبة معانى التشبيه المفرد من نسبة معانى التشبيه التمثيلى تعادل نسبة 1: 2، أو إلى 3 أو أكثر، لأن التشبيه التمثيلى له دلالات مكثفة فى الطرفين، وفى الوجه. فمثلا قول كعب بن زهير فى مدح النبى صلّى الله عليه وسلم إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول فيه تشبيه للرسول بالنور فى الهداية فى الشطر الأول وتشبيه له بالسيف فى القوة. ففي كل تشبيه منهما معان جزئية مفردة لا كثافة فيها. قارن هذا بقول الشاعر يصف الشمس وقت شروقها والشمس من مشرقها قد بدت ... صفراء ليس لها حاجب كأنها بوتقة أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب المشبه هو الشمس وقت شروقها فى لونها الأصفر، وامتدادات قرصها، وأشعتها المتهادية منها. هذا هو تركيب المشبه أما المشبه به فهو إناء نحاس مستدير الشكل ¬

(¬3) أمثال القرآن (59 - 60) دكتور عبد الرحمن الميدانى الطبعة الثانية (1412 هـ- 1992 م) دمشق- دار القلم.

أحميت عليه النار وفيه ذهب أصفر اللون، ذائب يتحرك وسط الإناء تخرج منه أشعة صاعدة أمام الرائى. وهذا هو تركيب المشبه به والمشبه وهما مركبان حسيان يريان بحاسة البصر. أما وجه الشبه: فهو الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع صفرة اللون والأشعة المتموجة المرسلة من سطح الإناء وهذا هو تركيب وجه الشبه. قارن هذا التشبيه التمثيلى بالتشبيه المفرد فى قول كعب بن زهير يمدح الرسول صلّى الله عليه وسلم. تر الفروق الواضحة بين كثافة المعانى والصور هنا، ويسرها وبساطتها هناك. وعلى هذا المنوال جاءت التشبيهات التمثيلية في القرآن الكريم، ولنأخذ أولا قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (¬4). هذه الآية الكريمة تواجه قضية من قضايا الشرك والإيمان فى منتهى الخطورة: حاصل هذه القضية أن مشركى العرب، مع إيمانهم بالله، كانوا يشركون به أصنامهم وأوثانهم، يرجون منها النفع، وأن يقربوهم من الله زلفى. فكيف واجه القرآن هذه القضية. وكيف أبطل باطل القوم وأقام عليهم الحجة، وساعدهم على التخلص من اعتقادهم الباطل، لا بحز أعناقهم بالسيوف، ولكن بالعقل والبرهان بادئا بتوجيه الخطاب إليهم هكذا: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ .. وخلاصة هذا المثل أن الله ساق لهم عظة وعبرة من واقع حياتهم التى يعيشونها بكل مشاعرهم ووعيهم. يقول الله لهم: إنكم تزعمون أن أصنامكم وأوثانكم لها شرك مع الله فى ملكه تنفع وتضر كما ينفع الله ويضر، متساوون مع الله فى التصرف فى شئون الكون. ونحن نسألكم: هل لكم من عبيدكم وإمائكم الذين تملكون رقابهم هل لكم منهم شركاء فى ما تملكون يتصرفون فى ممتلكاتكم بكل حرية دون الرجوع إليكم، وأنكم إذا تصرفتم فى أموالكم تخافون منهم وتخشونهم إذا تصرفتم فى أموالكم تخافون منهم يعلمون، كخشية بعضكم بعضا- أيها الأحرار- إذا كانت بينكم شركة وخلطة فى بعض الأموال. إن الإجابة على هذا السؤال هى بالنفى قطعا، سواء أفصحوا بها أو أسروها فى أنفسهم. ¬

(¬4) الروم (28).

فهذا تمثيل جدلى احتجاجى أفحم الله فيه المشركين بالعقل والبرهان؛ ولذلك جاءت خاتمة الآية: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وكان الله يقول لهم بعد ذلك النفى الذى يحسونه فى أنفسهم: إذا كنتم لا ترضون أن تشركوا عبيدكم وإماءكم معكم فى ممتلكاتكم وأنتم وهم بشر مخلوقون، فكيف ترضونه لأصنامكم مع الله وهو الخالق المهيمن، وهم مخلوقون بل جماد لا إحساس لهم ولا إرادة. فالمشبه والمشبه به هنا هيئتان أو صورتان مركبتان وكذلك وجه الشبه هيئة مركبة من عدة عناصر، لأنه تشبيه تمثيلى مركب. المشبه هو دعوى المشركين أن للاصنام شركة مع الله فى الكون تنفع كما ينفع، وتضر كما يضر مع بطلان الأسس التى بنوا عليها هذه الدعوى. وهو مركب مزيج من الحسيات وبعض المعنويات والمشبه به نفى أن يكون للمشركين شركاء من عبيدهم ومملوكيهم يتصرفون كما يتصرف أسيادهم فى ما يملكون، مع خشية الأسياد من المملوكين إذا تصرفوا فى أموالهم دون الرجوع إليهم، كخشية الشركاء الأحرار بعضهم بعضا. وهو مركب حسى مشوب بشيء من المعنوى. ووجه الشبه هو بطلان المساواة بين الطرفين مع بطلان ما بنيت عليه هذه المساواة. وبهذا التمثيل الرائع بطلت عقيدة الإشراك عقلا كما هى باطلة واقعا. ومثال آخر هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (¬5). المشبه فى هذا التمثيل الإنفاق الذى يتبعه منّ وأذى من المنفق الذى لم يرد بإنفاقه وجه الله ولا يرجو ثوابه، والمشبه به حجر صخرى عليه قليل من تراب، هطل عليه المطر فأزال التراب وترك الحجر أملس نقيا. فكل من المشبه والمشبه به هيئة، مركبة من عدة عناصر حسية ومعنوية. ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من تجمع أشياء بعضها فوق بعض، سلطت عليها عوامل الإزالة مع سرعة الفناء والهلاك وهو مركب حسى. ¬

(¬5) البقرة (264).

والغرض من التمثيل هو الحرمان والحسرة والعجز عن التدبير والتحذير من سوء المصير ومثال ثالث، هو قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ .. (¬6). وهذا مثل أو تمثيل لحال الحياة الدنيا فى نموها وازدهارها وسرعة فنائها وهوان أمرها. شبهها الله عز وجل بصورة حديقة أرواها الماء فأنبتت من كل زوج بهيج، ثم سرعان ما ذبلت ويبست وزالت نضارتها وبهاؤها، وتحطمت أشجارها وجفت ينابيعها وصار نباتها وزرعها غثاء أحوى. فالمشبه هو الدنيا فى سرعة زوالها بعد بهجتها ونضارتها، والمشبه به حديقة توفرت لها أسباب النماء والازدهار والإبهاج ثم سرعان ما أسرع إليها الفناء والهلاك، وطرفا التشبيه مركبان حسيان. أما وجه الشبه فهو الهيئة الحاصلة من اجتماع أشياء مبهجة، نافعة، أبلغ ما يكون النفع، مع سرعة هلاكها وانقضائها. وهو مركب حسى كذلك. والغرض من التشبيه هو التحذير من الاغترار بالدنيا والركون إليها وترك العمل للحياة الآخرة. ومما تجدر الإشارة إليه أن التشبيه التمثيلى فى القرآن إذا كان المشبه به فيه مركبا من عدة عناصر نجد أداة التشبيه فيه داخلة دائما على العنصر الرئيسى من عناصره. وإذا تتبعنا هذه التمثيلات القرآنية كلها نجدها خاضعة لهذا المنهج البيانى الحكيم. ونريد من العنصر الرئيسى فى التمثيل القرآنى كونه سببا فى ما بعده، ولولاه ما كان عنصر منها، وهى منه بمثابة المسبب، فقد ضرب ثلاثة أمثال للحياة الدنيا. وفى كل واحد منها نجد الماء هو العنصر الرئيسى لجميع العناصر الآتية بعده. أول هذه الأمثال الثلاثة كان فى سورة «يونس» وهو قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (¬7). تأمل العناصر التى وردت بعد «الماء» تجد الماء هو السبب فيها، ولولا الماء ما كان لواحد منها وجود. أما المثل الثانى فهو آية «الكهف» التى تقدم ذكرها آنفا. وفيها دخلت أداة التشبيه على ¬

(¬6) الكهف (45). (¬7) يونس (24).

«الماء» هكذا وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ. أما المثل الثالث فهو فى سورة «الحديد» (¬8) وهو قوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً ... أداة التشبيه فى هذا التمثيل هى «الكاف» أما «مثل» فهو المشبه به، وهو مضاف إلى غَيْثٍ وغيث أول عنصر ذكر فى بيان عناصر التشبيه بعد المشبه به. فصار كأن الأداة دخلت عليه مباشرة، وذلك لأن الماء هو السبب فى التمثيلات الثلاثة. وكذلك قوله تعالى فى وصف أحبار اليهود وغبائهم: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً .. (¬9). كان «الحمار» أول عنصر يذكر من عناصر الصورة لأن المثل مضروب لغباء الأحبار، والحمار هو أكثر الأغبياء غباء، لذلك قدم، ولم يقل: كمثل أسفار يحملها الحمار؟ وكذلك قوله تعالى فى تمثيل مضاعفة الأجر للمنفقين أموالهم فى سبيل الله. مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ .. (¬10). كانت «الحبة» أول عناصر الصورة؛ لأنها سبب فى ما بعدها وما بعدها مسبب عنها. وهذا ملحوظ جدير بالاعتبار فى بلاغة القرآن الكريم، وقليل من يلتفت إليه من الدارسين، قدماء ومحدثين (¬11). أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬8) الحديد (20). (¬9) الجمعة (5). (¬10) البقرة (261). (¬11) انظر خصائص التعبير فى القرآن الكريم (مبحث التشبيه) مكتبة وهبة القاهرة.

المجاز المرسل

المجاز المرسل الإرسال فى اللغة الإطلاق وترك التقييد (¬1) والمجاز المرسل قسم قائم برأسه من المجاز اللغوى والقسم الآخر هو الاستعارة. والفرق بينهما أن الاستعارة مجاز لغوى علاقته المشابهة. أما المجاز المرسل فهو مجاز لغوى علاقته ليست المشابهة بل له علاقات أخرى كالكلية والجزئية. (¬2) وسمى مرسلا لأنه لم يقيد بعلاقة واحدة كما هو الشأن فى الاستعارة، بل تتوارد عليه علاقات كثيرة تتعدى العشر علاقات (¬3). والراجح أن أول من أشار إلى تسميته ب «المرسل» هو الإمام عبد القاهر الجرجانى، فقد قال وهو يتحدث عن فكرة علاقات هذا النوع من المجاز، إن المكان لا يسمى مجلسا إلا إذا لوحظ جلوس القوم فيه «وليس المجلس إذا وقع على القوم من طريق التشبيه بل على وجه وقوع الشيء على ما يتصل به. وتكثر ملابسته إياه، وأى شىء يكون بين القوم ومكانهم الذى يجتمعون فيه، إلا أنه لا يعتد بمثل هذا، فإن ذلك قد يتفق حيث ترسل العبارة» (¬4). فالإشارة إلى تسميته المجاز المرسل تكمن فى قوله «حيث ترسل العبارة»، وكان الإمام يقصد فعلا بهذا الحديث ما سمى فى ما بعد بالمجاز المرسل؛ لأنه ذكر الكثير من أمثلته وعلاقاته بعد التمهيد له، ثم أخذ عنه البلاغيون هذه الأمثلة، وتحليلاتها عند حديثهم عن المجاز المرسل فى صورته النهائية. وقد سماه ابن الزملكانى والزركشى «المجاز الإفرادى» (¬5) وسماه السيوطى «المجاز فى المفرد» وقال: ويسمى المجاز اللغوى (¬6) وهاك أمثلة له مع بيان علاقاته من خلالها. الكلية: من علاقات المجاز المرسل الكلية، ومن ذلك فى القرآن الكريم: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ (¬7). المجاز فى قوله أَصابِعَهُمْ لأن المراد الأنامل أو أطراف الأصابع، فالعلاقة هى الكلية، حيث أطلق الكل (الأصابع) وأراد الجزء (أطراف الأصابع). * الجزئية: ومثالها من القرآن الكريم قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ والمجاز فى قوله رَقَبَةٍ حيث أطلق الجزء رَقَبَةٍ وأراد الكل (العبد أو الأمة) وحين تكون العلاقة (الجزئية) فإنه يشترط فى الجزء أن تكون له زيادة اختصاص بالمعنى المراد وقد تحققت هذه الخصوصية فى رَقَبَةٍ لأن الرقيق شبيه بالمربوط من عنقه فى قبضة مالكه. ¬

(¬1) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: رسل. (¬2) حاشية الدسوقى ضمن شروح التلخيص (4/ 29). (¬3) الإيضاح (270). (¬4) أسرار البلاغة (350). (¬5) البرهان الكاشف (102) والبرهان فى علوم القرآن (2/ 258). (¬6) معترك الأقران (2/ 248). (¬7) البقرة (19).

* اعتبار ما كان: مثل قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ أى الذين كانوا يتامى قبل أن يبلغوا سن الرشاد. أما عند بلوغهم سن الرشاد، فهم ليسوا يتامى، والسر البلاغى فى هذا المجاز حث أوصياء اليتامى على المبادرة على دفع أموال من كانوا أوصياء عليهم، فور بلوغهم راشدين، حتى لكأنهم سلموا لهم أموالهم وهم يتامى. * اعتبار ما سيكون: ومثالها من القرآن الكريم قوله تعالى: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً (¬8) والخمر لا يعصر؛ لأنه معصور فعلا، لكن المعنى: أرانى أعصر عنبا يصير خمرا. فالعلاقة اعتبار ما سيكون، والسر البلاغى فى هذا المجاز الإسراع إلى التنفير من الخمر، فهو مجاز مرسل علاقته اعتبار ما سيكون. * السببية؛ ومثالها من القرآن الكريم قوله تعالى وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً (¬9) أى ماء هو سبب الرزق. فقد طوى السبب، وأريد المسبب والسر البلاغى فى هذا المجاز هو إظهار الامتنان على العباد. الآلية، ومن علاقات المجاز المرسل الآلية والآلة هى التى تستعمل فى إيجاد الحدث ومن هذا النوع فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (¬10). والمجاز المرسل فى كلمة بِلِسانِ حيث أريد منها: اللغة، وبِلِسانِ قَوْمِهِ معناها: لغة قومه. والذى سوّغ استعمال اللسان فى معنى اللغة، أن اللسان هو آلة أو أداة اللغة فالعلاقة فى هذا المجاز هى الآلية. وقد ظل استخدام اللسان بمعنى اللغة، حتى منتصف القرن الثامن الهجرى. وما يزال يستخدم فى هذا المعنى. * المكانية: ومن علاقات المجاز المرسل علاقة المحل أو المكان. بأن يطلق المحل أو المكان، ويراد الحالّون فيه. ومن أمثلته فى القرآن الكريم قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ (¬11) والسماء والأرض ليستا من العقلاء حتى تبكيا، والمعنى: فما بكى عليهم أهل السموات، يعنى الملائكة، ولا أهل الأرض، يعنى الناس، ففي السموات والأرض مجاز مرسل علاقته المكانية أو المحلية. والمجاز المرسل كثير الورود فى القرآن الكريم، وله علاقات أخرى غير ما تقدم (¬12). أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬8) يوسف (36). (¬9) غافر (13). (¬10) إبراهيم (4). (¬11) الدخان (29). (¬12) شروح التلخيص (4/ 29).

الاستعارة

الاستعارة الاستعارة لغة: مأخوذة من العارية، وهى نقل منفعة شىء مملوك لشخص إلى غير مالكه، مع بقاء الملكية لمالك ذلك الشيء. كإعارة الدابة، أو الدار أو الكتاب لمن هو فى حاجة إلى منافع هذه الأشياء. والعارية والإعارة ما تداوله الناس بينهم. واستعار فلان كذا طلب إعارته إياه. والسين والتاء فيها مزيدتان للطلب (¬1). أما الاستعارة فى اصطلاح البلاغيين، فكان أول من أشار إليها هو أبو عمرو بن العلاء. فقد ذكر قول ذى الرمة. أقامت به حتى ذوى العود فى الثرى ... وساق الثريا فى ملاءته الفجر وعلق عليه قائلا: «ولا أعلم قولا أحسن من قوله: وساق الثريا فى ملاءته الفجر «فصيّر للفجر ملاءة، ولا ملاءة له، وإنما استعار هذه اللفظة، وهو من عجيب الاستعارات» (¬2) ثم أخذ البلاغيون من بعده يوسعون دائرة البحث فيها، ويحاولون وضع تعريفات لها. وكان أول من وضع تعريفا للاستعارة هو الجاحظ فقال: «الاستعارة تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه» (¬3) وعرفها ابن قتيبة فقال: «والعرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة، إذا كان المسمى بها بسبب من الآخر أو مجاورا أو مشاكلا» (¬4) وعرفها ثعلب فقال: «هى أن يستعار للشيء اسم غيره أو معنى سواه» (¬5). وعرفها ابن المعتز بقوله: «استعارة الكلمة، لشىء لم يعرف بها من شىء عرف بها» (¬6). وكل ما تقدم غير واف فى ضبط الاستعارة وتحديد مفهومها تحديدا واضحا جامعا مانعا. ثم بدأت مرحلة أخرى عرّفت فيها الاستعارة تعريفات جديدة، من ذلك تعريف القاضى على بن عبد العزيز الجرجانى، إذ ¬

(¬1) لسان العرب، مادة: عور. (¬2) حلية المحاضرة (1/ 136) الخاتمى. (¬3) البيان والتبيين- الجاحظ (1/ 153/ 284). (¬4) تأويل مشكل القرآن (102). (¬5) قواعد الشعر (47). (¬6) البديع (2).

قال «الاستعارة ما اكتفى فيها بالاسم المستعار عن الأصل ونقلت العبارة فجعلت فى مكان غيرها، وملاكها تقريب الشبه ومناسبة المستعار له المستعار منه، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة، ولا يتبين فى أحدهما إعراض عن الآخر» (¬7). ويلاحظ أن فى هذا التعريف طولا، والتعريفات يستحسن فيها الإيجاز. وعرفها الرمانى تعريفا مختصرا قال فيه: «الاستعارة تعليق العبارة على ما وضعت له فى أصل اللغة على جهة النقل للإبانة» (¬8). وجاء الخطيب القزوينى فعرّف الاستعارة فى إيجاز شديد، هو قوله: «الاستعارة هى ما كانت علاقته تشبيه معناه بما وضع له» (¬9). فالنور- إذا أستعير للحجة البالغة- علاقة المشبه بالمشبه به هى تشبيه معنى النور المستعار للحجة بالمعنى اللغوى الوضعى الذى أراده واضع اللغة، من كلمة «النور» الحسى الذى يرى بالبصر. وقد لاحظ متأخرو البلاغيين قصورا فى كل التعريفات التى تقدمت؛ وهذا حملهم على وضع تعريف واف للاستعارة فقالوا: «الاستعارة: هى اللفظ المستعمل فى غير ما وضع له، لعلاقة المشابهة، مع قرينة مانعة، من إرادة المعنى الوضعى» (¬10). أو «استعمال اللفظ فى غير ما وضع له، لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الوضعى» (10). ويسمون التعريف الأول: التعريف بالمعنى الاسمى والثانى: التعريف بالمعنى المصدرى. هذا التعريف هو الشائع الآن فى مصنفات البلاغيين المعاصرين، والجارى على ألسنتهم وهو تعريف واف جامع مانع، خال من جميع المؤاخذات، يشتمل على العناصر الفنية للاستعارة، وهى: * نقل اللفظ المستعار من معناه الوضعى إلى معناه الاستعارى. * العلاقة بين المعنيين الوضعى والاستعارى. * القرينة التى تمنع من إرادة المعنى اللغوى الوضعى فقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ (¬11) فيه استعارة النور للهدى المعنوى الذى جاء به الإسلام فالنور مستعار، والهدى مستعار له. والعلاقة وتسمى «الجامع» هى الكشف والإظهار فى كل من النور والهدى أما القرينة المانعة من إرادة ¬

(¬7) الوساطة بين المتنبى وخصومه (41). (¬8) النكت فى إعجاز القرآن (79) ضمن ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن. (¬9) الإيضاح (5/ 37) شرح د./ محمد عبد المنعم خفاجى. (¬10) البلاغة الواضحة (4. مبحث الاستعارة) حامد عونى. (¬11) الأعراف (157).

المعنى الحقيقى للنور الحسى فهى قوله تعالى: «أنزل معه» لأن محمدا- صلّى الله عليه وسلم لم يجئ بنور حسى يدرك بالأبصار، بل بنور معنوى يدرك بالعقول والقلوب. وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ (¬12) فيه استعارة التوفية «الموت» للإنامة «النوم» والجامع بين المستعار له والمستعار منه هو فقد الوعى والحركة فى كل منهما. أما القرينة فهى «بالليل» لأنه وقت النوم، أما الموت الحقيقى فلا وقت له، لأنه يأتى ليلا ونهارا فى أى لحظة فيهما. هذا هو مفهوم الاستعارة بوجه عام. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬12) الأنعام (60).

الاستعارة التصريحية

الاستعارة التّصريحيّة التصريح لغة: الإبانة والإظهار، ضد الغموض والإخفاء (¬1) أما فى الاصطلاح البلاغى فهى .. ما صرّح فيها بلفظ المشبه به دون المشبه .. (¬2) أو هى كما قال السكاكى: «أن يكون الطرف المذكور من طرفى التشبيه هو المشبه به» (¬3). وأساس هذا التقسيم للاستعارة إلى تصريحية وغيرها هو قولهم: «الاستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه» وطرفا التشبيه هما: المشبه والمشبه به. وعلى هذا قالوا: إن الاستعارة التصريحية هى ما كان المذكور فيها من طرفى التشبيه هو المشبه به، والمحذوف هو المشبه، وهذا موضع إجماع عند البلاغيين (¬4). فهى عندهم «أن تعتمد نفس التشبيه، وهو أن يشترك شيئان فى وصف، وأحدهما أنقص من الآخر، فيعطى الناقص اسم الزائد، مبالغة فى تحقيق ذلك الوصف كقولك: رأيت أسدا، وأنت تعنى رجلا شجاعا، وغنت لنا ظبية، وأنت تريد امرأة» (¬5). وقد حفل القرآن الكريم بصور لا حصر لها من الاستعارة التصريحية. ومن ذلك قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (¬6) أى من الضلال إلى الهدى. استعير لفظ «الظلمات» للضلال، لتشابههما فى عدم اهتداء صاحبهما، وكذلك استعير لفظ «النور» للإيمان لتشابههما فى الهداية» (¬7). وهما استعارتان تصريحيتان؛ لأن كلا من الظلمات والنور هما المشبه به، وهو المذكور فى الكلام. أما المشبه، وهما: الضلال والإيمان فقد حذفا من الكلام. والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقى للظلمات والنور حالية تفهم من المقام، إذ ليس المراد أن يخرجهم من ظلام حسى، إلى نور حسى. بدليل قوله تعالى فى عجز الآية: إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وفى الصراط هنا استعارة تصريحية؛ لأن المراد منه دين الله عز وجل. شبه بالصراط وهو الطريق الحسى، تصويرا للمعنوى المدرك ¬

(¬1) لسان العرب مادة: صرح. (¬2) معجم المصطلحات البلاغية (1/ 155). (¬3) مفتاح العلوم (176). (¬4) شروح التلخيص (4/ 45) وما بعدها. (¬5) حسن التوسل (134) الحلبى. (¬6) إبراهيم (1). (¬7) معجم المصطلحات البلاغية (1/ 155).

بالعقول بالحسى المدرك بالبصر، اعتناء بشأنه ومبالغة فى إظهاره. وقوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (¬8) فيه استعارة فى قوله طَغَى استعارة الطغيان، وهو من صفات العقلاء، لزيادة الماء وخروجه عن مجراه وغمره الأرض على جانبى مجراه. والعلاقة بين الطغيان الحقيقى، وهو الظلم، وبين المعنى الاستعارى، وهو كثرة الماء وفيضانه على جانبى مجراه هو مجاوزة الحد المعهود فى كل منهما (¬9) والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقى للطغيان وهو: الظلم هى الفاعل الْماءُ لأن الماء ليس عاقلا ولا مكلفا حتى يوصف بالظلم والطغيان وبلاغة الاستعارة هى الإيضاح والإيجاز وهذا وصف عام فى كل استعارة. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬8) الحاقة (11). (¬9) حاشية الشهاب على البيضاوى (8/ 236).

الاستعارة الأصلية

الاستعارة الأصليّة الاستعارة الأصلية فى اصطلاح البلاغيين هي التى تكون فى أسماء الأجناس غير المشتقة (الجامدة) وقد أوضح الإمام السكاكى معناها فقال: «أن يكون المستعار اسم جنسى، كرجل وقيام وقعود، ووجه كونها أصلية أن الاستعارة مبناها على تشبيه المستعار له بالمستعار منه» (¬1). يقصد أن يتم هذا التشبيه الاستعارى بلا واسطة بين المستعار له «المشبه» والمستعار منه (المشبه به) كما سيأتى فى الاستعارة «التبعية» وقد اتفق جمهور البلاغيين على هذا الضابط الذى ذكره السكاكى للاستعارة الأصلية (¬2). وحصر متأخروهم وقوع الاستعارة الأصلية فى هذين النوعين، وهما: * أسماء الأعيان (الذوات الحسية) الجامدة، كأسد. * ثم المصادر الجامدة، مثل: الكرم- الحلم- الصيام- النطق. وورود الاستعارة الأصلية فى القرآن مستفيض جدا، ومنها قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. استعار الظلمات للضلال والجهل والكفر، وكل من المستعار، وهو الظلمات، والمستعار له، وهو الضلال، اسمان جامدان غير مشتقين، وهما من أسماء المعانى التى تدرك بالعقل. فالاستعارة- إذن- أصلية، لجريانها فى الأسماء الجامدة. والأمر المشترك بينهما، ويسمى «الجامع» (¬3) هو الحيرة والارتباك فى كل منهما. والقرينة المانعة، من إرادة المعنى الحقيقى للظلمات حالية تفهم من المقام ثم استعارة «النور» للإيمان، على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية؛ لأن كلا من «النور» وهو المستعار، و «الإيمان» وهو المستعار له اسمان جامدان غير مشتقين، والجامع بينهما هو الهداية والاطمئنان. والقرينة حالية كذلك. وهاتان الاستعارتان تفيدان المبالغة فى وصف الضلال بالظلمات، وفى وصف الإيمان بالنور. ¬

_ (¬1) مفتاح العلوم (176/ 179). (¬2) ينظر: المصباح لابن ابن مالك (65) وعروس الأفراح لبهاء الدين السبكى. ضمن شروح التلخيص (4/ 108) والمطول لسعد الدين (376). والأطول لعصام الدين (2/ 126). ومعترك الأقران لجلال الدين السيوطى (1/ 280) والإيضاح للخطيب القزوينى (5/ 87) شرح د/ محمد عبد المنعم خفاجى. (¬3) والنكت فى إعجاز القرآن (870) للرمانى ضمن ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن.

والأولى تفيد التنفير والترهيب من الضلال وبشاعته. والثانية تفيد الترغيب فى الإيمان وآثاره الطيبة. ومن الاستعارة التصريحية الأصلية قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ هذا حديث عن منزلة القرآن عند الله. والاستعارة التصريحية الأصلية فى كلمة «أم» وأم الكتاب أصل الكتاب. فاستعار «الأم» للأصل «وهو أبلغ لأن الأم أجمع وأظهر فى ما يرد إليه مما ينشأ عنه». والاستعارة- هنا- تصريحية لذكر المشبه به فيها، وأصلية لأن الاسم المستعار فيها اسم جنس جامد غير مشتق، والقرينة هى إضافة «أم» إلى الكتاب؛ لأن الكتاب لا أم له ولد منها. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الاستعارة التبعية

الاستعارة التّبعيّة الاستعارة التبعية فى اصطلاح البيانيين هى ما كان اللفظ المستعار فيها واحدا من الفصائل الثلاث الآتية: * الأفعال: ماضية كانت أو مضارعة أو أمرا. * الصفات المشتقة: مثل اسمى الفاعل والمفعول. * الحروف؛ مثل فى وعلى واللام. وهى عكس الاستعارة الأصلية، وكلتاهما تصريحيتان وهما قسمان للاستعارة التصريحية وقد عرف الإمام السكاكى الاستعارة التبعية فقال: «ما تقع فى غير أسماء الأجناس كالأفعال والصفات المشتقة، وكالحروف» (¬1). وقال ابن بن مالك: «هى ما تقع فى الأفعال والصفات والحروف؛ لأنها لا توصف فلا تحتمل الاستعارة بنفسها، وإنما المحتمل لها فى الأفعال والصفات مصادرها. وفى الحروف متعلقات معانيها. فتقع الاستعارة هناك، ثم تسرى فى هذه الأشياء» (¬2). يريد أن يقول: إن الأفعال والصفات لا تصلح فى ذاتها لوقوع الاستعارة فيها؛ فالاستعارة تجرى أولا فى مصادر الأفعال والصفات أصالة. ثم تسرى من المصادر إلى الأفعال والصفات وكذلك الحروف مثل فى وعلى، لا توصف. فلا تصلح لأن تكون استعارة على جهة الأصالة. بل تقع الاستعارة فى متعلق معناها الكلى، كالظرفية المطلقة فى حرف الجر «فى» والاستعلاء الكلى فى حرف الجر «على» تم تسرى الاستعارة منهما إلى الحرف. ولذلك سميت استعارة تبعية، لأنها وقعت تابعة لوقوعها فى مصادر الأفعال والصفات المشتقة، وفى متعلق معانى الحروف الكلية. ويوضح الخطيب القزوينى فكرة أن الأفعال والصفات والحروف لا تصلح لوقوع الاستعارة فيها مباشرة، فيقول: «وذلك لأن الاستعارة تعتمد التشبيه، والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا، وإنما يصلح للموصوفية ¬

(¬1) مفتاح (179) للإمام السكاكى. (¬2) المصباح (65) لبدر الدين ابن بن مالك.

الحقائق كما فى «جسم أبيض» و «بياض صاف» دون معانى الأفعال والصفات المشتقة منها- أى من الأفعال- والحروف» (¬3) ومن أمثلتها فى القرآن الكريم: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ (¬4) ففي قوله «أتى» استعارة تبعية فى زمن الفعل لها شبه الإتيان فى المستقبل «يأتى» بالإتيان فى الماضى «أتى» على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية ثم اشتق من «الإتيان» أَتى بمعنى يأتى، والجامع بين الإتيان فى الماضى والإتيان فى المستقبل هو تحقق الوقوع فى كل منها. فقد جرت الاستعارة أولا فى المصدر «الإتيان» ثم سرت إلى الفعل، وهذا معنى «التبعية» فى هذه الاستعارة أما قرينة الاستعارة المانعة من المعنى الحقيقى، وهو الإتيان فى الماضى فهى قوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ لأن النهى عن الاستعجال يكون فى ما يأتى مستقبلا، لا فى ما أتى ماضيا. وقوله تعالى: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ (¬5) فيه استعارتان تبعيتان: الأولى فى زمن الفعل تَرَكْنا بمعنى: نترك، لأنه سيكون يوم القيامة. وقد شبّه فيها الترك فى المستقبل بالترك فى الماضى، والجامع بينهما تحقق الوقوع فى كل منهما، والقرينة حالية تفهم من المقام. والثانية فى معنى الفعل يَمُوجُ شبه الاضطراب الشديد فى حركة الناس يوم القيامة بالاضطراب الشديد فى حركة موج البحر، وهما مصدران. ثم سرى التشبيه من المصدر الاضطراب الشديد إلى الفعل يَمُوجُ بمعنى يضطرب اضطرابا شديدا. والقرينة حالية تفهم من المقام كذلك، لأن التموج من خصائص الماء لا الناس. أما الاستعارة التبعية فى الصفات المشتقة فمنها قوله تعالى: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً (¬6) فى مُبْصِرَةً هنا استعارة جرت فى اسم الفاعل، يعنى: مضيئة، ومبصرة أبلغ من مضيئة؛ لأنها أظهر فى مقام النعمة (¬7). شبهت الإضاءة بالإبصار، وهما مصدران، ثم سرى التشبيه من المصدر (الإبصار) إلى الصفة (مبصرة) على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقى للإبصار، كون النهار زمنا لا يوصف بالإبصار- كما يوصف به الأحياء. والاستعارة التبعية فى الحرف مثل قوله تعالى حكاية عن قول فرعون للسحرة: ¬

(¬3) الإيضاح (5/ 88) للخطيب القزوينى. (¬4) النحل (1). (¬5) الكهف (99). (¬6) الإسراء (12). (¬7) النكت فى إعجاز القرآن (88) للرمانى.

وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ (¬8) استعار متعلق الحرف (فى) الكلى، وهو مطلق الظرفية لمتعلق الحرف (على) وهو مطلق الاستعلاء. ثم سرى التشبيه إلى معنى الحرفين، فاستعيرت (فى) ل (على) لتفيد هذه الاستعارة المبالغة فى تصوير المعنى المراد حتى لكأن فرعون من شدة غيظه على إيمان السحرة لم يكتف بإلصاقهم بجذوع النخل، وإنما غرس أجسادهم فيها غرسا. والاستعارة التبعية فى معنى الفعل كثيرة الورود فى القرآن الكريم. يليها الاستعارة فى زمن الفعل، ثم فى الحروف (¬9). أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬8) طه (71). (¬9) الفرق بين الاستعارة فى معنى الفعل وفى زمن الفعل أن معنى الفعل فى الأولى هو الذى تغير من الحقيقة إلى المجاز، أما زمنه ماضيا أو مضارعا أو أمرا فيظل كما هو. أما فى زمن الفعل فإن معنى الفعل يظل كما هو حقيقة لغوية لا مجاز فيه. وزمنه هو الذى تغير من المضارع إلى الماضى، أو من الماضى إلى المضارع.

الاستعارة التمثيلية

الاستعارة التّمثيلية الاستعارة التمثيلية هى القسم الثالث من الاستعارة التصريحية، بعد الاستعارة الأصلية، والاستعارة التبعية. ويسميها الخطيب القزوينى: المجاز المركب، وقال فى تعريفها: «وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فى ما شبّه بمعناه الأصلى تشبيه التمثيل للمبالغة فى التشبيه: أى تشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور بالأخرى. ثم تدخل المشبه فى المشبه به مبالغة فى التشبيه» (¬1). يعنى يكون الوصف الجامع أو المشترك بين كل من المشبه (المستعار له) والمشبه به (المستعار منه) هيئة أو صورة مؤلفة من عنصرين أو أكثر من عنصرين. والاستعارة التمثيلية تختلف عن غيرها من الاستعارات فالوصف المشترك بين الطرفين فى غيرها مفرد وفيها هيئة أو صورة مركبة فاستعارة «النور» ل «الإيمان» استعارة مفردة، لأن الوصف الجامع بينهما مفرد، وهو الهداية أما الاستعارة التمثيلية فالوصف الجامع فيها هيئة أو صورة كما سيأتى. أما جلال الدين السيوطى فقد أوجز فى تعريف الاستعارة التمثيلية حيث قال: «هى أن يكون وجه الشبه فيها- أى الوصف المشترك بين الطرفين- منتزعا من متعدد» (¬2). وإلى هذا ذهب المدنى كذلك (¬3). وسماها قدامة بن جعفر «التمثيل» (¬4). وعلى هذا المنهج سار شراح التلخيص (¬5). والإمام عبد القاهر الجرجانى ساق لها عدة أمثلة تحت عنوان «التمثيل» (¬6). ومن أمثلتها فى القرآن الكريم قوله تعالى: لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ (¬7). قال الإمام جار الله الزمخشرى فى توجيه هذه الآية بلاغيا: «هذا تمثيل لمنع الشحيح، وإعطاء المسرف، وأمر بالاقتصاد الذى هو بين الإسراف والتقتير» (¬8). وقوله «تمثيل» يعنى: استعارة تمثيلية. وفى توضيح هذا الإجمال يقول الشهاب: «يعنى أنهما استعارتان تمثيليتان، شبه فى ¬

(¬1) الإيضاح (5/ 108). (¬2) معترك الأقران (1/ 283). (¬3) أنوار الربيع (1/ 251). (¬4) نقد الشعر (181). (¬5) شروح التلخيص (4/ 147). (¬6) دلائل الإعجاز (430). (¬7) الإسراء (29). (¬8) الكشاف (2/ 447).

الأولى يعنى: «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك- فعل الشحيح فى منعه بمن يده مغلولة لعنقه، بحيث لا يقدر على مدها، وفى الثانية شبه السرف ببسط اليد، بحيث لا تحفظ شيئا» (¬9). يعنى أن غل اليد إلى العنق صورة حسية شبه بها صورة البخيل الحريص على المنع والاحتفاظ بماله. وأن صورة بسط اليد وهى حسية كذلك شبه بها صورة المسرف الشديد الإسراف فى بذل ماله، بحيث جعله مباحا لكل من أراد أخذه بلا أية ضوابط. فالتشبيه فيهما وقع بين صورتين مركبتين، لا بين مفرد ومفرد. والجامع بين الطرفين هيئة أو صورة مركبة من عنصرين فأكثر. ومن الاستعارة التمثيلية فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ (¬10). ففي الآية استعارتان تمثيليتان، لأن المعنى أن مثل الأرض يوم القيامة لتصرف الله الكامل فيها ومثل السموات بهيمنة الله على كل ما فيها، مثل الشيء يكون فى يد الآخذ به المتصرف فيه (¬11). والاستعارة التمثيلية، لا توصف بأنها أصلية أو تبعية لاعتبارين: الأول: أن ألفاظها المركبة منها كثيرا ما تجمع بين الأسماء الجامدة والأفعال والصفات، كما فى لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ. ففيها أسماء أجناس مثل: يد- عنق. وفيها أفعال وصفات مشتقة وحروف، مثل تجعل، تبسط، إلى،. وقد تقدم أن الاستعارة التصريحية الأصلية هى ما جرت فى أسماء الأجناس الجامدة، وأسماء المعانى. وأن التصريحية التبعية هى ما جرت فى الأفعال والصفات المشتقة والحروف. لذلك فإن الاستعارة التمثيلية لا يقال إنها أصلية أو تبعية. ولكن تصريحية تمثيلية فقط. الاعتبار الثانى: أن الاستعارة التمثيلية كل الألفاظ التى ركبت منها تظل على معانيها الحقيقية لا يدخلها مجاز. وإنما المجاز يقتصر فيها على مجموع كلماتها، حيث تنقل صورتها من الحقيقة إلى المجاز. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬9) حاشية الشهاب على البيضاوى (6/ 27). (¬10) الزمر (67). (¬11) معجم المصطلحات البلاغية.

الاستعارة المرشحة

الاستعارة المرشّحة الترشيح لغة: هو التقوية (¬1)، وأما اصطلاحا فإن كل الأقوال فيه تجمع على شىء واحد، هو أن يذكر فى الكلام ما يناسب المشبه به، وهو المستعار فى أسلوب الاستعارة. والترشيح وصف عارض للاستعارة، ولا يدخل فى عناصرها الأولية المكونة لها، وهو ليس بلازم فيها وكان ممن وضع لها تعريفا فخر الدين الرازى حيث قال «هى التى قرنت بما يلائم المستعار منه، وهى أن يراعى جانب المستعار، ويولى ما يستدعيه، ويضم إليه ما يقتضيه» (¬2). وكذلك قال الحلبى فى تعريفها (¬3). وجمهور البلاغيين يسمون الاستعارة التى قرنت بما يناسب المشبه به (اللفظ المستعار): الاستعارة المرشحة، أو الاستعارة الترشيحية (¬4). وهى أقوى أنواع الاستعارة، وأكثرها مبالغة لأن الاستعارة تقوم على تناسى التشبيه، وذكر ما يلائم المشبه به (اللفظ المستعار) يساعد على تناسى التشبيه؛ لذلك قالوا فى بيان قيمة الاستعارة المرشحة: «وأجل الاستعارات الاستعارة المرشحة» (¬5). ومن أمثلتها فى القرآن الكريم، قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (¬6). استعار الاشتراء للاختيار والاستبدال أى استبدلوا الضلالة بالهدى، لأنه لا بيع ولا شراء على الحقيقة، وهى استعارة تصريحية لذكر المشبه به «الاشتراء» تبعية لجريانها فى الفعل وقد ذكر فى هذه الاستعارة ما يلائم المشبه به، وهو نفى الربح فى قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ لأن الربح والتجارة يلائمان المشبه به وهو الاشتراء. وفى بيان هذا يقول الإمام الزمخشرى: حيث إن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا فى معنى الاستبدال. فما معنى ذكر الربح والتجارة كأن ثمة مبايعة على الحقيقة؟ قلت هذا من الصنعة البديعة، التى تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز ثم تقفّى بأشكال لها وأخوات، إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة، وأكثر ماء ورونقا وهو المجاز المرشح. ¬

(¬1) اللسان، مادة: رشح. (¬2) نهاية الإيجاز فى دراية الإعجاز (92). (¬3) حسن التوسل (134). (¬4) مفتاح العلوم (176). * المصباح (266). * شروح التلخيص (4/ 130). * المطول للسعد (378). * الأطول لعصام الدين (2/ 142). * البرهان فى علوم القرآن (3/ 428). * خزانة الأدب للحموى (49). * معترك الأقران فى إعجاز القرآن (1/ 281). (¬5) تحرير التحبير لابن أبى الأصبع (99). (¬6) البقرة (16).

وذلك نحو قول العرب فى البليد: كأن فى أذنى قلبه خطلا، وإن جعلوه كالحمار. ثم رشحوا ذلك دوما لتحقيق البلادة، فادعوا لقلبه أذنين وادعوا لهما الخطل ليمثلوا البلادة تمثيلا يلحقها ببلادة الحمار (¬7). يعنى أن هذا الترشيح يبعد المشبه به عن جنسه وينسى السامع أصله، وفى هذا مبالغة فى إثبات المعنى المجازى المراد. ومن الاستعارة المرشحة فى القرآن الكريم قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ (¬8). فالنقض: هو الفسخ وفك التركيب، وإيقاعه على العهد من أجل تشبيه العهد بالحبل المبرم، وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ أى من بعد إحكام برمه وتوثيقه، ترشيح للاستعارة؛ لأنه من ملائمات المشبه به، وهو الحبل. ففي هذا الترشيح زيادة تناس للنسبية، حتى لكأن العهد صار حبلا فعلا. وقد استعير النقض- كذلك- لعدم الوفاء بموجب العهد، إخراجا للمعنوى المعقول فى صورة المادى المحسوس، اعتناء به، وتنويها ببشاعته، وهى استعارة تصريحية تبعية. ومثلها الاستعارتان فى قوله تعالى: وَيَقْطَعُونَ ويُوصَلَ وكل هذه الاستعارات يرشح بعضها بعضا. لأنه لا نقض، ولا حبل، ولا قطع، ولا وصل على الحقيقة فى الأمور المعنوية. والاستعارات المرشحة، لها ورود ملحوظ فى آيات الذكر الحكيم، وهى- كما تقدم- من أبلغ الاستعارات ومن أعلاها شأنا، للمبالغة فى إثبات المعنى المجازى المراد، عن طريق تناسى التشبيه، وصيرورة المشبه من جنس المشبه به. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬7) الكشاف (1/ 192 - 193). (¬8) البقرة (27).

الاستعارة المجردة

الاستعارة المجرّدة من معانى التجريد فى اللغة التعرية والتخلية، يقال جرّد فلان من ماله، أى أخذ منه، وخلت منه يده (¬1) والتجريد فى الاستعارة ضد الترشيح، وهو عند علماء البيان يدور معناه حول ذكر ما يلائم المشبه دون المشبه به. فيرى الفخر الرازى أن الاستعارة تكون تجريدية إذا عقبت بصفات ملائمة للمستعار له- يعنى المشبه- أو تفريع كلام ملائم له (¬2). أما بدر الدين ابن بن مالك فيقول: «تجريد الاستعارة هو أن تقرن بما يلائم المستعار له» (¬3). وكذلك قال الخطيب القزوينى (¬4). أما العلوى فقد أطال فى تعريفها مع التمثيل لها فقال: «فأما الاستعارة المجردة فإنما لقّبت بهذا اللقب لأنك إذا قلت: رأيت أسدا يجندل الأبطال بنصله، ويشك الفرسان برمحه، فقد جردت قولك «أسدا» من لوازم الآساد وخصائها، إذ ليس من شأنها تجريد الأبطال، ولا شك الفرسان بالرماح والنصال (¬5) وإلى هذا ذهب السبكى (¬6)، والتفتازانى (¬7)، والزركشى (¬8)، والسيوطى (¬9). وقد وردت الاستعارة المجردة فى كتاب الله العزيز فى عدة مواضع، منها قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (¬10). استعيرت الإذاقة لشدة الإحساس بالآلام واستعير اللباس لما أحاط بهم من عقاب الله تعالى. وقوله عز وجل: «فأذاقها» تجريد، روعى فيه جانب المشبه، الذى هو «الإصابة» بآلام الجوع والخوف، والمشبه به فى الاستعارة الثانية (لباس) فكان يلائمه أن يقال: فألبسها ولكنه قال: «فأذاقها» وهو لا يلائم «اللباس» وإنما يلائم «اللباس» أن يقال: فكساها الله لباس الجوع والخوف (¬11). ¬

(¬1) اللسان، ترتيب القاموس، مادة: جرد. (¬2) نهاية الإيجاز فى دراية الإعجاز (92). (¬3) المصباح (66). (¬4) الإيضاح (5/ 141) وما بعدها. (¬5) الطراز (1/ 236). (¬6) عروس الأفراح ضمن شروح التلخيص (4/ 128). (¬7) الطول (377). (¬8) البرهان فى علوم القرآن (3/ 428). (¬9) معترك الأقران (1/ 281). (¬10) النحل (112). (¬11) حاشية الشهاب على البيضاوى (6/ 371).

وذكر ما يلائم المشبه- هنا- أبلغ من ذكر ما يلائم المشبه به؛ لأن المقام يقتضى التجريد دون الترشيح؛ لأن فى الإذاقة إشارة إلى شدة الإحساس بالألم لأنه شعور به من داخل الإنسان. أما إحاطة اللباس فلا تعدو أن تكون مجرد إحساس من الخارج الملاصق لأجسامهم من خارجها. فالترشيح فى مقامه أبلغ من التجريد. والتجريد فى مقامه أبلغ من الترشيح فى البيان القرآنى المعجز ووجه أبلغية التجريد على الترشيح فى هذه الآية أن «لباس» أضيف إلى الْجُوعِ وَالْخَوْفِ- وهما آفتان تصيبان المبتلى بهما من الداخل. فالإحساس بهما يشعر به المبتلى بهما من داخله لا من خارجه والإذاقة هى وسيلة القذف والازدراد إلى جوف الذائق. فلا يفهم من قول البلاغيين «الترشيح أبلغ من التجريد» لما فيه من شدة تناسى التشبيه، أن فى القرآن تفاوتا بين أساليبه بحيث يكون بعضها أبلغ من بعض؛ لأن أساليب القرآن تأتى دائما وافية بما يقتضيه المقام فالقرآن كله على درجة واحدة من البلاغة والبيان. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الاستعارة المطلقة

الاستعارة المطلقة الإطلاق فى اللغة ترك التقييد (¬1). والإطلاق فى اصطلاح البيانيين هو خلو الاستعارة مما يلائم المشبه به، فلا تكون مرشحة. وخلوها مما يلائم المشبه فلا تكون مجردة. قال الخطيب: هى التى لم تقترن بصفة ولا تفريع كلام (¬2). ومن الإطلاق نوع آخر له شواهد فى الشعر العربى وهو ما كانت الاستعارة فيه مشتملة على ما يلائم المشبه به والمشبه معا، ومع هذا لا يسميها البلاغيون لا مرشحة ولا مجردة، ولا مرشحة مجردة، بل هى عندهم استعارة مطلقة، على اعتبار أن الترشيح والتجريد لما تقابلا فيها تساقطا واعتبرا كأنهما لا وجود لهما فى الكلام. ومن أمثلتها عندهم قول زهير بن أبى سلمى: لدى أسد شاكى السلاح مقذف ... له لبد، أظفاره لم تقلّم استعار «أسد» للرجل الشجاع، وشاكى السلاح يلائم المشبه- الرجل الشجاع- فهو تجريد، أما «له لبد- أظفاره لم تقلم» فهما ترشيح لأنهما يلائمان المشبه به (الأسد). فهذه استعارة مطلقة لا مرشحة ولا مجردة. ولا مرشحة مجردة فى اعتبار واحد (¬3). وقد تابع البلاغيون ما قاله الخطيب، فكان ذلك عندهم إجماعا (¬4). فالاستعارة المطلقة عندهم نوعان: الأول، وهو الأصل، الاستعارات التى لم يذكر فيها ما يلائم المشبه (المستعار له) ولا ما يلائم المشبه به (المستعار منه). والثانى: الاستعارات التى ذكر فيها ما يلائم كلا من المستعار له، والمستعار منه. والإطلاق فى النوع الأول حقيقى واقعى، أما فى النوع الثانى فهو تقديرى اعتبارى والاستعارة المطلقة، باعتبار النوع الأول الحقيقى الواقعى كثيرة الورود فى القرآن الكريم. ومن أمثلتها قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ (¬5). استعار الصدع، وهو الشق فى نحو حائط وغيره للتبليغ، استعارة محسوس لمعقول، والجامع هو قوة التأثير فى كل منهما، على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية المطلقة. ¬

(¬1) اللسان، ترتيب القاموس، مادة: طلق. (¬2) الإيضاح (5/ 69). (¬3) الإيضاح (5/ 102). (¬4) معجم المصطلحات البلاغية (1/ 171). (¬5) الحجر (94).

حيث لم تقترن الاستعارة فى الآية بما يلائم أى طرف من طرفى الاستعارة. وقرينة الاستعارة هنا هى بِما تُؤْمَرُ لأن المعنى بلّغ ما أمرناك به تبليغا واضحا قويا يكون له تأثير فى القلوب كتأثير الصدع فى الأجسام ومنها كلمة، تَنَفَّسَ فى قوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ. لأن فى تَنَفَّسَ استعارة تصريحية تبعية مطلقة والأصل: إذا ظهر وانتشر. فاستعير التنفس للظهور وسرعة الانتشار، استعارة محسوس لمحسوس، والقرينة هى إسناد التنفس إلى ضمير الصبح، لأن التنفس من خصائص الكائنات الحية ذوات الأرواح. وقد خلت هذه الاستعارة من ذكر ما يلائم كلا من المستعار له (المشبه) والمستعار منه (المشبه به). ومنها قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً لأن فى قوله تعالى: بِحَبْلِ اللَّهِ استعارة تصريحية أصلية مطلقة استعير الحبل لدين الله، استعارة محسوس لمعقول لأن الحبل اسم جنس جامد غير مشتق. والقرينة هى إضافة الحبل إلى الله عز وجل (¬6). وفى استعارة المحسوس للمعقول إخراج المعنوى المدرك بالعقول، مخرج الحسى المدرك بالحواس الظاهرة اعتناء به، ومبالغة فى إظهاره. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى ¬

(¬6) النكت فى إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل ... (87).

الاستعارة المكنية

الاستعارة المكنيّة مادة كنى يكنى تدور لغة حول الخفاء والغموض. والاستعارة المكنية- وتسمى الاستعارة بالكناية، والاستعارة المكنى عنها- هى قسمية الاستعارة التصريحية، التى يصرح فيها بذكر المشبه به، مع حذف المشبه؛ لأن الاستعارة- عموما- تشبيه حذف منه ثلاثة أركان. وجه الشبه، ويسمى فى الاستعارة «الجامع» وأداة التشبيه، وهذان الحذفان لازمان فى كل استعارة ثم بعد حذفهما إما أن يحذف المشبه، ويذكر الشبه به فتكون الاستعارة تصريحية. وإما أن يحذف المشبه به، ويذكر المشبه فتكون الاستعارة مكنية. ويشترط فيها أن يكون فى الكلام ما يدل دلالة قوية على المشبه به المحذوف؛ لأنه عمدة فى كل استعارة. وكان الإمام عبد القاهر أول من لفت الأذهان إلى تقسيم الاستعارة باعتبار طرفيها إلى: استعارة تصريحية. استعارة مكنية. ولكنه لم يسمهما بل اكتفى بإيراد الفروق بينهما مع التمثيل الوافى ببيان المراد من كل منهما (¬1). وبهذا مهّد الإمام الطريق لمن جاء بعده فى تأصيل القول فى كل من الاستعارة التصريحية، والاستعارة المكنية فجاء من بعده السكاكى وقال فى تعريفها: هى أن تذكر المشبه وتريد به المشبه به دالا على ذلك بنصب قرينة .. وهى أن تنسب إليه شيئا من لوازم المشبه به (¬2). وتابعه بدر الدين بن ابن مالك فقال: «هى أن تذكر المشبه وتريد به المشبه به؛ وتدل بشيء من لوازمه- أى لوازم المشبه به- على المشبه» (¬3). يعنى تنسب إلى المشبه بعض خواص المشبه به، لتكون دليلا على المشبه به المحذوف. ثم جاء الخطيب القزوينى، واستفاد من أقوال الذين سبقوه، ووضع تعريفا للاستعارة المكنية دار البلاغيون فى فلكه حتى الآن، قال رحمه الله: ¬

(¬1) أسرار البلاغة (44/ 48). (¬2) مفتاح العلوم (179). (¬3) المصباح (64).

«قد يضمر التشبيه فى النفس، فلا يصرح بشيء من أركانه سوى لفظ المشبه، ويدل عليه- أى على المشبه به- بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به، من غير أن يكون هناك أمر ثابت حسا أو عقلا أجرى عليه اسم ذلك الأمر فيسمى التشبيه استعارة بالكناية، أو مكنيا عنها وإثبات ذلك الأمر للمشبه استعارة تخييلية» (¬4). فالاستعارة المكنية إنما هى تشبيه حذف منه ثلاثة أركان: وجه الشبه، وأداة التشبيه، والمشبه به، مع إبقاء ما يدل عليه فى الكلام. حيث يثبت للمشبه بعض لوازم المشبه به الخاصة به. أما قرينة الاستعارة المكنية فهى لفظية دائما لأنها تكمن فى إثبات أحد خواص المشبه به للمشبه، وهذا ما سماه الخطيب والبلاغيون بالاستعارة التخييلية. وللاستعارة المكنية ورود كثير فى الشعر العربى القديم والوسيط والحديث، وكذلك فى القرآن الكريم، وهو الذى نقصر عليه حديثنا فى هذه المباحث. ومنها فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ- وفى توجيهه بلاغيا يقول الإمام الزمخشرى: «أن تجعل للذل جناحا خفيضا كما جعل لبيد للشمال يدا وللقرة زماما» (¬5). وهذا معناه أن فى التركيب استعارة مكنية كما فى بيت لبيد وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها فقد أجمع البيانيون أن فى بيت لبيد هذا استعارتين مكنيتين، إحداهما فى يد الشمال. والثانية فى زمام القرة وهى الريح الباردة. وفى الآية شبه الذل بطائر، تم حذف المشبه به وهو الطائر، وأثبت للمشبه (الذل) الجناح، وهو من لوازم المشبه به (الطائر) لا المشبه (الذل) وهذا الإثبات يؤدى مهمتين. الأولى: الدلالة على المشبه به المحذوف. الثانية: منع أن يكون المراد هو المعنى الحقيقى الوضعى لأن هذا الإثبات- كما تقدم- هو قرينة الاستعارة المكنية. وبلاغة هذه الاستعارة هى إخراج المعنوى، وهو البر بالوالدين، فى صورة الحسى. اعتناء بشأنه، وإظهارا له ومنها قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ شبه الغضب بذى عقل وإرادة وثورة، ثم حذف المشبه به (ذا الإرادة العاقل الثائر) ورمز إليه بشيء من لوازمه الخاصة به، وهو ¬

(¬4) الإيضاح (5/ 123) وما بعدها. (¬5) الكشاف (2/ 445).

السكوت. الذى نسب إلى «الغضب» على أنه فاعل له. وهذا ما يسميه البلاغيون بالاستعارة التخييلية وهى قرينة المكنية. وبلاغة هذه الاستعارة المبالغة فى تصوير حدة الغضب التى اعترت موسى عليه السّلام، لما رجع من ميقات ربه، فوجد قومه (بنى إسرائيل) يعبدون العجل إلها من دون الله. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الكناية

الكناية تدور مادة كنى فى اللغة حول معانى الخفاء والستر والتغطية وعدم التصريح (¬1). أما فى اصطلاح البلاغيين فهى: «لفظ أطلق وأريد به لازم معناه مع جواز إرادة معناه الأصلى» (¬2). وهذا كلام الخطيب فى الإيضاح مع تصرف يسير بالزيادة أضفناه بقصد التوضيح. وقبل الخطيب تباينت عبارة أهل العلم فى تعريف الكناية تباينا واسعا. والكناية من الأساليب البديلة، مثل المجاز، يعدل إليها عن اللفظ الأصلى لنكتة بلاغية، تجعل التعبير بها أولى أو أوجب من التعبير باللفظ الذى وضع فى أصل اللغة للدلالة عن المعنى. والبلاغيون قسموا الكناية بحسب المعنى الذى تدل عليه ثلاثة أقسام: * كناية عن موصوف لم يصرح به فى الكلام. * كناية عن صفة لم يصرح بها فى الكلام. * كناية عن نسبة بين أمرين غير مصرح بها فى الكلام. ومعنى قولهم فى تعريف الكناية: «لفظ أطلق وأريد به لازم معناه، مع جواز إرادة المعنى الأصلى، يتضح من تحليل العبارة الآتية: فلان كثير الرماد». كان العرب يخبرون بهذه العبارة عن الشخص الذى يريدون وصفه بكثرة الكرم والبذل والعطاء والعلاقة بين كثرة الكرم وكثرة الرماد، هى الانتقال من كثرة الرماد إلى كثرة إيقاد النار، ثم الانتقال من كثرة إيقاد النار إلى كثرة طهو الطعام وإنضاج اللحم، ومن هذا ينتقل إلى كثرة الآكلين (الضيوف) ومن كثرة الضيوف إلى كثرة الكرم، وهو المطلوب. ولا يمتنع إرادة كثرة الرماد مع إرادة المعنى الكنائى، الذى هو المراد من الكناية أساسا، وإرادته ليست بلازمة فى الدلالة على الكرم، لأن الإنسان قد يكون كريما من غير كثرة الرماد كأن يجود بأشياء أخرى كالنقود وغيرها. وسمى هذا التعبير كناية؛ لأنه لم يصرح فيه بلفظ الكرم بل أخفى هذا الوصف. ¬

(¬1) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: كنى. (¬2) بغية الإيضاح (2/ 150) وما بعدها.

وسميت الكناية لازم معنى اللفظ المستعمل فيها لأنه يلزم من كثرة الطهو كثرة الكرم. فلفظ الكناية أيا كان ملزوم، ومعناها لازم لا ينفك عنها. والكناية تجمع- على الأرجح- بين الحقيقة والمجاز؛ لأن لفظ الكناية لم يرد منه معناه الموضوع له مباشرة فيكون حقيقة، ولم تمتنع إرادته مع إرادة المعنى الكنائى فيكون مجازا. لذلك يقال: إن الكناية لها جانبان: حقيقة ومجاز وأن قرينة الكناية غير مانعة من إرادة المعنى الأصلى، وقرينة المجاز مانعة. فالكناية على هذا ليست حقيقة خالصة، وليست مجازا خالصا. وهذا هو الحق، الذى لا يجوز أن يحاد عنه والكناية من الأساليب الكثيرة الشيوع فى الكلام البليغ، وبخاصة فى القرآن الكريم؛ فلا تكاد تخلو منها سورة؛ لأن لها مقامات تؤثر هى فيها عن غيرها. وفى القرآن الكريم نجد حقلا من حقول التعبير آثر القرآن الكريم التعبير الكنائى فيه دون غيره. فمثلا العلاقات الجنسية، سواء كانت بين الأزواج، أو غير الأزواج نجد القرآن يعدل عدولا تاما عن التصريح بها وإيثار الكناية فى كل حديث عنها؛ لأن من دواعى العدول إلى الكناية فى البلاغة بوجه عام مقامات محددة منها ما يستقبح أو يستهجن ذكره صراحة، فيعدل إلى التعبير الكنائى عنه ترفعا وأدبا. فخذ إليك مثلا قوله تعالى: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ (¬3). هذا توجيه من الله لراغبى الزواج من النساء المتوفى عنهن أزواجهن والمطلقات. بألا يخطبوهن فى عدتهن حتى تنقضى مدة العدة. وهنا يؤثر القرآن الكريم التعبير الكنائى عما يكون بين الأزواج فيسميه سِرًّا ولا يفصح عنه. وإنما سمّى ما يستهجن ذكره سرا، لأنه لا يقع إلا فى السر، والكناية هنا عن صفة وهى مباضعة النساء. * وكذلك آثر التعبير الكنائى عنه فى قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (¬4). فكنى عنه ب «الإتيان» وهو يطلق على عدة ¬

(¬3) البقرة (235). (¬4) البقرة (223).

معان أخرى غير ما يكون بين الزوج وزوجته. والكناية هنا عن موصوف هو مباضعة النساء، أو النكاح وقد جاء التعبير عنه ب «النكاح» عشرات المرات فى القرآن الكريم، والنكاح معناه أعم من مباضعة النساء فى أصل اللغة؛ لأن معناه العام هو: الضم وهو معنى عفيف لا ابتذال فيه ولا استقباح. وقد يستعمل «النكاح» كناية عن مجرد «عقد الزواج» وإن لم يصاحبه دخول بالمعقود عليها. ومن ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ (¬5). وإطلاق النكاح على مجرد العقد نادر وروده فى القرآن الكريم. أما وروده بمعنى مباضعة النساء فكثير كثير، ومنه قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ (¬6). المراد من النكاح فى الآية هو «الوطء الفعلى» وليس مجرد العقد عليها، وهذا موضع إجماع بين الفقهاء إلا من لا يعتد بقوله. كما كنى القرآن عن مباضعة النساء بالمس والملامسة وهما لفظان لا ابتذال فيهما ولا فحش ولا إثارة ومثال «المس» آية الأحزاب المذكورة آنفا، وهى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ أما الملامسة فمثالها قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ (¬7) كما كنى عن المباضعة بالتغشية فى قوله تعالى: فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً .. (¬8) والتغشى لفظ عفيف مهذب، وقد أدى معناه الكنائى هنا دون أن يخدش حياء، أو يثير غريزة ومما شاع استعماله فى كنايات القرآن عن العلاقات الزوجية لفظ «المباشرة» مكنيا به عن اتصال الزوج بزوجته. قال عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ¬

(¬5) الأحزاب (49). (¬6) البقرة (230). (¬7) المائدة (6). (¬8) الأعراف (189).

ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (¬9). والواقع أن الآية الكريمة تضمنت عدة كنايات عن علاقات الأزواج بزوجاتهم. وأول ما يفجؤنا فيها كناية «اللباس» هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ وهى كناية لطيفة تشع منها معان آسرة. فمن معانى اللباس الستر والتجمل، والزوجة تعف زوجها وتغنيه عن الحرام، وهو يعفها ويغنيها عن التطلع إلى الحرام، وكل منهما يجمّل الآخر ويصونه ثم التعبير الكنائى بالمباشرة، ومن معانيها الملامسة والمماسة، والضم والمكاشفة والملاصقة. وكلها معان لا إسفاف فيها ولا ابتذال. أما «الرفث» فهو كناية عن مقدمات الوطء، ومنها الكلام أيا كان ابتذاله ومجونه، لكن التعبير الكنائى عنه بالرفث فيه ستر وإخفاء لحقيقة ما يقال فى مخادع الأزواج. إنه لفظ كنائى مهذب، يصور الواقع من وراء ستار، مخفيا قبحه وعوره. ويكنى عنها كذلك ب «قضاء الوطر» وشاهد هذا قوله عز وجل: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً (¬10) عبارة مهذبة شريفة، لا يحس السامع منها أى انفعال غريزى مخرج له عن مشاعره الهادئة الرزينة. ومن كنايات القرآن الكريم عن المعانى الشديدة الحساسية بالعلاقات الغرزية بين الذكور والإناث التعبير عنها بالإفضاء فى قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (¬11). إن لفظ «الإفضاء» تعبير مهذب راق عن العلاقات السرية وغير السرية، التى تكون فى حياة الأزواج. ومن ذلك الكناية عنها بالقرب، كما جاء ذلك فى قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ (¬12) وفى هذه الكناية اتساع فى المعانى المرادة، يشمل حتى مقدمات الجماع فى أثناء حيض الزوجة، حتى لا تقود تلك المقدمات إلى الوقوع فى المحظور، لأن قرب الحائض يكون سببا قويا فى الإصابة بالأمراض، وخاصة الجلدية لذلك كان النهى عن «القربان» لأن فيه تحوطا شديدا عن الوقوع فى المحظور. ¬

(¬9) البقرة (187). (¬10) الأحزاب (37). (¬11) النساء (20 - 21). (¬12) البقرة (222).

والكنايات التى تقدم الحديث عنها، كلها كنايات عما يقع فى دائرة الحلال بين الأزواج والزوجات، ومنها كنايات عن صفة، إلا الرفث فإنه كناية عن موصوف، هو الكلام الفاحش. وأما ما يقع فى دائرة الحرام، فقد كنى عنه القرآن الكريم بالزنى، وإتيان الفاحشة، تنفيرا عنه، وتزهيدا فيه بعيدا عن الإسفاف والتبذل فى الألفاظ المكشوفة الفاضحة. ومما يلفت النظر التعبير عن الزنى ب «السفاح» ومن شواهده قوله تعالى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ (¬13) وأصل السفح هو تدفق الدم المملوء بالسموم، الذى يندفع من الشاه بعد ذبحها. وفى تكنية القرآن الكريم عن «الزنى» بالسفاح كناية لطيفة أخرى متولدة عن الكناية الأولى، شبه فيها ماء الرجل الذى يصب فى رحم الزانية بالدم المسفوح المملوء بالسموم القاتلة. لأن الدم المسفوح يضر بصحة البدن وحده، لذلك حرّمه الله على الآكلين. أما ماء الزناة فهو قاتل لشرف النسل وأخلاق الفضل والعفة والطهارة فتأمل هذه المعانى السامية، التى تشع من كنايات كتاب الله العزيز، لتدرك لماذا يعدل القرآن عن التصريح إلى الكناية التى هى الصفة الشائعة فى القرآن الكريم. ومنها فى غير العلاقات الزوجية، قوله تعالى فى الحديث عن عيسى عليه السلام وأمه رضى الله عنها: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ إنها كناية مهذبة طاهرة، عدل القرآن الكريم إليها عن: كانا يتغوطان ويتبولان. حيث كنى بأكل الطعام، وهو طاهر نظيف طيب، عن التغوط والتبول، وهما يثيران التقزز والاشمئزاز فى النفوس، فضلا عن خبثهما ونجاستهما. ولو جاء التعبير بالتغوط والتبول لكان فى ذلك إيحاء بكشف عوراتهما أمام عيون الخيال البشرى، والقرآن يستر العورات فى الواقع، وفى التعبير. وقد يقول قائل: إن التعبير بالتغوط جاء صريحا فى القرآن فى مواضع أخرى، مثل: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ (¬14) فلماذا عدل الله عنه فى الحديث عن عيسى عليه السلام، وأمه رضى الله عنها؟ ونقول: ما ورد فى أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ لا حرج فيه، لأنه لم يأت وصفا لإنسان معين، بل هو حديث عام يشمل جميع المكلفين. أما فى الحديث عن عيسى وأمه، فهو حديث خاص عنهما فى المقام الأول. من أجل ذلك روعى معهما تحشمهما ووقارهما. ¬

(¬13) النساء (24). (¬14) المائدة (6).

إضافة إلى أن الغائط نفسه كناية فى نفسه، لأنه عبارة عن المكان الذى تقضى فيه الحاجة، ولكنه إذا ما قيس بهذه الكناية كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ كان كالتصريح بالنسبة لها. ومن الكناية عن الموصوف فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (¬15) كناية عن سفينة نوح عليه السلام، وهى أبلغ مما لو قيل: حملنا على سفينة. لأن المقام مقام تمجيد لقدرة الله، وامتنان على نوح عليه السلام وفى ذكر عناصر تركيب السفينة وهما الخشب والمسامير، تذكير بعظمة وقدرة الله، وجلال النعمة على نوح ومن آمن معه. هذا، والكناية- عموما- أبلغ من التصريح، لأنها تقرن الدعوى بدليلها المصدق لها. فقوله تعالى فى عيسى وأمه «كانا يأكلان الطعام» أبلغ مما لو قيل: كانا مخلوقين .. لأن هذا القول يخلو من الدليل المادى المصاحب للدعوى أما «كانا يأكلان الطعام» فهو دليل صدق الدعوى. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى المصادر والمراجع: ¬

(¬15) القمر (13).

البديع

البديع البديع فى اللغة، هو الجديد والطريف والمخترع (¬1) أما فى اصطلاح البلاغيين. فهو: علم يعرف به وجوه تحسين الكلام (¬2). وهو العلم الثالث من علوم البلاغة: المعانى والبيان ثم البديع. ومنزلته بين علوم البلاغة أن علمى المعانى والبيان علمان أساسيان فى بلاغة الكلام. ويأتى البديع يزيد الكلام البليغ حسنا راجعا إلى المعانى أولا، ثم إلى الألفاظ ثانيا. أو حسنا راجعا إلى الألفاظ أولا ثم إلى المعانى ثانيا. وعلى هذا الاعتبار قسموا البديع قسمين: أحدهما البديع المعنوى كالطباق والمقابلة ومراعاة النظير، والثانى: لفظى كالجناس والسجع (¬3). وقد وضعوا لقبوله فى الكلام شروطا منها: * عدم الإكثار منه، وترك الإسراف فيه. * ألا يكون متكلفا بل يقبل منه ما جرى على الطبع وعلى أساس هذا نقدوا كثيرا من الشعراء لإسرافهم فى الألوان البديعية، وتكلفهم بعض صوره فى شعرهم وقالوا إن المسرف فيه يكون عرضة للذم وكثرة الخطأ. أما بديع القرآن فسوف نتناول أطرافا منه من خلال بعض آيات القرآن الكريم لنثبت بالأدلة القاطعة إنه كثير جدا فى القرآن الكريم، ومع هذه الكثرة لا نقول إنه سلم من كل عيب فحسب، بل هو سمة من سمات الإعجاز فى كتاب الله العزيز. وهذا هو الفرق بين كلام الله وكلام البشر. نعرض فى هذا المبحث نصوصا من القرآن الكريم، محاولين توضيح ما فيها مما أطلقوا عليه «بديعا» سواء دخل عندهم فى المعنوى، أو اللفظى، ولنبدأ بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (¬4). ¬

(¬1) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: بدع. (¬2) سر الفصاحة (193). (¬3) بغية الإيضاح (3/ 3) تعليق الشيخ عبد المتعال الصعيدى مكتبة الآداب 1420 هـ. (¬4) البقرة (26 - 27).

جاءت فى هاتين الآيتين ضروب عدة من البديع نذكرها فيما يلى: (أ) المشاكلة: وذلك فى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما وهى مشاكلة من النوع الثانى الذى ذكروه فى قولهم: «المشاكلة هى ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه فى صحبته تحقيقا أو تقديرا» (¬5). فهى مشاكلة تقديرية. وذلك بناء على ما ذكره المفسرون. فالزمخشرى يقول «ويجوز أن تقع هذه العبارة فى كلام الكفرة. فقالوا: أما يستحى رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب- إشارة إلى قوله تعالى: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً (¬6) فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال- وهو فن من كلامهم بديع وطراز عجيب منه قول أبى تمام: من مبلغ أبناء يعرب كلها ... أنى بنيت الجار قبل المنزل ويلاحظ أن اللفظ «المشاكل» هنا مجازى المعنى حقيقته الترك. فمعنى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أى لا يترك الضرب بالبعوضة ترك من يستحى أن يمثل بها لحقارتها ... لأن الحياء تغير وانكسار يعترى الإنسان من تخوف ما يعاب به أو يذم (¬7) وهو بهذا المعنى مستحيل فى جانب الله. إذن فقد اجتمع هنا لونان بديعيان: المشاكلة .. وقد تقدم شرحها. (ب) والمماثلة أو التمثيل .. وقد سبق أنهم يعتبرونه لونا بديعا. وسبق كذلك أنه عندهم يطلق على عدة أمور: الاستعارة المفردة، الاستعارة التمثيلية، المثل السائر. (ج) الإبهام: وذلك بناء على ما ذكره المفسرون- كذلك- من أن «ما» فى قوله تعالى: ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها أن «ما» الأولى إبهامية، وهى التى إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته شيوعا وعموما (¬8) وكون «ما» إبهامية مشروط بنصب «بعوضة» - كما هى القراءة المشهورة- وإن رفعت «بعوضة» فإن «ما» تصبح موصولة. (د) التوجيه: وذلك فى قوله تعالى: فَما فَوْقَها فإن الفوقية هنا لها معنيان، أحدهما: فما تجاوزها فى المعنى الذى ضربت فيه وهو القلة والحقارة. وثانيهما: فما زاد عليها فى الحجم. ولما كان أحد هذين المعنيين لم تنصب قرينة على إرادته بعينه، وبقى الفهم والاعتقاد شركة بينهما حصل النوع البديعى الذى يسمونه «التوجيه»؛ وهو أن يكون للفظ معنيان لم تقم قرينة على إرادة أحدهما. والمتأمل يرى أن كلا المعنيين هنا صالح للفهم والاعتقاد. ¬

(¬5) الإيضاح (6/ 27). (¬6) الحج (73). (¬7) الكشاف (1/ 84). (¬8) المصدر نفسه (860).

(هـ) حسن التقسيم: حيث قسم الناس بالنسبة لضرب الأمثال بالبعوضة وما زاد عليها فى الحقارة أو ما زاد فى الحجم إلى فريقين: فريق مؤمن مصدق، وآخر كافر مكذب. (و) المقابلة: حيث طابق بين «آمنوا» و «كفروا» و «يضل» و «يهدى»، وقد جمعت المقابلة هنا التكافؤ حسبما يرى ابن أبى الأصبع لأن «يهدى» و «يضل» مجازيان. (ز) التعطف: وذلك فى ثلاثة مواضع «مثلا» و «مثلا»، «يضل» و «يضل»، «كثيرا» و «كثيرا». (ح) البيان بعد الإبهام: وذلك أنه سبحانه قال: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً فبين أن فريقا يضل به وآخر يهدى، ولم يبين من المهدى ومن المضل، ثم عاد فقال: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ليعلم من هو الفريق المضل وفى هذا البيان معنى الاحتراس. (ط) صحة التفسير: حيث فسر «الفاسقين» فى قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ بقوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. (ى) النزاهة: وذلك لأنه سبحانه حين أراد ذمهم لم يستعمل فيه هجين اللفظ، ولا قبيح المعانى، بل سجل عليهم نقضهم ميثاق الله، وترك ما أمر الله بفعله وفسادهم فى الأرض، وأخبر عنهم بأنهم هم الخاسرون لا غيرهم. (ك) التكافؤ: وهو- كما عرفه ابن أبى الأصبع- أن يكون ركنا الطباق مجازين لا حقيقيين، وأن تكون أركان المقابلة مجازية كذلك. والتكافؤ بهذا المعنى وارد فى الآية الثانية: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، حيث قابل بين النقض والتوثقة، والقطع والوصل، وهذه كلها أركان مجازية، فالنقض لا يكون إلا فى المركبات الحسية، وكذلك التوثقة، والقطع لا يكون إلا فى المتماسك الحسى، وقد استعمل هنا مرادا به الترك، والوصل صنو القطع، واستعمل هنا فى أمر معنوى هو: الإتيان والفعل. (ل) الترشيح: وذلك أنه قال: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ هو الذى رشح لإيقاع النقض على العهد، وهو لا يكون إلا فى المركب الحسى و «العهد» معنى من المعانى، فالذى رشح له أنهم يسمون العهد «حبلا» على سبيل الاستعارة. قال الزمخشرى: «فإن قلت من أين ساغ استعمال النقض فى إبطال العهد؟ قلت: من حيث تسميتهم العهد بالحبل على

سبيل الاستعارة لما فيه من إثبات الوصلة بين المتعاهدين» (¬9). (م) التسجيع: وهذا ظاهر من فاصلتى الآيتين: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فاتحدت الفاصلتان فى حرف النون مسبوقا بحرف مد فى الموضعين. (ن) التذييل: وذلك فى قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فإنه تذييل جاء مؤكدا لما فهم من أوصاف الفاسقين. (س) حسن النسق: حيث جاءت الجمل مرتبة ترتيبا حسنا خالية من عيوب النظم. فقد بدأ- سبحانه- بأن له مطلق الإرادة يمثل بما شاء لما شاء. والناس إزاء هذا التمثيل ضربان: مؤمن مصدق، وكافر مستريب، وفى هذا يضل الله من يشاء وهم كثيرون، ويهدى من يشاء وهم كثيرون، ثم بين أنه لا يضل إلا الفاسقين، ثم شرع فى بيان صفات الفاسقين فبدأ بنقضهم عهد الله، وتركهم ما أمر الله به أن يؤتى، ثم عطف عليه كونهم مفسدين فى الأرض. ثم أخبر عنهم بأنهم الخاسرون. والمتأمل يرى أن كل جزء تقدم على آخر فإنه كالسبب فيه أو أخص منه وما أتى بعده عام. أو حكم تقدمت مسبباته. فجاء التعبير محكم البناء، موصول العرى، متلاحم الفقرات. (ع) الانسجام: وقد عرفه ابن أبى الأصبع: بأن يكون الكلام منحدرا كانحدار الماء المنسجم بسهولة سبك وعذوبة ألفاظ وسلامة تأليف، حتى يكون للكلام موقع فى النفوس وتأثير فى القلوب ما ليس لغيره وإن خلا من البديع (¬10). وهذا الانسجام ينطبق على آيتينا هاتين بل ينطبق على كل موضع فى القرآن الكريم فهو وصف عام له، لم يختص به موضع دون آخر. (ف) المجاز: هكذا عدوا المجاز من فنون البديع، وهو فى آيتنا ظاهر فى بعض مواضعها كالنقض فى الإبطال، والتوثق فى الحفاظ على عهد الله، والقطع فى الترك والوصل فى الفعل، ومن قبل هذا كان الاستحياء فى الترك أيضا. (ص) الإدماج: وهو كما عرفه ابن أبى الأصبع (¬11): أن يدمج غرض فى غرض أو بديع فى بديع بحيث لا يظهر إلا أحد الغرضين: وهذا قد مر بنا فى موضعين من النص الكريم: أحدهما: دمج التكافؤ فى المقابلة فى قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُ ¬

(¬9) المصدر نفسه (1/ 90). (¬10) بديع القرآن (166). (¬11) المصدر نفسه (172).

مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً فإن «يضل» و «يهدى» مجازيان- كما سبق- وهذا تكافؤ مدمج فى المقابلة. وثانيهما: دمج التكافؤ فى المقابلة- كذلك- فى قوله تعالى: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ على ما سبق بيانه. (ق) التفصيل: وهو الواقع بعد «أما»، و «أما» فى قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ولا يقف بنا الأمر عند هذا الحد، فإن لنا أن نصف النص بما يأتى: (ر) ائتلاف اللفظ مع المعنى: لأن كل لفظ فيه قد ائتلف مع معناه. فهما مقدران بقدر، وموضوعان بحكمة، وهذا اللون- وإن مثلوا له ببعض آيات القرآن- فإنه وصف عام ليس فى موطن دون موطن بل القرآن كله موصوف بائتلاف ألفاظه مع معانيه. (ش) حسن الجوار: وهذا مثل سابقه: وصف عام للقرآن حيث لم تقع فيه لفظة واحدة متنافرة مع سابق عليها أو لاحق لها، وهو ينطبق على آيتينا باعتبارهما جزءا من التنزيل الحكيم. فهذه أكثر من عشرين لونا بحثوها فى ألوان البديع، وقد جاءت فى القرآن على أحسن موقع وأجمل مطلع. وهل ترى فى هذا النص- وقد علمنا ما فيه من ألوان البديع- قصورا فى معناه الذى سيق من أجله؟ أم اقتسارا للفظ على المعنى؟ ليس فى النص شىء من هذا. بل هو واف بالمراد فى وضوح وقوة، وهذا هو الفارق بين كلام معجز، وكلام هو عرضة للخطأ والمغالاة. وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. (هود: 44) هذه الآية الكريمة تصور لنا فى إيجاز نهاية قصة الطوفان فى عهد نوح عليه السّلام، وقد اشتملت على الألوان البديعية الآتية: (أ) المناسبة اللفظية التامة، بين «أقلعى» و «ابلعى». فقد جمع بين اللفظين وهما هنا موزونان مقفيان بزنة وقافية واحدة وهذا هو معنى المناسبة التامة. (ب) المطابقة: بين «السماء» و «الأرض» فى قوله تعالى: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وقد مر تعريف المطابقة فلا حاجة إلى ذكره.

(ج) الاستعارة: فى قوله تعالى: «أقلعى» و «ابلعى». (د) المجاز المرسل: فى قوله تعالى: «يا سماء» والحقيقة: يا مطر السماء والعلاقة: المجاورة. (هـ) الإشارة: وهى أن يدل اللفظ القليل على المعنى الكثير بحيث يكون اللفظ لمحة دالة. وذلك فى قوله تعالى: «وغيض الماء» لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء، فدل هذا التركيب القليل: «وغيض الماء» على أن كل ذلك قد حدث. (و) الإرداف: فى قوله تعالى: «واستوت على الجودى» وقد مر بحث هذه العبارة. (ز) التمثيل: وقد مر تعريفه والتمثيل له بهذه العبارة: «وقضى الأمر». (ح) التعليل: لأن «غيض الماء» علة الاستواء. (ط) صحة التقسيم: حيث استوعب- سبحانه- حالة الماء حين نقصه. (ى) الاحتراس: من توهم متوهم أن الماء قد عم من لا يستحق الهلاك وقد تحقق «الاحتراس» بالدعاء على الهالكين. (ك) الانفصال: لأن لقائل أن يقول: إن لفظة «القوم» يستغنى عنها المعنى إذ لو قيل: «وقيل بعدا للظالمين» لتم الكلام. (ل) المساواة: لأن لفظ الآية لا يزيد على معناه ولا ينقص عنه، وستأتى مخالفة هذا الوجه. (م) حسن النسق: فى عطف القضايا بعضها على بعض حسبما وقعت: الأول فالأول. (ن) ائتلاف اللفظ مع المعنى: لكون كل لفظة لا يصلح غيرها مكانها، وقد مر تعريفه. (س) الإيجاز: لأن الله اقتص قصة السفينة بلفظها مستوعبة فى أخصر عبارة بألفاظ غير مطولة. (ع) التسهيم: لأن أول الآية إلى قوله تعالى: «أقلعى» يقتضى آخرها، والتسهيم أن يكون فى أول الكلام ما يدل على آخره لأنه يقتضيه. (ف) التهذيب: لأن مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن، كل لفظة سهلة مخارج الحروف، عليها رونق الفصاحة. (ص) حسن البيان: لأن السامع لا يتوقف فى فهم معنى هذا الكلام لوضوحه، وصفائه. (ق) التمكين: لأن الفاصلة مستقرة فى

قرارها. مطمئنة فى مكانها غير قلقة ولا مستكرهة. (ر) الانسجام: وهو تحدر الكلام بسهولة وعذوبة سبك. (ش) الإبداع: وهو فى مجموع الآية. هذا خلاصة ما ذكره ابن أبى الأصبع فى بديع هذه الآية. ولنا عليها ملاحظة مهمة. ذلك أنه وصف الآية بالمساواة وجعل المساواة فنا من فنون البديع كما جعل الاستعارة كذلك. ثم عاد ووصف الآية بالإيجاز، والإيجاز والمساواة ضدان لا يجتمعان، فإما أن يكون الكلام مساويا أو غير مساو بأن يكون موجزا أو مطنبا، أما أن يوصف كلام واحد بعينه بأنه مساو، وموجز مرة أخرى فهذا شىء غير مفهوم على الإطلاق، ونحن- إذا جاريناه على أن الإيجاز من فنون البديع- فإن الآية موصوفة به لا بالمساواة إذ هى قد اشتملت على نوعى الإيجاز: ففيها إيجاز الحذف. ويكفى فى تصور ذلك أن فى الآية قد بنى الفعل للمفعول فى عدة مواضع: «قيل يا أرض» و «غيض» و «قضى الأمر» و «قيل بعدا». كما طوى ذكر السفينة وأضمر فاعل الفعل «استوت»، وحذف معمول «أقلعى» ... وهذا موسوم بإيجاز الحذف. وفيها إيجاز قصر .. لأن بعض ألفاظها قد حوى كثيرا من المعانى مثل: «غيض الماء» و «قضى الأمر». وبهذا يظهر خلط ابن أبى الأصبع فى عد الآية من باب المساواة مرة والإيجاز مرة أخرى. وكيف ساغ له ذلك وهو البلاغى الضليع والناقد الأديب؟ لا أرى سببا وراء ذلك إلا ولوعه بألوان البديع وكثرة محصوله منها. قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. (يوسف الآيتان 26 - 27). المعنى الإجمالى لهاتين الآيتين: تكذيب يوسف عليه السّلام لدعوى امرأة العزيز، ثم تأييده فيما قال بشهادة شاهد من أهلها لفت نظر العزيز إلى قرائن الأحوال التى منها: علم العزيز صدق يوسف عليه السّلام وكذب امرأته على يوسف. والناظر فيهما لا يجد تكلفا فى العبارات. ولا نقصا فى المعنى، ومع هذا فقد جاءت فيها فنون شتى من البديع لم تخرج عن سمات البلاغة الأصلية، والبيان الآسر. وتلك الفنون هى:

1 - المناقضة: وهى- هنا- مناقضة المتكلم غيره فى معنى. فقد ادعت امرأة العزيز أن يوسف عليه السّلام راودها عن نفسها. فنقض هذا المعنى فى قوله: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي. 2 - الكناية: فى قوله أيضا: راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وحقيقته: طلبت منى الفحشاء. والمراودة: أن تنازع غيرك فى الإرادة فتريد غير ما يريد (¬12)، فقد كان يوسف عليه السّلام عزوفا عنها فأرادت أن تثنيه عن رأيه لتحقق مقصودها. 3 - النزاهة: لأن فى قوله: راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي بعدا عن الألفاظ المعيبة. وفيها كذلك الاعتدال فى الاتهام ويبدو هذا جليا إذا ما قورنت هذه العبارة بعبارة امرأة العزيز: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (¬13) فهى تدل على نفس حاقدة كائدة مغيظة إذ لم تكتف بمجرد الاتهام، بل بالغت فيه مقترحة الجزاء: إما السجن، وإما العذاب الأليم. 4 - جناس الاشتقاق: وذلك فى قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ لأنهما يرجعان فى اللفظ إلى أصل واحد. 5 - الاستقصاء: وهو فى قوله تعالى: مِنْ أَهْلِها وصفا للشاهد، وفى هذا مدخل عظيم الأثر فى براءة يوسف عليه السّلام، وإدانة امرأة العزيز. 6 - حسن البيان: لأن المعنى فى هاتين الآيتين واضح لا يعوق عنه فهم ولا يغرب عن طالب. 7 - حسن التفسير: لأن قوله تعالى: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ، والآية التى بعدها- كل هذا تفسير للشهادة التى أشارت إليها العبارة السابقة. 8 - حسن التقسيم: حيث قسم قرائن الواقعة قسمين باعتبار ما حدث من قدّ القميص. 9 - المزاوجة: حيث زاوج بين الشرط والجزاء، فقدّ القميص من القبل يترتب عليه صدقها وكذبه. وقده من الدبر يترتب عليه كذبها وصدقه. 10 - الإيهام: حيث ساوى بين امرأة العزيز ويوسف عليه السّلام فى احتمال دعوى كل منهما فى الصدق والكذب، والقرائن التى أشار إليها الشاهد تخص دعواها بالكذب. وتثبت الصدق ليوسف عليه السّلام. 11 - المقابلة: حيث طابق بين القبل والدبر، والصدق والكذب. 12 - العكس والتبديل: حيث قدم الصدق مرة وأخّره مرة أخرى، وقدم الكذب تارة وأخره تارة أخرى. ¬

(¬12) مفردات الراغب (206). (¬13) يوسف (25).

13 - التمكين: لأن الفاصلة فى الموضعين قارة فى مكانها لا نافرة ولا قلقة. 14 - التسهيم: لأن قوله فى الآية الأولى: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ إلى: فَكَذَبَتْ يدل على الفاصلة وكذلك القول فى الآية الثانية. 15 - التسجيع: لأن الفاصلتين فى الموضعين متماثلتان: «الكاذبين»، «الصادقين». 16 - لزوم ما لا يلزم: حيث التزم فى الفاصلة الياء المكسور ما قبلها وذلك نلحظه فى الموضعين. 17 - الإيجاز: ففي الآيتين لوحظ حذف بعض الكلمات منها: «قال» قبل: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها وحذف الفاعل فى «قد» فى الموضعين. وكان فى هذا الحذف من الفخامة والروعة ما فيه. 18 - حسن النسق: حيث رتبت الأجزاء ترتيبا حسنا فبدأ بتكذيب يوسف لدعوى امرأة العزيز ثم ذكر شهادة الشاهد الذى أيده. ثم تفصيل تلك الشهادة وما يترتب عليها فى عرض حسن ونسق جميل. 19 - الانسجام: وذلك من جزالة الألفاظ، وجودة السبك والترتيب المنطقى لأجزاء القضية. 20 - الافتنان: وقد عرفه ابن أبى الأصبع بأن يأتى المتكلم فى كلامه بفنين إما متضادين أو مختلفين، وقد جاء ذلك ظاهرا فى الجمع بين البراءة والإدانة، ثم الإدانة والبراءة فى قوله تعالى حكاية عن شاهد واقعة امرأة العزيز: وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وقد خطّأ نصيب الشاعر الكميت فى قوله: أم هل ظعائن بالعلياء نافعة ... وإن تكامل فيها الأنس والشنب قال نصيب للكميت: أين الأنس من الشنب، ألا قلت كما قال ذو الرمة: لمياء فى شفتيها حوّة لعس ... وفى اللثات وفى أنيابها شنب (¬14) فإن الشنب يذكر مع اللمس، والأنس يذكر مع الغنج. وبمثل هذا عاب ابن الأثير قول أبى نواس يصف الديك: له اعتدال وانتصاب قد ... وجلده يشبه وشى البرد كأنها الهداب فى الفرند ... محدوب الظهر كريم الجد ¬

(¬14) الأغانى للأصفهانى (1/ 134).

لأنه ذكر الظهر وقرنه بالجد، وهذا لا يناسب هذا، لأن الظهر من جهة الخلق والجد من جهة النسب (¬15). وكذلك خطأه فى قوله: وقد حلفت يمينا ... مبرورة لا تكذب برب زمزم والحوض ... والصفا والمحصب لأن ذكر الحوض مع الصفا والمحصب غير مناسب. وإنما يذكر الحوض مع الصراط والميزان. وأما التكرار فى القرآن فعذب وراق. كقوله تعالى: الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (¬16). وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (¬17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17). وقوله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (¬18). وهو على تقاربه تجد له قوة وجزالة وأغراضه: إما المدح، وإما التهويل وإما للاستبعاد كما فى قوله تعالى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (¬19) ... إلى غير ذلك من الأغراض. وهذا التكرار لا يخرج عندهم عما سموه الترديد أو التعطف. أو الجناس والمشاكلة .. وقد جاء فى الشعر وغيره من كلام الناس فلم يسلم من العيب إلا فيما قل. فمما عيب قول أبى الطيب: فقلقلت بالسهم الذى قلقل الحشا ... قلاقل عيش كلهن قلاقل غثاثة عيش أن تغث كرامتى ... وليس بغث أن تغث المآكل قال ابن سنان معلقا عليهما: «فقد اتفق له أن كرر فى البيت الأول لفظة مكررة الحروف فجمع القبح بأسره فى صيغة اللفظة نفسها، ثم فى إعادتها وتكرارها، وأتبع ذلك بغثاثة فى البيت الثانى وتكرار «تغث» فلست تجد ما يزيد على هذين البيتين فى القبح» (¬20). وقال أبو تمام: قسم الزمان ربوعها بين الصبا ... وقبولها ودبورها أثلاثا وقد أخطأ أبو تمام فى ذكر «القبول» مع «الصبا»، لأن الصبا هى القبول لذلك عده النقاد غير مفيد. ففي الآية الأولى جمع بين براءة امرأة العزيز- فرضا- وإدانة يوسف عليه السّلام، وفى الآية الثانية جمع بين إدانتها- حقيقة- وبراءة يوسف عليه السّلام. وإلى هنا فإننا تناولنا ثلاثة نصوص من القرآن الكريم. وقد أبنّا على طريقتهم ما يحتمله النص من وجوه البديع، وهذه النصوص فى جملتها تتكون من خمس آيات: ¬

(¬15) المثل السائر (3/ 155). (¬16) القارعة (1 - 2). (¬17) الانفطار (17 - 18). (¬18) الواقعة (10). (¬19) المؤمنون (36). (¬20) سر الفصاحة (93).

* نتائج مهمة:

وكان جملة ما ظهر لنا من فنون البديع فيها- بعد حذف المكرر- واحدا وأربعين فنا. وهى: 1 - التمثيل 2 - المشاكلة 3 - الإبهام 4 - التوجيه 5 - حسن التقسيم 6 - المقابلة 7 - التعطف 8 - البيان بعد الإبهام 9 - صحة التفسير 10 - النزاهة 11 - التكافؤ 12 - الترشيح 13 - التسجيع 14 - التذييل 15 - حسن النسق 16 - الانسجام 17 - المجاز 18 - الإدماج 19 - التفصيل 20 - ائتلاف اللفظ مع المعنى 21 - حسن الجوار 22 - الإشارة 23 - الإرداف 24 - التعليل 25 - الاحتراس 26 - الانفصال 27 - المساواة 28 - التسهيم 29 - التهذيب 30 - التمكن 31 - الإبداع 32 - المناقصة 33 - الكناية 34 - الجناس اللفظى 35 - الاستقصاء 36 - المزاوجة 37 - الإبهام 38 - العكس والتبديل 39 - لزوم ما لا يلزم 40 - الإيجاز 41 - الافتنان. * نتائج مهمة: والباحث فى بديع القرآن مع إطلاق القول به حتى يشمل ما هو من المعانى والبيان يخرج بعدة نتائج: أولا: أن العلماء قد اشترطوا لقبول البديع وحسنه وبلاغته شروطا منها: ألا يكون متكلفا ولا مسرفا فيه صاحبه، وأن يرسل مع الطبع والسجية ولا يكون على حساب المعنى. وبديع القرآن قد تحقق فيه عدم التكلف وكونه لا على حساب المعنى. أما الشرط الثانى- وهو عدم الإكثار- فلم يتحقق ذلك إذ إن نصوص القرآن قد اشتملت على كثير من ألوان البديع، وقد رأينا أن آية واحدة قد استخرج منها العلماء أكثر من عشرين فنا من فنون البديع، ولم تزد كلماتها على سبع عشرة كلمة، بل إن ابن أبى الأصبع قد استخرج من حرف واحد وهو «ثم» - فى قوله تعالى: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (¬21) - استخرج من هذا الحرف وحده ثمانية فنون بديعية. (¬22) ومع هذه الكثرة فى بديع القرآن لم تجد له إلا بلاغة وحسنا، ولم يؤثر عن أحد من العلماء والنقاد التقليل من قيمة البديع فى القرآن، وما رأيناهم قد استحسنوا فيما سواه ما كثر منه فى القصيدة أو البيت لأن التاريخ والنقد الأدبيين لم يجدا مكثرا من البديع أو مسرفا فيه إلا كان خطؤه أكثر من صوابه وإجادته أقل من رداءته. ولم يكن الإقلال منه عاصما من التكلف فيه حتى يكون مع الإكثار عذر لذلك التكلف. فقد أخطأ المقلون كما أخطأ المكثرون. فمثلا .. قد ورد فى القرآن الكريم أسلوب مراعاة النظير فملح وحسن، كقوله تعالى: ¬

(¬21) آل عمران (11). (¬22) المثل السائر (3/ 3).

الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (¬23). وتناول الشعراء هذا الأسلوب فأصابوا وأخطئوا. وجاءت المبالغة فى القرآن قوية جزلة لا تنبو عن ذوق ولا ينكرها عقل. مثل قوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ (¬24). ففي هذه الآية مبالغة مقبولة غير منكرة ولا نافرة تصف أثر الخوف وهذا يصوره زوغ الأبصار لشدة الاضطراب وهذا أمر واقع، عطف عليه أمر قريب من الواقع هو بلوغ القلوب الحناجر فإن القلب حين يضطرب تظهر آثار اضطرابه فى تهدج الصوت واضطرابه، والصوت يكون مسموعا بعد مروره بالحنجرة، فلذلك ساغ هذا التعبير وقوى به المعنى وحسن. ومثل قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ (¬25). مبالغة فى صفاء الزيت. وقوله تعالى: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها (¬26) .. مبالغة فى تصوير الظلمة المحيطة به. وجاءت هذه المبالغة على ألسنة الشعراء فأصابوا وأبعدوا فى الخطأ. قال الأعشى: فتى لو ينادى الشمس ألقت قناعها ... أو القمر السارى لألقى المقالد فقد غالى فى تصوير المعنى فعلق تبذل الشمس على مجالسته لها، وكذلك تخلى القمر السارى عن المقالد مرهون بتلك المجالسة، وهذه مبالغة موصوفة بالغلو. ولم يخل كلامه من التكلف؛ فقد أثبت للشمس قناعا وللقمر مقالد وجوز فى جانبهما المنادمة. وقال أبو نواس: وأخفت أهل الشرك حتى أنه ... لتخافك النطف التى لم تخلق وهذا البيت معيب «لما فى ذلك من الغلو والإفراط الخارج عن الحقيقة». وصحة التقسيم جاء فى الكتاب الحكيم على أبلغ وجه، وأصح منهج كقوله: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً (¬27). وقوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (¬28). ¬

(¬23) الرحمن (5 - 6). (¬24) الأحزاب (10). (¬25) النور (40). (¬26) النور (40). (¬27) الرعد (12). (¬28) الواقعة (88 - 94).

الآية الأولى: تبين قسمى أثر البرق عند الناس. والآية الثانية: تبين أقسام الناس يوم العرض، فهم ثلاثة لا رابع لهم. فهذه قسمة صحيحة. وقد أخطأ بعض الشعراء عند ما تناولوا هذا الفن. مثل قول البحترى: قف مشوقا أو مسعدا أو حزينا ... أو معينا أو عاذرا أو عذولا (¬29) قال ابن الأثير: «فإن المشوق يكون حزينا والمسعد يكون معينا، وكذلك يكون عاذرا .. وكثيرا ما يقع البحترى فى مثل ذلك». وعابوا قول أبى الطيب: فافخر فإن الناس فيك ثلاثة ... مستعظم أو حاسد أو جاهل لأن المستعظم يكون حاسدا، والحاسد يكون مستعظما، ومن شرط التقسيم ألا تتداخل أقسامه بعضها فى بعض» (¬30). «وأما صحة التقسيم .. فأن تكون الأقسام المذكورة لم يخل بشيء منها، ولا تكررت ولا دخل بعضها فى بعض». ومثل للمعيب منه بقول جرير: صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها ثم علق عليه قائلا: فهذه قسمة فاسدة من طريق الإخلال لأنه قد أخل بقسم من الثلاثة. وقيل: إن بعض بنى حنيفة سئل من أى الأثلاث هو؟ قال: من الثلث الملغى» (¬31). وهذه لمحة نقد بالغة الدقة. وجاء الإيجاز فى القرآن الكريم بقسميه: إيجاز الحذف وإيجاز القصر، فلم يبهم معه معنى ولا اختفى معه مراد. كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (¬32)، وقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ (¬33)، وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (¬34)، وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى (¬35)، وقوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ (¬36)، وقوله تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ (¬37)، وقوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ (¬38). والقرآن ملىء بمثل هذه الدرر الغوالى مع قوة المعنى ووضوحه وشدة أسره للأفهام. وقد تناوله قوم فأصابوا وأخطئوا، فأما ما جاء فى القرآن فهو أبلغ منه وأوجز، ولعل مضرب الأمثال فى ذلك قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (¬39). فإذا قورن به قول العرب: «القتل أنفى للقتل». فإن عبارة القرآن قد فاقته من عدة ¬

(¬29) ديوان البحترى (2/ 1). (¬30) سر الفصاحة (94). (¬31) سر الفصاحة (227). (¬32) يوسف (82). (¬33) الفجر (22). (¬34) سبأ (51). (¬35) الرعد (31). (¬36) الأنعام (82). (¬37) يونس (23). (¬38) البقرة (134). (¬39) البقرة (179).

وجوه (¬40) قد عنى العلماء بإفاضة القول فيها. مع أن هذا القول الصادر عن العرب كانوا يعدونه أبلغ ما قيل فى معناه. على أن كثيرا من الشعراء قد أوجزوا فأخلوا، وسر بلاغة الإيجاز وضوح المعنى .. من ذلك قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود: أعاذل عاجل ما أشتهى ... أحب من الأكثر الرائث (¬41) لأنه أراد: عاجل ما أشتهى مع القلة أحب إلى من الأكثر البطىء، فترك «مع القلة» وبه تمام المعنى. ومنه قول عروة بن الورد: عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم ... ومقتلهم عند الوغى كان أعذر كأنه أراد أن يقول: عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم فى السلم وقتلهم فى الحرب أعذر، فترك «فى السلم» وبه تمام المعنى كذلك. وكذلك قول الحارث بن حلزة: والعيش خير فى ظلال النوك ... ممن عاش كدا أراد: العيش الناعم فى ظلال الجهل خير من العيش الشاق فى ظلال العقل. والوجه الذى يقرب هذه الأمثلة الثلاثة إلى الصواب أنه يمكن أن يقال: إن دليل الحذف فيها ما قابل المحذوف. فقوله: «ومقتلهم عند الوغى» دليل «فى السلم» المحذوف، وإلا لخرج الكلام مخرج الأحاجى والألغاز، ولما استحق أن يدخل فى باب الأدب. ولو أننا تتبعنا سائر فنون البديع بمعناها العام لوجدنا أمثلتها فى القرآن لا تخرج عن البلاغة الأصلية مع الوفاء بحق المعنى، وحق اللفظ. فليس فيه إحسان فى موضع، وإساءة فى آخر، بل هو على وتيرة واحدة فى جميع فنونه وطرق تعبيره، وهذا هو الفرق الذى رمناه بين بديع القرآن وبديع الناس. فالناس- شعراؤهم وناثروهم- إذا أكثروا من استعمال البديع لم يسلم لهم منه إلا القليل، وإذا لم يكثروا منه- وهذا شرط قبوله- فإنهم ليسوا فى مأمن من السقوط والكلفة، كما وقع لبشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبى تمام، وكما وقع للمتأخرين منهم حينما أسرفوا وغالوا فى السعى وراء البديع فضعف معه المعنى أو زال من أساسه كبديع الزمان الهمذانى وصفى الدين الحلى، وغيرهم من عشاق البديع. والبديع فى القرآن فطرى جرى مع طبيعة ¬

(¬40) انظر- مثلا- بديع القرآن لابن أبى الأصبع. (¬41) الرّائث: البطيء.

الأسلوب ولم يصر إليه حلية لفظ أو تزويق عبارة، وهو فيه سمة من سمات إعجازه وحسنه سواء أكان راجعا إلى المعنى أو راجعا إلى اللفظ وحسنه ذاتى لا عرضى، ولو ذهبنا ننحى ما جاء من بديع القرآن عن أصالة أسلوبه وروعة معانيه، لذهبنا بشرط الحسن فيه لقوة صوره وأصالة وروده فيه، وقد تقدم لنا أن كثيرا من فنون البديع من صميم طرق التعبير فى القرآن الكريم- كالمطابقة- لأنه كثيرا ما يقارن بين أنواع متضادة أو كالمتضادة، والمشاكلة والسجع ... وما إلى هذه الألوان الآسرة. على أن هنا ملاحظتين إحداهما ترجع إلى البديع بعامة، والثانية ترجع إلى بديع القرآن بخاصة. أما ما ترجع إلى البديع بعامة .. فإنه فن فى حاجة إلى الإنصاف وإعادة النظر، ونحن هنا أمام طريقين: إما أن نطلق كلمة «البديع» على فنون البلاغة جميعا، وإما أن نرد كل حق إلى نصابه، فنرد ما للمعانى للمعانى، وما للبيان للبيان- مما يدرس ضمن فنون البديع- ولو فعلنا ذلك لما بقى شىء يمكن أن يطلق عليه بديعا، لاختلاس هذه الفنون من علمى المعانى والبيان، إلا فيما ندر. وأما ما يتعلق ببديع القرآن .. فإن بعض الباحثين مسرف فى إثبات الألوان كما فعل ابن أبى الأصبع فى كتابه الموسوم «بديع القرآن» مثل التفويف والتنكيت والانفصال، والتردد والاطراد، فإن إدراك جمال التعبير فى القرآن لا يحتاج إلى أكثر من الذوق وصفاء النفس فلا داعى لكثرة التلقيب والتنويع. والحمد لله فى الأولى والآخرة .. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

إعراب القرآن

إعراب القرآن قال ابن جنى فى «الخصائص الكبرى»: الإعراب: هو الإبانة عن المعانى بالألفاظ (¬1). وقال ابن منظور فى «لسان العرب»: أعرب الكلام وأعرب به: بيّنه ... وعرّب منطقه: أى هذّبه من اللحن ... (¬2). وقال الراغب فى «مفرداته»: ... إعراب الكلام: إيضاح فصاحته. وخصّ الإعراب فى تعارف النحويّين بالحركات والسكنات المتعاقبة على أواخر الكلم (¬3). ومن هذا المنطلق اللغوى يعرّف إعراب القرآن فيقال: هو بيان معانيه باستعمال القواعد النحوية عند الحاجة إليها؛ فالإعراب فرع المعنى كما يقول علماء اللغة. وفى القرآن معان كثيرة يتوقف فهمها على إعراب ألفاظها؛ لمعرفة الفاعل من المفعول، والصفة من الموصوف، والمبتدأ من الخبر، وغير ذلك مما يحتاج إليه المفسر فى الوقوف على المعنى المراد على وجه التحديد أو على وجه التقريب. ويستطيع من خلال معرفة وجوه الإعراب أيضا أن يصحح من أقوال المفسرين ما يراه صحيحا، أو يرجح ما يراه راجحا؛ مستدلا على سلامة قوله بقاعدة أو بأكثر من قواعد الإعراب التى لا خلاف عليها بين المعربين. ولا شك أن علماء النحو قد بذلوا جهودا مضنية فى وضع هذه القواعد وسبكها بدقة وفق مقتضيات اللغة. وكان لأولهم قدم السبق فى تحريرها، وكان لمن جاء بعدهم فضل التحقيق والتطبيق. وقد بذل المفسرون جهودا مشكورة فى استعمال هذه القواعد النحوية؛ لبيان معانى كتاب الله تعالى؛ فكانوا نعم العون للناظرين فيه على اختلاف درجاتهم فى الثقافة والفهم وتنوع مشاربهم فى العلم والمعرفة. فعلماء البلاغة يجدون فيه بغيتهم إذا أرادوا أن يتعرفوا جمال تعبيره ورقة تصويره، وجودة نظمه وروعة بيانه، وأسرار إعجازه فى مناحيه الأربعة: البيانية، والتشريعية، والعلمية، والغيبية. وعلماء الحديث يستعينون على فهمه بالقرآن، ويستعينون على فهم القرآن بعلم الإعراب وعلوم البلاغة. ¬

(¬1) الخصائص الكبرى ج 1 ص 35 لأبى الفتح عثمان بن جنى ( ... - 392 هـ/ 000 - 1002 م) ت محمد على النجار الأستاذ بكلية اللغة العربية ط دار الهدى للطباعة والنشر بدون تاريخ. (¬2) لسان العرب لابن منظور مادة (عرب) ط دار المعارف المصرية. (¬3) مادة (عرب) ص 328، 329 ط مصطفى البابى الحلبى وشركائه الطبعة الأخيرة 1381 هـ/ 1961 م.

والمشتغلون بالعلوم الأخرى يستمدون فهم كتاب الله- تعالى- من أولئك المفسرين الذين نبغوا فى هذه العلوم اللغوية التى تعتمد بالدرجة الأولى على قواعد الإعراب. لذا كانت دراسة علم النحو ضرورية لكل من يتصدى لتفسير كتاب الله- تعالى-، وبيان ما تضمنته الأحاديث النبوية أيضا؛ لأن السنة بيان للقرآن، يتوقف فهمه على فهمها بكل الوسائل المستعملة فى ذلك، وأولها معرفة وجوه الإعراب. وقد شرط العلماء لمن يتصدى لعلم التفسير شروطا كثيرة، منها: (أ) أن يقتصر منه على القدر الذى تدعو إليه الحاجة، ويترك ما زاد عليها للمتخصصين فى علم النحو؛ فإن القرآن من أوله إلى آخره كتاب هداية ومنهج حياة، فينبغى أن يكون مبلغ همّ المفسر لآياته بيان معانية ومراميه ومناحى إعجازه، وغير ذلك مما فيه حكم، وحكمة، وعظة، وعبرة. (ب) أن يفهم أولا معنى ما يعربه مفردا كان أو مركبا؛ وذلك بالرجوع إلى كتب التفسير التى عنى أصحابها بالغوص فى المعانى إلى أعماقها واستخراج مكنوناتها ونفائسها، مستعينين فى ذلك بمتن اللغة وفقهها وصورها البيانية وإيحاءاتها فى دقة النظم وجمال التعبير وسلامة الأسلوب تماما من الخلل والزلل. (ج) أن يراعى المعرب المعنى الصحيح الذى دل عليه لفظ الآية وسياقها وما إلى ذلك من أدلة التصحيح، ولو خالف بذلك الصناعة النحوية إذا كانت لا تعينه على المعنى الذى اتفق عليه أكثر المفسرين؛ فالقرآن قد نزل بلسان عربىّ مبين يحكم به ولا يحكم عليه؛ فالحجة فيه لأهل التفسير واضحة جليّة، لا يضرهم من خالفهم من النحويين ولا من غيرهم. وهذا ميدان زلت فيه أقدام كثير من المتكلفين والمقلدين. (د) أن يجتنب الوجوه الضعيفة فى الإعراب ويلزم نفسه بما صحّ منها، ولا سيما إذا كانت هذه الوجوه تخلّ بالمعنى أو توهن من شأنه فى العظة والاعتبار. (هـ) أن يتتبع المعرب ما تحتمله الألفاظ من وجوه الإعراب؛ فيشير إليها، ويختار أحسنها مرجحا قوله بالدليل. (و) أن يراعى الشروط المختلفة بحسب الأبواب؛ فإن العرب يشترطون فى باب شيئا ويشترطون فى آخر نقيض ذلك الشيء، على ما اقتضته حكمة لغتهم وصحيح أقيستهم؛ فإذا لم يتأمل المعرب ذلك اختلطت عليه الأبواب والشرائط.

(ز) ألا يخرّج على خلاف الأصل، أو على خلاف الظاهر لغير مقتض. (ح) وهذه الشروط تقتضى شرطا آخر هو أهمها جميعا، وهو أن يكون المعرب لكتاب الله- تعالى- مستجمعا لشروط المفسر من: سلامة الفطرة، وصحة المعتقد، وصفاء الذهن، وخلوّ قلبه من الهوى، وخبرته الواسعة بفنون لغة العرب وغير ذلك مما هو مذكور فى محله (¬4). (4) وينبغى أن يلتزم المعرب لكتاب الله- تعالى- الأدب فى التعبير عند الإعراب؛ فلا يتفوه بكلمة لا تليق بجلال القرآن أو تخلّ بفصاحته، أو تؤدى إلى شكّ فى سلامة نظمه ومحاسن أسلوبه. (أ) مثل قول بعض المعربين: هذا حرف زائد؛ فإن الزائد قد يفهم منه أنه لا معنى له، وكتاب الله منزّه عن ذلك، فإن الحروف التى يبدو للمعربين أنها زائدة فى كلام الناس لا ينبغى أن يقولوا فيها إن وردت فى كتاب الله: هى زائدة، إلا أن يقولوا: زائدة لملحظ بلاغى وفائدة لا تؤدّى بغيره. أو يقولوا بقول بعض الورعين من المعربين: هذا الحرف صلة أو هو حرف توكيد، أى: جىء به لفائدة لا غنى عنه فى بيانها. (ب) ومثل قول بعض المعربين: «الله» مفعول به منصوب. وهذا لا يليق بجلال الله تعالى. والأولى أن يقال: لفظ الجلالة منصوب على العظمة، كما وجدناه فى بعض كتب المعربين. (5) (أ) وممن صنّف فى إعراب القرآن أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبرى (538 - 616 هـ/ 1143 - 1219 م). فقد وضع فيه كتابا جامعا لسور القرآن كلها، سماه: «التبيان فى إعراب القرآن» - فى جزءين. طبع لأول مرة فى مصر سنة (1399 هـ- 1979 م). وهو كتاب واف فى مقصوده، واضح فى أسلوبه، تميز عن سواه بحل كثير من مشكلات الإعراب فى كتاب الله- تعالى- وأتى فيه بما يشفى ويكفى. قال رحمه الله فى مقدمته: (والكتب المؤلفة فى هذا العلم كثيرة جدا، مختلفة ترتيبا وحدّا؛ فمنها المختصر حجما وعلما، ومنها المطول بكثرة إعراب الظواهر، وخلط الإعراب بالمعانى، وقلما تجد فيها مختصر الحجم كثير العلم، فلما وجدتها على ما وصفت، أحببت أن أملى كتابا يصغر حجمه ويكثر علمه، أقتصر فيه على ذكر الإعراب ووجوه القراءات؛ فأتيت به على ذلك). ¬

(¬4) راجع كتاب مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب تحت عنوان: ذكر الجهات التى يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها ج 2 ص 527، 599 بتصرف.

(ب) وقد صنف أبو محمد: عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصارى المصرى (708 - 761 هـ/ 1309 - 1360 م) كتابا نفيسا فى هذا الفن سماه/ «مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب» جمع فيه الكثير من قضايا الإعراب ومسائله المتعلقة بكتاب الله- تعالى- فأفاد وأجاد، وصار كتابه هذا مرجعا لا يستغنى عنه نحوى ولا مفسر. قال فى مقدمته: (وضعت هذا التصنيف على أحسن إحكام وترصيف، وتتبّعت فيه مقفلات مسائل الإعراب فافتتحتها، ومعضلات يستشكلها الطلاب فأوضحتها ونقّحتها، وأغلاطا وقعت لجماعة من المعربين وغيرهم فنبهت عليها وأصلحتها). ثم قال: (وينحصر فى ثمانية أبواب: الباب الأول: فى تفسير المفردات وذكر أحكامها. الباب الثانى: فى تفسير الجمل وذكر أقسامها وأحكامها. الباب الثالث: فى ذكر ما يتردد بين المفردات والجمل، وهو الظرف والجار والمجرور، وذكر أحكامها. الباب الرابع: فى ذكر أحكام يكثر دورها، ويقبح بالمعرب جهلها. الباب الخامس: فى ذكر الأوجه التى يدخل على المعرب الخلل من جهتها. الباب السادس: فى التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها. الباب السابع: فى كيفية الإعراب. الباب الثامن: فى ذكر أمور كلية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية). أه. والناظر فيه يجد علما غزيرا بما تضمّنه كتاب الله- تعالى- من الحقائق والدقائق التى لا يستغنى عنها من أراد أن يتفقّه فى كتاب الله- عز وجل. طبع هذا الكتاب بمطبعة المدنى، ونشره محمد على صبيح بتحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد. وطبعته المكتبة العصرية ببيروت سنة (1992 م/ 1412). (ج) وصنف فى هذا الفن: الأستاذ/ محمد عبد الخالق عضيمة- كتابا كبير الحجم من أحد عشر جزءا فى النحو والصرف بوجه عام، واهتم كثيرا بإعراب القرآن وبيان ما أشكل على الدارسين من وجوهه المختلفة. سماه: «دراسات لأسلوب القرآن الكريم». وهو كتاب فريد، فى ترتيبه وتهذيبه وجمعه للمسائل النحوية فى الجو القرآنى لا غنى للدارسين فى العلوم العربية والشرعية عن مطالعته.

طبع هذا الكتاب سنة (1988 م) فى مطبعة حسّان بالقاهرة. (د) وظهر مؤخرا كتاب بعنوان: «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيى الدين درويش. طبع عدة مرات. المرة الثالثة منها فى المطبعة اليمانية، وطبع أيضا فى دار الإرشاد- حمص- سوريا. يقع الكتاب فى عشرة أجزاء، مرتب على حسب السور، يتكلم فيه المؤلف عن معانى الألفاظ بإيجاز ثم يعربها. (هـ) وممن صنف فى إعراب القرآن- أبو إسحاق إبراهيم بن السرى الزجاج المتوفى سنة (311 هـ/ 923 م) كتابه المسمى: «معانى القرآن وإعرابه». تناول فيه إعراب القرآن كله بإيجاز. يقع الكتاب فى أربعة أجزاء، حققه الدكتور: عبد الجليل عبده شلبى، وطبع فى عالم الكتب، الطبعة الأولى 1408 هـ/ 1988 م. (و) وقد صنف أبو جعفر النحاس المتوفى سنة (338 هـ/ 948 م) كتابه المسمى: «إعراب القرآن». وهو كتاب يعنى بإعراب القرآن عناية موسعة، ذكر فيه أقوال النحويين ووجوه القراءات التى دندن حولها المعربون. يقع الكتاب فى خمسة أجزاء طبع فى عالم الكتب الطبعة الثانية (1405 هـ/ 1985 م) بتحقيق د/ زهير غازى زاهر. (ز) وصنف فى هذا الفن: عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الأنبارى (513 هـ/ 577 هـ/ 1119/ 1181 م) كتابا أسماه: «البيان فى غريب إعراب القرآن». وقد حققه د/ طه عبد الحميد طه وراجعه الأستاذ: مصطفى السقا طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة (1400 هـ/ 1980 م). (ح) «تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه» للشيخ: محمد على طه الدرة ط دار الحكمة- دمشق- بيروت. (ط) «مشكل إعراب القرآن» لمكى بن أبى طالب القيسى (355 - 437 هـ/ 966 - 1045 م). يقع فى جزءين طبع فى مجمع اللغة العربية بدمشق (1394 هـ/ 1974 م) بتحقيق: ياسين محمد السوّاس. (ى) الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل» للزمخشرى: محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمى (467 - 538 هـ/ 1075 - 1144 م) وهو كتاب يكشف عن جمال النظم القرآنى وسحر بلاغته وفنون إعرابه، يقع فى أربعة مجلدات. (ك) «تفسير البحر المحيط» لأبى حيان: محمد بن يوسف (654 - 745 هـ/ 1256 - 1344 م) وهو كتاب حافل بمسائل الإعراب المتعلقة بكتاب الله- تعالى- يستدرك فيه ما

فات الزمخشرى وغيره من المعربين، ويبين من خلال وجوه الإعراب ما تضمنته الآيات من المعانى مع بيان إعجاز القرآن فى بلاغته ونظمه وجمال تعبيره ودقة تصويره وعذوبة بيانه؛ حتى بدا وكأنه كتاب نحو وبلاغة. يقع هذا الكتاب فى ثمانى مجلدات كبار، وهو مطبوع متداول، طبعته دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع عدة طبعات. الطبعة الثانية 1403 هـ- 1983 م. وبهامشه: 1 - «تفسير النهر الماد من البحر» لأبى حيّان نفسه وهو مختصر «للبحر المحيط». 2 - كتاب «الدرّ اللقيط من البحر المحيط» للإمام: تاج الدين الحنفى النحوى تلميذ أبى حيّان (682 - 749 هـ/ 1253 - 1319 م). (ل) «الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدّقائق الخفية» تأليف: سليمان بن عمر العجيلى الشافعى الشهير بالجمل، (المتوفى 1204 هـ/ 1790 م). يقع فى أربعة مجلدات كبار طبعته مطبعة عيسى البابى الحلبى بمصر بدون تاريخ. وبهامشه كتابان: 1 - «تفسير الجلالين» لجلال الدين السيوطى، وجلال الدين المحلى. 2 - «إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات فى جميع القرآن» لأبى البقاء: عبد الله بن الحسين العكبرى المتقدم ذكره. وهذا الكتاب لا يقل شأنا عن كتاب البحر المحيط، بل هو أوسع منه دائرة فى بعض المواضع؛ فقد أفاد منه ومن غيره ممن جاء بعده إلا أنه لا يخوض فى أعماق المسائل النحوية المعقدة كما صنع أبو حيّان فى كتابه. وطالب العلم لا يستغنى عن هذا وذاك؛ فإنه إن لم يجد ضالته فى كتاب وجدها فى آخر؛ فقد يوجد فى النهر ما لا يوجد فى البحر. أ. د./ محمد بكر إسماعيل

محكم القرآن ومتشابهه

محكم القرآن ومتشابهه (1) [الاحكام فى اللغة] الإحكام فى اللغة: الإتقان والمنع. قال ابن منظور فى «لسان العرب» (¬1): أحكم الأمر: أتقنه، وحكم الشيء وأحكمه: منعه من الفساد. أه. والمحكم: هو المتقن الذى لا يعتريه لبس ولا خلل. (2) [الاحكام فى الاصطلاح] وقد عرّفه علماء الشريعة بتعريفات كثيرة: فقال بعضهم: المحكم: هو الحكم الشرعى الذى لم يتطرق إليه النسخ. وقال بعضهم: المحكم: هو ما ورد من نصوص الكتاب أو السنة دالا على معناه بوضوح لا خفاء فيه. وقال كثير من أهل السنة: المحكم: ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل. ونسب إلى ابن عباس فى تعريف المحكم: أنه الذى لا يحتمل إلا وجها واحدا من التأويل. وقيل: المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. ويحكى هذا القول عن الإمام أحمد رضي الله عنه. وقيل: المحكم ما كانت دلالته راجحة، وهو النص والظاهر. وينسب هذا القول للفخر الرازى، واختاره كثير من المحققين. (3) [التشابه فى اللغة] والتشابه فى اللغة: التماثل المؤدّى إلى الالتباس غالبا. والمتشابه: هو الملتبس بغيره لمشاكلته له فى بعض أوصافه. والمتشابه من القرآن: ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره، إما من حيث اللفظ أو من حيث المعنى. فقال الفقهاء: المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده. وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب: محكم على الإطلاق، ¬

(¬1) لسان العرب، لابن منظور.

ومتشابه على الإطلاق، ومحكم من وجه متشابه من وجه. فالمتشابه فى الجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من جهتهما. والمتشابه من جهة اللفظ ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، وذلك إما من جهة غرابته نحو «الأبّ» وهو نبات ترعاه الإبل و «يزفون» يسرعون. وإما من جهة مشاركة فى اللفظ كاليد والعين. (فإن اليد تطلق على العضو، وعلى القدرة، وعلى النعمة، والعين، تطلق على عضو الإبصار والجاسوس، والذهب والفضة، وعين الماء وغير ذلك). والثانى: يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ (النساء: 3). فإن المراد باليتامى فى الآية: اليتيمات، فلما جاء اللفظ عاما أشكل على بعض الصحابة ارتباط الشرط بالجواب؛ فأخبرتهم عائشة رضى الله عنها بأن المراد به ما ذكرنا. وضرب لبسط الكلام نحو: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (الشورى: 11). لأنه لو قيل؛ ليس مثله شىء، كان أظهر للسامع، لكن فى هذا التعبير معنى بلاغى لا يخفى على علماء التفسير، وهو نفى مثل المثل. وضرب لنظم الكلام، نحو: أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً (الكهف: 1). تقديره: الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة؛ فإن تلك الصفات لا تتصوّر لنا؛ إذ كان لا يحصل فى نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو لم يكن من جنس ما نحسه. والتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعا خمسة أضرب: الأول: من جهة الكمّية، كالعموم والخصوص نحو: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ. والثانى: من جهة الكيفية، كالوجوب والندب، نحو: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ. والثالث: من جهة الزمان، كالناسخ والمنسوخ، نحو: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (آل عمران: 102) فإنه منسوخ على ما قيل:

(4) نسبة المتشابه

بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (التغابن: 16). والرابع: من جهة المكان والأمور التى نزلت فيه نحو: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها (البقرة: 189) وقوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ (التوبة: 37). فإن من لا يعرف عادتهم فى الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية. والخامس: من جهة الشروط التى بها يصح الفعل أو يفسد كشروط الصلاة والنكاح. وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون فى تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم نحو قول من قال: المتشابه (الم). وقول قتادة: المحكم هو الناسخ. والمتشابه: هو المنسوخ. وقول الأصم: المحكم ما أجمع على تأويله، والمتشابه ما اختلف فيه. ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب: ضرب لا سبيل للوقوف عليه، كوقت الساعة، وخروج دابة الأرض، وكيفية الدابة، ونحو ذلك. وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته. كالألفاظ الغريبة، والأحكام الغلقة. وضرب متردد بين الأمرين، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين فى العلم، ويخفى على من دونهم، وهو الضرب المشار إليه بقوله- عليه الصلاة والسلام- لابن عباس: «اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل». وإذا عرفت هذه الجملة علم أن الوقف على قوله: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ووصله بقوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ جائز، وأن لكل واحد منهما وجها حسبما دل عليه التفصيل المتقدم. وقوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً (الزمر: 23) فإنه يعنى ما يشبه بعضه بعضا فى الأحكام والحكمة واستقامة النظم. أه. هذا ما أفاده الراغب فى «مفرداته» (¬2) مع إضافات توضيحية على بعض ما قال، وهو كما ترى قد أنهى إلينا ما كنا نبتغيه فى تفسير المتشابه، وتمييزه عن المحكم بتعريف جامع لأطرافه ومسائله، مانع من دخول الغير فيه. فقد عرفه بالحد والرسم والتقسيم؛ فأفاد وأجاد وحقق المراد. (4) [نسبة المتشابه] ونسبة المتشابه، وإن كثرت أقسامه وفروعه، بالنسبة للمحكم من نصوص ¬

(¬2) بتصرف من كتاب الموافقات للشاطبى ج 3 ص 86 وما بعدها ط دار المعرفة بيروت- لبنان 1395 هـ- 1975 م.

(5) مواقع التشابه

الشريعة قليل، وذلك لأمور: أحدها: النص الصريح على أن الآيات المحكمات أم الكتاب، وذلك فى قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ (آل عمران: 7). وأمّ الشيء: معظمه وعامته، والأم أيضا الأصل والعماد، كما فى القاموس. ولذلك قيل لمكة: (أم القرى) لأن الأرض دحيت من تحتها. فإذا كان ذلك كذلك فقوله تعالى: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ إنما يراد بها القليل. والثانى: أن المتشابه لو كان كثيرا لكان الالتباس والإشكال كثيرا، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان وهدى. وقد نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس، والمشكل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة لا بيان وهدى، ولولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابها لم يصح القول به، وما جاء فيه من ذلك المتشابه الذى لم يتعلق به حكم بالمكلفين من جهته زائد على الإيمان به يجب أن نقرّه على ما جاء، ولا نخوض فى تأويله. الثالث: استقراء المجتهد إذا نظر فى أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر، واتسقت أحكامها، وانتظمت أطرافها على وجه واحد، كما قال تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (هود: 1). وقال تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (يونس: 1). وقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً (الزمر: 23). يعنى يشبه بعضه بعضا، ويصدّق أوله آخره، وآخره أوله، أعنى أوله وآخره فى النزول (¬3) أه. (5) [مواقع التشابه] والتشابه لا يقع فى القواعد الكلية، ولكن يقع فى الفروع الجزئية. وقد عرف ذلك بالاستقراء والتتبع لأصول الشريعة أصلا أصلا، وإنما كان التشابه فى الفروع والجزئيات دون الكليات؛ لأن الأصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الشريعة من المتشابه. وقد عرفنا فى المسألة السابقة أن المتشابه بالنسبة إلى المحكم قليل، وبسط هذه المسألة فى كتب الأصول. وقد يسأل سائل فيقول: ما الحكمة من وجود المتشابه فى القرآن؟، فيكون الجواب أن لله فى كل شأن حكمة قد يطلعنا عليها أو على شىء منها، وقد يخفيها عنا لحكمة يعلمها. ونستطيع أن نفهم جانبا من الحكمة فى وجود المتشابه فى القرآن الكريم إذا عرفنا أنه كتاب هداية ومنهج حياة، أنزله الله وافيا ¬

(¬3) المفردات فى غريب القرآن، لأبى القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى ت 502 هـ مادة (شبه) ص 254 ط مصطفى البابى الحلبى وشركائه (1381 هـ/ 1961 م).

بمطالب البشر جميعا على اختلاف بيئاتهم وأزمانهم. ومطالب الحياة كثيرة، وحاجات الإنسان لا تحصى ولا تنحصر، فلا يكفيها تشريع تحتويه ملايين الصفحات. فكان من حكمة الحكيم الخبير أن ينزل من القرآن نصوصا تحتمل وجوها من البيان، كل وجه منها يمس جانبا من جوانب الحياة، ويقضى مطلبا من مطالب الإنسان، ويفتح له بابا من أبواب التيسير؛ فيدفع عنه حرجا، أو يجعل له مخرجا مما يعانى منه أو يحبسه عن تحقيق أهدافه المشروعة، حتى يبدو وكأن النص الواحد جمع فى طيّاته نصوصا كثيرة، تأمر وتنهى، وتوصى وترشد؛ فأغنى ذلك عن كتاب عظيم لا تستقصى صفحاته، ولا تنقضى كلماته وتشريعاته. وقد أدى هذا التشابه إلى خلاف محمود العواقب بين العلماء الأفاضل، وجد الناس فيه رحمة من الله واسعة؛ لأنه خلاف لم ينشأ بسبب تناقض فى النصوص القرآنية أو اختلاف بين أحكامها، كلا، كلا. وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (النساء: 82). ولكنه خلاف مبنى على قرائن شرعية وعقلية استنبطوها من الكتاب نفسه، ومن السنة المطهرة تجعل كل إمام يرجح وجها على آخر. والاجتهاد واجب على علماء الأمة بشروط مبسوطة فى كتب أصول الفقه، لم يخرجوا بحمد الله عنها؛ فكان لمن أصاب منهم أجران، ولمن أخطأ أجر واحد. وقد وجد الناس فى هذا الخلاف تيسيرا وتوسعة أرادها لهم ربهم- عز وجل. قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (البقرة: 185). هذه حكمة سامية لوجود المتشابه فى القرآن الكريم وفى السنة المطهرة. وفى وجود المتشابه- أيضا- تدريب للعقول على التأمل والنظر، وفى هذا التدريب لذة لا يعرفها إلا أولو الألباب، فكلما أدرك العالم بعقله وجها من وجوه الترجيح وفق ما لديه من القرائن- شعر بنشوة غامرة، ورغبة ملحة فى مواصلة البحث والاستنباط. ولا شك أن البحث عن الحقائق من أوجب الواجبات، وهو يؤدى- إن شاء الله تعالى- إلى الوصول إليها من غير تقليد، فيكون إيمانه بها أتم وأكمل من إيمان المقلد قطعا. قال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (الزمر: 9).

(7) المتشابه الذى استأثر الله بعلمه

وفى وجود المتشابه- كذلك- نوع ابتلاء من الله تعالى؛ ليعلم العبد من نفسه هل هو مؤمن بما أخبره الشارع به من الأمور الغيبية التى لا مجال للعقل فيها، أم هو لا يزال فى الطريق إلى هذا الإيمان السامى الذى جعله الله أول أوصاف المتقين فى سورة البقرة حيث قال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. وهذه الحكمة ظاهرة فى المتشابه الذى استأثر الله بعلمه وما ليس للعباد فيه علم كاف بوقته وقدره ونوعه وحقيقته (¬4). (7) [المتشابه الذى استأثر الله بعلمه] والمتشابه الذى استأثر الله بعلمه، كالحروف المقطعة فى فواتح بعض السور، وكآيات الصفات التى لا ينبغى حملها على ظواهرها- اختلف العلماء فى تأويلها على ثلاثة مذاهب. الأول: مذهب السلف- رضوان الله عليهم- وهو أقومها طريقة، وأهداها سبيلا؛ فقد قرروا أن الإيمان بالمتشابهات، وتفويض أمر العلم بها إلى الله- تعالى- ورسوله واجب، مع اعتقاد أن الظاهر غير مراد؛ لقيام الأدلة القطعية على خلافه. فما دلت عليه النصوص الشرعية الصريحة عملوا به، وما تشابه عليهم وفهم المراد منه- وكان متعلقا بالعقيدة- آمنوا به وأجروه على ظاهره وفوّضوا علم كمّه وكيفه وحقيقته إلى الله- تعالى- وأثبتوا له- جل شأنه- ما أثبته لنفسه من غير خوض فى تفصيله؛ تأدبا مع خالقهم- جل وعلا- ووقاية لأنفسهم من وعيد من أفتى بغير علم، وتقوّل على الله ما لم يقله. فالمتشابهات بوجه عام لا يتعين المراد منها على التحقيق إلا بنص صحيح من الشرع، وحيث لا يكون هناك نص صحيح صريح بقى المتشابه على حاله، فتكون دلالته على المراد ظنيّة، والأمور الاعتقادية لا يكفى فيها الظن، بل لا بد فيها من اليقين، ولا سبيل إلى معرفة اليقين فى معرفة المتشابه من الصفات، وهى من الأمور العقدية، فوجب التوقف فيها وعدم الخوض فى تأويلها وردها فى جملتها إلى المحكم الذى لا يحتمل إلا وجها واحدا. وعماد المحكم فى باب الصفات قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. هذا هو خلاصة مذهب السلف الصالح من أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان. وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بنصوص من الكتاب والسنة وأقوال علمائهم الأعلام، ووجدوا فيها السلامة لدينهم والنجاة من عذاب ربهم. ¬

(¬4) انظر دراسات فى علوم القرآن للدكتور/ محمد بكر إسماعيل ط دار المنار الطبعة الثانية 1419 هـ- 1999 م ص 190 وما بعدها.

أما الكتاب فقوله تعالى من سورة (آل عمران: 7) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. فقد أخبر الله- عز وجل- أنه لا يتبع المتشابه، ولا يعمد إلى تأويله ابتغاء الفتنة إلا الذين فى قلوبهم زيغ، وأما الراسخون فى العلم فيقولون: آمنا به كل من عند ربنا، ولا يخوضون فى تأويل ما لا علم لهم به على التعيين. ويقفون فى قراءة الآية على لفظ الجلالة، ويبتدئون بقوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا. وقد جاءت فى أفضلية الوقف على لفظ الجلالة فى الآية روايات عن القراء من الصحابة، ذكرها ابن جرير وابن كثير فى تفسيريهما. وجوز بعض العلماء الوقف على وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ بناء على أنهم يعلمون المتشابه. ولكن هذا فيما لم يستأثر الله بعلمه، أما ما استأثر الله بعلمه فلا يعلمه أحد سواه. الثانى: مذهب الخلف، ويسمى مذهب المؤوّلة- بتشديد الواو وكسرها- وهم فريقان: فريق يؤولها بصفات سمعية غير معلومة على التعيين، ثابتة له- تعالى- زيادة على صفاته المعلومة لنا بالتعيين. وفريق يؤولها بمعان نعلمها على التعيين، وذلك بأن يحمل اللفظ الذى استحال ظاهره من هذه المتشابهات على معنى يسوغ لغة، ويليق بالله عقلا وشرعا. فقد قالوا فى تأييد مذهبهم هذا: إن المطلوب شرعا هو صرف اللفظ عن مقام الإهمال؛ إذ لم يخاطب الله المكلفين بشيء لا يفهمون معناه، ولا يعقلون المراد منه على الجملة. وما دام فى الإمكان حمل كلام الشارع على معنى سليم؛ فالنظر قاض بوجوبه؛ انتفاعا بما ورد عن الحكيم العليم. الثالث: مذهب المتوسطين بين السلف والخلف. وهؤلاء يقولون: إن التأويل نوعان: تأويل قريب، وتأويل بعيد. فالقريب نقول به، والبعيد نتوقف عنه. وقد نسب السيوطى فى «الإتقان» (¬5) هذا المذهب إلى ابن دقيق العيد، ونقل عنه قوله: إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ¬

_ (¬5) الإتقان فى علوم القرآن، للحافظ جلال الدين السيوطى تحقيق/ محمد أبو الفضل إبراهيم ط الهيئة المصرية العامة للكتاب. (1395 هـ/ 1975 م) ج 3 ص 16.

(8) القرآن الكريم كله محكم

ينكر، أو بعيدا توقفنا عنه، وآمنا بمعناه على الوجه الذى أريد به مع التنزيه، وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب- قلنا به من غير توقيف، كما فى قوله تعالى: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ- فنحمله على حق الله وما يجب له. أه. وقد اتفق هؤلاء وأولئك على أمرين: الأول: صرف هذه الآيات عن ظواهرها المستحيلة فى حق الله- تعالى- لكونه مغايرا لجميع الخلق، كما هو معلوم من قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الشورى: 11). وحملها على معان تليق بذاته- جل وعلا- وذلك برد المتشابهات إلى المحكمات، وهى التى لا تحتمل إلا وجها واحدا من التأويل، وهو الوجه الذى يريده الشارع الحكيم دون سواه. الثانى: أن المتشابه إن كان له تأويل واحد يفهم منه فهما قريبا- وجب القول به إجماعا. وذلك مثل قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ. فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعا، وليس لها بعد ذلك إلا تأويل واحد، وهو الكينونة معهم بالإحاطة علما وسمعا وبصرا وقدرة وإرادة. وكقوله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ (الزمر: 56). فالمراد بجنب الله: حقه وما يجب له، كما تقتضيه لغة العرب، ليس له معنى يجب أن يحمل عليه غيره. (8) [القرآن الكريم كله محكم] والقرآن الكريم كله محكم باعتبار أنه متقن فى نظمه وأسلوبه وأحكامه، مانع من دخول غيره فيه، ومن طروء الخلل فى ألفاظه والتناقض فى معانيه. وكله متشابه باعتبار أنه متماثل فى فصاحته وبلاغته وحلاوته وطلاوته. وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار أن بعضه أحكام نصية، لا تحتمل إلا وجها واحدا، ولا يختلط الأمر فى فهمها من هذا الوجه على أحد، وبعضه أحكام تحتمل أكثر من وجه لحكمة سامية، ذكرناها من قبل، وهى التى يقع فيها الاشتباه ويتأتى فى فهمها الاختلاط والالتباس عند النظرة الأولى فى ألفاظه ومعانيه. ويدل على أن القرآن محكم كله بهذا الاعتبار قوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (هود: 1).

والدليل على أنه متشابه كله قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (الزمر: 23). والدليل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه، قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (آل عمران: 7). فلا تعارض- كما علمت- بين هذه الآيات؛ لأن كلا منها قد وصف فيها القرآن بالأوصاف التى تخصه على وجه من الوجوه اللغوية السابقة. فالمحكم من الآيات- بهذا الاعتبار- يجب العمل به. والمتشابه- بهذا الاعتبار- قد جاء للإيمان به والاجتهاد فى معرفة تأويله على النحو الذى يردّ فيه إلى المحكم. فقوله تعالى- مثلا- يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ (الأنعام: 103) لا يترتب عليه حكم شرعى يجب العمل به، بل هو من الأمور الاعتقادية التى يكفى الإيمان بها مع التوقف فى تأويلها أو تأويلها على المعنى الذى لا يتعارض مع قوله- جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. ودليل ذلك قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا. والراسخون فى العلم هم المتثبّتون فى العلم، لا تزيغ قلوبهم عن الحق ولا تدفعهم أهواؤهم إلى التأويل البعيد، ولا يطلبون للمتشابه علة بل يؤمنون به؛ لأنه من عند الله وكفى. أ. د/ محمد بكر إسماعيل

المكى والمدنى

المكى والمدنى (1) [معنى المكى والمدنى] للعلماء فى معنى المكى والمدنى ثلاثة اصطلاحات: الأول: وهو الأولى والأشهر: أن المكى ما نزل قبل هجرته صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وإن كان نزوله بغير مكة، والمدنى ما نزل بعد الهجرة وإن كان نزوله بمكة. وهذا التعريف جامع مانع، روعى فيه زمان النزول، وهو أولى من رعاية المكان؛ لأن معرفة التدرج فى التشريع ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وغير ذلك من الفوائد، متوقفة على معرفة المتقدم والمتأخر فى الزمان، لهذا كان هذا التعريف هو المعتمد عند أكثر أهل العلم. وعليه تكون آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً المائدة: 3 - مثلا- مدنية، مع أنها نزلت يوم الجمعة بعرفة فى حجة الوداع. وكذلك آية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها النساء: 58 - فإنها مدنية مع أنها نزلت بمكة فى جوف الكعبة عام الفتح الأعظم. وقل مثل ذلك فيما نزل بأسفاره- عليه الصلاة والسلام- كفاتحة سورة الأنفال، وقد نزلت ببدر- فإنها مدنية لا مكية على هذا الاصطلاح المشهور. الثانى من المصطلحات: أن المكى ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدنى ما نزل بالمدينة، ويدخل فى مكة ضواحيها؛ كالمنزّل على النبى صلّى الله عليه وسلم بمنى وعرفات والحديبية، ويدخل فى المدينة ضواحيها أيضا، كالمنزل عليه فى بدر وأحد، وهذا التقسيم لوحظ فيه مكان النزول كما ترى. وهذا التعريف لما روعى فيه المكان لم يكن ضابطا صحيحا لاختلاف الأماكن التى نزل فيها القرآن، بخلاف التعريف الأول؛ فإنه يحدد المكى بزمان معين، وهو ما قبل الهجرة، ويحدد المدنى بزمان معين، وهو ما كان بعد الهجرة، ونحن نعلم أن من القرآن ما لم ينزل بمكة ولا بالمدينة بل أنزل بأماكن أخرى متباعدة. فقوله تعالى- مثلا- فى سورة التوبة: 42 لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ

(2) المعول عليه فى معرفة المكى والمدنى

وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ نزلت بتبوك، كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. وقوله جل شأنه فى السورة نفسها: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ آية: 65 - نزلت فى غزوة تبوك، كما أخرجه ابن أبى حاتم عن ابن عمر. إلى غير ذلك من الآيات التى ذكر السيوطى فى «الإتقان» (¬1) أنها نزلت فى مواطن مختلفة غير مكة والمدينة وضواحيهما. الثالث: أن المكى ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدنى ما وقع خطابا لأهل المدينة. وعليه يحمل قول من قال: إن ما صدر فى القرآن بلفظ يا أَيُّهَا النَّاسُ فهو مكى؛ وما صدّر فيه بلفظ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهو مدنى؛ لأن الكفر كان غالبا على أهل مكة فخوطبوا بيا أيها الناس، وإن كان غيرهم داخلا فيهم. ولأن الإيمان كان غالبا على أهل المدينة، فخوطبوا بيا أيها الذين آمنوا، وإن كان غيرهم داخلا فيهم أيضا. وألحق بعضهم صيغة: يا بَنِي آدَمَ بصيغة: يا أَيُّهَا النَّاسُ. أخرج أبو عبيد فى «فضل القرآن» عن ميمون بن مهران قال: ما كان فى القرآن يا أَيُّهَا النَّاسُ أو يا بَنِي آدَمَ فإنه مكى، وما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فإنه مدنى) أه (¬2). وهذا التعريف غير ضابط؛ لأنه لوحظ فيه المخاطبون، فإن فى المكى ما صدر بيا أيها الذين آمنوا، وفى المدنى ما صدّر بيا أيها الناس، وفيهما ما لم يصدر بأحدهما. سورة الحج- مثلا- مكية وفى آخرها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ آية: 77. وسورة النساء مدنية وأولها: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ. ومن ذلك فى المكى والمدنى كثير. ويمكننا أن نقول: إن هذا التعريف يجرى مجرى الغالب، إلا أنه من شأن التعريف أن يكون جامعا مانعا، وجريانه مجرى الغالب لا يجعله كذلك؛ فالمراد لا يدفع الإيراد، كما يقولون) أه (¬3). (2) [المعول عليه فى معرفة المكى والمدنى] والمعول عليه فى معرفة المكى والمدنى النقل الصحيح عن الصحابة ثم عن التابعين ومن بعدهم. ولكن هناك ضوابط كلية يعرف بها المكى والمدنى على الجملة، مبناها على الغالب والكثير يرجع إلى اللفظ وإلى المعنى. ¬

(¬1) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى ج 1 ص 73 النوع الثانى فى معرفة الحضرى والسفرى. (¬2) انظر مناهل العرفان فى علوم القرآن للأستاذ الشيخ/ محمد عبد العظيم الزرقانى ط عيسى البابى الحلبى ج 1 ص 186. (¬3) دراسات فى علوم القرآن د/ محمد بكر إسماعيل- ط. دار المنار 1419 هـ- 1999 م ص 46.

(3) تميز المكى عن المدنى

وإليك بعض هذه الضوابط بإيجاز: (أ) كل سورة فيها لفظ «كلّا» فهى مكية باتفاق وقد تكرر هذا اللفظ ثلاثا وثلاثين مرة فى النصف الثانى من القرآن؛ ردعا وزجرا لأهل مكة، لأن أكثرهم كانوا طغاة جبارين. (ب) كل سورة فى أولها حرف من حروف المعجم مثل: (المص- ق- ن) فهى مكية إلا البقرة وآل عمران، وفى الرعد خلاف، والأصح أنها مكية. (ج) كل سورة فيها سجدة فهى مكية. (د) كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الماضية فهى مكية سوى البقرة وآل عمران. (هـ) كل سورة ذكر فيها الجهاد وما يتعلق به فهى مدنية. (و) كل سورة فيها ذكر المنافقين فهى مدنية، ما عدا سورة العنكبوت. والتحقيق أن سورة العنكبوت مكية ما عدا الآيات الأولى منها، وهى إحدى عشرة، فإنها مدنية، وهى التى ذكر فيها المنافقون. (ز) كل سورة فيها ذكر الحدود والفرائض فإنها نزلت بالمدينة، والمراد بالفريضة هنا: فريضة الميراث لا مطلق الفريضة، وإلا ففي المكى فرائض كثيرة كالصلاة والعدل، والتواصى بالحق، والتواصى بالصبر، والوفاء بالعهد وغيرها. وقد اشتهرت أحكام الميراث باسم الفرائض، حتى قال صلّى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد بإسناد صحيح: «أفرضكم زيد». (3) [تميز المكى عن المدنى] ويتميز المكى عن المدنى بخصائص غلبت عليه وشاعت فى طياته. ويتميز المدنى عن المكى بخصائص يعرف بها- وتسمى هذه الخصائص بالضوابط المعنوية. وإليك أولا خصائص المكى: (أ) يتميز المكى بتأصيل العقيدة الصحيحة التى بعث بها جميع الرسل، ومحاربة العقائد الفاسدة التى توارثها أهل مكة ومن حولهم من القرى، كعبادة الأصنام والتقرب إليها بالقرابين، والتضرع إليها كلما اشتد بهم الكرب أو نزل بهم القحط. (ب) وعنى القرآن المكى- أيضا- بالقضاء على ما كانوا عليه من أخلاق سيئة وعادات فاسدة، كسفك الدماء، ووأد البنات، وأكل مال اليتيم، والتطفيف فى الكيل والميزان، وغير ذلك من الرذائل. ودعاهم إلى أصول التشريعات العامة، والآداب السامية، بوصفها برهانا عمليا على سلامة الفطرة وصحة الاعتقاد.

(ج) ولتثبيت هذه الأصول والمعتقدات الصحيحة فى قلوب الناس جميعا مؤمنين وكافرين، عنى القرآن المكى عناية فائقة بأخبار الأنبياء والأمم السابقة؛ لما فيها من عظات وعبر، وتبيان لسنة الله- تعالى- فى هلاك المكذبين، ونجاة المؤمنين. ولقد كان إيراد القصص فى القرآن المكى بكثرة من أبلغ الأدلة على أن القرآن كان وحيا من الله تعالى. فلو تأخر إيراده إلى العهد المدنى؛ لقال الكفار: تعلمه محمد صلّى الله عليه وسلم من أهل الكتاب. ولكان لقولهم هذا مبرر على نحو ما؛ لأن أهل الكتاب كانوا على علم ما بقصص الأنبياء وأخبار الأمم. ولقد قال المشركون فى مكة: إنما يعلمه بشر، وادعوا أنه يخلو إلى غلام روميّ، ويتلقى عنه هذا القرآن، ولم يكن لقولهم هذا شاهد من العقل، ولا من الواقع. قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ النحل: 103. فلو قالوا عن القرآن المدنى: تعلمه محمد من اليهود حين جاورهم، واتصل بهم، قيل لهم: ومن الذى علمه القرآن الذى نزل عليه بمكة، متضمنا من أخبار الأولين والآخرين ما لا يعلمه اليهود ولا غيرهم. (د) ومن خواص هذا القسم قصر معظم آياته وسوره ولا سيما أوائل ما نزل، ولعل ذلك كان كذلك ليتمكن المؤمنون من حفظه بسهولة ويسر، فهم فى أول عهدهم به لم تتعود ألسنتهم على النطق به مرتلا كما أمر الله- تعالى- أن يتلى، وفيهم الشيخ الكبير، والمرأة المسنة، والطفل الصغير، وأكثرهم أميون، فكيف يستطيعون قراءة الآيات الطويلة المقاطع، وهم لم يتعودوا بعد على مثل ذلك؛ فكان من رحمة الله بهم أن أنزل الله هذه السور القصيرة فى آياتها ومقاطعها ليتمكنوا من حفظها وتلاوتها فى يسر ونشاط. وأما خصائص المدنى فإننا نوجزها فيما يلى: (أ) بيان الأحكام العقدية والشرعية بالتفصيل بيانا يكشف دقائقها وأسبابها وشروط صحتها والحكمة من تشريعها. (ب) ظهرت فى العهد المدنى تشريعات لم تكن فى العهد المكى، مثل مشروعية الصوم، ومشروعية القتال، وفريضة الحج، وتحريم الخمر، وتحريم الربا وغير ذلك. (ج) الكشف عن أحوال المنافقين الذين كانوا أشد الناس خطرا على الإسلام والمسلمين، وبيان ما انطوت عليه نفوسهم من

(4) الاقوال فى تعيين السور المكية والمدنية

خبث ومكر وخداع، وحرص وطمع، وإعلام المسلمين بمآلهم بعد إعلامهم بحالهم، وإيصائهم باتخاذ الحيطة والحذر من كيدهم وألا عيبهم، ومراقبتهم فى جميع تصرفاتهم المغرضة، ومجاهدتهم بالحجة والبرهان والإغلاظ عليهم فى القول والمعاملة، مع بذل النصح لهم بالرجوع إلى الله- تعالى- والتمسك بدينه الحنيف. (د) دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام، ومجادلتهم بالحجة والبرهان فى معتقداتهم الباطلة، وشبههم المزيفة، وبيان جناياتهم على الكتب السماوية بالتحريف والتبديل، وردهم عن غيهم إلى الرشد الذى جاءهم به الإسلام. (¬4) [الاقوال فى تعيين السور المكية والمدنية] وقد نقل السيوطى فى «الإتقان» أقوالا كثيرة فى تعيين السور المكية والمدنية، من أوفقها ما ذكره أبو الحسن الحصار فى كتابه الناسخ والمنسوخ إذ يقول: (المدنى باتفاق عشرون سورة، والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة، وما عدا ذلك مكى باتفاق. ثم نظم فى ذلك أبياتا رقيقة جامعة، وهو يريد بالسور العشرين المدينة بالاتفاق: سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والجمعة، والمنافقون، والطلاق، والتحريم، والنصر. ويريد بالسور الاثنتى عشرة المختلف فيها: سورة الفاتحة، والرعد، والرحمن، والصف، والتغابن، والمطففين، والقدر، ولم يكن، وإذا زلزلت، والإخلاص، والمعوذتين. ويريد بالسور المكية باتفاق ما عدا ذلك وهى اثنتان وثمانون سورة. وإلى هذا القسم المكى يشير فى منظومته بقوله: وما سوى ذاك مكىّ تنزله ... فلا تكن من خلاف الناس فى حصر فليس كلّ خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر (4) (5) [فوائد معرفة المكى والمدنى] بعد أن عرفنا ما هو المكى والمدنى، وخصائص كل منهما- يجدر بنا أن نختم هذا البحث ببيان ما يعود على الباحثين فيه من الفوائد فنقول: (أ) تمييز الناسخ من المنسوخ، فيما لو وردت آيتان أو أكثر مختلفة الحكم، وعلمنا أن إحداهما مكية والأخرى مدنية، فإننا نحكم حينئذ بأن المدنية ناسخة للمكية لتأخرها عنها. ¬

(¬4) راجع الإتقان ج 1 ص 44 وما بعدها، وانظر مناهل العرفان للزرقانى ج 1 ص 191 وما بعدها.

(ب) معرفة تاريخ التشريع، والوقوف على سنة الله فى التدرج بالأمة من الأصول إلى الفروع، ومن الأخف إلى الأثقل، وهو أمر يترتب عليه الإيمان بسمو السياسة فى تربية الفرد والجماعة. (ج) تفيد هذه الدراسة فى الوقوف على الخصائص البلاغية لكل من المكى والمدنى، والكشف عن ظواهرها المختلفة، ومقارنة بعض هذه الظواهر ببعض، والبحث عن مواضع الجمال فى كل منهما من غير تفضيل ولا موازنة؛ لأن القرآن كله متساو فى الفصاحة والبلاغة، والحلاوة والطلاوة والجمال. لهذا عنى المسلمون عناية فائقة بتتبع ما نزل بمكة، وما نزل بالمدينة، بل عنى بعضهم بتتبع جهات النزول فى أماكنها وأوقاتها المختلفة وبذلوا فى ذلك جهودا مضنية. وفى ذلك دليل على سلامة القرآن من أى تغيير أو تحريف، فقد تلقاه الجمع الغفير من التابعين عن الجمع الغفير من الصحابة، وتلقاه الأواخر عن الأوائل بالمشافهة والتلقين مع الوقوف على أماكن نزوله وأوقاته، وأسبابه، وغير ذلك مما يتصل بألفاظه ومعانيه ومقاصده. قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ الحجر: 9 أ. د/ محمد بكر إسماعيل

نزول القرآن الكريم

نزول القرآن الكريم (1) [حقيقة النزول] أثبت الله القرآن فى اللوح المحفوظ ثم أنزله إلى بيت العزة فى السماء الدنيا جملة واحدة فى ليلة مباركة من شهر رمضان- هى ليلة القدر، ثم أنزله على نبيه- عليه الصلاة والسلام- بواسطة جبريل- عليه السلام- فى نحو ثلاثة وعشرين عاما هدى للناس وتبيانا لكل شىء. ودليل إثباته فى اللوح المحفوظ قوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) البروج: 21 - 22. ودليل نزوله إلى بيت العزة جملة قوله- جل وعلا: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ البقرة: 185. وقوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر (¬1). (2) والحكمة فى تنزيله مفرقا تتلخص فيما يأتى: (أ) تثبيت قلب النبى صلّى الله عليه وسلم، وتسليته ومواساته، ورفع الحرج عنه، وإزالة ما يعترى صدره من ضيق وحزن، وإدخال السرور عليه الفينة بعد الفينة، ومده بالقوة التى تدفعه إلى المضى فى دعوته، وتبليغ رسالته على خير وجه وأكمله، وتهون عليه ما يلقاه من قومه من أذى، وعنت، وصدود، وليدفع عنه شبح اليأس كلما حام حوله، واعترض طريقه لتظل همته دائما فى الذروة العليا. (ب) ومن أهداف التنجيم أيضا تيسير حفظ هذا القرآن العظيم على النبى صلّى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، وقد كان أكثرهم لا يقرأ ولا يكتب ولا عهد لهم بمثل هذا الكتاب المعجز؛ فهو ليس شعرا يسهل عليهم حفظه، ولا نثرا يشبه كلامهم يسهل عليهم نقله وتداوله، وإنما هو قول كريم ثقيل فى معانيه ومراميه، يحتاج المسلم فى حفظه وتدبره إلى تريث وتؤدة وإمعان نظر. (ج) ومن أهم الأهداف التى أنزل من أجلها القرآن مفرقا: التدرج بالأمة فى تخليهم عن الرذائل، وتحليهم بالفضائل، والترقى بهم فى التشريعات، فلو أنهم أمروا بكل الواجبات، ونهوا عن جميع المنكرات دفعة واحدة لشق عليهم، ولضعفت الهمم الصغيرة عن التجاوب والمسايرة. ¬

(¬1) راجع كتاب دراسات فى علوم القرآن للدكتور/ محمد بكر إسماعيل ط دار المنار الطبعة الثانية 1419 هـ/ 1999 م ص 31 وما بعدها.

تماما كالطبيب الذى يعطى المريض دواءه على جرعات ولو أعطاه له مرة واحدة لتحقق أحد أمرين، إما رفض المريض للدواء والصد عنه، وإما القضاء عليه. (د) نزل القرآن منجما لمواكبة الحوادث، وهى متجددة متعددة. فكان كلما جدّ جديد من الأمور المصلحية التى تتعلق بمصالح العباد فى العاجل والآجل، جاء حكم الله فيها؛ فيرسخ فى النفوس، وتتجاوب معه وترتضيه. وفى القرآن آيات كثيرة نزلت على سبب أو أكثر، إذا جهل سببها لا يعرف حكمها؛ فكان ما نزل فيها تقريرا شافيا، وحكما عادلا، لا يستطيع أحد رده، ولا يسع المسلمين إلا قبوله والرضا به. (هـ) الرد على شبه المشركين، ودحض حجج المبطلين؛ إحقاقا للحق، وإبطالا للباطل. وفى ذلك رد لكيدهم فى نحورهم أولا بأول، حتى لا يتمادوا فى غيّهم وإضلالهم لضعفاء النفوس منهم، وحتى لا يتأثر أحد من المسلمين بأقوالهم، فينعكس ذلك على إيمانه وطاعته لله رب العالمين. والقلوب تحتاج دائما إلى تطهير من الشبهات والوساوس الشيطانية والهواجس النفسية، فكان القرآن الكريم كفيلا بذلك كله كما قال- جل شأنه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً الإسراء: 82 (و) وهناك أمر آخر يغفل عنه كثير من أهل العلم فى حكمة التنجيم، وهو الدلالة على الإعجاز البيانى والتشريعى للقرآن (1) فإنه- وإن كان قد نزل مفرقا فى نحو ثلاثة وعشرين عاما وفى أوقات متباينة، وأحكام مختلفة، وحوادث متعددة. قد رتب ترتيبا عجبا لا ترى فيه بترا ولا خللا بين آياته، ولا تنافرا بين ألفاظه، ولا تناقضا فى معانيه، ولا اختلافا فى مقاصده ومراميه كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ هود (1). وقد بيّن الله هذه الحكم السامية فقال: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا الإسراء: 106. وقال- جل شأنه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً الفرقان: 32 - 33. 3 - وقد التقى أول ما نزل بآخر ما نزل فى إحقاق الحق وإبطال الباطل؛ فكان الختام توكيدا لأوله وجماعا لفضائله وآثاره وتشريعاته كلها. وأول ما نزل على الإطلاق: الآيات الخمسة الأول من سورة العلق، وآخر ما نزل

(2) اول ما نزل من القرآن

على الصحيح: قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ البقرة: 281. ومن هنا نعلم: أن القرآن الكريم وحدة عضوية وموضوعية، يرتبط أوله وآخره برباط واحد. فمن نظر فيه من أوله إلى آخره نظرة متعمقة آمن إيمانا لا يخالجه شك أن هذا القرآن آخذ بعضه بحجز بعض فى تناسق تام وانسجام فريد يؤكد أن أعلاه مثمر وأسفله مغدق، وأنه يعلو ولا يعلى عليه. شهد بذلك كل منصف له فهم ثاقب بأسرار البلاغة وأساليب البيان. وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ الشعراء 192 - 195. 4 - وأول ما نزل من القرآن الكريم بإطلاق- عند جمهور المحققين- أوائل سورة العلق إلى قوله جل شأنه: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ. وذلك لما رواه البخارى ومسلم (واللفظ للبخارى) عن عائشة أم المؤمنين- رضى الله عنها- قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث- يتعبد- فيه الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ؛ فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ من الجهد ثم أرسلنى فقال: اقرأ؛ فقلت: ما أنا بقارئ؛ فأخذنى فغطنى الثالثة ثم أرسلنى، فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الحديث» (¬2). (2) [اول ما نزل من القرآن] وقيل: إن أول ما نزل من القرآن أوائل سورة المدثر. واستدل أصحاب هذا القول بما رواه البخارى ومسلم عن أبى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: سألت جابر ابن عبد الله: أى القرآن أنزل قبل؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ؛ فقلت: أو اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وفى رواية نبئت أنه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فقال: أحدثكم ما حدثنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنى جاورت بحراء، فلما قضيت جوارى نزلت فاستبطنت الوادى- زاد فى رواية: فنوديت فنظرت أمامى وخلفى، وعن يمينى وعن شمالى- ثم نظرت إلى السماء فإذا هو- يعنى جبريل- زاد فى رواية: جالس على ¬

(¬2) الحديث بطوله رقم 3 باب «كيف كان بدء الوحى» ط السلفية.

عرش بين السماء والأرض- فأخذتنى رجفة فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثرونى؛ فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ المدثر: 1 - 2». لكن هذه الرواية ليست نصا فيما نحن بسبيله من إثبات أول ما نزل من القرآن إطلاقا، بل تحتمل أن تكون حديثا عما نزل بعد فترة الوحى، وذلك هو الظاهر من رواية أخرى رواها الشيخان أيضا عن أبى سلمة عن جابر أيضا: فبينما أنا أمشى إذ سمعت صوتا من السماء؛ فرفعت بصرى قبل السماء فإذا الملك الذى جاءنى بحراء قاعد على كرسى بين السماء والأرض فجثثت- أى ثقل جسمى عن القيام- حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلى؛ فقلت: زملونى، فزملونى فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. فظاهر هذه الرواية يدل على أن جابرا استند فى كلامه على أن أول ما نزل من القرآن هو المدثر- إلى ما سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو يحدث عن فترة الوحى، وكأنه لم يسمع بما حدّث به رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الوحى قبل فترته من نزول الملك على الرسول صلّى الله عليه وسلم فى حراء بصدر سورة اقرأ كما روت عائشة- رضى الله عنها- فاقتصر فى إخباره على ما سمع ظانا أنه ليس هناك غيره؛ اجتهادا منه، غير أنه أخطأ فى اجتهاده بشهادة الأدلة السابقة فى القول الأول، ومعلوم أن النص يقدم على الاجتهاد، وأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال؛ فبطل إذا القول الثانى وثبت الأول (¬3). أقول: لعل جابر بن عبد الله أراد أن أوائل المدثر نزل فى أول الرسالة، وآيات سورة العلق نزلت فى بدء النبوة، وبذلك يرتفع الإشكال بدليل قوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ. أو أن آيات المدثر من أوائل ما نزل، لا أول ما نزل على الإطلاق. والله أعلم. واختلف العلماء فى آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق اختلافا كثيرا، لعدم وجود أثر صحيح مسند إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعتمد عليه فى تحقيق ذلك على وجه يقطع الخلاف ويزيل الالتباس، وقد انتهت أقوال العلماء فى هذا الأمر إلى عشرة أقوال أشهرها أربعة: الأول: آخر ما نزل قوله- تعالى- فى سورة البقرة: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ البقرة: الآية: 281. أخرجه النسائى من طريق عكرمة عن ابن عباس. وكذلك أخرجه ابن أبى حاتم قال: آخر ما نزل من القرآن كله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وعاش النبى صلّى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال، ثم مات لليلتين خلتا من ربيع الأول. ¬

(¬3) انظر مناهل العرفان للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى ج 1 ص 87، 88 ط عيسى البابى الحلبى وشركائه.

الثانى: أن آخر ما نزل هو قول الله- تعالى- فى سورة البقرة أيضا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ البقرة آية: 278. أخرجه البخارى عن ابن عباس، والبيهقى عن ابن عمر. الثالث: أن آخر ما نزل آية الدين فى سورة البقرة أيضا، وهى قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إلى قوله سبحانه: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ البقرة الآية: 282. وهى أطول آية فى القرآن. وأخرج ابن جريج عن سعيد بن المسيب: (أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدا بالعرش آية الدين). وأخرج أبو عبيد فى «الفضائل» عن ابن شهاب قال: (آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين). ويمكن الجمع بين هذه الأقوال الثلاثة بما قاله السيوطى رضي الله عنه من أن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها فى المصحف؛ لأنها فى قصة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر، وذلك صحيح. قال الزرقانى فى «مناهل العرفان» (¬4) بعد أن سرد هذه الأقوال: (ولكن النفس تستريح إلى أن آخر هذه الثلاثة نزولا هو قول الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وذلك لأمرين: أحدهما: ما تحمله هذه الآية فى طياتها من الإشارة إلى ختام الوحى والدين، بسبب ما تحث عليه من الاستعداد ليوم المعاد، وما تنوّه به من الرجوع إلى الله واستيفاء الجزاء العادل من غير غبن ولا ظلم، وذلك كله أنسب بالختام من آيات الأحكام المذكورة فى سياقها. ثانيهما: التنصيص فى رواية ابن أبى حاتم السابقة على أن النبى صلّى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها تسع ليال فقط، ولم تظفر الآيات الأخرى بنص مثله) أهـ. الرابع: أن آخر ما نزل هو سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ رواه مسلم عن ابن عباس. ولكنك تستطيع أن تحمل هذا الخبر على أن هذه السورة آخر ما نزل مشعرا بوفاة النبى صلّى الله عليه وسلم. ويؤيده ما روى من أنه صلّى الله عليه وسلم قال حين نزلت: «نعيت إلى نفسى». وكذلك فهم بعض كبار الصحابة كما ورد أن عمر رضي الله عنه بكى حين سمعها وقال: «الكمال دليل الزوال». ¬

(¬4) ج 1 ص 90.

ويحتمل أيضا أنها ما نزل من السور فقط، ويدل عليه رواية ابن عباس: «آخر سورة نزلت من القرآن جميعا: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. ويظن بعض أهل العلم أن آخر آية نزلت هى قوله تعالى فى سورة المائدة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. والحق أنها ليست آخر ما نزل بإطلاق. والبحث فى أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن يعتمد على النقل والتوقيف، ولا مجال للعقل فيه إلا بالترجيح بين الأدلة أو الجمع بينها فيما ظاهره التعارض منها، شأنه فى ذلك شأن كثير من مباحث علوم القرآن، كمعرفة المكى والمدنى وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك. الخامس: ولهذا البحث فوائد منها: (أ) تمييز الناسخ من المنسوخ فيما إذا وردت آيتان أو آيات على موضوع واحد، وكان الحكم فى إحدى هذه الآيات يغاير الحكم فى الأخرى. (ب) معرفة تاريخ التشريع الإسلامى، ومراقبة سيره التدريجى، والوصول من وراء ذلك إلى حكمة الإسلام وسياسته فى أخذه الناس بالهوادة والرفق، والبعد بهم عن غوائل الطفرة والعنف؛ سواء فى ذلك هدم ما مردوا عليه من باطل، وبناء ما لم يحيطوا بعلمه من حق. (ج) إظهار مدى العناية التى أحيط بها القرآن الكريم حتى عرف فيه أول ما نزل وآخر ما نزل، كما عرف مكيه ومدنيه، وسفريه وحضريه إلى غير ذلك. ولا ريب أن هذا مظهر من مظاهر الثقة به، ودليل على سلامته من التغيير والتبديل. لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. (د) ويضاف إلى هذه الفوائد فائدة أخرى، وهى معرفة الوحدة الموضوعية للقرآن الكريم، عن طريق ربط أول ما نزل منه بآخره، فإن من ينظر فى أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل يعرف الصلة الوثيقة بين آياته كلها فى ألفاظها ومعانيها ومراميها، ويتبين له بوضوح أن أول ما نزل مقدمة تقود الباحث إلى ما فى هذا الكتاب العزيز من مقاصد وعبر وأحكام وحكم، وآخر ما نزل يوجز كل ما ورد فيه من تلك المقاصد والعبر، والأحكام والحكم فيلتقى الآخر بالأول فى نسق واحد، ونسج فريد لا تناقض فيه ولا اختلاف، كما عرفنا ذلك عند معرفة أول ما نزل من الآيات وآخر ما نزل على الصحيح من أقوال المحققين. السادس: وقد اهتم الكثير من علماء التفسير وعلماء الفقه والأصول بمعرفة جهات النزول وهى الأماكن التى نزل فيها على النبى صلّى الله عليه وسلم كمكة والمدينة والجحفة وبيت المقدس والطائف والحديبية وتبوك وغيرها.

وبذلوا جهدا مشكورا فى هذا البحث معتمدين على الروايات الصحيحة التى نقلها التابعون عن ائمة الصحابة وعلمائهم؛ ليستعينوا بمعرفتها على فهم الأحكام الشرعية التى تضمنتها الآيات، وليعرفوا الناسخ منها والمنسوخ وغير ذلك مما ذكرنا فى معرفة المكى والمدنى. وقد نقل السيوطى فى «الاتقان» (¬5) عن أبى القاسم النيسابورى فى كتابه (التنبيه على فضل علوم القرآن) قوله: (من أشرف علوم القرآن علم نزوله، وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة، وما نزل بمكة وحكمه مدنى، وما نزل بالمدينة وحكمه مكى، وما نزل بمكة فى أهل المدينة وما نزل بالمدينة فى أهل مكة، وما يشبه نزول المكى فى المدنى، وما يشبه نزول المدنى فى المكى، وما نزل بالجحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، وما نزل ليلا، وما نزل نهارا، وما نزل مشيعا، وما نزل مفردا، والآيات المدنيات فى السور المكية، والآيات المكيات فى السور المدنية، وما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدنية إلى أرض الحبشة، وما أنزل مجملا، وما نزل مفصلا، وما اختلفوا فيه فقال بعضهم مدنى وبعضهم مكى. فهذه خمسة وعشرون وجها من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم فى كتاب الله تعالى). أه. أقول: فى هذا الكلام شىء من المبالغة؛ لأن معرفة هذه الوجوه كلها لا يترتب عليها فوائد ذات بال. ومعرفتها جميعا من فضول العلم لا من أصوله، وقوله: (من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم فى كتاب الله تعالى) حكم غير صحيح، فإن أراد بعضها، كمعرفة المكى والمدنى فمسلّم. والصحابة- رضوان الله عليهم- لم يكونوا يعرفون هذه الوجوه جميعا، ومع ذلك كانوا يتكلمون فى كتاب الله- تعالى- بما انتهى إليه علمهم عن الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلم، أو وصل إليه فهمهم للآيات إذا لم يكن فيها بيان عنه صلّى الله عليه وسلم بقول منه أو بفعل. نقل الزركشى فى «البرهان» (¬6) عن القاضى أبى بكر فى «الانتصار»: (أن هذا يرجع إلى حفظ الصحابة وتابعيهم .. غير أنه لم يكن من النبى صلّى الله عليه وسلم فى ذلك قول ولا ورد عنه أنه قال: اعلموا أن قدر ما نزل بمكة كذا، وبالمدينة كذا، وفضله كذا، ولو كان ذلك منه لظهر وانتشر، وإنما لم يفعله لأنه لم يؤمر به ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة. ¬

(¬5) ج 1 ص 36. (¬6) ج 1 ص 191 الطبعة الثالثة تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط دار الفكر 1400 هـ- 1980 م.

وإن وجب فى بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ، ليعرف الحكم الذى تضمنها؛ فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول صلّى الله عليه وسلم، وقوله هذا هو الأول المكى، وهذا هو الآخر المدنى. وكذلك الصحابة والتابعون من بعدهم لما لم يعتبروا أن من فرائض الدين تفصيل جميع المكى والمدنى مما لا يسوغ الجهل به، لم تتوفر الدواعى على إخبارهم به ومواصلة ذكره على أسماعهم وأخذهم بمعرفته، وإذا كان كذلك ساغ أن يختلف فى بعض القرآن هل هو مكى أو مدنى، وأن يعملوا فى القول بذلك ضربا من الرأى والاجتهاد، وحينئذ فلم يلزم النقل عنهم ذكر المكى والمدنى، ولم يجب على من دخل فى الإسلام بعد الهجرة أن يعرف كل آية أنزلت قبل إسلامه مكية أو مدنية. فيجوز أن يقف فى ذلك أو يغلب على ظنه أحد الأمرين، وإذا كان كذلك بطل ما توهموه من وجوب نقل هذا، أو شهرته فى الناس، ولزوم العلم به لهم ووجوب ارتفاع الخلاف فيه). أهـ. لهذا لا يجب أن نكلف أنفسنا عناء البحث عن كل هذه الوجوه التى ذكرها أبو القاسم النيسابورى، ولكننا نكتفى بما تتعلق به فائدة فى معرفة حكم من أحكام الدين. وأشهر ما يعنى به العلماء من هذه الوجوه معرفة المكى والمدنى، ومعرفة ما نزل قبل وما نزل بعد، ومعرفة أسباب النزول من أجل ترتيب الأحكام ومعرفة الناسخ والمنسوخ وغير ذلك مما يحتاج إليه علماء الفقه والأصول فى الجمع والترجيح. أ. د/ محمد بكر إسماعيل

الوجوه والنظائر فى القرآن

الوجوه والنظائر فى القرآن (1) [الوجوه والنظائر فى اللغة] وجوه الكلام فى اللغة: مقاصده ومعانيه. ونظائره: أمثاله وأشباهه فى كل شىء. وللباحثين فى علوم القرآن تعريف جامع لكل منهما يتميز به عن الآخر، بسطه ابن الجوزى- فى مقدمة كتابه: «نزهة الأعين النواظر فى علم الوجوه والنظائر» (¬1) - فقال: (اعلم أن معنى الوجوه والنظائر أن تكون الكلمة واحدة، ذكرت فى مواضع من القرآن على لفظ واحد، وحركة واحدة، وأريد بكل مكان معنى غير الآخر، فلفظ كل كلمة ذكرت فى موضع نظير للفظ الكلمة المذكورة فى الموضع الآخر، وتفسير كل كلمة بمعنى غير معنى الأخرى هو الوجوه. فالنظائر: اسم للألفاظ، والوجوه: اسم للمعانى) أهـ. وهذا التعريف للوجوه والنظائر تعريف جامع لهما فى سياج واحد مؤتلف فى الألفاظ، مختلف فى المعانى. (2) [فائدة معرفة الوجوه والنظائر] ومعرفة الوجوه والنظائر فى القرآن الكريم؛ وسيلة من أعظم الوسائل لفهم معانيه وفقه مقاصده ومراميه. فلا ينبغى لمن يتصدى لعلم التفسير أن يهمل هذه الدراسة الميدانية التى تعاون فى تأصيلها علماء اللغة، وعلماء التأويل، وعلماء الأصول وغيرهم ممن كرسوا جهودهم لخدمة كتاب الله- تعالى- ونصرة دينه. فهو علم يكشف عن مراد الله- تعالى- من كلامه العزيز فى مواضعه المختلفة بحسب ما يؤدى إليه سوابق الكلام ولواحقه؛ إذ كل لفظ فى موضع قد يختلف عن مثله فى موضع آخر أو فى عدة مواضع، فلو حمل اللفظ على معنى واحد فى كل المواضع لأدى ذلك إلى التعارض والتناقض والجهل بما وراء المعانى من المقاصد. ولا يكفى فى نظرى أن يكون المفسر بحرا زاخرا فى اللغة العربية دون أن يكون علّامة فى الحديث والفقه والأصول وغيرها من العلوم التى يحتاج إليها أحيانا فى التصحيح والترجيح والتنقيح. ولا ريب أن من أجاد البحث فى وجوه القرآن ونظائره، وتفقّه فيه وكان سليم المعتقد قوى الحجة- استطاع بحول الله وقوته ¬

(¬1) ص 83 ط مؤسسة الرسالة ببيروت 1404 هـ- 1984 م الطبعة الأولى تحقيق: محمد عبد الكريم كاظم الراضى.

(3) اسباب انتشار الالفاظ المشتركة فى لغة العرب

وتوفيقه أن يدفع عن القرآن شبهات أوردها على ألفاظه أو على معانيه قوم خيّم عليهم الجهل، وضرب على آذانهم فلم يعقلوا منه شيئا يذكر لهم. واستطاع أيضا بقوة حجته أن يعمق الإيمان فى قلوب زاغت عن الحق بسبب من الأسباب التى سنذكرها. وكلما ازداد المفسر لكتاب الله- تعالى- علما فى الوجوه والنظائر- نبغ فى تأصيل الأصول، ورد الفروع إليها، ومحاكمة المخالفين فيها إلى الحق المجرد عن الهوى. (ولا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة، بأن يرى اللفظ الواحد يحتمل معانى متعددة؛ فيحمله عليها إذا كانت غير متضادة، ولا يقتصر به على معنى واحد) (¬2). (3) [اسباب انتشار الالفاظ المشتركة فى لغة العرب] ومن المعلوم لدينا أن الألفاظ المشتركة ذات المعانى المتعددة قد انتشرت فى لغة العرب انتشارا واسعا لأسباب كثيرة، منها: (أ) اختلاف القبائل العربية فى وضع الألفاظ لمعانيها؛ فقد تضع قبيلة اللفظ لمعنى، وأخرى تضعه لمعنى آخر، وثالثة تضعه لمعنى ثالث؛ فيتعدد الوضع وينقل إلينا اللفظ مستعملا فى هذه المعانى دون أن ينص علماء اللغة على تعدد الوضع أو الواضع. (ب) قد يوضع اللفظ لمعنى، ثم يستعمل فى غيره مجازا، ثم يشتهر استعمال المجازى، حتى ينسى أنه مجازى، فينقل إلينا على أنه موضوع للمعنيين: الحقيقى، والمجازى. (ج) أن يكون اللفظ موضوعا لمعنى مشترك بين المعنيين؛ فيصح إطلاق اللفظ على كليهما، ثم يغفل الناس عن هذا المعنى المشترك الذى دعا إلى صحة إطلاق اللفظ على كلا المعنيين؛ فيظنون أن اللفظ من قبيل المشترك اللفظى، كلفظ القرء؛ فإنه فى اللغة يطلق على كل زمان اعتيد فيه أمر معين، فيقال للحمّى: قرء، أى زمان دورى معتاد تكون فيه. وللمرأة قرء، أى وقت دورى تحيض فيه، ووقت دورى آخر تطهر فيه. وكالنكاح، لفظ وضع لمعنى الضم، فصحّ إطلاقه على العقد ذاته؛ لأن فيه ضم اللفظين: الإيجاب والقبول، وصح إطلاقه على الوطء أيضا. ولكن اشتهر إطلاقه على العقد؛ فظن البعض أنه حقيقة فيه مجاز فى غيره، وظن البعض الآخر أنه فى الوطء حقيقة وفى العقد مجاز. (د) أن يكون اللفظ موضوعا لمعنى فى اللغة، ثم يوضع فى الاصطلاح لمعنى آخر، كلفظ (الصلاة) وضع لغة للدعاء، ثم وضع فى اصطلاح الشرع للعبادة المعروفة (¬3) أه. ¬

(¬2) راجع الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى- ج 2 ص 144 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- فقد نسب هذا القول لأبى الدرداء، وعزاه لابن سعد وغيره. (¬3) انظر الوجيز فى أصول الفقه للأستاذ الدكتور/ عبد الكريم زيدان ط مؤسسة الرسالة 1987 م ص 326 - 327.

(4) طائفة من الالفاظ المشتركة

وقد نزل القرآن على أفصح هذه اللغات التى نطق بها العرب ليس فيه لفظ ينكرونه، ولا معنى لا يفقهونه. ولو كان فيه شىء من ذلك لتصيده سفهاؤهم وأذاعوا به. (4) [طائفة من الالفاظ المشتركة] وإليك طائفة من الألفاظ المشتركة ذات المعانى المختلفة، نقلا عن أهم المراجع وأوثقها: (أ) (أمّة) تأتى فى القرآن على تسعة أوجه أشهرها خمسة: 1 - (القوم)، كما فى قوله تعالى فى سورة النحل (92): أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ. 2 - (الملة) كما فى قوله تعالى فى سورة البقرة (213): كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً. 3 - (المدة) كما فى قوله تعالى فى سورة هود (8): وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ، وقوله فى سورة يوسف (45): وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ. 4 - (الإمام) كما فى قوله تعالى فى سورة النحل (120): إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً. 5 - (الخلق من كل جنس) كما فى قوله تعالى فى سورة الأنعام (38): وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ. (ب) (الأهل) تأتى فى القرآن على ثمانية أوجه أشهرها سبعة: 1 - (ساكنو القرى) كما فى قوله تعالى فى سورة الأعراف (97): أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى. 2 - (قرّاء التوراة والإنجيل) كما فى قوله تعالى فى سورة النساء (171): يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ. 3 - (الأصحاب) كما فى قوله تعالى فى سورة النساء (58): إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها. 4 - (الزوجة والأولاد) كما فى قوله تعالى فى سورة القصص (29): فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً. 5 - (القوم والعشيرة) كما فى قوله تعالى فى سورة النساء (35): فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها. 6 - (المختار له) كما فى قوله تعالى فى سورة الفتح (26): وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها. 7 - (المستحق) كما فى قوله تعالى فى سورة المدثر (56): هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ. (ج) (الأم) تأتى فى القرآن على خمسة أوجه:

1 - (الأصل) كما فى قوله تعالى فى سورة آل عمران (7): هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ. 2 - (المرجع والمصير) كما فى قوله تعالى فى سورة القارعة (9): فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ. 3 - (الوالدة بعينها) كما فى قوله تعالى فى سورة طه «40»: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ. 4 - (المرضعة) كما فى قوله تعالى فى سورة النساء «23»: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ. 5 - (أمهات المؤمنين: أزواج النبى صلّى الله عليه وسلم) كما فى قوله تعالى فى سورة الأحزاب (6): وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ. (د) (السبيل) تأتى فى القرآن على أحد عشر وجها: 1 - (الطريق) وهو المعنى الحقيقى فى اللغة، كما فى قوله تعالى فى سورة النساء (98): لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. وقوله جل شأنه فى سورة القصص (22): عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ. 2 - (الطاعة) كما فى قوله تعالى فى سورة البقرة (195): وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وقوله تعالى فى سورة النساء (76): الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. 3 - (البلاغ) كما فى قوله تعالى فى سورة آل عمران (97): وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. 4 - (المخرج) كما فى قوله تعالى فى سورة النساء (15): أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. وقوله تعالى فى سورة الإسراء (48): فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا 5 - (المسلك) كما فى قوله تعالى فى سورة النساء (22): إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا. وقوله تعالى فى سورة الإسراء (32): وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا. 6 - (العلل) كما فى قوله تعالى فى سورة النساء (34): فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا. 7 - (الدّين) كما فى قوله تعالى فى سورة النحل (125): ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. 8 - (الحجة) كما فى قوله تعالى فى سورة النساء (141): وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.

9 - (العدوان) كما فى قوله تعالى فى سورة الشورى (41، 42): فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. 10 - (الإثم) كما فى قوله تعالى فى سورة آل عمران (75): ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ. وقوله تعالى فى سورة التوبة (91): ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ. 11 - (الملة) كما فى قوله تعالى فى سورة يوسف (108): قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي. (5) وإن أردت المزيد فى معرفة الوجوه والنظائر فى القرآن فارجع إلى الكتب الآتية: 1 - «الوجوه والنظائر لألفاظ كتاب الله العزيز» لأبى عبد الله الحسن بن محمد الدامغانى المتوفى سنة (478 هـ- 1085 م). طبع ببيروت فى دار العلم للملايين بتحقيق عبد العزيز سيد الأهل الطبعة الرابعة أبريل (1983 م) تحت عنوان: «قاموس القرآن أو إصلاح الوجوه والنظائر فى القرآن الكريم». فى مجلد واحد. وطبع بتحقيق: محمد حسن أبو العزم الزفيتى 1416 هـ- 1996 م. طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف المصرية. فى مجلدين. تتميز هذه الطبعة بالدقة فى التحقيق والتعليق وغير ذلك من المميزات. 2 - «نزهة الأعين النواظر فى علم الوجوه والنظائر» لجمال الدين: أبى الفرج عبد الرحمن بن الجوزى (508 - 597 هـ 1114 - 1201 م) دراسة وتحقيق محمد عبد الكريم كاظم الراضى. يقع فى مجلد واحد، طبعته دار الرسالة ببيروت. الطبعة الأولى (1404 هـ- 1984 م). 3 - «المفردات فى غريب القرآن» لأبى القاسم: الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى ت (502 هـ 1108 م). تحقيق: محمد سيد كيلانى ط مصطفى البابى الحلبى سنة 1381 هـ 1961 م. يقع فى مجلد واحد، وهو كتاب عظيم الشأن ينفع الطالب لمعانى لغة القرآن ووجوه كلماته، لا يستغنى عنه مفسر. 4 - «بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز»، تأليف مجد الدين محمد ابن يعقوب الفيروزآبادى (729 - 817 هـ 1329 - 1415 م) ط المجلس الأعلى للشئون

الإسلامية بجمهورية مصر العربية ط 1383 هـ. يقع فى ست مجلدات كبار، حقق الأجزاء الأربعة الأول الأستاذ/ محمد على النجار. وحقق الجزءين الأخيرين الأستاذ/ عبد العليم الطحاوى. وهو كتاب عظيم الشأن مفيد فى بابه، لا يستغنى عنه باحث فى تفسير القرآن وعلومه. أ. د/ محمد بكر إسماعيل

مبهمات القرآن

مبهمات القرآن (1) [ما هو المبهم] المبهم- كما فى «المعجم الوسيط»: هو ما يصعب على الحاسة إدراكه إن كان محسوسا، وعلى الفهم إن كان معقولا. والمبهم من الأشياء: الخالص الذى لا شية فيه تميزه. والمبهم من الأجسام: المصمت، ومن الكلام: الغامض لا يتحدد المقصود منه. والمبهم من الظروف: ما ليس له حدود تحصره، مثل: فوق، وتحت، وأمام، وخلف. (2) [المبهم فى كتاب الله] والمبهم فى كتاب الله- تعالى-: هو ما خفى اسمه أو رسمه أو وصفه أو زمانه أو مكانه ونحو ذلك مما خفيت آثاره، أو جهلت أحواله لسبب من الأسباب الجلية أو الخفية، سواء احتاج المكلفون إلى معرفته بالبحث عن الوسائل التى تزيل خفاءه، وتدفع إشكاله، أم لم يحتاجوا إلى ذلك. فالمبهمات فى القرآن- على الجملة- نوعان: 1 - نوع ضرب الله عن ذكره صفحا لعدم تعلق التكليف به؛ لخلوه من الفائدة، كمعرفة بقرة بنى إسرائيل التى أمروا بذبحها، فلا ينبغى أن نسأل عن حجمها ولونها، وهل هى عاملة أم غير عاملة؛ فالبحث عن ذلك تكلف لا طائل تحته، بل هو تنطع يدل على فساد العقل والطبع، وسوء الأدب مع الله- عز وجل- ومع كلامه المنزل. وهذا ما فعله بنو إسرائيل مع نبيهم موسى- عليه السلام- فقد أمرهم الله على لسان نبيه أن يذبحوا بقرة- أىّ بقرة- ليضربوا بها القتيل ليعلموا من قتله، ولو ذبحوا أى بقرة لتحقق المطلوب ولكنهم سألوه عن سنّها ولونها وعملها، فشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم؛ فكلفوا شراء بقرة بملء جلدها ذهبا كما جاء فى الأثر، فذبحوها وما كادوا يفعلون. وسنطالع فى هذا الباب أمثلة كثيرة من الأشياء التى أبهمت فى هذا القرآن العظيم لعدم جدوى الإفصاح عنها. 2 - ونوع أبهمه الله لأسباب كثيرة إليك أهمها:

(3) (أ) أن يكون المبهم فى موضع استغنى ببيانه فى موضع آخر، كما فى قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الفاتحة: (4). فإنه مبهم على الجملة، بينه الله بشيء من التفصيل فى قوله- جل وعلا- فى سورة الانفطار (17 - 19): وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19). وقوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بينه الله بقوله فى سورة النساء: 69: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ. (ب) أن يكون المبهم معينا باشتهاره عند المخاطبين بأى طريقة من طرق الاشتهار. فقد أخفى اسم حواء فى القرآن لاشتهاره بين الناس قديما وحديثا، فوصفت بوصف يحدد صلتها بآدم- عليه السلام- ومصيرها معه فقال- جل وعلا- فى سورة البقرة: 35: وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ. (ج) قد يبهم الاسم بقصد الستر عليه؛ ليكون أبلغ فى استعطافه وإظهار منّة الله عليه، وهذا غالب ما جاء فى القرآن. (د) وقد يكون إبهامه لهوانه على الله وعلى الناس. (هـ) وقد يكون إبهامه لأن أمثاله فى الناس كثير، فيكون إبهامه مجرد مثل يذكر فيكشف عن طبع أو وضع معين يعرف بالقرائن الظاهرة فيحاكيه الناس فيه إن كان محمودا، ويتقونه إن كان مذموما. وقد ضرب الزركشى فى «البرهان» أمثلة كثيرة لهذا النوع؛ معتمدا فى ذلك على أسباب النزول. كقوله تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ البقرة (100) قيل: هو مالك بن الصّيف. يروى ابن هشام فى السيرة عن ابن إسحاق، والقرطبىّ فى تفسيره: أن مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم وذكر لهم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد الله إليهم فيه قال: والله ما عهد إلينا فى محمد عهد، وما أخذ له علينا من ميثاق؛ فأنزل الله فيه: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً. (و) أن يكون المبهم سهلا فى إدراكه لا يحتاج إلى إعمال فكر وإنعام نظر، فيكون ذكره- حينئذ- عبئا على الأسلوب من جهة وعدم ثقة فى مدارك العقول من جهة أخرى. والقرآن من شأنه أن يخاطب العقول الواعية، ويدربها على التأمل والنظر وإدراك الحقائق بالقرائن المتاحة؛ كالنظر فى القرآن

نفسه وفى السنة النبوية، وفى التاريخ القديم، وفى عادات الناس وأحوالهم. وغير ذلك مما يحمل المعانى على محمل يزيل خفاءها ويضعها فى مواضعها. (ز) ولا يخفى أن وجود المبهم فى القرآن الكريم يدرب الذهن على كشف خفائه وإزالة إشكاله، ومعرفة أسراره القريبة والبعيدة بقدر الطاقة البشرية. (ح) وهناك سبب وجيه لا ينبغى أن يفوتنى ذكره وهو رعاية التناسب بين ما يذكر هنا وهناك. ومن أمثلة ذلك: ما جاء فى قصة شعيب- عليه السلام- فإنه حين أخبر عن مدين ذكر أن شعيبا أخوهم فقال: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً، وحين أخبر عن أصحاب الأيكة وهم أهل مدين لم يقل: أخاهم! والحكمة فيه: أنه لما عرّفهم بالنسب، وهو أخوهم فى ذلك النسب، ذكره، ولما عرّفهم بالأيكة التى أصابهم فيها العذاب لم يقل: أخاهم؛ حيث أخرجه عنهم، (¬1) (4) وقد تتبع الإمام السيوطى هذه المبهمات فى القرآن الكريم فصنفها إلى مبهمات فى أفراد الإنسان والملائكة والجان والأقوام والقبائل والحيوان والأمكنة والأزمنة، وما إلى ذلك. وقد رتبة على ترتيب آى القرآن فى فصل سماه «ذكر آيات المبهمات» تحت النوع السبعون من كتاب «الإتقان». واعتمد فيه على النقل المجرد، وفيه من الأقوال ما صح سنده وما لم يصح، والعهدة عليه فيما نقل، وسنذكر هنا شيئا من المبهمات فوق ما ذكرناه من قبل؛ تتمة للفائدة؛ اعتمادا على ما نقله المفسرون والمحدّثون وغيرهم ممن عنى بذكرها. (5) فى القرآن أفراد من الرجال ذكرهم الله بأوصافهم تعظيما لشأنهم وتقديرا لجهودهم وأبهم أسماءهم؛ إمّا لشهرتهم عند نزول الآية؛ وإمّا لتدريب الذهن على معرفتهم عن طريق أوصافهم لمحاكاتهم فى تحصيل تلك الأوصاف إن استطاعوا أو الاقتداء بهم بقدر طاقاتهم، وتعطير أفواههم بالثناء عليهم والدعاء لهم: (أ) من ذلك قوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ النور: 22. قال ابن كثير فى تفسيره نقلا عن البخارى وابن جرير: هو الصديق أبو بكر ¬

(¬1) انظر البرهان فى علوم القرآن. للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى تحقيق/ محمد أبو الفضل إبراهيم ط دار الفكر ج 1 ص 156 وما بعدها.

- رضى الله عنه- حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبدا بعد ما قال فى عائشة ما قال. أه. فلما تليت عليه هذه الآية رجع فيما عزم عليه وكفّر عن يمينه. (ب) وفيه نزل قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا التوبة: 40 (ج) وقوله جل شأنه: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الزمر: 33. قال السيوطى فى «الإتقان»: والمراد به الصديق فى الكل- أى فى هذه الآيات الثلاثة، وهو مصيب فى الآيتين الأوليين، أما الثالثة فهو قول محتمل، والأصح أن الذى جاء بالصدق- كما قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد-: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال السّدى: هو جبريل- عليه السلام- والذى صدق به أولا هو محمد صلّى الله عليه وسلم، وأبو بكر وجميع المسلمين بدليل قوله فى ختام الآية: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. هذا ما ذكره أكثر المفسرين فى كتبهم. (د) وممن عظم الله شأنه بالوصف أيضا صهيب بن سنان الرومى، ففيه نزل قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ البقرة: 207. وذلك أنه لما أراد الهجرة منعه المشركون أن يهاجر بماله فتركه لهم ابتغاء مرضات الله، فلما وفد إلى المدينة تلقاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يقول: «ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى». وهذه الآية تتناول بعمومها كل من كان قد اشترى دينه بدنياه، وباع نفسه لله. (هـ) وفى زيد بن حارثة نزل قوله- عز وجل: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ الأحزاب: 37. فقد أبهم اسمه فى أول الآية؛ تعظيما له؛ وتقديرا لشأنه؛ وتذكيرا له بالإنعام عليه، ثم صرح باسمه مبالغة فى تكريمه، وهو الصحابى الوحيد الذى ذكر اسمه صراحة فى القرآن الكريم. وقد نزلت هذه الآية فى قصة زواجه من زينب بنت جحش- رضى الله عنها-. (و) وممن عظّم الله شأنه بالوصف وأبهم اسمه للأسباب التى ذكرناها، العبد الصالح الذى أشار إليه- رب العزة- فى قصة موسى معه بقوله: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا الكهف 65. وأرانا الحق- جل شأنه- من آياته التى أجراها على يديه عجبا.

قال جمهور المفسرين والمحدّثين: إنه الخضر يروون ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذا لقبه الذى اشتهر به واسمه بليا بن ملكان، قاله غير واحد من المفسرين. وقد أبهم الله اسمه ولقبه لاشتهار قصته عند أهل الكتاب وغيرهم ممن قرأ كتبهم. ووصفه يغنى عن اسمه ولقبه، فهو من الذين خصّهم الله بالكرامات، ووصفه بالعبودية الخالصة، وعمّه برحمة واسعة وعلم لدنّى تلقاه منه- جل شأنه- ببصيرته. (ز) وممن أبهم الله اسمه واكتفى بما ساقه فى شأنه مع قومه حبيب النّجار كما جاء فى كتب التفسير. وفيه نزل قوله تعالى: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى إلى قوله- جل شأنه: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ يس: 20 - 27. ومثله مؤمن آل فرعون، فقد قص الله علينا من أمره فى سورة غافر ما فيه عظة وعبرة لكل مؤمن يتصدى للدعوة، وينصر الحق بما أوتى من علم وحكمة. وقصته تبدأ من قوله تعالى: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وتنتهى بقوله- جل شأنه: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا غافر: 28 - 45. ومع هذا لم يذكر اسمه، فالأسماء مجرد أعلام على أصحابها لا تدل على شىء وراء ذلك- فى الغالب، وذكر الاسم مع الأوصاف العظيمة لا يلتفت إليه العقلاء، وإن غاب عنهم لا يسألون عنه إلا أن المفسرين أولعوا بالبحث عنها من باب الترف العلمى، وهو أمر لا يحمد ولا يذم. قال السيوطى فى «الإتقان»: هو شمعان، وقيل شمعون، وقيل جبر، وقيل حبيب، وقيل: حزقيل. وزعم أنه هو الذى جاء من أقصى المدينة يسعى. وكثرة الأسماء التى ذكرها تدل على غموض اسمه على المؤرخين، وما كان ضرهم لو تركوا ما لم يحيطوا بعلمه، وما لا يترتب على ذكره فائدة؛ ترفعا عن التهافت والاشتغال بما لا يضيف إلى المعانى القرآنية شيئا ذا بال. فماذا يفيد ذكر اسم هذا الرجل مع هذه الأوصاف التى أثنى الله عليه بها، وهذا الجهد الذى بذله فى دعوة آل فرعون إلى اتباع موسى- عليه السلام. (6) وممن عظّم الله شأنهن من النساء: (أ) حواء، فقد أبهم الله اسمها لاشتهارها فى الخليقة- كما أشرنا من قبل عند ذكر أسباب الإبهام، واكتفى- جل شأنه- بوصفها فى سياق الحديث عن آدم- عليه السلام.

قال تعالى: وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ البقرة: 35 وقال جل شأنه يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ الأعراف: 19. وقال- عز شأنه: فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى طه: 117. (ب) بلقيس، أبهم الله اسمها لعدم جدواه فى تعظيم شأنها بالأوصاف التى ذكرها. فقد قال- رب العزة- فى شأنها ما قال فى سورة النمل من قوله: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إلى قوله: قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 22 - 44 (ج) وقد ذكر الله مريم باسمها فى سورة التحريم: 12 فقال: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ بينما ذكرها فى سورة الأنبياء بالوصف فقال- جل شأنه: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ آية: 91 حملا على ما جاء فى سورة التحريم، ولاشتهارها بما وصفت به من كونها هى وابنها آية للعالمين. ونص على اسمها فى سورة التحريم واسم أبيها لأنها سيقت مساق العظة والعبرة لأمهات المؤمنين، فقد ذكر الله من أوصافها ما يحملهن على التحلى بها، وهن كذلك إلّا أن الله جعلها لهن مثلا للمرأة التى فاقت كثيرا من الرجال فى الطاعة والانقياد، ولم تكن زوجا لأحد، فكيف بهن وهن أزواج خير خلق الله، وخاتم رسله. (د) وقد أبهم الله ذكر اسم أم موسى واكتفى بالحديث عنها وعن وليدها لعدم الحاجة إلى معرفة اسمها. قال تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ القصص: 7 وقال- جل شأنه: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ القصص: 10. قال السيوطى فى «الإتقان»: اسمها يحانذ بنت يصهر بن لاوى، وقيل: ياء وخا، وقيل: أباذخت (¬2). وقيل: اسمها لوخا بنت هاند بن لاوى بن يعقوب، وقيل: يوكابد، وهو الاسم المشهور فى كتب التاريخ والسير. ¬

(¬2) الإتقان فى علوم القرآن. للحافظ جلال الدين السيوطى تحقيق/ محمد أبو الفضل إبراهيم ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ج 4 ص 104.

(هـ) وأبهم أيضا أخت موسى فى قوله سبحانه: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ القصص: 11 واسمها- كما قال السيوطى فى «الإتقان»: مريم وقيل: كلثوم. والأصح: أن اسمها مريم لقول الله- تعالى- حكاية عن مريم ابنت عمران، إذ عيّرها قومها بقولهم كما حكى الله عنهم: يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا مريم: 28 يعنون أنها أخته فى الفضل والصلاح تعريضا بها، وأخته أيضا من حيث إن له أختا بهذا الاسم، وقيل: إنها كانت من نسله، والله أعلم. وقد أبهم الله اسمها كما أبهم اسم أمها اكتفاء بنسبتها إلى أخيها موسى- عليه السلام- واكتفاء بذكر ما قامت به من عمل جليل تذكر به فى القرآن على مر الزمان. وقد وصفها الله بالحكمة وبعد النظر، وحسن الحيلة فى جلب أخيها من قصر فرعون إلى بيتها ليعيش فى سرور وحبور بعيدا عن الطاغية، ونكاية فيه. (و) وأبهم الحق- جل شأنه- اسم امرأة فرعون واكتفى بذكر دعائها تعظيما لشأنها معه؛ فهذا الدعاء يدل دلالة قاطعة على أنها أخلصت له دينها واختارت جواره، واستغاثت به من شر كل كفار أثيم، وظالم لنفسه وللمؤمنين. قال جل شأنه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ التحريم: 11. واسمها آسية بنت مزاحم كما جاء فى كتب التفسير. وعدم ذكر اسمها فى القرآن لا يضيرها، ولا يضير من جهله، فالوصف أقوى بكثير من ذكر الاسم فى كثير من المواطن، كما هو معروف عند أهل اللغة بوجه عام، وعند المتخصصين فى دراسة لغة القرآن بوجه خاص. ونسبها إلى فرعون للدلالة على أنها آثرت ربها الذى خلقها على هذا الفرعون الذى أغدق عليها من نعم الدنيا ما لم تجده امرأة سواها؛ لتكون عبرة لغيرها وقدوة لأمثالها. (ز) وممن أبهم الله ذكرهن تعظيما لهن وسترا عليهن، التى جادلت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى زوجها، ورفعت شكواها إلى الله- عز وجل- وهى خولة بنت ثعلبة. قال الله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ المجادلة: 1

فقد أنصفها ربها، وعذر زوجها، وأنزل أحكاما تتعلق بالظهار حلا للإشكال الذى وقع فيه زوجها، ولكل من يظاهر امرأته مع تحريم الظهار والتغليظ فى وصفه، فكان هذا التشريع من بركاتها. وقد أبهم ذكر زوجها سترا عليه، وهو أوس ابن الصامت. (ح) وممن أبهم الله اسمها زينب بنت جحش، سترا عليها وفى الستر تعظيم لشأنها. قال- جل شأنه: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها الأحزاب: 37 وصرح باسم زوجها تعظيما له، ومبالغة فى التنصيص على حرمة التبنى وإباحة زوج المتبنّى بعد أن كانت محرمة فى الجاهلية وفى صدر الإسلام. (ط) وقد أبهم الله اسم التى أسر إليها النبى حديثا فنبأت به، ولم يذكر اسم التى تلقت هذا السر منها؛ وذلك سترا عليهما وحفظا لمكانتهما من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال- عز شأنه: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ التحريم: 3، 4. ولا يخفى ما فى هذا الإبهام من أدب التعبير؛ فإن ذكر المرأة هنا باسمها لا يتعلق به فائدة، فضلا عن كونه إفشاء لسر يحرص العاقل الراشد على طيه، ونحن نعلم من أحوال بعض العرب ستر أسماء النساء بالألقاب والكنايات؛ تنزيها لهن وسموا بمكانتهن، وفى نثرهم وشعرهم من ذلك الكثير. ثم إنه كيف يليق أن يصرح- سبحانه- باسم المرأة هنا، وهو يلومها على التصريح بالحديث الذى أمرها الرسول صلّى الله عليه وسلم بكتمانه- أليس فى التصريح باسمها إفشاء للسر؟ وقد درج القرآن الكريم فى الحديث عن النساء على طى أسمائهن والتعبير عنهن بالوصف غالبا. (¬3) (7) وممن عظّم الله شأنهما من الرجال: (أ) رجلان أنعم الله عليهما بالإيمان وحسن التوكل ذكرهما- جل شأنه- مبهمين ¬

(¬3) انظر مقاصد التشريع الحكيم فى سورتى الطلاق والتحريم للدكتور/ محمد بكر إسماعيل.

فى قوله تعالى قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ المائدة: 23. قال ابن كثير فى «تفسيره» (¬4): هما يوشع ابن نون، وكالب بن يوفنا، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطية والسدى والربيع بن أنس، وغير واحد من السلف والخلف. (ب) ومن الذين عظم الله أحدهما وحقّر شأن الآخر ما جاء فى قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ المائدة: 27. قال كثير من المفسرين: هما قابيل وهابيل، والمعظم منهما هابيل فهو التقى الذى تقبل الله قربانه. (ج) وفى قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ فى سورة الكهف (32)، يقول السيوطى فى «الإتقان» - والعهدة عليه- هما تمليخا- وهو الخيّر، وفطروس. (د) وفى قوله تعالى: وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ (82) من سورة الكهف، يقول السيوطى هما أصرم وصريم (هـ) وفى قوله- جل شأنه- فى سورة يس: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ يس: 14. يقول السيوطى: هما شمعون ويوحنا، والثالث بولس، وقيل: هم صادق وصدوق وشلوم (¬5). (8) وممن عظم الله شأنهما من النساء: (أ) ما جاء فى قوله تعالى من سورة القصص (23): وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ يقول السيوطى: هما هماليّا وصفوريا وهى التى نكحها موسى. (9) وممن أبهم الله أسماءهم من الجموع تعظيما لشأنهم: (أ) الأسباط، وقد ورد ذكرهم فى خمسة مواضع من القرآن، وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر: يوسف، وروبيل، وشمعون، ولاوى، ودان، ويهوذا، ونفتالى، وجاد، وأشير، ويشجر وريالون، وبنيامين. هذا ما قاله السيوطى فى «الإتقان» وهو غير مسلّم، فهؤلاء أولاد يعقوب مباشرة، والأسباط أحفادهم. قال ابن كثير فى «تفسيره»: قال أبو العالية والربيع وقتادة: الأسباط بنو يعقوب ¬

(¬4) انظر تفسير القرآن العظيم للحافظ عماد الدين، أبى الفداء إسماعيل بن كثير، مطبعة الاستقامة ج 2 ص 38. (¬5) انظر الإتقان للسيوطى ج 4 ص 106.

اثنا عشر رجلا، ولد كل رجل منهم أمة من الناس فسموا الأسباط، وقال الخليل بن أحمد وغيره: الأسباط فى بنى إسرائيل، كالقبائل فى بنى إسماعيل (¬6). (ب) النقباء الاثنا عشر، عظم الله شأنهم وأبهم أسماءهم فى قوله- جل شأنه- من سورة المائدة: 12 وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ. (ج) أبناء إبراهيم- عليه السلام- المذكورون فى قوله تعالى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ البقرة: 132. قال السيوطى: هم إسماعيل، وإسحاق ومدين، وزمران، وسرح، ونفش، ونفشان، وأميم، وكيسان، وسورح، ولوطان، ونافش. (د) أصحاب الكهف، أبهم الله أسماءهم وعظّم شأنهم، وجعل قصتهم عبرة لمن اعتبر. قال السيوطى: هم تمليخا، وتكسلمينا، ومرطوش، وبراشق، وأيونس، وأريسطانس، وتسلططيوس. (هـ) أولو العزم من الرسل، فى قوله جل وعلا: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ الأحقاف: 35. قال السيوطى: أصح الأقوال أنهم نوح وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلّى الله عليه وسلم. وقد نص الله عليهم فى آيتين، فقال- عز وجل- فى الأحزاب: 7: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً وقال تعالى فى سورة الشورى: 13: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ وقيل: المراد جميع الرسل، وهو الراجح عندى، وعلى ذلك تكون (من) فى قوله: «من الرسل» لبيان الجنس، والله أعلم. (و) أهل البيت، عظم الله شأنهم وأبهم أسماءهم إما للعلم بهم، أو لأن كلمة أهل فى اللغة تعنى عندهم طائفة مخصوصة من ذوى القربى، لا يدخل فيهم من ليس منهم، والقرآن نزل بلغتهم، فأبهم أفراد الأهل اعتمادا على أفهامهم. قال- جل شأنه- فى سورة الأحزاب 33: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً قال السيوطى: (¬7) هم: على، وفاطمة، والحسن، والحسين، وهو أصح الأقوال. ¬

(¬6) راجع ابن كثير ج 1 ص 187. (¬7) الإتقان للسيوطى ج 4 ص 105.

ومنهم من أدخل نساء النبى فى أهله مراعيا فى ذلك أسباب النزول. فقد قال الله- عز وجل- فى حق نسائه صلّى الله عليه وسلم إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ يعنى بوجه عام، بل منهم من خص الآية بنساء النبى لأنها نزلت فيهن. قال ابن كثير: (¬8) فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن فصحيح، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ففي هذا نظر. (10) وممن حقّر الله شأنهم من الرجال: (أ) من قال الله فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ البقرة: 204 قال السيوطى فى «الإتقان»: هو الأخنس ابن شريق، وهو قول السدى، وقيل: هو عام فى المنافقين، قال ابن كثير: وهو الصحيح. أقول: ربما كان الأخنس هذا أعذبهم لسانا فى الباطل، وأشدهم نفاقا فخص بالذكر من دونهم فى كتب التفسير والسير. (ب) من ورد ذكره مبهما فى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ البقرة: 258. قال أكثر المفسرين: هو نمروذ بن كنعان، وكان ملك بابل كما يذكر ابن كثير فى تفسيره. (ج) ومن قال الله فيه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي التوبة: 49. قال السيوطى: هو الجد بن قيس. وبذلك قال كثير من المفسرين نقلا عن ابن إسحاق وغيره. والآية تشمل بعمومها كل من كان على شاكلته. (د) ومن جاء فى قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ التوبة: 58. قال السيوطى: هو ذو الخويصرة، واسمه حرقوص- كما قال ابن كثير- لما اعترض على النبى صلّى الله عليه وسلم- حين قسم غنائم حنين فقال له: اعدل فإنك لم تعدل. (هـ) ومن جاء فى قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ التوبة: 75. قيل: هو ثعلبة بن حاطب الأنصارى، وقصته مشهورة عند المفسرين والمحدثين. (و) ومنهم أبو عامر الراهب الخزرجى الذى تنصر فى الجاهلية، وقرأ علم أهل الكتاب، وبارز النبى صلّى الله عليه وسلم والمسلمين بالعداوة ¬

(¬8) انظر ابن كثير ج 3 ص 483.

وخرج فارّا إلى كفار قريش يمالئهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو المشار إليه فى قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ التوبة: 107. والذين بنوا مسجد الضرار اثنا عشر رجلا ذكر ابن كثير أسماءهم وأنسابهم عند تفسير هذه الآية. (ز) من أشير إليه فى قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً مريم: 77 نزل فى العاص بن وائل كما قال أكثر المفسرين نقلا عن المحدثين. (11) وممن أبهم الله أسماءهن تحقيرا لشأنهن: (أ) امرأة أبى لهب: أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبى سفيان. (ب) امرأة نوح وامرأة لوط. ضربهما الله مثلا للذين كفروا فى سورة التحريم، وقد ذكر السيوطى أن اسم الأولى والعة، واسم الثانية والهة، وقيل: واعلة. (12) ومن المجموع التى أبهم الله أسماءهم احتقارا لشأنهم. (أ) ما جاء فى قوله تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ التوبة: 12 وهم كثير، ذكر السيوطى منهم: أبا سفيان، وأبا جهل، وأمية بن خلف، وسهيل بن عمرو، وعتبة ابن ربيعة. قال ابن كثير فى «تفسيره»: والصحيح أن الآية عامة وإن كان سبب نزولها مشركى قريش فهى لهم ولغيرهم. (ب) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الحجر: 95 قال سعيد بن جبير- كما ذكر السيوطى: هم خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأبو زمعة، والحارث بن قيس، والأسود ابن عبد يغوث. (ج) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ النساء: 44. قال السيوطى- نقلا عن عكرمة: نزلت فى: رفاعة بن زيد بن التابوت، وكردم بن زين، وأسامة بن حبيب، ورافع بن أبى رافع، وبحرى بن عمرو، وحيىّ بن أخطب. والأفضل بقاء العموم على عمومه ليدخل فيهم من هو على شاكلتهم، لكن المفسرين أولعوا بذكر أشهر الأفراد من الذين نزلت فيهم الآية، فيقصرونها عليهم، وأحيانا يبقونها على عمومها، ويذكرون من العموم

ما وسعهم أن يذكروه نقلا عن المحدثين وأصحاب السير. (13) ومما أبهم الله ذكره من الأماكن: (أ) ما جاء فى قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها البقرة: 259. قال ابن كثير فى «تفسيره»: هى بيت المقدس. أه. أما الذى مر عليها فقد اختلفوا فيه، وأشهر الأقوال أنه العزير. (ب) وهى بيت المقدس أيضا فى قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً البقرة: 58. (ج) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ الأعراف: 163. هى أيلة على شاطئ بحر القلزم كما نقل ابن كثير عند تفسيرها. (د) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يوسف: 82. قال القرطبى عند تفسيرها: «يريدون بالقرية مصر، وقيل: قرية من قراها نزلوا بها، وامتاروا منها- أى أخذوا الميرة وهى الطعام. وقيل المعنى: «واسأل القرية» وإن كانت جمادا؛ فأنت نبى الله وهو ينطق الجماد لك، وعلى هذا فلا حاجة إلى إضمار». أه. (هـ) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً النحل: 112. قال ابن كثير فى «تفسيره»: (هذا مثل أريد به أهل مكة؛ فإنها كانت آمنة مستقرة .. فكفرت بأنعم الله .. وأعظمها بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم إليهم .. فاستعصوا عليه وأبوا إلا خلافه فدعا عليهم .. فأصابتهم سنة أذهبت كل شىء لهم). أه. وبهذا قال كثير من المفسرين. والقرية نكرة، والنكرة تعم، فالأولى فى نظرى أن تظل على عمومها مثلا لكل قرية كفرت بأنعم الله. (و) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ يس: 13. قال أكثر المفسرين: هى «أنطاكية». (ز) حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما الكهف: 77. قيل: «هى أبلّة، وقيل أنطاكية، وقيل غير ذلك. والأصح أنها أنطاكية- كما ذكر كثير من المفسرين. وقد سماها الله مدينة فى سورتى: يس والكهف، لذكر الرجلين الصالحين فيهما.

فالأول: هو حبيب النجار، الذى قال الله فيه وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. والثانى: هو أبو الغلامين اليتيمين؛ فقد وصفه الله بالصلاح فقال: وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً. فالقرية تطلق أحيانا على المدينة، والمدينة تطلق أحيانا على القرية بهذا الاعتبار، وهو أسلوب قرآنى تميز به القرآن عن كلام الناس. (ح) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ الزخرف: 31. هما مكة والطائف كما قال أكثر المفسرين، ويعنون بالرجلين: الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود من الطائف. أو هما عتبة بن ربيعة من مكة، وعمير بن عمرو بن مسعود من الطائف، أو غيرهم ممن يعظمونهم فى أنفسهم. (ط) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى النجم: 53. يعنى: مدائن قوم لوط، وهى التى أشار الله إليها بقوله فى سورة الحاقة وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ آية: 9. قال قتادة: (إنما سمّيت قرى قوم لوط «مؤتفكات» لأنها ائتفكت بهم، أى انقلبت). وذكر الطبرى عن محمد بن كعب القرظى قال: (خمس قريات صعبة، وصعرة، وعمرة، ودوما، وسدوم، وهى القرية العظمى). (¬9) (ك) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ النمل: 18. زعم بعض القصاصين أن هذا الوادى بأرض الشام، بل زعموا أن اسم النملة حرس، ووصفوها بأوصاف خيالية، وما كان أغناهم عن ذلك لو نزهوا كتاب الله عن ذكر ما طواه الله عنا. قال ابن كثير فى «تفسيره» عند هذه الآية: ومن قال من المفسرين إن هذا الوادى كان بأرض الشام أو بغيره، وإن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب أو غير ذلك من الأقاويل فلا حاصل لها. (ل) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي الأعراف: 143. وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ الأعراف: 171. ¬

(¬9) انظر الجامع لأحكام القرآن، لأبى عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى ط دار الكاتب العربى سنة 1387 هـ 1967 م. ج 18 ص 262. وراجع تاريخ الطبرى ص 343 من القسم الأول ط أوروبا.

الجبل فى الموضعين هو الطور، يدل على ذلك قوله تعالى فى سورة البقرة 63: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. (14) ومما أبهمه الله فى كتابه من الأزمنة: (أ) (الحين) فى قوله تعالى فى سورة إبراهيم: 25 تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها. وفى قوله- جل شأنه- فى سورة الروم: 17. فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وقوله فى سورة ص 3: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ. وقوله فى سورة الإنسان: 1 هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً. قال الراغب فى «مفرداته» (¬10): (الحين: وقت بلوغ الشيء وحصوله، وهو مبهم المعنى، ويتخصّص بالمضاف إليه، نحو قوله تعالى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ، ومن قال: حين (يعنى بغير إضافة)؛ فيأتى على أوجه: للأجل، نحو: وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ، وللسّنة نحو قوله تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها، وللساعة نحو: حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وللزمان المطلق، نحو: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ- وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ. وإنما فسر ذلك بحسب ما وجد .... ويقال: عاملته محاينة حينا وحينا، وأحينت بالمكان أقمت به حينا، وحان حين كذا أى قرب أوانه، وحيّنت الشيء جعلت له حينا، والحين عبّر به عن حين الموت). أهـ. (ب) أخبر الله- عز وجل- فى آيات كثيرة أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما فى ستة أيام، ولا ندرى هل هذه الأيام الستة كأيامنا هذه أم هى أيام أطول من ذلك بكثير، فهذا الإبهام يفسره- جل وعلا- بقوله: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ الحج: 47. وهذا التشبيه فى الآية- أيضا- فيه إبهام لأنه أمر تقديرى تقريبى يرضى فضولنا إلى حد ما. وهذا الإبهام يدعونا إلى التفويض فى مثل هذه الأمور؛ لأنها لا تخضع لعقولنا، ولكنها مع ذلك تفتح لنا أبوابا واسعة للتأمل والنظر فى هذا الكون الفسيح؛ لنعرف الأطوار التى مر بها، والأحوال التى لابسته منذ بدأ. والله- عز وجل- يقول: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ العنكبوت: 20 ¬

(¬10) انظر ص 138 ط مصطفى البابى الحلبى 1381 هـ- 1961 م.

(ج) وقد أبهم الله الليلة التى أنزل فيها القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة فى السماء الدنيا جملة واحدة. فقال- جل وعلا- فى سورة الدخان 3: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ثم زادها إيضاحا فقال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إلى آخر السورة. ثم أخبرنا أنها فى شهر رمضان بقوله فى سورة البقرة 185: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. ومع ذلك ظلت الليلة مبهمة، هل هى فى أوائل شهر رمضان أم فى وسطه، أم فى أواخره، وأى ليلة هى على وجه التحديد. وقد وردت أحاديث تفيد أنها فى الوتر من العشر الأواخر من رمضان. وهذا الإبهام يحملنا على تحريها فى العشر الأواخر كلها، بل يحملنا على الاجتهاد فى العبادة من أول الشهر إلى آخره، فكان هذا الإبهام خيرا لنا فى دنيانا وآخرتنا. (15) وقد أبهم الله ما ورد فى كتابه من الدواب لأنه لا يتعلق بوصفها فائدة. والبحث عن أوصافها وأنواعها، وغير ذلك مما يتعلق بها لا طائل تحته، وذلك مثل ناقة صالح وهدهد سليمان، والنملة التى قالت: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ وحمار عزير أو غيره، وكلب أصحاب الكهف، وغير ذلك. والقرآن الكريم كتاب هداية ومنهج حياة، وليس فيه من وراء ذلك مطلب؛ لهذا أبهم ما لا يتعلق بإظهاره فائدة، ولم يكلفنا الله بالبحث عنه لما فى ذلك من شغل القلب بما لا ينبغى أن يشغل به، ومضيعة الوقت فيما لا طائل تحته. أ. د/ محمد بكر إسماعيل

موهم الاختلاف والتناقض

موهم الاختلاف والتناقض (1) هذا باب عقده علماء التفسير؛ ليدفعوا عن القرآن شبها ترد على أذهان بعض من لا خبرة لهم بأساليبه ومقاصده وأصول تفسيره. وهذه الشّبهة التى عملوا جاهدين على تفنيدها ودحضها- بالحجة القاطعة والبرهان الساطع- هى مجرد خواطر ترد على الأذهان ثم لا تجد لها فى القرآن مكانا تستقر فيه؛ فتزول من تلقاء نفسها، أو بعد شىء من التدبر، أو بسؤال أهل العلم؛ فلا يبق لها أثر، لأنها من قبيل الوهم. والوهم- كما تقول كتب اللغة: ما يقع فى الذهن من الخاطر؛ يقال: وهم فلان: ذهب وهمه إلى الشيء وهو يريد سواه. والقرآن الكريم كتاب أحكمت آياته إحكاما لا يقبل التناقض بحال، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والتناقض فى القول: هو الاختلاف والتعارض والنقيضان فى الكلام: (ما لا يصح أحدهما مع الآخر، نحو: هو كذا وليس بكذا فى شىء واحد وحال واحدة) (¬1). قال أبو بكر الصيرفى فى شرح «رسالة الشافعى»: (جماع الاختلاف والتناقض: أن كل كلام صح أن يضاف بعض ما وقع الاسم عليه إلى وجه من الوجوه فليس فيه تناقض. وإنما التناقض فى اللفظ: ما ضاده من كل جهة على حسب ما تقتضيه الأسماء، ولن يوجد فى الكتاب ولا فى السنة شىء من ذلك أبدا؛ وإنما يوجد فيه النسخ فى وقتين، بأن يوجب حكما ثم يحلّه، وهذا لا تناقض فيه. وتناقض الكلام لا يكون إلا فى إثبات ما نفى، أو نفى ما أثبت، بحيث يشترك المثبت والمنفى فى الاسم والحدث والزمان والأفعال والحقيقة؛ فلو كان الاسم حقيقة فى أحدهما وفى الآخر مستعارا، ونفى أحدهما وأثبت الآخر- لم يعدّ تناقضا. هذا كله فى الأسماء، وأما المعانى- وهو باب القياس، فكلّ من أوجد علة وحررها ¬

(¬1) انظر المفردات للراغب مادة (نقض).

اسباب توهم التعارض

وأوجب بها حكما من الأحكام، ثم ادعى تلك العلة بعينها فيما يأباه الحكم، فقد تناقض) (¬2). (2) [اسباب توهم التعارض] وقد ذكر العلماء لتوهم التعارض أسبابا ترجع فى جملتها إلى ما يأتى: الأول: وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى: (أ) فقد أخبر الله- عز وجل- أنه خلق آدم من تراب. فقال إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ الآية: 59 من آل عمران. وأخبر أنه خلقه من طين، فقال: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ الآية: 7 من سورة السجدة. وأخبر أنه خلقه من صلصال من حمأ مسنون، فقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الحجر: 26. وأخبر أنه من صلصال كالفخار، كما جاء فى سورة الرحمن. فهذه أطوار خلقه بداية من التراب إلى الصلصال الذى يشبه الفخار، ذكر كل طور فى الموضع الذى يناسبه فى السياق والمضمون والنظم وغير ذلك من المناحى البلاغية. فالجمع بين ما ورد فى هذه الآيات وما يماثلها ممكن وبالتالى لا يكون بينها تعارض. (ب) وأخبر- جل شأنه- عن عصا موسى حين ألقاها بخبرين يتوهم متوهم أنهما متعارضان، وذلك فى قوله تعالى: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ الشعراء 32. وقوله جل شأنه: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ الآية: 31 من سورة القصص. (والجان: الصغير من الحيات، والثعبان: الكبير منها؛ وذلك لأن خلقها كخلق الثعبان العظيم، واهتزازها وحركاتها وخفتها كاهتزاز الجان وخفّته) (¬3). قاله الزركشى فى «البرهان»، ونقله عنه السيوطى فى «الإتقان». يضاف إلى هذين الخبرين خبر آخر جاء فى سورة طه: (20). قال- جل شأنه: فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى. فهذه الأخبار الثلاثة تدل على أطوار العصا فى تقلّبها؛ فهى فى أول أمرها بدت للناظرين حية صغيرة دقيقة، ثم تورّمت وتضاعف جرمها حتى صارت ثعبانا، فلا تعارض إذن فى هذه الأخبار. الثانى من الأسباب: اختلاف الموضوع أو الموضع: ¬

(¬2) راجع البرهان فى علوم القرآن ج 2 ص 53 - 54. (¬3) البرهان ج 2 ص 55، والإتقان ج 3 ص 94.

الثالث من الأسباب: اختلاف جهتى الفعل:

(أ) كقوله تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ الأعراف: 6، وقوله جل شأنه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ الصافات 24. مع قوله جل وعلا: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ المؤمنون: 101، وقوله سبحانه: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ الرحمن: 39. فباعتبار الموضوع يكون المعنى فى الآية الأولى: فلنسألنهم عن التوحيد وتصديق الرسل، ولنسألن المرسلين عن أحوال أممهم معهم فى شأن ما جاءوا به من ربهم. ويكون المعنى فى الآية الثانية: إنهم مسئولون عما كانوا يعبدون، وهذا المعنى قريب من الأول؛ لأنه يستلزم سؤالهم عن أحوالهم مع المرسلين الذين دعوهم إلى التوحيد الخالص فأعرضوا وكذبوا. وأما الثالثة فمعناها: لا يتساءلون بالأرحام كما كانوا يفعلون فى الدنيا. وأما الرابعة فمعناها: أنهم لا يسألون عن ذنوبهم؛ لأن الله حفظها عليهم، وكتبتها عليهم الملائكة؛ فهى كقوله تعالى: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (الآية: 78 سورة القصص) هذا باعتبار الموضوع. أما باعتبار الموضع، فهم فى موضع يسألون وفى موضع لا يسألون؛ فيوم القيامة طويل- كان مقداره فى علم الله خمسين ألف سنة؛ فإنهم حين يعرضون يسألون ويحاسبون، فإذا انتهى الحساب ذهب فريق إلى الجنة وذهب فريق إلى السعير. وقيل: (إن السؤال المثبت سؤال تبكيت وتوبيخ، والمنفى سؤال المعذرة وبيان الحجة) قاله السيوطى فى «الإتقان»، وهو يرجع إلى اختلاف الموضوع والموضع معا. فالله- عز وجل- لا يسألهم سؤال إخبار؛ فهو أعلم بهم من أنفسهم؛ فتعين أن يكون السؤال نوعا من التعذيب. وهذا السؤال له موضع أو مواضع يكون فيها مثبتا ومواضع أخرى يكون منفيا: (ب) مثل قوله تعالى فى سورة البقرة آية 174: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مع قوله- سبحانه- فى سورة الحجر: 92 - 93: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فالمنفى كلام التلطف والإكرام، والمثبت سؤال التوبيخ والإهانة. الثالث من الأسباب: اختلاف جهتى الفعل: (أ) كقوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى الآية 7 من سورة الأنفال.

فإنه يبدو لغير المتأمل أن فى هذا اجتماع الضدين، والجمع بين الضدين محال. والجواب: أن الجمع بين الضدين باعتبارين مختلفين جائز. فقد أضاف الله تعالى القتل إليهم والرمى إليه صلّى الله عليه وسلم على جهة الكسب والمباشرة، ونفاه عنهم وعنه باعتبار التأثير. (أى: فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم وقدرتكم، ولكن الله قتلهم بنصركم وتسلطكم عليهم وإلقاء الرعب فى قلوبهم. وما رميت تلك الرمية التى نتج عنها هذه الآثار العظيمة حقيقة حين فعلتها صورة). أفاده أبو السعود فى تفسيره (¬4). (ب) ومثله قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ البقرة: 29، وقوله سبحانه: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها مع قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها النازعات: 27 - 30. فهذه الآيات تبدو لمن لا علم له بأساليب البيان فى القرآن أنها متعارضة، مع أن الجمع بينها ممكن فنقول: إن الله- عز وجل- بيّن لنا فى آية البقرة أنه خلق الأرض وما فيها إجمالا، ثم خلق سبع سماوات لم يبين لنا كيف بناها وكيف أغطش ليلها وأخرج ضحاها؛ بناء على ما تقدم نزوله فى سورتى فصلت والنازعات. وبين لنا فى سورة فصلت أنه خلق الأرض فى يومين وجعل لها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها فى يومين آخرين بالإضافة إلى اليومين الأولين فيصير مجموع الأيام أربعة، ثم بيّن أنه استوى إلى السماء وهى دخان فقضاهن سبع سماوات فى يومين. وبذلك يزول بعض الإشكال، ويبقى بعضه، وهو ما يتعلق بالجمع بين هذه الآيات وآيات النازعات. والجواب أن يقال: إن الله- تعالى- خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا فى يومين، ¬

(¬4) المجلد الثانى ص 477.

ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسى والأنهار وغير ذلك، فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء، يدل لهذا أنه قال: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ولم يقل خلقها، ثم فسر دحوه إياها بقوله: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها. وقد نسب هذا القول لابن عباس رضى الله عنهما وغيره، وبهذا يزول ما تبقى من الإشكال، والحمد الله. الرابع من الأسباب: الاختلاف فى الحقيقة والمجاز: (أ) كما فى قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا الآية 51 الأعراف، وقوله سبحانه: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ الآية 67 من سورة التوبة، وقوله- جل شأنه: وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى الآية 126 من سورة طه، وقوله تبارك اسمه: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ الآية 34 من سورة الجاثية. فإنه لا يتعارض مع قوله عز جاهه: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الآية 52 من سورة طه، وقوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا الآية 64 من سورة مريم. لأن معنى: «فاليوم ننساهم» ونحوه: نتركهم فى العذاب محرومين من كل خير. (ب) ومثله قوله تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ الآية: 2 من سورة الحج. أى: سكارى من الأهوال مجازا لا من الشراب حقيقة. الخامس من الأسباب: أن يأتى الكلام محتملا لوجهين فيحمل كل وجه على اعتبار يناسبه ولا يتناقض مع غيره: (أ) كقوله تعالى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ الآية 22 من سورة ق، مع قوله تعالى: خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ الآية 45 من سورة الشورى. فيحمل البصر فى الآية على العلم لا على النظر بالعين، ويدل على ذلك قوله فى الآية: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فبذلك التأويل يزول الإشكال. (ب) ومثله قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الرعد: 28، مع قوله- عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الأنفال: 2. فقد يظن أن الوجل خلاف الطمأنينة، وجوابه أن الطمأنينة إنما تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد، والوجل يكون عند

خوف الزيغ والذهاب عن الهدى فتوجل القلوب لذلك. وقد جمع بينهما فى قوله: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ الآية 23 من سورة الزمر، فإن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثقوا به، فانتفى عنهم الشك (¬5). أه. هذه هى أهم الأسباب التى تؤدى إلى توهم التعارض بين بعض النصوص القرآنية. وقد عرفنا طريقة الجمع بين ما يبدو لغير المتأمل أنه متعارض، وذكرنا قول الصيرفى فى هذا. ونضيف إليه ما قاله أبو إسحاق الإسفرايينى فى تعذر الجمع؛ تتمة للفائدة. قال- رحمه الله: (إذا تعارضت الآى، وتعذر فيها الترتيب والجمع؛ طلب التاريخ وترك المتقدم منها بالمتأخر، ويكون ذلك نسخا له، وإن لم يوجد التاريخ وكان الإجماع على استعمال إحدى الآيتين علم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل به. ولا يوجد فى القرآن آيتان متعارضتان تعريان عن هذين الوصفين). (¬6) أهـ. (3) وخلاصة هذا البحث: أن من تدبّر فى كتاب الله- تعالى- وكان مزوّدا بالعلم ونور البصيرة- لن يجد فيه تناقضا ولا اختلافا أبدا. يقول الله- عز وجل-: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. وفى دعوة القرآن إلى تدبره تكريم للإنسان وتنبيه له إلى الوظيفة التى خلق من أجلها، وشهادة له من الله- تبارك وتعالى- على قدرته فى استقبال ما يراه وما يسمعه بفكر لو استعمله بحق لعرف قدر نفسه، وأدرك الحكمة من خلقه، واستوعب الدرس من كتاب ربه، وعلم علم اليقين أن هذا القرآن كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد نزل على الرسول صلّى الله عليه وسلم بحضرة رجال كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا أو مطعنا، وهم أصحاب ملكات قوية فى الفصاحة والبيان، وقد تحداهم الله أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا كل العجز؛ فدل ذلك على أن غيرهم أعجز، فلا يدّعى مدّع أن فى هذا القرآن شيئا ما من التناقض. فمن فعل فقد سفه نفسه وفقد حسه وتولى كبره. ¬

(¬5) البرهان ج 2 ص 62. (¬6) المرجع السابق ج 2 ص 48.

ومن الإنصاف للحق أن الإنسان إذا سوّلت له نفسه أن شيئا فى القرآن يثير تساؤلا، أن يعمل عقله مستعينا بعقل غيره إن لم يسعفه عقله، ثم يعيد النظر مرة بعد مرة متجردا من المذهبية والتقليد والهوى؛ فإنه سيؤمن إيمانا لا يخالجه شك بهذه الحقيقة التى استقرت فى قلب كل منصف وإن لم يكن مسلما؛ فالحق واحد لا يتعدد ولا يتناقض ولا يختلف عليه اثنان على مر الزمان. وقد صنف فى هذا الباب رجال نبغوا فى العلوم الشرعية واللغوية، ونالت مصنفاتهم شهرة وقبولا عند أهل العلم قديما وحديثا، وأرى من الخير أن أذكر هنا ما تيسر لى الاطلاع عليه منها: (أ) «الرد على الملحدين فى تشابه القرآن» تأليف الإمام محمد بن المستنير بن أحمد، أبو على الشهير بقطرب المتوفى سنة (206 هـ 821 م) ذكره الزركشى فى «البرهان». (ب) «تأويل مشكل القرآن» تأليف أبى محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (213 - 276 هـ 828 - 889 م) شرحه ونشره السيد أحمد صقرط الثانية (1393 هـ 1973 م) بدار التراث بالقاهرة. وقد جمع ابن مطرف الكنانى بين كتابيه: مشكل القرآن وغريبه فى كتاب واحد من جزءين أسماه: «القرطين». طبعته مكتبة الخانجى بالقاهرة، الطبعة الأولى سنة: 1355 هـ، وهو أيسر للباحث المبتدئ فى تناول ما يريده؛ لأن ابن مطرف رتبه على السور بخلاف ترتيب المؤلف. وقد خطأه فى ذلك السيد أحمد صقر وعاب عليه سوء صنيعه فى مقدمة تحقيقه لكتاب التأويل. (ج) «تنزيه القرآن عن المطاعن» لقاضى القضاة: عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذانى ت (415 هـ 1025 م). طبعته دار النهضة الحديثة- بيروت- لبنان. (د) «الأنموذج الجليل فى أسئلة وأجوبة من غرائب آى التنزيل» للإمام زين الدين: محمد ابن أبى بكر بن عبد القادر بن عبد المحسن الرازى الحنفى- ت (666 هـ- 1268 م). طبعته شركة مصطفى البابى الحلبى بتحقيق الشيخ إبراهيم عطوة عوض، تحت عنوان: «مسائل الرازى وأجوبتها من غرائب آى التنزيل». وصدرت طبعته الأولى سنة: (1381 هـ 1961 م). وقد نشره الأزهر تباعا فى أجزاء صغيرة هدية على مجلته الغراء بعنوانه الذى اختاره له المؤلف، بداية من شهر المحرم (1410 هـ 1989 م) إلى رجب من العام نفسه، توفر على مراجعته لجنة من محررى المجلة.

(هـ) «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب» تأليف: محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكنى الشنقيطى (1325 - 1393 هـ 1907 - 1973 م) الناشر مكتبة ابن تيمية بالقاهرة. (و) «فتح الرحمن بكشف ما يلتبس فى القرآن» تأليف قاضى القضاة شيخ الإسلام أبى يحيى: زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصارى (823 - 926 هـ 1420 - 1520 م). حققه وقدم له وعلق عليه، وتقدم به إلى كلية أصول الدين بالقاهرة لنيل درجة التخصص (الماجستير) فى التفسير وعلوم القرآن- عبد السميع محمد أحمد حسنين، ثم طبع فى مكتبة الرياض الحديثة بالمملكة العربية السعودية عام 1404 هـ- 1984 م. ومن المفيد فى هذا الموضوع الرجوع إلى كتب التفسير بالمعقول والمنقول، ومن أهمها: - «جامع البيان عن تأويل آى القرآن»، لابن جرير الطبرى. - «مفاتيح الغيب» لفخر الدين الرازى. - «أنوار التنزيل وأسرار التأويل»، لعبد الله ابن عمر البيضاوى. - «الجامع لأحكام القرآن»، للقرطبى. - «تفسير القرآن العظيم»، لابن كثير. أ. د/ محمد بكر إسماعيل

النسخ فى القرآن

النسخ فى القرآن (1) [معانى النسخ فى اللغة] معانى النسخ فى اللغة تدور حول: الرفع والإزالة، والنقل والتبديل والتحويل (¬1). يقال: نسخت الشمس الظّلّ أى: أزالته ورفعته؛ فإن الظل لا يبقى فى ذلك المكان بعد وجود الشمس فيه. ويقال: نسخت الكتاب، أى نقلت مثل ذلك المكتوب إلى محل آخر. وقد استعمل القرآن الكريم مادة النسخ فى هذه المعانى وما يماثلها. أما الرفع والإزالة فقد جاء فى قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ البقرة: 106. وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ الحج: 52. وأما النقل فقد جاء فى قوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الجاثية: 29. أى: ننقله بعناية ودقة، ونثبته فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وأما التبديل والتحويل فقد جاء فى قوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ النحل: 101. (2) [اختلاف العلماء فى تعريف النسخ] وقد اختلف علماء الفقه والأصول فى تعريف النسخ اختلافا كثيرا، نختار أهمها وأولاها بالقبول: (أ) عرفه السمرقندى فى كتابه «ميزان الأصول» (¬2) بقوله: (هو بيان انتهاء الحكم الشرعى المطلق- الذى فى تقدير أوهامنا استمراره لولاه- بطريق التراخى) أهـ. (ب) وعرفه الآمدى فى كتابه: «الإحكام فى أصول الأحكام» (¬3) فقال: (هو عبارة عن خطاب الشارع المانع من استمرار ما ثبت من حكم خطاب شرعى سابق). أهـ. (ج) والتعريف الأشهر والأيسر أن يقال فيه: هو رفع الحكم الشرعى بدليل شرعى متأخر عنه. ¬

(¬1) لسان العرب لابن منظور ط دار المعارف المصرية، ومقاييس اللغة لابن فارس. (¬2) ج 2 ص 978 تحقيق د/ عبد الملك عبد الرحمن السعدى ط وزارة الأوقاف السعودية سنة 1407 هـ/ 1987 م (¬3) ج 3 ص 155 ط دار الكتب العلمية بيروت- لبنان 1400 هـ- 1980 م

(3) استدلال جمهور العلماء على جواز النسخ

فهذا التعريف قد أخرج تخصيص العام، وتقييد المطلق بالاستثناء أو بالصفة أو بالحال أو بالزمان أو بالمكان، وغير ذلك من أنواع التخصيص والتقييد. ومعنى رفع الحكم الشرعى: قطع تعلقه بأفعال المكلفين لا رفعه هو؛ فإنه أمر واقع، والواقع لا يرتفع. والحكم الشرعى: هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين إما على سبيل الطلب أو الكف أو التخيير. وإما على سبيل كون الشيء سببا أو شرطا أو مانعا، أو صحيحا أو فاسدا. والدليل الشرعى: هو وحى الله مطلقا متلوا أو غير متلو، فيشمل الكتاب والسنة. وهذا التعريف أراه جامعا لأركانه وشروطه، مانعا من دخول الغير فيهما. وبسط ذلك فى الكتب المطولة. (3) [استدلال جمهور العلماء على جواز النسخ] واستدل جمهور العلماء على جواز النسخ بالعقل والنقل والتاريخ. أما العقل فلا يمنع جوازه؛ لأنه لا يترتب على وقوعه محال. والواقع التاريخى- أيضا- يؤكد وقوع النسخ بنوعيه: نسخ الشرائع السابقة بالإسلام، ونسخ الحكم فى شريعة الإسلام بحكم آخر متأخر عنه، والوقوع خير شاهد على الجواز. وقد اعتمد المجوّزون له على ثلاث آيات من القرآن الكريم: الأولى: قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ البقرة: 106. الثانية: قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ الرعد: 39. الثالث: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ النحل: 101. فإذا قرأت أكثر كتب المفسرين، وجدتهم يحملون النسخ فى آيتى البقرة والنحل على نسخ الحكم، ووجدت بعضهم يحمله على نسخ الحكم والتلاوة. أما آية الرعد، فقد حملها أكثرهم على نسخ الشرائع، فكل شريعة تنسخ الأخرى، وشريعتنا ناسخة لجميعها، بمعنى، أنها نسخت كثيرا من الأحكام الجزئية التى لا تتفق مع مصالحنا الدنيوية والأخروية. فالشريعة السماوية لا تنسخ الأصول العامة ولا القواعد الكلية؛ لأنها متفقة عليها، لا تختلف فيها شريعة عن أخرى.

(4) امور لا بد منه فى تحقيق النسخ

على أن المحو والإثبات فى الآية يتناول كل ما من شأنه أن يمحى، وكل ما من شأنه أن يثبت؛ فيدخل فيها نسخ الأحكام الجزئية فى شريعتنا بمقتضى هذا العموم. لهذا جعلها كثير من العلماء من أدلة الجواز. (4) [امور لا بدّ منه فى تحقيق النسخ] (ولعلك تدرك مما سبق أنه لا بدّ فى تحقيق النسخ من أمور أربعة: أولها: أن يكون المنسوخ حكما شرعيا. ثانيها: أن يكون دليل رفع الحكم دليلا شرعيا. ثالثها: أن يكون هذا الدليل الرافع متراخيا عن دليل الحكم الأول غير متصل به، كاتصال القيد بالمقيد والتأقيت بالمؤقت. رابعها: أن يكون بين ذينك الدليلين تعارض حقيقى. تلك أربعة لا بدّ منها لتحقق النسخ باتفاق جمهرة الباحثين، وثمة شروط اختلفوا فى شرطيتها: منها أن يكون ناسخ القرآن قرآنا وناسخ السنة سنة، ومنها كون النسخ مشتملا على بدل للحكم المنسوخ، ومنها كون الناسخ مقابلا للمنسوخ مقابلة الأمر للنهى والمضيّق للموسّع، ومنها كون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين، إلى غير ذلك مما يطول شرحه) (¬4) أه. (5) [موقع النسخ] ولا يقع النسخ إلا فى الأحكام الشرعية العملية الثابتة بالنص غير المؤقتة بوقت؛ لأنها تنتهى بوقتها المحدد لها، ولا فى الأحكام المنصوص على تأبيدها؛ لأن النسخ فيها يتناقض مع التأبيد بشرط أن يكون التأبيد منصوصا عليه. ولا يلحق القواعد الكلية التى تندرج تحتها الفروع الجزئية؛ لأن هذه القواعد مقاييس تبنى عليها الأحكام. ولا نسخ فى الأمور الاعتقادية المتعلقة بذات الله- تعالى- وصفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ولا نسخ فى الأصول الأخلاقية؛ لأنها من الأمور المتفق عليها فى الشرائع السماوية. ولا نسخ فى أصول العبادات والمعاملات؛ لأن الشرائع كلها لا تخلو منها وهى متفقة فيها. ولا يدخل النسخ الخبر الصريح الذى ليس بمعنى الطلب، كالقصص والوعد والوعيد. (6) [طرق معرفة الناسخ والمنسوخ] والطرق التى يعرف بها الناسخ والمنسوخ كثيرة، ينبغى أن نعلم قبل أن نذكرها إجمالا أن النسخ يتضمن رفع حكم تقرر من جهة ¬

(¬4) مناهل العرفان فى علوم القرآن للشيخ/ محمد عبد العظيم الزرقانى ج 2 ص 76 ط عيسى الحلبى وشركائه.

الشارع وإثبات حكم، ومثل هذا لا يحل لمسلم أن يقول فيه إلا بيقين. فمن قال فى شىء: إنه منسوخ؛ فقد أوجب ألا يطاع هذا الأمر الصادر عن الله أو عن رسوله صلّى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن نسقط طاعة أمرنا بها الله- تعالى- ورسوله إلا ببرهان. وفى هذا يقول ابن الحصار: (إنما يرجع فى النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو عن صحابى يقول: آية كذا نسخت كذا. وقال: ولا يعتمد فى النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح. ثم قال: والناس فى هذا بين طرفى نقيض؛ فمن قائل: لا يقبل فى النسخ أخبار الآحاد العدول، ومن متساهل يكتفى فيه بقول مفسر أو مجتهد، والصواب: خلاف قولهما) (¬5). وتوضيح ذلك: أنه لا سبيل إلى معرفة نسخ آية أو حديث بغير أحد وجوه ثلاثة: الوجه الأول: النص الصريح الصحيح بأن هذا الأمر ناسخ لكذا، أو أمر صريح بترك الأمر الأول. مثاله: قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ البقرة: 143. ثم قوله: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها. فهذا دليل واضح على أن القبلة التى كانت قبل هذه منسوخة. ومثل قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ البقرة:187. فهذا النص صريح فى نسخ النهى عن الوطء فى ليل رمضان على رأى من قال بالنسخ. الوجه الثانى: إجماع الأمة بلا خلاف يعتد به على أن أمر كذا منسوخ. ومن المعلوم أن الإجماع يستند دائما إلى دليل. الوجه الثالث: تعارض الأدلة المتساوية تعارضا تاما مع معرفة الأمر المتقدم زمنا من المتأخر، وتفصيل المسألة: أن النصين إما أن يتعارضا من جميع الوجوه، أو من وجه دون وجه، فإن تعارضا من وجه دون وجه جمع بينهما. وإن تعارضا من جميع الوجوه فإن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا، أو كان أحدهما ¬

(¬5) انظر الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى ج 3 ص 81 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

(7) اقسام النسخ

أقوى من الآخر فى الثبوت عمل بالأقوى، وأهمل الآخر. وإن تعارضا من جميع الوجوه، وتكافئا فى الثبوت وعلم الأمر المتقدم منهما والمتأخر صرنا إلى النسخ. أما إن تعارضا من جميع الوجوه، وتكافئا فى الثبوت، ولم يعلم المتقدم والمتأخر فلا يصار إلى النسخ بالاجتهاد؛ بل يجب التوقف عنهما أو التخير بينهما. وعلى هذا فلا يعتمد على: (الاجتهاد من غير دليل، ولا على أقوال المفسرين من غير سند، ولا على مجرد التعارض الظاهرى بين النصوص، ولا على ثبوت أحد النصين فى المصحف بعد الآخر؛ لأنه ليس على ترتيب النزول) (¬6). (هذا كله إذا لم يمكن الجمع بين النصين بوجه من وجوه التخصيص والتأويل، وإلا وجب الجمع؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إعمال دليل وإهدار آخر، ولأن الأصل فى الأحكام بقاؤها وعدم نسخها فلا ينبغى أن يترك استصحاب هذا الأصل إلا بدليل بيّن) (¬7). (7) [اقسام النسخ] وقسم بعض العلماء النسخ أقساما متعددة باعتبارات مختلفة، نذكر بعضها بإيجاز فنقول كما قالوا: (أ) ينقسم النسخ باعتبار التلاوة والحكم إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما نسخت تلاوته وبقى حكمه: فقد روى أنه كان فى سورة النور آية ثم نسخت تلاوتها وبقى حكمها وهى: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله». وروى أن عمر قال: «لولا أن يقول الناس: زاد عمر فى كتاب الله لكتبتها بيدى». وقد أنكر كثير من العلماء هذا الضرب لعدم فهمهم الحكمة منه؛ ولضعف دليله لأنه من قبيل أحاديث الآحاد التى يتطرق إليها الاحتمال فيسقط به الاستدلال. وقد بالغ الدكتور مصطفى زيد فى إنكار هذا الضرب بالطعن فى صحة النصوص الواردة فى ذلك فقال فيما قال: (أما الآثار التى يحتجون له بها .. وهى تنحصر فى آيتى رجم الشيخ والشيخة إذا زنيا، وتحريم الرضعات الخمس- فمعظمها مروى عن عمر وعائشة رضى الله عنهما، ونحن نستبعد صدور مثل هذه الآثار عنهما، بالرغم من ورودها فى الكتب الصحاح؛ فإن صحة السند لا تعنى فى كل الأحوال سلامة المتن. على أنه قد ورد فى الرواية عن عمر قوله بشأن حد الرجم فيما زعموا: «ولولا أن ¬

(¬6) انظر اللآلئ الحسان فى علوم القرآن د/ موسى شاهين لاشين مطبعة الفجر الجديد بالقاهرة. (¬7) مناهل العرفان ج 2 ص 107.

الثانى من الأقسام: ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته:

يقال: زاد عمر فى المصحف لكتبتها» وهو كلام يوهم أنه لم ينسخ لفظا أيضا مع أنهم يقولون: إنها منسوخة اللفظ باقية الحكم. كذلك ورد نص الآية فى الروايات التى أوردته بعبارات مختلفة، فواحدة منها تذكر قيد الزنا بعد ذكر الشيخ والشيخة، وواحدة لا تذكره، وثالثة تذكر عبارة «نكالا من الله» ورابعة لا تذكرها. وما هكذا تكون نصوص الآيات القرآنية ولو نسخ لفظها. وفى بعض هذه الروايات جاءت بعض العبارات التى لا تتفق ومكانة عمر ولا عائشة مما يجعلنا نطمئن إلى اختلاقها ودسها على المسلمين (¬8). الثانى من الأقسام: ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته: وهو كثير فى الكتاب والسنة، ومن أجله صنفت الكتب، ولا سيما إذا أخذنا فى اعتبارنا مفهومه الواسع المنسوب إلى الصحابة وكثير من التابعين؛ إذ أدخلوا فيه تخصيص العام وتقييد المطلق كما سيأتى بيانه فيما بعد. (وقد أنكر قوم هذا الضرب بدعوى أن التلاوة والحكم متلازمان، فلا يصح رفع أحدهما مع بقاء الآخر، ورفع الحكم بجعل التلاوة خالية من الفائدة فلا يجوز. ثم إن نسخ الحكم مع بقاء التلاوة .. يوهم بقاء الحكم؛ فيعرض المكلف للجهل والخلط فى الشريعة والأحكام. وردّ على هذه الشبهة برد دعوى التلازم، فالآية بعد نسخ حكمها لا تكون خالية من الفائدة، بل معناها قائم عطل العمل به دليل آخر؛ وفى ثبوتها تذكير بنعمة الله- تعالى- إذا كان الحكم المنسوخ أشد، واختبار بالانصياع والتسليم إذا كان الحكم المنسوخ أخف، ثم فى تلاوتها تعبد وأجر. أما شبهة إيهام بقاء الحكم، وتعريض المكلف للجهل والخلط فهى مردودة بأن النسخ لا يصار إليه إلا بدليل معلوم للمكلف، وإذا علم الدليل الناسخ زال الجهل وبعد احتمال الخلط فى الأحكام) (¬9). والثالث من الأقسام: نسخ الحكم والتلاوة معا: قال الزركشى فى «البرهان» (¬10): (فلا تجوز قراءته ولا العمل به، كآية التحريم بعشر رضعات فنسخن بخمس؛ قالت عائشة- رضى الله عنها: «كان مما أنزل عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهى مما يقرأ من القرآن» (¬11). وقد تكلموا فى قولها: «وهى مما يقرأ» فإن ظاهره بقاء التلاوة؛ وليس كذلك، فمنهم ¬

(¬8) النسخ فى القرآن الكريم ج 2 ص 283. (¬9) اللآلئ الحسان ص 202 - 203. (¬10) ج 2 ص 39 - 40. (¬11) رواه مسلم: 2/ 1075، والترمذى 3/ 456، وأبو داود بذل المجهود 9/ 44.

(8) وينقسم النسخ. أيضا. إلى قسمين: نسخ ببدل، ونسخ بغير بدل.

من أجاب بأن المراد قارب الوفاة، والأظهر أن التلاوة نسخت أيضا ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتوفى وبعض الناس يقرؤها. وقال أبو موسى الأشعرىّ: «نزلت ثم رفعت». وجعل الواحدى من هذا ما روى عن أبى بكر رضي الله عنه قال: «كنا نقرأ: «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر». وفيه نظر. وحكى القاضى أبو بكر فى «الانتصار» عن قوم إنكار هذا القسم؛ لأن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها. وقال أبو بكر الرازى: نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم، ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه فى المصحف، فيندرس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التى ذكرها فى قوله: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى الأعلى: 18 - 19. ولا يعرف اليوم منها شىء، ثم لا يخلو ذلك من أن يكون فى زمن النبى صلّى الله عليه وسلم حتى إذا توفّى لا يكون متلوا فى القرآن؛ أو يموت وهو متلوّ موجود فى الرسم، ثم ينسيه الله ويرفعه من أذهانهم، وغير جائز نسخ شىء من القرآن بعد وفاة النبى صلّى الله عليه وسلم). وقال السمرقندى فى «ميزان الأصول» (¬12): (أما الجواز فإن نسخ التلاوة- هو صرف القلوب عن حفظ القرآن الدال على كلام الله تعالى- فجائز أن ينتهى الحكم لانتهاء المصلحة وتنسى التلاوة. أما عين كلام الله تعالى: فلا يتصور عليه النسخ؛ فإنه قديم. قال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ الأعلى: 6. ولكن هذا فى حال جواز النسخ، وهو حال حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم. فأما بعد وفاته- فلا؛ لأن الله- تعالى- أخبر أنه هو الحافظ لهذا القرآن بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أى نحفظه منزلا لا يلحقه تغيير ولا تبديل؛ صيانة للدين الحق إلى آخر الدهر. (8) وينقسم النسخ. أيضا. إلى قسمين: نسخ ببدل، ونسخ بغير بدل. أما القسم الأول: فلا خلاف فيه بين العلماء، وأمثلته كثيرة سيأتيك كثير منها إلى جانب ما قد مضى ذكره. ومعناه: أن الشارع الحكيم إذا نسخ حكما أبدله بحكم أخف منه أو أثقل منه، أو مساو له؛ لحكمة نعلمها أو لا نعلمها. ¬

(¬12) ج 2 ص 1008 - 1009.

أما النسخ إلى غير بدل فقد وقع فيه الخلاف بين الأصوليين، فمنهم من منعه، ومنهم من أجازه. ومن المانعين له الشافعى رضي الله عنه، وهو أول من وضع علم الأصول على الراجح من أقوال المؤرخين. فقد قال فى «الرسالة» (¬13): (وليس ينسخ فرض أبدا إلا أثبت مكانه فرض، كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة، وكل منسوخ فى كتاب وسنة هكذا). ومن المجوزين له: الآمدى فهو يقرر فى كتاب «الإحكام» (¬14) أن مذهب الجميع جواز نسخ حكم الخطاب لا إلى بدل خلافا لمن شذ منهم. واستدل على وقوعه بأدلة كثيرة، وضرب لذلك أمثلة من القرآن، منها: (أ) قوله تعالى فى سورة المجادلة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ آية: 12. ثم نسخ حكمها فى الآية التى بعدها، دون أن يأتى بتكليف آخر يحل محل التكليف الأول، وذلك فى قوله جل شأنه: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ آية: 13. (ب) ونسخ الله الاعتداد بحول كامل فى حقّ المتوفّى عنها زوجها، بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة: 240. وقد كانت أربعة أشهر وعشرا، كما فى قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً البقرة آية: 234. (ج) ونسخ وجوب ثبات الرجل لعشرة فى القتال فقال: جل شأنه أولا: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الأنفال: 65. ثم قال بعدها مباشرة: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. إلى آخر ما قال. (د) ونحن إذا نظرنا إلى خلاف العلماء حول النسخ إلى غير بدل وجدناه فى الحقيقة ¬

(¬13) ص 328. (¬14) انتهى بتصرف وإيضاح من الإحكام فى أصول الأحكام ج 3 ص 195.

(9) وينقسم النسخ من جهة أخرى إلى ثلاثة أقسام:

خلافا حول مفهوم البدل نفسه، لا حول اشتراطه، فإن مفهوم البدل ومعناه العام يشمل أمرين: الرد إلى ما كان قبل شرع الحكم المنسوخ وهو البراءة الأصلية، أو الإباحة. ونقل الحكم المنسوخ إلى حكم آخر، فكلاهما يسمى بدلا، فلا إشكال إذن ولا خلاف؛ لأن رد الحكم إلى الإباحة هو نسخ إلى بدل؛ لأن الإباحة نوع من أنواع الخطاب. (9) وينقسم النسخ من جهة أخرى إلى ثلاثة أقسام: الأول: نسخ الأثقل بالأخف، وهو الغالب والكثير. والثانى: نسخ الحكم بحكم آخر مساو له. كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة بقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ البقرة: 144. والثالث: نسخ الأخف بالأثقل، وهو قليل. كنسخ حبس الزوانى بالجلد والرجم، ولا شك أن الضرب بالحجارة حتى الموت أثقل من الحبس. ومنع بعض العلماء هذا النوع بدعوى أن الله يريد بنا اليسر فى تشريعاته كلها، كما قال جل شأنه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. وقال عز من قائل: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ. والجواب عن هذه الشبهة أن العسر واليسر والخفة والثقل من الأمور الإضافية، فما من أمر خفيف إلا وهو ثقيل بالإضافة إلى ما هو أخف منه، وما من أمر ثقيل إلا وهو خفيف بالإضافة إلى ما هو أثقل منه، وكل ما أمر الله- تعالى- به يسر لنا إذ فوقه ما هو عسير وعسير، وكل ما نقلنا إليه من أحكام تخفيف علينا بالنسبة لما فى علمه من مشاق، ولو أن المقصود التخفيف المطلق، واليسر المطلق لكانت ركعة واحدة فى الصلاة مثلا أخف بكثير مما هى عليه، ثم إنه قد وقع النسخ بالأشد فلا سبيل إلى إنكاره ومنعه. (10) قال السيوطى فى «الإتقان»: (قال بعضهم: سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ أقسام: قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، وهو ثلاث وأربعون: سورة الفاتحة، ويوسف، ويس، والحجرات، والرحمن، والحديد، والصف، والجمعة، والتحريم، والملك، والحاقة، ونوح، والجن، والمرسلات، وعم،

والنازعات، والانفطار، وثلاث بعدها، والفجر وما بعدها إلى آخر القرآن إلا التين والعصر والكافرون. وقسم فيه الناسخ والمنسوخ، وهو خمس وعشرون: البقرة وثلاث بعدها، والحج، والنور وتاليها، والأحزاب، وسبأ، والمؤمن، والشورى، والذاريات، والطور، والواقعة، والمجادلة، والمزمل، والمدثر، والتكوير، والعصر. وقسم فيه الناسخ فقط، وهو ست: الفتح، والحشر، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والأعلى. وقسم فيه المنسوخ فقط، وهو الأربعون الباقية) (¬15). هذا. والسور التى ذكر السيوطى أنها تشتمل على ناسخ فقط، أو ناسخ ومنسوخ معا، يحمل على النسخ بمعناه الواسع الذى يشمل ما كان مطلقا فقيد إطلاقه، وما كان عاما فخصص عمومه بنوع من أنواع التخصيص، أو كان مبهما فأزيل إبهامه، أو كان غير مؤقت فأقت، ونحو ذلك. وهو مفهوم الصحابة للنسخ كما سيأتى بيانه. (11) الآيات التى قيل إنها منسوخة عدها السيوطى اثنتين وعشرين آية بعد أن ضيق مفهوم النسخ بعض الشيء وبين الناسخ لها ونظمها فى قصيدة لتحفظ. وإليك هذه الآيات وما ذكره فى شأنها- مع مناقشته فى بعض ما ذهب إليه. الأولى: قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (البقرة): 180. قيل: هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وقيل: بحديث «لا وصية لوارث» (¬16)، وقيل: بالإجماع، حكاه ابن العربى. وقد نازعه فى نسخ هذه الآية جماعة من أهل العلم، وقالوا: إنها محكمة، وهو الظاهر لى. قال القاسمى فى «محاسن التأويل» (¬17) بعد أن ذكر ما ذهب إليه السيوطى: (ذهبت طائفة إلى أن الآية محكمة لا تخالف آية المواريث، والمعنى: كتب عليكم ما أوصاكم به من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ. أو كتب على المحتضر: أن يوصى للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم، وأن لا ينقص من أنصبائهم .. ولو فرض المنافاة لأمكن جعل آية الميراث مخصصة لهذه الآية، بإبقاء القريب الذى لا يكون وارثا لأجل صلة الرحم .... ¬

(¬15) ج 3 ص 69 - 70. (¬16) الحديث أخرجه الترمذى فى كتاب الوصايا، باب ما جاء فى: (لا وصية لوارث) عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول: «إن الله قد أعطى كل ذى حق حقه، فلا وصية لوارث». (¬17) ج 3 ص 411 وما بعدها.

قالوا: ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين الوارثين لا يستلزم نسخ وجوبها فى غيرهم). الثانية: قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ. ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. واعتمدوا فيما ذهبوا إليه على آثار كثيرة وردت فى صحيح البخارى ومسلم ومسند أحمد. لكن قد ورد ما يفيد أنها محكمة؛ فقد روى البخارى فى التفسير عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقول فى هذه الآية: «ليست منسوخة، وهو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان كل يوم مسكينا». الثالثة: قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ البقرة: 187. قيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فقد روى أن شهر رمضان قد فرض على الذين من قبلنا على الوجه الذى كان مفروضا على المسلمين قبل نزول هذه الآية الناسخة، بمعنى أنهم قد كتب عليهم أنه إذا صلّى أحدهم العشاء ونام حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها من الليلة المقبلة. وهذا ما رواه أبو جعفر الرازى عن الربيع ابن أنس عمن حدثه عن ابن عمر. ونحن لا ندرى على وجه اليقين أن الصوم قد فرض على الذين من قبلنا على هذا النحو، فيكون الأصح الذى تطمئن إليه النفس أن هذه الآية ناسخة للسنة التى كان عليها المسلمون فى أول الإسلام. الرابعة: قوله جل شأنه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ البقرة: 217. ذكر القرطبى وغيره من المفسرين: (أن العلماء اختلفوا فى نسخ هذه الآية، فالجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين فى الأشهر الحرم مباح. واختلفوا فى ناسخها: فقال الزهرى: نسخها وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً التوبة 36. وقيل: نسخها غزو النبى صلّى الله عليه وسلم ثقيفا فى الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس فى الشهر الحرام. وكان عطاء يقول: الآية محكمة، ولا يجوز القتال فى الأشهر الحرام، ويحلف على ذلك؛

لأن الآيات التى وردت بعد عامة فى الأزمنة، وهذا خاص، والعام لا ينسخ الخاص باتفاق) (¬18). الخامسة: قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة: 240. (قيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً البقرة: 234. وهى متقدمة عليها فى الترتيب مؤخرة عنها فى النزول. وذهب جماعة من المفسرين إلى أنها محكمة لا نسخ فيها وهو الراجح عندى. وبيان ذلك: أن الآية الأولى فى ترتيب المصحف فرضت على المرأة أن تعتد فى بيت الزوجية أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليهن، لا تخرج فيها من بيتها إلا لحاجتها الضرورية، ولا تتزين للرجال، ولا تتعرض لهم من أجل الزواج، حتى تنقضى عدتها. والآية الثانية فى الترتيب أقرت حكم الآية الأولى من وجوب العدة أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليهن، مع إفادة استحباب أن تكون العدة حولا. وهذا الاستحباب إما أن يكون وصية من الله للورثة؛ مبالغة فى تكريم المرأة وإنعاما منه فى رفع المعاناة عنها، وتطييبا لنفسها ووفاء لزوجها، وإما أن يكون وصية من الزوج قبل موته، وإما أن يكون وصية من الورثة بعضهم لبعض. وأما النفقة فليست مرفوعة بميراثها من زوجها؛ لأن هذه الوصية على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب، فآية المواريث نقلت الحكم من الوجوب إلى الاستحباب ولم ترفعه بالكلية. ومن هنا نفهم أن النسخ فى هذه الآية يحمل على معناه الواسع الذى قال به السلف، والخلاف بين الفريقين لفظى أو اصطلاحى ولا مشاحة فى الاصطلاح، وكل من الفريقين على الصواب- إن شاء الله تعالى. ومن نظر فى هاتين الآيتين وجد الأمر كما قررناه، فالآية الأولى فيها ذكر التربص وهو الانتظار والحبس عن الزواج حتى تنتهى العدة، بخلاف الآية الثانية، وبذلك تكون الآية الأولى خاصة بالزمن الذى لا تتعرض فيه المرأة إلى خطبة الأزواج، وما تبقى من الحول وهو سبعة أشهر وعشرين يوما تكون المرأة فيه مخيرة بين الانتقال من بيت الزوج المتوفى والتزوج بآخر والمكث فى بيت زوجها المتوفى ¬

(¬18) راجع القرطبى عند تفسير هذه الآية.

عنها دون أن تتزوج بآخر؛ وفاء لزوجها الأول ومبالغة فى تكريمه، وعندئذ تكون أهلا لإكرام أهل زوجها لها، واعتزازهم بوجودها بينهم. وحيث أمكن الجمع فلماذا نعدل عنه إلى القول الذى يرتضيه قوم وينكره آخرون. السادسة: قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ البقرة: 284. قيل إنها منسوخة بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها البقرة: 286. والأصح أنها ليست منسوخة، فالآية الثانية بيان لها؛ فقد وقع فى نفوس المؤمنين أنهم سيحاسبون على كل ما يخطر فى ضمائرهم من سوء؛ كما يحاسبون على كل ما تبديه أنفسهم من شر وإن لم يمكنهم دفعه؛ فبيّن الله- عز وجل- فى الآية الثانية أنه لا يحاسبهم إلا على ما يمكنهم دفعه من الخواطر؛ إذ على المؤمن أن يدفع وساوس الشيطان أولا بأول، ولا يسمح لها أن تتحول إلى إرادة ثم إلى عزم ثم إلى فعل؛ عملا بقوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ الأعراف: 200/ 201. والدليل على ما ذكرناه من عدم النسخ ما رواه أحمد، ومسلم، والنسائى وغيرهم عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: لما نزلت هذه الآية: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ- دخل قلوبهم منها شىء، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا» قال: فألقى الله الإيمان فى قلوبهم فأنزل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال: قد فعلت رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا قال: قد فعلت. وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ قال: قد فعلت. واستدل القائلون بالنسخ بما رواه أحمد فى مسنده عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: «لما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا:

سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله فى إثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا. والمراد بالنسخ هنا من قبيل بيان المجمل وتقييد المطلق على حسب مفهوم المتقدمين من الصحابة والتابعين لا على حسب مفهومه عند المتأخرين، فالقول بعدم النسخ أسلم) (¬19). السابعة: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ آل عمران 102. قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ التغابن: 16. فإن كان النسخ بمعنى بيان المجمل وتقييد المطلق- كما هو مفهوم المتقدمين للنسخ- فلا مانع من القول به؛ لأن الآية الثانية بيان للأولى وتقييد لمطلقها؛ فمن المعلوم شرعا أن الطاعة على قدر الطاقة. الثامنة: قوله تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً النساء: 8. قيل: منسوخة، وقيل: لا، ولكن تهاون الناس فى العمل بها. والأصح: أنها محكمة لم تنسخ بآية المواريث كما قال بعضهم؛ وذلك لما رواه البخارى فى صحيحه عن ابن عباس فى الآية قال: «هى محكمة وليست بمنسوخة»، وفى لفظ عنه: «هى قائمة يعمل بها». التاسعة والعاشرة: قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً النساء: 15 - 16. هاتان الآيتان منسوختان عند جمهور المفسرين والمحدثين، ودليل النسخ فيهما ظاهر، لكن هذا النسخ هو من قبيل التدرج فى التشريع؛ رعاية لمصالح العباد فى العاجل والآجل. فالآية الأولى تنص على عقوبة الزانية بكرا كانت أم ثيبا بحبسها فى البيت حتى يتوفاها الله أو يجعل لها مخرجا بآية أخرى أو حديث. والآية الثانية تنص على عقوبة الرجال من ¬

(¬19) دراسات فى علوم القرآن أ. د. محمد بكر إسماعيل ط دار المنار ص 264 - 267 سنة 1991 م.

الأيامى والأبكار، وهى الإيذاء بالأيدى والنعال والتقريع بالألسنة وما إلى ذلك من أنواع الإيذاء المناسب لهذه الجريمة، وهى جريمة الزنا واللواط كما يرى بعض المفسرين. قال ابن كثير فى تفسيره: (كان الحكم فى ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة، حبست فى بيتها فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت .. فالسبيل الذى جعله الله هو الناسخ؛ لذلك قال ابن عباس: «كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور، فنسخها بالجلد أو الرجم»، وكذا روى عن عكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وعطاء الخرسانى، وأبى صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والضحاك، أنها منسوخة، وهو أمر متفق عليه). ثم ساق الحديث الذى رواه أحمد فى مسنده، ومسلم فى صحيحه وغيرهما من أصحاب السنن، وفيه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا: الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نفى سنة». الحادية عشرة: قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ النساء: 33. منسوخة بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ الأنفال 75 (وقيل إنها غير منسوخة، لأنها تدل على توريث مولى الموالاة، وتوريثهم باق غير أن رتبتهم فى الإرث بعد رتبة ذوى الأرحام، وبذلك يقول فقهاء العراق). والأصح: أنها منسوخة؛ لكثرة الآثار الواردة فى ذلك عن الصحابة والتابعين. الثانية عشرة: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ المائدة: 2. قيل إن قوله: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ منسوخ بمقتضى عموم قوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً التوبة: 36، وقد سبق القول فى هذا، فالحق عدم النسخ. فالحكم باق كما هو، فلا يجوز للمسلمين أن يقاتلوا عدوهم فى الأشهر الحرم، إلا إذا اضطروا لذلك. الثالثة عشرة: «قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ المائدة: 42 منسوخة بقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ المائدة: 49. وقد قيل بعدم النسخ، وأن الآية الثانية متممة للأولى، فالرسول صلّى الله عليه وسلم مخير بمقتضى الآية الأولى بين أن يحكم بينهم وأن يعرض عنهم، وإذا اختار أن يحكم بينهم وجب أن يحكم بما أنزل الله بمقتضى الآية الثانية، وهذا ما نرجحه، لأن النسخ لا يصح إلا حيث تعذر الجمع.

الرابعة عشرة: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ المائدة: 106. قيل: قوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ منسوخ بقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ الطلاق: 2. قال الزرقانى (¬20): «وقيل إنه لا نسخ؛ لأن الآية الأولى خاصة بما إذا أنزل الموت بأحد المسافرين، وأراد أن يوصى فإن الوصية تثبت بشهادة اثنين عدلين من المسلمين، أو غيرهم؛ توسعة على المسافرين، لأن ظروف السفر ظروف دقيقة، قد يتعسر أو يتعذر وجود عدلين من المسلمين فيها، فلو لم يبح الشارع إشهاد غير المسلمين لضاق الأمر وربما ضاعت الوصية، أما الآية الثانية فهى القاعدة العامة فى غير ظروف السفر». الخامسة عشرة: قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الأنفال: 65. قيل: إنها منسوخة بقوله سبحانه الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ الأنفال: 66. ووجه النسخ: أن الآية الأولى أفادت وجوب ثبات الواحد للعشرة، وأن الثانية أفادت وجوب الواحد للاثنين، وهما حكمان متعارضان فتكون الثانية ناسخة للأولى- على ما تقدم بيانه عند الكلام على نسخ الأثقل بالأخف- والنسخ هنا ظاهر- ولكن قد يقال إن هذا النسخ هو انتقال من الواجب إلى الرخصة. السادسة عشرة: قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا التوبة: 41. قيل: نسخت بآيات العذر، ومنها قوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ التوبة: 91. والأصح أنه لا نسخ فى الآية، فكأنه قيل: انفروا خفافا وثقالا إلا من كان معذورا لا يستطيع القتال لكونه ذا عاهة من مرض أو عرج، أو عمى أو زمانة، ونحوها من المعوقات، مع بقاء طائفة تقوم بما يحتاج إليه القاعدون من أولى الضرر، كتعليم وإرشاد وغير ذلك. السابعة عشرة: قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ النور: 3. قيل: منسوخة بقوله سبحانه وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ ¬

(¬20) انظر مناهل العرفان ج 2 ص 161.

وَإِمائِكُمْ النور: 32. لأن الآية خبر بمعنى النهى، بدليل قراءة «لا ينكح» بالجزم وهى قراءة عمرو بن عبيد والقراءات يفسر بعضها بعضا. والأصح عندى- والله أعلم- أنه لا نسخ فى الآية، لأن الآية لها معان يمكن أن تحمل عليها بحيث لا تتعارض مع قوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ. فمن معانيها: أن الزانى لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك، وكذلك الزانية لا يطاوعها على الزنا إلا عاص بزناه، أو مشرك لا يعتقد تحريمه. وقراءة عمرو بن عبيد بالجزم تدل على حرمة نكاح الزانيات إلا إذا ظهرت توبتهن. وآية وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ مخصّصة بقوله: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أى: وزوجوا الأيامى منكم بشرط ألا يكن زانيات، والله أعلم. الثامنة عشرة: قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ الآية النور: 58. قال السيوطى فى «الإتقان» (¬21): «قيل: منسوخة، وقيل: لا، ولكن تهاون الناس فى العمل بها». أه. والأصح: أنها غير منسوخة، فهى أدب عظيم أدّب الله به عباده، فلا أدرى كيف ساغ له أن يذكرها فى هذا الباب. التاسعة عشرة: قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ الأحزاب: 52. قيل: نسخها قول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ الأحزاب: 50. وهذا النسخ لا يستقيم إلا على أن هذه الآية متأخرة فى النزول عن الآية الأولى. وقد أخرج أبو داود فى سننه والترمذى فى جامعه والحاكم وابن المنذر وغيرهم عن عائشة قالت: (لم يمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أحل الله تعالى له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم). العشرون: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً المجادلة 12. قيل: نسخت بالآية التى بعدها. الواحدة والعشرون: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا الممتحنة: 11. قيل: نسختها آية الغنيمة وهى قوله سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَ ¬

(¬21) ج 3 ص 76.

لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ الأنفال: 41. وقيل: منسوخة بآية السيف وهى قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الآية التوبة: 5. والأصح: أنها محكمة إذ لا تعارض بين هذه الآيات الثلاث. الثانية والعشرون: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا المزمل 1 - 4. قيل: منسوخة بقوله سبحانه فى آخر هذه السورة: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ الآية المزمل: 20 ثم نسخ هذا الوجوب بالصلوات الخمس. روى أحمد فى مسنده ومسلم فى صحيحه عن عائشة- رضى الله عنها- قالت فى حديث طويل: (إن الله افترض قيام الليل فى أول هذه السورة- تعنى سورة المزمل- فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها فى السماء اثنى عشر شهرا، ثم أنزل الله التخفيف فى آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا من بعد الفريضة). هذه هى الآيات التى قيل إنها منسوخة قد نقلتها من «الإتقان» للسيوطى وتصرفت فى نقلها بالتوضيح والتعليق والإضافة ليعلم القارئ جلية الأمر فى هذه الآيات وموقف العلماء فى نسخها من عدمه، وأكثرها فى نظرى غير منسوخ على المعنى الضيق الذى تمسك به المتأخرون وهو رفع الحكم المتقدم بحكم متأخر. فضلا عن المعنى الواسع الذى قال به المتقدمون؛ وهو تخصيص الحكم العام أو تقييد المطلق بحكم متأخر عنه. وبعد أن عرفنا مفهوم النسخ فى اللغة والشرع، وعرفنا حكمه وأدلته وأركانه وشروطه، وما إلى ذلك، أرى أن أختم هذا البحث ببيان الحكمة من النسخ وإنها لعظيمة، عرفنا شيئا منها فآمنا به، وخفى منها الكثير فسلمنا بجهلنا فيه. ومن المعلوم أن شريعة الإسلام نسخت جميع الشرائع السماوية التى لم يعد لها ما يستدعى بقاءها بحال، فجاءت جامعة لأصول الشرائع كلها تعدل المسار، وتصحح المعتقد وترد الناس إلى فطرتهم التى فطرهم الله عليها، وتلائم ظروفهم المعيشية، وتلبى مطالبهم الدنيوية والأخروية، وتبغى لهم اليسر ورفع الحرج ودفع المشقة، وتتدرج بهم رويدا رويدا، صاعدة بهم فى مدارج الرقى شيئا فشيئا، وتسير بهم من السهل إلى

الأسهل ومن الصعب إلى الأصعب أحيانا تدريبا لهم على احتمال صنوف الحياة فى شتى صورها، أو تسير بهم من تكليف إلى تكليف آخر مساو له؛ لابتلائهم وامتحان قلوبهم، فتظهر طاعة المطيع وعصيان العاصى. فالنسخ نوع من التدرج فى التشريع، روعى فيه مصالح العباد فى العاجل والآجل، فإن من الأمور التكليفية ما يصلح فى وقت دون وقت، وفى حال دون حال فأخذ الله عباده بالحكمة، فوضع لهم من التشريعات ما يناسبهم على اختلاف درجاتهم وبيئاتهم وأحوالهم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أ. د/ محمد بكر إسماعيل

الإعجاز البيانى فى القرآن الكريم

الإعجاز البيانى فى القرآن الكريم 1 - الإعجاز فى العصر النبوى: لم تكن كلمة الإعجاز بمعناها البلاغىّ معروفة فى عصر النبوة، ولكنّ المعنى اللغوى الذى يدل على عدم تمكن أحد من البلغاء أن يأتى بمثل ما جاء به القرآن كان مؤكّدا وملموسا، لأن القرآن الكريم قد فاجأ العرب بأسلوب لا عهد لهم به، فظلّوا حائرين يلمسون سحره الخالب دون أن يستطيعوا معارضته وقد تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة من مثله، فبذلوا قصارى جهدهم فى ذلك فما استطاعوا، وهم بعد فرسان البلاغة وأئمة الكلام. لقد فاجأهم القرآن بنمط من القول المعجز لا عهد لهم به، فهو وإن تألّف من كلماتهم وحروف لغتهم فإنه ينصبّ فى قالب متفرّد يدركون حلاوته ويحسّون روعته دون أن يستطيعوا محاكاته. وكان عهدهم بالكلام الجيّد أن يصوغه شاعر فصيح منهم، فيهبّ المنافسون لمعارضته واحتذائه فيقعوا منه قريبا، أو يسبقوه ظافرين بأحسن مما قال. فما بالهم يتحداهم القرآن أن يأتوا بعشر آيات من مثله فتضطغن نفوسهم غضبا حين يدركهم البهر فلا يستطيعون (¬1). إنّ العهد بصاحب الأسلوب المتميز من ذوى الفصاحة أن يكون تميّزه الاستقلال غير منقطع الصلة بما قبله تماما، فهو وإن أتى بالجديد المستطرف فإنّه يمتّ بأقرب الوشائج إلى سلف قريب قد احتذاه بدءا ثم تفوّق عليه، أما أن تنقطع الصلة تماما بين ما يسمعون وما جاءوا به من قبل فى الشعر والخطب والوصايا الجاهلية فهذا ما كان موضع الدهشة والانبهار. وهذا النبىّ الذى نزل عليه الوحى، يأتى بالقول المبين فى حديثه وخطبه، ولكنّ أسلوبه فى الحديث والخطب يبتعد ابتعادا شاسعا عن أسلوب الوحى المنزل. فدلّ ذلك دلالة قاطعة على أن القرآن نمط إلهى ليس فى طوق البشر محاذاته. ولو جاز لأحد من بلغاء البشر أن يأتى بمثله لكان رسول الله وهو أفصح العرب قاطبة أحقّ أن يكون هذا الذى يستطيع! أمّا أن يوجد هذا الفرق الشاسع بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوى فهو الدليل القاطع على أن القرآن من عند الله. ¬

(¬1) البيان القرآنى للدكتور محمد رجب البيومى ص 15 ط الدار المصرية اللبنانية للنشر سنة 2000 م.

2 - أول من نفى الإعجاز عن القرآن:

والروايات التى تزعم أن بعض البشر حاول معارضة القرآن، تدل إن صدقت- على هذا الإعجاز؛ وإن كنت أرى أن البليغ الممتاز ممن عزيت إليه هذه المعارضة أعقل وأحصف من أن يتورط فى شىء لا يقوم له، فما قيل فى هذا المجال موضع توهين. 2 - أوّل من نفى الإعجاز عن القرآن: لا يعرف على وجه التحديد أوّل من ذهب إلى أن القرآن الكريم غير معجز، وقد قال الأستاذ مصطفى صادق الرافعى فى كتابه إعجاز القرآن (¬2) إنّ أول من ذهب إلى ذلك هو الجعد بن درهم، يقول الرافعى: «هو مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بنى أمية، وكان زنديقا فاحش الرأى واللسان، وهو أول من صرح بالإنكار على القرآن والرد عليه، وجحد أشياء مما فيه، وأضاف إلى القول بخلقه أن فصاحته غير معجزة وأن الناس يقدرون على مثلها، وعلى أحسن منها، ولم يقل بذلك أحد قبله، ولا فشت المقالة بخلق القرآن إلّا من بعده». وكتب الكلام التى دوّنت آراء الجعد، تحدثت عن قوله بخلق القرآن، وعن قوله بالتعطيل، وقوله بالقدر، ولكنها لم تتحدث عن إنكاره للإعجاز، فإذا كان الرافعى قد قرأ عن جعد ما لم نقرأه، فكان عليه أن يذكر مصدره، ومهما يكن من شىء فإن القول بخلق القرآن فى هذا الزمن المتقدم- فى العصر الأموى- جرّأ الملاحدة والزنادقة ممن دخلوا فى الإسلام ظاهريّا دون أن تطمئن قلوبهم إلى نوره؛ جرّأهم على الحديث المتسرّع عن كتاب الله؛ ومنه ما قالوه عن عدم الإعجاز، وقد دعت حرية الجدل فى مطلع العهد العباسى هذا النفر إلى الافتراء بغير العلم، فراج حديثهم عن عدم الإعجاز، واضطر المدافعون عن دين الله أن يواجهوا الباطل بما يدحضه، فبدأ الحديث عن الإعجاز، وتنوّع القول فى بيان خصائصه. وفى هؤلاء المدافعين من تورط فى حديث فهم على غير وجهه، وأعنى به حديث الإعجاز بالصرفة، وهو مما يحسن أن نقف لديه. 3 - القول بالصرفة: ينسب القول بالصرفة فى تفسير الإعجاز القرآنى لأبى إسحاق النظام، وهو قول لم يدونه النظام فى كتاب، ولولا أن الجاحظ رواه عنه ما اشتهر وما ذاع، وفحواه أن العرب قد انصرفوا عن معارضة القرآن، وهذا الانصراف دليل الإعجاز، ويوحى هذا القول بأنهم لو اتجهوا إلى معارضته لجاءوا بمثله؛ كما أن تمام الرأى عند النظام أنه قال إن الإعجاز إنما جاء من الإخبار عن الأمور ¬

(¬2) إعجاز القرآن للأستاذ مصطفى صادق الرافعى- الطبعة السادسة سنة 1956 مطبعة الاستقلال ص 161.

الماضية والآتية، والحق أن تفسير الصرفة بمعنى عدم اتجاه العرب إلى المعارضة فقط، مما لا يعقل أن يقول به رجل كبير العقل كالنظام مهما أرجف أعداؤه بما اختلفوا من مثالبه، وقد جعله الجاحظ عبقرى القرن الثالث، فكيف يكون بهذه المنزلة الرفيعة ثم يذهب هذا المذهب المخطئ، كما أن مما يجعل المسألة ذات خطر فى حديث الإعجاز أن أفاضل من الأعلام مثل الجاحظ وابن سنان والمرتضى وابن حزم والعلوى قد قالوا به؛ أفيكون هؤلاء من الضحالة وضيق النظر حتى يفهموا من الصرفة هذا الفهم الذى ينكره الغلام الناشئ بله العالم المفكر؟ إن الأمر لا يستقيم إلا إذا فهمت الصرفة فهما يتفق وجلال هؤلاء الكبار الذين هتفوا بما قال النظام. وهم أنفسهم الذين تحدثوا عن بلاغة القرآن وإعجاز فصاحته تركيبا ونظما وتصويرا بما يجعل ذلك من أسباب الإعجاز، إن الذى فهمته من معنى الصرفة، ولا أدرى إذا كنت قرأته من قبل لبعض الفضلاء ونسيت اسمه أو أنه شىء قذفه الله فى نفسى! هذا المعنى هو أن العرب حين دهشوا من روعة القرآن، وبهرهم تأثيره بما فوق القدرة، انصرفوا تلقائيا عن معارضته، لأنهم علموا أنهم مهما حاولوا هذه المعارضة وجمعوا لها أساطين القول من بلغائهم المعدودين فلن يأتوا بسورة من مثله، أو بعشر آيات من مثله، فكانت (الصرفة) عن المعارضة التى توقعوا استحالتها بادئ ذى بدء هى وجه الإعجاز الذى عناه النظام وهو وجه معقول نلمس نظائره فى الحياة حين يبنى مهندس عبقرى صرحا رائعا. فيكون آية الآيات فى بابه، ويراه زملاؤه فيقرون بالعجز عن بناء مثله، ويصرفون أنفسهم عن محاولة هذا البناء! هذا هو الفهم الجدير بالنظام ومن تبعه من البلغاء، وهم من هم! الجاحظ: للجاحظ سطوة فى التعبير، وتدفق فى سوق الحجج والبراهين، وقد عاش فى مشتجر الجدل، وخاض عباب الحوار فلا بد أن يكون لإعجاز القرآن نصيب من حديثه الدافق، وقد ذكروا من مؤلفاته المفقودة كتابى (نظم القرآن) و (آى القرآن) وحديث النظم قد اشتهر كثيرا من بعده حتى مخض زبدته الإمام عبد القاهر الجرجانى. فلا أستبعد أن يكون هذا الكتاب المفقود نواة هذا الحديث، وقد قال الجاحظ عنه مخاطبا الفتح بن خاقان حين طلب منه أن يكتب مؤلفا عن القرآن: «فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسى، وبلغت فيه أقصى ما يمكن مثلى فى الاحتجاج للقرآن، والرد على كل طعّان، فلم

أدع فيه مسألة لرافضى ولا لحديثى، ولا لحشوى، ولا لكافر مباد، ولا لمنافق مقموع، ولا لأصحاب النظام، ولمن نجم بعد النظام ممن يزعم أن القرآن خلق، وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة، فلما ظننت أنى بلغت أقصى محبتك، وأتيت على معنى صفتك، أتانى كتابك تذكر أنك لم ترد الاحتجاج لنظم القرآن وإنما أردت الاحتجاج لخلق القرآن، وكانت مسألتك مبهمة، ولم أك أن أحدث لك فيها تأليفا، فكتبت لك أشق الكتابين وأثقلهما، وأغمضهما معنى وأطولهما» (¬3). ويقرب من كتاب النظم ما كتبه فى مؤلفه المفقود أيضا (آى القرآن) حيث أشار إلى بعض ما جاء به فى كتاب الحيوان حين قال تحت عنوان (من إيجاز القرآن): «ولي كتاب جمعت فيه آيا من القرآن لتعرف بها فصل ما بين الإيجاز والحذف، وبين الزوائد والفضول والاستعارات، فإذا قرأتها رأيت فضلها فى الإيجاز، والجمع للمعانى الكثيرة بالألفاظ القليلة على الذى كتبته لك فى باب الإيجاز وترك الفضول، فمنها قوله حين وصف خمر أهل الجنة: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ، وقوله- عز وجل- حين ذكر فاكهة أهل الجنة: لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعانى. وهذا كثير دللتك عليه، فإن أردته فموضعه مشهور (¬4). وقراءة هذين النصين تدل على ما فقدناه من إفاضة الجاحظ فى هذه المسائل التى تتصل بالإعجاز بأقوى سبب، وقد بقيت لنا شذور شتى مما كتبه الجاحظ فى رسالة (حجج النبوة) [التى نشرها الأستاذ عبد السلام هارون فى الجزء الثالث من رسائل الجاحظ]، وبها ما يمكن أن يستدل به على منحى الجاحظ فى ثبوت الإعجاز، [وسأنقل منها ما يدل على ذلك دون إطالة]؛ فمنها قوله: «إن رجلا من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، لتبين له فى نظامها ومخرجها، وفى نقلها وطبعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها، وليس ذلك فى الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين! ألا ترى أن الناس قد يتهيأ لهم فى طبائعهم، ويجرى على ألسنتهم أن يقول رجل منهم «الحمد لله، وإنا لله، وربنا الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل» وهذا كله فى القرآن، غير أنه متفرق غير مجتمع، ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة طويلة أو ¬

(¬3) رسائل الجاحظ ج (3) ص 287 تحقيق عبد السلام هارون- مكتبة الخانجى سنة 1979 م. (¬4) كتاب الحيوان ج 3 ص 86 تحقيق عبد السلام هارون ط 3 سنة 1969.

قصيرة، على نظم القرآن وطبعه، وتأليفه ومخرجه لما قدر عليه ولو استعان بجميع قحطان معد بن عدنان» (¬5). وهذا الكلام أصل لقضية النظم، وكل ما انتمى إليها ينتهى إلى هذا الأصل، ثم يقول الجاحظ: (¬6) «ولا يجوز أن يكون مثل العرب فى كثرة عددهم، واختلاف عللهم، والكلام كلامهم وهو سيد عملهم فقد فاض بيانهم، وجاشت به صدورهم، وغلبتهم قوتهم عليه عند أنفسهم .. وقد هجوه من كل جانب، وهاجى أصحابه شعراءهم، ونازعوا خطباءهم، وحاجوه فى المواقف، وخاصموه فى المواسم، وبادءوه العداوة، وناصبوه الحرب، فقتل منهم وقتلوا منه، وهم أثبت الناس حقدا، وأبعدهم مطلبا، وأذكرهم لخير ولشر وأنفاهم له، وأهجاهم بالعجز وأمدحهم بالقوة، ثم لا يعارض معارض، ولم يتكلف ذلك خطيب ولا شاعر، (6) إلى أن يقول: «فإما أن يكونوا عرفوا عجزهم، وأن مثل ذلك لا يتهيأ لهم، فرأوا أن الإضراب عن ذكره، والتغافل عنه فى هذا الباب، وإن قرعهم به، أمثل فى التدبير، وأجدر ألا ينكشف أمرهم للجاهل والضعيف، وأجدر أن يجدوا للدعوة سبيلا، فقد ادعوا القدرة بعد المعرفة بعجزهم عنه، وهو قوله عز ذكره وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا (¬7) وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز، والتوقيف على النقص، ثم لا يبذلون مجهودهم، ولا يخرجون مكنونهم، وهم أشد خلق الله أنفة، وأفرطهم حمية، وأطلبهم بطائلة، وقد سمعوه فى كل منهل وموقف، والناس موكلون بالخطابات، مولعون بالبلاغات، فمن كان شاهدا فقد سمعه، ومن كان غائبا فقد أتاه به من لم يزوّده، وإما أن يكونوا غير ذلك، ولا يجوز أن يطبقوا على ترك المعارضة، وهم قادرون عليها، لأنه لا يجوز على العدد الكثير من العقلاء والدهاة، والحلماء مع اختلاف عللهم، وبعد همهم، وشدة عداواتهم الإطباق على بذل الكثير، وصون اليسير». (¬8) على أن الجاحظ هو الذى فتق أكمام الحديث عن الأسلوب القرآنى، وبيّن من سماته ما جعله الكثيرون مصدرا أولا للإعجاز القرآنى، فقد نظر الرجل إلى ألفاظ القرآن ومعانيه ليهتدى إلى فطن بارعة فى التحليل والاستنتاج كانت عون البلاغيين فى كثير مما كتبوه عن اللفظ والجملة والصورة، فما تحدث البلغاء عن فصاحة الكلمة وفصاحة الكلام، وأسرار الحذف والذكر، ومواضع الإيجاز والإطناب، وجمال التشبيه ¬

(¬5) رسائل الجاحظ ج (3) ص 229. (¬6) رسائل الجاحظ ج (7) ص 273. (¬7) سورة الأنفال: 31. (¬8) رسائل الجاحظ ج (3) ص 275.

والاستعارة وغيرها من الأبواب إلا بعد أن عرض لهم الجاحظ فنونا مترفة من استشفافه الذوقى لكتاب الله، ولن نرسل القول إرسالا دون شواهد صريحة توضح ما نعنيه. (¬9). أجل تحدث الجاحظ عن ألفاظ القرآن حديثا لم يسمع من أحد قبله إذ قال فى الباب الأول من البيان والتبيين: «وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها، وغيرها أحق منها، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر فى القرآن الجوع إلا فى موضع العقاب، أو موضع الفقر المدقع، والعجز الظاهر. والناس لا يذكرون السّغب ويذكرون الجوع فى حال القدرة والسلامة، وكذلك المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا فى موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث، ولفظ القرآن الذى عليه نزل أنه إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع، وإذا ذكر سبع سماوات لم يقل الأرضين ألا تراه لا يجمع الأرض أرضين ولا السمع أسماعا، والجارى على أفواه العامة غير ذلك. (¬10) وقد جاء من بعد الجاحظ من كشف عن أسرار هذه الكلمات، وحسنها فى موضع، وعدم لياقتها فى موضع آخر اقتداء بكتاب الله ورجوعا إلى البيان والتبيين فى الإسناد. أما حديث الجاحظ عن الصورة البيانية فى القرآن فقد كثرت أمثلته، وكتاب الحيوان بالتراث معرض رائع لهذا الحديث، واكتفى بمثل واحد من هذا المجال: قال الجاحظ تحليلا لقول الله عز وجل طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (¬11) «زعم أناس أن رءوس الشياطين ثمر شجرة تكون ببلاد اليمن لها منظر كريه، والمتكلمون لا يعرفون هذا التفسير وقالوا: ما عنى إلا رءوس الشياطين المعروفين بهذا الاسم من فسقة الجن ومردتهم، فقال أهل الطعن والخلاف: ليس يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نره فتتوهمه، ولا وصفت لنا صورته فى كتاب ناطق أو خبر صادق، ومخرج الكلام يدل على التخويف بتلك الصورة والتفزيع منها، وعلى أنه لو كان شىء أبلغ فى الزجر من ذلك لذكره، فكيف يكون الشأن كذلك والناس لا يفزعون إلا من شىء هائل قد عاينوه ... إلى أن قال: قلنا: وإن كنا نحن لم نر شيطانا قط، ولا صوّر رءوسها لنا صادق بيده، ففي إجماعهم على ضرب المثل بقبح الشيطان، حتى صاروا يضعون ذلك فى مكانين، أحدهما أن يقولوا: لهو أقبح من الشيطان، والوجه الآخر: أن يسمى الجميل شيطانا على جهة التطير له كما تسمى الفرس الجميلة شوهاء والمرأة الجميلة صماء ¬

(¬9) خطوات التفسير البيانى للقرآن الكريم للدكتور محمد رجب البيومى ص 79 وما بعدها (سلسلة البحوث الإسلامية) ديسمبر سنة 1971، وقد استعنت به فى إيراد هذه الشواهد، وما توصلت إليه هنا من النتائج. (¬10) البيان والتبيين ج (1) ص 33 تحقيق السندوبى. (¬11) سورة الصافات: 65.

وخنساء وأشباه ذلك على جهة التطير له، ففي إجماع المسلمين والعرب على ضرب المثل بقبح الشيطان دليل على أنه فى ذلك أقبح من كل قبيح». (¬12) والأمثلة كثيرة لما حلله الجاحظ من آيات الكتاب المبين، وفى الفصل الذى كتبته عن (وثبات الجاحظ) فى كتابى (خطوات التفسير البيانى) توضيح كاف لما أعنيه، حيث ذكرت من النماذج ما يدل على معاناة الجاحظ فى هذا المضمار؛ لأنه بهذا التحليل الرائع لآيات القرآن الكريم قد دل على أمثلة من الإعجاز القرآنى تكون تطبيقا لما قرره بشأن هذا الإعجاز [مما أشرت إليه فى صدر هذا البحث]، وآخذ على بعض المعاصرين ممن كتبوا عن الصور البيانية فى كتاب الله أنهم اقتبسوا كلام الجاحظ دون أن يشيروا إليه؛ وكأن القول من مبتكراتهم، وهذا فى العلم غير حميد. الرمانى: دعت الحرية الفكرية فى العصر العباسى نفرا من الناس أن يقولوا فى كتاب الله ما يشاءون، ووجد الملاحدة منهم فى كتاب الله ما يشفون به صدورهم من الإرجاف الكاذب، فهب المخلصون من حماة الإسلام يدافعون عن إعجازه بما يملكون من إقناع، فكتب الجاحظ عن نظم القرآن ما جعله موضوعا لقضية الإعجاز، واقتفاه أبو بكر داود السجستانى ت 316 هـ، وأبو زيد البلخى ت 322 هـ، وأبو بكر بن الأخشيد ت 326 هـ، فتحدثوا عن الإعجاز فى كتب تحمل عنوان (نظم القرآن) ثم جاء محمد بن يزيد الواسطى فتحدث عن إعجاز القرآن فى كتاب جعله بعنوان (الإعجاز)، فكان أول من خالف عنوان النظم إلى عنوان الإعجاز، ولاقى عنوانه قبولا لدى الدارسين، فكان موضع اختيار من كتبوا فى الإعجاز من بعده وفى طليعتهم الرمانى 386 هـ والخطابى 388 هـ والباقلانى 403 هـ، وغيرهم كثير، وإذا كان ما كتبه السابقون من قبل هؤلاء الثلاثة قد فقد ولم تظهر مخطوطاتهم بعد، فإننا سنخصهم بالحديث. كان الخطابى والرمانى متعاصرين كما يعلم من تاريخ وفاتهما، ولا نعلم أيهما سبق صاحبه فى الحديث عن إعجاز القرآن ولكن قراءة الكتابين تدل على أن أحدهما لم يحبذ الآخر، بل لم يقرأ ما كتب، فإن التأثر مفقود تماما، لاختلاف المنحى، وإذا كان الرمانى قد سبق صاحبه إلى لقاء ربه بعامين أو بأربعة على اختلاف الروايات فسأبدأ به. لقد عمّر على بن عيسى الرمانى دهرا طويلا قطعه فى الدراسات العميقة حتى صار ¬

(¬12) الحيوان ج 6 ص 213.

علما من أعلام النحو فى عصره، وقورن بأبى علىّ الفارسى، وكاد يرجحه عند قوم، وتأليفه فى النحو على وجه التفريع والتقسيم والإكثار من المصطلحات كان واضحا فى حديثه عن الإعجاز، إذ بدأ بتقسيم البلاغة إلى طبقات ثلاث، ثم ثنى بتقسيم مسائلها إلى عشرة أقسام هى الإيجاز والتشبيه والاستعارة والتلاؤم والتواصل والتجانس والتصريف والتضمين والمبالغة وحسن البيان، وأوضح كل قسم بما توسع فيه من الاستشهاد المتعدد، ويطول بنا القول لو تتبعناه فى كل ما كتب، ولكننا نشير إلى ما ينبئ عن اتجاهه فحسب، فقد بدأ بالحديث عن الإيجاز فقسمه إلى إيجاز حذف وإيجاز قصر، فتابعه البلاغيون على اصطلاحه، واستشهد بمثل قول الله عز وجل وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها (¬13) فقال: «كأنه قيل حصلوا على النعيم المقيم الذى لا يشوبه التنغيص، وإنما صار الحذف فى مثل هذا- يريد حذف جواب الشرط- لأن النفس تذهب فيه كل مذهب، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذى تضمنه البيان فحذف الجواب فى قولك «لو رأيت عليا بين الصفين» أبلغ من الذكر لما بيناه. (¬14) ثم تعرض للموازنة بين قول الله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (¬15) وقول من قال (القتل أنفى للقتل) فأفاض على غير عادته ليردّ على من لغا لغوا سفيها فى هذا المجال. فكان أول من كتب فى هذه الموازنة، وقد تبعه من جاء بعده وهم كثيرون، حتى جاء الأستاذ مصطفى صادق الرافعى فى هذا العصر فلم يدع مجالا لقائل، أما ما كتبه فى الاستعارة فقد كان أوضح نسبيا مما كتبه عن الإيجاز إذ تخلى عن الكزازة الضيقة فى التعبير هناك. وتمثل لذلك بما ذكره عن قول الله عز وجل: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ (¬16) حيث قال: شهيقا، حقيقته صوتا فظيعا كشهيق الباكى، والاستعارة أبلغ وأوجز، والمعنى الجامع بينهما قبح الصوت، «تميز من الغيظ» حقيقته من شدة الغليان بالاتقاد، والاستعارة أبلغ منه وأوجز؛ لأن مقدار شدة الغيظ على النفس محسوس مدرك بما يدعو إليه من شدة الانتقام فى الفعل، وفى ذلك أعظم الزجر وأبلغ الوعظ، وأول دليل على سعة القدرة وموقع الحكمة، ومنه: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (¬17) أى تستقبلهم للإيقاع بهم استقبال مغتاظ يزفر غيظا عليهم، وكذلك قال الرمانى عن قوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى ¬

(¬13) سورة الزمر: 73. (¬14) ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن ص 70 ط 1 دار المعارف بتحقيق الأستاذين محمد خلف الله، ومحمد زغلول سلام. (¬15) سورة البقرة: 179. (¬16) سورة الملك 7، 8. (¬17) سورة الفرقان: 12.

آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (¬18) حقيقته منعناهم الإحساس بآذانهم، والاستعارة أبلغ لأنه كالضرب على الكتاب فلا يقرأ، كذلك المنع من الإحساس فلا يحس. وإنما دل على عدم الإحساس بالضرب على الآذان دون الضرب على الأبصار لأنه أدل على المراد من حيث كان يضرب على الأبصار من غير عمى فلا يبطل الإدراك أصلا وذلك بتغميض الأجفان، وليس كذلك منع الأسماع من غير صمم فى الآذان، لأنه إذا ضرب عليهما من غير صمم دلّ على عدم الإحساس من كل جارحة يصح بها الإدراك، ولأن الأذن لما كانت طريقا إلى الانتباه ثم ضربوا عليها، لم يكن سبيل إليه». (¬19) وكذلك ما أتبع به قول الله عز وجل: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ (¬20) حيث قال: القذف والدمغ هنا مستعار، وهو أبلغ، وحقيقته، بل نورد الحق على الباطل فيذهبه، وإنما كانت الاستعارة أبلغ لأن فى القذف دليلا على القهر. لأنك إذا قلت: قذف به إليه، فإنما معناه، ألقاه إليه على جهة الإكراه والقهر، فالحق يلقى على الباطل فيزيله على جهة القهر والاضطرار، لا على جهة الشك والارتياب، ويدمغه أبلغ من «يذهبه» لما فى يدمغه من التأثير فهو أظهر فى الكناية، وأعلى فى تأثير القوة» (¬21). كم يحتاج مثل هذا البيان الدقيق إلى تحليل ساطع كتحليل الإمام عبد القاهر ليفيض من ضيائه ما قبضه التركيز المكتنز، ولئن فات الرمانى أن يفيض بما يشرق من النور فقد أتاح لخلفائه أن يستريحوا لقوله فى مكان مطمئن لا يرهقه عسر، إذ اعتمد أبو هلال وابن سنان وعبد القاهر وابن الأثير وابن رشيق على الكثير من خطراته الدقيقة، وأوسعوها تحليلا وتفصيلا، كلّ حسب منحاه وبذلك صار الرمانى علما من أعلام البيان، وإن لم يؤلف فى هذا العلم رأسا بل جاء حديثه فيه خاصا بكتاب الله. وقد طبع كتاب الرمانى فى النحو وفيه إشارات مقتضبة عن الإعجاز حين يستشهد بآية كريمة، فإذا أضيفت هذه الإشارات إلى ما كتبه فى رسالته الخاصة بالإعجاز فإنها تفصح عن نظر دقيق. الخطابى: أبو سليمان الخطابى من أعلام المحدثين فى عصره، وهو إمام سنى نافح عن مذهبه فيما ترك من آثار، وقد كتب رسالة (إعجاز القرآن) ليرد على الطاعنين من وجهة نظره، فجاء رده سلسا فصيحا لا يحوج القارئ إلى بعض العناء كما أحوجته رسالة الرمانى، وقد هدف إلى تحديد عناصر الإعجاز فى كتاب ¬

(¬18) سورة الكهف: 11. (¬19) ثلاث رسائل فى الإعجاز ص 80. (¬20) سورة الأنبياء 18. (¬21) ثلاث رسائل فى الإعجاز ص 82.

الله مقدما ذلك بتمهيد يتحدث عن قضية الذوق الأدبى، ومدى الاستناد إلى ارتياح الناس له دون تحديد، فقال: «وزعم آخرون أن إعجازه من جهة البلاغة، ووجدت عامة أهل هذه المقالة، قد جروا فى تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن دون التحقيق له، وإحاطة العلم به، ولذلك صاروا إذا ما سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التى اختص بها القرآن، الفائقة فى وصفها سائر البلاغات، وعن المعنى الذى يتميز به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة، قالوا إننا لا يمكننا تصويره ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم مباينة القرآن غيره من الكلام، وإنما يعرفه العالمون عن سماعه ضربا من المعرفة لا يمكن تحديده ... وقد توجد لبعض الكلام عذوبة فى السمع وهشاشة فى النفس، لا توجد مثلها لغيره، والكلامان معا فصيحان ثم لا يوقف لشىء من ذلك على علة. قلت: وهذا لا يقنع فى مثل هذا العلم، ولا يشفى من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أحيل به على اتهام». (¬22) فأنت تراه لا يجعل الارتياح النفسى بعض أسباب الاستحسان الأدبى إلا إذا قرن بتعليل ودليل، وهذا ما نهض للإجابة عنه حين تحدث عن أسلوب القرآن، فذكر «أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها فى نسب البيان متفاوتة، فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز المطلق المرسل، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود، دون النوع الهجين المذموم، الذى لا يوجد فى القرآن شىء منه البتة، فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه، والقسم الثانى أوسطه وأقصده، والقسم الثالث أدناه وأقربه، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حفنة، وأخذت من كل نوع من أنواعها بشعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتى الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد فى نعوتهما كالمتضادين، لأن العذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة فى الكلام تعالجان نوعا من الوعورة. فكان اجتماع الأمرين فى نفسه، مع نبو كل منهما على الآخر فضيلة خص بها القرآن، يسرها الله بلطيف قدرته من أمره، لتكون آية بينة لنبيه، ودلالة على صحة ما دعا إليه من أمر ربه. (¬23) وهذا كلام جيد. والذين تعرضوا له بالتحليل فهموا منه أن الجزالة والعذوبة يجتمعان فى القرآن معا: كلّ فى موضعه على انفراد، بحيث تكون آية عذبة، وآية جزلة، وفق ما تقتضى المعانى: ولكنى أفهم منه ما يدل على امتزاج الرقة بالجزالة فى تعبير واحد. وهو ما فصّلت الحديث عنه فى ¬

(¬22) ثلاث رسائل ص 21. (¬23) ثلاث رسائل ص 23.

موضع آخر (¬24) هذه ناحية، أما الأخرى، فقد قال الخطابى: إن الأسلوب الأدبى يعتمد على ثلاثة أشياء: لفظ حامل، ومعنى قائم به، ورباط له، فإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه فى غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا، وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه، أما المعانى فلا خفاء على ذى عقل، أنها هى التى تشهد لها العقول بالتقدم فى أبوابها، والترقى إلى أعلى درجات الفضل نحو نعوتها وصفاتها، وقد توجد هذه الصفات على التفرق فى أنواع الكلام، أما أن تكون مجموعة فى نوع واحد منه فلم توجد إلا فى كلام العليم القدير، فتفهّم الآن واعلم أن القرآن صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ فى أحسن مضمون التأليف مضمنا أصح المعانى. وهذا ما بسطه الخطابى إلى أن قال: (¬25) «أما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لحام الألفاظ، وزمام المعانى، وبها تنتظم أجزاء الكلام، ويلتئم بعضه فوق بعض، فتقوم له صورة فى النفس يتشكل بها البيان». وذلك قول يحدد نظرية النظم، كما أتى بها عبد القاهر فى (دلائل الإعجاز) تحديدا تتضح به المعالم المتفرقة فى أشتات من قول الجاحظ ومن تلاه، ولئن أعوزنا أن نثبت اطلاع عبد القاهر على ما كتب الخطابى، فذلك لا يمنع القول باهتداء الخطابى إلى أصل قوى من أصول الإعجاز، نهضت عليه صروح أقامها المخالفون، بعد أن وضع ثابت الأساس، وقد وجّهت بعض الاعتراضات المغرضة إلى النصوص التعبيرية فى القرآن فنهض الخطابى للرد عليها، وأفرد لها جزءا من رسالته، شأنه فى ذلك شأن ابن قتيبة فى (تأويل مشكل القرآن)، ولكنه توسع عنه فى التعبير لأن تأخره الزمنى أتاح له ما لم يتح لسابقه. فمما توجهت الشبهة به إلى اللفظ، وقوف المعترضين عند قوله تعالى: فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ. (¬26) زاعما أن كلمة افترس أصح من كلمة «أكل» إذ أن الافتراس خاص بالسباع، أما الأكل فيعم كل آكل من الحيوان والإنسان، وهو اعتراض تردد أيام الجاحظ، وأجاب عنه بألمعيته المشهورة، وجاء الخطابى فأدلى بدلوه فى الدلاء حين قال: «إن الافتراس معناه فى فعل السبع، القتل فحسب، وأصل الفرس دق العنق، والقوم إنما ادعوا على الذئب أكله أكلا، إذ أتى على ¬

(¬24) البيان القرآنى ص 30 وما بعدها. (¬25) ثلاث رسائل ص 33. (¬26) سورة يوسف آية: 17.

جميع أعضائه، فلم يترك مفصلا ولا عظما، وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم إياهم بأثر باق يشهد بصحة ما ذكروه، فادعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة، والفرس لا يعطى تمام المعنى، فلم يصلح على هذا أن يعبر عنه إلا بالأكل» (¬27). وأخذ الخطابى يؤيد قوله بشعر العرب وحديث الرسول مما تكفى الإشارة إليه، وأمثلة كثيرة دفع الاعتراض عنها الخطابى دفعا قويا، وبخاصة ما ذكره فى باب التشبيه عن اعتراض المعترض لموضع التشبيه فى قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (¬28) فقد ذكر ثلاثة ردود قالها المفسرون من قبل. ولكنه جلاها أحسن تجلية، فنكتفى بالإشارة بها، منتقلين إلى رده على اعتراض من قال فى قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ (¬29) أن دخول الباء على كلمة إلحاد لا يفيد جديدا، فرد الخطابى قائلا: إن الباء زائدة- يعنى زيادة إعراب فقط لا زيادة معنى كما هو معروف. والباء قد تزاد فى مواضع من الكلام، واستشهد بأبيات تدل على الزيادة، وكان عليه أن يذكر المراد من هذه الزيادة فى تقوية المعنى، ولا يكتفى بالمنحى الإعرابى، فالباء هنا تدل على القصد والتعمد وسبق التصميم مما يجعل صاحب الإلحاد مندفعا بجرأة وسطوة، وكأن الأمر قد شغل عليه نفسه، وجعله كل مراده ومبتغاه، هذا ما كان على الخطابى أن يشير إليه، ولعله تركه لفطنة القارئ، ولكن كيف؟ وهو فى مجال الدحض والتفنيد؟ الباقلانى: أول كتاب مستقل بالإعجاز وصل إلينا هو كتاب (إعجاز القرآن) للباقلانى المتوفى سنة 403 هـ وهو عالم متكلم نظار، له مجالس مناظرة وجدل تدل على موهبة قوية فى الحوار، وكتابه عن الإعجاز يقدم صورا من جدله العلمى، بدأه بذكر الملاحدة وما خاضوا فيه من جدل حول كتاب الله اضطره للرد عليهم، ونقد الجاحظ بأنه لم يأت بشيء جديد فى كتابه (نظم القرآن) حيث ردد أقوال المتكلمين من قبله، ثم أنحى باللوم على من قالوا: إن الإعجاز بالصّرفة. فاهما من الصّرفة ما فهمه الكثرة من العلماء دون ما أشرنا إليه من قبل، ويرجع بالإعجاز إلى أشياء منها إخباره بالغيب، وما وقع من قصص الأنبياء السابقين مما روته الكتب السابقة، مع أن رسول الله كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب، وقد فاته أن بعض القصص النبوية لم تأت بها الكتب السابقة مثل قصص صالح وهود ومائدة عيسى فمن أين جاء بها الرسول إن لم تكن من عند الله؟! ثم ركز على الركن ¬

(¬27) ثلاث رسائل ص 37. (¬28) سورة الأنفال آية: 5. (¬29) سورة الحج: 25.

الأكبر من الإعجاز وهو بلاغته الساطعة، إذ جاء القرآن ببديع النظم متناهيا فى البلاغة إلى الحد الذى يعلم عجز الخلق عن الإتيان بمثله، وقد ذكر الدكتور شوقى ضيف «أن الباقلانى متأثر بالجاحظ فيما ذهب إليه من أن مرجع الإعجاز إلى نظم القرآن المخالف لأساليب العرب نثرا وشعرا، كما أنه متأثر بالرمانى فيما ذهب إليه من أن القرآن يرتفع إلى أعلى طبقات البلاغة» (¬30) - وقد أشرنا لذلك من قبل، كما أن المؤلف تحدث عن اطّراد البلاغة فى القرآن دون تفاوت ولا تباين بخلاف كلام الفصحاء الذى يوجد فيه التفاوت والاختلاف، وقد فرق بين الفاصلة والسجع بما كان موضع نقاش للدارسين من بعده، وألمّ بفنون البديع من المطابقة والتكافؤ والجناس والاعتراض والتذييل، وانتهى إلى أن الوقوف على الإعجاز لا يتأتى إلا لمن عرف وجوه البلاغة العربية وتكونت لديه ملكة يقيس بها الجودة والرداءة فى الكلام فيستطيع أن يفرق بين الشعراء والأدباء فرقا دقيقا بما وهبه الله من هذه الملكة، وفى حديثه عن التفاوت يعرض قصائد لامرئ القيس والبحترى عرضا مسهبا ليظهر تفوق القرآن عليها. ويخيل إلىّ أنه لم ينته إلى الصواب فى ذلك. لأن المقارنة لا تقوم على وجهها الأصيل إلا إذا اتحد الموضوع فى غرضه، ولا يوجد اتحاد بين الكتاب المبين وما تعرض له الشعراء من الأغراض، ولست أنكر تفوق الأسلوب القرآنى على هذه القصائد وغيرها، وإنما أنكر أن تكون هذه الموازنة دقيقة فى اتجاهها النقدى. وأكبر ما اهتدى إليه الباقلانى هو نقده لمن قال إن فنون البديع تدل على وجوه الإعجاز، إذ لا قيمة لهذه الفنون وحدها دون ملكة قوية تكون هى الحكم فى الترجيح، وللباقلانى فى كتابه الكبير مواقف ممتازة فى التحليل الأدبى، ومواقف أخرى تعجله السرعة عن الإتمام بما يشفى حاجة القارئ وسنمثل لكل من الاتجاهين، فهو قد وفّق حين مثل بقول الله عز وجل: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (¬31) حيث قال: «وجه الوقوف على شرف هذا الكلام أن تتأمل موقع قوله: «همت كل أمة برسولهم ليأخذوه» فهل تقع فى الحسن موقع قوله ليأخذوه كلمة، وهل تقوم مقامه فى الجزالة لفظة، لو وضع موضع ذلك «ليقتلوه أو ليرجموه أو لينفوه أو ليطردوه أو ليهلكوه أو ليذلوه ونحو هذا ما كان ذلك بعيدا ولا بارعا ... فإن كنت ¬

(¬30) البلاغة تطور وتاريخ للدكتور شوقى ضيف ص 109 - دار المعارف طبعة سنة 1965 م. (¬31) سورة غافر: 5، 6.

تقدر أن شيئا من هذه الكلمات التى عددناها عليك أو غيرها لا تقف بك على عرضنا من هذا الكتاب، فلا سبيل إلى الوقوف على تصاريف الخطاب، فافزع إلى التقليد، وإن فطنت فانظر إلى ما قال من رد عجز الخطاب إلى صدره بقوله فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (غافر: 5) ثم ذكر عقبها العذاب فى الآخرة، وأتلاها تلو العذاب فى الدنيا على الإحكام الذى رأيت» (¬32). فالباقلانى هنا يعلل ويحلل ويسلك سلك أهل مذهبه الكلامى فى الأخذ والرد، وكنا نود أن يسلك هذا المسلك فى كل ما يمثل به من الآيات، ولكن نشاطه يفتر حين يمتد به القول دون راحة ذهنية- كما أعلّل ذلك- فلا تكاد تخرج منه بطائل، وأمثل لذلك بما استشهد به من قول الله: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (¬33) حيث قال: انظر إلى هذه الكلمات الأربع التى ألف بينها واحتج بها على ظهور قدرته، ونفاذ أمره، أليست كل كلمة منها فى نفسها غرة، وبمفردها درة، وهو مع ذلك يبين أنه يصدر عن علو الأمر، ونفاذ القهر، ويتجلى فى بهجة القدرة، ويتحلى بخالصة العزة، ويجمع السلامة إلى الرصانة، والسلاقة إلى المتانة، والرونق الصافى، والبهاء الضافى» (¬34) فهذا القول وشبيهه مما تركته للاختصار يمكن أن يقال تعليقا لآيات كثيرة تماثلها دون فارق، والمفسر المحلل لا يلجأ للعبارات العامة فى نص يحلله، لقد كان عليه أن يبين موقع الحسن فى كل كلمة تنفرد بنفسها بدل أن يطلق القول إطلاقا، وإذا اتسع له الأمد لتفضيل كلمة (ليأخذوه) فى النص السابق، فلماذا لم يقف وقفاته البارعة عند كلمات «فالق» أو «سكنا» أو «حسبانا»، وإنصافا للرجل أذكر إصابته الدقيقة فى تحليل بعض السور القرآنية نسبيا تحليلا متكاملا كما صنع بسورتى غافر والنمل، وأجزاء طويلة من سورة فصلت، إذ أخذ يعرض آيات السورة الواحدة متنقلا بين معانيها، ومحاولا الربط بين أجزائها وهو اتجاه شامل يتعدى الكلمة فى الآية والآية فى الآيات إلى بناء السورة جميعها، حيث تنهض عملا أدبيا مستقلا فى ذاته. وقد كان الباقلانى موفقا حين ذكر طائفة من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخطبه ورسائله، ليثبت الفارق الواضح بين قوله عليه السّلام، وما جاء فى كتاب الله من الإعجاز، وهو اتجاه سديد، لأنه يدحض حجة من نسبوا القرآن إلى رسول الله من الملاحدة مرددين قول المشركين من قبل: إنه افتراه، ولو نشاء لقلنا مثل هذا. فلو كان القرآن مفترى من الرسول لتشابه الحديث مع الكتاب فى ¬

(¬32) إعجاز القرآن للباقلانى ص 224 تحقيق الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجى ط (1) صبيح. (¬33) سورة الأنعام: 96. (¬34) إعجاز القرآن ص 214.

بيانهما الأدبى، كما أنهم حين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا لم يكونوا صادقين إذ لو استطاعوا القول المماثل لقالوه، وقد جاء الباقلانى فى ذلك بما يصلح أن يكون توجيها سديدا لتأليف كتاب يبين خصائص الإعجاز القرآنى والإبداع المحمدى. وقد تحدث بعض الدارسين عن موقف الباقلانى من السجع القرآنى، إذ نفاه نفيا تاما لأنه فى رأيه قد يكون زيادة اللفظ دون حاجة إليه، وهذا ما يتنزه عنه القرآن، مع أن القائلين بالسجع فى القرآن، يذهبون إلى أنه السجع المحكم الذى لا يكون به زيادة ما، فالجهة منفكة كما يقول المناطقة. الشريفان: وأقصد بهما الشريفين الرضى والمرتضى، وهما أخوان بارعان تحدثا عن الإعجاز القرآنى كثيرا، فأفاضا فى ذكر أسبابه، وتعدد فنونه، ولكنهما يختلفان منهجا، فالرضى شاعر أديب يعتمد على الذوق الحساس، والبيان الطلق، والمرتضى يشاركه الشعر والأدب، ولكنه نظار متكلم يعتمد على دفع الحجة، ومعارضة الخصم، وترتيب الأدلة، فهما يمثلان فى تفسير الإعجاز مذهبين مختلفين، ويتركان للدارس مجالا فسيحا للموازنة والتحليل، ولا أدرى كيف سكت كثير من الدارسين عن إيضاح مقامهما فى دنيا الإعجاز البيانى، وكتبهما ذائعة مشتهرة، ولعلى بذلك أدعو إلى دراستهما من يريد أن يضيف الجديد. وفى مجال التمثيل لوجهة الشريف المرتضى فى التفسير العلمى لبعض الآيات الكريمة، أنقل عن (أماليه) ما ذكره فى تأويل قوله تعالى فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (¬35) مقابلا ذلك بقول الله عز وجل فى موضع آخر وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ (¬36) مشيرا إلى أن الثعبان فى الآية الأولى هو الحية العظيمة الخلقة، والجان فى الآية الثانية هو الصغير من الحيات، فكيف يجتمع الصغر والكبر فى شىء واحد؟ وللإجابة عن ذلك قال المرتضى (¬37) عدة ردود نذكر منها: أن الآيتين ليستا حديثا عن قصة واحدة بل هناك حالتان مختلفتان، إذ أن الحال التى جعلت العصا فيها بصفة الجان، كانت فى ابتداء النبوة قبل أن يذهب موسى إلى فرعون، والحالة الثانية التى صارت فيها العصا ثعبانا كانت عند لقائه فرعون وإبلاغه الرسالة، فلا اعتراض. ثم يرى المرتضى أن الظن يذهب إلى أن الموقف واحد، وليس بموقفين، مع أن الله قد حسم الأمر حين قال: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ (¬38) فدلّ على ¬

(¬35) سورة الأعراف: 107. (¬36) سورة القصص: 31. (¬37) أمالي المرتضى- طبعة أولى- ج (1) ص 18. (¬38) سورة القصص: 32.

اختلاف الموقف، ولكنه من باب إرخاء العنان للمجادلة، على طريقة المتكلمين. تابع النظر فقال: وعلى افتراض اتحاد الموقف، فإن الله تعالى شبه العصا بالثعبان فى الآية الأولى لعظم الخلقة، وكبر الجسم، وهول المنظر، وشبهها فى الآية الثانية بالجان لسرعة الحركة والنشاط والخفة، فاجتمع لها نشاط الصغير وسرعة حركته مع هول الكبير وروعة منظره، وهذا أبهر فى باب الإعجاز، وأبلغ فى خرق العادة ولا تناقض معه لأن وجه الشبه مختلف فى الآيتين، ولا يجب أن يكون المشبه مماثلا للمشبه به فى كل الوجوه بل يحوز من الصفات ما يدل على شىء جامع لا على كل متفق. وكأن المرتضى فى نقاشه الجدلى لم يكتف بالرأيين السابقين بل عمد إلى رأى ثالث خلاصته أن المراد فى الآية بالجان هو أحد الجن لا الحية الصغيرة، فكأنه تعالى أخبر بأن العصا صارت ثعبانا فى الخلقة، وعظم الجسم، وكانت مع ذلك كأحد الجن فى هول المنظر والإفزاع، فكأن وجه الشبه المختلف قد كان سبب ما يظهر من الاختلاف، وقد يجوز أن تكون العصا قد ظهرت أولا بصفة الجان ثم انقلبت إلى صفة الثعبان وهو رأى رابع ساقه المرتضى، وأعقبه بأن هذا التأويل يجعل الحكم متفقا فى الاثنين، وهو ما يبطل اعتراض المعترض. على هذا النحو من التفريع والتشقيق وتوهم الاعتراض ثم الإجابة عليه بعدة وجوه، سار الشريف المرتضى فيما تعرض له من تخريج الآيات الموهمة للاعتراض. أما الشريف الرضى فى كتبه البيانية فقد خالف هذا المنحى فلا تهمه أن يتتبع الردود لينقضها، بل يهمه الشرح البيانى المشرق لآيات الإعجاز القرآنى، وقد يرد على قول سابق دون أن يشير إلى اسم صاحبه. ولكنه يقول فى اقتضاب: «فبطل قول من قال»، وقد تعقب الرمانى فى آيات كثيرة، وأبدى ما يخالف وجهة نظره، وهذا فى أدب النقد الملتزم دون تجريح نعهده لدى بعض الدارسين. كما أن الشريف الرضى قد تتبع فى كتابه (تلخيص البيان فى مجاز القرآن) سور الكتاب العزيز، سورة سورة، إلا بعض القصار التى خلت من صور البيان واعتمدت على الحجة المقنعة، والإلزام المفحم، وأضرب المثل لما عقب به على قول الله عز وجل: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (¬39). قال: (¬40) هذه استعارة، والمراد بها أنهم تفرقوا فى الأهواء، واختلفوا فى الآراء، وتقسمتهم المذاهب، وتشعبت بهم الولائج، ومع ذلك فجميعهم راجع إلى الله سبحانه وتعالى على أحد وجهين: إما أن يكون ذلك ¬

(¬39) سورة الأنبياء: 93. (¬40) تلخيص البيان: تحقيق الأستاذ محمد عبد الغنى حسن ص 232 ط أولى.

رجوعا فى الدنيا فيكون المعنى أنهم وإن اختلفوا فى الاعتقادات صائرون إلى الإقرار بأن الله- سبحانه وتعالى- خالقهم ورازقهم ومصرفهم ومدبرهم، أو يكون ذلك رجوعا فى الآخرة فيكون المعنى أنهم راجعون إلى الدار التى جعلها الله- تعالى- مجال الجزاء على الأعمال، وموفى الثواب والعقاب، وإلى حيث لا يحكم فيهم ولا يملك أمرهم إلا الله- سبحانه وتعالى، وشبّه تخالفهم فى المذاهب، وتفرقهم فى الطرائق- مع أن أصلهم واحد، وخالقهم واحد- بقوم كانت بينهم وسائل متناسجة، وعلائق متشابكة، ثم تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق وشذب تلك الوصائل، فصاروا أصنافا مختلفين. فهذا تحليل أدبى يبعد بالكتاب عن جفاف المنطق الصارم، وله أمثاله، بل ما يزيد عنه كثيرا، لأنى لو نقلت النصوص التامة لتعليقاته الأدبية البارعة لضاق نطاق القول، وحسبى أن ألفت إلى ما تعرض له فى مثل قول الله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ (¬41) وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (¬42) وقوله: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (¬43) فقد سبق إلى تحليل كان ابن بجدته، ودل على صدق استشفاف، ولطافة اتجاه، وأذكر أنى وضحت ذلك تماما فيما كتبته عنه تحت عنوان (منحى الشريف الرضى) فى كتابى (خطوات التفسير البيانى) ومنه اقتبست ما جاء عن الشريفين- رحمهما الله. عبد القاهر ودلائل الإعجاز: نشأ عبد القاهر نحويا إذ تعمق فى مسائل النحو تعمقا لم يصل إليه من سبقه، وقد رأى أن النحو قد حيد به عن الطريق الأمثل حين قصره بعض دارسيه على ضبط أواخر الكلمات، وما يخصها من إعراب وبناء، مع أنه فى رسالته الحقيقية علم يؤدى إلى المعرفة الصحيحة لتركيب الجمل وبناء الأساليب، وبالوقوف على ذلك يتسنى للدارس أن يعرف بلاغة الأسلوب، ومن هنا كان الأسلوب القرآنى وهو أرفع نماذج الأدب العربى موضع التحليل البيانى المفضى إلى تأكيد الإعجاز، وقد اطلع على ما قاله سابقوه، وأفاد منه ليقيم على أساسه ما عرف بقضية النظم، وجعل فى خطواته الأولى يتساءل عن الكلمات المفردة هل هى سر الإعجاز؟ ونفى ذلك لأن الكلمات المفردة شائعة لجميع الكتّاب، ¬

(¬41) سورة البقرة: (257). (¬42) سورة البقرة: 174. (¬43) سورة الصافات: 48.

ومعانيها لا تزيد ولا تنقص، فلا بد أن يكون هناك سرّ آخر، وتساءل عن تركيب الحركات والسكنات فى الجملة القرآنية، فنفى أن يكون ذلك هو السر المنشود، فإذا لم تكن المقاطع والفواصل سر الإعجاز فإن ما تضمنه كثيرا من الاستعارات وأوجه البيان لا يقدم هذا السر أيضا، ووالى البحث نافيا كل احتمال لا يثبت للنقاش حتى اهتدى إلى أن السر فى نظم القرآن، وليس النظم شيئا عن غير توخى معانى النحو وأحكامه، وذلك ما قام عليه كتابه (دلائل الإعجاز)، وقد قال فى تقرير ذلك: «اعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك أن لا نظم فى الكلمة ولا ترتيب، حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك، وهذا ما لا يجهله عاقل، ولا يخفى على أحد من الناس. وإذا كان كذلك، فبنا إلى التعليق فيها والبناء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها؛ ما معناه وما محصوله؟ وإذا نظرنا فى ذلك علمنا ألا محصول لها غير أن تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الآخر، أو تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا أو مفعولا، أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثانى صفة للأول أو تأكيدا له أو بدلا منه أو تجىء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون الثانى صفة أو حالا أو تمييزا، أو تتوخى فى كلام هو لإثبات معنى أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنيا فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك ... وعلى هذا يكون القياس» (¬44) وإذن فنظم الكلام وفق قواعد النحو هو مدار الإبداع فى التركيب، والألفاظ لا تتفاضل باعتبارها ألفاظا مجردة إنما تثبت لها الفضيلة وخلافها فى ملاءمة معنى اللفظة لجاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها، وهل قالوا لفظة متمكنة، وفى غيرها قلقة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكين عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم. ويزداد هذا المعنى وضوحا بالتمثيل فقد عمد الجرجانى إلى قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (¬45) فشرح الآية الكريمة وجلاها تجلية زاهية حين قال: «إن شككت فتأمل هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها، وأفردت لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهى فى مكانها من الآية قل (ابلعى) واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها، وكيف بالشك فى ذلك؟ ومعلوم أن مبدأ العظمة أن نوديت ¬

(¬44) دلائل الإعجاز ص 44 - الطبعة الرابعة من دار المنار سنة 1367 بتحقيق السيد محمد رشيد رضا. (¬45) سورة هود: 44.

الأرض ثم أمرت، ثم أن كان النداء بيا دون أى نحو يا أيتها الأرض، ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال: ابلعى الماء، ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل «وغيض الماء» فجاء الفعل على صيغة فعل، الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر، وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقول الله: وَقُضِيَ الْأَمْرُ، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة، والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة «قيل» بقيل فى الفاتحة، أفترى لشىء من هذه الخصائص، التى تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من كل أقطارها، تعلقا باللفظ من حيث هو صوت «مسموع، وحروف تتوالى فى المنطق، أم كل ذلك لما بين معانى الألفاظ من الاتساق العجيب». (¬46) والكتاب ملىء بالشواهد الباهرة فى قضايا الأسلوب القرآنى من ذكر وحذف، وتقديم وتأخير، ووصل وفصل، مما كان بذرة قوية لعلم المعانى، ولو سلك المتأخرون سبيل عبد القاهر فى هذا الاستشفاف الباهر لأراحوا من عناء كثير، ونتبع المثال السابق بمثال آخر ساقه الجرجانى فى تحليل قوله تعالى عن موسى عليه السّلام مع إيضاح ما فى النص الكريم من حذف للمفعول به أيضا مما يدل على نباهة فكر، ودقة ذوق: قال تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ. (¬47) قال عبد القاهر: «إن أردت أن تزداد تبينا لهذا الأصل أعنى وجوب أن تسقط المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل لفاعله، ولا يدخلها شوب، فانظر إلى الآية ففيها حذف مفعول فى أربعة مواضع، إذ المعنى وجد عليه أمة من الناس يسقون أغنامهم أو مواشيهم، وامرأتين تذودان غنمهما، وقالتا لا نسقى غنمنا، فسقى لهما غنمهما، ثم إنه لا يخفى على ذى بصر أنه ليس فى ذلك كله إلا أن يترك ذكره، ويؤتى بالفعل مطلقا، وما ذاك إلا أن الغرض فى أن يعلم أنه كان من الناس فى تلك الحال سقى، ومن المرأتين ذود، وأنهما قالتا: لا يكون منا سقى حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى عليه السّلام من بعد ذلك سقى، فأما ما كان من المسقى أغنما أم إبلا أم غير ذلك، فخارج عن الغرض وموهم لخلافه، وذلك إنه لو قيل: وجد من دونهما امرأتين تذودان غنمهما جاز أنه لم ينكر الذود من ¬

(¬46) دلائل الإعجاز ص 37. (¬47) سورة القصص: 23، 24.

غنم، حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذود، كما أنك إذا قلت: مالك تمنع أخاك؟ كنت منكرا المنع لا من حيث هو منع، بل من حيث هو منع أخ، فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول فى هذا النحو من الروعة والحسن ما وجدت، إلا لأن فى حذفه وترك ذكره فائدة جليلة، وأن الغرض لا يصح إلا على تركه». (¬48) هذا التحليل لا يملكه إلا باحث ذوّاق مثل عبد القاهر، وقد جاء بعده من حاولوا أن ينهجوا فى الحديث عن أبواب المعانى من حذف وذكر وتقديم وتأخير وغيرها، لكنهم لم يرزقوا موهبته، فكتبوا كثيرا مما اعترض عليه، هذه ناحية. - أما الناحية الثانية فإن الاهتمام بالآية والآيتين كلمات وحروفا؛ دون نظر إلى الموضوع جميعه، والارتباط الوثيق بين الآيات المتصلة؛ جعل النظر جزئيا لا كليّا، وقد آن لنا أن ننظر إلى النص باعتباره وحدة متماسكة دون أن نقتصر على الجملة والجملتين، والآية والآيتين. - وأبرز من اهتدى إلى طريقة الجرجانى هو: الزمخشرى فى (كشافه) مع الفرق بين أسلوب الأديب وترسّله عند عبد القاهر، وأسلوب العالم ودقّته- ولا أقول كزازته- عند الزمخشرى، على نحو ما سأشير إليه الآن. الزمخشرى: إذا كان عبد القاهر قد اختار من آيات الكتاب المبين ما يكشف عن منحاه البيانى، ويخدم قضية الإعجاز التى سمّى كتابه بها، فإن الزمخشرى قد فسّر القرآن كله آية آية ليسير فى ضوء عبد القاهر وإن لم يعترف بذلك فلم يذكر اسمه صريحا بين أسماء من حشرهم فى مقدمة الكتاب، وقد اكتفى بإشارة بعيدة إلى بيت شعر قاله، والعجب أن يشير إليه شاعرا دون أن يشير إليه فاتحا أهم ميادين البيان! وهذا يتطلب التعليل .. نعرف أن الزمخشرى كان معتزليّا، وقد بذل جهده فى تعضيد مذهبه، حين تعرض لتفسير الآيات المتصلة بعلم الكلام وقد مثّلت لذلك فيما كتبته عنه فى كتابى (خطوات التفسير البيانى) وأرى من ضيق المقام أن أتجاوز ذلك إلى نقول تدلّ على حسن ذوقه، وقوة استشفافه البيانى مع ما تدل عليه من منهجه الأسلوبى إذ جعل التقرير البيانى فى هيئة سؤال وجواب كأن يقول فإن قلت ... ، قلت. وهى طريقة لا ينفسح معها مجال الإشباع الأدبى، كما اتسع أمام عبد القاهر. ومما نختاره من دلائل نفاذه فى التفسير البيانى، ما ذكره فى تأويل قول الله عز وجل: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها ¬

(¬48) دلائل الإعجاز ص 125.

فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (¬49) حيث قال: «الأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا، وهذا لا يكون فيبقى أن يكون مجازا، ووجه المجاز، أنه صبّ عليهم النعمة صبّا، فجعلوها ذريعة للمعاصى وإتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبّب إيلاء النعمة فيه. وإنما خوّلهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير، ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشر. وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول. وهو كلمة العذاب فدمّرهم» (¬50). ثم يكر الزمخشرى على رأى ذائع فينقضه بقوله: «هلّا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا» قلت: إن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف بحذف ما الدليل قائم على نقيضه، وذلك أن الأمر به حذف لأن فسقوا يدل عليه، وهو كلام مستفيض، يقال: أمرته فقام وأمرته فقرأ، فلا يفهم منه إلا أن المراد به قيام وقراءة، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب» (¬51)، ثم يفيض المفسر الكبير فيما يؤيد رأيه؛ ذاكرا من الأمثلة ما يدل على مهارة واقتدار، فإن كان طابع المنطق يطغى على عبارته، ولو تجاوز هذا الطابع الجدلى الصارم لكان كلامه نمطا من التفسير البيانى يقارب نمط الشريف وعبد القاهر، فيخرج من هذه الحدود إلى فضاء فسيح، وإذا كان الزمخشرى لم ينس نصيب النحو فيما تصدّى له من تفسير آيات الكتاب المبين فإن نصيب البيان قد تجلى بوضوح سافر فى أكثر ما كتب؛ مما يكشف لبعض الدقائق الخافية فى أسرار التأويل، وأمثّل لذلك بما ذكره فى تفسير قول الله عز وجل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ (¬52). قال: اقشعرّ الجلد إذا تقبّض تقبّضا شديدا، وتركيبه من حروف القشع، وهو الأديم اليابس مضموما إليه حرف رابع وهو الراء ليكون رباعيّا ودالا على معنى زائد يقال: اقشعر جلده من الخوف، وقفّ شعره وهو مثل فى شدة التخويف، فيجوز أن يريد به الله تعالى التمثيل تصويرا لإفراط خشيتهم. وأن يريد به التحقيق» (¬53)، ولم أجد من خص كلمة قشع بهذا التحليل قبل الزمخشرى، وهو مما يدل على شدة إحساسه بمعانى الحروف قبل إحساسه بمعانى الكلمات. ونظير ذلك ما ذكره من الفرق بين مرضع ومرضعة عند تفسيره لقول الله عز وجل: ¬

(¬49) سورة الإسراء: 16. (¬50) تفسير الكشاف- الطبعة الأولى، طبعة مصطفى محمد سنة 1354 هـ، فى سورة الإسراء. (¬51) الكشاف الموضع السابق رقما وسورة. (¬52) سورة الزمر: 23. (¬53) تفسير الكشاف، الزمر.

يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها (¬54) حيث قال: «فإن قلت: لم قيل مرضعة دون مرضع، قلت: المرضعة التى هى فى حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبىّ، والمرضع التى من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع فى حال وصفها به، فقيل مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه، وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة» (¬55). ومن دقائق ما التفت إليه الزمخشرى ما ذكره عن تفسير قول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا (¬56). حيث قال: «فإن قلت: أى فرق بين (وظنوا أن حصونهم تمنعهم) وبين النظم الذى جاء عليه؟ قلت: فى تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها، ومنعها إياهم، وفى تصيير ضميرهم اسما وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم فى أنفسهم أنهم فى عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض إليهم، أو يطمع فى منازلتهم، وليس ذلك فى قوله: «وظنوا أن حصونهم تمنعهم». (¬57) هذه لفتات أدبية رائعة تصور إحساس الزمخشرى بالإعجاز القرآنى فى كل منحى من مناحيه، كلمة أو جملة أو تقديما أو تأخيرا، وقد ظهرت مؤلفات خاصة بتفسير الكشاف وضحت هذه المعانى بما لا مزيد عنه، ولو امتد هذا الإحساس الأدبى لدى الذين نقلوا عنه من المفسرين، لواصلوا السير على نمطه، ولكن كلّ ميسر لما خلق له. وحسبه أنه أعطى فأجزل العطاء. تراجع: كان انتهاء القرن الخامس الهجرى مؤذنا بتراجع ملموس فى النشاط الابتكارى بالدراسات العلمية والإبداع الأدبى معا، وقد شمل ذلك دراسات الإعجاز القرآنى حيث لم تعد مدّا متواصلا يحفل بالجديد، بل وقفت إلى ما انتهى إليه السابقون، وزادت عليه أن غمرتها الخصائص المنطقية، وكان الفخر الرازى أول من انتقل بها من مجالها البيانى إلى تقسيمات المناطقة، حين ألف كتابه (نهاية الإعجاز فى دراية الإيجاز)، فاستعان بالمنطق فى تشعيب المسائل وتفريعها، والإحاطة بالأصول والفروع غير ملتفت إلى جمال النص وروعة الأسلوب، بل أصبحت القواعد الجافة، مجال تأملاته وموضع اهتمامه، وكأنه يكتب عن فلسفة ومنطق ونحو وصرف لا عن بيان ¬

(¬54) سورة الحج: 2. (¬55) تفسير الكشاف، سورة الحج. (¬56) سورة الحشر: 2. (¬57) تفسير الكشاف، الحشر.

وذوق وفن، وهذا أيضا نهجه فى التفسير الشهير الذى حاز الصيت البعيد، إذ حفل بثمار الثقافة الإسلامية فى عصره منطقا وأصولا وفلسفة وتوحيدا وجدلا لتكون هذه الثمار أدوات لتوجيه الاعتراض ودفعه، فتحول التفسير إلى دائرة معارف علمية. ثم جاء البيضاوى فاقتبس منه طريقته مع إيجاز بالغ دعا كثيرا من المؤلفين إلى كتابة الحواشى على تفسيره ليذكروا أكثر ما قرره الرازى! وهكذا لم يجد الإعجاز من أصحاب الذوق البيانى فى هذا الخضم المتسع من يأخذ بناصره؛ لأن السكاكى قد تصدر للتأليف فى علوم اللسان ومنها علم البلاغة فقعّد القواعد، واهتم بالفروع، وقد قرأ كتاب عبد القاهر وانتفع به، ولكنه لم يمض فى منحاه الأسلوبى، بل جعل ما بسطه الجرجانى مقننا فى تعريفات وأقسام جنت على النص الأدبى، وقد ظهر فى هذا العصر من استطاع أن يتجافى طريقة الرازى فى الشرح البيانى وهو ابن أبى الأصبع ت 654 هـ حيث قصر كتابه الكبير «بديع القرآن» على ما استحسنه من مظاهر الألوان البلاغية من استعارة وتشبيه ومجاز وطباق وتجنيس وتورية وكناية وتعريض واختراع أسماء أخرى لم تكن من قبل حتى عدّ من ألوان البديع مائة وتسعة كان من الممكن أن تتداخل فلا تتسع إلى هذا الأمد، وقد كان ابن أبى الأصبع أديبا شاعرا ولكنه نشأ فى عصر التقليد فلم ينج من أوهاقه، وكانت ضروب البديع مهوى الشعراء والباحثين فى النقد الأدبى فاختصها باحتفاله وجعل من آيات الذكر الحكيم مجالا لتطبيقها على هذا النحو الفسيح حتى عد هذه المحسنات مع ما يتصل بها من فنون المجاز والكناية والتشبيه والاستعارة من دلائل الإعجاز القرآنى، ومن أبرز سماته. ومن المدهش أنه ذكر فى مقدمة كتابه: إعجاز القرآن للباقلانى ودلائل الإعجاز لعبد القاهر وتفسير الكشاف وغيرها من الكتب التى خالفت نهجه فى التأليف، ونقل منها فى أكثر من موضع، واستراح إلى مضمونها ولم يمنعه ذلك من الإغراق فى التماس البديعيات والمحسنات التماسا مفرطا قد يدعو إلى الملال، وكان الأحرى به وقد درس كتب السابقين من هؤلاء الأفذاذ ألا يتنكب طريقهم المتزن؟ فى تناول ألوان البيان. على أنه قليلا ما كان يسمح لخاطره بالتعبير المتسع فى تحليل بعض الآيات فيأتى بما كنا نود أن يستمر عليه فى التأليف، ومن ذلك ما كتبه عن قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (¬58) حيث قال- بتصرف قليل: ¬

(¬58) سورة الحج: 73.

«فانظر إلى غرابة هذا التمثيل الذى تضمن الإفراط فى المبالغة مع كونها جارية على الحق خارجة مخرج الصدق وذلك حين اقتصر سبحانه على ذكر أضعف المخلوقات، وأقلها سلبا لما تسلبه، وتعجيز كلّ من دونه- سبحانه- كائنا من كان عن خلق مثله مع التضافر والاجتماع، ثم نزل فى التمثيل عن رتبة الخلق إلى استنقاذ النزر التّفه الذى يسلبه هذا الخلق الضعيف على ضعفه، فتنقّل فى النزول فى التمثيل على ما تقتضيه البلاغة على هذا الترتيب فى البيان، فنزل بهم إلى استنقاذ ما يسلبه هذا المخلوق الضعيف، ليريهم عجزهم فتستيقنه نفوسهم وإن لم تقر به ألسنتهم، فجاء بما يقضى الظاهر أنه أيسر الخلق وهو فى الحقيقة مثله فى العسر، ولم يسمع مثل هذا التمثيل فى بابه لأحد قبل نزول القرآن العزيز» (¬59). فهذا التحليل رصين فى موضوعه، قلق فى صياغته إذا قورنت بصياغة الشريف الرضى وعبد القاهر، ولكنه يسير فى طريقهما فحسب وليته واصل المسير. ولا ننكر ما امتلأت به كتب المتأخرين مثل الزركشى والسيوطى والبقاعى من أحاديث متناثرة عن الإعجاز القرآنى؛ بل إن السيوطى ألف كتابا مستقلا عن الإعجاز ولكنه ترديد لما يقال ونسج على منوال مشتهر لم يضف جديدا. حتى ليجوز لنا أن نقول: إن العصر المملوكى والعصر العثمانى لم يأت من علمائهما من حاول اللحاق بالسابقين طرافة ومنهجا واستشفافا حتى جاء العصر الحديث، فنفح القراء بما يروق ويفيد، وما كتبه الأندلسيون فى تفسير الكتاب، مثل ابن عطية وابن العربى، جيد فى بابه، ولكنه لا يضيف الجديد. أ. د/ محمد رجب البيومى ¬

(¬59) بديع القرآن. لابن أبى الأصبع، ص 340 - الطبعة الأولى- بتحقيق الدكتور حفنى شرف.

الإعجاز المعاصر

الإعجاز المعاصر مقدمة: إذا كان القرآن الكريم كتاب الزمن كله، لا كتاب عصر واحد، فإن كلّ جيل يأتى لا بدّ أن ينتفع بثقافة عصره المتطورة، وأن تكون هذه الثقافة مفتاحا لباب جديد من القول، ولذلك يظلّ حديث الإعجاز ممتدا فى كل عصر ثقافى، وهو يجود ويعلو حين ترتفع ثقافة العصر، ويرقّ وينحل حين تنخفض هذه الثقافة كما أشرت من قبل إلى عصر المماليك وما تلاه. وإذا كان هذا العصر قد هجم علينا بثقافاته المتعددة، ورقيّه الفكرى المحلّق، فإنّ المجال قد اتسع به لحديث عن الإعجاز لم يلمّ به السابقون من قبل، وقد تنوّع هذا الحديث إلى علوم شتى، ولكنّا هنا نقتصر على الإعجاز البيانى وحده، ومعلوم أن الذين كتبوا من المعاصرين عن الإعجاز البيانى لا يلم به حصر دقيق. ففي كلّ بلد إسلامى يوجد من يتحدث عن الإعجاز بمنحاه الخاص، وفيهم من وفّقه الله فأتى بالرائع المفيد، ومن كبا به حظّه من المعرفة، فلم يأت بغير الضئيل المنقود إذ أقحم نفسه فى ميدان ليس من فرسانه، وسبيلى الآن أن أختار بعض النابهين من المتحدثين عن الإعجاز، مكتفيا ببعض عن بعض كيلا يطول الحديث، وسأتحدث عنهم مراعيا ناحية السبق الزمنى للكاتب، لنحفظ له حقّه فى الريادة والتوجيه. محمد فريد وجدى علم من أعلام الفكر الإسلامى، وحسبه أنه ألّف وحده دائرة معارف القرن العشرين، وقد قرأ ما كتبه السابقون عن الإعجاز، فوجد أنّ الكاتبين قد وفّوا المقام فى الناحية البلاغية المعروفة فى اصطلاحاتها العلمية، ولكنّ ذلك لا يكفى، فإن للبلاغة تأثيرا على الشعور الإنسانى يتطلب إيضاح أثرها فى النفس القارئة، وكلام البشر يظهر ذا رونق فى القراءة الأولى والثانية فإذا تتابعت القراءة مرات فقد تأثيره كثيرا، وكاد يملّه القارئ. أما القرآن فقد انفرد بميزة خاصة هى

حلاوة تأثيره مع التكرار وكلّ من حفظ القرآن حفظا لا يمل ترديده، وفى كل قراءة يزداد وثوقا واطمئنانا، فوجب علينا أن نتحدث عن الإعجاز من هذه الناحية، ما سببه .. ؟ ولماذا خالف القرآن كلّ ما يكتب، إذ انفرد بهذا التأثير غير المملول. لقد راجع الأستاذ فريد وجدى التأثير القرآنى لشىء واحد هو أنه روح من عند الله، والروح لا تفقد تأثيرها فهى الموجّهة لكلّ شىء تحل به، وإذا كانت روح القرآن من عند الله فلا يمكن أن تماثلها روح مقال آخر. وهذا هو السبب فى انقطاع الإنس والجنّ عن محاكاته. يقول الأستاذ محمد فريد وجدى ملخّصا: لا نشك فى أنّ القرآن فصيح من ناحية ألفاظه ومعانيه، وقد أخرس بفصاحته فرسان البلاغة وقادة الحكمة. كما بهر الفلاسفة، وألزم الحجة كل ضال، وهو هدى وشفاء لما فى الصدور، وكلّ هذه صفات جليلة تؤثر فى العقل والشعور، والعواطف والميول فتتحكم فيها تحكما آسرا، ولكنّ وراء ذلك كله شيئا واحدا هو الروح الإلهية التى تصل من النفس الإنسانية إلى حيث لا يصل بإزائها كلام آخر، فهى تحلّق فى آفاق لا يرتفع إليها فكر، ولا تجول بخاطر، وهذه الروحانية تظهر عند ما تكون آية من آيات القرآن جاءت على سبيل الاستشهاد وسط كلام سابق ولاحق، فإنك ترى الآية الكريمة تتجلّى بين السطور، وكأنّها الشمس فى رائعة النهار، مهما كانت درجة الكاتب، وعلو منزلته فى البيان. (¬1) وإذن فقد جعل الباحث الكبير روحانية القرآن سرّ إعجازه، يردّ بذلك على من يجعلون أساليب القرآن البلاغية من خصائص الإعجاز لأنّ هذه الأساليب من ذكر وحذف وتقديم وتأخير وفصل وصل موجود فى الأساليب البشرية، وليست لها هذا السطو الآخذ للنفوس، هذا ما قاله الرجل ويمكننا أن نقول إن هذه الأساليب البيانية هى صاحبة التأثير الروحى، لأن القرآن قد استعملها استعمالا لم يتفق لسواه، فكانت بهذا الوهج الجاذب مصدر الإعجاز، وإذن فتكون المسألة قريبة بين من يقولون بتأثير الأساليب، وبين الأستاذ وجدى حيث يقول بأن الروح وحدها هى سرّ الإعجاز. هذا وإذا كان الروح القرآنى سرّا من أسرار الله، فلا يكفى فى تعليل الإعجاز أن نقف عند القول به وحده، بل لا بدّ أن نحلّل ما ¬

(¬1) دائرة معارف القرن العشرين، الجزء السابع ص 677 وما بعدها- الطبعة الأولى، تأليف الأستاذ محمد فريد وجدى.

مصطفى صادق الرافعى

أوحى به هذا الروح المرتفع من بيان لندرك بعض أسراره أما الاتجاه إلى المعنى الكلى دون تحليل لخصائص الكلمات والجمل والسياق فقد لا يكفى فى إرواء غلّة الدارس، وإطفاء عطشه حين يحاول أن يقف على سرّ هذا النمط الرفيع من البيان، ولعل الأستاذ وجدى يذهب إلى أن الخوض فى معرفة أسرار التركيب البيانى للقرآن قد ينتهى ببعض الدراسين إلى محاكاة هذا النّمط ما دامت أسراره البيانية قد عرفت بخصائصها البلاغية، وهذا كلام برّاق فى ظاهره ولكنّنا عند التمحيص نعرف أن إدراك السرّ البيانىّ بخصائصه الفنية لا يعنى القدرة على محاكاته، فالناقد الأديب قد يدرك جمال القصيدة الشعرية ويعرف موضع التأثير بها، ويشتدّ إعجابه حتى يرتّلها ترتيلا، ولكنه يعجز عن محاكاتها، ولو كان إدراك السرّ الجمالى فى البيان كافيا لاحتذائه والإتيان بمثله، لوجدنا أساتذة البلاغة جميعا من كبار الأدباء، ولكنّ الكثيرين منهم لا يتجاوزون الناحية العلمية فإذا انطلقوا إلى الإبداع كبا بهم اليراع. ومع هذا فإن اتجاه الأستاذ فريد وجدى إلى الحكم لسيطرة الروح الإلهى وحدها على مناحى البيان، وعدّها سرّ الإعجاز قد دفع كثيرا من القائلين من بعده إلى مناح ترتكز على ما قاله، إذ أضافوا إلى ما دبّجوه ما يشهدونه من روعة التأثير المنفرد بجاذبيته عن كلّ تأثير بشرى، ولا نقول بتوارد الخواطر فى المسائل العلمية إذا كانت ذات منطق يرتكز على التحليل، إذ ربما وقع التوارد فى الخواطر الأدبية أمّا الاتجاهات العلمية فستكون فى أصلها بذرة جيدة يبذرها السابق ويتعهّدها اللاحق بالرىّ والتشذيب حتى تستوى على سوقها شجرة فينانة، ولكل من السابق واللاحق نصيبه الموفق فى مجال البحث، فللأول اهتداؤه للفكرة، وللثانى بسطها وتفريعها على نحو قد تبدو به جديدة قشيبة، على أن العقول قد تتلاقى فى إثبات بعض الحقائق ولكن على ندرة هى إلى الاستثناء أقرب، وليست هكذا دائما. مصطفى صادق الرافعى الرافعى- رحمه الله- أوّل من أخرج كتابا مستقلا فى الإعجاز القرآنى من المعاصرين، فمنذ أن كتب السيوطى كتابه عن الإعجاز والمكان فارغ ينتظر من يملؤه على وجه شامل مستوعب يضيف الجديد مما يشبع رغبة

القارئ المعاصر، وقد تصدّر الكتاب ببحوث تتّجه وجهة الأدب الإبداعى، ولكنّها لا تدخل فى صميم المنهج العلمى، وأول صور الإعجاز ما كتبه الرافعى تحت عنوان (آداب القرآن) إذ جعل الأخلاق القرآنية والمسائل التشريعية، والتربية السلوكية إحدى وجوه الإعجاز، والسابقون من أمثال الباقلانى وعبد الجبار وعبد القاهر ممّن خصوا الإعجاز بأبواب مستقلة جعلوا الأسلوب البيانى وحده مدار الارتكاز فى قضية الإعجاز أما الرافعى فافتتح بهذا الفصل موضوعا جديدا مؤكدا أن قواعد الأخلاق قد وجدت من القرآن الركيزة المتبنية لعلم السلوك الإنسانى، فى أسلوب بيانى يجب أن يلتفت إليه معنى ومبنى، وقد قال بصدد ذلك: «وما فرّط المسلمون فى آداب هذا القرآن إلّا منذ فرّطوا فى لغته، فأصبحوا لا يفهمون بيانه، وبالتالى لا يدركون آدابه» (¬2). ثم أخذ يعرض آراء السابقين فى الإعجاز، وقد حمل على المتكلمين حملة لا أرى معه الحقّ فيها، فإذا كانت الشّبه التى تحدّت عنها المتكلمون قد فقدت مضمونها فى هذا العصر، فقد كانت من قبل ذات نقد هادم، فإذا كرّ عليها المتكلمون بالنسف المبيد فقد قاموا بواجب يشكرون عليه، كما رفض القول بالصّرفة على المعنى الشائع العام، وهو مرفوض بداهة وقد سبقت الإشارة إلى المعنى الدقيق فى هذا الاتجاه. وحين تحدّث الرافعى عن الإعجاز الأسلوبى ذكر أنّ العرب حين ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا أن ألفاظه هى الألفاظ التى يتداولونها، ولكنّ طريقة نظم هذه الألفاظ ووجوه تركيبها ونسق حروفها فى كلماتها، ونسق الكلمات فى الجمل كلّها جديدة فى بابها، فأحسّوا بعجزهم عن احتوائها، ورأوا أن أسلوب القرآن جنس من الكلام غير ما هم فيه، ولا سبيل إلى محاكاته، إذ هو وجه الكمال اللغوى الذى تشرئب إليه أرواحهم (¬3). أما التكرار فى البيان القرآنى فقد خاض فى تعليله كثير من البلغاء ولكنّ الرافعى أتى بالجديد حين ذكر أن التكرار مألوف عند العرب؛ ولكنّه فى النسق القرآنى غير مألوف، إذ أنّ المعنى يتردّد بصور، كلّ صورة منها غير الأخرى وهم عاجزون عن محاكاة الصورة الواحدة فما بالهم بالصّور المتعددة، فكأنّ الرافعى يريد أن يقول لهؤلاء إن القرآن يأتى بالمعنى ويتحداهم أن يأتوا بمثله، فيدركهم ¬

(¬2) إعجاز القرآن للرافعى ص 113. (¬3) السابق ص 214.

العجز، فيأتى بالمعنى نفسه فى صورة أخرى جديدة، فيدهش السامعون لهذا التكرار الطريف، مع أنّه تكرار. وقد خفى هذا المراد على الملاحدة ومن لا نفاذ لهم فى أسرار العربية، فزعموا المزاعم السخيفة مع أنّهم وأشباههم قد عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله. وخلص الرافعى إلى تحليل الأسلوب القرآنى، فحصر جهات النظم فى ثلاث. هى الحروف والكلمات والجمل، وخصّ كل جهة بفصل شاف مشفوع بالأدلة الكاشفة، والجديد بها أكثر من أن يحصر. وقد باهى الرافعى بما اهتدى إليه، ولم يلتفت ناقدوه إلى ما اختاره من أمثلة لم تكن من مختارات سابقيه، ممّا يجعلنى أؤكد أن كتاب الرافعى هو الثانى فى بابه بعد كتاب «دلائل الإعجاز» لأن الكتابين اجتمعا فى خاصية واحدة، لم يشركهما فيها مشارك، وهى روعة البيان الأسلوبى وتدفق التحليل. ومن الجديد الذى اهتدى إليه الرافعى من بارع الأفكار المضيئة فى أفق الإعجاز نستشهد بهذه السطور: « .. كل من يبحث فى تاريخ العرب وآدابهم، وينفذ إلى ذلك من حيث تنفذ به الفطنة، وتأتى حكمة الأشياء، فإنه يرى كل ما سبق على القرآن من أمر الكلام العربى وتاريخه، إنما كان توطيدا له، وتهيئة لظهوره، وتناهيا إليه ودربة لإصلاحهم به، وليس فى الأرض أمة كانت تربيتها لغوية غير أهل الجزيرة، فما كان فيهم كالبيان آنق منظرا وأبدع مظهرا، وأمدّ سببا إلى النفس، وأردّ عليها بالعافية، ولا كان لهم كذلك البيان أزكى فى أرضهم فرعا، وأقوم فى سمائهم شرعا، وأوفر فى أنفسهم ريعا، وأكثر فى سوقهم شراء وبيعا، وهذا موضع عجيب للتأمل، ما ينفد عجبه على طرح النظر وإبعاده، وإطالة الفكر وترداده، وأىّ شىء فى تاريخ الأمم أعجب من نشأة لغوية تنتهى بمعجزة لغوية، وتأتى بها على أكمل الوجوه وأحسنها، ثم يكون الدين والعلم والسياسة، وسائر مقومات هذه الأمة مما تنطوى عليه المعجزة، فتخرج به للدهر أمة كان عملها فى الأمم صورة من تلك المعجزة» (¬4). وهذا الوجه من النشأة اللغوية للأمة العربية قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يراه الرافعى إعجازا للقرآن الكريم، إذ نشأ فى أمّة هذه مقدرتها اللغوية لتكون قادرة على استيعابه، وهى فى الوقت نفسه عاجزة عن الإتيان بمثله، وأنا أرى أن هذه النشأة ليست ¬

(¬4) السابق ص 158.

عبد الله عفيفى

معجزة كما قال الرافعى ولكنّها إرهاص بالمعجزة التى تجلّت فى القرآن الكريم، كما عدّ الرافعى نهضة الأمة العربية بعد ضياعها فى العصر الجاهلى وامتداد دولها شرقا وغربا مظهرا من مظاهر الإعجاز القرآنى فى تربية النفوس، وحفز السلوك إلى المثل الأعلى، والإعجاز بهذه الفتوح لا يقف عند الجاهلين من أهل مكة لأنّهم لم يروا ما جدّ من الفتوح فيما بعد، ولكنه شهادة لدوام الإعجاز لدى الخلف بعد انقضاء عهد السلف. وقد جاء من المؤلفين فى البيان القرآنى وإعجازه بعد وفاة الرافعى من ظهر فى نتاجهم العلمى أثر الإعجاز كما قرر الرافعى من قبل، فكان الرجل بذلك قائد كتيبة علمية وجهت نشاطها إلى حقل القرآن، وأحرزت فخار النصر ورجعت بالأسلاب، (وبعضهم- ولا أدرى لماذا- لم يشيروا إلى كتاب الرافعى الذى استقوا من نبعه وارتووا من مائه، ولو أشاروا إليه لكان ذلك أدلّ على منزعهم الخلقى قبل أن يدل على فهمهم لأصول البحث العلمى، إذ يتسمون بالأمانة العلمية، ولا أنتقل إلى محاولة من رأى أن يعارض الرافعى بعد أن استقى من نبعه، ليقول إنه غير متأثر به، وللقراء عقول تعرف انحرافات الأهواء، وتستّر الميول). عبد الله عفيفى كان الأستاذ عبد الله عفيفى من كبار أدباء عصره، وقد ألقى محاضرات على طلبة كلية الشريعة فى الأدب العربى، جمعها تحت عنوان (زهرات منثورة) وفيه خص القرآن الكريم والحديث النبوى بتحليل دقيق، وتعرّض لحديث الإعجاز القرآنى فبسطه بسطا شافيا، ننقل هنا خلاصته. ذكر الأستاذ أوجها كثيرة للإعجاز فى مقدمتها هذه القوّة الروحية التى تسيطر على المشاعر، وتأخذ بالألباب، وهو مسبوق فى هذا الوجه بالأستاذ محمد فريد وجدى، وقد بسطنا القول فيه من قبل. أما الوجه الثانى من الإعجاز فقد قال فيه: إنّ العرب لم يكونوا يحسنون من فنون النثر إلا الأسلوب الخطابى الذى يعتمد على التأثير فى النفس باللّفظ الفخم والقول المردد، ولكنهم لم يكونوا من كثير من الأسلوب المنطقى الذى ينتقل من المقدمات إلى النتائج، وينفذ من المعلوم إلى المجهول، أمّا الأسلوب العلمى الذى تساق فيه الحقائق العلمية من

أيسر السبل، وأقرب الموارد، فذلك لم يكونوا منه فى شىء، فجاء القرآن ليواجههم بالأسلوب المنطقى والأسلوب العلمى معا فى سلاسل مفرغة الحلقات، محكمة الصوغ، لا وهى بها، ولا انقطاع لها، فوقفهم بذلك بين شعاب متشابكة لا يستطيعون النفاذ إلى مكنونها (¬5). وقد استشهد الأستاذ لذلك بالآيات الست الأولى من سورة الحج، وبيّن ما بها من أدلة عقلية، وأفكار علمية بيانا شافيا ثم قرنها بأفصح خطبة قيلت فى العصر الجاهلى وهى خطبة قس بن ساعدة الأيادى التى يقول فيها: «ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا»؛ ليؤكد أن الخطيب الجاهلى قد اعتمد على التأثير العاطفى وحده، أما آيات القرآن فقد جمعت العاطفة والعقل والعلم فى أسلوب سهل ميسور، وأزيد على ذلك بأنها جمعت من التصوير البيانى ما لم يعهد من قبل، ويتجلّى ذلك فى قوله عز وجل يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (¬6) وبعد أن شرح الأستاذ الآيات شرحا أدبيا مصوّرا ما تتضمنه من تفوق البلاغة الرفيعة قال: «هذا هو الأسلوب الخطابى الذى بلغ الغاية العليا بكل ما فى الخطابة من تأثير، فإذا ملأت منه يدك، وروّيت نفسك فاستمع حديث المنطق والعلم فى قوله جلّ شأنه يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ (¬7) إلى آخر الآية، فقد ساق الله دليلين لا يقبلان الشك، فى الوجود بعد الهمود، والحياة بعد الممات، وفى الحالتين استحال التراب بما فيه من الحياة الكامنة، إلى خلق حى يزداد على الأيام نموا وسموا، فتأمل كيف كشف الله حجاب العلم فى قوله تعالى: مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ (¬8) فهو سبحانه وتعالى يسقط هذه المضغ من الأرحام، ليشرح للإنسان كيف كانت أوّليته، ففي هذه الآيات بسط لأدوار التكوين الإنسانى بما لا يمكن للعرب أن يأتوا بمثله، لأنّه أتاهم بعلم ما لا يعلمون، ومن الدقة البديعة فى الأسلوب ¬

(¬5) زهرات منثورة فى الأدب العربى ص 52 للأستاذ عبد الله عفيفى- ط مصطفى الحلبى 1932. (¬6) الحج: 1، 2. (¬7) الحج: 5. (¬8) الحج: 5.

العلمى تعبيره عز وجل عن تضام ذرات الأرض المتشابهة، واختمارها بعد الحرث والبذر والرى، بقوله تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ (¬9) ثم انظر إلى ما وصل إليه المنطق من جمع الأدلة وسياق المدلول، أو تقديم الأمثلة وتأخير الدعوى فى قوله تعالى بعد أن ساق الدليلين المنطقيّين ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (¬10) وهذا كلّه وأشباهه ممّا لا قبل للعرب به، ولا طوق لهم بتحديه. هذا لباب ما قاله الأستاذ عبد الله عفيفى، وكان له صدى بعيد بين الدارسين، وطبيعى أن يلقى معارضة من ذوى النقد فالآراء لا تستقرّ دون معارضة يتبعها التمحيص، وقد عارضه الأستاذ الكبير محمود مصطفى أستاذ الأدب بكلية اللغة العربية فذكر أن العرب كانت تعرف هذين اللونين من الأسلوب المنطقى والأسلوب العلمى، والدليل على ذلك أنّهم لو كانوا يجهلونهما ما كان لهما وقع فى نفوسهم، لأن الناس أعداء ما جهلوا (¬11)، وقد ساق خطبة منحولة قيلت على لسان قبيصة بن نعيم حين وفد على كسرى، وألفاظ الخطبة وترتيبها يدلّ على إسلاميتها، وأنّ المعانى مما جاء به القرآن الكريم، هذا من ناحية، أما الناحية الأخرى فإنّ خطبة قبيصة المنحولة تخلو من الأسلوب العلمى الذى أشار إليه الأستاذ عبد الله عفيفى، فكيف يقال: إنّ العرب كانت تعرف هذين الأسلوبين، أما القول بأن العرب لو كانوا يجهلون هذا الأسلوب ما قبلوه فممّا لا يستقيم مع النظر الصحيح؛ لأنّ الجديد الطريف لا يرفض بداهة عند ذوى العقول. وقد جاء عصرنا الحاضر بفنون من القول لم تكن معروفة فى الأدب العربى مثل الشعر التمثيلى، فلاقت الترحيب المشجّع، وما زال الجديد يفد كلّ يوم بثماره المشتهاة. أما الوجه الثالث من وجوه الإعجاز عند الأستاذ عبد الله عفيفى فهو الإفاضة فيما كان يجهله العرب من أحداث التاريخ من قبل ومن بعد، فأخبار الأمم السابقة لم تكن معروفة لدى العرب، وقد قال الله عز وجل تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا (¬12) ولو ¬

(¬9) الحج: 5. (¬10) الحج: 6، 7. (¬11) الأدب العرب وتاريخه ج (1) ص 42 للأستاذ محمود مصطفى- طبعة عيسى الحلبى. (¬12) هود: 49.

الدكتور محمد عبد الله دراز:

كان قوم الرسول يعلمون شيئا من هذه الأنباء لصاحوا به، نحن نعلم، ولكن كان قصاراهم أن يقولوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (¬13) وندع أخبار التاريخ إلى ما استفاض به القرآن من أمور التشريع، فقد كان العرب فى جاهليتهم لا ينزعون إلى شريعة مفروضة فجاءهم القرآن من جانب التشريع بما دهشوا، كذلك لم يكونوا يعرفون شيئا عن المعاد وأمور البعث والحساب والملائكة والجن والجنة والنار فأتى لهم بما يجهلون، ثم هذا التصوير الأدبى الرائع الذى أعجزهم كل الإعجاز فى مثل قول الله اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ. (¬14) ولم يسق الأستاذ هذه الآيات مجردة من التحليل الأدبى الشائق، والعرض الأسلوبى البديع، بل بلغ من ذلك مبلغا حميدا- رحمه الله. الدكتور محمد عبد الله دراز: ألّف الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز كتاب «النبأ العظيم» ليثبت إعجاز القرآن بما لا يدع مجالا للريب، والكتاب فى القمة من الأدب العالى (وقد طبع عدة مرات وأرجو أن يكون فى مكتبة كل مسلم) لما تضمن من حقائق جديدة، أكثرها من بنات فكره الخاص مع تمتعه بأسلوب نادر يجذب القارئ حتى ليخاله شعرا، (وهو فى رأيى أقرب إلى نفوس القراء من كتاب الرافعى- رحمه الله- على عظم تقديرنا إياه، لأنّ الرافعى يتعمّق فى التصوير والتعبير حتى يحوج القارئ إلى التثبت، أما النهر المتسلسل الدفاق فهو ما انهمر من يراع الدكتور دراز، وكأنه غيث نزل من السماء فأحيا به الله الأرض). لقد رصد المؤلف الخصائص القرآنية للأسلوب البيانى فى كتاب الله فحدّها فى أربعة أمور هى سر الإعجاز، وأول هذه الخصائص هو (البيان والإجمال معا) (¬15) فهما خارقة عجيبة من خوارق التعبير لأنّ الناس إذا عمدوا إلى تحديد أغراضهم لم تتسع إلى تأويل، وإذا أجملوها ذهبوا بها إلى الإبهام أو الإلباس، ولا يكاد يجتمع لهم هذان ¬

(¬13) الفرقان: 5. (¬14) النور: 35. (¬15) النبأ العظيم تأليف الدكتور محمد عبد الله دراز ص 128 - الطبعة الأولى سنة 1957 م.

الطرفان فى كلام واحد، ولكنك تقرأ القطعة من القرآن فتجد فى ألفاظها من الشفوف والملاسة والإحكام، والخلو من كلّ غريب عن الغرض، ما يتسابق به مغزاها إلى نفسك دون كدّ خاطر، أو استعارة حديث، كأنك لا تسمع كلاما ولغات بل ترى صورا وحقائق ماثلة ثم يخيّل إليك أنّك أحطت به خبرا، ووقفت على معناه محدودا، ولكن لو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد غير الذى سبق إليه فهمك أول مرة، حتى ترى للجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة وجوها عدّة كلها صحيح، أو محتمل الصحة، كأنما هى فصّ من الماس يعطيك كلّ ضلع منه شعاعا، فإذا نظرت إلى أضلاعه جملة، بهرتك بألوان من الطيف، لا تدرى ماذا تأخذ منها وما تدع ولعلّك لو وكلت النظر فيها لغيرك لرأى فيها أكثر مما رأيت، وهكذا نجد كتابا مفتوحا مع الزمان يأخذ منه كل فرد ما تيسّر له، بل ترى محيطا مترامى الأطراف لا تحدّه عقول الأفراد ولا الأجيال، ألم تر كيف وسع الفرق الإسلامية على اختلاف وسائلها فى القديم والحديث، وهو على لينه للعقول والأفهام صلب متين، لا يتناقض ولا يتبدل، يحتج به كل فريق لرأيه، ويدّعيه لنفسه، وهو فى سمّوه فوق الجميع يطلّ على معاركهم حوله، وكأنّ لسان حاله يقول قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا (¬16)، وثانية هذه الخصائص هى (إقناع العقل وإمتاع العاطفة) (¬17): والحديث عن اجتماع العقل والعاطفة فى أسلوب واحد لا يقنع به إلا دارس مكين تغلغل فى خوانى علم النفس فاهتدى إلى أسرار صارت مصباحا فى يده يضيء الطريق، فقد عرفنا كلام الحكماء والعلماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء وهؤلاء إلا غلوّا فى جانب وقصورا فى جانب، فأما الحكماء فإنهم يؤدون إليك ثمار عقولهم، غذاء لعقلك، ولا تتوجّه نفوسهم إلى استهواء نفسك، واختلاف عاطفتك، فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم، لا يأبهون لما فيها من جفاف وعرى، ونبوّ عن الطباع، أما الشعراء فيسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، ولا يبالون بما صوّروه لك أن يكون غيا أو رشادا، وأن يكون حقيقة أو تمثيلا، فتراهم جادين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويطربون وإن كانوا لا يطربون، وكل امرئ حين يفكر إنما هو فيلسوف صغير، وكل امرئ حين يحس إنما ¬

(¬16) الإسراء: 84. (¬17) النبأ العظيم ص 124.

هو شاعر صغير، فهل رأيتم أحدا تتكافأ فيه قوة التفكير، وقوة الوجدان، وسائر القوى النفسية على حد سواء، واذا كانت الإجابة بالنفى فكيف تطمع من إنسان أن يهب لك الطّلبتين معا، وهو لم يجمعهما فى نفسه على حد سواء، وما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة عليه من تلك الأحوال. هذا مقياس تستطيع أن تتبين به كل إنسان، وحكم أى القوتين كان خاضعا لها، حين قال وكيّف، فإذا رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية، أو وصف طريقة عملية، قلت: هذه ثمرة الفكرة، وإن رأيته يعتمد إلى تحريض النفس أو تغييرها وقبضها وبسطها، واستثارة كوامن لذاتها وآلامها، قلت: هذه ثمرة العاطفة، فإذا رأيته انتقل من أحد هذين الضّربين إلى الآخر فتفرغ له بعد ما قضى وطرا من سابقه، كما ينتقل من غرض إلى غرض، عرفت ذلك من تعاقب الشعور والتفكير على نفسه، فأمّا أنّ أسلوبا واحدا يتجه اتجاها واحدا، ويجمع بين يديك هذين الطرفين معا، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أزهارا وأثمارا وأوراقا معا، وكما يسرى الروح فى الجسد، والماء فى العود الأخضر، فذلك ما لا نظفر به فى كلام بشر، ولا هو من سنن الله فى النفس الإنسانية، فمن لك بهذا الكلام الذى يحى من الحقيقة البرهانية الصارمة بحيث يرضى حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين، وبين المتعة الوجدانية بحيث يرضى هؤلاء الشعراء المرحين. ذلك الله رب العالمين، فهذا الذى لا يشغله شأن عن شأن، وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معا بلسان واحد، وأن يخرج الحقّ والجمال معا يلتقيان فلا يبغيان، وهذا هو ما تجده فى كتابه الكريم حيثما توجهت، ألا تراه فى نسجه قصصه وأخباره لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة، ألا تراه وهو فى معمعة براهينه وأحكامه، لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير، يبث الله ذلك فى مطالع آياته، ومقاطعها وتضاعيفها. وثالثة هذه الخصائص القرآنية لدى الدكتور دراز هى ما حصره الباحث فى (خطاب العامة والخاصة) (¬18) إذ هذان الخطابان يمثلان غايتين أخريين متباعدتين عن الناس، فلو أنّك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذى تخاطب به الأغبياء، لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه فى الخطاب لأنفسهم، ولو أنّك خاطبت العامة باللمح والإشارة لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه ¬

(¬18) النبأ العظيم ص 123.

سيد قطب:

عقولهم، فلا غنى لك إذا أردت أن تعطى كلتا الطائفتين حظها من كمال بيانك أن تخاطب كل واحدة منها بغير ما تخاطب به الأخرى، فأما أنّ جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك، فيراها كل منهم مقدرة على قياس عقله، وعلى وفق حاجته، فذلك ما لا تجده إلا فى كتاب الله. أما الخاصية الرابعة، فهى (القصد فى اللفظ والوفاء بحق المعنى) فقد جلاها الدكتور أحسن تجلية واستشهد لها بآيات كريمة أحسن تحليلها وإيضاح مراميها، ولا يحسن تلخيص ما جاء به هنا، لأنّه يطفئ من نور الكتاب إذا أوجز واختصر، فليرجع القارئ إليه. ولا بدّ من كلمة أقولها هى أن الدكتور رحمه الله- مبتكر مبدع فى أكثر ما انتحاه من التحليل، وبذلك أضاف كتابه ثروة طريفة للدراسات القرآنية الجادة، ثم هو بذلك يعطى المثل لمن يريد أن يبحث وجوها من الإعجاز القرآنى، إذ لا يقتصر على الترديد، بل يحاول أن يأتى بالجديد. سيد قطب: احتفل الشهيد سيد قطب بكتاب الله احتفالا تجلّى فى موسوعة (فى ظلال القرآن) وقد تواضع فذكر أنه يعيش فى الظلال فحسب، أى أنه لم يقدم تفسيرا يتجاوز الظلال إلى الأعماق، وهذا غير ما يحسّه قارئ الظلال، فقد كتبه الأستاذ بفكره وشعوره معا، شعوره المتقد بما نزل بالمسلمين من محن فى عهودهم الأخيرة، وفكره الوثّاب المشرئب لآفاق فسيحة يحلق فيها بقوته الخارقة. وسأتجاوز كتاب الظلال فى حديث الإعجاز إلى كتاب (التصوير الفنى فى القرآن) لأنه ذو تنظير قاعدىّ يلتفت إلى جهات الإعجاز كما تصوّره، وهو يشترك مع الدكتور محمد عبد الله دراز فى شىء ملحوظ: هو أنّ كليهما يعتمد على ذهنه وروحه وإحساسه قبل أن يعتمد على مقررات الإعجاز فى الكتب السابقة، فالجديد الطريف لديهما كثير. تحدّث الأستاذ الشهيد عن تأثير القرآن فى نفسه وهو طفل صغير إذ أخذ فى مكتب القرية يحسّ بروعة تملك عليه أقطار نفسه

دون أن يدرك سرها، ونما هذا الإحساس فى نفسه كما تنمو البذرة الجيدة فى الأرض الطيبة، حتى إذا درس فنون النقد الأدبى فيما بعد، راجع كتاب الله فرأى من فنون الإعجاز ما لم يحم حوله أحد من السابقين، وهو التصوير الفنى للقرآن، وقد شرح وجهة نظره فى ذلك فقال: «إن التصوير الفنى هو الأداة المفضلة فى أسلوب القرآن، فهو يعبّر بالصورة المحسّة المتخيلة عن المعنى الذهنى، والحالة النفسية، ثم عن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنسانى، والطبيعة البشرية، ويرتقى بالصورة التى رسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجدّدة، فإذا المعنى الذهنى حركة أو هيئة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج النفسى شاهد حىّ، وإذا الطبيعة البشرية مجسّمة مرئية، أما الحوادث والمشاهد، وأما القصص والمناظر، فيردّها شاخصة حاضرة فيها الحياة، وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار، فقد استوت كل عناصر التخيل، فما يكاد يبدأ العرض، حتى يحيل السامعين نظّارة، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول، الذى وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر، وتتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع، فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة، فتنم عن الأحاسيس المضمرة، إنها الحياة هاهنا، وليست حكاية الحياة» (¬19). وقد وفّى الشهيد- رحمه الله- بما وعد، والاستشهاد الكامل متعذر هنا، ولكنّنا ننقل مثلا تطبيقيا لسورة من قصار السور، التى ربما حسبها البعض سجعا مرصوفا، وهى سورة الفلق، إذ قال عنها المؤلف: ما الجو المراد إطلاقه هنا؟ إنه جو التعويذة بما فيه من خفاء وهيمنة، وغموض وإبهام، فاسمع: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) (¬20) فما الفلق الذى يستعيذ بربه؟ نختار من معانيه الكثيرة معنى الفجر لأنه أنسب فى الاستعاذة من ظلام ما سيأتى، ممّا خلق، ومن الغاسق، ومن النفاثات فى العقد، ومن شر حاسد إذا ¬

(¬19) التصوير الفنى فى القرآن، الطبعة الأولى، دار المعارف سنة 1944 م. (¬20) سورة الفلق بأكملها من 1 - 5.

حسد، ولأن فيه إبهاما خاصا ستعلم حكمته بعد قليل، يعوذ برب الفلق من شر ما خلق، هكذا بالتنكير وبما الموصولة الشاملة، وفى هذا التنكير والشمول، يتحقق الغموض، والظلام المعنوى فى العموم، «ومن شر غاسق إذا وقب»، الليل حين يدخل إلى كلّ شىء وحين يمسى مخوفا مرهوبا، «ومن شر النفاثات فى العقد»، وجوّ النفث فى العقد من الساحرات والكواهن كله رهبة وخفاء وظلام، بل هنّ لا ينفثن غالبا إلا فى الظلام، «ومن شر حاسد إذا حسد»، والحسد انفعال باطنى مغمور فى ظلام النفس، غامض مرهوب كذلك، فالجوّ كله رهبة وغموض، وهو يستعيذ من هذا الظلام بالله، والله رب كل شىء، فلماذا خصصه بالفلق، لينسجم مع جو الصورة كلها، ويشترك فيه، وكان المتبادر للذهن أن يعوذ من الظلام برب النور، ولكنّ الذهن ليس هنا المحكّم- إنما المحكم هنا آلة التصوير الدقيقة فالنور يكشف الغموض المرهوب، ولا يتسق مع جو الغسق والنفث فى العقد، ولا مع جو الحسد، والفلق يؤدى معنى النور من الوجهة الذهنية، ثم يتسق مع الجو العام من الوجهة التصويرية، التى تجمع بين النور والظلمة، ولها جوّها الغامض المسحور. ثم ما أجزاء الصورة هنا؟ أو محتويات المشهد، هى من ناحية الفلق والغسق مشهدان من مشاهد الطبيعة، ومن ناحية النفاثات فى العقد والحاسد إذا حسد مخلوقان آدميّان ... فالجو قائم على أساس من هذه الوحدة فى الأجزاء والألوان، وليس فى هذا البيان شىء من التمحل، وليست هذه الدقة بلا هدف، وليس الهدف حلية عابرة، فالمسألة ليست مسألة ألفاظ، أو تقابلات ذهنية، وإنما هى مسألة لوحة وجو وتنسيق، وتعاملات تصويرية تعدّ فنا رفيعا من التصوير يلفت النظر إذا أداه مجرد التعبير (¬21). هذا النص يدل على كثير غيره، بل هناك ما هو أجود منه فى التحليل الأدبى وبخاصة فيما كتبه الأستاذ عن القصة القرآنية فقد جاء كلامه رائعا فائقا غير مسبوق. ومما أخذ على الأستاذ أنه اعتبر الأداء الوجدانى هو سرّ الإبداع فى الإعجاز، وقد عارضه الأستاذ عبد المنعم خلاف فوضّح أن المنطق العقلى جناح آخر للإعجاز، وهذا ما وافق عليه الأستاذ قطب مؤكدا أنه لم يغفل جانب المنطق، ولكن هذا الجانب لا يأتى جافا كما فى كتب العلوم بل يضيء بشعاع التصوير الأدبى فلا خلاف (¬22) وقد ظهر هذا الاتجاه ¬

(¬21) التصوير الفنى: 44. (¬22) مجلة الرسالة العددان 617، 620.

فيما كتبه الأستاذ قطب فى «ظلال القرآن» حيث فسح المجال للمنطق العقلى والمنطق الوجدانى معا فكانا أداتى الإقناع والإمتاع فى كتاب الله العزيز. (وبعد) فهذه صور من الإعجاز القرآنى فى الفكر العربى الحديث تضاف إلى ما سبقت الإشارة إليه من صور الإعجاز فى الفكر العربى القديم (وفى حدود هذه الصفحات لم ألم بكل ما قيل، ولكنّى اكتفيت بما كانت له جدواه الحقيقية عند الدارسين مقدرا ما كتبه غير هؤلاء من أفاضل الباحثين فهو قوى رائع فى بابه، وقد يأتى من يتناول كل ما قيل فى مجلد مستقل، فالحقل العلمى حافل بكرام الباحثين). أ. د. محمد رجب البيومى مراجع البحث، وفق ورودها: (1) البيان القرآنى للدكتور محمد رجب البيومى- الدار المصرية اللبنانية للنشر 2000 م. (2) إعجاز القرآن للأستاذ مصطفى صادق الرافعى- الطبعة السادسة- سنة 1956 - مطبعة الاستقلال. (3) رسائل الجاحظ بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون- مكتبة الخانجى سنة 1979. (4) البيان والتبيين بتحقيق الأستاذ حسن السندوبى- مطبعة مصطفى محمد التجارية. (5) كتاب الحيوان بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون- ط 3 سنة 1969 طبعة بيروت. (6) خطوات التفسير البيانى للدكتور محمد رجب البيومى (سلسلة مجمع البحوث الإسلامية) سنة 1971 م. (7) ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن- تحقيق محمد خلف الله أحمد، ومحمد زغلول سلام- ط دار المعارف 1962 م. (8) البلاغة تطور وتاريخ للدكتور شوقى ضيف- ط دار المعارف سنة 1965. (9) إعجاز القرآن للباقلانى- تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجى الطبعة الأولى مطبعة صبيح. (10) أمالي المرتضى- الطبعة الأولى- دون تاريخ طبعة هندية. (11) تلخيص البيان فى مجاز القرآن- للشريف الرضى- تحقيق محمد عبد الغنى حسن- مطبعة عيسى الحلبى سنة 1955 م. (12) دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجانى- تحقيق السيد محمد رشيد رضا مطبعة المنار سنة 1967 م- ط رابعة. (13) تفسير الكشاف- الطبعة الأولى- سنة 1354 هـ- طبعة مصطفى محمد. (14) بديع القرآن لابن أبى الإصبع- الطبعة الأولى تحقيق الدكتور حفنى شرف. (15) دائرة معارف القرن العشرين- الطبعة الأولى جزء (7) للعلامة محمد فريد وجدى- مطبعة دار المعارف. (16) زهرات منثورة فى الأدب العربى للأستاذ عبد الله عفيفى مطبعة مصطفى الحلبى سنة 1932 م. (17) الأدب العربى وتاريخه ج (1) للأستاذ محمود مصطفى- مطبعة عيسى البابى الحلبى سنة 1944. (18) النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز الطبعة الأولى سنة 1957 م. (19) التصوير الفنى للقرآن للأستاذ سيد قطب- ط دار المعارف سنة 1944 م.

الإعجاز العلمى للقرآن الكريم

الإعجاز العلمى للقرآن الكريم تعريف الإعجاز العلمى: الإعجاز لغة: مشتق من العجز. والعجز: الضعف أو عدم القدرة. والإعجاز مصدر «أعجز»: وهو بمعنى الفوت والسبق (¬1). والمعجزة فى اصطلاح العلماء: أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدى، سالم من المعارضة (¬2). وإعجاز القرآن: يقصد به إعجاز القرآن الناس أن يأتوا بمثله، أى نسبة العجز إلى الناس بسبب عدم قدرتهم على الإتيان بمثله. ووصف الإعجاز بأنه علمى نسبة إلى العلم. والأصل فى معنى «العلم عند العرب هو الإدراك الصحيح لحقائق الأشياء، وهو معنى مطلق غير مقيد بتخصيص بعينه، والإطلاق: يفيد الشمول والتعميم. أما تصنيف العلوم إلى دينية ودنيوية، أو نقلية وعقلية، أو شرعية وكونية، أو نظرية وتجريبية، أو إنسانية وطبيعية، أو غير ذلك، فهو تصنيف يعتمد على الصفات المعبّرة عن موضوعات العلم، أو مصادره، أو الطرائق التى يتم تحصيله بها بحسب تناسبها وقرب بعضها من بعض. وقد يخصص العلم بموضوع معين، فيقال: «علم التفسير» أو «علم اللغة» أو «علم التاريخ» أو «علم الفلك» أو «علم الأحياء»، أو غير ذلك من مختلف فروع العلم (¬3). والمقصود بالعلم الذى ينسب إليه مصطلح «الإعجاز العلمى للقرآن الكريم» هو العلوم الكونية التجريبية الباحثة فى ظواهر الكون والحياة. وعليه: فإن «الإعجاز العلمى» للقرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة هو إخبارهما بحقيقة كونية أثبتها العلم التجريبى، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية فى زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم مما يظهر صدقه فيما بلّغ عن رب العزة سبحانه وتعالى (¬4). ووصف الإعجاز هنا بأنه علمى نسبة إلى العلم التجريبى المعنىّ بدراسة الظواهر المطردة فى الآفاق وفى الأنفس وصولا إلى القوانين التى تفسر سلوكها وتعلل حدوثها بحيث تنكشف ¬

(¬1) راجع لسان العرب لابن منظور، مادة «عجز»، والمفردات للراغب الأصفهانى ص 322. (¬2) انظر معنى ذلك فى تفسير القرطبى 1/ 96 وفتح البارى 6/ 581. (¬3) د. أحمد فؤاد باشا، رحيق العلم والإيمان، دار الفكر العربى، القاهرة، 1422 هـ- 2002 م، ص 26. (¬4) عبد المجيد الزندانى، الإعجاز العلمى تأصيلا ومنهجا، مجلة الإعجاز، هيئة الإعجاز العلمى فى القرآن والسنة، رابطة العالم الإسلامى، مكة المكرمة، العدد الأول صفر 1416 هـ- يوليو 1995 م.

حقائق الأشياء انكشافا تاما، وتتجلى حقيقة الحقائق متمثلة فى الإيمان الخالص على هدى وبصيرة بالخالق الواحد، مصداقا لقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (¬5). والعلاقة بين آيات الحق فى القرآن والكون تجمع فى ترابط محكم بين إعجاز السبق والبيان فى كتاب الإسلام الخالد، وإعجاز القدرة الإلهية فى كتاب الكون اللانهائى، ليدلى كل إعجاز بشهادة تسليم وتصديق للآخر، وليكون فى الإعجازين عبرة لكل ذى عقل رشيد، أو لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فكما أن الأدلة القاطعة برهنت على أن القرآن الكريم لا يمكن إلا أن يكون من عند الله الواحد، بدليل عدم الاختلاف بين آياته، كذلك فإن النظام الكونى المعجز بكل ما فيه من تدبير وإحكام لا يمكن إلا أن يكون من صنع الله الذى أتقن كل شىء. وينبغى أن ندرك هنا أن المعجزة نوعان ينبغى التمييز بينهما، كى نطلب المعجزة التى يجب أن تطلب، ونتورع عن طلب المعجزة التى لا تجدى أحدا من العقلاء (¬6). أما النوع الأول فهى المعجزة التى تتجه إلى العقل، وهى موجودة يلتقى بها من يريدها حيثما التفت إليها، متمثلة فى الإطراد المنتظم لظواهر الكون والحياة التى لا تتبدل ولا تتحول، قال تعالى: ... فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (¬7). وأما النوع الثانى فهى المعجزة التى تكون من خوارق العادات، فهى التى تدهش العقل وتضطره بالإفحام القاهر إلى التسليم، وهى ليست بحاجة إلى قدرة أعظم من القدرة التى نشهد من بدائعها ما يتكرر أمامنا كل يوم وكل ساعة. والعالم الحق أحرى أن يعرف موضع العجب فيما يشاهده من سنن الله الكونية المألوفة فى دوران الأفلاك وخصائص المادة وسلوك الكائنات والظاهرات، فليست ألفته لها مما يصح أن يبطل العجب منها، ومن قال هذا فهو هازل مستخف بالمعجزة التى تخاطب العقل وتستثير ملكاته، وهو أيضا عاجز عن أن يجد فى هذه المعجزة يد العناية الإلهية التى تسيّر حركة الكون والحياة. وقد غاب مثل هذا التمييز الواضح بين نوعى المعجزة عن كثير من الباحثين الذين يقفون بتفكيرهم عند حد «التفسير العلمى» للظاهرة الكونية، أو الذين يقحمون أنفسهم فيما لا يدركه العقل البشرى المحدود من خوارق العادات التى لا تخضع للنواميس الطبيعية ولا للتجارب البشرية. ¬

(¬5) سورة فصلت: 53. (¬6) عباس محمود العقاد، التفكير فريضة إسلامية، منشورات المكتبة العصرية، بيروت- صيدا، بدون تاريخ للنشر. (¬7) سورة فاطر: 43.

* الترقى فى فهم الإعجاز العلمى للقرآن الكريم:

كذلك أدّى غياب هذا التمييز الواضح بين نوعى المعجزة إلى الخلط أحيانا بين الإعجاز العلمى الذى يقصد به سبق القرآن الكريم إلى الإخبار بحقيقة كونية قبل أن يكتشفها العلم التجريبى، وبين «التفسير العلمى للقرآن الكريم» الذى يراد به الكشف عن معان جديدة للآية القرآنية، أو الحديث النبوى، فى ضوء ما ترجحت صحته من نظريات العلوم الكونية، دون إسراف فى التأويل، بمعنى أن تكون هذه العلوم فى خدمة تفسير القرآن والسنة مثلما خدمته علوم اللغة والأصول والفقه وغيرها من مجالات العلوم الشرعية. وكان طبيعيا أن يظهر فى مجال الدراسات الإسلامية مبحث خاص من مباحث علوم القرآن يعنى بدراسة الآيات الكونية فى إطار من توافق الحقائق العلمية مع ما أنبأ به القرآن أو أشار إليه، سواء كان غرض هذه الدراسة هو الكشف عن أوجه الإعجاز العلمى للقرآن الكريم فى بيان حكم التوجيهات الإلهية فيما يتعلق بالحلال من الطيبات والحرام من الخبائث والمحرمات، أو كشف وجوه الهداية القرآنية فى آفاق النفس والكون بصورة عامة. * الترقى فى فهم الإعجاز العلمى للقرآن الكريم: لقد شاءت حكمة الله- تعالى- أن يكون إرشاد الناس وهدايتهم بوسائل متنوعة، وهو- سبحانه وتعالى- خبير بعباده، فهو تارة يخاطبهم بما يمس قلوبهم مسا رقيقا رفيقا، وهو تارة أخرى يقرع عقولهم قرعا قويا شديدا، وكان من أبرز ما جلى به أبصارهم وأنار بصائرهم حضّه إياهم على التدبر فى آيات خلقه. وهذا ما شجع العلماء الذين يرون فى الإعجاز العلمى للقرآن الكريم لونا من التفسير فيه فتح جديد وتجديد فى طريق الدعوة إلى الله وهداية الناس إلى دين الله. ولما كان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى التى أيد الله بها رسوله محمدا- صلّى الله عليه وسلّم- لتبقى بين أيدى الناس إلى قيام الساعة، مصداقا لقوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (¬8)، فقد ظهرت مباحث فى علوم القرآن تعنى بجوانب الإعجاز القرآنى البلاغية والتشريعية والتربوية والعلمية وغيرها. وفى بيان المعجزة العلمية من حيث طبيعتها الباقية بين يدى الناس، وتجددها مع كل كشف بشرى فى ميادين العلوم، وكذلك فى المعارف ذات الصلة بمعانى الوحى الإلهى، يقول الله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (¬9). وجاء فى تفسير هذه الآية الكريمة: أنزله ¬

(¬8) سورة الأنعام: 19. (¬9) سورة النساء: 166.

بعلمه: أى فيه علمه الذى أراد أن يطلع العباد عليه، من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب، من الماضى والمستقبل (¬10). كذلك وعدنا الحق جل وعلا بأن يرينا آياته، فيتحقق لنا العلم الدقيق بها، وذلك فى قوله عز وجل: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها (¬11)، وقوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (¬12). ومن آيات الله فى الآفاق وفى الأنفس كل مخلوقاته التى خلقها فى شتى آفاق الأرض والسماء، مصداقا لقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ (¬13). والقرآن الكريم حافل بذكر آيات الله فى خلقه متخذا من التفكير فيها مدخلا رحيبا إلى الإيمان الخالص بالله عن طريق الاستشعار بوحدانيته سبحانه وبقدرته وبديع صنعه. ويتخذ القرآن الكريم أساليب بلاغية متنوعة فى الدعوة إلى النظر فى آيات الله والاحتفال بذكر السموات والأرض، والشمس والقمر ومنازله، والمشارق والمغارب، والبروج والنجوم والكواكب، والليل والنهار والفجر والغسق، والظلمات والضياء والنور، والبحار والأنهار والعيون، والرياح اللواقح، والسحاب الثقال والمركوم والمنبسط، والبرق والرعد والمطر، والجبال الراسيات والجدد البيض والحمر والغرابيب السود، والأرض الهامدة والأرض المهتزة الرابية، والجنات والنخيل والأعناب والتين والزيتون، والطلح والسدر واليقطين، والنمل والنحل والبعوضة والعنكبوت، والطير الصافات، والإبل والخيل والأنعام، واللبن يخرج من بين الفرث والدم، والشراب الشافى يخرج من بطون النحل، وخلق الإنسان من تراب ومن ماء مهين، وتطوره فى ظلمات الرحم خلقا من بعد خلق، وشفتيه ولسانه وسمعه وبصره وفؤاده، وإخراج الحى من الميت والميت من الحى ... وهذه كلها أمثله قليلة بعيدة عن تمام الحصر مما يوجهه القرآن الكريم لأولى الألباب الذين يعقلون ويتفكرون ويتدبرون. ومن يتأمل الخطاب القرآنى فى الدعوة إلى النظر فى آيات الله؛ يجد أنه ينزل فى نفوس المؤمنين منزلة الأمر، فالمسألة عندهم إذن مسألة فريضة وتكليف (¬14)، لكن من البديهى أن يتفاوت هذا التكليف بالنظر فى آيات الله من مؤمن إلى مؤمن، ومن قارئ إلى قارئ، إذ أن نظرهم هذا يتفاوت بتفاوت استعدادهم ومقدرة إدراكهم وحصيلة معارفهم، فالسماوات مثلا آيات رائعة معجزة عند الأمىّ وعند عالم الفلك المتخصص على ¬

(¬10) مختصر تفسير ابن كثير، المجلد الأول ص 466. (¬11) سورة النمل: 93. (¬12) سورة فصلت: 53. (¬13) سورة الشورى: 29. (¬14) عبد الحافظ حلمى محمد، العلوم البيولوجية فى خدمة تفسير القرآن الكريم، مجلة عالم الفكر المجلد الثانى عشر، العدد الرابع، الكويت 1982 م.

السواء، وإن كان العالم أقدر على الإحاطة بجلال الإعجاز فى خلقها، ومن ثمّ كانت خشيته العميقة لخالقها مصداقا لقوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (¬15). فمن هنا كان النظر الفطرى البسيط والنظر العلمى المتأمل العميق، وكلاهما مطلوب ومشروع ومفيد. وهذا سر من أسرار بلاغة القرآن، بيد أن التعمق بالبحث العلمى السليم لا يتوافر إلا للقادرين عليه والمؤهلين له، فهو إذن فرض كفاية عليهم، كما أنهم مكلفون أيضا بتبصرة غيرهم بما انتهى إليه نظرهم، فقد أمرنا أن نتعلم ونعلم، ونهينا عن كتمان العلم. والناس يتفاوتون فى فهمهم للقرآن بحسب درجاتهم وأحوالهم واستطاعتهم، وهم فى عصرنا أحوج من أى عصر مضى إلى أن يتعلموا من مأدبته ما استطاعوا، وأن يفيدوا من كنوزه وأسراره فى إصلاح دنياهم والفوز بنعيم أخراهم. يقول الراغب الأصفهانى فى كتابه «مقدمة التفسير»: ثم إن القرآن- وإن كان فى الحقيقة هداية للبرية- فإنهم لن يتساووا فى معرفته، وإنما يحظون به بحسب درجاتهم واختلاف أحوالهم، فالبلغاء تعرف من فصاحته، والفقهاء من أحكامه، والمتكلمون من براهينه العقلية، وأهل الآثار من قصصه ما يجهله غير المتخصص بفنه. وقد علم أن الإنسان بقدر ما يكتسب من قوته فى العلم تتزايد معرفته بغوامض معانيه .. (¬16). وأهل الاختصاص فى فروع العلوم- بطبيعة الحال- ليسوا بدعا بين هؤلاء الذين ذكرهم الأصفهانى، فكل ما يساعد من حقائق العلم على تعميق فهمنا لمعانى القرآن الكريم وتعاليمه وأحكامه، هو ما يجب الأخذ به. وكم فى القرآن الكريم من آية إذا مستها يد العلم أبانت أسرارها وأظهرت إعجازها. ذلك أن القرآن الكريم له أسلوبه الحكيم فى الدلالة على آيات الله فى الكون، والهداية التى جاء أصلا من أجلها تقتضى ألا يخاطب الناس عن الكون بما ينكرون، أو بما يستعصى على أفهامهم، فيقوم ذلك حجابا بينهم وبين قبول دعوته، وحاملا على التكذيب بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ. كذلك تقتضى الهداية القرآنية ألا يوافق القرآن الناس على باطل معتقداتهم الكونية فى عصر نزول الوحى به، فيقوم ذلك حائلا دون قبول دعوته فى عصور التقدم العلمى والتقنى التى علم منزّل القرآن أنها ستكون. وتجنب هذين العائقين عن قبول هداية القرآن هو من بدائع إعجاز أسلوبه ومن أكبر الدلائل على أنه حقا من عند الله فاطر الناس وفاطر الكون. ¬

(¬15) سورة فاطر: 28. (¬16) عن: د. أحمد الشرباصى، قصة التفسير، دار القلم، القاهرة، 1962 م. راجع: د. عبد الحافظ حلمى محمد، مرجع سابق.

وينبغى الترقى فى فهم آيات القرآن والكون إلى درجة الفقه حتى ندرك الحكمة وراء إعجازها، ونبلغ نهاية درجة الإحسان فى قراءة الكتابين: المسطور والمنظور. أما نهاية الإحسان فى قراءة آيات القرآن فتعنى تجاوز حدود الأصوات والألفاظ، واختراق حاجز الزمان والمكان، وصولا إلى الاستمتاع من المتكلم الأزلى جل جلاله. فالنفس الشفافة، والإحساس المرهف، لهما أثر جلىّ فى قراءة القرآن، أو الاستماع إليه، وبذلك تتجلى أنوار القرآن على قلب القارئ أو السامع. ولهذا كانت نصيحة العارفين: «اقرأ القرآن كأنه يتنزل عليك». وأما نهاية الإحسان فى قراءة آيات الكون- كتاب الله المنظور- فتعنى تجاوز حدود البحث العلمى الآلى، بعناصره ووسائله وأدواته. واختراقه عالم النظريات والقوانين العلمية بصياغاتها اللفظية، وصولا إلى إدراك أنه كل علم من العلوم الباحثة فى ظواهر الكون والحياة، هو فى حقيقته علم يبحث بلغته الخاصة عن الله خالق الكون والحياة، ويستند فى غاية منتهاه إلى اسم من أسماء الله الحسنى .. فعلوم الطب والصيدلة تصل إلى كمالها بمشاهدة التجليات الرحيمة لاسم «الشافى» فى كل حبة دواء. وعلوم الفيزياء والفلك والكيمياء والنبات والحيوان تبحث فى حقيقة الموجودات باستنادها إلى ما يناسبها من أسماء العليم الحكيم القادر المقدر الذى أوجد هذا العالم على أعلى درجة من الترتيب والنظام والكمال والجمال. وبهذا تكون العلوم فى حقيقتها غير مقصودة لذاتها، وإنما هى ضرورات حيوية وحاجات معرفية وعقلية تحيط الهداية الإيمانية بأبعاد جديدة، وترى فى كل مشهد كونى آية ناطقة بقدرة الخالق ووحدانيته، ومظهرا معبرا من مظاهر تجليات أفعال الله تعالى وأسمائه الحسنى. ولا شك أن البحث فى الإعجاز العلمى لآيات القرآن الكريم على هدى وبصيرة يؤتى ثماره الحقيقية ببلوغ نهاية الإحسان على سلم الترقى فى فهم آيات الله المنبثة فى القرآن الكريم، وفى جنبات الكون الفسيح، وفى أسرار النفس البشرية وباقى الموجودات. كما أن ارتقاء العلوم الحديثة ونجاحاتها فى استكشاف حقائق جديدة عن الكون من العوامل التى ساعدت على الاجتهاد فى تسخير العلم الكونى لتجلية معان جديدة لآيات القرآن الكريم، شريطة أن يكون الاجتهاد فى ذلك المجال وفق منهاج رصين محدد ينبغى الالتزام به فى ضوء ما هو معروف عن معنى الحقيقة العلمية وحدودها.

* ضوابط (منهج) البحث فى الإعجاز العلمى للقرآن الكريم:

* ضوابط (منهج) البحث فى الإعجاز العلمى للقرآن الكريم: إذا كانت قضية الربط بين القرآن والعلم تتعرض لنقد لاذع بسبب إفراط بعض المتحمسين، أو تفريط البعض الآخر من الرافضين والمعارضين، وأمام الحاجة الماسة إلى هذا النوع من الدراسات القرآنية لتنشيط حركة الدعوة الإسلامية المعاصرة، فإنه أصبح ضروريا أن يكون للبحث فى مجال الإعجاز العلمى للقرآن منهاج، وأن يوضع للمجتهد ضوابط وشروط، وأن ينبّه إلى مزالق الخطأ وموارد الزلل وكبوات الاجتهاد. ويمكن إيجاز الإطار العام الذى توصل إليه الباحثون لترشيد البحث فى مجال الإعجاز العلمى للقرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة فيما يلى: 1 - علم الله هو العلم الشامل المحيط الذى لا يعتريه خطأ ولا يشوبه نقص، وعلم الإنسان محدود، يقبل الازدياد، ومعرّض للخطأ. ولقد نزلت نصوص الوحى بألفاظ جامعة تحيط بكل المعانى الصحيحة فى مواضيعها التى قد تتتابع فى ظهورها جيلا بعد جيل. وإذا جمعت نصوص الكتاب، والسنة الصحيحة، وجدت بعضها يكمل بعضها الآخر، فتنجلى بها الحقيقة، مع أن هذه النصوص قد نزلت مفرقة فى الزمن، وفى مواضيعها من القرآن الكريم، وهذا لا يكون إلا من عند الله الواحد الذى يعلم السر فى السموات والأرض، ومن ثم فإنه لا يوجد تعارض بين نصوص الوحى القاطعة التى تصف الكون وأسراره، على كثرتها، وبين الحقائق العلمية المكتشفة، على وفرتها. 2 - الحقيقة العلمية التى يعرف رجال العلم معناها وحدودها لا تبطل مع الزمن، ولكنها قد تزداد مع جهود العلماء المتتابعة تفصيلا ووضوحا وجلاء. كل ما فى الأمر أن القوانين العلمية تعبر عادة عن حقائق علمية محدودة، وليس من الصواب أبدا أنه تعتبر هذه الحقائق الجزئية دليلا على قصور العلم أو منقصة فيه، فطبيعة المعرفة العلمية تتميز بالنمو المطرد فى اكتشاف القوانين التى تلقى الضوء شيئا فشيئا على حقائق الواقع الثابت فى الكون بعد أن أشارت إليها آيات من القرآن العظيم. 3 - يجب التّقيد بما تدل عليه اللغة العربية، فلا بد من: (أ) أن تراعى معانى المفردات كما كانت فى اللغة إبّان نزول الوحى، ويراعى كذلك فقه استعمالها. (ب) أن تراعى القواعد النحوية ودلالاتها.

(ج) أن تراعى القواعد البلاغية ودلالاتها، خصوصا قاعدة «ألا يخرج اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة كافية». 4 - يجب البعد عن التأويل فى بيان الإعجاز العلمى للقرآن والسنة، ولا ينبغى الإسراف فى ذلك. 5 - يجب ألا تجعل حقائق القرآن موضع نظر، بل تكون هى الأصل، فما وافقها قبل، وما عارضها رفض، ذلك أن المرجعية يجب أن تكون للحقائق القرآنية، وليس للعلم التجريبى، فالحقائق العلمية تحتكم إلى القرآن ولا تزكيه، فإن وافقته فبها ونعمت، وإن تعارضت معه رفضت، لأن النص القرآنى وحى من الذى أحاط بكل شىء علما. 6 - يجب على المجتهدين من العلماء أن يكونوا ملمين من علوم القرآن بالقدر الكافى وأن يكون لديهم استعداد شخصى يعززه رجوعهم إلى أمهات كتب التفسير رجوع المتعلم التأنى، لا اطلاع القارئ العجول، فإذا تعذر عليهم هذا كان عليهم أن يسألوا أهل الذكر والاختصاص، فهذا أقل مقتضيات التحرى وعدم التورط فى الكلام فى كتاب الله بغير علم. 7 - كذلك يجب على المجتهدين من الباحثين فى الإعجاز العلمى للقرآن الكريم والسنة المطهرة (البيان النبوى) أن يكونوا على معرفة تامة بالظاهرة العلمية قيد البحث وتاريخ المصطلحات الفنية المتعلقة بها. إن هذه الضوابط والشروط المنهجية ضرورية لترشيد البحث فى الإعجاز العلمى للقرآن والسنة، وينبغى توافرها فى كل من يتعرض للاجتهاد بما يناسب جلال القرآن وقدسيته، وكتاب الله العزيز كله معجز، ويستطيع العلماء أن يتلمسوا دلائل إعجازه فى شتى المجالات، فإذا ما كنا بصدد «إعجازه العلمى» تحتم علينا أن نتوخى الدقة التامة، فلا نفتعل مناسبة، أن نتشبث بلفظة ونحملها فوق ما تحتمل، أو نجهل أو نتجاهل حقائق التاريخ، وينبغى أن يكون لنا فى الأئمة السابقين أسوة حسنة حين نرى دقة مناهجهم العلمية عند ما تناولوا القرآن الكريم من نواحيه اللغوية والبلاغية والتشريعية وغيرها. وإذا علمنا أهمية هذه الأبحاث فى تعميق اليقين الإيمانى عند المؤمنين، ودفع الفتن التى ألبسها الكفار ثوب العلم، عن بلاد المسلمين، وفى دحض محاولات التستر بالعلم لإثارة الشبهات حول الإسلام والمسلمين، وفى دعوة غير المسلمين وتوصيل الحقائق الإسلامية إليهم على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، وفى حفز المسلمين للأخذ بأسباب النهضة العلمية، وفى تعميق فهم ما خوطبنا به فى

* من أوجه الإعجاز العلمى للقرآن الكريم:

القرآن والسنة، تبين من ذلك كله أن القيام بهذه الأبحاث من أهم فروض الكفايات، خاصة أن أهل عصرنا ممن يريدون الحق من سائر الأجناس لا يذعنون بشيء مثل إذعانهم للعلم ومنهجه وبيناته ودلائله. * من أوجه الإعجاز العلمى للقرآن الكريم: 1 - فى آيات السماء: يقول الله تعالى فى كتابه الكريم: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (¬17). تشير هذه الآية القرآنية الكريمة إلى بعض الظواهر الكونية التى أخبر بها الله- سبحانه وتعالى- لتدل على كمال قدرته وبالغ حكمته، ومنها أنه خلق السموات مرتفعات بغير عمد، أى دعائم، يمكن رؤيتها بالبصر، وقد جاء فى تفسير ذلك عن ابن عباس ومجاهد والحسن أنهم قالوا: لها عمد ولكن لا ترى. ولو قيل (بغير عمد) فحسب لكان ذلك نفيا مطلقا للعمد، مرئية وغير مرئية. والنفى المطلق يخالف الواقع الذى أودع الله تعالى فيه سننه ونواميسه وآياته التى وعد- سبحانه- بإظهارها مستقبلا على أيدى من يشاء من عباده، وبهذا يكون المعنى العام أن الله- سبحانه وتعالى- خلق السموات ورفعها وربط بين أجزائها وحفظ اتزانها فى مواقعها التى قدّرها لها من غير دعائم مرئية، لأن هذه الدعائم من شأنها وطبيعتها التى أوجدها الله عليها أنها لا ترى أصلا. ويمكن تصور هذه الدعائم غير المرئية- من منظور العلم الحديث- بأنها من نوع القوى المجالية التى تعمل وفق قانون محدد من أجل حفظ الاتزان الكونى والإمساك بالأجرام السماوية فى أفلاكها ومنعها من الانفراط فى الفضاء أو الوقوع على بعضها البعض. ذلك أن الأجرام السماوية تتحرك تحت تأثير قوى جاذبة للربط بينها، وقوى رافعة لحفظها من السقوط. وحيث إن قوى التجاذب الرابطة من شأنها أن تقرب وتجمع بين الأجرام، فى حين تعمل طاقة حركتها (المكتسبة من القوى الرافعة) على انطلاقها بعيدا عن أعماق الفضاء طبقا لخصائص تأثير القوى فى الأجسام، فإن تقرير حفظ هذه الأجرام من السقوط على بعضها البعض واستمرار دورانها فى أفلاك ثابتة يستلزم بالضرورة العقلية أن يكون تأثير قوى التجاذب مساويا ومضادا (أى معادلا) لتأثير طاقة الحركة، وتصير الأجرام بذلك ¬

(¬17) سورة الرعد: 2.

على أبعاد ثابتة فى مجموعاتها التى تنتمى إليها، أى أن الله- سبحانه وتعالى- قد عادل وساوى بين تأثير قوى التجاذب الرابطة للأجرام السماوية وتأثير حركاتها المكتسبة من قوى الخلق والرفع، فحفظها ذلك من السقوط بتأثير القوى الرافعة، كما حفظها من التفرق بتأثير القوى الرابطة، وهكذا انتظمت مكونات الكون الهائل فى نظام بديع يحكم حركتها، ويمنع تصادمها رغم كثرتها، ويحفظ اتزانها واستقرارها فى أفلاكها إلى ما شاء الله. قال تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (¬18). ويؤكد القرآن الكريم فى آيات أخرى هذه الحقيقة الكونية وارتباط الاتزان الكونى بإرادته ومشيئته المطلقة، فيقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (¬19) ويقول جل وعلا: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (¬20). ولم يتوصل العلم إلى إظهار هذه الحقيقة الكونية عن اتزان الأجرام السماوية إلا بعد نزول القرآن الكريم بأكثر من ألف عام، وذلك عند ما اكتشف العالم الإنجليزى «إسحاق نيوتن» فى عام 1667 م قانون الجذب الكونى بين جميع الكتل المادية لتفسير حركة الكواكب حول الشمس، وحركة الأقمار حول الكواكب، ثم أثبتت التجارب العملية صحة هذا القانون فى عالم القياسات العادية. وقام على أساسه الكثير من الكشوف والاختراعات التى أفادت منها البشرية فى مختلف المجالات، وخاصة فى مجال تطوير أبحاث الفضاء وإطلاق الأقمار الصناعية التى تدور حول الأرض فى مدارات مختلفة بحسب الأغراض التى صنعت من أجلها. ويخبرنا الحق- عز وجل- بأن نهاية العالم عند ما تحين الساعة ستكون بإيقاف هذه السنن والنواميس والقوانين التى اهتدى الإنسان إلى معرفة بعضها. من ذلك مثلا: أن تعطيل قوانين الحركة والجاذبية بأمر من الله من شأنه أن يحدث انشقاقا واختلالا فى توازن النظام الكونى يتبعه اضطراب فى حركة الأجرام السماوية بعد انقطاع خيط الجاذبية الكونية الذى كان يربط بينها. ولا يمكن للعلم البشرى أن يحيط بحقائق هذا اليوم العصيب، ولا يملك أن يزيد شيئا إلا من خلال ما توحى به النصوص القرآنية فى ضوء ما يتوصل إليه العلماء من حقائق. علمية، فمن المقبول عقلا أن يؤدى انفراط عقد الأجرام السماوية إلى تناثرها وتصادمها ¬

(¬18) سورة يس: 40. (¬19) سورة فاطر: 41. (¬20) سورة الحج: 65.

2 - فى آيات الأرض:

مصداقا لقوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (¬21). كذلك من المقبول عقلا أن يؤدى الاضطراب فى نظام الكون إلى حدوث زلزال شديد وارتجاج هائل تنهار معه كل الجبال وتتبدد صلابتها، كما تدك معه الأرض وتخرج ما فى باطنها من أثقال، مصداقا لقوله تعالى: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (¬22). وقوله تعالى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (¬23). وقوله سبحانه: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5). (¬24). ويؤكد القرآن الكريم فى مواضع كثيرة على أن هذا الكون بمجراته ونجومه وكواكبه وأقماره، زمامه فى يد خالقه، ونواميس الحركة والحياة فيه من تدبير هذا الخالق الواحد الذى يقول للشيء كن فيكون. كذلك يؤكد كتاب الإسلام أن القيامة سوف تحدث بغتة بإذن الله، وأن حضارة الإنسان على الأرض سوف تذهب بها رجفة من رجفات الاضطراب الكونى يوم الدمار الأكبر لكل شىء إلا ما شاء الله. قال تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (¬25). ومن العجب ألا يؤمن الكفار بالآخرة، ويعتقدون فقط فى الحياة الدنيا دون بعث، إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (¬26)، وكأن الحياة فى نظرهم مجرد أرحام تدفع وأرض تبلع ولا خلود ولا جزاء. لكن هذا الاعتقاد يتنافى مع حقيقة العالم الآخر الراسخة فى الضمير البشرى لأنها ترضى الجانب النفسى والأخلاقى للإنسان، ومن هنا فإن دعوة الإسلام إلى الإيمان بحقيقة الآخرة تحقق الاتزان النفسى للإنسان، فى مقابل إيمانه بحتمية الموت فى الدنيا. قال تعالى: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (¬27). 2 - فى آيات الأرض: وردت كلمة «الأرض فى القرآن الكريم فى مواضع عديدة لتدل على الكوكب الأرضى بمجمله، كما فى قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (¬28)، أو تدل على ذلك الغلاف ¬

(¬21) سورة الانفطار: 1، 2. (¬22) سورة الواقعة: 4 - 6. (¬23) سورة الحاقة: 14. (¬24) سورة الزلزلة: 1 - 5. (¬25) سورة يونس: 24. (¬26) سورة المؤمنون: 37. (¬27) سورة البقرة: 1 - 4. (¬28) سورة الذاريات: 20.

الصخرى من القشرة الأرضية التى نعيش عليها، كما فى قوله تعالى: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (¬29)، أو تدل على خاصية مميزة فى الأرض تستحق التأمل والتفكر لأهميتها فى حياة الإنسان، وباعتبارها من دلائل القدرة الإلهية على الخلق والإبداع، كما فى قوله تعالى: وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (¬30). و «الصدع Fault « فى اللغة العربية يعنى الشق، وكمصطلح علمى يطلق على أى كسر فى الأرض تتحرك على مستواه من الجانبين كتل الصخور، وهو ينشأ من تصدّع (أى تكسّر أو تشقق) الصخور بقوة الضغط أو الشد. ويرى العلماء المفسرون أن آية وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ توضح صفة هامة لقشرة الأرض وطبيعتها التى يتوقف عليها كثير من التغيرات التى تطرأ على سطحها، وهى قابليتها للتشقق والتصدع. ويقسم الحق تبارك وتعالى بهذه الصفة للأرض لبيان أهميتها والحث على معرفة حكمتها. فهم الأولون من هذا الوصف القرآنى للأرض بأنها ذاتِ الصَّدْعِ معنى انصداعها (أى انشقاقها) بعد ارتوائها بالمطر ليخرج منها مختلف صور النبات وما تحمله تلك النباتات من خيرات وثمار لولاها لم تستقم الحياة على الأرض. كما أن الأرض أيضا ذات الصدوع التى ساعدت على وجود منافذ فى القشرة الأرضية لخروج المياه الجوفية والغاز الطبيعى والبترول إلى سطحها. كذلك تعتبر الشقوق (أو الصدوع الأخرى) فى وجه الأرض الرقيق وسيلة من وسائل تهوية التربة وتجديد خصوبتها. ويلقى علم الجيولوجيا الحديث بعض الضوء على أسرار القسم الإلهى بالأرض ذات الصدع، فيكتشف العلماء فى أواخر الستينات من القرن العشرين أن الغلاف الصخرى للقشرة الأرضية ممزق بشبكة من الصدوع الطولية والعرضية الممتدة لمئات الآلاف من الكيلومترات، مقسمة على 12 (اثنى عشر) لوحا كبيرا وعدد من الألواح أو الصفائح Plates الصغيرة، وأن تلك الصدوع تنتشر أكثر ما تنتشر فى قيعان البحار والمحيطات، وأنها توجد أيضا فى القارات بنسبة أقل، ويزيد عمقها عن 100 كيلومتر (وهو متوسط سمك الغلاف الصخرى للأرض). وقد ثبت بالملاحظة المباشرة وغير المباشرة أن تلك الكتل الصخرية الضخمة، التى تعرف باسم «ألواح الغلاف الصخرى»، تطفو فوق نطاق من الصخور شبه المنصهرة يسمى «نطاق الوهن (الضعف) الأرضى»، وتتميز مادته بكثافة أعلى من كثافة الألواح ¬

(¬29) سورة الذاريات: 48. (¬30) سورة الطارق: 12.

3 - فى آيات الجبال:

الطافية فوقها، وبحالة واضحة من المرونة واللدونة تجعل الألواح تنزلق فوقها بسهولة ويسر نتيجة لدوران الأرض حول محورها أمام الشمس. ويصبح سطح الأرض فى هذه الحالة بالنسبة للإنسان أشبه بالفراش المريح أو المهاد الممتد اللذين هيأهما الله تعالى لتسهيل الحياة، وامتنّ بهما على عباده فى قوله تعالى: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (¬31). كذلك أثبتت أبحاث العلماء أن مراكز كل من الهزات الزلزالية والفورانات البركانية تحتشد حول الصدوع الفاصلة بين ألواح الغلاف الصخرى للأرض، حيث يحدث اللقاء بين هذه الألواح (الصفائح) على امتداد حوافها أو أطرافها، أو يحدث التباعد عن بعضها البعض، أو يحدث أن يتحرك أحد الألواح بمحاذاة الآخر جنبا إلى جنب بدون تقابل أو تباعد. وفى ضوء هذه الحركات يمكن الربط بين السلوك الداخلى للأرض وبين كل العمليات الأساسية التى تشاهد على سطحها وتغيّره منه بصورة مستمرة. مثال ذلك ما أثبته العلماء عند خطوط التباعد بين ألواح القشرة الأرضية، حيث تتسع قيعان البحار والمحيطات، وتندفع الصهارة الأرضية من نطاق الوهن (الضعف) الأرضى لتملأ الحيز الناشئ عن تباعد تلك الألواح، مكونة شريحة من صخور بازلتية جديدة تضاف لقاع المحيط الذى يواصل عملية الاتساع، ثم تنشق هذه الشريحة البازلتية فى منتصفها من جديد بفعل عملية التصدع المستمرة فى قشرة الأرض، ويندفع نصفاها متباعدين عن بعضهما البعض ليمتلئ الحيز الناشئ بينهما بصهارة بازلتية جديدة، تيبس لتتصدع فى وسطها من جديد، وتتكرر العملية بمعدلات بطيئة ولكنها تؤدى فى النهاية إلى استمرار اتساع قيعان البحار والمحيطات لأقصى مدى ممكن، ثم تتوقف عملية الاتساع وتعود البحار والمحيطات إلى الانغلاق بعملية معاكسة حتى تتلاشى تماما من فوق سطح الكرة الأرضية، كذلك تعمل صدوع الأرض على إثراء الغلاف الصخرى بمختلف العناصر والمركبات على هيئة العديد من المعادن والركازات التى تندفع من الحمم البركانية الصاعدة إلى سطح الأرض عبر تلك الصدوع التى لولاها ما استقامت حياة الأحياء. فتبارك الحكيم العليم الذى خلق الأرض ذات الصدع، وجعل من صدوعها مقوما أساسيا من مقومات الحياة واستمرارها على سطحها. 3 - فى آيات الجبال: من أوجه الإعجاز العلمى للقرآن الكريم فى آيات الجبال ما يتعلق بنشأتها وتكوينها ¬

(¬31) سورة الذاريات: 48.

وسبب اختلاف ألوانها الذى يعود إلى اختلاف المواد التى تكوّن صخورها. فالجبال البيضاء تتكون أساسا من الطباشير والحجر الجيرى، والجبال السوداء يكثر فيها المنجنيز والفحم، والجبال الحمراء غنية بالحديد، وغير ذلك من الجبال النارية تتكون من الجرانيت والبازلت، وتحتوى على عروق الحديد والنحاس والذهب ومعادن أخرى تؤدى إلى تعدد ألوان الجبال وأنواعها. ومن دلائل القدرة الإلهية هنا أن التباين فى أحوال الجبال وألوانها وأنواعها، رغم أنها ترجع أصلا إلى أرض واحدة كانت تكوّن مع الشمس والسموات رتقا واحدا، يشير إلى الله الواحد القهار الذى أوجد هذا التباين أيضا فى الناس والدواب والثمار، وحث العلماء على اكتشاف الحكمة من ورائه، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (¬32). من ناحية أخرى، ورد تشبيه الجبال بالأوتاد فى قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (¬33)، وفى هذا إعجاز علمى رائع، فالجبال فيما يتبادر إلى الذهن تشبه الأوتاد من ناحية البروز عن سطح الأرض ومن ناحية الرسوخ فيها. ولقد كشف العلم حديثا أن للجبال جذورا تمتد إلى الأغوار العميقة إلى عمق يصل إلى حوالى 75 كيلومترا. وغرس الجبال على هذا النحو فى الطبقة اللزجة التى تحت طبقة الصخور هو الذى يساعد على تثبيت القارات ويمنعها أن تطوف أثناء دوران الأرض، فهذه الأوتاد المغروسة فى الطبقة اللزجة التى تحت القارات تعمل على تثبيت القارات كما يثبّت الوتد الخيمة إذا غرس فى تراب الأرض. كذلك يعمل بروز الجبال على استقرار سطح الأرض، حيث تبرز قشرة الأرض فى موضع ما فتصبح جبالا نتيجة ضغوط أثرت على أطراف طبقات أفقية من الصخور، ثم تستقر القشرة الأرضية على هذا الوضع. وثمّة نقطة علمية أخرى هى أن أول ما برد من الأرض أثناء تكوينها هى قشرتها الخارجية فتجمدت وظل باطنها ساخنا على هيئة سائل وغاز، وأثناء برودة القشرة تغضنت، فما ارتفع من أجزائها كوّن الجبال والهضاب، وما انخفض كوّن السهول والوديان وقيعان المحيطات. فلولا بروز الجبال لتشققت القشرة وظهرت بها فجوات وفتحات كثيرة، ولثارت البراكين واضطربت الأرض ¬

(¬32) سورة فاطر: 27 - 28. (¬33) سورة النبأ: 6، 7.

4 - فى آيات البحار:

اضطرابا عظيما وزلزلت زلزالا شديدا، فكأن الجبال حافظة لما تحتها مانعة له من الاضطرابات والزلازل والثوران، وفى هذا المعنى يقول الله تعالى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (¬34). ولقد فطن بعض العلماء المفسرين إلى الإيحاءات العلمية لكلمة «رواسى» التى أخبر بها القرآن الكريم فى مواضع كثيرة باعتبارها وصفا للجبال، وعلاقتها باتزان الأرض أثناء حركتها. فالواقع العلمى يشهد بأن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، ومن المعروف أن أيّ جسم يدور فى حركة مغزلية حول محوره لا يميد ولا يضطرب إلا إذا كان هناك تماثل فى الكتلة حول محور الدوران، وحيث أن الأرض لا تميد بنا أثناء دورانها، بدليل عدم شعورنا بهذا الدوران، فإنه لا بدّ أن تكون الجبال الرواسى من أهم عوامل اتزان الأرض وتماثل كتلتها على جانبى محور الدوران. ولنتأمل كذلك ما تدل عليه كلمة «رواسى» من مقارنة تقتضى أن يكون جوف الأرض سائلا، وأن تستقر الجبال عليه مثلما تستقر السفينة الراسية على ماء البحر. وسيولة جوف الأرض حقيقة علمية تظهر فى ما نشاهده فى بعض البراكين عند ثورانها من قذفها بالحمم والصخر المنصهر. كما أن هناك حقيقة علمية أخرى تقابل المعروف من أن متوسط كثافة السفينة (أى وزنها مقسوما على حجمها) هو أقل من كثافة ماء البحر أو النهر، وإلا لما طفت عليه ولغرقت فيه. وأثبت علماء الجيولوجيا أن الجبال لها جذور منغمسة فى منصهر سائل مادته أكثف من مادتها، فبطن الأرض السائل أكثف حتى من مادتها، فبطن الأرض السائل أكثف حتى من جبالها، حيث يبلغ متوسط كثافة مادة الجبال نحو 6، 2 جم/ سم 3، بينما يبلغ متوسط كثافة مادة الأرض نحو 5، 5 جم/ سم 3. فما أعظم التوافق بين حقائق العلم والقرآن، وما أروع أن نهتدى بهما معا لتعميق إيماننا بالله- سبحانه وتعالى- على هدى وبصيرة. 4 - فى آيات البحار: قال تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (¬35). يمدنا العلم الحديث ببعض الحقائق التى تلقى مزيدا من الضوء على معانى هذه الآية الكريمة من سورة النور، فيخبرنا علماء ¬

(¬34) سورة الأنبياء: 31. (¬35) سورة النور: 40.

البحار بأن درجة الحرارة فى الأعماق التى تزيد على الألف متر تتراوح بين 1 - 2 درجة مئوية، أى أعلى بدرجة أو درجتين فقط من درجة الصفر المئوى التى يتجمد عندها الماء العذب. ويلاحظ أن ماء البحر- على خلاف الماء العذب- لا يتجمد عند درجة الصفر المئوى، بل عند درجة أدنى بكثير من ذلك، لأن الأملاح الذائبة فى الماء تزيد من كثافته وتمنعه من التجمد عند درجة الصفر. وتتميز البيئة البحرية على هذه الأعماق البعيدة بأنها لا تعرف تقلبات الفصول من صيف وخريف وشتاء وربيع، مثلما هى لا تعرف ضوء النهار ولا تصلها أشعة الشمس، فضلا عن أنها بيئة باردة فى برودة الثلج، لا تتأثر بموقعها من خطوط العرض المختلفة بين القطبين وخط الاستواء، ومن ثمّ فهى بيئة متجانسة الخصائص إلى حد كبير. وفى أوائل القرن العشرين تمكن العلماء من اكتشاف نوع من الأمواج الداخلية العملاقة، غير الأمواج السطحية التى نراها واضحة أمامنا على الشاطئ وتؤثر مباشرة على هدوء السطح أو اضطرابه. وقد دعمت أبحاث الأقمار الصناعية هذا الاكتشاف باستخدام تقنية «الاستشعار عن بعد» سنة 1973 م. وأمكن بالفعل تصوير أمواج البحر الداخلية والتأكد من وجودها عمليا عند السطح البينى الذى يفصل بين الطبقة الكثيفة السفلى فى البحر والطبقة العليا الأقل كثافة، ويعزى اختلاف كثافة كل من الطبقتين إلى اختلافهما فى درجة الحرارة ودرجة الملوحة. وهناك عدة عوامل تسبب اندفاع الماء فى أمواج داخلية بالبحر أهمها: تغير الضغط الجوى، وحركة المد والجزر، واختلاف شدة الرياح من مكان لآخر. ومن الجدير بالذكر أن هذا النوع من الأمواج الداخلية يسود فى البحار والمحيطات العميقة، مثل المحيط الهادى الذى يعتبر أكثر محيطات العالم عمقا، وفيه أخدود «المارياناز» الذى يبلغ عمقه نحو أحد عشر كيلومترا. وهنا نتأمل دقة التعبير القرآنى الذى تحدث عن وجود هذه الظاهرة فى «بحر لجى» أى عميق كثير الماء كالمحيط الهادى وليس أى بحر. من ناحية أخرى، نعرف أن مناطق البحار والمحيطات العميقة يخيم عليها دائما سحب كثيفة معتمة بسبب عمليات التبخير المستمر، ومن يتتبع مسار الأشعة الضوئية القادمة من الشمس فى هذه المناطق يجد أن جزءا كبيرا منها يتم انعكاسه أو امتصاصه بواسطة السحاب، ثم ينعكس جزء آخر بواسطة

5 - فى عالم النبات:

موجات البحر السطحية التى تعمل بسبب ميلها كأنها مرايا عاكسة، ويتم امتصاص الجزء الباقى من الأشعة الضوئية بواسطة طبقات مياه البحر الداخلية على أبعاد معينة تحت السطح، حيث يبدأ امتصاص ألوان الطيف المرئى تباعا حسب أطوالها الموجية، فتمتص الأشعة الحمراء ذات الموجات الطويلة قريبا من سطح البحر لعدم قدرتها على اختراق الماء إلى أعماق كبيرة، وفى أغلب الأحيان يتم امتصاص الأشعة الحمراء فى العشرين مترا الأولى تحت سطح البحر، ويحدث عندئذ ما يمكن أن نسميه «إظلام اللون الأحمر»، ونعنى به انعدام رؤية الأجسام الحمراء. فلو كان هناك غواص يسبح على عمق حوالى 20 مترا فإنه لا يرى الدم الذى ينزف من جرح فى يده مثلا. ويتوالى بعد ذلك امتصاص باقى ألوان الطيف المرئى: البرتقالى، الأصفر، الأخضر، الأزرق، النيلى، البنفسجى، وتتكون ظلمات الألوان بعضها فوق بعض، ويتلاشى أثر الضوء بعد ذلك، بحيث يخيم الظلام الدامس فى المناطق اللجية (أى العميقة) من البحر أو المحيط، ولا يستطيب العيش هناك إلا لكائنات حية عمياء لا حاجة لها إلى عيون الإبصار، مثل حيوان الإسفنج وبعض أنواع الأسماك. ولقد أمكن التأكد عمليا من هذه الحقائق العلمية عام 1934 م بعد أن تمكن عالمان أمريكيان من تصميم كرة معدنية تتحمل ضغوطا عالية، بها نافذة من البلور السميك محكمة القفل، ليهبط بها إلى قاع البحر على أغوار بعيدة، وليدرسا طبيعة الأحياء الموجودة هناك بالقرب من جزيرة برمودا فى المحيط الأطلسى، حيث لاحظا اختفاء الضوء الأحمر عند عمق نحو 18 مترا، والأصفر على عمق 100 متر، وتلاشى الجزء الأخضر والأزرق من الطيف عند عمق 240 مترا، ثم غاصا فى ظلام دامس بين عمق 520 إلى 580 مترا. إن هذه الحقائق العلمية القطعية تؤكد أن معجزة القرآن الخالدة تتجدد مع تقدم العلم، فمن الثابت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يغادر الجزيرة العربية ولم يسافر قط عبر تلك المحيطات العميقة حيث يذكر مثل هذا الوصف العلمى الدقيق لظلمات بعضها فوق بعض، أو يرى ما تم اكتشافه حديثا من أمواج داخلية عملاقة، من فوقها أمواج سطحية من فوقها سحاب. 5 - فى عالم النبات: قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ

طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (¬36). تنبه هذه الآية الكريمة إلى دلائل القدرة الإلهية فى عالم النبات الذى يزخر بالكثير من الآيات الناطقة بعظمة الخالق وجلاله. ذلك أن النباتات جميعها تتغذى وتنمو فى وجود الماء والضوء والكربون والأكسجين والهيدروجين والنيتروجين والفوسفور والكبريت والبوتاسيوم والكالسيوم والمغنسيوم والحديد .. ومع أن الغذاء بهذه المواد والعناصر واحد إلا أن الأرض ينبت فيها التفاح الحلو والحنظل المر والقطن الناعم والصبار الشائك والقمح والشعير والبرتقال والليمون والنخيل والعنب والزيتون والرمان .. تربة أرضية واحدة وعناصر غذائية واحدة وماء واحد وبذور متناهية فى الصغر تنبت آلاف الأنواع من النبات والثمار .. وتتعدد الأشكال والألوان والروائح والطعوم. وقد ربطت الآية الكريمة بين الماء والإنبات، والماء شرط ضرورى وأساسى لعملية الإنبات، وقد تظل البذرة أو الحبة فى التربة سنوات عدة، لا تنبت ولا تتحرك إلى أن ينزل عليها الماء، فتبدأ عملية الإنبات العجيبة التى قد يجريها طفل عند ما يضع البذور فوق قطعة مبللة بالماء، وهو لا يدرى أنه يهيئ الظروف لعملية إنبات بالغة التعقيد. إن من ينظر إلى شجرة التوت الضخمة، أو شجرة الكافور العملاقة، أو شجرة الجميز المعمرة، يجد أن بذورها الصغيرة التى لا تتجاوز الواحدة منها حجم رأس الدبوس غنية بالعمليات والمعلومات التى يعجز عن حملها أدق الحاسبات العملاقة، فقد أودع الله فى هذه البذور الدقيقة شروط إنباتها، ومواقيت خروج جذيرها ومراحل انقسامه واتجاه نموه، بالإضافة إلى نوع الغذاء المطلوب تركيبه ومتطلباته ويكمن فيها شكل الأوراق وألوانها وحجم الشجرة وتشريحها الداخلى ووظيفة كل عضو فيها، ومتى تزهر وتثمر .. وغير ذلك من بلايين البلايين من العمليات. وأعجب ما توصل إليه العلم الحديث فى هذا المجال ملاحظة امتداد الجذر على استقامة الساق عند ما وضعت عدة أصناف من أنواع الحبوب والبذور المختلفة فى سفن الفضاء لدراستها فى منطقة انعدام الوزن، حيث لا أرض تجذب الجذر ولا شمس يتجه نحوها الساق. وإذا توقفنا قليلا عند بعض ما جاء فى القرآن الكريم عن أشجار النخيل وثمارها- على سبيل المثال- نجد أن العلم قد كشف ¬

(¬36) سورة الأنعام: 99.

عن الكثير من الفوائد والحقائق التى أشار إليها الخطاب القرآنى بألطف العبارات، ومنها قوله تعالى: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً (¬37). وفى هذه الآيات الكريمة إشارة واضحة إلى أهمية بلح الرطب فى عملية الولادة. ذلك أن احتواء التمر على نسبة عالية من المواد السكرية يعطى طاقة عالية للمرأة الحامل والمرضع، ويعوض ما أصابها من ضعف أثناء الوضع ويعيد لها نشاطها، كما أن التمر يعوض نقص المعادن والفيتامينات، علاوة على ما ثبت طبيا من فائدته فى إدرار لبن المرضع. ومعظم السكريات التى فى التمر من نوع سكر الفاكهة (فركتوز) وسكر العنب (جلوكوز)، وهى سكريات بسيطة سهلة الهضم والامتصاص والاحتراق لإمداد الجسم بالطاقة إثر تناولها بفترة قصيرة، فإن أخذتها المرأة أثناء المخاض كان ذلك من أحسن الأغذية لها، حيث إن عضلة الرحم من أضخم عضلات الجسم وتقوم بمجهود شاق أثناء الولادة التى تستهلك كمية كبيرة من الطاقة وتتطلب تعويضها بكميات جيدة ونوعية خاصة من السكريات سهلة الهضم سريعة الامتصاص والتمثل، كتلك التى فى الرطب. كما أن الرطب من المواد الملينة المنظفة للأمعاء، وذلك مما يساعد على الولادة لأن الأمعاء الغليظة والمستقيم الممتلئ بالنفايات، يعيق حركة الرحم وانقباضه. ومن المعروف طبيا أن الملينات النباتية تفيد فى تسهيل وتأمين عملية الولادة بتنظيفها للأمعاء الغليظة على وجه الخصوص، ولذا يحرص أطباء النساء والولادة على إعطاء الحامل عند بداية المخاض حقنة شرجية لتنظيف المستقيم والأمعاء الغليظة. وتحتاج الحامل فى حالة المخاض أيضا إلى السوائل، وذلك لأن شرب الماء يعتبر مذيبا للمواد الغذائية. ويحرص أطباء التوليد على أن يقدموا للحامل وهى بحالة المخاض الماء والسكر بشكل سوائل سكرية، ومن هنا فإن أكل الرطب وشرب الماء لإذابة المواد الموجودة فيه وتسهيل امتصاصها، فضلا عن أن مجهودا شاقا مثل الولادة يتطلب سوائل، كل هذا، خير معين للمرأة أثناء المخاض والوضع، مما يوضح إحدى صور الإعجاز العلمى الرائع فى قوله تعالى: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً، خاصة وأن أبحاث العلماء قد ¬

(¬37) سورة مريم: 23 - 26.

6 - فى عالم الحيوان:

أوضحت أن البلح يضفى السكينة والهدوء على النفوس المضطربة والقلقة، ويساعد على الحيوية والانتعاش. 6 - فى عالم الحيوان: قال تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (¬38). تنبه هذه الآية الكريمة إلى دلائل القدرة الإلهية فى عالم الأحياء، ويوافقها ما أكدته بحوث العلماء الذين يدرسون كل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية لكل حيوان يسعى فى الأرض أو يطير فى السماء، من أن الكائنات الحية شعوب وقبائل وأمم تربطها صلات وعلاقات وثيقة، فهى لا تختلف فى أسلوب حياتها ونشاطها عن أمم البشر الذين لا يعمرون الأرض إلا بقدر ما يميزها عن باقى الأنواع. وقد أصبح من المعروف حاليا أنه يوجد حوالى مليون نوع من الحيوانات المختلفة التى توصل العلم إلى معرفتها، ولا شك أن هذا العدد الضخم من الحيوانات يحتاج فى دراسته العلمية إلى ترتيب وتبويب. لذلك نشأ علم خاص بهذه الموضوعات أطلق عليه اسم «علم تصنيف الحيوان». واجتهد علماء الأحياء والتشريح فى وضع المؤلفات التى تبين نتائج أبحاثهم فيما يتعلق بشعب الحيوانات وما يتفرع منها من طوائف ورتب وفصائل وأجناس وأنواع، مما لا يدع مجالا للشك فى أنها أمم مثل أمم البشر، سواء فى حالات السلم والحرب، أو فى السعى لطلب الغذاء، أو فى رعاية الصغار والضعفاء، أو ما تلجأ إليه من حيل للتغلب على ما يواجهها من مصاعب وأخطار، أو فى انقيادها لما هيأه لها الخالق العظيم العليم من طبيعة تتلاءم مع تكوينها وبيئتها. وإذا اخترنا الإبل- على سبيل المثال- من بين الحيوانات التى ورد ذكرها فى القرآن الكريم، نجد أن الله- سبحانه وتعالى- يحثنا حثا رقيقا، يقع عند المؤمنين موقع الأمر، على التفكر والتأمل فى خلقها، باعتباره خلقا دالّا على عظمة الخالق، وكمال قدرته، وحسن تدبيره، وذلك فى قوله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (¬39). وأول ما يلفت الأنظار فى الإبل خصائص البنيان والشكل الخارجى الذى لا يخلو تكوينه من لطائف تأخذ بالألباب. فالعينان محاطتان بطبقتين من الأهداب الطوال تقيانهما القذى والرمال. أما الأذنان فصغيرتان قليلتا البروز. ¬

(¬38) سورة الأنعام: 38. (¬39) سورة الغاشية: 17.

فضلا عن أن الشعر يكتنفهما من كل جانب ليقيهما الرمال التى تذروها الرياح، ولهما القدرة على الانثناء خلفا والالتصاق بالرأس إذا ما هبّت العواصف الرملية. كذلك المنخران يتخذان شكل شقين ضيقين محاطين بالشعر وحافتهما لحمية فيستطيع الجمل أن يغلقهما دون ما قد تحمله الرياح إلى رئتيه من دقائق الرمال. أما قوائم الجمل فهى طويلة لترفع جسمه عن كثير مما يثور تحته من غبار كما أنها تساعده على اتساع الخطوة وخفة الحركة، وتتحصن أقدام الجمل بخف يغلفه جلد قوى غليظ يضم وسادة عريضة لينة تتسع عند ما يدوس الجمل بها فوق الأرض، ومن ثمّ يستطيع السير فوق أكثر الرمال نعومة، وهو ما يصعب على أية دابة سواه ويجعله جديرا بلقب «سفينة الصحراء». ومما يناسب ارتفاع قوائم الجمل طول عنقه، حتى يستطيع أن يتناول طعامه من نبات الأرض، كما أنه يستطيع السير فوق أكثر الرمال نعومة، وهو ما يصعب على أية دابة سواه ويجعله جديرا بلقب «سفينة الصحراء». ومما يناسب ارتفاع قوائم الجمل طول عنقه، حتى يستطيع أن يتناول طعامه من نبات الأرض، كما أنه يستطيع قضم أوراق الأشجار المرتفعة حين يصادفها، هذا فضلا عن أن هذا العنق الطويل يزيد الرأس ارتفاعا عن الأقدام ويساعد الجمل على النهوض بالأثقال. وحين يبرك الجمل للراحة أو يناخ ليعدّ للرحيل يعتمد جسمه الثقيل على وسائد من جلد قوى سميك على مفاصل أرجله، ويرتكز بمعظم ثقله على كلكله، حتى أنه لو جثم به فوق إنسان أو حيوان طحنه طحنا. وهذه الوسائد إحدى معجزات الخالق التى أنعم بها على هذا الحيوان العجيب، حيث إنها تهيئه لأن يبرك فوق الرمال الخشنة الشديدة الحرارة التى كثيرا ما لا يجد الجمل سواها مفترشا له فلا يبالى بها ولا يصيبه منها أذى. والجمل الوليد يخرج من بطن أمه مزود بهذه الوسائد المتغلظة، فهى شىء ثابت موروث وليست من قبيل ما يظهر بأقدام الناس من الحفاء أو لبس الأحذية الضيقة. ومن خصائص الإبل الوظيفية الصبر على الجوع والعطش. وحقيقة الأمر، كما تؤكدها أبحاث العلم الحديث، هو أن الجمل يقتصد فى استخدام ما عنده من ماء وغذاء غاية الاقتصاد بأساليب معجزة، منها أن الجمل لا يتنفس من فمه ولا يلهث أبدا مهما اشتد الحر أو استبد به العطش، وهو بذلك يتجنب بخر الماء من هذا السبيل. كذلك يمتاز الجمل بأنه لا يفرز إلا مقدارا ضئيلا من العرق عند الضرورة القصوى بفضل قدرة جسمه على التكيف مع المعيشة فى ظروف الصحراء. ويضيف علماء الأحياء ووظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) سببا جديدا يفسر قدرة الإبل على تحمل الجوع والعطش عن طريق إنتاج الماء الذى يحتاجه من الشحوم الموجودة فى

7 - فى عالم الحشرات:

سنامه (أو سناميه) بطريقة كيميائية يعجز الإنسان عن مضاهاتها. ومن حكمة خلق الله فى الإبل أن جعل احتياطى الدهون فيها كبيرا للغاية يفوق أى حيوان آخر. ولهذا يستطيع الجمل أن يقضى حوالى شهر ونصف بدون ماء يشربه. وهناك أسرار أخرى عديدة فى خلق الإبل لم يتوصل العلم بعد إلى معرفة حكمتها، وخاصة ما يتعلق بألبانها، من حيث تركيبها وفوائدها كغذاء ودواء. 7 - فى عالم الحشرات: النحل من بين الحشرات التى ورد ذكرها فى القرآن الكريم وسميت إحدى سوره بسورة النحل، وفيها يقول تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (¬40). وهنا يلخص القرآن الكريم تاريخ حياة النحل فى كلمات معدودات فيها جوامع الكلم. فقد اتخذ النحل بوحى من الله بيوتا من الجبال فى بادئ الأمر، ثم انحدر منها إلى الأشجار، ثم تطور إلى المعيشة فى الخلايا التى يصنعها على نحو ما نعرفها اليوم. وإن بعض العلماء الذين كرّسوا جهودهم لدراسة حياة الحشرات وقفوا على حقائق عجيبة وافقت صحة ما جاء فى القرآن الكريم، منها أن هناك فصائل برية من النحل تسكن الجبال، وتتخذ من مغاراتها مأوى لها، وأن منه سلالات تتخذ من الأشجار سكنا بأن تلجأ إلى الثقوب الموجودة فى جذوع الأشجار وتتخذ منها بيوتا تأوى إليها. ولما سخر الله النحل لمنفعة الإنسان أمكن استئناسه فى حاويات من الطين أو الخشب. وتدل الدراسات العلمية المستفيضة لمملكة النحل أن إلهام الله- سبحانه وتعالى- لها يجعلها تطير لارتشاف رحيق الأزهار، فتبعد عن خليتها آلاف الأمتار، ثم ترجع إليها ثانية دون أن تخطئها وتدخل خلية أخرى غيرها، علما بأن الخلايا فى المناحل تكون متشابهة ومرصوصة بعضها إلى جوار بعض، وذلك لأن الله- سبحانه وتعالى- قد ذلل لها الطرق وسهلها، ومنحها من قدرات التكيف الوظيفى والسلوك ما يعينها فى رحلات استكشاف الغذاء وجنيه ثم العودة بعد ذلك إلى البيت. وفى رحلة الاستكشاف لجمع الغذاء الطيب تستعين النحلة العاملة بحواسها التى منحها الله إياها، فهى مزودة بحاسة شم قوية عن طريق قرنى استشعار فى مقدم ¬

(¬40) سورة النحل: 68، 69.

رأسها، كما أنها تتمتع بحاسة إبصار جيدة تميز البياض والسواد وبعض الألوان وعلى الأخص اللونين الأزرق والأصفر، وهى تمتاز على العين البشرية فى إحساسها بالأشعة فوق البنفسجية، ولذا فهى ترى ما لا تراه عيوننا مثل بعض المسالك والنقوش التى ترشد وتقود إلى مختزن الرحيق ولا يمكننا الكشف عنها إلا بتصويرها بالأشعة فوق البنفسجية. ثم إذا حطّت النحلة على زهرة يانعة وبلعت رحيقها استطاعت أن تتذوقه وتحدد بحكم فطرتها مقدار حلاوته. وفى رحلة العودة تهتدى النحلة إلى مسكنها بحاستى النظر والشمّ معا. أما حاسة الشم فتتعرف على الرائحة الخاصة المميزة للخلية. وأما حاسة الإبصار فتساعد على تذكر معالم رحلة الاستكشاف، إذ يلاحظ أن النحلة عند ما تغادر البيت تستدير إليه وتقف أو تحلق أمامه فترة وكأنها تتفحصه وتتمعنه حتى ينطبع فى ذاكرتها، ثم هى بعد ذلك تطير من حوله فى دوائر تأخذ فى الاتساع شيئا فشيئا، وعند ما تعود إلى البيت تخبر عشيرتها بتفاصيل رحلتها، وتدل زميلاتها على مكان الغذاء فينطلقن تباعا لجنى الرحيق من الزهور والإكثار منه لادخار ما يفيض عن الحاجة العاجلة لوقت الشتاء ببرده القارس وغذائه الشحيح. وقد أوضحت أبحاث العلماء حديثا أن للنحل لغة خاصة يتفاهم بها عن طريق الرقص، وأن للنحلة الشغالة فى جسمها من الأجهزة ما يجعلها تستطيع قياس المسافات والأبعاد والزوايا بين قرص الشمس والخلية، ثم إنها تستخدم لغة سرية للتخاطب عن طريق رقصات خاصة معبرة تنبئ بها أخواتها عن وجود الرحيق الحلو وتحدد لهن موضعه تحديدا دقيقا من حيث زاوية الاتجاه إليه وبعده عن بيتها. فمثلا الرقص الدائرى يعنى وجود مكان غنى بحبوب اللقاح يقع بالقرب من موقع خلية النحل، بينما يعنى الرقص المتعرج الاهتزازى أن مركز الخلية بعيد عن موقع الرحيق. وتستطيع العشيرة الواحدة من النحل أن تجمع نحو 150 كيلوجراما من العسل فى الموسم الواحد. والكيلو جرام الواحد من العسل يكلف النحلة ما بين مائة وعشرين ألف إلى مائة وخمسين ألف حمل من الرحيق تجمعها بعد أن تطير مسافة تعادل محيط الكرة الأرضية عدة مرات فى المتوسط. وتستطيع النحلة أن تطير بسرعة 65 كيلومترا فى الساعة، وهو ما يعادل سرعة القطار. وحتى لو كان الحمل الذى تنوء به يعادل ثلاثة أرباع وزنها فإنها يمكن أن تطير بسرعة 30 كيلومترا فى الساعة.

8 - فى عالم الطيور:

وقد أثبت العلم أن اختلاف كل من تركيب التربة والمراعى التى يسكنها النحل يؤثر تأثيرا كبيرا فى لون العسل، كما أن العلماء لا يزالون يجدّون فى كشف المزيد من الفوائد الغذائية والعلاجية لعسل النحل بعد أن تأكدت فعاليته فى قتل الجراثيم وزيادة المناعة والتئام الجروح. فتبارك الخالق العليم الذى ألهم النحل لتأكل من كل الثمرات وتسلك سبل ربها، على صغر جرمها، ذللا، لطفا بها فيما هى محتاجة إليه ليهنأ عيشها، ثم تخرج ما فى بطونها من شمع أبيض وعسل مختلف ألوانه فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. 8 - فى عالم الطيور: قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (¬41). تلفت هذه الآية الكريمة أنظار المؤمنين إلى آيات الإعجاز فى طيران الطيور، وتدعو أصحاب العقول الراجحة إلى تأمل حكمة الخالق- جلت قدرته- فهو الذى خلق جميع الكائنات الحية والجامدة وأودع فيها خصائصها، وهو الذى خلق قانون الجاذبية بين الأجرام التى يجذب بعضها بعضا، ولكنه، وهو اللطيف الخبير بحاجات خلقه، يسّر الطيور لما خلقت له، فأودع فى أجسامها من آيات الخلق والبناء، ومما فطرها عليه من حسن الأداء، ما يجعلها تتغلب على قانون الجاذبية وتحلق حرة طليقة فى جو السماء ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ. وتتحلى الطيور عامة بخصائص مهمة لا بدّ من توفرها فى أية آلة طائرة، مثل خفة الوزن ومتانة البناء وانسياب الجسم ودقة الاتزان. فهياكل الطيور العظمية خفيفة للغاية، حيث لاحظ علماء البيولوجيا أن بعض الأجزاء قد اختصر والتحم بعض عظامها ببعض، وتحول معظمها إلى أنابيب رقيقة جوفاء، لكنها فى الوقت نفسه متينة ومرنة وقادرة على تحمل القوى المفاجئة التى يتعرض لها الطائر أثناء مناوراته البهلوانية فى الجو. أما رءوس الطيور فقد صغرت وخلت من الأسنان، ومن ثمّ لم تعد بحاجة إلى فكين ثقيلين وعضلات كبيرة لتحريكهما، فجمجمة الحمامة مثلا تزن سدس ما تزنه جمجمة الفأر الكبير، وطائر الفرقاط (أى الطائر البارجة، أو الطائر العملاق) الذى يبلغ طول ما بين طرفى جناحيه المبسوطين أكثر من مترين، لا يزن هيكله العظمى كله أكثر من 113 جراما تقريبا، أى أقل من وزن ريشه. وقد عبّر أحد العلماء عن الإبداع فى بناء جمجمة الطيور بقوله: إنها شعر منظوم فى عظام. ¬

(¬41) سورة النحل: 79.

وأما ريش الطيور فيتميز بأنه مكيف بدقة بالغة لترويح الهواء وتخفيف كثافة الجسم وعزله عزلا جيدا عن الجو، فضلا عن مرونته الفائقة التى تمكنه من الالتواء والانثناء لتلبية حاجات الطيران سريعة التغيّر. وأهم ما يميز الريش أن توزيعه يهذب زوايا الجسم البارزة. وهناك خصائص وظيفية أخرى تتمتع بها الطيور من أهمها ارتفاع معدل العمليات الحيوية فى داخل أجسامها. فهى على سبيل المثال، أقدر من الحيوانات الثديية فى هضم الطعام، وقلبها أقوى وأكبر وأسرع نبضا مع حفظ النسبة، وضغط دمها أقل، ونسبة السكر فيه أكثر، ودرجة حرارتها أعلى، وجهازها التنفسى أكفأ، حيث تتصل الرئتان بمجموعة من الأكياس الهوائية المنتشرة فى أنحاء الجسم، مما ييسر تبريد أجسامها أثناء الطيران، فضلا عن الإسهام فى تخفيف وزنها، وهذا كله يجعل من أجهزتها آلات رائعة لإنتاج الطاقة اللازمة للطيران، فهى تستخدم غذاءها بكفاءة تفوق أضعاف كفاءة أحدث الطائرات فى استخدام وقودها. وبالنسبة لذيل الطائر فتكاد تنحصر مهمته فى التوجيه، ولكنه إذا نشر مبسوطا زادت مساحة السطح، وقد يستغل هذا أحيانا فى الرفع وأحيانا فى تقليل سرعة الهبوط، ويوازن الطائر حركته بواسطة جناحيه، وقد قرر القرآن الكريم- فى بيان معجز- حقيقة أن جناحى الطائر هما جهاز طيرانه الأساسى، وهذا يتفق فى بساطة ووضوح مع ملاحظة الفطرة السليمة والدراسة العلمية المدققة على حد سواء. قال تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ (¬42). وفى أثناء خفق الجناح تغيّر أجزاؤه، وبخاصة ريشاته القوادم، أشكالها وأوضاعها وزواياها وسرعة حركتها فى كل لحظة مع اختلاف الارتفاع وشدة الهواء واتجاهه ومتطلبات الطيران المتغيرة. وهذا كله يتم بصورة آلية وبسرعة مذهلة لم يستطع العلماء إدراك بعضها إلا بأدق آلات التصوير السريع والعرض البطىء. وليس الطيران بالنسبة للطيور مجرد وسيلة للانتقال المعتاد، فللطائر فيه مآرب أخرى كثيرة، من ذلك أن كثيرا من الطيور يلقف طعامه من الحشرات فى أثناء طيرانه، كما أن بعضها يصيد فريسته من ذوات الجناح وهما محلقان فى الجو، وقد يقذف بعضها إلى بعض الطعام وهى راكبة متن الهواء. وللطيور أفانين كثيرة من العراك واللهو والغزل الطائر. والطيور الصافات، أى التى تبسط جناحيها دون حراك، تستطيع أن تمضى فى ¬

(¬42) سورة الأنعام: 38.

9 - فى الآفاق وفى الأنفس:

الهواء بجناحين ساكنين إلى أبعد المسافات، وكأن قوى خفية تشدها وتحركها كيف تشاء. وهذه الطيور المتخصصة فى هذا النوع من الطيران تستطيع أيضا أن ترفع جناحيها أو تخفضهما أو تدفعهما إلى أمام أو خلف، أو أن تقلل من مساحتهما بقبضهما قبضا يسيرا، أو أن تديرهما من مفصل الكتف ليقابلا الهواء بزوايا مختلفة تؤثر فى سرعتها، أو تلوى أجزاء منها، وما إلى ذلك، وهى فى أثناء هذا كله تحرك ذيلها بالصورة المناسبة. وتتميز الطيور الصافات باختصار حجم عضلات صدرها التى تحرك جناحيها لقلة الحاجة إلى استخدامها، مع قوة الأوتار والأربطة المتصلة بالجناحين حتى تستطيع بسطها فترات طويلة دون جهد عضلى كبير. ولقد علمت هذه الطيور قدر خالقها، وصدق فيها قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (¬43). 9 - فى الآفاق وفى الأنفس: إن مادة الكون هى كل ما خلق الله- سبحانه وتعالى- فى عالم الشهادة، أى العالم الذى نحسه بحواسنا أو ندركه بما يقوم مقام الحواس ويعزز وظائفها من أجهزة وأدوات، مثل المجاهر (الميكروسكوبات) التى تيسر رؤية الأجسام الدقيقة، والمقاريب (التلسكوبات) التى تمكن الراصد من رؤية الأجسام البعيدة، أو غير ذلك مما لم يتمكن الإنسان بعد من إدراكه والتعرف عليه فى هذا الكون الفسيح الذى لا يعلم مداه إلا الله وحده. ويمثل الضوء نعمة النور الذى تبصر به العين بإذن ربها، فترى العديد من الآيات البينات فى الآفاق وفى الأنفس، التى تذكّر الإنسان بما يحتوى عليه الكون من العجائب والمعجزات وتنير له طريق الهداية والصواب. والطريقة التى تؤدى بها العين وظيفتها فى الإبصار كانت مجهولة حتى عصر الإسلام، فقد كان الاعتقاد السائد عند الفلاسفة القدماء هو أن إبصار الموجودات يتم بخروج النور من عين الإنسان فيحيط بالأشياء ويتم إدراكها بالرؤية المباشرة، أو أن الإبصار يتم بانطباع صور الأشياء من البصر دون أن يرد منها شىء للعين. ومثل هذه الآراء الفلسفية الخاطئة علميا عطلت منهج البحث العلمى السليم وأخّرت ظهور نظرية الإبصار الصحيحة إلى أن جاء عصر الحضارة الإسلامية واستطاع علماؤها الأفذاذ، بفضل المنهج الإسلامى فى البحث والتفكير، أن يسلكوا طريقة استقرائية دقيقة لدحض ¬

(¬43) سورة النور: 41.

الآراء الفلسفية القديمة، وتحقيق نظرية جديدة فى الإبصار على أساس الوجود المستقل للضوء كمؤثر خارجى. وكان الحسن ابن الهيثم فى مقدمة علماء المسلمين الذين وضعوا الأسس العلمية السليمة لعلم الضوء والبصريات. وصنف فى هذا العلم كتابا رائدا أسماه «المناظر» واعتمد عليه علماء أوروبا فى عصر النهضة الحديثة. ووافقت النظرية الجديدة ما سبق أن أخبر به القرآن الكريم من استحالة الرؤية بالعين المجردة فى الظلام، وذلك فى قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (¬44)، ففي هذه الآية الكريمة يشبه الله- سبحانه وتعالى- حال المنافقين بمن استوقد نارا، فلما وقع ضوء النار على ما حوله من الأجسام المعتمة ثم تشتت منها كشفها للناظرين. وعند ما ذهب الله بنورهم، أى بذلك الضياء المشتت من الأجسام المعتمة الذى كان يقع على أبصارهم فيعينهم على الإحساس بالرؤية، تولدت ظلمات لا تساعد على الإبصار. وبهذا جعل الله تعالى رؤية الأجسام مرتبطة ارتباطا مباشرا بسقوط النور (أو الضوء) عليها ثم ارتداده منها إلى العين. أما الضوء فى حد ذاته فلا يرى ولا يساعد على رؤية الأشياء دون أن يقع عليها، إذ قد يوجد هذا الضوء بجانب الشيء ولا نراه، مثال ذلك أشعة الشمس التى تمر خلال حجرة مظلمة دون أن تقع على شىء فيها ويكون هواؤها صافيا خاليا من الغبار، فإنها لا تبدد ظلمتها ما لم تقع على شىء يشتتها. والضوء الكشاف الذى يمر فى الليل المظلم بجانب الأجسام المعتمة دون أن يقع عليها فإنه لا يكشفها، ولكنه إذا وقع عليها ثم ارتد إلى الأنظار حدثت الرؤية. لقد سبق القرآن الكريم إذن إلى القول باستحالة الرؤية فى الظلام، أى فى غياب الضوء المشتت عن الأجسام، وقد لاحظ رواد الفضاء حديثا عقب اختراقهم للغلاف الجوى أن السماء فقدت لونها الأزرق الجذاب الذى نراها به من الأرض، وأصبحت سوداء حالكة رغم سطوع الشمس وتلألؤ النجوم، وما ذلك إلا لعدم وجود الجسيمات الدقيقة الكافية لتشتت الضوء وحدوث الإبصار. كذلك لاحظ رواد الفضاء أن سماء القمر مظلمة دائما لانعدام الغلاف الجوى حول سطحه، وأن الأرض تبدو فى الفضاء كرة مضيئة تسبح وسط ظلام دامس. وقد أوضحت الصور التى التقطها رواد الفضاء أثناء رحلاتهم الفضائية أن الأرض والقمر منيران بأشعة الشمس المنعكسة منهما، وأن السواد الذى يعم الصورة ما هو إلا ظلمة السماء وليلها الدائم. ¬

(¬44) سورة البقرة: 17.

10 - قضايا علمية معاصرة:

وتتم رؤية الأشياء بواسطة العين نتيجة استقبالها الأشعة الضوئية التى تحمل معها صور المرئيات وألوانها، فتتكون لها صور حقيقية مقلوبة على الشبكية، وتقوم شبكة الأعصاب الحساسة على الشبكية بنقل الصور إلى المخ على هيئتها السليمة فى الواقع. ولا يزال العلم عاجزا حتى الآن عن معرفة حقيقة ما يحدث فى العين ذاتها عند ما ترى منظرا معينا وتحول صورته المقلوبة على الشبكية إلى إحساس بلون خاص مميز. ولا يملك أى عاقل أمام هذا الإعجاز فى خلق العين وأدائها لوظيفتها فى إبصارها للأشياء بألوانها كما هى فى الواقع إلا أن يشكر الله ويحمده على نعمائه، فهو القائل فى محكم التنزيل: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (¬45). 10 - قضايا علمية معاصرة: (أ) الاستنساخ: قال تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (¬46). تقرر هذه الآية الكريمة، مع آيات أخرى كثيرة فى القرآن الكريم حقيقة الوحدانية لله- سبحانه وتعالى- وتفرده بأنه الخالق الواحد لكل شىء، الجدير بالطاعة والعبادة. وعند ما يزعم الإنسان، وهو مخلوق محدود القدرات، أنه قادر على محاكاة الخلق الإلهى ومنافسته فإنه يكون قد ضل الطريق بعيدا عن الإيمان، واستسلم لغرور العقل والمبالغة فى تقديسه إلى درجه التأليه، مع أن العقل وكل ما يتوصل إليه من علوم ومعارف هى من آثار الله خالق كل شىء. لكن عند ما يزعم أمثال هؤلاء بأنهم نجحوا فى ابتكار شىء ما ظنوه خلقا جديدا وحسبوا أنفسهم خالقين، فإن القرآن الكريم يضعهم فى حجمهم الحقيقى الضئيل من الجهل والعجز فى مقابل قدرة الخلاق العالم البارئ المصور، فيقول: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (¬47). ومن أبحاث العلماء فى خلايا الكائنات أمكن التوصل إلى استنساخ بعض النباتات من خلايا جسدية فى ساق النبات، أو أوراقه، أو جذوره، كما أمكن استنساخ خلايا جسدية، وليست جنسية، وتحقق هذا بالنسبة للضفادع والفئران، وأخيرا الخراف، وتساءل الناس عن إمكانية حدوث نفس الشيء بالنسبة للبشر .. والتساؤل من الناحية العلمية لا يجد جوابا سهلا، فالفكرة التى طبّقت على النبات ¬

(¬45) سورة الأنعام: 46. (¬46) سورة الأنعام: 102. (¬47) سورة المؤمنون: 14.

(ب) التلوث البيئى:

والحيوان تجد عوائق كثيرة عند تطبيقها على الإنسان .. وكل ما يحاوله العلماء هذه الأيام هو إيقاظ الخلايا الجسدية من سباتها لتعيش أو تعمل من جديد، وينشط برنامجها الوراثى كله، وكأنما هى تعود إلى حالتها الجنينية وتصبح صالحة لاستنساخ كائن جديد .. هذا ما فعله الباحثون فى حالة النبات والحيوان، فهل سيتحقق فى الإنسان؟! إن القضية على هذا النحو أصبحت ذات أبعاد علمية واجتماعية وعقدية تحتاج إلى ضوابط تحكم مسيرة البحث العلمى فى الطريق السليم الذى يعود على البشرية بالخير والنفع ولا يهدد البنية الاجتماعية المستقرة للمجتمع الإنسانى. (ب) التلوث البيئى: يقول الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (¬48). تشير هذه الآية الكريمة إلى أن الفساد أو التلوث الذى تعانى منه البيئة والبشرية اليوم برا وبحرا وجوا؛ جاء نتيجة طبيعية لعمل الإنسان، ذلك أن البيئة من المنظور الإسلامى مرتبطة بتحمل الإنسان- دون غيره من المخلوقات- لأمانة الخلافة فى الأرض وترقية الحياة عليها حتى يستكمل حكمة الله من خلقه وخلقها، بعد أن سخّر له كل ما فى الكون من نعم ظاهرة وباطنة لكى ينتفع بها ويمجد بانتفاعها ربّ العالمين. ولا يكون الإنسان جديرا بتحمل أمانة الخلافة إذا أساء استعمال هذه النعم التى تتكون منها عناصر البيئة، أو تصرّف فيها على نحو غير مشروع جريا وراء منفعة خاصة، أو استسلاما لأنانية مقيته. فالخلافة تعنى أول ما تعنى تعمير الأرض بإشاعة الخير والسلام فيها، وبالعمل على إظهار عظمة الخالق وقدرته عن طريق الانتفاع الإيجابى بكل المخلوقات التى سخرها الله لخدمة الإنسان. ويتجلى ذلك فى قوله تعالى: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها (¬49)، أى جعلكم عمارا تعمرونها وتسكنون بها، وهذا لا يتأتى إلا بأمرين: أولهما: أن تبقى الصالح على صلاحه ولا تفسده، وثانيهما: أن تصلح ما يفسد وتزيد إصلاحه، ولا شك أن فى الأمرين خير ضمان لحماية البيئة وسلامتها. ولقد سبق الدين الإسلامى الحنيف إلى وضع تشريعات محكمة لرعاية البيئة وحمايتها من آفات التلوث والفساد، ورسم المنهج الإسلامى حدود هذه التشريعات على أساس الالتزام بمبدأين أساسيين يحددان مسئولية الإنسان حيال البيئة التى يعيش ¬

(¬48) سورة الروم: 41. (¬49) سورة هود: 61.

(ج) احتمالات الحياة على كواكب أخرى فى الكون:

فيها: أما المبدأ الأول: فهو «درء المفاسد» حتى لا تقع بالبلاء على العباد وتسبب الأذى للفرد والمجتمع والبيئة، حيث لا ضرر بالنفس، ولا ضرار بالغير. وأما المبدأ الثانى: فهو «جلب المصالح» وبذل كل الجهود التى من شأنها أن تحقق الخير والمنفعة للجماعة البشرية. وأهم ما يميز المنهج الإسلامى فى الحفاظ على البيئة هو الأمر بالتوسط والاعتدال فى كل تصرفات الإنسان، باعتباره من أهم عوامل الوقاية من الخلل والاضطراب فى منظومة التوازن البيئى المحكم الذى وهبه الله للحياة والأحياء فى هذا الكون. وهذا لا يعنى بطبيعة الحال أن يقف الإنسان مكتوف الأيدى إزاء النظم البيئية المحيطة به، أو أن يعطل أداء واجب الإعمار الذى تقتضيه أمانة الاستخلاف فى الأرض، ولكنه يعنى أن يتعامل الإنسان مع هذه النظم بما يمكنه من تطوير حياته دون إسراف فى استخدام الموارد الطبيعية أو جور على حقوق الآخرين. (ج) احتمالات الحياة على كواكب أخرى فى الكون: قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (¬50). تشير هذه الآية الكريمة إلى وجود كائنات تدب وتتحرك فى السموات والأرض، وهذه الكائنات عاقلة وذكية وعابدة وليست قاصرة على الملائكة. وتقرر هذه الآية الكريمة أيضا أن الله سبحانه وتعالى قادر على جمع هذه الأحياء وحدوث الالتقاء بينها أثناء الحياة الدنيا أو فى الآخرة. وهذا الموضوع المتعلق باحتمالات وجود كائنات حية ذكية غير الإنسان فى كواكب أخرى فى هذا الكون الفسيح أصبح من الموضوعات التى تجذب اهتمام الناس وتستحوذ على تفكيرهم، حيث يلهث العلم وراء البحث عن أسباب تسمح بوجود حياة على الكواكب الأخرى غير الأرض فى مجموعتنا الشمسية، أو على الكواكب التى تقع فى أسر جاذبية النجوم الأخرى وتدور حولها. وعادة ما يكون اكتشاف أى آثار تدل على وجود الماء من أبرز الأساليب التى ترجح الاعتقاد بوجود حياة، حيث أن الماء هو الأصل والضرورى لنشأة الحياة واستمرارها، باعتراف علماء البيولوجيا أنفسهم، وبتقرير القرآن الكريم- من قبل ذلك بقرون- فى قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (¬51). كذلك لا بدّ من توفر درجة حرارة مناسبة لحياة الأحياء، بالإضافة إلى ضرورة توافر عنصر الكربون الذى يمتاز بقابليته وقدرته ¬

(¬50) سورة الشورى: 29. (¬51) سورة الأنبياء: 30.

على الاتحاد بالعناصر الأخرى فى مركبات أساسية للحياة. أى أن الماء والحرارة المناسبة والكربون شروط ضرورية لقيام حياة كتلك التى نعرفها على الأرض. ولقد أكدت رحلات الفضاء وأبحاث العلماء استحالة وجود حياة كالتى نعرفها على أى كوكب آخر غير الأرض فى مجموعتنا الشمسية، وأصبح مطلوبا البحث عن وجود هذه الحياة الذكية المحتملة بعيدا عن المجموعة الشمسية على كواكب (أو أرضين) شبيهة بأرضنا وتابعة لنجوم (شموس) أخرى غير شمسنا فى عوالم أخرى فى مجرتنا أو المجرات الأخرى. ولقد بذل الإنسان حديثا محاولات للاتصال بالعوالم الأخرى، ومن بينها المركبة بايونير 10 التى أطلقت عام 1972 م وزميلتها قويجر 2 التى أطلقت عام 1972 المزودتين برسائل رمزية وصورة رجل وامرأة من أهل الأرض يرفعان أيديهما رمزا للسلام، ورسائل صوتية مسجلة بلغات مختلفة وموجهة من شعوب الأرض إلى سكان العوالم الأخرى لتحيتهم وحثهم على الاتصال بنا. لكن هل سيتحقق هذا الذى يبحث عنه العلماء؟ العلم عند الله وحده القائل: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ صدق الله العظيم. ا. د. أحمد فؤاد باشا

المصادر والمراجع: (1) القرآن الكريم. (2) مختصر تفسير ابن كثير، اختصار وتحقيق: محمد على الصابونى، دار القرآن الكريم بيروت. (3) التفسير الكبير، أو مفاتيح الغيب للإمام فخر الدين الرازى، دار الكتب العلمية بيروت لبنان 1411 هـ- 1990 م. (4) المنتخب فى تفسير القرآن الكريم، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ط- 18، القاهرة 1416 هـ- 1995 م. (5) محمد فؤاد عبد الباقى، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، مؤسسة جمال للنشر بيروت لبنان. (6) المفردات للراغب الأصفهانى، ط- دار المعرفة، بيروت. (7) تفسير القرطبى، ط- إحياء التراث العربى. (8) فتح البارى، ط- دار المعرفة، بيروت. (9) عبد المجيد الزندانى، الإعجاز العلمى تأصيلا ومنهجا، مجلة الإعجاز، هيئة الإعجاز العلمى فى القرآن والسنة، رابطة العالم الإسلامى، مكة المكرمة، العدد الأول صفر 1416 هـ- 1995 م. (10) د. أحمد فؤاد باشا، رحيق العلم والإيمان، دار الفكر العربى، القاهرة 1422 هـ- 2002 م. (11) لسان العرب لابن منظور. (12) د. عبد الحافظ حلمى محمد، العلوم البيولوجية فى خدمة تفسير القرآن الكريم، مجلة عالم الفكر، المجلد الثانى عشر، العدد الرابع، الكويت 1982 م. (13) د. أحمد الشرباصى، قصة التفسير، دار العلم، القاهرة 1962. (14) عباس محمود العقاد، التفكير فريضة إسلامية، منشورات المكتبة العصرية، بيروت- صيدا. (15) د. محمد إبراهيم شريف، هداية القرآن فى الآفاق وفى الأنفس وإعجازه العلمى، دعوة ضرورية ومنهج واجب، 1406 هـ- 1986 م. (16) د. أحمد فؤاد باشا، فى فقه العلم والحضارة، سلسلة قضايا إسلامية (20)، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة 1417 هـ- 1997 م. (17) د. أحمد فؤاد باشا، دراسات إسلامية فى الفكر العلمى، دار الهداية، القاهرة 1418 هـ- 1997 م. (18) محمد أحمد الغمراوى، الإسلام فى عصر العلم، الرسالة والرسول والقرآن والإعجاز العلمى، دار الإنسان، القاهر 1411 هـ-، 1991 م. (19) كريس موريسون، الله يتجلى فى عصر العلم، ترجمة: الدمرداش عبد المجيد سرحان. (20) عبد الحليم الجندى، القرآن والمنهج العلمى المعاصر، دار المعارف، القاهرة 1984 م. (21) د. منصور حسب النبى، الكون والإعجاز العلمى فى القرآن الكريم، دار الفكر العربى، 1991 م. (22) أعداد مجلة المسلم المعاصر. (23) أعداد مجلة الإعجاز العلمى وأعمال مؤتمرات الإعجاز العلمى فى القرآن والسنة رابطة العالم الإسلامى. (24) قاموس القرآن الكريم، مؤسسة الكويت للتقدم العلمى، الكويت (سلسلة معاجم). (25) د. أحمد فؤاد باشا، الاسلام والعولمة: مفاهيم وقضايا، كتاب الجمهورية، دار التحرير، القاهرة، 2000 م.

مفردات قرآنية

مفردات قرآنية 1 - الأرض المقدسة مركّب إضافى .. ورد ذكره فى القرآن الكريم مرة واحدة فقط (¬1)، ومعناه: الأرض المطهرة المباركة. واختلف العلماء فى تعيين هذه الأرض المقدسة .. على النحو التالى (¬2): 1 - هى الطور، وما حوله .. قال ذلك: مجاهد. 2 - هى الشام .. قال ذلك: قتادة. 3 - هى أرض أريحاء .. قال ذلك: ابن زيد، والسدى، وابن عباس. 4 - وقيل: هى .. دمشق، وفلسطين، وبعض الأردن. قال ابن جرير: وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب: أن يقال: هى الأرض المقدسة، كما قال نبى الله موسى عليه السلام، وذلك: لأن القول فى ذلك، بأنها أرض دون أرض، لا تدرك حقيقة صحته إلا بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به. غير أنها: لن تخرج من أن تكون .. من الأرض التى ما بين الفرات، وعريش مصر؛ لإجماع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار، على ذلك. هذا ... والموضع الذى ورد ذكر الأرض المقدسة فيه من كتاب الله هو قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (المائدة: 20 - 26). ¬

(¬1) محمد فؤاد عبد الباقى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم. (¬2) ابن جرير الطبرى جامع البيان عن تأويل آى القرآن (المائدة تفسير الآية 21).

2 - الآزفة

2 - الآزفة من: أزف، يأزف، أزفا، وأزوفا .. اقترب. وكل شىء اقترب: فقد أزف أزفا، أى: دنا. وقد ورد هذا الاسم فى القرآن الكريم: مرتين فقط (1). الأولى: فى قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (غافر: 18). والثانية: فى قوله تعالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (النجم: 57، 58). يقول الإمام الفخر الرازى (¬3): ذكروا فى تفسير (الآزفة) وجوها: الأول: أنها القيامة .. سميت بذلك: لقربها، وإن استبعد الناس مداها (¬4). وقيل: سميت بذلك لدنوّها من الناس، وقربها منهم؛ ليستعدوا لها، وكان بعضهم يتمثل ويقول (¬5): أزف الرحيل وليس لى من زاد غير الذنوب لشقوتى ونكادى وعليه: ف يَوْمَ الْآزِفَةِ فى آية غافر: يوم القيامة، وأَزِفَتِ الْآزِفَةُ فى آية النجم: اقتربت القيامة. الثانى: أنها المسارعة إلى دخول النار؛ حيث إنه عند ذلك ترتفع القلوب عن مقارّها من شدة الخوف: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ. وعليه: ف يَوْمَ الْآزِفَةِ فى آية غافر: يوم المسارعة إلى دخول النار، وأَزِفَتِ الْآزِفَةُ فى آية النجم: اقتربت المسارعة إلى دخول النار. الثالث: أنها المنيّة، وحضور الأجل .. بدليل: أنه عز وجل أنذرهم يوم القيامة، ووصفه بأنه يَوْمَ التَّلاقِ (غافر: 15) ويَوْمَ هُمْ بارِزُونَ (غافر: 16) ثم أنذرهم- بعد ذلك- ب يَوْمَ الْآزِفَةِ (غافر: 18)، فوجب أن يكون هذا اليوم غير هذا اليوم. وكذلك: هذه الصفة، كون الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ مخصوصة فى سائر الآيات، بيوم الموت، قال تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (الواقعة: 83، 84) وقال: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (القيامة: 26). وأيضا: فوصف يوم الموت بالقرب .. أولى من وصف يوم القيامة بالقرب. وكذلك: الصفات المذكورة بعد قوله: الْآزِفَةِ لائقة بيوم حضور الموت؛ لأن المرء عند معاينة ملائكة العذاب: يعظم خوفه، ¬

(¬3) الفخر الرازى: التفسير الكبير (غافر: تفسير الآية 180) بتصرف. (¬4) ابن منظور: لسان العرب (مادة: أزف). (¬5) القرطبى: الجامع لأحكام القرآن (غافر تفسير الآية 18، النجم تفسير الآية 57).

3 - أساطير الأولين

فكأن قلوبهم تبلغ حناجرهم من شدة الخوف ويبقوا كاظمين ساكنين عن ذكر ما فى قلوبهم من شدة الخوف، ولا يكون لهم حميم ولا شفيع يدفع ما بهم من أنواع الخوف والقلق. وعليه: ف يَوْمَ الْآزِفَةِ فى آية غافر: يوم الموت، وأَزِفَتِ الْآزِفَةُ فى آية النجم: اقتربت المنية. 3 - أساطير الأولين ذكرت هذه المادة فى القرآن الكريم: تسع مرات (1)، ويلاحظ: أنها جميعا وردت فى القسم المكى فى القرآن الكريم، وعلى ألسنة المشركين: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (الأنعام: 25) يعنى: قريشا. قال ابن مسعود: «قالوا: للنضر بن الحارث .. ما يقول محمد؟ قال أرى تحريك شفتيه، وما يقول إلا أساطير الأولين، مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر صاحب قصص وأسفار، فسمع أقاصيص فى ديار العجم، فكان يحدثهم بها» (¬6). والأساطير: جمع أسطورة، كأراجيح وأرجوحة. والمراد بها: الأباطيل، وهى: أحاديث لا نظام لها كتبت كذبا وزورا، فيما زعموا (¬7): وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (الفرقان: 5). قال الزجاج: وقالوا الذى جاء به أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ومعناه: ما سطر الأولون وكتبوه كذبا وزورا (¬8). وكان الواحد من هؤلاء الكفار، إذا سمع القرآن أو تلا عليه قال: ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (الأحقاف: 17) عنادا منهم وتكبرا وكفرا (¬9). 4 - الأسباط الأسباط: جمع سبط، وهو ولد الولد؛ كأنه امتداد الفروع، وعلى ذلك فالسبط: الجماعة والقبيلة، الراجعون إلى أصل واحد. والأسباط: ولد يعقوب عليه السلام، وهم اثنا عشر ولدا، ولد لكل واحد منهم أمة من الناس، واحدهم: سبط. ومن هنا: فالسبط فى بنى إسرائيل. بمنزلة القبيلة فى ولد إسماعيل. وسموا الأسباط من السّبط، وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون. وقيل: سموا بذلك من السّبط، وهو الشجر، أى: هم فى الكثرة، بمنزلة الشجر، قال أبو إسحاق الزجاج: ويبين لك هذه الكثرة، ما قاله ابن عباس: «كل الأنبياء من بنى إسرائيل، إلا عشرة: نوحا، وشعيبا، وهودا، وصالحا، ولوطا، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل، ومحمد صلى الله عليه وعليهم جميعا وسلم» (¬10). ¬

(¬6) القرطبى: مصدر سابق (الأنعام تفسير الآية 25). (¬7) الراغب الأصفهانى: مفردات ألفاظ القرآن (كتاب السين، مادة: سطر). (¬8) ابن منظور: اللسان (مادة: سطر). (¬9) القرطبى: مصدر سابق، وابن كثير تفسير القرآن العظيم (الأحقاف تفسير الآية 17) (¬10) الراغب الأصفهانى: المفردات (كتاب السين، مادة: سبط)، القرطبى: مصدر سابق (البقرة تفسير الآية 136).

5 - الإفك

وقد ذكر الله تعالى (الأسباط) فى القرآن الكريم: خمس مرات (1). فى سورة البقرة الآيتان 136، 140، آل عمران الآية 84، النساء الآية 163، الأعراف الآية، 160. 5 - الإفك هو: كل مصروف عن وجهه الذى يحق أن يكون عليه. ومنه قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (التوبة: 30) أى: يصرفون عن الحق فى الاعتقاد إلى الباطل، وعن الصدق فى المقال إلى الكذب، وعن الجميل فى الفعل إلى القبيح. ولما اعتقدت عاد: أن هودا عليه السّلام .. يصرفهم عن الحق إلى الباطل بما جاءهم به، حينما قال لهم: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قالوا له: أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا؟ (الأحقاف: 21، 22) أى: أنك تكذب علينا. واستعمل (الإفك) فى الكذب (¬11). ومنه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ (النور: 11) أى بالكذب على السيدة عائشة، رضى الله عنها، ومنه كذلك: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (الجاثية: 7). 6 - الأكنّة الأكنان والأكنة: جمع، مفرده: الكنّ، والكنان. والكنّ: ما يحفظ فيه الشيء. أيضا ما يردّ الحر والبرد من الأبنية والمساكن وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً (النحل: 81). والكنان: الغطاء، الذى يكن فيه الشيء، والأكنة: جمع كنان، مثل: الأسنة والسّنان، والأعنة، والعنان (¬12). وقد وردت بهذا المعنى فى القرآن الكريم .. حيث يقول رب العزة: جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً (الأنعام: 25، الإسراء 46، الكهف 57). الأكنّة: الأغطية. والمعنى: أن الكفار لما كانوا لا ينتفعون بما يسمعون، ولا ينقادون إلى الحق، كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم. ولذلك: فعلنا بهم هذا جزاء على كفرهم. وليس المعنى: أنهم لا يسمعون ولا يفقهون؛ حيث تبجحوا ببيان ما يؤيد ذلك إذ: قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ (فصلت: 5). 7 - أصحاب الأيكة الأيكة: الشجر الكثير الملتف. ¬

(¬11) الراغب: المفردات (كتاب الهمزة، مادة: أفك)، القرطبى: مصدر سابق (النور تفسير الآية 11). (¬12) الراغب: المفردات (كتاب الكاف، مادة: كنّ) القرطبى: مصدر سابق (الأنعام: تفسير الآية 25).

8 - أصحاب الكهف

وأصحاب الأيكة: جماعة كانوا يسكنون غيضة كثيرة فى الشجر؛ فنسبوا إليها (¬13). وهم: أهل «مدين» قوم شعيب عليه السّلام. وكانوا قوما من العرب، يسكنون فى الحجاز، مما يلى جهة الشام، قريبا من «خليج العقبة» من الجهة الشمالية منه. يقول الطبرى: إن بين أرض مدين ومصر .. ثمان ليال. ويظهر: أنها فى الأرض المسماة الآن ب «معان» جنوب فلسطين. هذا: ويرى بعض المفسرين: أن «أصحاب الأيكة» قوم آخرون، غير أهل مدين، أرسل الله إليهم شعيبا عليه السّلام بعد هلاك «مدين» فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ (الشعراء: 189). والصحيح: أن أهل «مدين» هم أنفسهم (أصحاب الأيكة) حيث إن سورة الشعراء وضحت أنهم كانوا يطففون المكيال والميزان، يقول تعالى: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (الشعراء: 176 - 183). وهذا وصفهم: فقد كانوا يجمعون بين الزراعة والتجارة، وكانت أراضيهم كثيرة الأشجار، وافرة الثمار، وفيها الحدائق الغناء؛ ومن هنا: سموا بأصحاب الأيكة، كما كانوا كفارا، يقطعون السبيل، ويخيفون المارة، وكانوا من أسوأ الناس معاملة، خاصة مع نبيهم. وقد جعل الله تعالى عليهم- لكفرهم- أنواعا من العقوبات، وصنوفا من المثلات، وأشكالا من البليات؛ وذلك لما اتصفوا به من قبيح الصفات. سلط الله عليهم رجفة شديدة، أسكنت منهم الحركات، ثم: صيحة عظيمة أخمدت منهم الأصوات، ثم: ظلة، أرسل عليهم منها شرر النار، من سائر أرجائها والجهات (¬14). ولقد ورد ذكرهم فى القرآن الكريم صريحا (1) فى سور: الحجر الآية 78، والشعراء الآية 176، و (ص) الآية 13، و (ق) الآية 14. 8 - أصحاب الكهف وهم: مجموعة من الشباب، لجئوا إلى غار فى الجبل، فرارا بدينهم من أقوامهم، الذين كانوا يعبدون الأصنام، وحدثت لهم بهذا الغار الأعاجيب. وقد عرفوا ب (أصحاب الكهف) نسبة إلى هذا الغار. ذكرهم القرآن الكريم فى سورة سميت باسم كهفهم، وهى: سورة «الكهف». ¬

(¬13) الراغب: المفردات (كتاب الألف، مادة: أيك)، ابن منظور لسان العرب (مادة: أيك). (¬14) انظر: ابن كثير قصص الأنبياء (قصة شعيب عليه السلام) بتحقيقنا، القرطبى: مصدر سابق (الحجر: تفسير الآية 78)، محمد على الصابونى: النبوة والأنبياء (قصة شعيب عليه السّلام).

يذكر الله تعالى قصتهم باختصار فى قوله سبحانه: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (الكهف: 9 - 12). ثم يفصل قصتهم بعد هذا الإجمال فى أربعة عشرة آية بعد ذلك، من نفس السورة (الكهف: 13 - 26). يقول عنهم الإمام ابن كثير (¬15): هم: فتية، ألهمهم الله رشدهم، وآتاهم تقواهم، فآمنوا بربهم، واعترفوا له بالوحدانية، وشهدوا أنه لا إله إلا هو. ويقول: ذكر غير واحد من المفسرين- من السلف والخلف- أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوما فى بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع فى السنة يجتمعون فيه، فى ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يأمر الناس بذلك، ويحثهم عليه ويدعوهم إليه، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم؛ عرفوا أن هذا الذى يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم، والذبح لها لا ينبغى إلا لله الذى خلق السماوات والأرض. فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه، وينحاز منهم، ويتبرز عنهم ناحية. فكان أول من جلس منهم أحدهم، جلس تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس عنده، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم، وجاء الآخر، وجاء الآخر. ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك، الذى جمع قلوبهم على الإيمان، كما جاء فى الحديث: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» (¬16). وجعل كل واحد منهم يكتم ما هو فيه عن أصحابه، خوفا منهم، ولا يدرى أنهم مثله، حتى قال أحدهم: تعلمون- والله يا قوم- إنه ما أخرجكم من قومكم، وأفردكم عنهم، إلا شىء، فليظهر كل واحد منكم ما بأمره، فقال الآخر: أما أنا فإنى والله رأيت ما قومى عليه، فعرفت أنه باطل، وإنما الذى يستحق أن يعبد وحده، ولا يشرك به شىء؛ هو الله الذى خلق السماوات والأرض وما بينهما. فقال الآخر: وأنا والله، وقع لى كذلك. وقال الآخر: كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة. فصاروا يدا واحدة، وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبدا، يعبدون الله فيه. فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه، فسألهم عن ¬

(¬15) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (الكهف: تفسير الآية 13). (¬16) رواه: البخارى: ك الأنبياء، باب «الأرواح جنود مجندة»، مسلم: ك البر، باب «الأرواح جنود مجندة».

9 - الإنابة

أمرهم، وما هم عليه؛ فأجابوه بالحق، ودعوه إلى الله- عز وجل. ولهذا: أخبر تعالى عنهم بقوله: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً الآيات. يقال: إن ملكهم- هذا- لما دعوه إلى الإيمان أبى عليهم، وتهددهم، وتوعدهم، وأمر بنزع لباسهم عنهم، الذى كان عليهم من زينة قومهم، وأجلهم لينظر فى أمرهم، لعلهم يراجعون دينهم الذى كانوا عليه، وكان هذا من لطف الله بهم، فإنهم فى تلك النظرة: توصلوا إلى الهرب منه، والفرار بدينهم من الفتنة، فلما وقع عزمهم على الذهاب، والهرب من قومهم، واختار الله لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك، فى قوله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أى فارقتموهم بأديانكم ففارقوهم- أيضا- بأبدانكم فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أى: يبسط لكم رحمة يستركم بها من قومكم وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ الذى أنتم فيه مِرفَقاً أمرا ترتفقون به. فعند ذلك: خرجوا هرابا إلى الكهف، فأووا إليه ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وتطلبهم الملك، فلم يظفر بهم، وعمى الله عليهم خبرهم. وباقى قصتهم فى آيات سورة الكهف، مبسوطة فى كتب التفسير بالمأثور (¬17). 9 - الإنابة ناب فلان إلى الله تعالى، وأناب إليه إنابة، فهو منيب: أى أقبل وتاب ورجع إلى الطاعة. وقيل: ناب: لزم الطاعة، وأناب: تاب ورجع. والإنابة: الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة وإخلاص العمل. يقول عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (الرعد: 27). أى: ويهدى إلى دينه وطاعته من رجع إليه بقلبه. ويقول تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ (الروم: 31) أى راجعين إلى ما أمر به، غير خارجين عن شىء من أمره. ويقول تعالى: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ (الزمر: 54) أى توبوا إليه وارجعوا (¬18). وقد وردت هذه المادة فى القرآن الكريم ثمان عشرة مرة. 10 - الأنصاب والأزلام الأنصاب: جمع نصب وهى: كل ما عبد من دون الله تعالى. قال ابن سيده: والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة، تنصب، فيهلّ عليها ويذبح لغير الله. ¬

(¬17) للتوسع انظر: ابن جرير الطبرى، والدر المنثور، وابن كثير، وغيرها. (¬18) انظر: الراغب المفردات (ك الهمزة، مادة: نوب)، القرطبى: مصدر سابق (الرعد تفسير الآية 27، والروم تفسير الآية 31، والزمر تفسير الآية 54)، ابن منظور لسان العرب (مادة: نوب).

11 - الباقيات الصالحات

يقول تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة: 9)، ويقول تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ (المائدة: 3). وأما الأزلام: جمع زلم والزلم: هى السهام التى كان أهل الجاهلية يستقسمون بها، يقول تعالى: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ (المائدة: 3). والأزلام: كانت لقريش فى الجاهلية، مكتوب عليها: أمر أو نهى، وأفعل ولا تفعل، قد سوّيت ووضعت فى الكعبة، يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد رجل سفرا أو نكاحا، أتى السادة، فقال: أخرج لى زلما، فيخرجه وينظر إليه، فإذا خرج قدح الأمر، مضى على ما عزم عليه، وإن خرج قدح النهى، قعد عما أراده، وربما كان مع الرجل زلمان، وضعهما فى قرابة؛ فإذا أراد الاستقسام أخرج أحدهما (¬19). 11 - الباقيات الصالحات ورد ذكر «الباقيات الصالحات» فى كتاب الله تعالى مرتين (1): واحدة فى قوله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا (الكهف: 46). والثانية: فى قوله تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (مريم: 76). وقد اختلف أهل التأويل فى المعنى ب الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ (¬20). 1 - فقال بعضهم: هى الصلوات الخمس .. ومن هؤلاء: ابن عباس، وسعيد بن جبير. 2 - وقال بعضهم: هى ذكر الله بالتسبيح، والتقديس، والتهليل، ونحو ذلك. ومن هؤلاء: عثمان بن عفان، وسعيد بن المسيب، وعطاء ابن أبى رباح، ومجاهد، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدرى. 3 - وقال بعضهم: هى الكلم الطيب. ومن هؤلاء: ابن عباس. 4 - وقال بعضهم: هى النيّات والهمّات، حيث إن بها تقبل الأعمال، وترفع. ومن هؤلاء: الحسن البصرى. 5 - وقال بعضهم: هن البنات. ومن هؤلاء: عبيد بن عمير؛ حيث يدل عليه أوائل الآية، قال تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ثم قال: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ ¬

(¬19) الراغب: المفردات (ك النون، مادة: نصب)، والقرطبى: مصدر سابق (المائدة: تفسير الآية 3)، ابن منظور: (مادة: نصب). (¬20) انظر: ابن جرير الطبرى: جامع البيان، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، القرطبى: الجامع لأحكام القرآن، النيسابورى: غرائب القرآن ورغائب الفرقان (الكهف: تفسير الآية 46).

12 - البحيرة

يعنى: البنات الصالحات، هن عند الله لآبائهن خير ثوابا، وخير أملا فى الآخرة، إن أحسن إليهن. 6 - وقال بعضهم: هى ما أريد به وجه الله وحده من طاعة الله ورسوله، وجميع أعمال الخير ومن هؤلاء: ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، حيث إن كل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بمعرفة الله وبمحبته وخدمته فهو «الباقيات الصالحات». كما أن كل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بأحوال الخلق فهو خارج عن ذلك. يقول الإمام ابن جرير: وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال: هن جميع أعمال الخير؛ لأن ذلك كله من الصالحات، التى تبقى لصاحبها فى الآخرة، وعليها يجازى ويثاب، وإن الله عز وجل لم يخصّص من قوله تعالى: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا بعضا دون بعض .. فى كتاب، ولا بخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. 12 - البحيرة ورد ذكرها فى القرآن الكريم مرة واحدة فقط (1) فى قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (المائدة: 103). وهى من الأشياء الحلال التى حرمها الناس على أنفسهم، ولم يحرمها الله تعالى عليهم. ومن المعلوم أن قضية التحريم والتحليل لا تكون إلا لله عز وجل، ويجب الامتثال، لشرعه- سبحانه- تحليلا، وتحريما، ومن تدخل فيها، أو خالف لها فهو معتد على حق من حقوق الله تعالى، يقول عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (المائدة: 87، 88). والبحيرة هى: الناقة، التى كانوا يشقون فى أذنها شقا، يقال: بحرت أذن الناقة بحرا، إذا شققتها وخرقتها. قال ابن سيده: بحر الناقة والشاة يبحرها بحرا، شق أذنها بنصفين، وقيل: بنصفين طولا. وكانت العرب تفعل بهما ذلك، إذا نتجتا عشرة أبطن، فلا ينتفع منهما بلبن، ولا ظهر، وتترك البحيرة ترعى وترد الماء، ويحرم لحمها على النساء، ويحلّل للرجال، فنهى الله تعالى عن ذلك (¬21). وعن سعيد بن المسيب: «هى الناقة، التى يمنع درها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس» (¬22). ¬

(¬21) ابن منظور: لسان العرب، الراغب: مفردات ألفاظ القرآن (مادة: بجر). (¬22) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ابن جرير الطبرى: جامع البيان (المائدة تفسير الآية 103).

13 - البر

وقال الراغب: هى الناقة، إذا ولدت عشرة أبطن شقوا أذنها، فيسيبونها، فلا تركب، ولا يحمل عليها (21). وعن ابن عباس: «إذا نتجت الناقة خمسة أبطن .. نظروا إلى الخامس؛ فإن كان ذكرا ذبحوه، فأكله الرجال دون النساء، وإن كان أنثى جدعوا أذانها، فقالوا هذه بحيرة» (21). وقال الأزهرى: قال أبو إسحاق النحوى: أثبت ما رويناه عن أهل اللغة، فى البحيرة، أنها: الناقة، كانت إذا نتجت خمسة أبطن، فكان آخرها ذكرا، بحروا أذنها، أى شقوها، وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ولا تحلأ عن ماء ترده، ولا تمنع من مرعى، وإذا لقيها المعيى المنقطع به: لم يركبها. والصواب: هو الأول. أى الناقة التى ولدت عشرة أبطن (21). وعن زيد بن أسلم، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال (22): «قد عرفت أول من بحر البحائر، رجل من بنى مدلج، كانت له ناقتان، فجدع آذانهما، وحرم ألبانهما وظهورهما، وقال: هاتان لله. ثم احتاج إليهما، فشرب ألبانهما، وركب ظهورهما، قال: فلقد رأيته فى النار، يؤذى أهل النار ريح قصبه» (¬23). 13 - البرّ قال الراغب الأصفهانى: البرّ خلاف البحر، وتصوّر منه التوسع، فاشتق منه البرّ. وعلى ذلك: فالبرّ، التوسع فى فعل الخير، وينسب ذلك إلى الله تارة، نحو إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (الطور: 28). وإلى العبد تارة، فيقال: برّ العبد ربّه، أى: توسع فى طاعته. فهو من الله: الثواب، ومن العبد: الطاعة. وهو ضربان: ضرب فى الاعتقاد، وضرب فى الأعمال، وقد اشتمل عليهما قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ .. الآية (البقرة: 177)؛ حيث إن الآية متضمنة: للاعتقاد، والأعمال والفرائض، والنوافل (¬24). وقد اختلف العلماء فى معنى البر على أقوال، قال بعضهم: البر: الصدق والطاعة. وقال بعضهم: البر: الصلاح. وقال بعضهم: البر: الخير. وقال بعضهم: البر: التقى. وقال بعضهم: البر: كل ما تقرب به إلى الله تعالى. وقال بعضهم: البر: خير الدنيا والآخرة. فخير الدنيا: ما ييسّره الله تبارك وتعالى للعبد من الهدى والنعمة والخير، وخير الآخرة: الفوز بالنعيم الدائم فى الجنة (¬25). وقد ذكر (البر) ومشتقاته فى القرآن الكريم 20 مرة 1، وفى حديث النبى صلّى الله عليه وسلّم كثيرا (¬26). ¬

(¬23) القصب: بوزن، قفل: اسم للأمعاء كلها. (النهاية فى غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، بتحقيق محمود الطناحى- باب القاف مع الصاد). (¬24) الراغب: المفردات (كتاب الباء، مادة: برّ). (¬25) ابن منظور: اللسان (مادة: برر). (¬26) للتوسع انظر: كتب التفسير والحديث.

14 - التقوى

14 - التقوى التقوى: هى جعل النفس فى وقاية مما يخاف، وحفظها عما يؤذيها ويضرها. وهى فى الشرع: حفظ النفس عما يؤثّم، وذلك بترك المحظور (¬27). وسأل عمر بن الخطاب رضى الله عنه أبيّا عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فما عملت فيه؟ قال: تشمّرت وحذرت، قال: فذاك التقوى. وفيها: جماع الخير كله، وهى. وصية الله تعالى فى الأولين والآخرين بل هى خير ما يستفيده الإنسان (¬28)، وعلى أساسها يتفاضل البشر، يقول تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: 13). وقد ذكرت مادة «التقوى» فى القرآن الكريم (258 مرة) منها (70 مرة) وردت بصيغة الأمر بها (27) من الله تعالى لعباده كما فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (التوبة: 119)، كما أمر بها جميع الرسل أقوامهم، فهذا نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، عليهم السلام- على سبيل المثال- يقول كل واحد منهم لقومه: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (الشعراء الآيات: 107، 108/ 125، 126/ 143، 144/ 162، 163/ 178، 179). كما بين القرآن صفات المتقين، إرشادا إليها، وحثّا على التحلى بها، فى كثير من آياته الكريمة .. حيث جعل من صفاتهم أنهم الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (البقرة: 3 - 5) وكذلك: المتقى .. هو مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ (البقرة: 177) والمتقون كذلك: هم الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ (البقرة: 177) وهم الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وهم المحسنون الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ فى ثقة منهم أنه ليس هناك مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (آل عمران: 134، 135) وهم الذين: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ¬

(¬27) الراغب: المفردات (كتاب الواو، مادة: وقى). (¬28) القرطبى: الجامع لأحكام القرآن (البقرة تفسير الآية 2).

(الأعراف: 102) وهم الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (الأنبياء: 49)، وهم الذين: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (الذاريات: 17 - 19). ولأن التقوى حفظ النفس، ووقايتها عما يؤثم، فمجالاتها عديدة لا يحصرها إحصاء، ولا يحيط بها عدّ؛ حيث إنها تطبع الإنسان بطابع خاص مميز، فى جميع المجالات. ومن ذلك: 1 - فى ميدان الجهاد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (آل عمران: 200). 2 - فى قتال الأعداء: .. وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (التوبة: 36). 3 - فى العدل مع الخصوم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (المائدة: 8). 4 - فى المعاملات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (آل عمران: 130). 5 - فى الحلال والحرام: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة: 100). 6 - فى الأحوال الشخصية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ .. (الطلاق: 1). وثمرات التقوى وآثارها: كثيرة، كثيرة .. نذكر منها المقتطفات التالية: 1 - نوال معية الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (النحل: 128). 2 - نوال حب الله تعالى: بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (آل عمران: 76). 3 - نوال نصر الله تعالى: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (الأعراف: 128). 4 - نوال رحمة الله، وهدايته: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الحديد: 28).

15 - التنابز بالألقاب

5 - الخروج من الأزمات، وسعة الرزق، وتيسير الأمر: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (الطلاق: 2، 3)، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (الطلاق: 4). 6 - النجاة من مس الشيطان: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (الأعراف: 201). 7 - النجاة من السوء والأحزان: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (الزمر: 61). 8 - النجاة من الخوف والحزن: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (الأعراف: 35) 9 - تكفير السيئات وغفران الذنوب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (الأنفال: 29). 10 - الفلاح فى الدنيا والآخرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة: 35). 11 - دخول جنات النعيم ونوال رضوان الله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (آل عمران: 15). وانظر الآيات: فى آل عمران 133، 136، 198، الحجر 45 - 48، النحل 30 - 35، مريم 63، ص 49 - 53، الزمر 20، 73، الزخرف 67 - 73، الدخان 51 - 57، محمد 15، ق 31 - 35، الذاريات 15 - 16، الطور 17 - 20، القمر 54، 55، القلم 34، المرسلات 41 - 44، النبأ 31 - 36. 15 - التنابز بالألقاب التنابز بالألقاب: هو التداعى بها، بمعنى: أن يلقّب بعضهم بعضا، وكثر فيما كان ذمّا. والنّبز بالتحريك: اللّقب، والنّبز بالتسكين: المصدر. وقد ورد فى القرآن الكريم بصيغة النهى عنه مرة واحدة (¬29)، وذلك فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ ¬

(¬29) ابن منظور: لسان العرب، محمد فؤاد عبد الباقى: معجم ألفاظ القرآن الكريم (مادة: نبز).

16 - التوبة

الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الحجرات: 11). ويلاحظ: أن النهى عن ذلك فى الآية الكريمة، ورد ضمن النهى عن بعض الأمور التى تتضمنها منظومة الآداب الإسلامية، فقد نهت الآية عن سخرية المؤمن بالمؤمن، ثم نهت- ثانيا- أن يعيب المؤمن مؤمنا ويطعن فيه بلسانه، كما نهت- ثالثا- عن أن يدعو الإنسان أخاه المؤمن بلقب لا يحبه؛ لكونه ذمّا له، أو مشعرا بذلك. قال النووى: اتفق العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره، سواء كان صفة له، أو لأبيه، أو لأمه، أو غيرهما (¬30). ومن التشديد فى تحريم ذلك فى الإسلام، أن الآية جعلت التنابز بالألقاب فسقا يرتكبه الإنسان، كما هددت من لم يكف عنه، ويتب منه بوصفه بالظالم. ولكن يستثنى من ذلك التحريم من غلب عليه الاستعمال كالأعرج، والأحدب، ولم يقصد به الذم، أو التعيير، ولا يجد من ذلك صاحبه حرجا، حيث جوّزته الأمة، واتفق على فعله أهل الملة (30). وعلى هذا المعنى ترجم البخارى- رحمه الله- فى كتاب «الأدب» من صحيحه، باب (ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم: الطويل، والقصير، وقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «ما يقول ذو اليدين»؟ وما لا يراد به شين الرجل). يقول ابن حجر صاحب «فتح البارى»: هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الألقاب وما لا يعجب الرجل أن يوصف به مما هو فيه، وحاصله: أن اللقب إن كان ما يعجب الملقّب ولا إطراء فيه، مما يدخل فى نهى الشرع، فهو جائز أو مستحب، وإن كان مما لا يعجبه فهو حرام أو مكروه، إلا إن تعين طريقا إلى التعريف به، حيث يشتهر به ولا يتميز عن غيره إلا بذكره (¬31). وعلى هذا: يمنع الإسلام من تلقيب الإنسان بما يكره، وجوز تلقيبه بما يحب. وقد لقب النبى صلّى الله عليه وسلّم عمر بالفاروق، وأبا بكر بالصديق، وعثمان بذى النورين، وخزيمة بذى الشهادتين .. إلخ. 16 - التوبة أصل تاب إلى الله: عاد إلى الله ورجع عن المعصية وأناب، يقول تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (النور: 31). ¬

(¬30) القرطبى: الجامع لأحكام القرآن، الآلوسي: روح المعانى (الحجرات: تفسير الآية 11). (¬31) فتح البارى 10/ 468 ط دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت- لبنان.

17 - الجبت والطاغوت

وتاب الله عليه: أى وفقه للتوبة، وقبلها منه، وعاد عليه بالمغفرة، يقول تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ (التوبة: 117)، ويقول تعالى: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ (غافر: 3). والتوبة: ترك الذنب على أبلغ الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو يقول: فعلت وأسأت وقد أقلعت. ولا رابع لذلك. وهذا الأخير هو التوبة. والتوبة فى الشرع: ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شرائط التوبة. والتائب يقال لباذل التوبة، ويقال- أيضا- لقابل التوبة، فالعبد تائب إلى الله التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ (التوبة: 112). والله: تائب على عبده ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا (التوبة: 118). والتوّاب: العبد الكثير التوبة إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (البقرة: 222). وقد يقال ذلك لله تعالى: لكثرة قبوله التوبة (¬32) إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (الحجرات: 12). 17 - الجبت والطاغوت الجبت: النذل الذى لا مروءة له ولا خير فيه. وقال الشعبى: هو السحر. وقيل: هى كلمة تقع على الصنم، والكاهن، والساحر. وعلى كل فهى تقال لكل ما عبد من دون الله (¬33). والطاغوت: عبارة عن كل متعبّد، وكل معبود من دون الله. ويستعمل فى الواحد والجمع على السواء قال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ (البقرة: 256) وقال كذلك: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ (البقرة: 257). والطاغوت: هو الشيطان. وقيل: هو الساحر، وقيل: الكاهن، وقيل: المارد من الجن. وعلى كل فهو كل صارف عن طريق الخير (¬34). وقد وردت هذه العبارة بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فى القرآن الكريم مرة ¬

(¬32) انظر: الراغب الأصفهانى: المفردات، ابن منظور: لسان العرب (مادة: توب)، القرطبى: الجامع لأحكام القرآن (تفسير الآية المذكورة). (¬33) الراغب: المفردات، ابن منظور: لسان العرب، محمد فؤاد عبد الباقى: المعجم المفهرس (مادة: جبت). (¬34) الراغب الأصفهانى: المفردات (كتاب الطاء، مادة: طغى).

18 - الجوابى

واحدة 33. وذلك فى قوله عز وجل- تعجبا من أمر أهل الكتاب: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (النساء: 51، 52). والمعنى: أن اليهود الذين أعطوا نصيبا من الكتاب يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ أى: بما عبد من دون الله وَالطَّاغُوتِ أى: الشيطان، أو كل من تجاوز حدود الله. وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة أنتم أهدى طريقا. وأصح دينا من محمد وأصحابه. هؤلاء أبعدهم الله من رحمته، وليس لهم من دون الله نصيرا يعتد بنصره. 18 - الجوابى الجوابى: جمع الجابية، وهى القدر العظيمة، أو الحوض الكبير، الذى يجبى فيه الشيء، أى يجمع (¬35). وقد وصفت بها الجفان، التى كان يصنعها الجن لسليمان عليه السلام، بعد أن سخر الله له فريقا منها. والجفان: جمع جفنة، وهى: وعاء الأطعمة. وقد ورد هذا اللفظ فى القرآن الكريم مرة واحدة، وذلك فى قوله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (سبأ: 12، 13). 19 - الحاقّة الحاقة: اسم من أسماء يوم القيامة؛ ولا نزاع فى ذلك. ولكنهم اختلفوا فى سبب هذه التسمية، قال ابن كثير: لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد، وقال أبو مسلم: لأنها واجبة الوقوع، ولا ريب فى مجيئها، وقيل: لأن الأمور تعرف فيها على حقيقتها، وقيل: لأن فيها تكون حواق الأمور الواجبة الحصول، من الثواب والعقاب، وغيرهما من أحوال القيامة، وقيل: غير ذلك (¬36). وقد ذكر هذا الاسم ليوم القيامة فى القرآن الكريم ثلاث مرات، فى قوله تبارك وتعالى الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (الحاقة: 1 - 3). ¬

(¬35) القرطبى: الجامع لأحكام القرآن (سبأ: تفسير الآية 13). (¬36) انظر: القرطبى: مصدر سابق، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، النيسابورى: غرائب القرآن ورغائب الفرقان، الجمل: الفتوحات الإلهية (تفسير سورة الحاقة).

20 - حدود الله تعالى

20 - حدود الله تعالى الحدود: الحواجز، وهى: جمع حدّ، والحد: الحاجز بين الشيئين، الذى يمنع اختلاط أحدهما بالآخر. وحد الشيء: الوصف المحيط بمعناه، المميز له عن غيره، والحدّ كذلك: المنع، ومنه سمى الحديد حديدا؛ لأنه يمنع من وصول السلاح إلى البدن، وكذلك: حد الزنا والخمر سمى به؛ لكونه مانعا لمتعاطيه من معاودة مثله، ومانعا لغيره أن يسلك مسلكه. وحدود الله: هى التى تمنع أن يدخل فى أحكامه تعالى ما ليس منها، وأن يخرج منها ما هو منها، قال تعالى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ (الطلاق: 1). وشرعت الحدود فى المعاصى؛ لأنها تمنع أصحابها من العود إليها، أو إلى مثلها، قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها (البقرة: 229). قال الراغب: وجميع حدود الله، على أربعة أوجه: إما شىء لا يجوز أن يتعدّى بالزيادة عليه ولا القصور عنه، كأعداد ركعات صلاة الفرض. وإما شىء تجوز الزيادة عليه، ولا يجوز النقصان عنه، وذلك كمقدار الزكاة. وإما شىء لا تجوز الزيادة عليه، ويجوز النقصان عنه، وذلك مثل: التزوج بأربع فما دونها. وإما شىء يجوز عليه كلاهما، أى الزيادة والنقصان، مثل: صلاة الضحى، فإنها ثمان، وتجوز الزيادة عليها، والنقصان منها (¬37). 21 - الحرث الحرث: العمل فى الأرض زرعا كان أو غرسا، بإلقاء البذر فى الأرض، وتهيئتها للزراعة. والحرث كذلك: نفس الزرع، يقول تعالى: إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ (البقرة: 71)، ويقول تعالى: مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ (آل عمران: 117)، ويقول تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (الواقعة: 63، 64)، ويقول تعالى: فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (القلم: 21، 22). والحرث: متاع الدنيا يقول تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ ¬

(¬37) الراغب: المفردات (كتاب الحاء، مادة: حد)، القرطبى: مصدر سابق (البقرة تفسير الآية 187).

22 - الحنفاء

كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (الشورى: 20). والحرث: الثواب والنصيب يقول تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ (الشورى: 20). والحرث: النساء يقول تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (البقرة: 223) وذلك على سبيل التشبيه، فبالنساء زرع ما فيه بقاء نوع الإنسان، كما أن بالأرض زرع ما فيه بقاء أشخاصهم (¬38). 22 - الحنفاء من الحنف وهو الميل عن الضلال إلى الاستقامة. والحنيف: هو المائل إلى ذلك، كما فى قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (النحل: 120)، وقوله تعالى ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (آل عمران: 67). وجمع الحنيف: حنفاء أى: المائلون عن الضلال إلى الاستقامة، قال تعالى: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ (الحج: 30، 31). وسمّت العرب كل من حج البيت أو اختتن: حنيفا؛ تنبيها على أنه على دين إبراهيم (¬39). واشتهرت كلمة (الحنفاء) على عدد من العرب، لم تعجبهم عبادة الأصنام؛ حيث رأوها لا تنفع ولا تضر، ولا تملك لنفسها شيئا، وأن هناك- بالضرورة- قوة قادرة تمد العالم بالحياة، وأن هذه المعبودات من الأصنام التى آمن بها العرب لا توصلهم إلى الله الحق أبدا، فمالوا عنها، وأخذوا يبحثون بعقولهم عن الله الواحد سبحانه وتعالى. ومن هؤلاء: ورقة بن نوفل، ابن عم السيدة خديجة، والذى ورد ذكره فى حديث بدء الوحى للنبى صلّى الله عليه وسلّم (¬40)، وكذلك: زيد بن عمرو ابن نفيل، ابن عم عمر بن الخطاب (40)، الذى كان يقول: أرب واحد أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور تركت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الرجل البصير فلا العزى أدين ولا بنتيها ... ولا صنمى بنى عمرو أزور ولكن أعبد الرحمن ربى ... ليغفر ذنبى الرب الغفور ¬

(¬38) الراغب: المفردات، وابن منظور: لسان العرب (مادة: حرث)، القرطبى: مصدر سابق (البقرة: تفسير الآية 223). (¬39) الراغب: مصدر سابق (كتاب الحاء، مادة: حنف). (¬40) الزركلى: الأعلام 8/ 114، 3/ 60، د، عبد المقصود نصار، د. محمد الطيب النجار: السيرة النبوية.

23 - الحمولة

23 - الحمولة الحمولة: بفتح الحاء، على وزن فعولة، ولا واحد له. والمراد بها: ما يحمل الأثقال من الأنعام، وعن أبى زيد: كل ما احتمل عليه الحمل، من: حمار، أو بغل، أو بعير، سواء كانت عليه الأحمال، أو لم تكن، ثم قيل: يختص اللفظ بالإبل، وقال الضحاك: الحمولة: من الإبل، والبقر، وقال الحسن: الحمولة: الإبل، وقال ابن عباس: الحمولة: كل ما حمل من الإبل، والبقر، والخيل، والبغال، والحمير. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيها أن (الحمولة): المسخرة، المذلّلة. وقد وردت هذه اللفظة فى القرآن الكريم مرة واحدة فقط، وذلك حينما شرع المولى سبحانه وتعالى فى تفصيل حال الأنعام، وإبطال ما تقوّل على الله فى شأنها المتقولون بالتحريم والتحليل (¬41) فى قوله تعالى: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (الأنعام: 142). 24 - الحميم الحميم: الماء الشديد الحرارة .. يقول تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (محمد: 15). والحميم: القريب المشفق، الذى تهتم لأمره، ويهتم لأمرك، يقول تعالى: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (المعارج: 8 - 10) قال الفراء: لا يسأل ذو قرابة عن قرابته، ولكنهم يعرفونهم ساعة، ثم لا تعارف بعد تلك الساعة. ويقول تعالى: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (الشعراء: 100، 101)، وأصل هذا من الحميم: وهو الماء الحار. قال قتادة: يذهب الله- عز وجل- يوم القيامة مودة الصديق، ورقّة الحميم (¬42). وقال ابن سيده: الحميم: المطر الذى يأتى بعد أن يشتد الحر؛ لأنه حار، والحميم: القيظ، والحميم: العرق (¬43). 25 - الحواريون الحواريون: جمع حوارى، والحوارى: الناصر، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن لكل نبى حواريا، وإن حوارىّ: الزبير بن العوام» (¬44). وعلى ذلك: فالحواريون: أصحاب عيسى ابن مريم، عليه السّلام وأنصاره، وكانوا اثنى عشر رجلا، قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ (الصف: 14)، أى: قال عيسى ابن مريم: من أنصارى فى السبيل إلى الله، ¬

(¬41) انظر: القرطبى: مصدر سابق، الآلوسي: روح المعانى (الأنعام: تفسير الآية 142). (¬42) انظر: الراغب: المفردات (كتاب الحاء، مادة حم) القرطبى: مصدر سابق (الشعراء: تفسير الآية 101). (¬43) ابن منظور: لسان العرب (مادة: حمم). (¬44) رواه: البخارى: كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر مناقب الزبير بن العوام، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل طلحة والزبير.

26 - الحور العين

فيضم نصرته إلى نصرة الله- عز وجل- لأظهر الدعوة، وأنشر الدين؟ قال الحواريون: نحن أنصار نبيه ودينه. واختلف فى تسميتهم بذلك على أقوال: قال ابن عباس: سموا بذلك؛ لبياض ثيابهم. وقيل: سموا بذلك؛ لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس، بإفادتهم الدين والعلم، المشار إليه، فى قوله تعالى إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (الأحزاب: 33)، وقال قتادة والضحاك: سموا بذلك؛ لأنهم كانوا خاصة الأنبياء؛ لصفاء ونقاء قلوبهم. واختلف فى أصلهم- كذلك- على أقوال: فقيل: كانوا صيادين، يقول الراغب: وإنما كانوا كذلك لاصطيادهم نفوس الناس من الحيرة، وقودهم إلى الحق. وقيل: كانوا قصارين للثياب وصباغين. وأراد معلّم عيسى السفر، فقال لعيسى: عندى ثياب كثيرة، مختلفة الألوان، وقد علمتك الصبغة فاصبغها، فطبخ عيسى وعاء واحدا، وأدخل فيه جميع الثياب، وقال: كونى بإذن الله على ما أريد منك. فقدم الحوارى: هو معلم الصباغة، والثياب كلها فى هذا الوعاء الواحد، فقال لعيسى: قد أفسدتها، فأخرج عيسى ثوبا أحمر، وثوبا أصفر، وأخضر، إلى غير ذلك، مما كان على كل ثوب مكتوب عليه صبغه، فعجب الحوارى، وعلم أن ذلك من الله، ودعا الناس إليه، فآمنوا به. فهم الحواريون. وقيل: كانوا ملوكا، وذلك أن الملك صنع طعاما، ودعا الناس إليه، وكان عيسى على قصعة، فكانت لا تنقص، فقال الملك له: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم، قال: إنى أترك ملكى هذا، واتبعك، وانطلق بمن اتبعه مع عيسى عليه السّلام. فهم الحواريون (¬45). 26 - الحور العين ورد ذكر (الحور العين) فى القرآن الكريم بهذا الاسم: ثلاث مرات. فى قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (الدخان: 51 - 54). وفى قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (الطور: 17 - 20). وفى قوله تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ ¬

(¬45) انظر: الراغب: المفردات (كتاب الحاء، مادة: حور) القرطبى: مصدر سابق (آل عمران: تفسير الآية 52).

مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (الواقعة: 17 - 22). وبوصف (عين) فقط: فى قوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (الصافات: 48، 49). وبوصف (حور) فقط: فى قوله تعالى حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (الرحمن: 72). والحور: جمع أحور وحوراء. والحور: قيل ظهور قليل من البياض فى العين من بين السواد، وذلك نهاية الحسن من العين (¬46)، والحوراء: ما كانت كذلك، وقيل: الحور .. أن تسودّ العين كلها، مثل أعين الظباء والبقر، وليس فى بنى آدم حور، وإنما قيل للنساء: حوراء؛ لأنهن يشبهن الظباء والبقر. وقيل: الحوراء: هى التى يرى ساقها من وراء ثيابها، ويرى الناظر وجهه فى كعبها، من دقة الجلد وبضاضة البشرة وصفاء اللون. عن ابن مسعود قال: إن المرأة من الحور العين ليرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم، ومن تحت سبعين حلة، كما يرى الشراب الأحمر فى الزجاجة البيضاء. وقال مجاهد: إنما سميت الحور حورا؛ لأنهن يحار الطرف فى حسنهن وبياضهن وصفاء لونهن (¬47). والعين: جمع عيناء، والمعنى: عظام العيون وواسعتها، كما قال السدى، وقال مجاهد: حسان العيون، وقال الحسن: الشديدات بياض العين، الشديدات سوادها، والأول أشهر فى اللغة. وقد وصف القرآن الكريم (الحور العين) بعدة أوصاف: الأول: أنهن قاصِراتُ الطَّرْفِ (الصافات: 48) أى: قد قصرن طرفهن على أزوجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم. الثانى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (الصافات: 49) أى: كأنّهنّ مثل بيض النعام، المغطى بالريش، والذى لم تمسه الأيدى، والمصون عن الكسر، أى: أنهن عذارى. الثالث: مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (الرحمن: 72) أى: مستورات فى الخيام، لسن بالطوافات فى الطرق، وقد قصرن على أزواجهن فلا يردن بدلا منهم. الرابع: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (الرحمن: 74) لم يمسسهن قبل أزواجهن فى الجنة إنس غيرهم ولا جان. الخامس: أنهن كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (الواقعة: 23) أى هن فى ذواتهن مثل اللؤلؤ، الذى لم تسمه الأيدى، ولم يقع عليه الغبار، فهو أشد ما يكون صفاء وتلألؤا. ¬

(¬46) محمد فؤاد عبد الباقى: المعجم المفهرس، الراغب: المفردات (مادة: حور). (¬47) القرطبى: الجامع لأحكام القرآن (الدخان: تفسير الآية 54) بتصرف، التذكرة فى أحوال الموتى وأمور الآخرة ص 570، تحقيق د. أحمد حجازى السقا، ط الحلبى- مصر.

27 - الخلود

واختلف أيهما أفضل فى الجنة: نساء الآدميات أو الحور العين؟ قال بعضهم: إن نساء الآدميات من دخل منهن الجنة فضّلن على الحور العين بما عملن فى الدنيا. وقيل: إن الحور العين أفضل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام فى دعائه: «وأبدله زوجا خيرا من زوجته» (¬48). 27 - الخلود هذه اللفظة (الخلود) وردت فى القرآن الكريم مرة واحدة، وذلك فى قوله تعالى ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (ق: 34). كما وردت مشتقاتها- فى آيات القرآن الكريم- ست وثمانين مرة. والمراد بها: البقاء الذى لا انتهاء له أبدا (¬49). والخلود فى اللغة: هو تبرؤ الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التى هو عليها، وكل ما يتباطأ عنه التغيير والفساد تصفه العرب ب «الخلود»، يقول تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (الشعراء: 128، 129)، يقال: خلد يخلد خلودا أى: بقى وأقام. ولا يكون الخلود إلا فى الجنة، أو فى النار. والعياذ بالله (¬50). يقول تعالى فى وصف أهل الجنة: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (الزمر: 73). ويقول- عز وجل- فى وصف أهل النار إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها (البينة: 6). 28 - الخير الخير (¬51): ما يرغب فيه الكل، كالعقل، والعدل، والفضل، والشيء النافع عامة، وضده: الشر. والخير ضربان: خير مطلق، وخير مقيد. فالخير المطلق: ما كان مرغوبا فيه بكل حال، وعند كل أحد، كما فى قوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (آل عمران: 26). والخير المقيد: ما كان مرغوبا فيه فى بعض الأحوال، وعند بعض الآحاد، أى: ليس فى كل حال، وليس عند كل أحد، مثل: المال، الذى ربما كان خيرا لزيد وشرا لعمرو، ولذلك: وصفه الله تعالى بالأمرين، فقال فى موضع خير: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ¬

(¬48) القرطبى: الجامع لأحكام القرآن (الصافات تفسير الآية 48)، (الدخان تفسير الآية 54). (¬49) الآلوسي: روح المعانى (ق تفسير الآية 34). (¬50) الراغب: مصدر سابق، ابن منظور: مصدر سابق (مادة: خلد)، الفيروزآبادى: بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز 2/ 559 تحقيق محمد على النجار المكتبة العلمية- بيروت لبنان. (¬51) انظر: الراغب: المفردات (كتاب الخاء، مادة: خير) القرطبى: مصدر سابق (البقرة تفسير الآية 180).

29 - الدين القيم

الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ (البقرة: 180) فالخير هنا: هو المال من غير خلاف، وقال فى موضع آخر: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ (المؤمنون: 55، 56). والخير- كذلك- يقال على وجهين: أن يكون اسما، وأن يكون وصفا. فالاسم: كما فى قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ (آل عمران: 104)، والوصف: كما فى قوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى (البقرة: 197) ومن جهة ثالثة: يقابل الخير .. تارة بالسوء، وتارة بالشر، وتارة بالضر. فيقابل بالسوء كما فى قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً (آل عمران: 30)، ويقابل بالشر: كما فى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (النور: 11)، ويقابل بالضر: كما فى قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الأنعام: 17). 29 - الدين القيم الدين القيم: أى الثابت المقوّم لأمور المعاش والمعاد. وهو: دين الإسلام، القيم المستقيم (¬52)، الذى فطر الله الناس عليه، وتعبدهم بمبادئه وتعاليمه. يقول سبحان: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (يوسف: 39). ويقول سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الروم: 30). ويقول سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (الروم: 43). ويقول سبحانه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ (التوبة: 36). وأما دِينُ الْقَيِّمَةِ (البينة: 5) أى: دين الأمة القائمة بالقسط، وهى المشار إليها بقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (آل عمران: 11)، وقوله تعالى: ¬

(¬52) انظر: الراغب: المفردات (كتاب القاف، مادة: قوم) القرطبى: مصدر سابق (الروم تفسير الآية 30).

30 - روح القدس

كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ (النساء: 135). 30 - روح القدس الروح: اسم للنفس، وذلك: لكون النّفس بعض الروح، من باب تسمية النوع باسم الجنس، نحو تسمية الإنسان بالحيوان. وجعل اسما للجزء الذى به تحصل الحياة والتحرك، واستجلاب المنافع، واستدفاع المضار. وبه سمى أشراف الملائكة- عليهم السلام، نحو: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ (النبأ: 38). وبه كذلك سمى جبريل عليه السلام: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (الشعراء: 193). والقدس: من التقديس، وهو التطهير الإلهى، وليس هو التطهير المقصود به إزالة النجاسة المحسوسة. وعلى هذا: ف (روح القدس) هو: جبريل عليه السلام؛ وسمى بذلك من حيث إنه ينزل بالقدس من الله، أى بما يطهر نفوسنا من القرآن والحكمة والفيض الإلهى. وقد ورد هذا الاسم فى القرآن الكريم أربع مرات (¬53). فى قوله تعالى: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (البقرة: 87، 253). وقوله تعالى: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا (المائدة: 110). وقوله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ (النحل: 102). 31 - الزقوم الزقوم (¬54): مشتق من التزقم، وهو البلع على جهد ومشقة، وكراهية، وهو: شجر كريه المنظر، كريه الطعم. واختلف فى هذا الشجر، هل هو من شجر الدنيا، الذى تعرفه العرب، أو لا. على قولين: أحدهما: أنها من شجر الدنيا، وهى: شجرة مرة، من أخبث الشجر تكون بتهامة، من أرض الجزيرة، وقال بعضهم: إنها نبات قاتل. ثانيهما: أنها ليست من شجر الدنيا، بل هى طعام أهل النار. وهى شجرة خلقها الله فى جهنم، إذا جاء أهل النار فالتجئوا إليها، وأكلوا منها، تغلى فى بطونهم، كما يغلى الماء الحار، وشبه ما يصير منها فى بطونهم بالمهل، وهو النحاس المذاب من الغليان. ومن العجيب: أنها تحيا بلهب النار، كما يحيا شجر الدنيا بالماء، ولا مناص لأهل النار من أكلها .. ينحدر إليها من كان منهم فوقها، ويصعد إليها من كان أسفلها؛ لهذا الغرض. ¬

(¬53) انظر: الراغب: المفردات (كتاب الراء مادة: روح، كتاب القاف، مادة: قدس) القرطبى: مصدر سابق، الآلوسي: روح المعانى (البقرة تفسير الآية 87). (¬54) انظر: الفخر الرازى: التفسير الكبير، القرطبى: الجامع لأحكام القرآن (الصافات تفسير الآية 62)، ابن منظور: لسان العرب (مادة: زقم).

32 - السائبة

ولما نزل قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (الدخان: 43 - 46) لم تعرفها قريش، فقال أبو جهل: إن هذا لشجر ما ينبت فى بلادنا، فمن منكم يعرف الزقوم .. ؟ فقال رجل قدم عليهم من إفريقية: (الزقوم) بلغة إفريقية: الزبد بالتمر، فقال أبو جهل: يا جارية .. !! هاتى لنا تمرا وزبدا نزقمه، فجعلوا يأكلون منه، ويقولون: أفبهذا يخوفنا محمد فى الآخرة .. ؟ فبين الله هذه (الشجرة) فى موضع آخر بصفتها، حيث قال تبارك وتعالى: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (الصافات: 62 - 67). فقد بين تعالى: 1 - أنها فتنة لهم واختبار. 2 - وأصلها: تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ. 3 - وشكلها: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ. 4 - وأنهم يأكلون منها لا محالة: فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ. 5 - أنهم يحاولون إطفاء لهيبها بالحميم: إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ. وقد سماها ب (الشجرة الملعونة) - كذلك- فى قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً (الإسراء: 60). وهدّد- عز وجل- الكافرين بالأكل منها فى قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (الواقعة: 51 - 56). 32 - السائبة هى الناقة التى تسيّب فى المرعى، فلا ترد عن حوض ولا علف، وذلك إذا ولدت خمسة أبطن، وقال ابن إسحاق: هى الناقة إذا تابعت بين عشر إناث- أى: فى ولادتها- ليس بينهن ذكر، لم يركب ظهرها، ولم يجزّ وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف. وقيل: السائبة: هى البعير، يسيّب بنذر يكون على الرجل إن سلّمه الله من مرض، أو بلّغه منزله أن يفعل ذلك، فلا تحبس عن رعى ولا ماء، ولا يركبها أحد. وقد يسيّبون غير الناقة.

33 - السبع الطرائق

وهذه التسمية ليست من الله فى شىء، بل ما سنّ الله هذا الفعل حكما، ولا تعبد به شرعا، إنما هو مما أطلقه العرب، ومارسوه فى الجاهلية، وقالوا: إن الله أمر بتحريمها، وزعموا أنهم يفعلون ذلك لرضا ربهم. وقد كذبوا .. فطاعة الله إنما تعلم من قوله وشرعه، ولم يكن عندهم من الله بذلك قول ولا شرع، فكان ذلك مما يفترونه على الله (¬55). هذا .. وقد ورد هذا اللفظ فى القرآن الكريم .. مرة واحدة فقط، وذلك فى قوله تبارك وتعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (المائدة: 103). 33 - السبع الطرائق وهى: عبارة وردت فى القرآن الكريم، مرة واحدة، وذلك فى قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (المؤمنون: 17). والسبع: هى العدد المعروف، والطرائق: جمع طريق، كما فى قوله تعالى: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (الجن: 11)، إشارة إلى اختلافهم فى درجاتهم، وأطباق السماء يقال لها- كذلك- طرائق. وقال الخليل، والزجاج، والفراء: (سبع طرائق) أى: سبع سماوات، كقوله: سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (نوح: 15). كل سماء طريقة وإنما قيل لها: طرائق، لتطارقها، بمعنى كون بعضها فوق بعض، يقال: طارق الرجل نعليه. إذا أطبق نعلا على نعل، وطارق بين ثوبين. إذا لبس ثوبا فوق ثوب. وقال على بن عيسى: سميت بذلك؛ لأنها طرائق للملائكة فى العروج والهبوط والطيران. وقال آخرون: لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها (¬56). 34 - السكينة السكينة: هى السكون والوقار والطمأنينة وزوال الرعب، وقيل: هى الرحمة، وقيل: هى النصر، وقيل: هى الوقار وما يسكن به الإنسان. وقد وردت فى القرآن: ست مرات (¬57). اثنتان فى سورة التوبة فى قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ ¬

(¬55) انظر: الراغب: المفردات (مادة: سيب) الفيروزآبادى: بصائر ذوى التمييز (بصيرة 46) 2/ 271، القرطبى: الجامع لأحكام القرآن (المائدة: تفسير الآية 103). (¬56) انظر: الراغب: المفردات (مادة: طرق) الفخر الرازى: التفسير الكبير (المؤمنون تفسير الآية 17)، ابن قتيبة: تفسير غريب القرآن (المؤمنون). (¬57) انظر: الراغب: المفردات، ابن منظور: اللسان، محمد فؤاد عبد الباقى: معجم ألفاظ القرآن (مادة: سكن)، القرطبى: مصدر سابق (الفتح: تفسير الآية 4).

35 - شعائر الله

وثلاث فى سورة الفتح: فى قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ (الفتح: 4)، وقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ (الفتح: 18). وقوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى (الفتح: 26). وكل واحدة ذكرت فى هذه الآيات فهى بمعنى الطمأنينة- كما قال ابن عباس- إلا التى فى البقرة. وهى المرة السادسة، وهى قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ (البقرة: 248). فقد اختلف العلماء فى معنى (السكينة) فى هذه الآية قيل: هى مثل نظائرها، والمعنى: هو- أى التابوت- سبب سكون قلوبكم وطمأنينتها؛ حيث كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت- لذلك- تسكن إليه النفوس، وتأنس به وتقوى. وقيل: هى روح من الله تتكلم، فكانوا إذا اختلفوا فى أمر نطقت ببيان ما يريدون، وإذا صاحت فى الحرب، كان لهم النصر والظفر، وقيل: هى ريح هفافة- أى سريعة المرور فى هبوبها- لها وجه كوجه إنسان، وقيل: هى حيوان كالهر، له جناحان وذنب، ولعينيه شعاع، فإذا نظر إلى الجيش انهزم، وقيل: هى طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء. والصحيح القول الأول (¬58)، وفى غيره من الأقوال آثار الوضع، ورائحة الإسرائيليات. 35 - شعائر الله والشعائر: جمع شعيرة، وهى كل شىء لله تعالى فيه أمر، أو نهى، أشعر به وأعلم، ومنه: شعار القوم فى الحرب، أى علامتهم التى يتعارفون بها، ومنه كذلك: إشعار البدنة، وهو الطعن فى جانبها الأيمن حتى يسيل منه الدم؛ فيكون علامة، وتسمى: شعيرة، بمعنى: مشعورة، أى: معلّمة. والإشعار: الإعلام من طريق الإحساس، يقال: أشعر هديه أى جعل له علامة ليعرف بها أنه هدى، ومنه: المشاعر، أى: المعالم، واحدها مشعر، وهى المواضع التى قد أشعرت بالعلامات، ومنه: الشاعر؛ لأنه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره. ومنه: الشعير؛ لشعرته التى فى رأسه (¬59). وقد اختلف العلماء فى المراد من (شعائر الله) على أقوال، أبرزها قولان (¬60): الأول: ما قاله عطاء والحسن، قال عطاء ابن أبى رباح: هى جميع ما أمر الله به، ونهى ¬

(¬58) القرطبى: الجامع لأحكام القرآن (البقرة تفسير الآية 248). (¬59) الراغب: المفردات (كتاب الشين، مادة: شعر)، القرطبى: مصدر سابق (البقرة تفسير الآية 158، الحج: تفسير الآية 32). (¬60) القرطبى: مصدر سابق، الواحدى: أسباب النزول (المائدة الآية 2).

36 - الشهر الحرام

وقد اختلف العلماء فى المراد من (شعائر الله) على أقوال، أبرزها قولان (60): الأول: ما قاله عطاء والحسن، قال عطاء ابن أبى رباح: هى جميع ما أمر الله به، ونهى عنه، وقال الحسن: هى دين الله كله، ويشهد لهما: قوله تعالى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحج: 32). والثانى: ما قاله ابن عباس، ومجاهد. قال ابن عباس: هى جميع مناسك الحج ومعالمه. وقال مجاهد: الصفا والمروة، والهدى، والبدن كل ذلك من الشعائر، ويشهد لهما: أن المشركين كانوا يحجون، ويعتمرون، ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم: فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً (المائدة: 2)، أى: لا تتعدوا حدود الله فى أمر من الأمور، ولا فى شعيرة من شعائره. كما يشهد لهما: قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ (البقرة: 158)، وكذلك: قوله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ (الحج: 36). قال القرطبى: والقول الأول هو الراجح الذى يقدم على غيره؛ لعمومه. 36 - الشهر الحرام الشهر: مدّة مشهورة بإهلال الهلال، أو باعتبار جزء من اثنى عشر جزءا من دوران الشمس من نقطة إلى نقطة، وهو مشتق من الإشهار؛ لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده. والحرام: أى ما حرم الله فيه كثيرا مما لم يحرم فى غيره (¬61). والمراد ب الشَّهْرُ الْحَرامُ: ذو القعدة، وذلك فى قوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ (البقرة: 194)؛ حيث أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للعمرة فى ذى القعدة من العام السادس للهجرة، فصده المشركون، وتصالحوا، على أن يعود للعمرة فى العام المقبل، وقد عاد، وأخلى له أهل مكة البلد، وأقام فيها ثلاثا، ثم خرج منصرفا إلى المدينة، فقال تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ يعنى ذا القعدة، الذى اعتمرتم فيه بقدرة الله ب الشَّهْرُ الْحَرامُ يعنى ذا القعدة الذى صدكم فيه مشركو مكة عن العمرة، فى العام الذى كان قبله (¬62). وكذلك فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً (المائدة: 2)، قال زيد بن أسلم: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ¬

(¬61) انظر: الواحدى: مصدر سابق، القرطبى: مصدر سابق (البقرة تفسير الآية 194) الراغب: المفردات (كتاب الشين، مادة: شهر، كتاب الحاء، مادة: حرم). (¬62) ابن جرير الطبرى: جامع البيان، القرطبى: مصدر سابق (البقرة تفسير الآية 194)، (المائدة تفسير الآية 97).

37 - الصاخة

الآية، أى: لا تعتدوا على هؤلاء العمّار، بسبب أن صدكم أصحابهم، ومن المعلوم .. أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان هو وأصحابه بالحديبية، حين صده المشركون عن البيت فى ذى القعدة. والمراد به- كذلك- رجب. وذلك فى قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ (البقرة: 217)، حيث بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثا من المهاجرين، فقتلوا عمرو بن الحضرمى، فى آخر يوم من رجب، وأسروا رجلين، واستاقوا عيرهم، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم، لم آمركم بالقتال فى الشهر الحرام، فقالت قريش: استحل محمد الشهر الحرام»، فنزلت: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، إلى قوله: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أى: قد كانوا يفتنوكم- يقتلونكم- وأنتم فى حرم الله، بعد إيمانكم، وهذا أكبر عند الله من أن تقتلوهم فى الشهر الحرام مع كفرهم بالله (¬63). والمراد به- ثالثا- الأشهر الأربعة المشار إليها فى قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ (التوبة: 36). وهذه الشهور .. هى: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، الذى بين جمادى الآخرة وشعبان، وذلك فى قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ (المائدة: 97)، حيث قرر الله تعالى فى قلوبهم: حرمتها، فكانوا لا يروّعون فيها نفسا، ولا يطلبون فيها دما، ولا يتوقعون فيها ثأرا، حتى كان الرجل يلقى فيها قاتل أبيه وابنه وأخيه، فلا يؤذيه، واقتطعوا فيها ثلث الزمان، ووصلوا منها ثلاثة متوالية، فسحة وراحة، ومجالا للسياحة فى الأمن والاستراحة، وجعلوا منها واحدا منفردا فى نصف العام؛ دركا للاحترام، وهو شهر رجب (62). 37 - الصاخّة هى: الصّيحة التى تصخّ الأسماع، أى: تقرعها وتصمّها. قال ابن سيده: هى صيحة تصخّ الأذن، أى تطعنها، فتصمّها لشدتها، ومنه سميت القيامة. وقال أبو إسحاق: هى الصيحة التى تكون فيها القيامة، تصخّ الأسماع، أى: تصمّها، فلا تسمع إلا ما تدعى به للأحياء. وأصل الكلمة فى اللغة: الصك الشديد. وهى عبارة عن القيامة (¬64)، حسب المشار إليه فى قوله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ (الأنعام: 73، طه: 102، النمل 87، النبأ ¬

(¬63) ابن جرير الطبرى: مصدر سابق، الواحدى: أسباب النزول (البقرة 217). (¬64) انظر: الراغب: مفردات ألفاظ القرآن، ابن منظور: لسان العرب (مادة: صخ)، القرطبى: الجامع لأحكام القرآن (عبس تفسير الآية 33).

38 - الصاعقة

18)، قال ابن كثير: الصاخّة اسم من أسماء يوم القيامة، عظمه الله وحذّره عباده. وقال ابن جرير: لعله اسم للنفخة في الصور. وقال البغوى: الصاخة: يعنى صيحة القيامة، سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع، أى تبالغ فى إسماعها، حتى تكاد تصمّها (¬65). وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم، مرة واحدة، وذلك في قوله تعالى: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (عبس: 33 - 37). 38 - الصاعقة هى: الهدّة الكبيرة، والصوت الشديد من الجو، ويكون منها نار فقط، أو عذاب، أو موت، ولكنها فى ذاتها شىء واحد. ولذلك قال بعض أهل اللغة: الصاعقة على ثلاثة أوجه (¬66): 1 - بمعنى النار: كما فى قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ (البقرة: 19). قال أبو زيد: الصاعقة: نار تسقط من السماء في رعد شديد، وكما فى قوله تعالى: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ (الرعد: 13)، ذكر الماوردى عن ابن عباس وعلى بن أبى طالب ومجاهد: أنها نزلت فى يهودى قال للنبى صلّى الله عليه وسلّم: أخبرنى من أى شىء ربك؟ أمن لؤلؤ؟ فجاءت صاعقة فأحرقته. 2 - بمعنى العذاب: كما فى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (فصلت: 13) أى: خوفتكم هلاكا مثل هلاك عاد وثمود، وقوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (فصلت: 17) أى: العذاب المهلك. 3 - بمعى الموت: كما فى قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أى: أماتتكم الصاعقة ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (البقرة: 55، 56)، وكما فى قوله تعالى: فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ (النساء: 153). وكما فى قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (الزمر: 16). وكما فى قوله تعالى عن ثمود: فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ أى: ماتوا فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (الذاريات: 44، 54). ¬

(¬65) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (عبس تفسير الآية 33). (¬66) الراغب: المفردات (كتاب الصاد، مادة: صعق) القرطبى: مصدر سابق (البقرة: تفسير الآية 19، الرعد تفسير الآية 13، فصلت تفسير الآية 13).

39 - صبغة الله

39 - صبغة الله الصّبغ: تلوين الشيء بلون ما، والصّبغة: ما يصبغ به، وقيل: الهيئة المكتسبة بالصّبغ (¬67). و (صبغة الله) وردت فى كتاب الله تعالى، فى قوله عز وجل: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (البقرة: 138). وقد اختلف فى المراد من (صبغة الله) على أقوال: (¬68) الأول: أن المراد دين الله؛ وذلك أن بعض النصارى كانوا يغمسون أولادهم فى ماء أصفر، يسمونه «المعمودية»، ويقولون: هو تطهير لهم. وإذا فعل الواحد بولده ذلك .. قال: الآن صار نصرانيا. فقال الله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وهى: الدين والإسلام، لا صبغتهم. الثانى: أن المراد فطرة الله؛ وذلك كقوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ (الروم: 30). ومعنى هذا: أن الإنسان موسوم فى تركيبه وبنيته بالعجز والفاقة والآثار الشاهدة عليه بالحدوث والافتقار إلى الخالق، وعلى هذا: فهذه الآثار كالصبغة له والسمة اللازمة. الثالث: أن المراد: الختان، الذى هو تطهير. أى: كما أن المخصوص الذى للنصارى تطهير لهم، فكذلك الختان، تطهير للمسلمين. الرابع: أن المراد: حجة الله. الخامس: أن المراد: الاغتسال لمن أراد الدخول فى الإسلام، بدلا من «معمودية» النصارى. عن أبى عبيدة: والقول الجيد هو الأول. 40 - الصيحة الصّيحة: رفع الصوت. من صاح يصيح صيحة وصياحا، ويكون ذلك من الناس وغيرهم. يقول تعالى: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ (ق: 42)، وقال الشاعر: وصاح غراب البين وانشقت العصا ... ببين كما شقّ الأديم الصوانع (¬69). والصيحة فى القرآن الكريم .. على معان: فهى بمعنى: العذاب، كما فى قوله تعالى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (هود: 67) والمراد ب الَّذِينَ ظَلَمُوا هنا: ثمود، قوم صالح عليه السّلام. وكما فى قوله تعالى: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ والمراد، ب (الذين ظلموا) هنا: أصحاب الأيكة، قوم شعيب عليه السّلام. ¬

(¬67) انظر: ابن فارس: معجم مقاييس اللغة (كتاب الصاد، باب الصاد والباء وما يثلثهما). (¬68) انظر: الفخر الرازى: التفسير الكبير، القرطبى: مصدر سابق، الواحدى: أسباب النزول (البقرة تفسير الآية 138). (¬69) الراغب: المفردات (كتاب الصاد، مادة: صاح) ابن منظور اللسان (مادة: صيح).

41 - الغيب

فهؤلاء وهؤلاء صاح بهم جبريل صيحة، خرجت من شدتها عليهم أرواحهم من أجسادهم. قال ابن عباس: ما أهلك الله أمتين بعذاب واحد، إلا قوم صالح وقوم شعيب، أهلكهم الله بالصيحة، غير أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم الصيحة من فوقهم (¬70). وهى- ثانيا- بمعنى: نفخة القيامة. كما فى قوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (يس: 48، 49) (70) وهى نفخة الصعق، وكما فى قوله تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (ق: 41، 42) (70) وهى النفخة الثانية (70). وهى- ثالثا- بمعنى: الغارة، إذا فوجئ بها الحى. كما فى قوله تعالى عن المنافقين: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (المنافقون: 4) أى: يحسبون أهل كل صيحة عليهم، هم العدو، وذلك لجبنهم، قال الضحاك: يحسبون كل صيحة عليهم، أنهم قد فطن بهم، وعلم بنفاقهم، لأن للريبة خوفا، وقيل: يحسبون كل صيحة يسمعونها فى المسجد أنها عليهم، وأن النبى صلّى الله عليه وسلّم قد أمر فيها بقتالهم (70). 41 - الغيب الغيب: مصدر غابت الشمس، وغيرها، إذا استترت عن العين، وبذلك: فالغيب لغة: كل ما غاب عنك. واستعمل فى كل ما غاب عن الحس، كما فى قوله تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (النمل: 20) وقوله تعالى فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ: أى: فى حال غيبة الزوج (¬71). كما استعمل فى كل ما غاب عن علم الإنسان، يقول تعالى: وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (النمل: 75). هذا: ويقال للشيء: غيب، وغائب، باعتبار تعلقه بالناس، لا بالله تعالى؛ حيث إنه تعالى لا يغيب عنه مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الأرض، فهو عز وجل: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ (الأنعام: 73، التوبة 94، 105، الرعد 9، المؤمنون 92، الزمر 46، الحشر 22، التغابن 18). والغيب فى الاصطلاح: ما لا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بداءة العقول، وإنما ¬

(¬70) القرطبى: مصدر سابق (هود تفسير الآية 94، يس: تفسير الآية 49، ق تفسير الآية 42، المنافقون تفسير الآية 4). (¬71) انظر: الراغب: المفردات، ابن منظور: اللسان (مادة: غيب) القرطبى: مصدر سابق (النساء: تفسير الآية 34).

42 - الفتح

يعلم بخبر الأنبياء- عليهم السلام، وبدفعه يقع على الإنسان اسم الإلحاد، وذلك كأمر البعث، والحشر، والحساب، والجنة، والنار، والملائكة، و ... إلخ. كما فى قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (البقرة: 2، 3) أى كل ما غاب عنهم، وأخبر به النبى صلّى الله عليه وسلّم، وكما فى قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ (مريم: 61). 42 - الفتح الفتح: نقيض الإغلاق، يقال: فتحه يفتحه فتحا، وعلى هذا .. فالفتح: إزالة الإغلاق والإشكال. وهو على ضربين (¬72): أحدهما: يدرك بالبصر، كفتح الباب، وفتح القفل، ونحوهما، كما فى قوله تعالى: وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ (يوسف: 65). ومنه: فتح مكة يقول تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (النصر: 1) عن الحسن ومجاهد، وغيرهما: أن الفتح: فتح مكة 73، ويقول تعالى: وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ (الصف: 13) قيل: فتح مكة (¬73)، وصلح الحديبية يقول تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (الفتح: 1) عن أنس قال: الحديبية، وقال الفراء: الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية (73). ويقول تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (الفتح: 27) قال مجاهد: هو صلح الحديبية (73). والثانى: يدرك بالبصيرة، كفتح الهم، وهو إزالة الغم (72) وهو أنواع: 1 - ما كان فى أمور الدنيا، كنصر يأتى، وغم يفرج، وفقر يزال ... كما فى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ (النساء: 140، 141) أى: نصر وغلبة على اليهود وغنيمة (73)، وكما فى قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ (الأعراف: 96) يعنى: المطر والنبات، وهذا فى أقوام- على الخصوص- جرى ذكرهم، إذ قد يمتحن المؤمنون بضيق العيش ويكون تكفيرا لذنوبهم (73). 2 - ما كان فى أمور الآخرة، كيوم القيامة، وذلك مثل قوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا ¬

(¬72) ابن منظور: اللسان، الراغب: المفردات (مادة: فتح). (¬73) القرطبى: مصدر سابق (النصر تفسير الآية 1، الصف تفسير الآية 13، الفتح: تفسير الآية 1، 27، النساء تفسير الآية 141، الأعراف تفسير الآية 96).

43 - الفتنة

الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (السجدة: 28، 29) قال مجاهد: الفتح: يوم القيامة، ويروى أن المؤمنين قالوا: سيحكم الله- عز وجل- بيننا يوم القيامة، فيثيب المحسن ويعاقب المسيء، فقال الكفار على الاستهزاء: متى يوم الفتح هذا؟ 43 - الفتنة أصل الفتن: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته. وعلى هذا فالفتن: الإحراق بالنار، يقول تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (الذاريات: 13)، ولأن الفتن، وهو الإحراق بالنار عذاب؛ كانت الفتنة عذابا، يقول تعالى: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (الذاريات: 14). والفتنة من الأفعال التى تكون من الله تعالى، والتى تكون من العبد. فإذا كانت من الله تعالى، كانت على وجه الحكمة، يقول تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ (الفرقان: 20). وإذا كانت من العبد- بغير أمر الله- كانت بضد ذلك، يقول تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (التوبة: 48)؛ ولهذا: يذم الله الإنسان بأنواع الفتنة فى كل مكان وزمان، مثل: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (البروج: 10). وقد تعددت معانى (الفتنة) فى القرآن الكريم، ومن ذلك، أن (¬74): الفتنة: بمعنى العذاب بالإحراق، كما فى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ (البروج: 10). والفتنة: بمعنى الضلال والإثم، كما فى قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا (التوبة: 49). والفتنة: بمعنى الكفر، كما فى قوله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ (البقرة: 191). والفتنة: بمعنى الفضيحة، كما فى قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً (المائدة: 41) أى: ومن يرد الله فضيحته. والفتنة: بمعنى القتل، كما فى قوله تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ (يونس: 83) وكما فى قوله: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا (النساء: 101). ¬

(¬74) انظر: الفخر الرازى: التفسير الكبير (المائدة: تفسير الآية 41)، الراغب: المفردات، ابن منظور: اللسان (مادة: فتن).

44 - فطرة الله

والفتنة: بمعنى الاختبار، كما فى قوله تعالى: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ (التوبة: 126) وقوله تعالى: إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (التغابن: 15). والفتنة: بمعنى الخديعة، يقول تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ (المائدة: 49). والفتنة بمعنى الإعجاب، كما فى قوله تعالى: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا (الممتحنة: 5) والمعنى: لا تظهرهم وتنصرهم علينا، فيعجبوا ويظنوا إنهم خير منا، وأهل الحجاز يقولون: فتنته المرأة، إذا ولهته وأحبها. 44 - فطرة الله وردت هذه اللفظة فى القرآن الكريم مرة واحدة. وذلك فى قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الروم: 30). وقد اختلف العلماء فى معنى «فطرة الله» هذه على أقوال متعددة (¬75)! 1 - قال أبو هريرة، وابن شهاب، وغيرهما: فطرة الله: هى الإسلام، قالوا: وهذا هو المعروف عند عامة السلف من أهل التأويل ... واستدلوا لذلك، بما يلى: (أ) بهذه الآية قال البخارى قوله: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لدين الله، والدين والفطرة: الإسلام (¬76). (ب) وبحديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تذبح البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ (¬77). (ج) وبحديث عياض بن حمار المجاشعى وفيه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: قال الله تعالى: « ... وإنى خلقت عبادى حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطانا .. » (¬78). 2 - وقال آخرون: فطرة الله هى: البداءة التى ابتدأهم الله عليها، أى: على ما فطر عليه خلقه، من أنه ابتدأهم للحياة والموت، والسعادة والشقاء، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ. (75) قالوا: والفطرة فى كلام العرب: البداءة، والفاطر: المبتدئ. واستدلوا لذلك بما يلى (75): ¬

(¬75) القرطبى: الجامع لأحكام القرآن (الروم تفسير الآية 30). (¬76) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (الروم تفسير الآية 30). (¬77) رواه: البخارى: ك التفسير، باب تفسير سورة الروم. (¬78) رواه: مسلم: ك الجنة، باب الصفات التى يعرف بها فى الدنيا أهل الجنة وأهل النار.

ما روى عن ابن عباس، أنه قال: ما كنت أدرى ما فاطر السماوات والأرض، حتى أتانى أعرابيان يختصمان فى بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أى: أنا ابتدأت حفرها. وذكر أبو العباس أن ابن الأعرابى يقول: أنا أول من فطر هذا، أى: ابتدأه. 3 - وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر: فطرة الله هى: الخلقة التى خلق عليها المولود فى المعرفة بربه (75)، أى: أن كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة، يعنى: خلقة مخالفة لخلقة البهائم، التى لا تصل بخلقتها إلى معرفته، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (فاطر: 1). يعنى خالقهن. قال أبو عمر بن عبد البر: هذا الأخير أصح ما قيل فى معنى «فطرة الله» التى يولد الناس عليها، ودلل على ذلك، واحتج له. قال القرطبى: وإلى ما اختاره أبو عمر واحتج له، ذهب غير واحد من المحققين، منهم ابن عطية فى «تفسيره» فى معنى «الفطرة»، وشيخنا أبو العباس. قال ابن عطية: والذى يعتمد عليه فى تفسير هذه اللفظة: أنها الخلقة والهيئة التى فى نفس الطفل، التى هى مهيأة ومعدة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربه، ويعرف شرائعه، ويؤمن به، فكأنه تعالى قال: أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الذى هو الحنيف، وهو فطرة الله، الذى على الإعداد له فطر البشر، لكن تعترضهم العوارض، ومنه قول النبى صلّى الله عليه وسلّم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه أو يمجّسانه ... » الحديث. فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التى هى كثيرة، حيث إن الله تعالى خلق قلوب بنى آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول، وتلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام، وهو الدين الحق (75). هذا وقد أجاب أصحاب هذا القول ... عن القول الأول: بأنه يستحيل أن تكون الفطرة المذكورة هى الإسلام، ذلك أن الإسلام والإيمان. قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، وهذا معدوم من الطفل، لا يجهل ذلك ذو عقل. كما أجابوا عن القول الثانى، الذى هو «البداءة»: بانكارهم أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار، حيث قالوا: إن المولود يولد على السلامة فى الأغلب، خلقة، وطبعا، وبنية، ليس معها: إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة، ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا.

45 - القارعة

ولو كان الأطفال فى حين ولادتهم قد فطروا على شىء من الكفر والإيمان، ما انتقلوا عنه أبدا، بل قد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون، أو يكفرون ثم يؤمنون. قالوا: ويستحيل فى المعقول أن يكون الطفل فى حين ولادته يعقل كفرا أو إيمانا؛ لأن الله أخرجهم فى حال لا يفقهون معها شيئا، قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً (النحل: 78) فمن لا يعلم شيئا: استحال منه كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار. 4 - ومن طريف ما قيل فى معنى «فطرة الله» ما قاله أبو بكر الوراق إنها: الفقر والفاقة، حيث إنه منذ ولد إلى حين يموت ... فقير محتاج، نعم!! وفى الآخرة كذلك. قال القرطبى: وهذا حسن (75). 45 - القارعة القارعة فى اللغة: النازلة الشديدة، تنزل عليهم بأمر عظيم. والمراد بها: القيامة. قال تعالى: الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (القارعة: 1 - 4)، سميت بذلك: لأنها تقرع الناس بأهوالها وشدائدها. وقيل: القارعة هى: الداهية المهلكة، يقال: قرعه أمر، إذا أتاه فجأة، وجمعه: قوارع، قال تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ (الرعد: 31)، قال الأصمعى: يقال أصابته قارعة، يعنى: أمرا عظيما يقرعه، ويقال: أنزل الله به قارعة ومقرعة (¬79). وقيل: عنى بالقارعة العذاب الذى نزل بثمود وعاد فى الدنيا، وكان كل نبى من أنبيائهم يخوفهم بذلك فيكذبونه (79)، قال تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (الحاقة: 4 - 6). 46 - القرار المكين وهو المذكور فى قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (المؤمنون: 12، 13). و (القرار): أى المستقر، وهو فى الأصل: مصدر قرّ يقر قرارا، بمعنى: ثبت ثبوتا، والمراد به: الرحم، و (مكين): وصف له، أى: متمكن. والمعنى: أن الرحم متمكنة، لا تنفصل لثقل حملها، أو لا تطرد ما فيها. ¬

(¬79) ابن منظور: لسان العرب (مادة: قرع)، القرطبى: مصدر سابق (الحاقة تفسير الآية 4).

47 - الماء المهين

ومن يدرس تشريح الرحم، وموضعه المكين الأمين فى أسفل بطن المرأة، ويرى ذلك الوعاء ذا الجدار العريض السميك، ثم يرى هذه الأربطة العريضة، والأربطة المستديرة، وهذه الأجزاء من البريتون، التى تشده إلى المثانة، والمستقيم وكلها تحفظ توازن الرحم، وتشد أزره، وتحميه من الميل، أو السقوط، وتطول معه إذا ارتفع عند تقدم الحمل، وتقصر إلى طولها الطبيعى تدريجيا بعد الولادة. وكذلك من يدرس تكوين الحوض، وعظامه يعرف جليا روعة قوله تعالى ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. وأيضا: من يعرف كل ذلك، يدرك وجه الامتنان الإلهى على خلقه فى قوله تعالى لهم: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (¬80) (المرسلات: 20، 21). 47 - الماء المهين ورد ذكره فى القرآن الكريم: مرتين: الأولى: فى قوله تعالى ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (السجدة: 6 - 8). والثانية: فى قوله تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (المرسلات: 20 - 23). والمراد به: المنىّ. وقد وصف بالمهين ومعناها: الضعيف، كما قال الزجاج، أو الذى لا خطر له عند الناس، فهو ممتهن، لا يعتنى به. يقول الأستاذ سيد قطب عليه رحمة الله: ثم جعل نسل آدم عليه السّلام من سلالة من ماء مهين أى: من مادة النطفة الذى هو المرحلة الأولى فى تطور الجنين، من النطفة إلى العلقة، إلى المضغة، إلى العظام، إلى كمال التكوين الجنينى فى هذه السلالة التى تبدأ بالماء المهين. وإنها لرحلة هائلة حين ينظر إلى طبيعة التطورات التى بها تلك النقطة الضائعة من ذلك الماء المهين، حتى تصل إلى الإنسان المعقد البديع التكوين، وإنها لمسافة شاسعة ضخمة بين الطور الأول والطور الأخير (¬81). 48 - مجمع البحرين ورد هذا الاسم فى آيات القرآن الكريم: مرة واحدة فقط وذلك فى قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (الكهف: 60). ومعناه: موضع اجتماع البحرين (¬82). ¬

(¬80) انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، الآلوسي: التفسير الكبير، المراغى تفسير المراغى (المؤمنون تفسير الآية 13). (¬81) انظر: الفخر الرازى: التفسير الكبير، القرطبى، الجامع لأحكام القرآن، الآلوسي: روح المعانى، سيد قطب: فى ظلال القرآن (السجدة تفسير الآية 8). (¬82) محمد فؤاد عبد الباقى: معجم ألفاظ القرآن الكريم، مجمع اللغة العربية المعجم الوجيز (مادة: جمع).

وقصة هذا الموضع- حسب رواية الإمام البخارى، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أن موسى- عليه السّلام- قام خطيبا فى بنى إسرائيل، وفى رواية: حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب- فسئل: أى الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لى عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب فكيف لى به؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله فى مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ ... » الحديث (¬83). وقد اختلف فى تحديد هذين البحرين على النحو التالى: 1 - فروى عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة، قال: بحر فارس وبحر الروم. 2 - وروى ابن أبى حاتم من طريق السدى، قال: هما نهرا الكرّ، والرّسّ؛ بإرمينية؛ حيث يصبان فى البحر. 3 - وقال ابن عطية: مجمع البحرين، ذراع فى أرض فارس، من جهة أذربيجان، يخرج من البحر المحيط، من شماليه إلى جنوبيه، وطرفيه مما يلى برّ الشام. 4 - وقيل: هما بحر الأردن، وبحر القلزم. 5 - وقال محمد بن كعب القرظى: مجمع البحرين بطنجة. يقول الأستاذ/ سعيد حوى: والمجامع كثيرة، فعندك: مجمع البحر الأحمر بالمحيط الهندى، ومجمع النيل مع البحر الأبيض، ولا ندرى بالضبط، إذا كان المجمع واحدا من هذه، أو مجمعا آخر يلتقى فيه ماء خليج بماء بحر، أو ماء نهر كبير كشط العرب ببحر كالخليج، والمهم أنه فى مجمع من مجامع بحرين حدث الذى حدث مع موسى عليه السّلام وفتاه. ويقول صاحب «الظلال»: والقرآن لا يحدد المكان الذى وقعت فيه- هذه القصة- بأنه «مجمع البحرين» والأرجح- والله أعلم- أنه «مجمع البحرين»: بحر الروم، وبحر القلزم أى: البحر الأبيض والبحر الأحمر، ومجمعهما: مكان التقائهما، فى منطقة البحيرات المرة، وبحيرة التمساح، أو أنه: مجمع خليجى العقبة والسويس فى البحر الأحمر، فهذه المنطقة كانت مسرح تاريخ بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر، ثم يقول: وعلى أىّ ... فقد تركها القرآن مجملة، فنكتفى بهذه الإشارة. أما الإمام الفخر الرازى فيقول، ونحن معه: «ومجمع البحرين» هو: المكان الذى وعد فيه موسى بلقاء الخضر- عليهما السلام، وليس فى لفظ الآية القرآنية- المذكورة- ما يدل على تعيين هذين البحرين، فإن صح- بالخبر الصحيح- شىء فذاك، وإلا فالأولى ¬

(¬83) البخارى: ك التفسير، سورة الكهف، باب (وإذ قال موسى لفتاه).

49 - المعارج

السكوت عنه. حيث لا يترتب على معرفة المكان من عدمه كبير فائدة (¬84). 49 - المعارج وهى: اسم سورة كريمة من سور القرآن الكريم، وهى سورة «المعارج». وتبدأ بقوله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (المعارج: 1 - 4). وهى من العروج بمعنى الذهاب فى صعود. وقد ذكرت هذه المادة فى القرآن الكريم: ثمان مرات (¬85). ست منها: بصيغة الفعل المضارع، كما فى قوله تعالى: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (سبأ: 2). واثنتان منها: بالصيغة الاسمية، إحداهما: معرفة، وهو المذكور هنا (المعارج) وثانيتهما: نكرة، وهو المذكور فى قوله تعالى وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (الزخرف: 33). ومعنى المعارج لغة: الدرجات (¬86) والمراد بها (¬87): 1 - إما معارج الأعمال الصالحة فإنها تتفاوت بحسب اجتماع الآداب والسنن، وخلوص النية، وحضور القلب. 2 - وإما معارج المؤمنين فى سلوكهم مراتب المعارف الإلهية، ولا شك فى تفاوت أولياء الله فى ذلك، أو معارجهم فى دار ثوابهم، وهى الجنة. 3 - وإما معارج الملائكة، ومنازل ارتفاعهم بحسب الأمكنة، وهى السموات أو بحسب الفضائل الروحانية والمعارف. 4 - وعن قتادة: أنها الفضائل والنعم، أى مراتب الله على الخلق. 5 - وقيل: هى الغرف. التى جعلها الله لأوليائه فى الجنة. ويقول الإمام الآلوسي: والأنسب- أى فى تحديد معنى المعارج- بما يقتضيه المقام من التهويل. ما هو أدل على عزه- عز وجل- وعظم ملكوته، جل شأنه (86). 50 - الموءودة ذكر هذا اللفظ فى القرآن لكريم ... مرة واحدة. وذلك فى قوله تعالى: وَإِذَا ¬

(¬84) انظر: فتح البارى 8/ 480، ابن جرير الطبرى: جامع البيان، الفخر الرازى: التفسير الكبير، سعيد حوّى: الأساس فى التفسير، سيد قطب: فى ظلال القرآن (الكهف تفسير الآية 60). (¬85) الراغب الأصفهانى: مصدر سابق، محمد فؤاد عبد الباقى: مصدر سابق (مادة: عرج). (¬86) الآلوسي: روح المعانى (المعارج: تفسير الآية 3). (¬87) انظر: القرطبى: مصدر سابق، روح المعانى: مصدر سابق، الجمل: الفتوحات الإلهية (المعارج تفسير الآية 30).

51 - المودة فى القربى

الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (التكوير: 8، 9). وهو من: وأد، يئد، وأدا، ووأد الموءودة: دفنها فى القبر وهى حية، وامرأة وئيد ووئيدة: موءودة (¬88)، أى: مقتولة. والموءودة هى: الجارية تدفن وهى حية، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب، فيوئدها، أى: يثقلها حتى تموت. وكان العرب فى الجاهلية يدفنون بناتهم فى التراب أحياء لسببين: أحدهما: أنهم كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به. الثانى: أنهم كانوا يخافون إما من الحاجة والفقر، وإما من السبى والاسترقاق. قال ابن عباس: كانت المرأة فى الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة، وتمخضت على رأسها، فإن ولدت جارية، رمت بها فى الحفرة، وردت التراب عليها، وإن ولدت غلاما، حبسته وأبقته. وقال قتادة: كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته، ويغذو كلبه. وحرم الله ذلك (¬89). وأنزل قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (الإسراء: 31). كما أنزل قوله تعالى وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ .. (الأنعام: 151). وقوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ؟ إلى جانب ما فى الأحاديث النبوية من تحريم ذلك (¬90). وهناك ... الوأد الخفى وهو ما كان بسبب العزل عن المرأة؛ لأن من يعزل عن امرأته. إنما يعزل هربا من الولد. وقد نهى الإسلام عن ذلك- أيضا- وكرهه لهذا السبب. ففي الحديث (¬91): «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت فى الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم ذلك شيئا، ثم سألوه عن العزل، فقال- صلّى الله عليه وسلّم- ذلك الوأد الخفى» زاد عبيد الله فى حديثه عن المقرئ، وهى وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ». 51 - المودة فى القربى هذه العبارة (المودة فى القربى) لم ترد فى القرآن الكريم إلا مرة واحدة. وذلك فى قوله تعالى للنبى صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (الشورى: 23). والمودّة: المحبّة. قال ابن سيده: ودّ الشيء، ودّا وودّا وودا، وودادة، وودادا وودادا، ومودّة، ومدّة: أحبّه. ¬

(¬88) محمد فؤاد عبد الباقى: مصدر سابق، ابن منظور: لسان العرب (مادة: وأد). (¬89) انظر: القرطبى: مصدر سابق، الجمل: مصدر سابق (التكوير تفسير الآيات 8، 9). (¬90) تراجع للاستزادة كتب الحديث النبوى الشريف. (¬91) رواه: مسلم: ك النكاح، باب: جواز الغيلة وكراهة العزل.

والقربى: القرابة. والقربى: الدنو فى النسب، تقول: بينى وبينه قرابة وقربى. والقربى: فى الرحم خاصة (¬92). ومعنى الآية: قل يا محمد لقومك: لا أطلب منكم أجرا على تبليغ الرسالة والنصح لكم ما لا تعطونيه، إنما أطلب منكم: أن تكفّوا شركم عنى، وتذرونى أبلغ رسالات ربى، فإن لم تنصرونى، فلا تؤذونى، بما بينى وبينكم من القرابة، وقيل: إلا أن تودونى فى قرابتى منكم. وذلك فى الحقيقة ليس أجرا؛ لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب، ولا سيما فى حق الأقارب. ويلاحظ: أن عبارة (المودة فى القربى) أبلغ من «مودة القربى» وكذلك أبلغ من «المودة للقربى» حيث جعلت القربى فى العبارة مكانا للمودة، ومقرا لها (¬93). قال المفسرون: وفى تفسير (المودة فى القربى) أربعة أقوال: الأول: مراعاة القرابة، وعدم الإيذاء أى: لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودونى لقرابتى منكم، فإن لم تنصرونى فاحفظوا حق القربى ولا تؤذونى. قال ذلك: ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وأبو مالك، والشعبى، وغيرهم. قال الشعبى: أكثر الناس علينا فى هذه الآية، فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فأجاب بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان واسطة النسب فى قريش، ليس بطن من بطونهم إلا وقد كان بينهم وبينه قرابة، فقال الله: قل لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجرا إلا أن تودّونى لقرابتى منكم، يعنى: أنكم قومى، وأحق من أجابنى وأطاعنى، فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى، ولا تؤذونى، ولا تهيجوا علىّ. الثانى: مودة أقاربكم أى: لا أسألكم عليه أجرا إلا مودّة أقاربكم، وصلة أرحامكم. روى الكعبى عن ابن عباس: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم، كانت تنوبه نوائب وحقوق، وليس فى يده سعة. فقال الأنصار: إن هذا الرجل قد هداكم الله على يده، وهو ابن اختكم، وجاركم فى بلدكم، فاجمعوا له طائفة من أموالكم؛ ففعلوا، ثم أتوه، فرده عليهم، ونزلت الآية بحثّهم على مودة أقاربهم، وصلة أرحامهم. الثالث: القرب من الله، عن الحسن ... لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تتوددوا إلى الله، وتتقربوا إليه بالطاعة، والعمل الصالح. الرابع: المودة فى قرابتى وأهل بيتى، عن سعيد بن جبير: لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوا قرابتى وأهل بيتى. عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين نودهم؟ قال: «على وفاطمة وأبناؤهما». ¬

(¬92) محمد فؤاد عبد الباقى: مصدر سابق، المعجم الوجيز، ابن منظور: اللسان (مادة: ودد، مادة: قرب). (¬93) انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، النيسابورى: غرائب القرآن (الشورى تفسير الآية 23) الفيروزآبادى: بصائر ذوى التمييز 4/ 253.

52 - الهداية

52 - الهداية الهدى والهداية فى اللغة: شىء واحد، ولكن فى اصطلاح الشارع يختلفان. فالهدى: ما تولاه الله وأعطاه، واختص هو به دون ما هو إلى الإنسان، كما فى قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ (البقرة: 5) وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى (الأنعام: 71). والهداية والاهتداء: ما تحرّاه الإنسان وطلبه على طريق الاختيار، إما فى الأمور الدنيوية، كما فى قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها (الأنعام: 97) وإما فى الأمور الأخروية، كما فى قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (البقرة: 150). والهداية: دلالة بلطف، قال تعالى لموسى عليه السّلام اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (النازعات: 17 - 19) ولا يمنع من هذا ما ورد على سبيل الاستهزاء من الله تعالى والتهكم بالكافرين فى مثل قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (الصافات: 23). وهداية الله للإنسان .. على أربعة أوجه: الأول: الهداية العامة، التى تشمل كل مكلف، من العقل، والفطنة، والمعارف الضرورية، التى أعمّ منها كل شىء بقدر فيه، حسب احتماله، وهى المقصودة فى قوله تعالى رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (طه: 50). الثانى: الهداية التى جعل الله للناس، بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء، وإنزال القرآن، ونحو ذلك، وهى المقصودة فى قوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا (الأنبياء: 73). الثالث: الهداية، التى هى التوفيق الذى يختص به من اهتدى كما فى قوله تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً (مريم: 76). الرابع: الهداية فى الآخرة إلى الجنة، كما فى قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ (الأعراف: 42، 43). وأما هداية الإنسان لغيره، فلا يقدر عليها أحد إلا بالدعاء وتعريف الطرق، دون سائر أنواع الهدايات، يقول تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (الشورى: 52).

53 - الوادى المقدس

هذا وكل هداية ذكر الله- عز وجل- أنه منع منها الظالمين والكافرين، فهى الوجه الثالث والوجه الرابع مما ذكر آنفا، نحو قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (آل عمران: 86). [(¬94)] وكل هداية نفاها الله- عز وجل- عن النبى صلّى الله عليه وسلّم، وعن البشر، وذكر أنهم غير قادرين عليها، فهى كل ما عدا الوجه الثانى، مما ذكر، كما فى قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ (البقرة: 272) وقوله تعالى (¬95): إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ (القصص: 56). 53 - الوادى المقدس أصل الوادى: الموضع الذى يسيل فيه الماء، ومنه سمى كل مفرج بين جبلين واديا؛ مسلكا للسيل ومنفذا، والمقدس: المطهر، أو المبارك. والوادى المقدس: أى هو هذا المكان المطهر الذى أوحى الله فيه إلى موسى عليه السّلام، وقد حدده القرآن الكريم، وبين اسمه، فى قوله تبارك وتعالى: بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وعلى هذا: فالوادى المقدس هو طوى، وطوى: جبل بالشام، وقيل: هو واد فى أصل الطور (¬96). وقد ذكر هذا (الوادى المقدس) فى القرآن الكريم: مرتان (¬97). فى قوله- عز وجل- إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (طه: 12) وفى قوله تبارك وتعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (النازعات:15، 16). أ. د. عبد الحى الفرماوى ¬

(¬94) انظر: الواحدى: أسباب النزول، القرطبى: مصدر سابق، النيسابورى: مصدر سابق، الآلوسي: روح المعانى (الشورى تفسير الآية 23). (¬95) انظر: الراغب الأصفهانى: مفردات ألفاظ القرآن، وابن منظور: لسان العرب، محمد فؤاد عبد الباقى: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم (مادة: هدى)، القرطبى: الجامع لأحكام القرآن (تفسير الآيات المذكورة). (¬96) الراغب: المفردات (كتاب الواو، مادة: وادى) القرطبى: مصدر سابق (سورة طه تفسير الآية 12) ابن منظور: اللسان (مادة: ودى، مادة: طوى). (¬97) محمد فؤاد عبد الباقى: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن (مادة: طوى، مادة: قدس، مادة: واد).

الإنسان فى القرآن الكريم

الإنسان فى القرآن الكريم نقاط البحث * تعريف * استخلاف الإنسان. * تفضيل الإنسان. * الغاية من خلق الإنسان. * حرية الإنسان. * أنواع الإنسان. * العدل والمساواة بين الذكر والأنثى من الإنسان. * خلق الإنسان. * جسم الإنسان. * خصائص الإنسان. * من صفات الإنسان. * الإنسان والتربية. * الإنسان وعلاقته بالشيطان. * نهاية الإنسان. تعريف الإنسان: من الإنس، خلاف الجن، أو من الأنس .. خلاف النفور. والإنسى: منسوب إلى الإنس، يقال ذلك لمن أكثر أنسه، ولكل ما يؤنس به (¬1). وقد سمى الإنسان بذلك؛ لأنه خلق خلقة لا قوام له إلا بأنس بعضهم ببعض. ولهذا قيل: الإنسان مدنى بالطبع؛ من حيث لا قوام لبعضهم إلا ببعض، ولا يمكنه أن يقوم بجميع أسبابه. وقيل: سمى بذلك؛ لأنه يأنس بكل ما يألفه (1). وروى ابن عباس، رضى الله عنهما، أنه قال: إنما سمى الإنسان إنسانا؛ لأنه عهد إليه فنسى (¬2). وذلك إشارة لقوله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (طه: 115). وقد وردت هذه المادة (إنسان، خلاف الجان) فى القرآن الكريم تسعون مرة (¬3). كما ورد فى القرآن الكريم على عشرين وجها من وجوه الاستعمال والدلالات. (¬4) ¬

(¬1) الراغب الأصفهانى: مفردات القرآن (مادة: إنس). (¬2) ابن منظور: لسان العرب (مادة: أنس). (¬3) محمد فؤاد عبد الباقى: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم. (¬4) الحسين بن محمد الدامغانى: قاموس القرآن، نشر دار العلم للملايين- بيروت.

استخلاف الإنسان

فوجه منها يراد به: آدم عليه السلام، كقوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (الرحمن: 14). الثانى يراد به: سلالة آدم عليه السلام، كقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ (ق: 16) إلى آخر هذه الوجوه. (4) والذى يعنينا فى بحثنا هذا، هما هذان الوجهان فقط من وجوه استعمالات القرآن للفظ الإنسان، وهما: آدم عليه السلام، وذريته. وذلك من خلال تعرضنا بالإيجاز لبيان بعض الملامح القرآنية لهذا المخلوق الفريد. وهذه الملامح تتعلق بمراحل خلقه، وبعض خصائصه، وعلاقته بغيره، إلى غير ذلك من الأمور الخاصة به. استخلاف الإنسان تعرض القرآن الكريم لهذه القضية فى آيات كثيرة. منها: قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (البقرة 30 - 34). وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ... (الأنعام: 65). وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ (الأعراف: 69). وقوله جل وعلا: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ (الأعراف: 74). وقوله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ

بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (يونس: 13 - 14). وقوله عز وجل: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ (النمل: 62). ويقول أيضا: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ (فاطر: 39). ويقول سبحانه وتعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (ص: 26). ودون الدخول فى دائرة الخلاف حول تحديد هذا الإنسان، المراد فى هذه الآيات، أهو آدم عليه السلام، أو ذريته؟، كما تعرض لذلك العلماء والمفسرون (¬5). نقول- مع الشيخ محمد رشيد رضا- فى «تفسير المنار»: (¬6). (جرت سنة الله فى خلقه بأن تعلم أحكامه للناس وتنفذ فيهم على ألسنة أناس منهم يصطفيهم ليكونوا خلفاء عنه فى ذلك، وكما أن الإنسان أظهر أحكام الله وسننه الوضعية (أى الشرعية؛ لأن الشرع وضع إلهى) كذلك أظهر حكمه وسننه الخلقية الطبيعية، فيصح أن يكون معنى الخلافة عاما فى كل ما ميز الله به الإنسان على سائر المخلوقات، نطق الوحى ودل العيان والاختبار على أن الله تعالى خلق العالم أنواعا مختلفة، وخص كل نوع غير نوع الإنسان بشيء محدود معين لا يتعداه. وأما الإنسان فقد خلقه الله ضعيفا، كما قال فى كتابه: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (النساء: 28) وخلقه جاهلا كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً (النحل: 78) ولكنه على ضعفه وجهله عبرة لمن يعتبر، وموضع لعجب المتعجب؛ لأنه مع ضعفه يتصرف فى الأقوياء، ومع جهله فى نشأته يعلم جميع الأسماء، يولد الحيوان، عالما بالإلهام ما ينفعه وما يضره، وتكمل له قواه فى زمن قليل، ويولد الإنسان وليس له من الإلهام إلا الصراخ بالبكاء، ثم يحس ويشعر بالتدريج البطىء بالنسبة إلى غيره من الحيوان، ويعطى قوة أخرى تتصرف بشعوره وإحساسه تصرفا يكون له به السلطان على هذه الكائنات، فيسخرها ويذللها بعد ذلك كما تشاء تلك القوة الغريبة وهى التى يسمونها العقل، ولا يعقلون سرها، ولا يدركون حقيقتها وكنهها، فهى التى تغنى الإنسان عن كل ما وهب ¬

(¬5) الفخر الرازى: التفسير الكبير (سورة البقرة، تفسير الآية 30). (¬6) انظر: (سورة البقرة، تفسير الآية 30).

تفضيل الإنسان

للحيوان فى أصل الفطرة من الكساء الذى يقيه البرد والحر، والأعضاء التى يتناول بها غذاءه والتى يدافع بها عن نفسه ويسطو بها على عدوه، وغير ذلك من المواهب التى يعطاها الحيوان بلا كسب، حتى كان له بها من الاختراعات العجيبة ما كان، وسيكون له من ذلك ما لا يصل إليه التقدير والحسبان. فالإنسان بهذه القوة غير محدود الاستعداد ولا محدود الرغائب ولا محدود العلم ولا محدود العمل، فهو على ضعف أفراده يتصرف بمجموعه فى الكون تصرفا لا حدّ له بإذن الله وتصريفه، وكما أعطاه الله تعالى هذه المواهب والأحكام الطبيعية ليظهر بها أسرار خليقته، وملكه الأرض وسخر له عوالمها، أعطاه أحكاما وشرائع حدّ فيها لأعماله وأخلاقه حدّا يحول دون بغى أفراده وطوائفه بعضهم على بعض، فهى تساعده على بلوغ كماله؛ لأنها مرشد ومربّ للعقل الذى كان له كل تلك المزايا؛ فلهذا كله جعله خليفة فى الأرض وهو أجدر المخلوقات بهذه الخلافة. ظهرت آثار الإنسان فى هذه الخلافة على الأرض، ونحن نشاهد عجائب صنعه فى المعدن والنبات، وفى البر والبحر والهواء، فهو يتفنن ويبتدع ويكتشف ويخترع ويجدّ ويعمل، حتى غيّر شكل الأرض فجعل الحزن سهلا، والماحل خصبا. والخراب عمرانا، والبرارى بحارا أو خلجانا، وولّد بالتلقيح أزواجا من النبات لم تكن كالليمون المسمى «يوسف أفندى» فإن الله تعالى خلقه بيد الإنسان وأنشأه بكسبه. وقد تصرف فى أبناء جنسه من أنواع الحيوان كما يشاء بضروب التربية والتغذية والتوليد، حتى ظهر التغير فى خلقتها وخلائقها وأصنافها فصار منها الكبير والصغير، ومنها الأهلى والوحشى، وهو ينتفع بكل نوع منها ويسخره لخدمته كما سخر القوى الطبيعية وسائر المخلوقات، أليس من حكمة الله الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى، أن جعل الإنسان بهذه المواهب خليفته فى الأرض، يقيم سننه، ويظهر عجائب صنعه، وأسرار خليقته، وبدائع حكمه، ومنافع أحكامه، وهل وجدت آية على كمال الله تعالى وسعة علمه أظهر من هذا الإنسان الذى خلقه الله فى أحسن تقويم؟ .. كلا!! تفضيل الإنسان لا غرابة فى أن يكون هذا المخلوق محفوفا بالعناية الربانية، التى ترفع من قدره، وتعلى منزلته بين الكائنات جميعها، وتفضله على ما عداه من مخلوقات الله تعالى الأخرى. فهذه هى الملائكة، الذين أخبر الله عنهم

الغاية من خلق الإنسان

فهذه هى الملائكة، الذين أخبر الله عنهم بأنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (التحريم: 6) والذين قال عنهم رب العزة: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ (الزمر: 75). نعم هذه الملائكة يأمرها الله تعالى بالسجود لهذا الإنسان (آدم عليه السلام) سجود تحية وتعظيم، وفى هذا من التكريم والإنعام على الإنسان والتفضيل ما فيه. بل يصرح القرآن الكريم بهذا الإنعام الإلهى على الإنسان؛ حيث يفضله على كثير ممن خلق الله سبحانه وتعالى، يوضح ذلك قوله عز وجل: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (الإسراء: 70). الغاية من خلق الإنسان إن عملية الخلق هذه- كما عرفنا- آية من آيات الله، لا يمكن أبدا أن تكون عارية عن غاية كبرى، ومقصد أسمى، فلم يخلق هملا ولا عبثا أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً (المؤمنون: (115). إنما يحدد الهدف من هذا الخلق قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 56). ولأن عبادة الإنسان لله أمر محفوف بالمعوقات، والابتلاءات كان توضيح ذلك لتنبيه الإنسان، وتبصيره وزيادة وعيه، حتى يكون ثابت الخطو فى عبادة الله عز وجل، حيث يقول تبارك وتعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (الإنسان: 2 - 3). ومن هذا التوضيح الإلهى يظهر (¬7): أ- أن الابتلاء بظروف الحياة، وكثرة المعوقات أمر قدره الله تعالى على الإنسان، يكشف به قوة إرادته، ومضاء عزيمته، وثبات خطوه فى طريق العبادة. ب- وأن الله- عز وجل- منحه وسائل المعرفة التى يتعرف بها على الأدلة التى بثها الله فى كونه فيزداد بها إيمانا ويقينا بالله، كما يتعرف بها على وصايا الشرع وأحكامه فيعمل بها، ويلتزم بآدابها، ويتعرف على المعوقات التى تحول بينه وبين حسن العبادة، فيتغلب عليها ويتخلص منها. وذلك فى قوله تعالى: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً. ¬

(¬7) عبد الرحمن حسن حبنكة الميدانى: الأخلاق الإسلامية وأسسها 1/ 342 بتصرف.

حرية الإنسان

الغاية وتخلصه من المعوقات، ونجاته فى الابتلاءات موضوع تحت المراقبة، معرض للجزاء بالثواب أو بالعقاب. وذلك فى قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً. ولو لم يكن الأمر على ذلك لكان عبثا، وحاشا لله من ذلك. يقول تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (المؤمنون: 115: 116) حرية الإنسان من القيم الهامة قيمة الحرية. بها يغدو للإنسان كيان، ولوجوده معنى، ولحياته طعم ولون. والحرية التى نعنيها ليست هى الحرية التى يفسد المرء بها نفسه، أو يحطم من خلالها كيانه، أو ينهى عن طريقها وجوده أو حياته. وليست كذلك هى الحرية التى يفسد بها الآخرين، أو ينتقص من خلالها حرياتهم، أو يتسبب عن طريقها فى إيذائهم .. إلخ بل هى الحرية التى تحقق إنسانيته، وتؤكد وجوده، وملكيته لقراره. وليست هناك أرقى ولا أنقى ولا أعظم من أن يكون الإنسان حرا فيما يعتقده، وفيما يدين به ابتداء. ولا يحجر عليه الإسلام فى ذلك أبدا، بل يصرح القرآن الكريم بهذه الحرية، وهذا الحق فى قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (البقرة: 356). ولكن: إذا اعتنق إنسان ما الإسلام، واختاره عقيدة، فليس له أن يعدل عنه إلى غيره، وإلا اعتبر مرتدا، وفى هذه الحالة يعامل معاملة المرتدين (¬8). ومن الواضح أنه فيما دون ذلك، فللإنسان كامل الحرية دون قيد أو شرط، إلا ما سبقت الإشارة إليه. وهذه الحرية هى التى تحدد مسئوليته عما يفعل أو يترك، وهذا ما يقرره القرآن الكريم فى قوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (الطور: 21). خاصة وأنه قد خلق صالحا لفعل هذا أو ترك ذاك وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وهذه الحرية قد وهبها الله لعباده من بنى ¬

(¬8) د. عبد الحى الفرماوى: صحوة فى عالم المرأة ص 101.

أنواع الإنسان

وهذه الحرية قد وهبها الله لعباده من بنى الإنسان؛ لأنه سبحانه عادل لا يظلم. ومن هنا أهدر كل ما يأتيه الإنسان عن إكراه وقسر سواء فى جانب الإيمان أو الكفر. فمن أكره على أن ينطق بكلمة الكفر فلا حرج عليه؛ حيث يقول تبارك وتعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ (النحل: 106). وكذلك من آمن تحت ضغط الظروف القاهرة، ودون إرادة منه فإيمانه مردود عليه، وغير مقبول منه. ففرعون ظل سادرا فى غيه، ينادى: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (النازعات: 24) حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (يونس: 90) ولكن إيمانه رد عليه، وقيل له: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً (يونس: 91، 92). وإذا ارتد الإنسان فى ديار المسلمين بعد أن أسلم مختارا فإن الفقه الإسلامى يرى مجازاته بالقتل باعتبار ذلك الارتداد قادحا فى النظام العام ومهددا لكيان المجتمع، بما يعرف فى التشريعات الحديثة باسم الخيانة العظمى أو العمل على هدم الكيان الاجتماعى. وبالجملة: فإن نتيجة حريته هذه، وثمرة أعماله التى اختارها ستعود عليه من نوع ما عمل (¬9). يقول تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (الشمس 9، 10). أنواع الإنسان ويبين القرآن الكريم، أن الإنسان إذا بلغ مبلغ الرشد، وأصبح مسئولا عن تصرفاته ينقسم- بسبب اختياره وإرادته- إلى مهتد وضال، أو إلى طائع وعاص، أو بعبارة أوضح إلى مؤمن وكافر. وتلك هى المرحلة التى تراها فى كثير من آيات الله البينات، وقد حكم على الإنسان فيها بأحد الوصفين (¬10). إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (الإنسان: 2، 3). ونلاحظ أن هذا التقسيم إلى مؤمن وكافر عادة ما يكون بعد ذكر ألوان من النعم تستوجب الشكر من جهة، وتتحقق بها المساواة بين الجميع من جهة أخرى، ولا دخل له فيها ولا إرادة، بل هى هبة من الله له من جهة ثالثة. ¬

(¬9) د. أحمد إبراهيم مهنا: مقومات الإنسانية فى القرآن الكريم ص 9 بتصرف، نشر: مجمع البحوث الإسلامية. (¬10) د. أحمد إبراهيم مهنا: مرجع سابق ص 19، الإنسان فى القرآن الكريم ص 97.

العدل والمساواة بين الذكر والأنثى من الإنسان

ولكن التفرقة تأتى بسبب موقفه منها ومن المنعم بها، إما شكرا وإما كفرانا إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً. يقول تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (طه: 123، 124). ويقول عز وجل: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (البقرة: 253). وتكون التفرقة- لذلك- فى الجزاء والنتيجة. يقول سبحانه: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (الإسراء: 71، 72). وبهذا يتحدد نوع الإنسان حسب موقفه من الإيمان بالله تعالى، والاعتراف بنعمه، والعمل بشرعه، امتثالا أو امتناعا. فهو: إما مؤمن وإما كافر. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (التغابن: 2). العدل والمساواة بين الذكر والأنثى من الإنسان وإذا كان ثمت تفرقة بين نوعى الإنسان من حيث الكفر والإيمان، فلا تجد تفرقة بين نوعيه من حيث الذكورة والأنوثة. وقد تحدث القرآن الكريم عن الذكر والأنثى فى آياته الكريمة، مؤكدا على قيم العدل، والمساواة بينهما. * فمن العدل بينهما: أ- دخول الجنة لمن عمل صالحا، دون تفرقة بين الذكر والأنثى يقول تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (النساء: 124). ب- أن يحيى الله من عمل صالحا حياة طيبة، دون تفرقة بين الذكر والأنثى. يقول تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً (النحل:97).

ج- أن يجزى الله من عمل صالحا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون، دون تفرقة بين الذكر والأنثى. يقول تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (النحل: 97). د- أن يعذب الله من يفتنون المؤمنين والمؤمنات عن دينهم ويعذبونهم، دون تفرقة بين أن يكون المفتون ذكرا أو أنثى. يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (البروج: 10). ويقول تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (الأحزاب: 58). هـ- أن يعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، دون تفرقة بين الذكر والأنثى. يقول تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ (الأحزاب: 73). ز- أن يتوب الله على المؤمنين والمؤمنات دون تفرقة بين الذكر والأنثى. يقول تعالى: وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (الأحزاب: 73). * ومن المساواة بينهما: أ- وعد الله بالرحمة للمؤمنين والمؤمنات، دون تفرقة بين الذكر والأنثى. يقول تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة: 71). ب- وعد الله للمؤمنين والمؤمنات بجنات تجرى من تحتها الأنهار .. إلخ، دون تفرقة بين الذكر والأنثى. يقول تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ (التوبة: 72). ج- وجوب الطاعة عليهما لله ولرسوله، دون تفرقة بين الذكر والأنثى. يقول تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً (الأحزاب: 36).

خلق الإنسان

د- أن الله- عز وجل أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً بسبب الصلاح دون تفرقة بين الذكر والأنثى. يقول تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (الأحزاب: 35). هـ- أصل الخلقة: يقول تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا (الحجرات: 13). والقيمة الإنسانية، حيث لا تفاضل إلا بميزان التقوى، دون تفرقة بين الذكر والأنثى. يقول تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: 13). ز- المسئولية الجنائية: يقول تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (المائدة: 38). ويقول تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ (النور: 2). ح- الثواب والعقاب الإلهى: يقول تعالى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (غافر: 40). خلق الإنسان يعد خلق الإنسان آية من آيات الله العظيمة، خاصة إذا عرفنا أن عملية الخلق هذه مرت بمراحل عديدة وأطوار مختلفة كل مرحلة تعد فى ذاتها آية، وكل طور من هذه الأطوار يبرز عظمة الخالق سبحانه وتعالى. ومما ينبغى أن يكون واضحا أنه قبل عملية الخلق هذه، قد أتى على الإنسان حين من الدهر لا يعلمه إلا الله- عز وجل- لم يكن فيه هذا الإنسان شيئا مذكورا. يوضح ذلك قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (الإنسان: 1). وأما هذه المراحل التى مر بها خلق الإنسان فهى (¬11): ¬

(¬11) عبد الرحمن حبنكة: مرجع سابق 1/ 336. بتصرف يسير.

أولا: الماء:

أولا: الماء: وهو العنصر الأول الذى خلق منه كل كائن حى حادث، يقول تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (الأنبياء: 30). ويدخل فى قوله تعالى: كُلَّ شَيْءٍ: جسم الإنسان، بل يمكن لنا أن نقول: إن قمة هذا المخلوقات جميعها هو الإنسان، وقد خلقه الله تعالى من الماء. يقول تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (الفرقان: 54). ثانيا: التراب: وهو العنصر الثانى الذى يتكون منه خلق الإنسان؛ حيث إن الإنسان الأول- وهو آدم عليه السلام- كان التراب عنصرا من عناصر تكوين خلقه. يبين ذلك قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (آل عمران: 59). والتراب: عنصرا أساسى من عناصر تكوين كل إنسان بعد آدم عليه السلام. إذ من التراب النبات، ومن النبات الغذاء، ومن الغذاء الدم، ومن الدم النطفة، ومن النطفة الجنين. يقول عز من قائل: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً (فاطر: 11). ويقول أيضا: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (غافر: 67). ويقول سبحانه: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (الروم:20). ثالثا: الطين: وهو ناتج امتزاج عنصرى الماء والتراب، ولهذا فالطين هو المزيج الذى يتكون منه خلق جسد الإنسان. يقول تبارك وتعالى: ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (السجدة: 6 - 9). ويلاحظ: أن هذا الطين بالنسبة للإنسان الأول، وهو آدم عليه السلام، كان: طينا لازبا، أى: لزجا لاصقا متماسكا بعضه ببعض، كما

رابعا: نفخ الروح:

يصور ذلك قوله سبحانه: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (الصافات: 11). ثم: صار حمأ مسنونا، أى: أسودا منتنا حصورا، يقول رب العزة: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (الحجر: 26). وأخيرا: صار هذا الطين جافا يابسا، حتى أصبح صلصالا يشبه الفخار إلا أنه ليس بالفخار، يقول سبحانه: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (الرحمن: 14، 15). وأما هذا الطين بالنسبة لذرية هذا الإنسان الأول، وهى السلالات البشرية فمن الطين إلى النبات، إلى الغذاء، إلى الدم، إلى النطفة، إلى العلقة، إلى المضغة ... إلخ. رابعا: نفخ الروح: ونفخ الروح هذا فى الإنسان الأول، وهو آدم- عليه السّلام- كان بعد أن صار الطين صلصالا. يقول تعالى: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (ص: 71، 72). وأما بالنسبة لذرية آدم وهى السلالة البشرية فإن نفخ الروح يكون فى الجنين من بعد علوقه بنحو أربعة أشهر، كما فى الحديث الصحيح: «إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون فى ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون فى ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقى أو سعيد» (¬12). يقول جل وعلا: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (المؤمنون: 12 - 14). وأخيرا: ينبغى أن يلاحظ جيدا أمران: الأمر الأول: أن الله تعالى بعد أن خلق الإنسان الأول، وهو آدم- عليه السلام- خلق سبحانه من هذا الإنسان زوجته. يقول تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها (الأعراف: 189). الأمر الثانى: أن الله تعالى بعد أن خلق الإنسان الأول وهو آدم- عليه السلام- وزوجته خلق السلالات البشرية- بعد مرورها بمراحل: الماء، والتراب، والطين، والنبات، ¬

(¬12) أخرجه البخارى: كتاب «بدء الخلق»، مسلم: كتاب «القدر».

جسم الإنسان

والغذاء، والدم- بمرحلة النطفة الأمشاج، أى: الأخلاط والخصائص غير المتماثلة. يقول عز من قائل: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (الإنسان: 2، 3). وصدق الله تعالى إذ يقول: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (التغابن: 3). جسم الإنسان وقد تحدث القرآن الكريم- خلال هدايته للناس وإرشاده لهم- عن جسم الإنسان بتفصيل دقيق حيث ذكر (¬13): 1 - النفس: فى مثل قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (النازعات: 40، 41). 2 - الجسم: فى مثل قوله تعالى: قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة: 247). 3 - الرأس: فى مثل قوله تعالى: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ (الأعراف: 150). 4 - الوجه: فى مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ (المائدة: 6). 5 - الجبين: فى مثل قوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (الصافات: 103 - 105). 6 - الناصية: فى مثل فى قوله تعالى: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (العلق: 15، 16). 7 - العين: فى مثل قوله تعالى: قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (الأنبياء: 61). 8 - الخدّ: فى مثل قوله تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً (لقمان: 18). 9 - الأنف: فى مثل قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ (المائدة: 45). 10 - الأذن فى مثل قوله تعالى: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (نوح: 7). ¬

(¬13) محمد بسام رشدى الزين: المعجم المفهرس لمعانى القرآن العظيم.

11 - الفم: فى مثل قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (آل عمران: 167). 12 - الشّفة فى قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ؟ (البلد: 8، 9). 13 - السّن: فى قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ (المائدة: 45). 14 - اللسان: فى مثل قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (النور: 24). 15 - الحلق: فى قوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (الواقعة: 83). 16 - الحنجرة: فى مثل قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (غافر: 18). 17 - الذقن: فى مثل قوله تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (الإسراء: 109). 18 - الرقبة: فى مثل قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ (محمد: 4). 19 - العنق: فى مثل قوله تعالى: وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ؟ (سبأ:33). 20 - التّرقوة: وهى العظام المحيطة بفقرة النحر فى مثل قوله تعالى: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (القيامة: 26) والتراقى: جمع ترقوة. 21 - الصدر فى مثل قوله تعالى: قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (طه: 25، 26). 22 - القلب: فى مثل قوله تعالى: قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (البقرة: 260). 23 - الجلد: فى مثل قوله تعالى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ (فصلت: 21). 24 - العظم: فى مثل قوله تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (المؤمنون: 14).

25 - اللحم: فى مثل قوله تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟ (الحجرات: 12). 26 - الجنب: فى مثل قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ (آل عمران: 191). 27 - الظّهر: فى مثل قوله تعالى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (التوبة: 35). 28 - البطن: فى مثل قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ (النجم: 32). 29 - الأمعاء: فى قوله تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (محمد: 15). 30 - العضد: فى مثل قوله تعالى: قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما (القصص: 35). 31 - المرفق: فى مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ (المائدة: 6). 32 - اليد: فى مثل قوله تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (الحشر: 2). 33 - الأصابع: فى مثل قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ (البقرة: 19). 34 - البنان: فى مثل قوله تعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (القيامة: 4). 35 - الأنملة: فى مثل قوله تعالى: وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ (آل عمران: 119). 36 - الساق: فى مثل قوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (القيامة: 29، 30). 37 - الأرجل: فى مثل قوله تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها (الأعراف: 195). 38 - الكعبين: فى مثل قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (المائدة: 6). 39 - الأقدام: فى مثل قوله تعالى: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (الأنفال: 11).

خصائص الإنسان

خصائص الإنسان * خير بطبيعته: طبيعة الإنسان: صالحة لفعل الخير، كما هى صالحة للركون إلى الشر. يقول تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (الشمس: 7 - 8). ومع ذلك فإن الدارس لكتاب الله- عز وجل- يستطيع أن يستنتج أن الميل إلى الخير هو الجانب الأغلب فى هذه الطبيعة، وأنها لو تركت وشأنها دون أن تتكالب عليها عوامل الفساد لما حادت عن الطريق المستقيم. يشير إلى ذلك قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ (الروم: 30). وعوامل الفساد والشر التى تخرج الإنسان عن طبيعته هذه كثيرة (¬14). منها: ما يكمن فى نفس الإنسان، ويتمثل فى الميول التى تمكنت بفعل الزمن وتأثير البيئة، حتى صارت جزءا من طبيعته، يصدر عنها كثير من تصرفاته. وفى الحديث الشريف الصحيح ما يوضح ذلك، يقول صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» (¬15). ومنها: ما يأتيه من خارج نفسه، ويتزعمها إبليس وأعوانه، ذلك المخلوق، الذى أقسم أن يكرس حياته لإيقاع آدم وأبنائه فى معصية الله، والذى قال: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (الأعراف: 16 - 17). والإنسان بين هذا وذاك يقاوم ويقاوم لتتغلب طبيعته الخيرة على هذه العوامل، إلا من خرج من رحمة الله، وعاش عبدا لهواه والشيطان. * متدين: بمعنى أنه يعرف ربه وخالقه، لا يغيب عنه ذلك، حتى وإن تغافل أو غفل أحيانا وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (الزخرف: 9). ولئن عبت على الكفار منهم عبادة الأصنام: أجابوك بلهجة المتدين؛ حيث يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى (الزمر: 3). والإنسان المؤمن: سعيد بتدينه، يعيش فى ظلاله، ويتمسك بأهدابه، ولسان حاله ومقاله يهتف بقوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي ¬

(¬14) د. أحمد إبراهيم مهنا: مقومات الإنسانية ص 10. (¬15) أخرجه البخارى: ك التفسير، باب سورة الروم، مسلم: ك القدر، باب معنى كل مولود .. إلخ.

* ناطق:

وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (الأنعام: 161 - 163). وأما غير المؤمن: فمن العجيب أنه لا يفر من تدينه، وإن كان لا يتمسك بأهدابه، بل ينكره فى سرائه، ولا يذكره إلا فى ضرائه، بل يهتف ساعتها بلسان حاله ومقاله: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (يونس: 23). ذلك أنهم: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (العنكبوت: 65). وهكذا: لا تظهر فطرتهم، ولا يبرز تدينهم إلا عند الشدائد، وساعتها فقط، وأما قبل الشدائد وبعدها فهم جاحدون مستكبرون عبيد لأهوائهم وشياطينهم. يقول سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (يونس: 22 - 23). وبهذا: فالتدين فطرة فى الإنسان، وخاصية من خصائصه يسعد به من هداه الله، فيظهر عليه، ويعيش فى رحابه، ويحيا على آدابه، ويخفيه، بل يقاومه من لم يهده الله، فلا يظهر عليه، ولا يعيش فى رحابه، ولا يعرف آدابه، ولا ينطق به إلا وقت الشدائد، يوم لا ينفع نفسا تدينها ولا إيمانها، ويصيرون كمن إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فيهزأ الله منه، ولا يقبل إيمانه؛ حيث يقول له: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (يونس: 91) بل يصيرون ضمن من قال- عز وجل- عنهم: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) (غافر: 84 - 85). * ناطق: ميز الله- عز وجل- الإنسان بخاصية النطق والتكلم دون باقى المخلوقات، حيث أقسم سبحانه بنفسه على أن أرزاق العباد فى السماء، ثم أكده بأمر واضح للإنسان، ونعمة خاصة به، وهى: النطق، إذ قال: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِ

* لديه القدرة على النظر والتفكير:

السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (الذاريات: 22، 23). ويذكر ربنا- تبارك وتعالى- هذه الخاصية فى معرض تشريفه للحبيب صلّى الله عليه وسلّم .. حينما يقول: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (النجم: 2 - 3). هذه الخاصية تنتفى عنهم بعد الوفاة كما يوضح ذلك قوله- تعالى- عن الإنسان فى يوم القيامة: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (المرسلات: 35 - 38). * لديه القدرة على النظر والتفكير: كما منح الله- عز وجل- الإنسان خاصية القدرة على النظر فى آيات الله المبثوثة فى النفس والكون والتاريخ، ودعاه إلى استعمالها والإفادة منها، فى تحقيق ذاته، وحسن عبادته لربه- سبحانه وتعالى، حيث أعطاه القدرة على النظر فى: 1 - كيف بدأ الخلق؟ وكيف يبعثهم؟ حاثا له على الإفادة من دلالة ذلك إذ يقول: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (العنكبوت: 20). 2 - ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شىء، حاثا له كذلك على الإفادة من ذلك إذ يقول: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ (الأعراف: 185). 3 - آيات الله فى السماء والأرض .. حاثا له على الإفادة من دلالة ذلك إذ يقول أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (ق: 6 - 11). 4 - آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها، حاثا له على الإفادة من دلالة ذلك إذ يقول: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الروم: 50). * مخلوق من طين: وهذا واضح قبل خلق الإنسان حيث يقول رب العزة إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (ص: 71 - 74).

من صفات الإنسان

ثم يخاطب الإنسان موبخا له على جداله وشكّه فى وحدانية الله، مذكرا له بأصل خلقته، حيث يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (الأنعام: 2). كما يقول سبحانه مصورا مراحل خلقه إذ يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (المؤمنون: 12 - 14). وقد امتنّ- سبحانه وتعالى- على الإنسان بالخلق من طين، وذلك فى قوله- عز وجل: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (السجدة: 7). وكان هذا الخلق للإنسان من طين سببا فى تكبر إبليس وعدم طاعته لله فى السجود لآدم؛ حيث قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (الأعراف: 12). من صفات الإنسان وصفات الإنسان التى ينفرد ويتميز بها عن غيره كثيرة جدا، ذكرها المولى- سبحانه وتعالى- فى كتابه الكريم؛ تسجيلا لها، ودعوة لتقييمها، ولفت الأنظار إلى المحافظة على الجيد منها، وعلاج الردىء تخلصا من أضراره، ليستطيع الإنسان أداء رسالته، وحسن القيام بخلافته. ومن هذه الصفات (¬16): * خلقه فى أحسن تقويم: يقول تبارك وتعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين: 4). * ضعفه: يقول سبحانه: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (النساء: 28). يقول سبحانه اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (الروم: 54). * تعجله: يقول رب العزة: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (الإسراء: 11)، كما يقول سبحانه وتعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ (الأنبياء: 37). * جداله: يقول تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (الكهف: 54). * يأسه وقنوطه: يقول عز وجل: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (الروم: 36). ¬

(¬16) انظر: عبد الرحمن حبنكة: مرجع سابق، محمد فؤاد عبد الباقى: مرجع سابق، محمد بسام رشدى: مرجع سابق.

* بخله:

ويقول أيضا: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (فصلت: 49). * بخله: يقول جل وعلا: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (الإسراء: 100). ويقول أيضا إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) (المعارج: 19 - 22). * طغيانه: يقول عز وجل: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (عبس: 6 - 7). * نكرانه للنعم: يقول تبارك وتعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (يونس: 12). ويقول أيضا وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ (النحل:53 - 55). ويقول سبحانه: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ (الزمر: 8). ويقول كذلك: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ (الزمر: 49). * فرحه وفخره: يقول عز وجل: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (هود: 10). * خصومته لربه: يقول عز من قائل: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (يس:77). * ظلمه: يقول تبارك وتعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (إبراهيم: 34). * مبالغته فى كفره: يقول سبحانه: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (الإسراء: 67).

الإنسان والتربية

ويقول تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (الحج: 66). ويقول أيضا: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (الزخرف: 15). ويقول تبارك وتعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (عبس: 17). الإنسان والتربية لم يلجأ الإسلام فى تربية الإنسان إلى محاولة إلغاء أصل الطبائع الفطرية فيه، أو إلغاء شىء منها، ليضع بدلا منها طبائع جديدة مكتسبة لم تكن هى ولا الاستعداد إليها من الأمور الفطرية. ولكن اتبع الأسس التربوية النافعة فى التقويم والتحويل والتنمية والتهذيب والتشذيب. ومن هذه الأسس: 1 - التدرج فى التربية. 2 - التوجيه والتحويل. 3 - التصعيد. 4 - إيجاد الحافز الذاتى. وصولا بهذه الأسس إلى تربية الإنسان أولا، وتكوين الجيل الربانى الذى يقود الإنسانية إلى الخير والفلاح ثانيا. ويتم ذلك التكوين لهذا الجيل الربانى على عدة عناصر منها: 1 - التثقيف العقلى. 2 - اليقظة الروحية. 3 - الترابط الأخوى. وبيان هذا وذاك على النحو التالى: أولا: الأسس التربوية للإنسان: الأساس الأول- التدرج فى البناء التربوى: إن العملية التربوية ليست عملية تحويل مفاجئ دفعة واحدة، أو خلق تام بمرة واحدة؛ حيث إن هذا لم يختره الله لنفسه فى سنة الخلق، مع أن من قدرته- جل وعلا- أنه إذا أراد شيئا أن يقول له: كن. فيكون؛ ولكنه تبارك وتعالى اختار لنفسه سنة الإنشاء المتدرج، كما أن رغبتنا بالإنجاز التام السريع على خلاف طبائع الأشياء معاكسة لسنة الله فى كونه. ومكلّف الأشياء فوق طباعها ... متطلّب فى الماء جذوة نار ومن صفات الله تعالى أنه رب العالمين، أى: مربى العالمين، والتربية هى إنشاء متدرج لإبلاغ الشيء إلى مستوى كماله، وقد خلق الله الدنيا فى ستة أيام من أيامه- تبارك وتعالى- وكان فى قدرته أن يخلقها بكلمة كن.

الأساس الثانى - التوجيه والتحويل:

الأساس الثانى- التوجيه والتحويل: إنه ما من طبع من الطبائع الفطرية إلا يحتاج إليه فى جانب من جوانب الخير، أو فى طريق من طرق الخير، وعمليات التوجيه والتحويل تكون بتعليق رغبات المقصود بالتربية فى جانب من جوانب الخير، أو فى طريق من طرق الخير، وبمحاولة امتصاص شحنات هذا الطبع كلّها أو بعضها فيما وجهت إليه وعلقت به. ومن أمثلة ذلك: أن نأخذ إنسانا ذا طمع مفرط فى متاع الحياة الدنيا وزينتها، ثم نملأ قلبه إيمانا بالله واليوم الآخر، وبما فى اليوم الآخر من جنة ونعيم مقيم، ثم نعمل على توجيه طمعه وتحويله إلى ما عند الله من أجر عظيم، ثم نجرى عمليات تعليق شحنات ما لديه من طمع بذلك، فتنصرف نفسه إليه انصرافا كليا أو جزئيا، وبذلك ينفك شيئا فشيئا عن التعلق بمطامع الحياة الدنيا، طلبا لما هو أجلّ وأعظم، وعندئذ فقد نجده زاهدا قنوعا، أو غير مفرط فى الطمع. وبهذا التحويل الكلى أو الجزئى يعتدل طبعه، ويتكون لديه خلق فاضل، ومع ذلك نلاحظ أن الطمع لم تقتلع جذوره من نفسه، ولكن جرى فيه تحويل إلى ما هو خير. وهكذا نستطيع أن نمارس خطة التوجيه والتحويل فى كثير من الطبائع الفطرية. الأساس الثالث: التصعيد: وهو نوع من تحويل الطبع، أو تحويل التطلع الإنسانى، عن الصغائر والدنايا، وتوجيهه لمعالى الأمور، ولما فيه سعادة خالدة أو مجد حقيقى، ولما فيه كمال، ورفعة بين الناس، وكمال ورفعة عند الله. ومن وسائل التصعيد التشويق والتحبيب، والتحسين والتزيين، والممارسة، ووضع الإنسان فى خبرات عملية يذوق فيها حلاوة ما يراد تصعيده إليه، ولكن بدون إرهاق منفر، ولا تكاليف شاقة مضنية، باستثناء أفراد نادرين يستعذبون المشقات فى أصل طباعهم، ولا يميلون إلى الأمور السهلة الخفيفة. ومن التربية بالتصعيد قول الله- عز وجل- لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (طه: 20). أزواجا منهم: أصنافا منهم. فأبان الله تعالى أن كل ما يتمتع به الناس فى الحياة الدنيا هو فى واقع حاله كالزهرة، ومن صفات الزهرة أنها تغرى ولكنها قصيرة العمر سريعة الذبول والفناء، فالعاقل يبحث عن نعيم حقيقى باق. وهو أيضا مادة

الأساس الرابع - إيجاد الحافز الذاتى:

لامتحان الناس وابتلائهم، وليس لتكريمهم لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ. بعد هذا التزهيد فى زهرة الحياة الدنيا قال تعالى: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى. وفى هذا توجيه صاعد لما هو خير حقيقى باق، وهو رزق الله للمتقين والأبرار والمحسنين، فى جنات النعيم، وفى الدنيا بسعادة الروح وراحة الفؤاد. الأساس الرابع- إيجاد الحافز الذاتى: الحافز الذاتى هو القوة الداخلية فى الإنسان، المحركة لعواطفه، والموجهة لإرادته، والدافعة له حتى يمارس سلوكا معينا داخليا أو خارجيا، وعن طريق تكرار ممارسة هذا السلوك تتكون العادة النفسية الباطنة، أو العادة الجسدية الظاهرة، فإذا كان هذا السلوك من نوع السلوك الخلقى كان خلقا مكتسبا، وكان المؤثر الأول فى اكتسابه هو إيجاد الحافز الذاتى لدى مكتسبه. ولإيجاد الحافز الذاتى عدة طرق، منها الطرق التالية: 1 - طريق الإيمان بالله واليوم الآخر وبقضاء الله وقدره: فمتى بنيت القاعدة الإيمانية الإسلامية فى أعماق كيان الإنسان استطاعت هذه القاعدة أن تهيمن على فكره وقلبه وعواطفه وإرادته، وأن تعمل على ربط إرادته بما يرضى الله تعالى، ولا يخفى ما للإرادة الحازمة فى الإنسان من تأثير على مراكز الخلق فى نفسه، وقدرة على التحكم فى أنواع سلوكه. إن تركيز القاعدة الإيمانية الإسلامية فى الكيان الداخلى للإنسان يرتبط به اليقين المهيمن بأنه لا حكم إلا لله، وبأن الله لا يأمر إلا بالخير، ولا ينهى إلا عن الشر، وبأن مصلحة الإنسان مرتبطة بفعل ما يأمر الله به، وترك ما ينهى الله عنه. ويرتبط به أيضا اليقين بأن الله تعالى يجازى على الخير خيرا وعلى السوء سوءا، وفق قانون الحق والعدل والفضل الربانى، ويرتبط به أيضا اليقين بأن الله تعالى لا يجرى فى مقاديره لعباده إلا ما هو خير لهم، فالمؤمن يقابل مقادير الله بالرضا والتسليم فيصبر، ولا يغضب ولا يضجر، ولا يحسد ولا يستكبر، وهكذا. فالحافز الذاتى الذى يولده الإيمان بالله واليوم الآخر وبقضاء الله وقدره حافز مؤثر وفعال جدا فى دفع كل فرد مؤمن إلى فعل الخير والالتزام به، إنه حافز محرك ودافع وحارس ورقيب ذاتى، يصاحب الإنسان الذى يملك وعيه مصاحبة دائمة، فهو معه فى جميع أوقاته، وفى جميع أحواله، إذا كان بين الناس وإذا كان فى خلواته، إذا كان منكشفا فى الأضواء وإذا كان مستترا فى الظلمات،

وحيث يظن أنه لا يراقبه أحد، وحيث لا تراقبه رقابة قانونية بشرية، ولا تمتد إليه سلطة قضائية، ولا تردعه هيئة اجتماعية. إن الحافز الذاتى الذى يولده الإيمان بالله واليوم الآخر قوة فوق كل القوى، إنه يقبض على زمام العقل بالحق والبرهان من الله، ويقبض على ناصية القلب بعاطفة محبة الله وابتغاء محبة الله وابتغاء رضاه والثقة بحكمته، ويقبض على زمام النفس بعاملى الخوف من عقاب الله والطمع بثوابه العظيم. إنه يقود الإنسان ويسوقه من جميع أركانه الداخلية، فهو قوة عجيبة لا تدانيها قوة أخرى فى الوجود كله، ولكن مقدار قوتها فى داخل الفرد مناسب لمقدار قوة الإيمان فى قلبه زيادة ونقصانا، فكلما زادت نسبة قوة الإيمان زادت قوة هذا الحافز، وكلما نقصت هذه النسبة نقصت قوة الحافز فى نفس الفرد المسلم، وهذا الحافز فى مستواه الأعلى يوصل الإنسان إلى مرتبة الإحسان فى معظم أعماله، ويجعله من السابقين فى الخيرات بإذن الله. إن الإيمان بالله واليوم الآخر وبقضاء الله وقدره يمثل الجذر الرئيسى لإصلاح الإنسان من أعمق كيانه الداخلى، وعليه تتجمع جذور النفس الإنسانية كلها، وذلك لأن الإنسان متى أيقن بالله حق اليقين، غدا متعطشا لبلوغ كمالاته بسرعة، ومطمئنا إلى أن الله هو العليم الحكيم، الذى يعلم أين يكون الخير، ويعلم أين يكون الشر، وهو بعباده رءوف رحيم، ينزل بهم ما يقتضيه خيرهم، ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم، فيأخذ وصايا الله بالتسليم التام، ويلتزمها التزاما صادقا، قبل أن يعرف بالتفصيلات الجزئية والحجج والبراهين ما فى كل فرد من أفرادها من خيرات ومصالح وثمرات كريمة. هذه الثقة بالله القائمة على اليقين به لا تعادلها ثقة أخرى فى الوجود، علما بأن الثقة من حيث ذاتها سائق يسوق الإنسان إلى الاتباع والطاعة والرضا والتسليم، دون شعور بعقبة من عقبات المعارضة النفسية. نحن نلاحظ فى واقعنا الإنسانى، أننا متى وثقنا بإنسان- بعد أن خبرنا فيه نضج التفكير والتدبير وصدق النصيحة- سلّمنا له من غير أن نطالبه بالحجة، مع أن ثقتنا به- مهما عظمت- لا تبلغ درجة الاعتقاد بعصمته عن الخطأ، ولكننا نرجح أن صوابه أكثر من خطئه. فكيف بمن نعتقد به كمال العصمة، ونحن موقنون بأنه رءوف رحيم، يحب لنا الخير ويكره لنا الشر؟ لذلك فالنفوذ إلى أعماق النفس الإنسانية بعناصر الإيمان الأساسية، يوجد فى الإنسان

2 - طريق الإقناع الفكرى:

فاعليات ذاتية، تحرضه على التحلى بمكارم الأخلاق، وسلوك السبيل الأقوم فى الحياة. 2 - طريق الإقناع الفكرى: ويكون الإقناع الفكرى عن طريق التعليم المباشر أو غير المباشر، أو عن طريق الجدال بالتى هى أحسن. فمن شأن المعرفة التى تدرك بها الفضائل والرذائل، وتعلم بها آثارها المحمودة والمذمومة، وثمراتها العاجلة والآجلة، أن تولد الحافز الذاتى على التطبيق، لا سيما إذا كان مضمون المعرفة يتعلق بما ينفع الإنسان أو يضره، كقضايا السلوك الإنسانى. فمعرفة الفضائل الأخلاقية معرفة صحيحة لا بدّ أن تبرز ما فيها من كمال وجمال، ولا بدّ أن تورث اليقين بفوائدها وثمراتها الطيبات وخيراتها الحسان المادية والمعنوية، الدنيوية والأخروية، وذلك يولد فى النفس استحسانها، ثم الرغبة الصادقة بالتحلى بها، ومع هذه الرغبة الصادقة تكون النفس طيّعة للتخلق بالخلق الكريم المنشود. ومعرفة الرذائل والنقائص الأخلاقية معرفة صحيحة لا بدّ أن تبرز ما فيها من نقص وقبح، ولا بدّ أن تورث اليقين بمضارها ونتائجها السيئة، وذلك يولد فى النفس استقباحها والنفور منها، ثم الرغبة الصادقة باجتنابها، ومع هذه الرغبة الصادقة تكون النفس طيّعة للكف عنها، والتخلق بالخلق الكريم المضاد لها. وللإقناع الفكرى شروط من شأن الأخذ بها تخفيف العقبات النفسية، التى قد تقف دون بلوغ القناعة الحقيقية إلى داخل النفس. ويمكن تلخيص أهم هذه الشروط بما لخصها به القرآن الكريم من الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتى هى أحسن. كما يعلم ذلك من قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل: 125). ويندرج فى الحكمة كل الأساليب الفكرية المنطقية الهادئة السليمة، التى من شأنها أن توصل الحقيقة إلى موقع القناعة فى النفس. وللناس مستويات فكرية وعلمية، وعلى من يريد الإقناع بحقيقة من الحقائق أن يخاطب كل فريق من الناس بما يناسب مستواه الفكرى والنفسى. ويندرج فى الموعظة الحسنة كل الأساليب التى تؤثر فى النفس الإنسانية، والتى من شأنها أن توجه عوامل الأنفس فى جهة الاقتناع بالحقيقة. والإقناع الفكرى من أول الطرائق التى سلكها القرآن وسلكها الرسول صلوات الله عليه فى معظم الحقائق التى اشتمل عليها الإسلام، ومنها موضوعات الأخلاق.

3 - طريق الترغيب والترهيب:

3 - طريق الترغيب والترهيب: لا ينكر الأثر الكبير الذى يتم بتحريك محورى الطمع والخوف فى النفس الإنسانية، بالترغيب والترهيب، والتشجيع بالإكرام والمكافأة، والتقويم والزجر بالإهانة والعقوبة عند الضرورة. إنه طريق مؤثر وفعال جدا، ومولد لحافز ذاتى داخل النفس الإنسانية. وقد اعتمد الإسلام فى منهجه التربوى اعتمادا كبيرا على طريق الترغيب والترهيب، بعد اعتماده على الهداية للتى هى أقوم، بوسيلة التعليم والإقناع الفكرى ويدل على ذلك قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (الإسراء: 17). ونصوص الترغيب والترهيب كثيرة جدا فى الكتاب والسنّة. 4 - طريق تربية الوجدان الأخلاقى: وتكون هذه التربية بتعريض الوجدان لخبرات ومشاهد يحس فيها حلاوة الفضائل الأخلاقية، ومرارة الرذائل الأخلاقية. إن الوجدان الأخلاقى ينمو ويتضخم بمختلف الخبرات والمشاهد التى تفجر فيه انفعالات استحسان الفضائل والكمالات الأخلاقية، عند تذوق حلاوتها والشعور بالمسرات التى تحصل بسببها، وتفجر فيه انفعالات استقباح الرذائل والنقائص الأخلاقية عند تذوق مرارتها والشعور بالآلام التى تحصل بسببها. وعند ما ينمو الوجدان الأخلاقى ويتضخم يغدو قادرا على تحريك العواطف وتوجيه الإرادة، والدفع إلى السلوك الأخلاقى الكريم، إيجابيا كان أو سلبيا، فى داخل النفس والقلب، أو فى مجال السلوك العملى الظاهر. فمن أمثلة ذلك ما يلى: أ- إكرام الإنسان بالعطاء وهو راغب فيه أو عرض مشهد من مشاهد العطاء أمامه، حتى يشعر وجدانه بحلاوة العطاء، وبأنه فضيلة من الفضائل الأخلاقية، وحرمان الإنسان من العطاء مع حاجته إليه، أو عرض مشهد من مشاهد الشح أمامه، حتى يشعر بأن الشح رذيلة من الرذائل الأخلاقية. ب- تعريض الإنسان لحادثة من حوادث الظلم، أو مشهد من مشاهده، حتى يشعر وجدانه بمرارة الظلم، وبأنه رذيلة من الرذائل الخلقية، وتعريضه لرائعة من روائع العدل، أو مشهد رائع من مشاهده، حتى يشعر وجدانه بحلاوة العدل وإكباره، وأنه فضيلة من الفضائل الخلقية.

ثانيا: العناصر التكوينية للجيل الربانى:

ج- تعريض الإنسان لمشهد من مشاهد الشجاعة المحمودة، أو معونته بحادثة من حوادث الشجاعة المحمودة، حتى يشعر وجدانه بإكبار الشجاعة وحلاوتها، وبأنها من الفضائل الأخلاقية، وتعريضه لمشهد من مشاهد الجبن، أو التخلى عن معونته بحادثة من حوادث الجبن، حتى يشعر وجدانه بحقارة الجبن ويتقزز منه، ويحس بأنه نقيصة من النقائص الخلقية. وقد تقع القصة المحكية موقع المشهد المرئى، فتؤثر مثل أثره. وهكذا يتربى الوجدان الأخلاقى ويكون باستطاعته أن يحرك ويوجه ويؤثر، ويكون أحد الحوافز الذاتية فى كيان الإنسان الداخلى (¬17). ثانيا: العناصر التكوينية للجيل الربانى: جعل الإسلام أكبر همه طوال العهد المكى هو تكوين الجيل الربانى، والرعيل القرآنى الأول، من خلال تعهد دائم، وصحبة مباركة، ومراقبة إيجابية، وكانت (دار الأرقم) فى مكة هى أشهر دار للتربية الأساسية التى خرّجت أول أجيال الإسلام وأفضلها، الذين وصفوا بأنهم (رهبان الليل وفرسان النهار). وأنهم (يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع) (¬18). وأعظم ما وصفوا به ما جاء فى كتاب الله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ (الفتح: 29). وهذا التكوين يقوم على عناصر، أهمها ثلاثة: 1 - التثقيف العقلى: العنصر الأول فى التكوين هو: ما يتعلق بتثقيف الفكر، وتنوير العقل، فالإسلام دين ينشئ (العقلية العلمية) ويرفض (العقلية الخرافية) أو (العامية) التى تعتمد على الظن فى موضع اليقين، أو تعتمد على الهوى والعواطف فى مقام لا يغنى فيه إلا الحقائق الموضوعية، وهو ما يرفضه القرآن الكريم، الذى يذم المشركين بقوله: وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (النجم: 28) ويقول فى نفس السورة: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (النجم: 23) وفى سورة أخرى يقول: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (محمد: 16). ¬

(¬17) عبد الرحمن حبنكة: مرجع سابق 1/ 186 وما بعدها باختصار. (¬18) د. يوسف القرضاوى: الإخوان المسلمون «سبعون عاما فى الدعوة والجهاد والتربية» ص 187 وما بعدها باختصار .. نشر مكتبة وهبة- القاهرة.

2 - الإيقاظ الروحى:

والعقلية العلمية هى التى ترفض التقليد الأعمى، سواء أكان للأجداد والآباء، كما فى قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (البقرة: 170) أم كان للسادة والكبراء كما قال تعالى: وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (الأحزاب: 67، 68). وقد تكرر هذا المعنى فى جملة سور من القرآن الكريم. والعقلية العلمية التى ينشئها الإسلام هى التى تؤمن بوجوب النظر والتفكير فى ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شىء، فالكون كله مسرح للفكر والتأمل، وكذلك التاريخ ومصاير الأمم. وكذلك الإنسان بكل آفاقه الروحية والمادية. يقول تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ (الأعراف: 185) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ (العنكبوت: 20) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (الأنعام: 11) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (الذاريات: 20، 21). ولا تقبل العقلية الإسلامية دعوى بلا بينة، فهى تعتمد البرهان فى العقليات، والتوثيق فى النقليات، والتجربة فى الحسيات. يقول القرآن لأصحاب العقائد: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (البقرة: 111 والنمل: 64) وفى مقام النقل: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (الأحقاف: 4) وفى مقام آخر يقول: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (الأنعام: 143). ومن ثم كان بدء الوحى القرآنى بهذه الآيات: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (العلق: 1 - 5) والقراءة باب العلم ومفتاحه. 2 - الإيقاظ الروحى: والعنصر الثانى هو (الإيقاظ الروحى) الذى يعنى بتجديد الإيمان بالله تعالى، واليقين بالآخرة، وتقوية المعانى الربانية فى القلب، من التوكل على الله، والإنابة إليه، والإخلاص له، والمحبة له ولأوليائه، والأنس بذكره، والرجاء فى رحمته، والخشية من عذابه، والاعتزاز بالانتماء إليه، والثقة بنصره وتأييده، والحياء معه، والشعور برقابته، والشكر لنعمائه، والصبر على بلائه، والرضا

3 - الترابط الأخوى:

بقضائه، وحسن الأدب معه، واستشعار تقواه فى كل عمل وكل حال. إلى آخر ما يعنى به رجال التصوف الصادقون. والوصول إلى هذا ليس بالأمر السهل، بل يحتاج إلى رياضة مستمرة، ومجاهدة طويلة، لهذه النفس الأمارة بالسوء، وتصميم على تزكية النفس بالتخلية والتحلية: التخلية من رذائل الشرك والنفاق والجاهلية، والتحلية بفضائل التوحيد والإيمان والإسلام والإحسان، وهذا هو أساس الفلاح فى الأولى والآخرة وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (الشمس: 7 - 10). ولا يتم هذا إلا فى مناخ يساعد عليه، يجد فيه المرء المرشد الموجه إلى الله، والبيئة النظيفة المعينة على الخير، كما يجد الأخ الصالح، الرفيق فى الدرب، حامل مسك الهدى، الذى يدل على الله منطقه، ويذكر بالآخرة حاله، ويرغب فى الخير سلوكه. 3 - الترابط الأخوى: والعنصر الثالث من عناصر (التكوين) الأساسية هو: الترابط الأخوى. يقول تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (الزخرف: 67). ويقول صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يقذف فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار». متفق عليه عن أنس. وقوله: «سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله- وذكر منهم- ورجلان تحابا فى الله- عز وجل- اجتمعا عليه، وتفرقا عليه». متفق عليه عن أبى هريرة. ويقول صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالى؟ اليوم أظلهم فى ظلى يوم لا ظل إلا ظلى». رواه مسلم عن أبى هريرة. فإذا كان الناس تربطهم فى هذه الدنيا روابط شتى، رابطة الدم والنسب، أو رابطة الطين والأرض، أو رابطة اللغة واللسان، أو رابطة المصلحة المشتركة، أو غير ذلك من الروابط المادية والدنيوية الزائلة، أو المعرضة دوما للزوال. فإن رابطة الأخوة الإيمانية هى الأخلد والأبقى، وهى الأعز والأقوى، لأنها رابطة قامت لله وفى الله، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله، انقطع وانفصل. لقد حث الإسلام المسلمين على العمل الجماعى لنصرة الدعوة الإسلامية، وتحرير الأرض الإسلامية، وتوحيد الأمة الإسلامية، وتحقيق آمالها الكبرى فى النهوض والبناء والترقى، وأداء دورها الربانى فى هداية العالم إلى نور الله.

ولهذا كانت الأوامر والتوجيهات القرآنية والنبوية محرضة على التوحيد والتعاضد والتعاون والتضامن، فإن اليد وحدها لا تصفق، ويد الله مع الجماعة، والشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا. يؤكد هذا: أن القوى المعادية للإسلام وأمته لا تعمل بصورة فردية، أو بقوى متناثرة أو مبعثرة، بل تعمل فى صورة جماعات وتكتلات منظمة، حددت غاياتها، وعينت طرائقها، واختير رجالها وقادتها، ورصدت لها مصادر التمويل الدائمة والطارئة. فلا يجوز أن نقابل هذه القوى المتجمعة بأعمال فردية متفرقة، تعجز أن تنصر صديقا أو تقهر عدوا. وما دامت الجماعة- على حد تعبيرنا- فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع: فلا بد لهذه الجماعة من رابط قوى يربط بين أفرادها، أشبه بما نسميه (المونة) أو (الإسمنت) الذى يربط (لبنات البناء) بعضها ببعض، حتى يكون كما جاء فى الحديث: «يشد بعضه بعضا»، أو كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (الصف: 4). وهذا الرباط هو الأخوة الصادقة، التى هى صنو الإيمان ودليله، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (الحجرات: 10). وكما فى الحديث الصحيح: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه (أى لا يتخلى عنه) ومن كان فى حاجة أخيه كان الله فى حاجته». ولا تكون الأخوة صادقة إلا إذا تجردت عن أعراض الدنيا، وتمحضت للدين، وخلصت لوجه الله تعالى، وهذا هو الحب فى الله، الذى كثرت فى فضله الأحاديث. ومن ذلك ما رواه أبو هريرة عن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من عباد الله عبادا ليسوا بأنبياء، يغبطهم الأنبياء والشهداء! قيل: من هم لعلنا نحبهم؟ قال: هم قوم تحابوا بنور الله، من غير أرحام ولا أنساب (أى لا تجمعهم قرابة ولا نسب) وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (يونس: 62)». وقال رجل لمعاذ بن جبل: والله إنى لأحبك لله! فقال: الله؟ قال الرجل: قلت: لله، فأخذ بحبوة ردائى، فجذبنى إليه، وقال: أبشر، فإنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتى للمتحابين فىّ، والمتجالسين فىّ، والمتزاورين فىّ».

علاقة الإنسان بالشيطان

علاقة الإنسان بالشيطان * العداوة: الشيطان: هو العدو الأول، اللدود، لبنى الإنسان. وعداوته: قديمة، حديثة. قديمة جدا: منذ أن قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (البقرة: 34) قديمة جدا: منذ أن قال له رب العزة: يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (الحجر: 32 - 44) قديمة جدا: منذ أن عاقبه رب العزة، على هذا الإباء، والتكبر، وعدم الامتثال، إذ قال له: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (الحجر: 34 - 38) قديمة جدا: منذ أن هدد وتوعد لبنى الإنسان، حينما قال: قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (الحجر: 39: 44). وقد كان .. !! زين الشيطان .. وما يزال. وأغوى الكثير، والكثير من بنى الإنسان وما يزال. وأصبح للشيطان: أعوان، وإخوان، وأنصار، وأشياع، وأذناب: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (المجادلة: 19). وما يزال الشيطان يغوى، ويزين، وينفذ وعيده القديم، وتهديده الدائم. وما يزال حزبه الذى استحوذ عليه، يزداد كفرا وعصيانا ونسيانا وتناسيا لذكر الله تعالى. ولنشاط الشيطان وأعوانه، القديم والحديث؛ نبه المولى- سبحانه وتعالى- وينبه دائما على هذه العداوة القديمة والحديثة، إذ يقول: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (الإسراء: 53). ولنشاط الشيطان وأعوانه، القديم والحديث؛ نبه المولى- سبحانه وتعالى- وينبه دائما، أحبابه، وأولياءه الذين هم حزب الله، على هذه العداوة القديمة الحديثة:

إذ يقول لهم: وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (الزخرف: 62). ولخطورة الشيطان على أولياء الله- تعالى- وحزبه؛ أمر المولى- عز وجل-: بالحيطة الشديدة منه، والتنبه الدائم له، واتخاذه عدوا، واليقظة الكاملة لمكر هذا العدو ودهائه، والاستعداد لمواجهة هذا العدو والانتصار عليه. إذ يقول لهم: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (فاطر: 6) ولخطورة حزب الشيطان- كذلك- على أولياء الله تعالى وحزبه؛ أمر المولى- عز وجل- بقتالهم، بشتى أسلحة القتال. إذ يقول: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (النساء: 76) ومع ذلك فالشيطان لا ينى، ولا يتخاذل، ولا يهدأ. فعن جابر: أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يبعث الشيطان سراياه، فيفتنون الناس؛ فأعظمهم عنده منزلة، أعظمهم فتنة». (مسلم: ك صفات المؤمنين، باب تحريش الشيطان) وأعوانه كذلك لا يتخاذلون، ولا يهدءون. وفوق ذلك: فهو: «يجرى من ابن آدم مجرى الدم». (¬19) فتنة، وغواية، وإضلالا. ولوعورة هذه الحرب، بين الطائفتين- الشيطان وحزبه من جانب- وأولياء الله من الجانب الآخر: فقد علّمنا- سبحانه وتعالى- الاستعانة به، واللجوء إليه، فى هذه الحرب الدائمة، القديمة، الحديثة، حينما قال: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (فصلت: 36). وحينما قال: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (المؤمنون: 97، 98). وفوق هذا فقد تكفل بالوقوف فى صف أوليائه ونصرتهم فى هذه الحرب الدائمة، القديمة، الحديثة، حينما قال للشيطان: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (الحجر: 42) ولكل هذا: يجب على أولياء الله- سبحانه وتعالى- وأتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، اليقظة الكاملة، والاستعداد الدءوب لهذا العدو، الذى حذر منه، وأمر بمعاداته. وعلى ورثة الأنبياء- وهم أولى الناس بهذه اليقظة وأحق الناس لهذا الاستعداد، وأعلمهم وأقواهم على هذا العداء والانتصار فيه، تبصير الناس بسهام هذا العدو، وتحذيرهم- دائما- منها. ¬

(¬19) أخرجه البخارى: كتاب «بدء الخلق»، باب «صفة إبليس».

* الوسوسة:

* الوسوسة: بيد أنه: لا يعدو الشيطان فى حياة الإنسان سوى أن يكون مخلوقا باستطاعته أن يوسوس فى صدر الإنسان بالشر، ويزين له ارتكاب الخطيئة فقط، ثم إن الإنسان هو الذى يرتكب الخطيئة بإرادته، ويعتبر مسئولا عنها مسئولية تامة. ففي المفاهيم الإسلامية عدة حقائق عن الشيطان تبين موقعه فى حياة الإنسان، وأثره على إرادته، والحكمة الربانية من وجوده: الحقيقة الأولى: تتلخص فى أن الشيطان ليس له سلطان على إرادة الإنسان، إلا من سلّم قيادة نفسه له وتبعه مختارا لنفسه طريق الغواية. ونجد الدليل على هذه الحقيقة فى عدة نصوص قرآنية: منها: قول الله تعالى يخاطب إبليس رأس الشياطين: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (الحجر: 42). إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (الإسراء: 65). فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (النحل: 98 - 100). فمن الظاهر فى هذه النصوص أن الله تبارك وتعالى لم يجعل للشيطان سلطانا على الإنسان، وأن سلطانه لا يكون إلا على الذين يتولونه، ويجعلونه قائدا لهم، ويتبعونه مختارين لأنفسهم طريق الغواية. ومن أجل ذلك فإن الشيطان سيعلن هذه الحقيقة يوم القيامة للذين استجابوا لوساوسه فى الدنيا، يدل على ذلك قول الله تعالى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (إبراهيم: 22). ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي: أى ما أنا بقادر على إغاثتكم وما أنتم بقادرين على إغاثتى، حينما يصرخ كل منا طالبا من صاحبه أن يغيثه فيرفع عنه عذاب الله. الحقيقة الثانية: تتلخص فى أن وظيفة الشيطان فى حياة الإنسان إنما هى الوسوسة فى صدره وليس له قدرة على أكثر من ذلك،

العلاج الدينى للتخلص من وساوس الشيطان:

ويشعر الإنسان بهذه الوسوسة فى صورة خواطر تزين له الإثم والمعصية، وتزين له الانحراف عن سواء السبيل، وقد تصوغ له ذلك بحجج مغرية. قال الله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) (الناس). وقال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (محمد: 25). أى: غرهم بالأمانى والآمال فى وساوسه وتسويفاته، وهذا ما فعله مع آدم وحواء، إذ كانا فى الجنة فوسوس لهما فأخرجهما من الجنة. فكيد الشيطان فى الإضلال كيد ضعيف، وبذلك وصفه الله بقوله إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (النساء: 76). الحقيقة الثالثة: تتلخص فى أن الله- تبارك وتعالى- جعل الشيطان فى حياة الإنسان لإقامة التوازن بين دوافع الخير ودوافع الشر والمحرضات عليهما، وليطرح الإنسان عليه قسما من مسئولية الخطيئة التى يقع بها، فيجد لنفسه عذرا بأن فعل الشر ليس من فطرته، وإنما كان بتأثير وساوس قرينه الشيطان الملازم له. وبهذا لا تظل صورة الخطيئة القبيحة ماثلة فى نفس الإنسان، إذ يشعر بأن القبح فى العمل ليس من شأنه. وهذا الشعور الذى يشعر به المخطئ، قد يساعده على تقويم نفسه، مستعيذا بالله من الشيطان، ساعيا فى التخلص مما علق به من أدناس المعاصى، كما يساعده على نسيان خطيئته إذا هو استغفر الله وتاب إليه؛ إذ من وسائل الإصلاح التربوى فتح باب العذر لمن نربيه إذا ارتكب الخطيئة، ولو عاقبناه عليها نظرا إلى مسئوليته، ذلك لنبقى له مجالا يحتفظ فيه بصورة الكمال التى يجب أن يتصورها الناس فيه، ولنبقى له مجالا للارتقاء فى مراتب الكمال الإنسانى. العلاج الدينى للتخلص من وساوس الشيطان: وللتخلص من وساوس الشيطان وتسويفاته علاج دينى أرشدنا القرآن إليه، وهو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (الأعراف: 200: 201).

نهاية الإنسان

فمتى استعاذ الإنسان بالله من الشيطان ونزغته، قويت بالله إرادته، وخنس الشيطان وخاب وخسئ، وحينما يقع الإنسان فى الخطيئة ثم يستغفر الله فيغفر له، فإن الشيطان يصاب بالخزى والخيبة، وضياع الجهد فى الإغواء (¬20). نهاية الإنسان * تمهيد: نهاية الإنسان فى الدنيا: هى الموت. والموت: موضوع كريه، مزعج، لا يشجع على التفكير، أو الحديث فيه. وقد وصف القرآن حدوثه «بالمصيبة»، فى قوله تعالى: فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ (المائدة: 106). وهو كريه مزعج، لأن الإنسان بطبيعته يخشى الموت، ويحب الحياة. وفى الحديث الشريف: «قلب الشيخ شاب على حب اثنتين: طول الحياة، وحب المال» (¬21). وفى أحاديث الفتن: « .. ينزع الله المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل فى قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» (¬22). ولذلك ينفر الإنسان من سماع هذا الاسم، وينفر كذلك من دراسة هذا الموضوع. ودليل بسيط على ذلك: أنك تجد من الناس من يشكو مرّ الشكوى مما فى هذه الحياة الدنيا من: ألم، ومعاناة، وبؤس، وشقاء .. إلخ، لكنه رغم ذلك كله يتشبث بها بقوة، حتى إنه يستعيذ بالله إذا طرقت أذنه كلمة الموت، بل إن المحتضر نفسه وهو على فراش الموت يكره أن يسمع كلمة الموت. وهذا الكلام لا يصدق على الإنسان العادى فحسب، بل إنه يصدق- كذلك- على المفكرين والفلاسفة (¬23). * مواقف الناس من هذه النهاية: اعلم أن المنهمك فى الدنيا المكب على غرورها المحب لشهواتها يغفل قلبه- لا محالة- عن ذكر الموت فلا يذكره. وإذ ذكّر به كرهه ونفر منه، أولئك هم الذين قال الله فيهم: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (الجمعة: 8). ثم الناس: إما منهمك، وإما تائب مبتدئ، أو عارف منته. أما المنهمك: فلا يذكر الموت، وإن ذكره فيذكره للتأسف على دنياه ويشتغل بمذمته، وهذا يزيده ذكر الموت من الله بعدا. وأما التائب: فإنه يكثر من ذكر الموت لينبعث به من قلبه الخوف والخشية فيفى ¬

(¬20) د. عبد الحى الفرماوى: المسلمون بين الأزمة والنهضة ص 36 وما بعدها، نشر دار التوزيع والنشر الإسلامية. (¬21) عبد الرحمن حبنكة: مرجع سابق 1/ 173 وما بعدها. (¬22) أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب كراهية الحرص على الدنيا. (¬23) د. عبد الحى الفرماوى: الموت فى الفكر الإسلامى ص 19، نشر: دار الاعتصام- القاهرة.

* حقيقة النهاية:

بتمام التوبة، وربما يكره الموت خيفة من أن يختطفه قبل تمام التوبة وقبل إصلاح الزاد، وهو معذور فى كراهة الموت، ولا يدخل هذا تحت قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من كره لقاء الله كره الله لقاءه» (¬24). فإن هذا ليس يكره الموت ولقاء الله، وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره، وهو كالذى يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلا بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه، فلا يعد كارها للقائه، وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له، لا شغل له سواه وإلا التحق بالمنهمك فى الدنيا. وأما العارف: فإنه يذكر الموت دائما لأنه موعد لقائه لحبيبه، والمحب لا ينسى قط موعد لقاء الحبيب، وهذا فى غالب الأمر يستبطئ مجىء الموت، ويحب مجيئه ليتخلص من دار العاصين وينتقل إلى جوار رب العالمين. كما روى عن حذيفة: أنه لما حضرته الوفاة قال: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم؛ اللهم إن كنت تعلم أن الفقر أحب إلىّ من الغنى والسقم أحب إلىّ من الصحة، والموت أحب إلىّ من العيش فسهل علىّ الموت حتى ألقاك. فإذن: التائب معذور فى كراهة الموت. وهذا معذور فى حب الموت وتمنيه. وأعلى منهما رتبة: من فوّض أمره إلى الله تعالى فصار لا يختار لنفسه موتا ولا حياة، بل يكون أحب الأشياء إليه أحبها إلى مولاه، فهذا قد انتهى بفرط الحب والولاء إلى مقام التسليم والرضا وهو الغاية والمنتهى (¬25). * حقيقة النهاية: وقد ظن الملاحدة: أن الموت انتهاء مسار رحلة الإنسان، والخاتمة الأبدية له، حيث لا رحلة بعده، ولا حياة ولا بعثا ولا نشورا وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (الأنعام: 29). وأما الحقيقة التى غابت عنهم وغابوا عنها، والتى عرفها المسلمون من كتاب ربهم وسنة نبيهم صلّى الله عليه وسلّم لهذه النهاية: أنها انتقال من عالم من عوالم الله- سبحانه وتعالى- إلى عالم آخر من عوالمه- عز وجل. انتقال من دار الدنيا إلى دار البرزخ، تمهيدا للوصول إلى الدار الآخرة. انتقال من دار الزرع إلى دار الحصاد، من دار الفناء إلى دار البقاء. انتقال من دار التكليف والعمل الدنيوى، إلى دار الثواب والعقاب الأخروى (¬26). فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (الزلزلة: 7، 8). ¬

(¬24) أخرجه البخارى: كتاب الرقاق باب 41، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء، والترمذى: كتاب الزهد باب 40 وابن ماجة: كتاب الزهد، باب ذكر الموت. (¬25) الإمام الغزالى: الموت وأحوال القيامة ص 22، 23 (تحقيق د. عبد الحى الفرماوى نشر: دار الاعتصام- القاهرة). (¬26) د. عبد الحى الفرماوى: زاد الدعاة 2/ 285.

يقول ابن القيم: جعل الله الدور ثلاثا: دار الدنيا، دار البرزخ، دار القرار. وجعل لكلّ أحكاما تختص بها (¬27). ومن هنا: فنهاية الإنسان الحقيقية ليست العدم المحض، بل انتقال من دار الدنيا إلى دار البرزخ، كما أخبر الحق، فى قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (المؤمنون: 99 - 100). يقول ابن جرير الطبرى: أى مهلة يمكثون بها، حتى ينتقلون إلى الدار الآخرة (¬28). وهذه المهلة التى يمكث بها الإنسان- بعد نهاية رحلته فى الحياة الدنيا، حتى يوم البعث- هى الحياة البرزخية. ومن بعدها: يكون البعث والانتقال إلى الحياة الأبدية. والناس فيها: إما شقى، أو سعيد فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (هود 107، 108). أ. د. عبد الحى الفرماوى ¬

(¬27) ابن القيم: الروح ص 88. (¬28) محمد بن جرير الطبرى: جامع البيان عن تأويل آى القرآن (سورة المؤمنون، تفسير الآية 100).

حجية السنن الإلهية

حجية السنن الإلهية (¬1) فى رحاب القرآن الكريم القرآن كلام الله سبحانه وتعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ 1 ومنه تستمد الأحكام فى نطاق العقيدة والشريعة، وفى أعطافه تنظيم أحوال الخلق فى دنياهم وأخراهم، لأنه سبيل الهداية ومنهج الرشد، وقد جعله الله تعالى آية على صدق رسوله صلّى الله عليه وسلّم فى الرسالة الخاتمة التى حمّلها الله إياه فى كمال صدقها وإعجاز وسطيتها، وتمام إبلاغها عن رسالات الله إلى من سبقه من الأنبياء والمرسلين، وكتبهم التى أنزلها الله عليهم، وأخبارهم مع من آمنوا معهم ومن كفروا برسالة خالقهم وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. (¬2) والقرآن الكريم هو المعجزة الكبرى التى عليها بنيت رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهى الرسالة الخالدة الخاتمة طبقا لنص الآية الكريمة إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. (¬3) هذا المعنى يردده عدد من العلماء الذين عنوا بالدراسات القرآنية- ونعنى به المعجزة الكبرى أو الوحيدة- ويضيفون القول: بأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد أيّد بمعجزات كثيرة إلا أن تلك المعجزات قامت فى أوقات وأحوال ومناسبات خاصة، ونقل بعضها متواترا وبعضها نقل نقلا خاصا (هكذا)، ثم يضيف هذا الفريق قائلا: وأما القرآن فهو معجزة عامة، ولزوم الحجة به باق من أول ورودها إلى يوم القيامة. (¬4) وهذا القول فيما يتصل بمعجزة القرآن الكريم صواب لا يحتمل الجدل أو النقاش، ولكن ثمة خشية فيما يتصل بالمعجزات الأخرى الكثيرة، أن يؤدى ذلك إلى التقليل من شأنها أو التهوين من قيمتها مثل معجزات النصر، ومعجزة الإسراء والمعراج خصها المولى بسورتين كاملتين هما سورة الإسراء وسورة النجم، على النحو الذى سوف نعرض له فى الفصول القادمة من هذه الدراسة بإذن الله. إن الله- سبحانه وتعالى- والقرآن وحيه وكلامه- يزكى كتابه العزيز فى كثير من الآيات، ويرفع من قدره مع التسليم بتلك ¬

(¬1) سورة فصلت الآية 42. (¬2) البقرة الآية 143. (¬3) سورة الحجر الآية 9. (¬4) تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، المقدمة العاشرة صفحة 102.

الحقيقة من رفعة القدر فى آيات أخرى كثيرة، ويجعل منه قسما- بفتح السين- على صدقه فى مواقع عدة، ثم يتحدى الذين لم يؤمنوا به بآيات تخذلهم وتسفه كفرهم به، الأمر الذى يفحمهم ويؤدى إلى إيمان فريق كبير منهم بصدقه وقدسيته، وأنه كلام منزل من رب العالمين. وإن كل من يمسك المصحف بيديه يقع بصره أول ما يقع على قول الله جل وعز: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. (¬5) فى هذه الآيات الأربع القصيرة شحنة نفسية من تكريم رب العالمين وتعزيزه وتقديسه لكتاب رب العالمين، فلا يمسه إلا المطهرون، الأمر الذى نزه الله به كتابه العزيز من أن يمسه بيديه إنسان على غير طهارة لأنه تنزيل منه نفيس كريم. ولما كان القرآن الكريم كتابا ربانيا يهدى من الضلال إلى الإيمان ومن الشك إلى اليقين، فإن هذه القيم تجىء واضحة جلية فى قول الحق سبحانه: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً. (¬6) وفى السورة نفسها تتكرر النفحات الإلهية فى تعزيز القرآن الكريم ووصفه بأعز وصف وأكرم توصيف فى قوله جلّ وعزّ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (¬7) ويتولى التعزيز الإلهى فى بلاغة إعجازية؛ لتثبيت النفحات الربانية التى تضمنها الكتاب العزيز حاملة الإنذار لسكان مكة ومن حولها، لأن القرآن الكريم نزل أول ما نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم فى غار حراء فى جبل النور فى الطرف الشمالى لمكة، فيقول الحكيم الخبير سبحانه: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ. (¬8) إن أهل مكة ومن حولها عرب خلّص ذوو بلاغة، وأصحاب فصاحة وأرباب بيان، يتذوقون حسن القول، ويتعشقون بديع الكلام، فقد شاءت إرادة الخالق منزل الكتاب أن يغلق على أهل مكة كل باب ينكرون من خلاله صدق القرآن، وأن يسقط كل حجة يتذرعون بها للشك فى جلالة هذا الوحى، الذى يسمعونه من محمد الذى أجمعوا على وصفه بالأمين، فجاءت الآية الكريمة ملبّية لملكاتهم البليغة فيما لو صدقوا النية، ولسجيتهم الفصيحة متى أخلصوا العزم قال عز وجل: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ¬

(¬5) سورة الواقعة الآيات 77 - 80. (¬6) سورة الإسراء الآية 9. (¬7) الإسراء الآية 82. (¬8) سورة الأنعام الآية 92.

(3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، وقد شاءت الإرادة الإلهية أن تكون هذه الآيات الثلاث مسبوقة بتوكيد إلهى بأن هذا الكلام منزل من عند الله، وذلك فى قوله تعالى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. (¬9) ولتمكين هذه الحقائق فى أسماع كفار قريش، المعروفة بالفصاحة وذلك بشهادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قال له أبو بكر الصديق متسائلا: ما رأينا الذى هو أفصح منك يا رسول الله!! فكانت إجابة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على تساؤل أبى بكر: «لأنى ولدت فى قريش وربيت فى بنى سعد» والمعنى النبوى: أن كلا من قريش وبنى سعد أفصح القبائل وكانت نشأة رسول الله فيهما طفلا وصبيا فى الأولى وشابا ويافعا ثم كهلا فى الثانية، ومن هنا كان وصف القرآن فى الآية الكريمة قُرْآناً عَرَبِيًّا حجة على قريش وتحديا غير مباشر لفصحائهم بخاصة، ولجمهرتهم بعامة. ويتكرر فى الكتاب العزيز التوصيف الإلهى للقرآن الكريم بأنه منزل بالعربية فى قول الله جل وعز: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (¬10) وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (¬11) وقد استهلت سورة الزخرف التى وردت فيها هذه الآية بقسم عظيم هو قوله تعالى: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ثم كانت الآية التالية: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ والآيتان الأخيرتان: آية يوسف وآية الزخرف متشابهتان شكلا وصوغا، متباينتان هدفا وغرضا، فآية يوسف إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فيها تحدّ غير مباشر لكفار قريش، وأما آية الزخرف فهى إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ولفظ جعلناه يحمل تحديا مباشرا لمنكرى أن الكتاب العزيز منزل من عند الله رغم القسم الإلهى ب الْكِتابِ الْمُبِينِ. أما وقد استبد المخاطبون من العرب بفساد الرأى وقبح الإنكار فقد تحداهم منزل الكتاب- سبحانه- أن يعارضوه بما يماثله بلاغة أو يعدله حكمة وبيانا، فنزل قوله عز وجل: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. (¬12) فلم يستجيبوا بطبيعة الحال، ليس عنادا وعصبية هذه المرة، ولكن عجزا وقصورا وخذلانا، فيعطيهم منزل الكتاب العلىّ الكبير مزيدا من التيسير بعد أن يعطيهم مزيدا من التأكيد على أن الكتاب كتابه، وأن الكلام ¬

(¬9) فصلت الآيات 2 - 4. (¬10) يوسف الآية 2. (¬11) الزخرف الآية 3. (¬12) سورة هود الآيتان 13، 14.

كلامه فيوحى إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. (¬13) ثم يتبع المولى هذه الحجة البالغة بحجة أخرى تخرس الكفار فيما يخرصون وتلجم ألسنتهم عما يكذبون فينزل قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. ثم تتم الآية التالية كمال صيغة التحدى بقوله عز وجل: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (¬14). ويجتهد القاضى عياض- إمام المغرب- فى تعليل إنكار المنكرين بقوله: «فلم يزل يقرعهم النبى صلّى الله عليه وسلّم أشد التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ ويسفه أحلامهم ويحط أعلامهم وهم فى كل هذا ناكصون عن معارضته محجومون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتكذيب والإغراء والافتراء وقولهم: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ وسِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وإِفْكٌ افْتَراهُ وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وقد قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فما فعلوا وما قدروا. ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم، ولما سمع الوليد بن المغيرة- وهو من فصحائهم- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ النحل: 90 قال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما هو بكلام بشر. وذكر أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ الحجر: 94 فسجد، وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام، وكان موضع التأثير فى هذه الجملة هو كلمة «اصدع» فى إبانتها عن الدعوة والجهد بها والشجاعة فيها، وكلمة «بما تؤمر» فى إيجازها وجمعها. وسمع آخر رجلا يقرأ: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا (¬15). قال: «أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام» (¬16). وفى مقام إعجاز القرآن وحقيقة كونه لا يماثله كلام بشر، وأنه كلام رب العالمين الذى لا يجاريه كلام مخلوق، الحديث الذى تمثل به الشيخ ابن عاشور فى المقدمة العاشرة: ما رواه مسلم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة- أى سورة الفاتحة- بينى وبين عبدى نصفين، ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، قال الله تعالى: حمدنى عبدى. وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، قال الله تعالى: أثنى علىّ عبدى، وإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قال: مجّدنى عبدى ¬

(¬13) سورة يونس الآيتان 37، 38. (¬14) سورة البقرة الآيتان 23، 24. (¬15) الضمير فى استيأسوا يعود على أخوة يوسف. (¬16) كتاب الشفا للقاضى عياض صفحة 56.

(وقال مرّة: فوّض إلىّ عبدى) فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قال: هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، قال: هذا لعبدى ولعبدى ما سأل» (¬17). وفى تلك الدراسة القيمة التى أعدها الشيخ الطاهر بن عاشور عن إعجاز القرآن وعن كونه كلام الله وليس كلام بشر، يضرب أمثلة عديدة لشهادة بعض عتاة الكفر قبل أن يسلموا مثل الوليد بن المغيرة- وقد أوردنا له فيما سلف وصفا للقرآن- ومثل عتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث وغيرهم. وكان الوليد بن المغيرة يذهب متخفيا بليل إلى بيت النبى صلّى الله عليه وسلّم ليتسمع تلاوة الرسول للقرآن الكريم- وكذلك يفعل أقرانه دون أن يخبر أحدهم زميله للغرض نفسه- فلما استمع الوليد إلى قراءة النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «والله ما هو بكاهن، وما هو بزمزمته ولا سجعه، وقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه، وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر». وكذلك فعل أنيس بن جنادة الغفارى أخو أبى ذر حين اتجه إلى مكة ليسمع من النبى صلّى الله عليه وسلّم ليخبر أخاه أبا ذرّ بما سمع، وكان أبو ذر مشوقا إلى سماع خبر عن القرآن من مصدر يثق به، وعن محمد الذى يتنزل عليه هذا القرآن، فعاد أنيس إلى أخيه ليخبره بما سمع فقال: «لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر- أى طرقه- فلم يلتئم، وما يلتئم على لسان واحد بعدى أنه شعر». فأسلم أنيس وأبو ذر (¬18)، وكان من شأن أبى ذر ما كان من اقترابه من رسول الله، ومن حب رسول الله له ما قد امتلأت به كتب السيرة والصحاح من كتب الحديث. لقد برع العرب حين نزول القرآن فى فنون الأدب التى كان الشعر أهمها شأنا وأخطرها أثرا، كانت لهم الفصاحة فى الخطب والأمثال والمحاورات، فجاء القرآن بأسلوب جديد صوغا ومحتوى صالحا لأغراض الحياة كلها تضمن الجديد من أغراض فنون القول جميعا: الخطابة والحوار والجدل والقصص والرواية والأخبار عن الأولين وضرب الأمثال وتربية المجتمع الإسلامى تربية رفيعة تصلح شأنه فى الدنيا وتسعد مصيره فى الآخرة. لقد آمن العرب جميعا بإعجاز القرآن لأنه كلام الله، كما اعترفوا بعجزهم من محاكاته أو الإتيان بآية واحدة من مثله على النحو الذى فصلناه فيما سلف من قول؛ ولكن فريقا ممن دخلوا فى الإسلام، أكثرهم من غير العرب- وإن كان الإسلام لا يفرق بين عربى وأعجمى- أطلقوا على أنفسهم «أهل العدل» وعرفوا بالمعتزلة، اخترعوا فرية حول إعجاز القرآن الكريم أطلقوا عليها «الصّرفة» ومعناها أن القرآن ليس معجزا بذاته ولكن سبب إعجازه أن الله صرف العرب عن أن ينشئوا مثله، وهو رأى فاسد، ومذهب قبيح، ¬

(¬17) تفسير التحرير والتنوير: المقدمة العاشرة صفحة 108. (¬18) المصدر السابق صفحة 114.

فيه تطاول على القرآن الكريم ومنزل القرآن الكريم- سبحانه وتعالى- وذهبت هذه الفرقة من القرآن مذاهب شتى، وابتدعوا فتنة عذّب بسببها عدد كبير من كبار علماء المسلمين ومات بعضهم فى السجن، وهذه الفتنة عرفت بفتنة «خلق القرآن» وتبناها ثلاثة من خلفاء بنى العباس وبعض من شايعهم، ولكن الله لطف بكتابه وبالمؤمنين من عباده، والمتقين من علماء دينه، فلم تستمر بفتنة طويلا، بل إن المذهب نفسه أصابه الانحلال وانفضّ المؤمنون عن المنادين به، ولم يبق منه إلا القليل فى فكر عدد محدود من علماء المسلمين المعاصرين. فالقرآن إذن هو كلام الله الذى جعله آية على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فى حمل الرسالة الخاتمة التى حمّلها المولى إياه والقيام بتبليغها إلى الخلق كافة. إن القرآن معجز للبشر كافة إعجازا مستمرا موصولا على مر العصور وكرّ الدهور؛ ومن جملة ما شمله قول أئمة الدين: أن القرآن هو المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، لأنه قد يدرك إعجازه العقلاء من غير الأمة العربية بواسطة ترجمة معانيه التشريعية والحكمية والعلمية والأخلاقية. (¬19) ولقد تحقق ذلك فى زماننا هذا بقدر ملحوظ، ذلك أن عددا غير قليل ممن قرءوا ترجمات معانى القرآن إلى لغاتهم قد آمنوا بقدسيته وأعلنوا إسلامهم وعملوا فى بلدانهم فى مجال التبشير بالإسلام، ويشاركوننا فى مؤتمراتنا وندواتنا الإسلامية مشاركة فاعلة ولهم الأجر من الله على دعوة قومهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. وما أطيب أن نختم هذا الفصل من الحديث عن بعض معالم القرآن الكريم بقول الله- منزل القرآن- عز وجل: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. (¬20) أ. د. مصطفى الشكعة ¬

(¬19) تفسير الشيخ الطاهر بن عاشور المقدمة العاشرة صفحة 105. (¬20) المائدة الآية 48.

(2) مفهوم السنن الإلهية لغة ومصطلحا

(2) مفهوم السنن الإلهية لغة ومصطلحا إن مادة «سنن» وردت فى القواميس والمعاجم متعددة المعانى وافرة المدلولات، متقاربة حينا ومتباعدة أحيانا أخرى كثيرة، وإن استعراضها على النحو المفصل الذى ورد فى المعاجم ليس من الفائدة فى شىء فى هذا المقام، أو بالأحرى فى هذه الدراسة التى ينحصر البحث فيها فى السنن الإلهية. يقول الفيروزآبادى: السنة- بضم السين- السيرة والطبيعة، ومن الله حكمه وأمره ونهيه، ويجيء صاحب المعجم بشاهد من الآية 55 من سورة الكهف فى قوله تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ الكهف: 55 أى معاينة العذاب. وسنن الطريق- مثلثة وبضمتين- نهجه ووجهته (¬1). ويقول الراغب الأصفهانى: السنن جمع سنة، وسنة الوجه طريقته، وسنة الله تعالى قد تقال لطريق حكمته نحو: اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (الآية 43 من سورة فاطر) وهو تنبيه أن فروع الشرائع وإن اختلفت صورها، فالغرض المقصود منها لا يختلف ولا يتبدل- وهو تطهير النفس وترشيحها للوصول إلى ثواب الله تعالى وجواره. (¬2) ويعرض معجم ألفاظ القرآن الكريم المادة على النحو الآتى: سنة الأولين: طريقهم وسيرتهم ويردف قوله بالشاهد من القرآن الكريم فى قوله تعالى فى الآية 38 من سورة الأنفال: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ. وسنة الله نظامه يجريه فى خلقه كما يريد: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (¬3) (الأحزاب: 38). وسنة من قد أرسلنا: طريق الله فيمن أرسلهم سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا. (¬4) ¬

(¬1) القاموس المحيط مادة سنن الجزء الثالث طبعة مصطفى البابى الحلبى. (¬2) المفردات فى غريب القرآن من مادة السين مع النون طبعة الأنجلو المصرية. (¬3) سورة الأحزاب الآية 38. (¬4) سورة الإسراء الآية 77.

سنن: جمع سنة: سير وطرق: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (آل عمران: 137) (¬5) (¬6) هذا عرض موجز لمعنى السنن الإلهية طبقا لما أوردته أهم المعاجم التى عنيت بالمصطلحات القرآنية ومن بينها بطبيعة الحال السنن الإلهية. وبرغم وصفنا لما عرضناه- مستمدا من المعاجم بإيجاز- فإن ما أوردته المعاجم نفسها فى هذه القضية كان بدوره شديد الإيجاز، وقد كان من المأمول أن يكون تناول المعاجم لمثل هذه المصطلحات القرآنية الهامة أكثر تفصيلا وأوفر تمثيلا، ذلك أن بعض المعاجم بل أكثرها كان يكتفى بذكر جزء مقتطع من الآية القرآنية الخاص بالمصطلح. من ذلك على سبيل المثال: ما أورده معجم ألفاظ القرآن حين تمثل بالآية رقم 137 من سورة آل عمران، ظنا من مؤلفيه أن مجرد ذكر الآية كافيا للوفاء ببيان المصطلح، مع أن التناول الذى يفى بالغرض هو التمثيل بالآية وما تلاها من آيات أخر، وذلك فى قول الله جل ثناؤه: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ثم يكمل: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. (¬7) إن الآيات الأربع تشمل عدة سنن إلهية وليس سنة واحدة، ومثلما أن الآيات اللاحقة تحقق استكمالا لنوعية السنن الإلهية وأغراضها فكذلك الحال- لمن يريد استيفاء هدفه فى هذا الشأن- أن يهتم بالآيات السابقة على آية «السنة» فى مثل قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (¬8) فالآية مسبوقة بآيات ثلاث طوال فى النكاح ومواطن تحريمه وهى الآيات رقم 23 - 25 وفيها يقول المولى سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ ¬

(¬5) سورة آل عمران آية 137. (¬6) معجم ألفاظ القرآن الكريم، مجمع اللغة العربية ط، مادة س ن ن صفحة 601. (¬7) آل عمران الآيات 37 - 40. (¬8) النساء الآية 26.

النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. بهذا المنهج يتحقق بيان السنة أو السنن التى ذكرت فى الآية 26 السالف ذكرها. وفى مجال دراسة لبعض السنن وإيضاح بعض ما يثار حولها من حوار أو نقاش (¬9) فقد حسمها المرحوم سيد قطب بقوله: «قد تأخذنا فى بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق السنن الإلهية حتى نرى أن اتّباع القوانين الطبيعية يؤدى إلى النجاح مع مخالفة القيم الإيمانية، هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه فى أول الطريق، ولكنها تظهر حتما فى نهايته؛ وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامى نفسه، لقد بدأ خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية فى حياته مع القيم الإيمانية، وبدأ خط هبوطه من نقطة افتراقها، وظل يهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عند ما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا». (¬10) ويضيف المصنف قائلا: «إن الوجود ليس موجودا لقوانين إلهية صماء عمياء فهناك دائما- وراء السنن- الإرادة المدبرة والمشيئة المطلقة». ومجمل القول عندنا: أن السنن الإلهية إجبارية تجرى على المخلوقات جميعا من أفراد وكائنات، وأن منهجنا فى هذا البحث محدد بمفهوم «السنن الإلهية» طبقا لتعريفها الذى أوردناه فيما سلف من سطور. أ. د/ مصطفى الشكعة ¬

(¬9) يراجع فصل هل للتاريخ البشرى سنن فى مفهوم القرآن فى كتاب «المدرسة القرآنية» للسيد محمد باقر الصدر صفحة 43 وما بعدها طبعة بيروت سنة 1400 هـ. (¬10) فى ظلال القرآن الكريم 1/ 17.

(3) سنن الإيمان بوحدانية الله وتنزيهه سبحانه

(3) سنن الإيمان بوحدانية الله وتنزيهه سبحانه إن الإيمان بالله- سبحانه- ربا واحدا لا شريك له، وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر هو روح الوجود وسنام العقيدة التى على مكوناتها تستقيم شئون الكون كله، والبشرية جزء منه. وقد تكفّل كتاب الله ببيان ذلك فى كثير من السور ما كان مكيا فيها وما كان مدنيا، وتكتمل الوحدانية والتنزيه فى قوله- عز وجل- فى سورة الإخلاص: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) وكذلك يتجلى التوحيد والتنزيه فى الآية الكريمة من سورة البقرة الآية 255 التى اصطلح على تسميتها بآية الكرسى وهو قوله عز وجل: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. وفى الساحة الإيمانية التنزيهية الموحدة يأتى قول الله- جل وعز- فى سورة الحشر الآية 24: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فالآية تجمع بين التوحيد وعلم الغيب والشهادة، والتنزيه بذكر خمسة عشر اسما من الأسماء الحسنى التسعة والتسعين، ويستطيع المتأمل الراشد أن يتبين كم من صيغ التوحيد والتنزيه مفردة ومجتمعة حفلت بها الآية الكريمة من كتاب الله. ثم يعظّم من شأن الألوهية وحتمية وجودها: شهادة الخالق- جل جلاله- مقرونة بشهادة ملائكته وعلماء بنى الإنسان الذين كرّمهم بذكر شهادتهم تالية لشهادته تباركت أسماؤه، مؤكدة وحدانيته، وأن الدين عند الله هو الإسلام. يقول الحق تبارك وتعالى فى

هذا الشأن: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (¬1). ثمت بيان آخر فى الآية حول أهل الكتاب وإصرارهم على كفرهم بعد ما جاءهم من صريح العلم بأن الدين عند الله هو الإسلام وهذا الإصرار مصدره الإصرار على مقام السيادة والرئاسة على قومهم وحسدهم بعضهم بعضا. وتجىء هذه السنة الإلهية فى صيغة إيمانية فيها مزيد من الشمول وكثير من التفصيل فى قول الله تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (¬2). ومن الآيات القرآنية التى تحمل سنن الله فى كمال الإيمان غير المشوب بما يعكر صفوه وينزهه عن الشوائب «آية البر» التى تتجمع فى أعطافها جواهر الإيمان وعناصره الأصيلة التى تجعل ممن يعمل بها مؤمنا بمفرداتها ممارسا لسائرها، قول الله جل ثناؤه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (¬3). إن لهذه الآية طبيعة خاصة فى أنها تنبه إلى فعل الخير وأنه ليس مقصورا على إقامة الصلوات، وأداء الفرائض وحسب، وبذلك يظهر المؤمن أنه قد أدى واجبه نحو ربه وأنه أدى ما عليه من دين، ولكن الأمر أوسع من ذلك بكثير، إن الأمر يتمثل فى تلك التوجيهات الربانية والتوجيهات الإيمانية التى قدمها القرآن الكريم واضحة المعالم والقسمات ظاهرة المعانى والتفصيلات فى نص تلك الآية الكريمة من سورة البقرة. أ. د/ مصطفى الشكعة ¬

(¬1) سورة آل عمران الآيتان 18، 19. (¬2) سورة آل عمران الآيتان 84، 85. (¬3) سورة البقرة 177.

(4) جزاء الإيمان بالله وثوابه

(4) جزاء الإيمان بالله وثوابه إن الإيمان بالله نعمة كبرى ونفخة مباركة عظمى فإن للمؤمنين حسن الجزاء من الله، وهو جزاء جميل فى الدنيا وجليل فى الآخرة، فهو فى الدنيا شعور بحلاوة الإيمان التى تقود إلى العيش فى حياة راضية ونفس مطمئنة، وسعادة أخرى برضى الناس عنهم والثقة فيهم والتقرب إليهم، هذا فضلا عن ذلك السياج الصالح الذى تعيش فى إطاره أسرهم من أزواج وأبناء وحفدة وكونهم عنوانا للخير ومثالا للصلاح، وأما جزاؤهم فى الآخرة فجنات عرضها السموات والأرض أعدها الله لهم ولأمثالهم من المتقين. ويضرب الله الأمثال لهؤلاء المؤمنين المتقين فى الكثير من آيات كتابه العزيز كما فى قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (¬1). إن هذه الآيات المباركات بسلاسة أسلوبها، وعبق نفحاتها، وصدق كلماتها، وإعجاز بيانها ونفاسة محتواها، وقداسة وعودها، وجلاء لفظها، ونضرة وقعها فى الأسماع والقلوب، كيف لم تطرق أسماع من تليت عليهم طرق المستجيب ووقع المستنير؟ ولكنهم بسبب عمق كفرهم وشراسة إعراضهم خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (¬2). وفى سورة أخرى من سور سنن مكافأة المؤمنين وحسن جزائهم يقول جل وعز: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) ¬

(¬1) سورة فصلت الآيات 30 - 35. (¬2) سورة البقرة الآية 7.

وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (¬3). إن مجموعات الآيات التى تحمل سنن الله فى حسن الجزاء يمكن أن نعدها آيات مبشرة معلّمة؛ لأنها دائما تبشر بعمل الخير، وتدعو إلى كمال الإيمان والتقوى وصالح الأعمال، وقد شاءت الإرادة الإلهية أن تكون صياغتها وألفاظها ذات إلف وإيقاع وحسن تقبل فى الأسماع والقلوب. ويضم القرآن الكريم عشرات من الآيات المفردة المبشرة بحسن الجزاء بحيث لا تكاد تخلو سورة من آية أو أكثر من هذه الآيات المباركات، والله- سبحانه- فضلا منه وكرما- يضفى على صياغتها الإلهية ما يجعل لها القبول نفسه الذى تحظى به مجموعات الآيات المتتالية التى نزلت فى هذا الغرض والتى منها على سبيل المثال قوله جل وعز: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (¬4). وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (¬5). وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (¬6). وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (¬7). يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (¬8). إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (¬9). أ. د/ مصطفى الشكعة ¬

(¬3) سورة الرعد الآيات 19 - 22. (¬4) سورة التوبة الآية 72. (¬5) البقرة الآية 25. (¬6) سورة النساء 122. (¬7) سورة إبراهيم الآية 23. (¬8) سورة الحديد الآية 11. (¬9) سورة القمر الآيتان 54، 55.

(5) سنة الله مع الكفر والكافرين

(5) سنة الله مع الكفر والكافرين لقد أوضحنا السنة الإلهية مع المؤمنين، ولما كان فريق كبير من الناس أرسل الله إليهم رسله ليؤمنوا به ربّا واحدا لا شريك له وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلم يستجيبوا لدعوة الإيمان وظلوا يتخبطون فى سراديب الكفر وظلام الضلالة، فقد عنى القرآن الكريم بوصف حالهم وتصوير عصيانهم وكشف كيدهم عدوانا على الأنبياء وإيذاء للمؤمنين، مع تكرار دعوة الإيمان المكللة بالعفو والغفران، وترك لهم الخيار فاختاروا طريق جهنم وانحازوا إلى سبيل الغواية الذى يؤدى بهم إلى نار الجحيم. إن هذا الفريق من الذين اختاروا الكفر عنادا واستكبارا واستسلموا لشياطينهم الذين أضلوهم- ونعنى هنا كفار قريش- قد استمعوا- بين ما قد استمعوا إليه من الكتاب الذى أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم- قول الله عز وجل: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. (¬1) إن الذين استمعوا إلى تلك الآيات من كتاب الله المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم المتلو على أسماعهم مبينا سنن الله فى شئون حياتهم مما احتوته الآيات من دعوة إلى الإيمان مؤيدة بالبرهان ثم ما تلاها من نذير لا يحول بينه وبينهم ما اتخذوه من أولياء من دون الله: ثم لم يؤمنوا، مستحقون للعذاب الذى هو أشد أنواع العقاب، إنه جهنم التى أعدها الله للكافرين. ولقد عنى الكتاب العزيز بوصف أحوالهم وإصرارهم على كفرهم وكشف كيدهم ولؤمهم، وبيان كذبهم على الله ورسوله ¬

(¬1) سورة الجاثية الآيات 3 - 10.

والمؤمنين، ودحض حججهم وتسفيه عللهم؛ وذلك لأن الشرك والكفر هما أسوإ سبيل لعصيان رب الكون وخالقه، وذلك فى قوله عز وجل: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (لقمان آية 13). يقول الله عز وجل فى شأن هؤلاء: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. (¬2) إن هؤلاء الكفار لم يقف الأمر بهم عند رفض الإيمان ولكنهم كانوا يصدّون الناس عن الإيمان بالترغيب تارة وبالترهيب والأذى تارات أخرى، وإن ما كان يصنعه طغاة مشركى قريش من إيقاع أشد أنواع الأذى بالذين آمنوا من المستضعفين مسطور فى كتاب الله ومسجل فى كتب السيرة. وفى هؤلاء أيضا يقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (¬3). وإن دائرة الكفر لا يقف الأمر بها عند إنكار الإيمان بالله، وإنما تتسع تلك الدائرة لتشمل من كفر بالملائكة أى أنكر وجودهم ومن كفر بكتب الله ورسله واليوم الآخر، وتلك ظاهرة عند بعض المعاصرين ممن يظهرون الإيمان، لكن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كلّ لا يتجزأ، وإن إنكار ركن من هذه الأركان الخمسة يخرج بصاحبه عن دائرة الإيمان، وفى ذلك يقول الله عز وجل فى محكم كتابه وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً (¬4) ثم تتضمن الآية التالية صورة أخرى للكفر هى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ثم تجىء الآية التالية لتكمل صورة الكفار بالمنافقين وذلك فى قول الله عز وجل: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (¬5). والمنافقون من أشد الكفار خطرا على المؤمنين؛ لأنهم يعمدون إلى الخديعة حين يتظاهرون بالإيمان ويبطنون أشد أنواع الكفر حقدا على المؤمنين وتضليلا لهم، ومن ثمّ كان مكانهم فى الآخرة هو الدرك الأسفل من النار تصديقا لقوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (¬6) وفى وصف تضليل هؤلاء المنافقين وخداعهم يقول المولى عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ ¬

(¬2) النساء الآيات 167 - 169. (¬3) سورة محمد الآية 34. (¬4) النساء من الآية 136. (¬5) النساء الآيات 137 - 139. (¬6) سورة النساء الآية 145.

بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. (¬7) لقد حفل الكتاب العزيز بآيات كثيرة مبثوثة فى مكانها الملائم لها فى عدد كبير من سوره، ولكن لما كان لهؤلاء المنافقين من خطر على دعوة الإيمان ومن زرع بذور الفتنة بين جموع المؤمنين فقد شاءت الإرادة الإلهية أن تفضحهم، وتستهزئ بهم بصورة متكاملة، دقة وصف وكمال بيان، وجمال عرض، وإعجاز أسلوب، فى هذه المجموعة المتفردة من آيات كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فخلفت عارا لكل منافق، وسبة لكل مخادع عند كل من وقعت عيناه عليها من الذين يتلون كتاب الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ويوم يبعثون. أ. د/ مصطفى الشكعة ¬

(¬7) سورة البقرة الآيات 8 - 16.

(6) توصيف القرآن لطوائف الكافرين

(6) توصيف القرآن لطوائف الكافرين إن القرآن الكريم حين تناول الكافرين بالحديث عنهم فإن منزّله- عز وجل- لم يترك كبيرة ولا صغيرة عن هذه الطوائف إلا وقد سجل ألوان الضلال التى اتصفت به، وأنواع الشرك الذى مارسته، وفنون الإفك التى اقترفتها، وحيل النفاق التى خاضت فى مزالقها، وأكاذيب الخداع التى أصرّت على الاستمساك بها، والضلالات التى تروت فى أعماقها. لم يكن ذلك- وحاشا لله- افتراء عليهم أو افتئاتا على فضائل صنعوها أو خيرات قدموها؛ ولذلك وصفتهم آيات الكتاب العزيز بالمشركين، والكفار، وأهل الضلالة، والمنافقين، وأتباع الشيطان، والخاسرين، وغير ذلك من صفات أهل النار، ومن ثم كانت الأمثال التى ضربت لحماقاتهم وكفرهم من السمو والإعجاز بمكان يقول الله سبحانه فى تقبيح فكرهم والاستخفاف بعجزهم: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. (¬1) إن هؤلاء الكفار من الغباء والعجز بحيث لا يستطيعون خلق ذبابة وهى من أضعف مخلوقات الله وأقلها شأنا، بل إن تلك المخلوقة الضعيفة لو سلبتهم شيئا فإنهم يعجزون عن استرداده، ومع ذلك فإنهم يكفرون بعبادة الله، ثم تقرع الآية التالية أسماعهم لعلهم يعقلون، وهى قوله جل وعزّ: ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. ولكن لقد ضلت أفئدتهم وقست قلوبهم وعميت أبصارهم وبصائرهم فلم يؤمنوا. ويضرب الله مثلا آخر لجمود هؤلاء المكابرين وعناد أولئك الضالين الذين هم على شاكلة سابقيهم فى المثل السابق، وفى هذا المثال ييسر على هؤلاء الضالين طريق الإيمان فى آيتين، ويردف بآية توصيف حال هؤلاء الكافرين بآية ثالثة تظهر إصرارهم على الضلال، ثم يختم بآية رابعة لعلها توقظ حسّ الإيمان فى قلوبهم ونور اليقين فى أفئدتهم ولكنهم لا يهتدون: لقد قدّت قلوبهم من صخر، وسلبت بصائرهم فطرة الإيمان. ¬

(¬1) سورة الحج الآية 73.

يقول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ. (¬2) يقول ابن عباس (¬3) فى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً أى: خوفا من الصواعق وطمعا فى الغيث الذى يعقب البرق فيحيى الأرض وينبت الزرع. وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ أنه تعالى شديد القوة والبطش والنكال، القادر على الانتقام ممن عصاه. بعد هاتين الآيتين اللتين تجمعان بين الوعد والوعيد وإظهار نعم الله الخالق وقدرته على البطش بالكافرين، تجىء الآية التى تصف من لا يستجيبون لدعوته- سبحانه- وهى دعوة الحق لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (¬4). لقد ضلت أفئدتهم، وقست قلوبهم، وعميت أبصارهم وبصائرهم فلم يؤمنوا. ومثل آخر يضربه الله سبحانه لأعمال الكفار التى قد يكونون قصدوا بفعلها الخير فى الدنيا؛ من صدقة مبذولة أو صلة ذى رحم وبيان أنه لا فائدة منها ما دام فاعلها أو فاعلوها عاشوا على الكفر والإشراك بالله، فمثلها مثل الرماد فى يوم عاصف ذهبت ريحه به فى الهواء، ومن ثم فإن أعمال الكفار لا يقبلها الله بل يمحقها كما تمحق الريح الرماد فى يوم اشتدت رياحه وهاجت عواصفه، يقول رب العزة جلّ ثناؤه: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (¬5). ومن لطف الله ورحمته يتبع سبحانه هذه الآية- مثلما حدث مع مثيلات لها فى مثل هذا الموقف سبق لنا التمثل بها- بآية تحمل التوجيه الحميد وتهدى إلى الإيمان لو كانوا يعقلون، فيقول جل من قائل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. ولكن القوم ضلت قلوبهم وقست أفئدتهم وعميت أبصارهم وبصائرهم فأصروا على الكفر ولم يهتدوا. وفى سورة النور يضرب الله مثلين فى آيتين متتابعتين لأعمال الكفار التى لا طائل من وراء ¬

(¬2) سورة الرعد الآيتان 12، 13. (¬3) صفوة التفاسير 3/ 76. (¬4) سورة الرعد الآية 14، 15. (¬5) سورة إبراهيم الآية 18.

بذلها ما داموا على كفرهم- إذ لا ثواب للكافرين- والآيتان هما قوله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (¬6). وهذان المثالان من آيتى النور لهما مكانة خاصة ومقام متميز بين مثيلتهما من الآيات التى تمثل أعمال الكفار وطبيعتهم- أستغفر الله فكلام الله جميعه على أوفى صورة من التميز- ولكن هاتين الآيتين مسبوقتان بأربع آيات جليلة ترشح للدخول إليهما، ثم تتبع الآيتين موضع التمثيل آيتان أخريان تمثلان خاتمتين إيمانيتين تمجدان الذات الإلهية وتحملان من يقرأها إلى مقاصد الرشاد وسبل الإيمان. فأما الآيات الأربع السابقة على آيتى توصيف أعمال الكفار فهى قول الله- عز وجل- عن ذاته العلية فى أولاها: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (¬7). إن الآية الأولى من هذه الآيات الأربع لو قرئت على شخص أمّى قد تغيب عنه معانى بعض ألفاظها فإن قلبه ينفتح لذكر نور الله إيمانا وطهرا، فما بالنا لو قرأها عالم بمعانيها وما تضمنته من إعجاز نورانى وبهاء إلهىّ، وأما الآيات الثلاث الأخرى فتجمع ثلة من عناصر الإيمان جمعها الله سبحانه فيها، مثل بيوت الله وهى المساجد ذات المقام الأسمى عند المؤمنين فيها يؤدون الصلوات ويسبحون بحمد ربهم، وهم الذين يسعون فى طلب الرزق حلالا عن طريق التجارة التى لا تلهيهم عن ذكر الله وأداء شعائره: إقامة صلاة وإيتاء زكاة وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ. ¬

(¬6) سورة النور الآيتان 39 - 40. (¬7) سورة النور الآيات 35 - 38.

ثم بعد هذه الآيات المضيئة يضرب الله المثلين لأعمال الكفار فى آيتين: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً إلى آخر الآية. والمعنى: أن أعمال الكفار التى يعملونها فى الدنيا بحسبانها أعمالا صالحة نافعة لهم فى الآخرة، لن تجدى فتيلا، فهى كالسراب الذى يظنه الظمآن ماء وهو ليس بماء بل ليس بشيء حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أى حسابه على كفره بربه. والآية الثانية أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها والمعنى، أن أعمال الكفار لا تنفعهم، بل إنها كظلمات كثيفة فى بحر عميق مائج هائج يعلوه سحاب، فإن تراكم طبقات الموج مع طبقات السحاب يحجب الضياء، حتى إن الكافر لا يكاد يرى كفه إذا أخرجها. وليس أشد ظلمة من ظلمة الموج لمن مارس الأسفار فى البحار والمحيطات، وهذا التشبيه العجيب فى نظر الإنسان، وبخاصة إنسان عصر المبعث، حقيقة مخيفة، وأما فى العصر الحديث فقد حملت بحارا غير مسلم إلى الإيمان بالله بعد أن قرأ الآية الكريمة فى ترجمة لمعانى القرآن خاصة بعد أن عرف أن محمدا لم يجرب ارتياد البحار القريبة فضلا عن عبور المحيطات التى تحدث فيها هذه الظاهرة. لقد ختم الله الآية الكريمة- وعمادها وصف كلمة البحار والمحيطات- بقوله عز وجل: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ وذلك تعقيبا على ظلام عمل الكفار. وفى اجتهاد بعض المفسرين لهاتين الآيتين: أن الله ضرب المثل الأول لعمل صالح قام به الكافر فمثل له بالسراب الخادع، وضرب الثانى ومثل له بالظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض لاعتقاده السيئ وذلك فى الختام الرائع وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (¬8) إن من المبهر فى السنن الإلهية فى المثلين المتتاليين سالفى الذكر حيال تصوير أعمال الكفار أنهما قد سبقا بآيتى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وفِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وأنهما أتبعتا بثلاث آيات إيمانية تسبح له فى أولاها- السموات والأرض، والطير السابحات الصافات بين السماء والأرض- وتفرد الآية الثانية أن لله ملك السموات والأرض، وتشرح الآية الثالثة قدرة الخالق على خلق السحاب ومراحل تكوينه حتى يصير ركاما ينزّل الغيث ¬

(¬8) صفوة التفاسير 2/ 348 - سورة النور آية 40.

من خلاله كما ينزل مع الغيث جبالا من البرد مقرونة بسنا برقه الذى يكاد يذهب بالأبصار، وذلك فى قوله جل وعزّ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (¬9). تلك أمثلة قليلة عن توصيف المولى- جل وعلا- لأعمال الكفار، وهو- جل جلاله- لا يقدم توصيفا لعمل من أعمال الكافرين إلا ويقدم قبله آية أو آيتين إيمانيتين ترشح قارئها للإيمان رحمة منه وعدلا، وتنبيها للقلوب المغلقة، وإيقاظا للنفوس النائمة فى ظلام الضلال. فأما المثال الأخير المكون من عملين وتوصيفين متتابعين لأعمال الفئات الضالة فقد قدم- جل جلاله- قبلهما آيتين باهرتين، إحداهما: يوضح فيها نور ذات، ويذكر بيوته المأهولة بمرتاديها من عباده المؤمنين الصالحين. ثم يختم الآيتين- موضع التوصيف والمؤاخذة- بثلاث آيات باهرات هادية إلى اليقين داعية إلى الإيمان. ولكن القوم ضلت قلوبهم وقست أفئدتهم، ويبست مشاعرهم وعميت بصائرهم فأصروا على الكفر وباءوا بخسران مبين. أ. د/ مصطفى الشكعة ¬

(¬9) سورة النور الآيات 41 - 44.

(7) تتابع سنتى الإيمان والعصيان فى آية واحدة أو أكثر

(7) تتابع سنّتى الإيمان والعصيان فى آية واحدة أو أكثر ومن السنن الإلهية الإيمانية فى القرآن الكريم أن تأتى سنة الإيمان وجريرة العصيان فى الآية الواحدة أو فى آيتين متجاورتين رحمة من الرحمن الرحيم بخلقه من بنى الإنسان، حيث يضع الحسن والقبيح متجاورين، وينزل الإيمان والكفر متتاليين حتى يكون العبد على بيّنة من أمره، من آمن بالخير اتخذه طريقا، ومن ارتضى العصيان فهو المسئول عن سوء ما ارتضى، والآيات فى هذه السنّة كثيرة شأنها فى ذلك شأن آيات الإيمان وشأن آيات فضل الله على العباد، ولأن هذا النوع من الآيات يبين رحمة الله بخلقه وعدله بين عباده، فقد رأينا أن نقدم نماذج منها، وهذه النماذج وإن تكن قليلة بالقياس إلى ما حفل به الكتاب العزيز منها، فإن قليلا من الخير فى أحيان كثيرة يغنى عن كثيره، وإن كانت هذه القاعدة لا يجمل بنا أن نجعلها مقياسا ونحن نتعامل مع القرآن الكريم، كلام الله الذى أنزل على سيد خلقه وخاتم رسله وأنبيائه. يقول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ. (¬1) ويقول الله- عز وجل- فيمن استجابوا لربهم والذين لم يستجيبوا: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ. (¬2) وفى الفرق بين طلاب الدنيا وطلاب الآخرة يقول عز وجل: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ ¬

(¬1) سورة الحشر الآيات 18 - 20. (¬2) سورة الرعد الآية 18.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (¬3). والذى يستوقف القارئ المتمعن فى هذه الآيات هو أن منزل الكتاب جلت قدرته حسم القضية فى آية واحدة هى أولى الآيات الثلاث فى إيجاز وإعجاز، ثم يتبع فى الآية الثانية بقصر الكلام على طلاب الدنيا فى إطار من التوبيخ والوعيد، وتكمل أولى كلمات الآية الثالثة وصف حال الظالمين بما يشبه الإشفاق؛ ثم تكون بقية الآية تتويجا لحال من أرادوا حرث الآخرة بأنهم فى روضات الجنات لهم ما يشتهون عند ربهم ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ فشتان- فى القول الإلهى- بين حال الفريقين: لطلاب حرث الآخرة روضات الجنات، وللآخرين عذاب عظيم. ولمن يسلم وجهه إلى الله، وعن من يكفر، يقول رب العزة: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (¬4). ولا ينبغى لنا ونحن بسبيل العيش فى رحاب كلام الله ألا نشير إلى أن هنا خطابا من العزيز الحميد موجها إلى حبيبه ورسوله يخفف عنه بعض ما يمكن أن يكون قد لحقه من حزن ألمّ به لإصرار بعض أهل الكتاب على شركهم، يجادلون فى توحيد الله وصفاته بغير علم أو برهان. إنّ أحد أكابر المفسرين (القرطبى) قال: إن الآية نزلت فى يهودى جاء إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد، أخبرنى عن ربك من أى شىء هو؟ فجاءت صاعقة فأخذته (¬5). وهنا ينبغى أن نذكر أن الآيتين موضع الاستشهاد مسبوقتان بآيتين كاشفتين هما قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ. (¬6) ومن السنن الحسنة والسيئة التى مثل الله لها فى آيتين متجاورتين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، فالأولى دالة على الخير والإيمان، والثانية دالة على الخبث والكفران، وفى ذلك يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ ¬

(¬3) سورة الشورى الآيات 20 - 22. (¬4) سورة لقمان الآيات 22 - 24. (¬5) القرطبى 14/ 74. (¬6) الآيتان 20، 21 من لقمان.

الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ. (¬7) وإن ما قد عود الله عباده عليه من قارئى كتابه العزيز، أن هذا القبيل من الآيات التى تتجاور فيها آيات الإيمان مع آيات الكفران تكون مسبوقة حينا بمدخل إيمانى يتمثل فى آية كريمة، وحينا آخر تكون مسبوقة بآية أو آيات إيمانية متسقة مع روح الآية التالية لها ثم متبوعة بآية أو آيات تعزيزية كما هو الحال فى آيات سورة النور التى سبق التمثيل بها، وكما هو الحال هنا فى آيات الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، فآية الكلمة الطيبة مسبوقة بآية يقول الله سبحانه فيها: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ. وآية الكلمة الخبيثة جاءت تالية لها آية فى إطراء وتثبيت للمؤمنين وإنذار ووعيد للظالمين فى قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ. (¬8) إن خير ما نختتم به هذا الفصل هو قول الله تعالى: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا. أ. د. مصطفى الشكعة ¬

(¬7) سورة إبراهيم الآيات 24 - 27. (¬8) سورة إبراهيم الآيات 27، 29.

(8) سنن الخلق

(8) سنن الخلق الله- سبحانه وتعالى- هو الخالق البارئ المصور، إنه خالق كل شىء بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) (¬1). لقد أكرمنا الله- سبحانه- ونحن نستعرض فى القرآن الكريم الآيات التى تحمل سنن الخلق وهى كثيرة وخصيبة وهادية ومرشدة وكافية وشافية ومقنعة ومعجزة، ووقفنا أمامها كما ينبغى للعبد أن يقف أمام كلمات خالقه، خالق الكون بكل ما فيه، وتحيرنا بأى الآيات نبدأ هذه الشريحة من آيات سنن الخلق، فإذا بنا ونحن نقرأ سورة الأنعام وما حفلت به من سنن الخلق تقع أعيننا على الآيتين سالفتى الذكر وفيهما تتكرر عبارة خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ففي الآية الأولى يقول جل وعز: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وفى الآية الثانية يقول عز وجل: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ فاستخرنا الله وجعلنا الآيتين استهلالا للحديث عن سنن الخلق. وإنه بسبب وفرة آيات سنن الخلق وثرائها فى نطاق القداسة الربانية رأينا أن نتناول ما يتيسر تناوله منها فى نطاقين: نطاق الآيات التى يمكن أن نطلق عليها الآيات الكونية، والجانب الآخر هو نطاق الإنسان وما يتصل به باعتبار أن الله- سبحانه- كرمه بين خلقه واستخلفه فى أرضه، وسخر له كل شىء. سنن الله فى الآيات الكونية: إن كلّ الآيات الكونية متضمنة «خلق السموات والأرض» إذ منهما يتشكل الكون الذى عرف الإنسان منه النزر اليسير، وغاب عنه الكثير الوفير، وبمضى الأزمنة يكتشف الإنسان ما يتيسر له اكتشافه بالعقل الذى وهبه الله إياه والعلم الذى فرض الله عليه طلبه. والذى يلاحظه قارئ آيات الكتاب العزيز: أن الآيات الكونية بعد أن يذكر فيها خلق السموات والأرض، يجدها مليئة بعد ¬

(¬1) الأنعام الآيتان 101، 102.

ذلك بالعديد المتباين من سنن الله خلقا وإبداعا. يقول الله جل شأنه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (¬2). بعد استهلال الآية بذكر الله للسماوات والأرض، نجد فيضا من نعم الله التى أنعم بها على خلقه من نزول الغيث وإخراج الثمرات وتسخير الفلك للإنسان تجرى به فى البحار، بل وسخر لهم الشمس والقمر دائبين، وسخر الليل والنهار فلكل منهما شأن ثم أجابهم الله إلى كل ما سألوه من نعمه التى يعجزون عن إحصائها. وعلى النسق نفسه من ذكر سنن الله فى خلقه، وإسباغ نعمه عليهم يقول الله عز وجل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) (¬3). إن هذه الآية من سورة البقرة، تحمل من الألفاظ والمسميات كثيرا مما تحمله الآيات السابقة من سورة إبراهيم، ومن ثم يذهب الظن بل اليقين عند بعض من لا يعرفون العربية وبخاصة من المستشرقين، أن فى القرآن الكريم ما يطلقون عليه ظاهرة التكرار، وقد وقع فى الخطأ نفسه بعض أبناء المسلمين ممن درسوا على تلك الطائفة من المستشرقين، وغاب عنهم أن اللفظ الذى تكرر فى آيات سورة إبراهيم وآية البقرة، يؤدى وظيفة تختلف من حيث الهدف والمنهج عن تلك الوظيفة التى أدتها هناك، فالماء فى الآيات الأولى نزل على أرض خصبة فأخرج من الثمرات رزقا، والماء فى الآية الأخرى نزل على أرض ميتة فأحياها لتكون صالحة للغرس والإثمار، والفلك فى الآية الأولى مسخرة بأمر الله لنفع الناس، والفلك فى الآية الثانية تجرى أيضا بما ينفع الناس. ولكن الهدف من ذكرها هنا كونها آية لبرهان على قدرة الله عند القوم الذين يعقلون، وكذلك الشأن فيما يتعلق بذكر الليل والنهار، فإن ذكرهما فى الآيات من سورة إبراهيم نعمة سخرها الله للناس على النحو الذى بيناه هناك، وأما ذكرهما فى آية البقرة فإنما ¬

(¬2) سورة إبراهيم الآيات 32 - 34. (¬3) سورة البقرة الآية 64.

جاء على سبيل الإقناع إذ الهدف من ذكرهما هو أن كلا من الليل والنهار يخلف أحدهما الآخر بصورة دائمة لا تتبدل ولا تتوقف، ومثل ذلك كثير فى آيات الكتاب العزيز التى لا يفقهها إلا من توفرت لديه أدوات فهم اللغة العربية، فضلا عن أن ثمة شروطا كثيرة حددها علماء الأمة ينبغى توفرها عند من يعرض لتفسير القرآن الكريم. نعود مرة أخرى إلى المنهج الذى سرنا عليه فى ارتباط ذكر خلق السموات والأرض فى آيات كتاب الله الكونية لتتمثل بقول الله عز وجل: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) (¬4). وإن وقفة التدبر هنا موقعها معجزة خلق الكون، ممثلا فى السموات والأرض فى ستة أيام، ثم الاستواء على العرش، وفى تتابع الليل والنهار بصورة أكثر تفصيلا، وهى كون الليل والنهار يغشى أحدهما الآخر حثيثا؛ أى أن الليل يغطى على النهار فيذهب بضوئه ويطلبه سريعا حتى يدركه. (¬5) وإذا كان الكون كله من إبداع الخالق الأعظم، فمن المقطوع به أن الشمس والقمر والنجوم مسخرة جميعا بأمر الله، والآية جميعها موقوفة على الجزء السماوى من سنن الله الكونية؛ إعجازا وإدراكا لجميع البشر، ومن ثم كان ختامها متسقا مع مدلولاتها وذلك بقول الله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. ومعجزة الخلق فى ستة أيام يراها القرطبى أنها مثيلة لأيام الدنيا ويقول: «لو أراد لخلقها فى لحظة، ولكنه سبحانه أراد أن يعلّم العباد التثبّت فى الأمور» (¬6). وفى آية أخرى يقول- جل وعزّ- لتأكيد فترة الخلق فى ستة أيام: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) (¬7). وموقع التدبر هنا أن عرش الله كان على الماء، ويرى الزمخشرى أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض (¬8)، فإذا عدنا إلى الماء موضع التدبر وجدنا فى الآية توبيخا لكفار مكة لأنهم ينكرون البعث والنشور. ومن الآيات الكونية المترعة بالسنن الإلهية- بدون ذكر خلق السموات والأرض- قول الله عز وجل: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي ¬

(¬4) الأعراف الآية 54. (¬5) صفوة التفاسير المجلد الأول صفحة 450 الطبعة الرابعة. (¬6) تفسير القرطبى المجلد السابع صفحة 217. (¬7) سورة هود الآية 7. (¬8) الكشاف المجلد الثانى صفحة 380.

لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) (¬9). تضم هذه الآية أربعة عناصر تمثل سننا إلهية، وهى موضوع اهتمام الخلق جميعا، إنها الليل والنهار والشمس والقمر، وليس عجبا أن كل اثنين من هذه المعالم الأربعة مرتبط بقرين له، فالليل والقمر مرتبط أحدهما بالآخر، وكذلك النهار والشمس مرتبط كلاهما بالآخر، وهى جميعا تمثل سننا إلهية ذكرت كل واحدة منها فى القرآن الكريم عشرات المرات. وفيما يتعلق بذكر الليل والنهار، فإن ثمة نوعا من التكافؤ حادث بينهما إذ لا غنى للعيش بدونهما، وإذا كانت آية الأعراف تضمنت قوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً حسبما مرّ بنا قبل قليل، فإن الأمر يختلف هنا، إذ يقول المولى عز وجل: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ، وليس ذلك من قبيل التضاد، وإنما هو من قبيل الموازنة والمساواة بين قيمة كل من الليل والنهار. وأما ذكر الشمس والقمر مقترنين أحدهما بالآخر، فتلك من سنن الله الخالدة الباقية إلى أن تقوم الساعة، ويتجلى ذلك فى قوله عز وجل: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39). وإذا كان بعض المفسرين لم يصل اجتهاده إلى المعنى القرآنى، فإن المفسرين المحدثين قد وفقوا إلى المراد من الآية؛ وهو أن الشمس تدور حول نفسها، وكان المظنون أنها ثابتة فى موضعها ولكن عرف أخيرا أنها ليست مستقرة فى مكانها، وإنما هى تجرى فى اتجاه واحد فى الفضاء الكونى الهائل، ولا بأس بهذا التفسير، وإنما نحن نوضح أنها فى سيرها محكومة بالمجرة التى تضم ملايين الشموس الأخرى، ولعل شمسنا التى أطلعنا الله عليها، والتى جعلها مصدرا من مصادر حياتنا هى- على ضخامتها الهائلة- من أصغر شموس المجرة التى تحتويها وتعرف بمجرة سكة اللبان، وهذه المجرة التى لا تعرف بدايتها من نهايتها، هى واحدة من ملايين المجرات التى يضمها الكون الذى خلقه الله جلت قدرته بغير حدود. هذا وإن الشمس فى جريانها تتحرك بقدرة السميع العليم. ولا يفوتنا فى هذا المقام الذى جرى فيه توصيف الشمس، أنها مسخرة هى والقمر لعوامل أرادها لهما الخلاق ¬

(¬9) سورة يس الآيات 38 - 40.

العظيم وذلك فى قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (¬10). ولعل من خير ما جاء به المفسرون من قدامى ومحدثين فى هذا المقام، هو ما قال به أخونا فى الله الشيخ محمد على الصابونى برغم إيجازه الشديد: «أن الله- سبحانه وتعالى- ذلل الشمس لمصالح العباد، كل يسير بقدرته- تعالى- إلى زمن معين هو زمن فناء الأرض» (¬11). على أن أحدث ما كتب فى شأن سنة الله فى تسخير الشمس والقمر، وأقربه إلى المراد القرآنى هو ما سطره أخونا فى الله الدكتور زغلول النجار بقوله: «من معانى تسخير كل من الشمس والقمر ضبط حركة كل منهما لما فيه صلاح الكون واستقامة الحياة على وجه الأرض، ومن معانى أن كلا منهما يجرى إلى أجل مسمى أن الكون ليس بأزلى ولا بأبدى، بل كانت له فى الأصل بداية تحاول العلوم المكتسبة تحديدها، وكل ما له بداية لا بدّ وأن تكون له فى يوم من الأيام نهاية، لها من الشواهد الحسية فى كل من الشمس والقمر ما يؤكد على حتميتها، والحقائق القاطعة بتسخير الشمس عديدة جدا منها: (1) الاتزان الشديد بين تجاذب مكونات الشمس وتمددها ... وقد بقيت الشمس مستمرة فى الوجود تحت هذا التوازن العجيب على مدى عشرة بلايين من السنين على أقل تقدير وإلى أن يرث الله- تعالى- الكون ومن فيه، ولولا هذا التوازن الدقيق لانفجرت الشمس كقنبلة نووية عملاقة أو لانهارت على ذاتها تحت ضغط جاذبيتها خاصة وأنها مجرد كرة ضخمة من الغازات. (2) تسخير طاقة الشمس من أجل ضبط حركة الحياة على الأرض، ذلك أن الشمس تطلق من مختلف صور الطاقة ما يقدّر بحوالى خمسمائة ألف مليون مليون مليون (ثلاث مرات) حصان فى كل ثانية من ثوانى عمرها، ويصل إلى الأرض من هذا الكمّ الهائل من الطاقة حوالى الواحد فى الألف، وبدون هذه الطاقة الشمسية تستحيل الحياة على كوكبنا؛ لأن كلا من النبات والحيوان والإنسان يعتمد فى وجوده بعد إرادة الله الخالق- سبحانه وتعالى- على قدر الطاقة الذى يصله من أشعة الشمس، كذلك وإن كل الظواهر الفطرية التى تحدث على الأرض وما حولها تعتمد على الطاقة القادمة إلينا من الشمس، فتصريف الرياح وإرسال السحاب وإنزال المطر وبقية دورة الماء حول ¬

(¬10) سورة الرعد الآية الثانية. (¬11) صفوة التفاسير المجلد الثانى صفحة 73.

الأرض، وما يصاحب ذلك من تسوية وتمهيد لسطح الأرض، وشق الفجاج والسبل فيها وتفجير للأنهار والجداول من حجارتها، وخزن الماء تحت سطح الأرض، وتكوين التربة والصخور الرسوبية، وحركات الأمواج فى البحار والمحيطات، وعمليات المد والجزر، وغير ذلك من عمليات وظواهر، تحركها طاقة الشمس بإرادة الله. (3) تكوين نطق الحماية المختلفة للأرض بفعل طاقة الشمس، ذلك أن إرادة الله شاءت أن يحمى الحياة على سطح الأرض بعدد من نطق الحماية التى لعبت أشعة الشمس- ولا تزال- الدور الأول فى تكوينها بعد إرادة الله، منها النطاق المغناطيسى للأرض وأحزمة الإشعاع ونطاق الأوزون، وهذه النطق تتعاون فى حماية الأرض من كل من الأشعة فوق البنفسجية والكونية، ومن الجسيمات الكونية الدقيقة والكبيرة التى منها النيازك والشهب، ولو لم تكن هذه النطق موجودة لاستحالت الحياة على الأرض، وإن وجود هذه النطق صورة من صور التسخير التى لم تكن معروفة فى زمن الوحى بالقرآن الكريم، ولا بعد قرون متطاولة من تنزيله حتى نهايات القرن العشرين الميلادى. (4) تحديد الزمن، إذ أنه يتحدد كل من الليل والنهار ويوم الأرض وشهورها وفصولها وسنيها بدورة الأرض حول محورها، وبسبحها فى مدارها حول الشمس، وبذلك يستطيع الإنسان إدراك الزمن وتحديد الأوقات والتاريخ للأحداث، فبدورة الأرض حول محورها أمام الشمس يتبادل الليل والنهار ويتحدد يوم الأرض. وبسبح الأرض فى مدارها حول الشمس بمحور مائل على الأفق تتحدد الفصول المناخية من الربيع والصيف والخريف والشتاء، كما تتحدد سنة الأرض التى يتقاسمها اثنا عشر شهرا شمسيا تحددها بروج السماء الاثنا عشر المتتابعة» (¬12). هذا بيان بتفسير سنة الله فى تسخير الشمس، ثم نعود إلى سورة يس مرة أخرى وننعم النظر فى قوله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. يقول ابن كثير فى تفسير هذه الظاهرة الكونية الإلهية: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ؛ أى جعلناه يسير سيرا آخر- غير سير الشمس- يستدل به على معنى الشهور كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار كما قال عز وجل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ. ويمضى ¬

(¬12) بحث عنوانه «وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى» جريدة الأهرام اليومية المصرية صفحة 12 بتاريخ 30 سبتمبر 2002.

المفسر فى حديثه عن كل من الشمس والقمر إلى أن يقول: أما القمر فقدره منازل يطلع فى أول ليلة من الشهر ضئيلا قليل النور ثم يزداد نورا فى الليلة الثانية ويرتفع منزله، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء، وإن كان مقتبسا من الشمس حتى يتكامل نوره فى الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع فى النقص إلى آخر الشهر حتى يصير «كالعرجون القديم». قال ابن عباس: هو أصل العذق، وقال مجاهد: العرجون القديم أى: العذق اليابس. يعنى أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى (¬13). ويجيء تفسير الجلالين- بالرغم من منهجه إيجازا فيزيد الظاهرة تفصيلا فيقول: قدرناه من حيث سيره منازل ثمانية وعشرين ليلة من كل شهر ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما، وليلة إن كان تسعة وعشرين يوما، حتى عاد فى آخر منزله «كالعرجون القديم»، تعود الشماريخ جمع شمراخ وهو عيدان عنقود النخيل الذى عليه الرطب إذا عتق فإنه يرق ويتقوس ويصغر (¬14). ويقول مثل ذلك صاحب صفوة التفاسير (¬15). ثم يعرض الأستاذ الدكتور زغلول النجار لتفسير هذه الآية فى ضوء التقدم الكبير فى علم الفلك فى السنوات الأخيرة، فيتحدث عن منازل القمر فى علم الفلك حديثا مسهبا ويزيد الأمر وضوحا فى إيضاح الإعجاز العلمى فى الآية الكريمة فيقول: «نظرا للارتباط الشديد بين مراحل أشكال القمر المتتالية من الهلال الوليد إلى التربيع الأول إلى الأحدب الأول إلى البدر، ثم إلى الأحدب الثانى ثم الهلال الثانى ثم المحاق إلى الهلال الجديد فى الشهر القمرى الجديد وبين منازل القمر الثمانية والعشرين وهى مواقعه اليومية المتتالية فى السماء بالنسبة إلى نجوم تبدو مواقعها قريبة ظاهريا، فإن التعبير بمنازل القمر يمكن إطلاقه على مراحل القمر المتتالية وعلى منازله المتواقعة مع تلك المراحل- أى مواقعه المتتالية فى السماء- باعتبار المنازل- جمع منزل- وهو المنهل والدار. وإن تقدير هذه المنازل القمرية فيه من الدلالة على طلاقة القدرة الإلهية ما فيه لأهميته فى معرفة الزمن وتقديره وحسابه باليوم والأسبوع والشهر والسنة، وفى التأريخ للعبادات والأحداث والمعاملات والحقوق، ولما فيه من تأكيد على ضبط سرعة القمر ضبطا دقيقا؛ من أجل الحيلولة دون ارتطامه بالأرض فيفنيها وتفنيه، أو انفلاته من عقال جاذبيتها فينتهى إلى نهاية لا يعلمها إلا الله وفى الوقت نفسه الارتباط الدقيق بين سرعة دوران كل منهما حول محوره، فإذا زادت ¬

(¬13) انظر تفسير ابن كثير المجلد 3 صفحة 549، 550. (¬14) تفسير الجلالين المجلد الثانى. (¬15) المجلد الثالث صفحة 15.

إحداهما قلّت الأخرى بنفس المعدل. ويمضى الأستاذ العالم الدكتور زغلول النجار قائلا: ولما كانت سرعة دوران الأرض فى تناقص مستمر بمعدل جزء من الثانية فى كل قرن من الزمن، فإن سرعة دوران القمر فى تزايد مستمر بنفس المعدل تقريبا، مما يؤدى إلى تباعد القمر عن الأرض بمقدار ثلاثة سنتيمترات فى كل سنة، وهذا التباعد سوف يخرج القمر فى يوم من الأيام من إسار جاذبية الأرض ليدخله فى نطاق جاذبية الشمس فتبتلعه تحقيقا للنبوءة القرآنية التى يقول فيها الحق تبارك وتعالى: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. (¬16) ومن هنا كانت هذه الإشارة القرآنية المعجزة إلى وصف مراحل القمر المتتالية فى كل شهر، والتى يقول فيها ربنا سبحانه وتعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. ويمضى الأستاذ الدكتور زغلول قائلا: ويضاف إلى هذه المعجزات القرآنية التى لا تنتهى أبدا، وصف المرحلة الأخيرة من مراحل الدورة الشهرية للقمر؛ بالعرجون القديم: وهو العنقود من الرطب (العذق) إذا يبس وانحنى واصفر لونه، وهو عند يبوسه على النخلة ينحنى تجاهها، فكذلك الهلال الثانى ينحنى بطرفيه تجاه الأرض، بينما الهلال الوليد ينحنى بهما بعيدا عنها فما أروع هذا التشبيه القرآنى. ويختم الدكتور زغلول بقوله: هذه الحقائق عن القمر لم يدركها العلم الكسبى إلا بعد مجاهدة استغرقت آلاف العلماء وعشرات القرون، وورودها فى آية واحدة من كتاب الله الذى أنزل على نبى أمىّ وفى أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين، ومن قبل ألف وأربعمائة سنة، مما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذى أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله وتعهد بحفظه حفظا كاملا. (¬17) وقوله تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ «يس: 40» هو سنة إلهية عظمى من سنن الله فى خلقه، ذلك أن الشمس والقمر إذا اجتمعا محا ضياء الشمس نور القمر، لأن القمر يستمد نوره من ضوء الشمس فتكون الأوقات كلها نهارا لا ليل فيها، والحال نفسها تحدث إذا سبق الليل النهار، ولكن نتيجة ذلك تكون مضادة لنتيجة اجتماع الشمس والقمر، إذ الحال فى سبق الليل النهار أن تكون الأوقات ليلا وحينئذ يختل نظام الحياة على الأرض؛ لأن إرادة الله جعلت طبيعة الحال على كوكب الأرض ينقسم اليوم فيها إلى ليل ونهار، ولليل ¬

(¬16) القيامة الآيات 7 - 9. (¬17) جريدة الأهرام المصرية، مقال بعنوان «والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم» الصفحة الثانية عشرة بتاريخ 2 سبتمبر 2002 م.

اتساع الكون وزيادته بغير حدود.

طبيعته ووظيفته، وللنهار طبيعته ووظيفته، وقد بينا ذلك تفصيلا فى تفسير آية تسخير الشمس والقمر، والله سبحانه هو الذى سخرهما لصالح الحياة على الأرض، فالشمس لها مدار لا تتجاوزه، والقمر له مدار ومنازل لا يحيد عنها ولا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يكون الجمع بينهما إلا يوم القيامة تبعا لقوله- عز وجل- فى سورة القيامة: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) (الآيات: 7 - 12). اتساع الكون وزيادته بغير حدود. قبل أن ننهى الحديث عن الكون والسماوات وسنن الله فيهن، ننبه إلى ما يقوله علماء الفلك والباحثون فى شئون الكون المعاصرين وأحاديثهم عن المجرات التى لا يعرفون مداها، وأن كل مجرة من هذه المجرات الملايين لا يستطاع تحديد سعتها، حتى إنهم قالوا: إن المجرة التى توجد فيها شمسنا وما يسير فى مدارها من كواكب تضم ملايين الشموس التى تعد شمسنا وما يتبعها من كواكب هى أصغر الشموس حجما ومن أقلها شأنا، وأن هذا الكون الذى يضم ملايين المجرات دائم الاتساع بغير حدود، والجدير بالذكر أن هؤلاء العلماء ليسوا من المسلمين بل إن أكثرهم من الماديين، وما عرفوا أن القرآن الكريم قد سجل الله فيه ما توصلوا إليه بعد طول البحث والتفانى فى بذل الجهد لمعرفة شىء يعلل ما قد توصلوا إليه من أن الكون يزيد اتساعا. يقول الله- جل وعز- فى سورة الذاريات: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ وموضع الدهشة يكمن فى الآية الأولى، فقد فهمها المفسرون القدامى على النحو الذى توصل إليه دارسو الكون من العلماء المعاصرين، ولو أنهم أو بعضهم قرأ القرآن لسارع إلى الإيمان واعتناقه، مثلما فعل عدد غير قليل من غير المسلمين الذين قرءوا القرآن ووقعت أعينهم على الكثير من السنن الإلهية التى يحفل بها الكتاب العزيز، وقد عرفنا كثيرا من هؤلاء العلماء والمستنيرين الذين أسلموا طوعا واقتناعا بعد قراءتهم القرآن الكريم مترجما إلى لغاتهم. يقول المفسرون فى قوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أى شيدنا السماء وأحكمنا خلقها بقوة وقدرة. وقال ابن عباس: بأيد: يعنى بقوة. ويقولون فى وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أى لموسعون فى خلق الملائكة (¬18) وتلك ¬

(¬18)،

تفسيرات غريبة «أغرب منها ما قاله قتادة من زيادة الخلق الملاحة فى العينين والحسن فى الأنف والحلاوة فى الفم (¬19). ومن المحدثين من المفسرين تنبه الشهيد الأستاذ سيد قطب إلى أن الأيدى هى القوة، والقوة أوضح ما ينبئ عنها بناء السماء الهائل التناسق بأى مدلول من مدلولات كلمة السماء سواء أكانت تعنى مدارات النجوم والكواكب أم تعنى مجموعة من المجموعات النجمية التى يطلق عليها اسم المجرة، وتحوى مئات الملايين من النجوم (¬20). ولو أن المرحوم سيد قطب نسئ له فى أجله الذى مضى على انقضائه نحو سبع وثلاثين سنة، واطلع على الاكتشافات العلمية الحديثة لأكمل الصورة كاملة لمداومة اتساع الكون بحول من الله خالقه سبحانه وتعالى. وفى حقيقة اتساع الخلق والزيادة فيه، يستفتح المولى- سبحانه وتعالى- سورة فاطر بقوله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إن دليل الحسم على ما تعبر عنه الآية هنا هو ذلك الشطر من الآية بقوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- ومعنى الخلق هنا هو عملية الخلق. والأمر العجيب: إن عددا من المفسرين لم يوفق إلى مدلول الآية ومن ثم كان الخطأ الذى وقعوا فيه، فابن الجوزى على سبيل المثال يرى أن زيادة الخلق مقصود به الملائكة، والفهم نفسه يقول به القرطبى الذى يفسر يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أى: يزيد فى خلق الملائكة كيف يشاء. وغير ذلك كثير من سوء الفهم الذى أدى إلى خطأ التفسير، وإن الذى يقرأ الآية بعمق وإمعان حتى من المحدثين- وإن كان بعض مشهورى المفسرين المحدثين وقعوا فى الخطأ نفسه- ينتهى إلى الفهم الذى هو أقرب إلى الصواب، ومرة أخرى نعرض لنص الآية وهى قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ فقصر المفسرون الزيادة فى الخلق على الملائكة دون السموات والأرض اللذين تتلاءم زيادة الخلق فيهما أكثر من ملاءمتها لزيادة الملائكة. ومن ثم تكون جملة يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ الأقرب إلى الصواب الذى يعنى اتساع الكون منه إلى قصر زيادة الخلق على الملائكة، والسموات بالذات هى ما نراه أرجح قصدا لانسجامها مع بنية الآية، ولقول الله عز وجل فى سورة النازعات: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ ¬

(¬19) آراء بعض المفسرين التى أوردها صاحب صفوة التفاسير المجلد الثانى صفحة 564، 566. (¬20) فى ظلال القرآن المجلد السادس صفحة 3385.

خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (¬21). والحق أن الحديث عن السنن الإلهية فى خلق السموات حديث طويل يحوى من نعم الله- سبحانه- ما لا يتسع له المقام فى هذا البحث، الذى روعى فيه الإيجاز، لأسباب اقتضتها طبيعة الموضوع الكبير الذى يشكل بحثنا هذا جزءا منه. أ. د. مصطفى الشكعة ¬

(¬21) سورة النازعات الآيات 27 - 31.

(9) السنن الإلهية فى خلق الأرض

(9) السنن الإلهية فى خلق الأرض الأرض هى الكوكب الوحيد الذى خصه الله- سبحانه وتعالى- بعنايته وفضله بين ملايين الكواكب والنجوم، فى ملايين المجرات التى يضمها الكون، الذى لا يعرف حقيقته إلا الله الذى خلقه. لقد هيأ الله الأرض للحياة بكل أنواعها لجميع من منّ عليهم بالحياة فيها برا وبحرا وجوا وظاهرا وباطنا، وشرفها بما لم يشرف به كوكبا آخر مع قدرته غير المتناهية على خلق ما يشاء، وذلك طبقا لمعلوماتنا المحدودة كبشر، المستمدة من كتابه العزيز وسنة رسوله وخاتم أنبيائه صلّى الله عليه وسلّم. لقد أراد الله- سبحانه وتعالى- أن تكون الأرض مستقرا لآدم وذريته من البشر، بعد أن وسوس الشيطان لكل من آدم وزوجته أن يقربا الشجرة التى حرّمها الله عليهما وذلك فى قول الله عز وجل: وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (¬1). ولما كانت قصة آدم وخروجه وزوجته من الجنة وهبوطهما إلى الأرض من الأهمية بمكان، فقد وردت مرة أخرى فى سياقها من سورة البقرة فى قول الله عز وجل: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ (¬2). لقد اقتضت المناسبة والإرادة الإلهية تذكيرا للبشرية بوجودها فى الأرض، ذلك ¬

(¬1) سورة الأعراف: الآيات 19 - 25. (¬2) سورة البقرة: الآية 30.

الحوار الذى أجراه المولى مع ملائكته على النحو الذى ذكرنا فقال جل ثناؤه: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (¬3). وإذا كانت الآيات السابقة قد اقتصر الخبر فيها على نزول آدم إلى الأرض واستقراره وزوجته فيها إلى حين، فإن الآيات الأخرى من الكتاب العزيز قد أوضحت أن الله- سبحانه- قد خلق البشر من الأرض، ثم يعيدهم إليها بعد الموت، ثم يخرجهم منها مرة أخرى يوم النشور، جاء ذلك فى الحوار الذى جرى بين موسى وهارون من ناحية وفرعون من ناحية أخرى فى قوله عز وجل: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (¬4). ذلك خبر نزول آدم وزوجته إلى الأرض، ومن وجود البشر جميعا فيها: مولدا ومستقرا وبعثا ونشورا، وإذا كان بعض البشر يرون فى خروج آدم من الجنة وإنزاله إلى الأرض حرمانا لهم من البقاء فى الجنة التى أخرج آدم منها وشرا أصابهم، فإنهم بذلك يكونون قد ارتكبوا خطأ وإثما كبيرا، لأن تلك إرادة الله والإرادة الإلهية لا يصدر عنها إلا ما فيه صالح البشرية، وصالح البشرية يقتضى- وقد وهبهم الله العقل وأرسل إليهم النبيين والمرسلين- أن يعملوا بتعاليمه التى حملها إليهم المرسلون، فمن آمن فقد استحق الجنة ومن لم يؤمن فحسابه عند ربه، وربنا لا يظلم مثقال ذرة مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (¬5). أما وقد جعل الله الأرض سكنا ومستقرا لعباده من الجن والإنس فقد جرت مشيئته بتحصينها وكمال السيطرة عليها وعلى ساكنيها، فلا يستطيعون العبث بها أو النفاذ منها أو الانعتاق من بقائهم بين ظهرانيها إلا بسلطان هو باعثه ومسيطر عليه، جاء ذلك فى صيغة التحدى من القول والحسم فى الخطاب، حيث يقول جل شأنه: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (¬6). ¬

(¬3) سورة البقرة: الآية 36. (¬4) سورة طه: الآيات 49 - 55. (¬5) سورة فصلت: الآية 46. (¬6) سورة الرحمن: الآيات 33 - 36.

ويتبع المولى- سبحانه- هذا التحدى الحاسم بتسجيل ألوهيته المكينة فى تثبيت قدرته المتينة فى أن كل شىء فى السموات والأرض يسجد له، من شمس وقمر ونجوم وجبال ودواب وأناس إلا من انحرف من البشر عن الصراط القويم فيقول عز من قائل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (¬7). وفى إطار من مزيد تأكيد قدرته وتمكين إرادته إزاء خلقه الذين منهم المؤمن الطائع والمنكر، فيسجل قدرته العظمى فى خلق السموات وبنائها وبسط الأرض وإثرائها وذلك فى قوله جل وعز: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (¬8). بهذا الخطاب القرآنى المعجز الحاسم يبدى منزل القرآن آياته الحاسمة حكما، القاطعة مشيئة، المترعة بفضله وكرمه، وبيان مننه الإلهية ليس على الإنسان وحده، وإنما هى للإنسان وما يملك من أنعام وحيوان. هذه الأرض التى خلقها ومنّ بها على الإنسان خلقا من طينها ومستقرا فى بيوتها ومساكنها واستمتاعا بخيرها من زرع وضرع، ثم بعد ذلك استخلافا فيها وثواء فى ثراها، قد غمره تكريما وأنعم عليه بالمنة العظمى، بأن جعل لذاته العلية بيتا فيها يؤمه الناس حجا وعمرة وصلاة وعكوفا، وينزل الآيات البينات فى تكريم بيته وتأمين من يعيشون حوله، رزقا فى الدنيا وثوابا فى الآخرة. لقد كرم الله الأرض وساكنيها بأن جعل لذاته العلية أول بيت بنى فيها، إنه كما وصفه الله مبارك وهدى للعالمين، وأن فيه مقام إبراهيم، وأن من دخله كان آمنا، وأن على كل مسلم مستطيع أن يحج إليه، وكيف لا يكون آمنا من دخله وهو بيت الرحمن، وأن كل من حج إليه أو طاف به فهو ضيف الرحمن، فهل هناك منة إلهية فى هذا المجال أعظم وأجلّ من تلك المنة التى سجلها القرآن الكريم بقول الله عز وجل: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (¬9). ويؤكد المولى- سبحانه- أن الكعبة هى البيت الحرام- وجعلها قياما للناس وصلاحا ¬

(¬7) سورة الحج: الآية 18. (¬8) سورة النازعات: الآيات 27 - 33. (¬9) سورة آل عمران: الآيتان 96، 97.

لحالهم واطمئنانا لمعاشهم، وفى هذا البيت يلوذ الخائف ويأمن المطارد ويربح التاجر، وكذلك جعل الله الشهر الحرام- وهو شهر ذى الحجة وتلحق به ثلاثة شهور أخرى- حرمة وأمنا وهى ذو القعدة والمحرم ورجب، يقول الله سبحانه وتعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (¬10). ومرة أخرى يزيد الله بيته تكريما، وهو دعاء يدعو به المسلم أول ما يقع بصره على الكعبة، فيدعوا الله كما كان يدعوه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم زد بيتك هذا تعظيما وإجلالا وتكريما». يقول الله عز وجل: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (¬11). فى الآية السابقة يذكر المولى- سبحانه- أنه- تكريما لإبراهيم وإسماعيل- أمرهما بتطهير بيته- جل وعلا- من الأصنام والأوثان حتى تقر أعين الطائفين حول البيت والمعتكفين فيه والراكعين والساجدين من أن تقع على علامات الشرك وذرائع الكفر، ثم تكون بعد ذلك منة ما يعرف عند المسلمين بدعوة إبراهيم التى سأل فيها رب العزة قائلا: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تلك الدعوة التى استجاب الله لها، وهذه الاستجابة ماثلة إلى يومنا هذا وإلى يوم تقوم الساعة، واستجابة المولى لدعوة إبراهيم هذه من المنن العظمى لأن هذا البلد- مكة- آمن إلى يوم الدين، وأهله مرزوقون رزقا موسعا بإذنه تعالى إلى يوم الدين. وتتجلى عظمة الخالق وفيض كرمه بألا يقف أثر دعوة إبراهيم على من آمن منهم بالله واليوم الآخر، بل يقول رب العزة: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا أى فى الدنيا، لأن هؤلاء الكافرين يسرى عليهم كرم الله لأنهم يعيشون فى كنف بيته الآمن، ولأنه تعالى يرزق المؤمن والكافر فى الدنيا فهو الرزاق الكريم، فإذا ما حلت الآخرة كان جزاء الكافرين متكافئا مع كفرهم، أما المؤمنون فجزاؤهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا. ¬

(¬10) سورة المائدة: الآيتان 97، 98. (¬11) سورة البقرة: الآيتان 125، 126.

السير فى الأرض:

ثم تتواكب الآية التالية مع أخواتها الآيات السالفات الذكر من كلام رب العالمين، وهى ليست آيات متواكبة متتابعة وحسب، وإنما هى منن عظمى متتالية متزاحمة يجود به رب العزة على إبراهيم وذريته- ونحن جميعا وقراء هذه الكلمات منهم بإذن الله- وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (¬12). إن ضمن هذه الآيات المتواكبة بل المنن المتوالية دعوة عظمى أخرى لسيدنا إبراهيم، ذلك أنه دعا ربنا أن يبعث فيهم- أى فى ذريته- رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم كتابك والحكمة ويزكيهم، فاستجاب له ربنا وبعث فينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ووضعنا على المحجة البيضاء: تلا علينا آياتك وعلمنا كتابك ووجهنا إلى صراطك المستقيم، وهو الرسول الخاتم الذى اخترته مبلغا لأسمى رسالة: خاتمة الرسالات التى سوف تظل تحرسها بهدى من كتابك العظيم، ويسهم فى التذكير بها والعمل على حفظها ونشرها من اخترته من أتباع دينك المستقيم، إلى أن ترث اللهم الدنيا ومن عليها وأنت أكرم الأكرمين وخير الوارثين. السير فى الأرض: إن الأرض التى خلقها الله للإنسان لكى تستقر حياته فيها مليئة بمنن الله على خلقه، مكتظة بآيات خالقها التى ما إن يتفكر الإنسان فيها وفيما تقع عليه عيناه فى أرجائها الواسعة لن يملك إلا أن يؤمن بالله ربا واحدا خالقا مبدعا، هذا فضلا عن آيات أخرى كثيرة، ومنن ربانية لا حصر لها، فيكون بين أمرين لا ثالث لهما: إيمان، وحسن جزاء، أو نكران وسوء عقاب، وإذن فلا مفر له من أن يطيع أمر خالقه بالسير فى أكناف الأرض حتى لا يكون له عند الله حجة إذا لم يستجب لأمره ويذعن إلى الاتجاه إلى الخالق الأعظم. يقول جل شأنه وتباركت مشيئة، (الخطاب هنا موجه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم): قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (¬13). ¬

(¬12) سورة البقرة الآيات: 127 - 129. (¬13) سورة الروم الآيات: 42 - 44.

هكذا يكون مصير الخلق، من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فقد وطأ لنفسه مكانا فى الجنة، وهو ما تشير إليه الآية المعقبة على الآيتين السابقتين، وذلك فى قول الله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (الروم: 45). ويقول المولى موجها الخطاب مرة أخرى وفى نفس الغرض إلى عبده ورسوله ومبلغ رسالته، أن يطلب إلى الذين لا يؤمنون أن يسيروا فى الأرض ليتفكروا كيف بدأ الله الخلق، وكيف أن الله يميتهم ثم يحييهم مرة أخرى أو ينشئهم نشأة أخرى، وأنهم جميعا إليه ينقلبون قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (¬14). ويظل التوجيه الإلهى بصيغة الخطاب الموجه من الله إلى عبده ورسوله، فى إطار من التشجيع والمواساة وذلك فى قوله تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (الأنعام: 10). ويتكرر الخطاب إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يظل على صيغة أمر الكفار بالسير فى الأرض لتتسع آفاق المعرفة عندهم فيعرفوا عاقبة المكذبين قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (الأنعام: 11) ويظل النهج القرآنى العظيم على رسله فى خطاب الرسول ولكن بصيغة «قل» وذلك فى قوله تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (¬15). وتتخذ آيات الكتاب العزيز نهجا متغايرا فى السير فى الأرض، فبعد أن كان «السير» أمرا صار خبرا استنكاريا؛ ذلك أن عقاب الله حاق بالكافرين لأنهم ساروا فى الأرض وعلموا خبر الذين كفروا وخبر الذين آمنوا، ومع ذلك ظلوا مستمسكين بكفرهم، فدمر الله عليهم أسباب حياتهم، وذلك فى قوله تعالى فى سورة محمد: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (¬16). ¬

(¬14) سورة العنكبوت: 20 - 22. (¬15) سورة الأنعام: الآية 12. (¬16) سورة محمد: الآيات 10 - 12.

منحة إلهية مقرونة بمعجزات ربانية:

إن الأمر الإلهى للناس بالسير فى الأرض ليؤمنوا منّة كبرى، لأن الذين يسيرون فى الأرض فينظرون حكمة الله فى خلقه وعظم آياته فى الكون يسارعون إلى الإيمان، والذين يفعلون ذلك ثم لا يؤمنون لا يكون لهم على الله حجة فى كفرهم، فقد رأوا مفاتيح الإيمان وبدائع صنع الله وظلوا على نكرانهم، وإن من فضل الله على الأمة الإسلامية أن جعل طلب العلم فريضة على المسلمين دون سائر الأمم السابقة، والعلم عند المسلمين لا تكتمل أسبابه إلا بالرحلة أو السير فى الأرض بلغة القرآن الكريم، وإن كبار علماء المسلمين لم تكتمل لهم أسباب النبوغ العلمى- سواء أكان علما دينيا أو علما دنيويا- وكلاهما مطلوب- إلا بالرحلة، وإن حديث العلم والعلماء فى الإسلام وما قاموا به من رحلات وأسفار وسير فى الأرض سوف يكون له مكانة فى هذا البحث بمشيئة الله بعد قليل. منحة إلهية مقرونة بمعجزات ربانية: إن معجزات الخالق- سبحانه وتعالى- كلها منن على خلقه، منها ما تفضل ربنا علينا مقرونا بمعجزة، ومنها ما جاء فضلا منه ورزقا وكرما منه ولطفا. فمن المعجزات المقرونة بمننه سبحانه وتعالى قوله جل وعز: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (¬17). أما المعجزة فهى أن السماوات والأرض كانتا جسما واحدا ضخما متماسكا ففصل الله بقدرته بينهما، وجعل السماوات مستقلة والأرض كذلك، وتدخل معجزة «الرتق والفتق» فى سلك معجزات الخلق الأولى، وبمعجزة الفتق يسّر الله الأرض للناس وأنعم عليها بالماء الذى لا حياة فيها إلا به، وبغير الماء لا تكون حياة، وإتماما لمننه على الأرض وساكنيها ثبت أركان الأرض، وثبت كيانها بالجبال الضخمة التى جاء المصطلح القرآنى فسماها «رواسى»؛ لأنها تجعل الأرض فى ثبات واتزان، وجعل فى هذه الجبال سبلا وفجاجا يسلكها الناس فى تحركاتهم وتنقلاتهم وأسفارهم، وذلك فضل الله يلمسه كل من عاش أو زار أقطارا فى الأرض جبلية. ومن المعجزات المقرونة بالمنن الإلهية أيضا قول الله عز وجل: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (¬18). ¬

(¬17) سورة الأنبياء: الآيتان 30 - 31. (¬18) سورة النحل: الآيات 15 - 18.

الله- سبحانه- يذكّر الناس بالرواسى التى ألقاها فى الأرض، للسبب الذى سلف ذكره فى الآية السابقة، وكذلك السبل التى شقها فيها تيسيرا على الناس، ثم يضيف المولى- سبحانه- منة خلق الأنهار التى يرتوى منها البشر والحيوان والنبات، وخلق النجوم التى يهتدون بها فى سفرهم ليلا برا وبحرا. ثم يوبخ المولى- سبحانه- الذين لم يؤمنوا به فى كل من الآيتين، ففي معجزة «الرتق والفتق» تكون مؤاخذة الله للكفار فى صيغة السخرية بهم وبعقولهم، وفى الآية التى نحن بصددها تكون السخرية أيضا فى صيغة الاستفهام الاستنكارى فى قوله عز وجل: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ثم تكون الإضافة القرآنية الشريفة تقريعا للكافرين وتذكيرا للمؤمنين فى قوله جل وعز: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. صدق ربى جلت قدرته فمن الذى يستطيع إحصاء نعمه وأفضاله ومننه وعطاياه. وفى المقام نفسه يلفت المولى- سبحانه- عباده عن معجزة خلق السماوات، وما ميزها به من نجوم وكواكب جعلها زينة لها، ومعجزة خلق الأرض وتثبيتها بالجبال الرواسى وما منّ به من خلالها على الناس من الغيث يتنزل من السماء، فأنبت فيها كل ما تشتهيه الأنفس من حدائق ونخيل، وبعث الحياة فى الأرض الميتة، وتلك من المعجزات الكبرى، ويجعل ذلك مثالا للبعث الذى كذب به الكافرون، هذا فضلا عن بلاغة الإعجاز فى وصف مننه سبحانه على تعدد أنواعها تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وفى ذلك كله يقول جل من قائل: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (¬19). ويتمثل الإعجاز القرآنى المعبر عن المنن الإلهية فضلا عن خلق الأرض وإنبات الثمر والزرع فى جنات وأعناب وزرع ونخيل، أنها جميعا تسقى من ماء واحد مع أنها تختلف طعما وتتفاوت حسن مذاق، وهى قدرة لا يستطيع إنجازها إلا الله القادر الخلاق العظيم، لقد أنعم الله على خلقه بتلك المنن لتكون آيات للعاقلين على أن الله هو- وحده- الخلاق العظيم. يقول جلت قدرته فى كتابه ¬

(¬19) سورة ق: الآيات 6 - 11.

العزيز: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (¬20). ويزيد المولى من الإنعام بمننه الكثيرة بالتذكير ببعض ما ورد فى آيات سابقات وبالجديد منها ما يمثل عبرا للعباد مثل عبرة الأنعام فى إخراج لبنها من بين فرث ودم، ومثل معجزة النحل التى أوحى فيها إلى تلك الحشرة البديعة السخية بالعطاء أن تتخذ بيوتها فى الجبال والشجر الكثيف، وأن تسلك سبيل ربها فى جمع طعامها من كل الثمرات والأزهار، وإن سبيل خالقها فى ذلك لا يكون إلا الطعام الطاهر النظيف الذى ينتهى بإخراج شراب مختلف ألوانه من بطونها فيه شفاء للناس، إنه النعمة الكبرى المتمثلة فى العسل المختلف الألوان والنكهة والتى تسهم فى شفاء الأجسام وإبراء السقام. يقول جل شأنه: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (¬21). إن الله- سبحانه- لطيف بعباده يغمرهم بفضله وينعم عليهم بمننه، ولا يحب لهم إلا الطيب من الطعام، وينأى بهم عن الأطعمة المحرمة لأنها من دس الشيطان ووسوسته، إن الشيطان لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء، وإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا. يقول جلت قدرته وتباركت أسماؤه ودامت نعمه ومننه: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (¬22). ومن المنن الكبرى التى أنعم الله بها على الإنسان تلك الأنعام التى نتخذ من جلودها بيوتا، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا، يقول الله- عز وجل: وَاللَّهُ جَعَلَ ¬

(¬20) سورة الرعد: الآيتان 3، 4. (¬21) سورة النحل: الآيات 65 - 69. (¬22) سورة البقرة: الآيات 168، 169.

لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (¬23). ومن آيات الله العظمى، ومننه الكبرى: الرواسى؛ التى هى الجبال التى تشكّل ميزانا للأرض فى حركتها وثباتها؛ فضلا عما تضمه هذه الجبال من نعم يتأمل العابد أمرها، وذلك فى قول الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) (¬24). إلى هذه النعم الكبرى التى احتوتها الآيتان سالفتى الذكر الدواب والأنعام التى خلقها المولى ورزقها، وجعل منها رزقا لعباده فى مختلف بقاع الأرض، وتصديقا لهذا القول فإن الله- سبحانه وتعالى- يقول فى سورة هود وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) (¬25). وقد يعرف الإنسان مكان الدواب التى ينتفع بها ويتملكها، ولكن ثمة دواب أخرى لا يعلم مستقرها ومستودعها إلا الله، فتلك المخلوقات التى تعيش فى باطن الأرض وبين الأحجار، وبعضها لا يعيش إلا داخل الحجر نفسه، وتلك آية من آيات الله التى لا يقدر عليها إلا الخالق الأعظم الذى خلق كل شىء، ورزق كل شىء. ومنن الله- سبحانه وتعالى- فى الأرض لا حدود لها، ففيها ألقى الرواسى، وفيها أنبت كل شىء مما يحتاجه العباد فى معاشهم؛ بل إن الله- سبحانه وتعالى- أرسل الرياح لتعمل عملها بين السحاب الذى ينزله الله من السماء ماء لسقيا خلقه من إنسان، وحيوان، ونبات؛ بل إنه- سبحانه، يخزن بعضا من هذا الماء فى جوف الأرض لكى يتفجر من بين الأحجار ماء عذبا ذلالا يجرى فيصنع أنهارا يستقى منها الإنسان والحيوان والنبات، ويتمثل ذلك فى قول الله- عز وجل: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) ¬

(¬23) سورة النحل: الآيات 80 - 82. (¬24) سورة فاطر: الآيتان 27، 28. (¬25) سورة هود: الآية 6.

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) (¬26). وفى فضل الجبال التى تعد معلما خالدا من معالم الأرض، يقول الله- سبحانه وتعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (¬27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (¬28) (27). ولا يغيب عن فطنة القارئ لكتاب الله، الربط بين الجبال والمياه، لأن الجبال يتفجر منها المياه العذبة كما أوضحنا فى الآيات السابقة. وفى تسخير الخالق الأعظم ومننه التى منّ بها على عباده؛ خلقه البحار والمحيطات التى تجرى فيها الفلك كالأعلام، وأنه من فضله يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، رأفة منه بخلقه، ورحمة منه لعباده، وفى ذلك يقول- جل وعز: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) (28). وإن الأرض على الرغم من مساحتها الواسعة التى يتخذ الناس منها معاشا، وسكنا، ومستقرا، يغلب عليها فى ساحاتها الواسعة عنصر الماء، بحيث أن هذا الماء يغطى نحو ثلاثة أرباع الأرض، وإن النعم التى تزخر بها البحار لمما يستعصى على الإنسان حتى اليوم إحصاؤه والتعرف عليه، وقد أخبرنا الله- سبحانه وتعالى- ببعضه، وذلك فى قوله- عز وجل-: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) (¬29). والماء الذى فى البحار أكثره مالح وأقله عذب، وفى ذلك يقول- جل وعلا: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) (¬30). وهكذا كل من البحرين العذب الفرات والملح الأجاج يسوق المولى من كل منهما لخلقه، يأكلون أنواع الأسماك والأطعمة الأخرى؛ فضلا عن الحلى التى تستخرج من كل من البحرين، وبخاصة اللؤلؤ الذى يعيش فى الماء العذب مثلما يعيش فى الماء الملح. ¬

(¬26) سورة الحجر: 19 - 23. (¬27) سورة المرسلات: 25 - 28. (¬28) سورة الحج: 65. (¬29) سورة النحل: 14. (¬30) سورة فاطر: 12.

ومن المنن الكبرى التى ضمنها الله- سبحانه وتعالى- كتابه العزيز قوله- سبحانه: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) (¬31). وتلك الحقيقة من آيات الله العظمى، ومننه الكبرى بحيث يتدفق الماء العذب الفرات، ويموج الملح الأجاج، ويخلق بينهما فاصلا قد لا يكون من الأرض، بل كثيرا ما يكون من الماء نفسه، وهذه الحقيقة تتبدى بوضوح عند مصبات الأنهار الكبرى، مثل نهر الأمازون فى أمريكا الجنوبية، الذى يندفع الماء العذب بين أحضان الماء المالح لمسافة تمتد لنحو ثلاثمائة كيلومتر فى قلب المحيط، يستطيع الإنسان فى أى موقع من هذه المسافة الطويلة أن يشرب ماء عذبا سائغا، دون أن يختلط به قطرة واحدة من الماء المالح، وكنا نحن قبل ثلاثة عقود من الزمان نرى ذلك فى نهر النيل أيام فيضانه الذى كان يستطيع صائدو الأسماك أن يشربوا مياه عذبة داخل البحر الأبيض المتوسط لعديد من الكيلومترات داخل البحر المالح الذى يغذوه الماء العذب، ويشكل برزخا وحجرا محجورا. بل إن هذا الأمر- أمر الماء العذب الفرات والملح الأجاج- لا يقتصر عليهما مرج البحرين- العذب والمالح- وإنما يحدث ذلك بين البحار الملحة، ويتضح ذلك فى قول الله تعالى فى سورة الرحمن: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) (¬32). وهذه الحقيقة تتضح فى لقاء البحر الأحمر ببحر العرب الذى هو جزء من المحيط الهندى، ذلك أن مياه البحر الأحمر أشد ملوحة، وأكثر حرارة من تلك التى فى بحر العرب، فلا يمتزج ماؤهما عند اللقاء، وإنما يجلف ماء البحر الأحمر- لطبيعته السالف ذكرها- إلى أسفل مياه بحر العرب، كما قرر العلماء المختصون بعلوم البحار. والظاهرة نفسها تتكرر عند لقاء مياه البحر الأبيض المتوسط عند خليج جبل طارق بمياه المحيط الأطلنطى الكبير. على أن هذه الحقيقة الكبرى تتمثل بشكل ظاهر للعيان عند رأس الرجاء الصالح فى جنوب إفريقيا حيث تلتقى مياه المحيط الأطلنطى بمياه المحيط الهندى فتشكل حاجزا مائيا ضخما ممتدا جنوبا إلى مرمى البصر، ولقد قام بمحاولة مشاهدة هذه الظاهرة الفذة كاتب هذه السطور، حينما زار مدينة الكاب ممثلا لفضيلة الإمام الأكبر شيخ ¬

(¬31) سورة الفرقان: 53. (¬32) سورة الرحمن: 19 - 21.

نهاية الحياة الدنيا، وقيام الساعة

الأزهر، فى احتفال المسلمين هناك بمضى مائة عام على بناء أول مسجد فى جنوب إفريقيا، وكان تفسير العلماء هناك لهذه الظاهرة أن ماء المحيط الأطلنطى بارد بمقدار ثلاث درجات عن مثيلاتها من مياه المحيط الهندى فيتخلق هذا البرزخ المائى العظيم بسبب هذا الفرق الواضح بين درجتى حرارة المحيطين العظيمين. إن منن الله العظمى فى المياه التى تكسو وجه الأرض لا يمكن أن تحصى أو تستقصى. ومن خير ما نختتم به منة الله فى كتابه العزيز بالمياه عامة، وبالعذبة منها خاصة. تلك المنة العظمى من الخالق الأعظم الذى يجعل المياه العذبة تتفجر من الحجارة الصلدة عذبة ذلالا سائغة للشاربين تروى الظمأ، وتحيى الأرض الميتة، وذلك فى قوله- عز وجل- فى وصف قسوة قلوب اليهود: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (¬33). وهذه المنة الكبرى متعددة الظهور خاصة فى المناطق الجبلية فى جبال الشام، وجبال أوروبا وأمريكا، ولقد أنعم الله على كاتب هذه السطور بأن رأى كميات المياه العظيمة العذبة الباردة تتفجر من جبل فى سهل البقاع بلبنان من أرض الشام، فتصنع نهرا كبيرا مشهور ومعروفا، يشق سطح الأرض المنبسطة حينا، والجبلية حينا لمسافة مئات من الكيلومترات حتى تصل إلى الأراضى التركية فى شمال بلاد الشام، فتصنع الخضرة والرّى والنماء فى تلك البقعة المباركة من أرض المسلمين. نهاية الحياة الدنيا، وقيام الساعة إن الله- سبحانه وتعالى- هو خالق الموت والحياة، ولقد قدّم الموت على الحياة لارتباطه بالحياة الآخرة وهى الدار الباقية، ومثابة الخلود، وفيها ينال المحسن إحسانه فيكون من أهل الجنة، ويلقى المسيء جزاءه بما قدّمت يداه عدلا من الله وحقا، ومن هنا كان على المرء من عباد الله أن يتدبر هذا اليوم تدبرا موصولا حتى يكثر من الخير، ويبتعد عن الشر، وأن يظل مؤمنا بأن للكون خالقا قادرا بيده مقاليد الدنيا والآخرة، ومن ثم كان من منن الله الكبرى فى كتابه العزيز أن نبّه الناس إلى ذلك اليوم الذى تنتهى فيه الحياة الأولى، ويكون البعث، والنشور، والحساب، والمصير إلى جنة عرضها السموات والأرض، أو إلى جهنم التى أعدت للكافرين. ¬

(¬33) سورة البقرة: 74.

ولقد نبهنا الله- سبحانه وتعالى- إلى أن للآخرة علامات، وأن لنهاية الدنيا معالم، ذكرت فى آيات كثيرة من كتاب الله العزيز، وفى ذلك يقول الحق- جل جلاله: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (البقرة: 251). إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (¬34). وتبصيرا للعباد بذلك اليوم العصيب التى تزلزل فيه أركان الأرض إيذانا بنهايتها وانتهاء الحياة على وجهها، تحدث الزلزلة الكبرى التى يتزلزل معها الكيان الإنسانى وذلك فى قول الله- جل وعز- فى سورة الزلزلة: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8). (¬35) ويصف الله- خالق الخلق- وبارئ الأرض والسماء، وملك يوم الدين، هذا اليوم بيوم الفصل، ويفصّل- جل جلاله- أحداث ذلك اليوم، وما يمن به على المحسنين من عباده من حسن الجزاء، وعلى العاصين أتباع الشيطان وما يقع عليهم من عقاب، فيقول جلت قدرته، وتباركت أسماؤه: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً إلى نهاية الآية رقم 30 من سورة النبأ. ومن الصور القرآنية التى تناول المولى فيها- جلت قدرته- وصف فزع الكون ممن فى السموات والأرض، والجبال الراسيات وهى تمر مر السحاب فى قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (سورة النحل: 87، 88). وفى موضع آخر من الكتاب العزيز يتجلى المولى على خلقه بمزيد من المنن فى وصفه خطر هذا اليوم تذكيرا للغافلين، وتنبيها للمنكرين، وتفزيعا للكافرين فهو يوم الفزع الأكبر الذى مقداره خمسون ألف سنة فيقول- جلت قدرته: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) ¬

(¬34) سورة يونس: 24. (¬35) سورة الزلزلة: السورة كاملة.

فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (¬36). وفى صورة جليلة من سور القرآن الكريم يجرى إطلاق اسم «الواقعة» على هذا اليوم الرهيب الذى ترجّ فيه الأرض رجّا، وتبث فيه الجبال بثا، ويصنّف الخلق فيه تصنيفا يتسق مع أعمالهم: إن شرا فهم من أصحاب المشأمة، وإن خيرا فهم المقربون فى جنات النعيم، وذلك فى قوله- عز وجل: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (¬37). ومن آيات الله العظمى وآياته الكبرى أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ فإذا دعاهم دعوة من الأرض أسرعوا خارجين. فهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو القاهر فوق عباده فيقول تباركت أسماؤه: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (¬38). والله- سبحانه وتعالى- عدلا منه وإنصافا يصف المقصر بتقصيره، والمفسد بفساده تذكيرا بذلك اليوم العظيم، وتنبيها إلى القيامة، ومجىء الآخرة ونهاية الدنيا، ثم ينبه إلى النفس المطمئنة التى عملت أعمالا صالحة فيزيل عنها الروع، ويبعث فى أعطافها الاطمئنان كل ذلك يتضمنه قوله الكريم: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) (¬39). أ. د. مصطفى الشكعة ¬

(¬36) سورة المعارج: الآيات 4 - 18. (¬37) سورة الواقعة: الآيات 1 - 12. (¬38) سورة الروم: الآيات 25 - 27. (¬39) سورة الفجر: الآيات 17: 30.

ترجمة معانى القرآن الكريم

ترجمة معانى القرآن الكريم (¬1) ويتناول فيها: 1 - تعريف الترجمة لغة وعرفا. 2 - تقسيم الترجمة، وبيان بعض خواصها. 3 - كلمة عن الحاجة إلى الترجمة. 4 - بيان الجائز من هذه الأقسام من غير الجائز منها. 5 - الصلاة بالمترجم. 6 - تجربة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. ¬

(¬1) انظر فى ترجمة معانى القرآن: أحسن البيان فى الرد على الشيخ محمد الشاطر وغيره من المانعين لجواز ترجمة تفسير القرآن بقلم الشيخ عبد الرحمن الجزيرى، مطبعة ومجلة الإرشاد، بدون ت- الأدلة العلمية على جواز ترجمة معانى القرآن إلى اللغات الأجنبية، تأليف محمد فريد وجدى، مطبعة المعاهد الدينية، الطبعة الأولى سنة 1355 هـ، 1936 م هدية مجلة الأزهر- الأساس النديم فى حكم ترجمة المعنى والتفسير للقرآن الكريم، تأليف عبد الفضيل عبد الرءوف خليفة، المطبعة الخيرية بالمنيا سنة 1355 هـ، 1936 م- إشكالية نقل المعنى فى ترجمات القرآن الكريم. تأليف عبد النبى ذكر، بحث ضمن أعمال ندوة صناعة المعنى وتأويل النص المنعقدة بكلية الآداب بمنوبة بجامعة تونس 1991 م من ص 255 إلى ص 276 منشورات كلية الآداب بمنوبة 1992 م- الأصلان فى علوم القرآن، للأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم القيعى ص 372: 377 دار الطباعة المحمدية، الطبعة الثالثة 1405 هـ/ 1984 م- تاريخ القرآن تأليف أ. د. عبد الله الزنجانى، تحقيق طه عبد الرءوف سعد ص 69 وما بعدها، مؤسسة الحلبى وشركائه للنشر والتوزيع، بدون ت- تذكرة لأولى البصائر والأبصار إلى ما فى ترجمة معنى القرآن من أخطار، تأليف محمد مصطفى الشاطر، مطبعة النصر 1355 هـ/ 1936 م. وهى مذكرة مرفوعة لشيخ الجامع الأزهر- ترجمة القرآن الكريم غرض للسياسة وفقه فى الدين، تعليم محمد الههياوى 1355 هـ- ترجمة القرآن وكيف ندعو غير العرب إلى الإسلام، تأليف عبد الوكيل الدروبى، مكتبة دار الإرشاد بحمص- ترجمة القرآن وما فيها من المفاسد ومنافاة الإسلام، للسيد محمد رشيد رضا، مطبعة المنار بمصر، الطبعة الأولى 1344 هـ/ 1926 م مقالة مجردة من تفسير المنار- جواز ترجمة القرآن بالفارسية فى الشريعة الإسلامية، للأستاذ محمد عبد الغفار الهاشمى الأفغانستانى الطبعة الأولى 1384 هـ/ 1965 م خاصة بالمؤلف- حدث الأحداث فى الإسلام الإقدام على ترجمة القرآن، بقلم الشيخ محمد سليمان، المطبعة السلفية بمصر 1355 هـ- حجة الله على خليقته فى بيان حقيقة القرآن وحكم كتابته وترجمته، للعلامة الشيخ محمد بخيت المطيعى، المطبعة اليوسفية بمصر، الطبعة الأولى 1350 هـ/ 1932 م على نفقة جمعية الأزهر العلمية- بحث فى ترجمة القرآن الكريم وأحكامها، للإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر محمد مصطفى المراغى، مطبعة الرغائب 1355 هـ/ 1936 م هدية مجلة الأزهر- رسالة فى حكم ترجمة القرآن الكريم وقراءته وكتابته بغير اللغة العربية، للشيخ محمد حسنين مخلوف العدوى، مطبعة مطر بمصر 1343 هـ/ 1925 م- القرآن الكريم بدعية ترجمة ألفاظه ومعانيه وتفسيره، تأليف عثمان عبد القادر الصافى، المكتب الإسلامى بيروت، الطبعة الأولى 1413 هـ/ 1992 م- القول السديد فى حكم ترجمة القرآن المجيد، تأليف محمد مصطفى الشاطر، مطبعة حجازى بالقاهرة 1355 هـ/ 1936 م- القول الفصل فى ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأعجمية، للشيخ محمد شاكر وكيل الجامع الأزهر الأسبق، مطبعة النهضة بشارع عبد العزيز بمصر 1343 هـ/ 1925 م- كلمة حول ترجمة معانى القرآن الكريم، بقلم عبد العزيز خليل، مطبعة الاعتماد بشارع حسن الأكبر بمصر 1355 هـ/ 1936 م- المستشرقون وترجمة القرآن الكريم للدكتور محمد صالح البنداق، منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت، الطبعة الأولى 1400 هـ/ 1980 م- المعجزة الكبرى القرآن، للإمام محمد أبو زهرة ص 581 وما بعدها، دار الفكر العربى، بدون ت. مناهل العرفان فى علوم القرآن، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى 2/ 3: 69 دار إحياء الكتب العربية، عيسى الحلبى وشركاؤه، بدون ت- النغمة القدسية فى أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية وما يتعلق بها من باقى الأحكام، تأليف حسن الشرنبلالى، المطبعة الرحمانية بمصر، الطبعة الأولى 1355 هـ.

1 - تعريف الترجمة

1 - تعريف الترجمة الترجمة لغة (¬2): بالنظر للفظة «ترجمة» نجد أنها استعملت فى لغة العرب للدلالة على الكشف والبيان عن حقيقة اللفظ المترجم. يقال: ترجم الكلام، بمعنى: بينه، وترجم عنه: أوضح أمره، وترجم لهذا الباب بكذا: عنون له، وترجم لفلان: بين تاريخه وسيرته. وعلى ذلك فقد وضعت لفظة «الترجمة» لتدل على معان عدة كلها تدور حول الكشف والبيان عن حقيقة اللفظ المترجم، ومن هذه المعانى: (أ) تبليغ الكلام لمن لم يبلغه مطلقا- أى سواء كان ذلك بنفس اللغة أم بغيرها (¬3). ومنه قول الشاعر: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعى إلى ترجمان (ب) تفسير الكلام بلغته التى جاء بها (¬4)، وعليه فقد قيل فى ابن عباس- رضي الله عنه: إنه ترجمان القرآن. (ج) تفسير الكلام بلغة غير لغته، قال ابن منظور (¬5): «ويقال: قد ترجم كلامه: إذا فسره بلسان آخر». وفى «مختار الصحاح» (¬6): «وترجم كلامه: إذا فسره بلسان آخر». (د) نقل الكلام من لغة إلى أخرى (¬7)، جاء فى «الرائد»: «الترجمة: نقل الكلام من لغة إلى أخرى». وفى «المرجع» للعلايلى: «الترجمة: النقل من لسان إلى آخر». وفى «المعجم العربى الأساسى»: «ترجم الكتاب: نقله من لغة إلى أخرى». ومما سبق فقد تبين لنا أن المعنى العام للترجمة هو مطلق البيان والتعبير، وإذا ما أطلقت الترجمة فلا تدل على معانى القرآن الكريم إلا بقرينة قاطعة. الترجمة عرفا: يقصد بالعرف هنا: عرف التخاطب العام، لا عرف طائفة خاصة ولا أمة معينة. وهذا العرف العام الذى تواضع عليه الناس جميعا- من القدم حيث كان العرب يترجمون كتب اليونان والرومان ويسمونها بنفس أسمائها- قد خص الترجمة بالمعنى الرابع اللغوى المذكور آنفا، وهو: نقل الكلام من لغة إلى أخرى. ¬

(¬2) انظر المعنى اللغوى: أقرب الموارد فى فصيح العربية والشوارد، للعلامة السعيد سعيد الخورى الشرتوني اللبنانى 1/ 75 بدون ت وط- دائرة المعارف المسماة مقتبس الأثر ومجدد ما دثر لمحمد الحسين الأعلمى 14/ 39 منشورات مؤسسة الأعلمى للمطبوعات، الطبعة الأولى 1385 هـ/ 1965 م- الرائد لجبران مسعود 1/ 385 دار العلم للملايين، الطبعة الرابعة 1981 م- كشاف اصطلاحات الفنون لمحمد على الفاروقى التهانوى، حققه د/ لطفى عبد البديع 3/ 77، 78 الهيئة المصرية العامة للكتاب 1972 م- الكليات لأبى البقاء العكبرى، تحقيق د. عدنان دروى، ومحمد المصرى ص 313 مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1413 هـ/ 1993 م. لسان العرب لابن منظور 3/ 1603 تحقيق عبد الله الكبير وآخرين، دار المعارف بدون ت- مختار الصحاح للرازى، ترتيب محمود خاطر ص 236 الأميرية بمصر 1340 هـ/ 1922 م- المرجع لعبد الله العلائلي 1/ 539 - المعجم العربى الأساسى، تأليف وإعداد جماعة من كبار اللغويين العرب ص 196، 197 المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، توزيع لاروس- معجم متن اللغة للعامة الشيخ أحمد رضا 1/ 391 دار مكتبة الحياة ببيروت 1960 م. (¬3) انظر: أقرب الموارد 1/ 75 - ترجمة القرآن لعبد الوكيل الدروبى ص 7. مناهل العرفان 2/ 5 - القول السديد للشيخ الشاطر ص 11. (¬4) انظر: ترجمة القرآن لعبد الوكيل الدروبى ص 17 - مناهل العرفان 2/ 5. (¬5) لسان العرب 3/ 1603. (¬6) مختار الصحاح ص 236، وانظر: أقرب الموارد 1/ 75 - ترجمة القرآن للدروبى ص 17 - دائرة معارف الأعلمى 14/ 39 - المرجع للعلايلى 1/ 539 - المعجم العربى الأساسى ص 196، 197. معجم متن اللغة 1/ 391. مناهل العرفان 2/ 6 - كشاف اصطلاحات الفنون 3/ 77، 78. (¬7) الرائد 1/ 385 - المرجع للعلايلى 1/ 539 - المعجم العربى الأساسى ص 196، 197 - وانظر: ترجمة القرآن لعبد الوكيل الدروبى ص 17 - مقالات الشيخ محمد شاكر وكيل الجامع الأزهر الأسبق ص 6 المقالة الأولى فى ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأعجمية، منشورة فى جريدة المقطم 10 أبريل 1925 م- مناهل العرفان للزرقانى 2/ 6.

أى التعبير عن معناه بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع مقاصده ومعانيه، كأن الكلام فيها قد نقل من لغته الأولى إلى اللغة الثانية، مع أن الواقع ونفس الأمر يشهدان بأن الكلام نفسه لا ينقل من لغته بحال (¬8). وعلى ذلك فيمكننا أن نعرف الترجمة فى هذا العرف العام بأنها عبارة عن: التعبير عن معنى كلام فى لغة بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده. فكلمة: «التعبير» جنس وما بعده من القيود فصل. وقولنا: «عن معنى كلام» يخرج به التعبير عن المعنى القائم بالنفس حين يخرج فى صورة اللفظ أول مرة. وقولنا: «بكلام آخر» يخرج به التعبير عن المعنى بالكلام الأول نفسه، ولو تكرر ألف مرة. وقولنا: «من لغة أخرى» يخرج به التفسير بلغة الأصل، ويخرج به- أيضا- التعبير بمرادف مكان مرادفه، أو بكلام بدل آخر مساو له على وجه لا تفسير فيه، واللغة واحدة فى الجميع. وقولنا: «مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده» يخرج به تفسير الكلام بلغة غير لغته، فإن التفسير لا يشترط فيه الوفاء بكل معانى الأصل المفسر ومقاصده، بل يكفى فيه البيان ولو من وجه (¬9). وقد عرفت الترجمة- أيضا- اصطلاحا بأنها (¬10): نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى عن طريق التدرج من الكلمات الجزئية إلى الجمل والمعانى الكلية وهذا التعريف يحتوى على عنصرين: الأول: أن الترجمة عبارة عن نقل للكلام، فبينما يكون الكلام فى لغة من اللغات يتحول- بواسطة الترجمة- إلى لغة أخرى. الثانى: أن الترجمة تتم عن طريق التدرج من الكلمات الجزئية إلى الجمل والمعانى الكلية، فإن هذا العنصر يدل على شرط استيفاء الترجمة للكلام المترجم، فلا بد من ترجمة المفردات واحدة واحدة، والملاءمة بينها وبين المعنى الأصلى للكلام. والنتيجة المنطقية لهذا التعريف (¬11): أن الترجمة لا بدّ فيها من نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى مع الوفاء بجميع مقاصده ومعانيه كأنك نقلت الكلام نفسه من لغته الأولى إلى لغته الثانية. فيفهم الناس من الترجمة أنها كالأصل ذاته تقوم مقامه فى كل ما هو مقصود به، ¬

(¬8) انظر: مناهل العرفان للزرقانى 2/ 6، 7. (¬9) انظر: الأصلان فى علوم القرآن للدكتور القيعى ص 372 - مناهل العرفان 2/ 7. (¬10) انظر: ترجمة القرآن لعبد الوكيل الدروبى ص 18 وما بعدها. (¬11) انظر: ترجمة القرآن لعبد الوكيل الدروبى ص 18، 19.

فإذا ترجم كتاب فى الرياضيات إلى لغة أخرى فإن الترجمة تقوم مقام الأصل فيما هو مقصود به تماما من علوم رياضية، وكذا الأمر فى سائر العلوم، حتى إذا ما وصلت الترجمة إلى أيدى الناس اعتقدوا- عرفا واصطلاحا- أن ما بين أيديهم يتضمن ما فى الكتاب الأصلى تماما ولكنه باللغة التى يفهمونها. فالترجمة لغة إن كانت تشمل المعانى الأربعة المتقدمة لكنها عرفا تنحصر فى النوع الرابع وهو نقل الكلام من لغة إلى أخرى مع اقتناع الناس بأن الكلام المنقول هو الكلام الأصلى تماما بتمام دون زيادة ولا نقصان. هيئة التحرير

2 - أقسام الترجمة

2 - أقسام الترجمة تنقسم الترجمة إلى قسمين (¬12): ترجمة حرفية، وأخرى تفسيرية. فالترجمة الحرفية: هى نقل الكلمات واحدة واحدة دون نظر إلى المعنى، أى تستبدل كل كلمة بما يقابلها من اللغة الثانية، فهى التى تراعى فيها محاكاة الأصل فى نظمه وترتيبه. وهذه الترجمة متعذرة ومستحيلة؛ لأنه لا يوجد فى اللغات مفردات تقابل بعضها بعضا، وإن وجد فإنه يختلف طريقة ترتيب الكلام من لغة إلى أخرى. وهذا النوع يسميه البعض ترجمة لفظية، وآخرون يسمونه ترجمة مساوية. والترجمة التفسيرية: هى نقل الكلمات واحدة واحدة مع النظر إلى المعنى. فهى التى لا تراعى فيها تلك المحاكاة أى محاكاة الأصل فى نظمه وترتيبه، بل المهم فيها حسن تصوير المعانى والأغراض كاملة، ولهذا قد تسمى- أيضا- بالترجمة المعنوية. وعليه فيتضح أنها كالترجمة الحرفية فى نقل الكلمات واحدة واحدة، ولكن الاختلاف إنما يتأتى فى النظر إلى المعنى هنا دون مراعاة له فى الترجمة الحرفية. مثال (¬13): على الفرض بإمكان الترجمة فلنضرب مثالا عليها فى آية من الكتاب الكريم، وهو قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ... (¬14). فإنك إذا أردت ترجمتها ترجمة حرفية أتيت بما يقابل كلماتها من اللغة الثانية فأتيت بما يقابل قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وبما يقابل قوله: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وقوله: وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ولكن هذا الأسلوب من التعبير قد لا يفهمه من ترجم الكلام إلى لغته فيتساءل ما معنى: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ؟ وما معنى: وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ؟ فيخفى المعنى عليه. وإذا أردت ترجمتها ترجمة تفسيرية أو معنوية قلت: لرزقوا من كل جهة، ودللت ¬

(¬12) انظر: الأصلان فى علوم القرآن للدكتور القيعى ص 372 - ترجمة القرآن لعبد الوكيل الدروبى ص 19، 20 - مناهل العرفان للزرقانى 2/ 7. (¬13) انظر: ترجمة القرآن لعبد الوكيل الدروبى ص 20. (¬14) جزء من آية رقم (66) سورة المائدة.

بكلامك على أن من يقيم أحكام الله- سبحانه وتعالى- يرزقه الله من كل جانب. فأنت بالترجمة التفسيرية لهذه الآية حينما خفيت عليك ترجمة المفردات ترجمت المعنى المراد. هذا تقسيم إجمالى للترجمة، لكن هناك تقسيما تفصيليا لها حدّده بعضهم فى هذه الأنواع (¬15): النوع الأول: الترجمة اللفظية المثلية، وهى: إبدال لفظ بلفظ آخر يرادفه فى المعنى مع الاحتفاظ بما للمبدل منه من الدلائل القريبة والبعيدة، والدلائل الأصلية والتبعية، وبما له من ميزات متعددة. وهذا النوع محال ليس فى استطاعة الثقلين باتفاق العلماء؛ لأن التعبير عن لفظ منه بلفظ آخر، ولو كان عربيا يماثله فى المعانى مدعاة للسخافة ودلالة على الجهل، ومدعيه معاند قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (¬16) وإذا كان هذا النوع محالا فلا يتصور البحث فى جوازه من عدمه؛ لأن البحث فى هذا فرع عن إمكانه وهو غير متصور. النوع الثانى: الترجمة اللفظية بدون المثل، وهى: إبدال لفظ بلفظ آخر يرادفه فى المعنى الإجمالى أو فى المعنى القريب بصرف النظر عن المعانى التبعية والبعيدة عن الخصائص والمزايا. وهذا النوع ممكن على وجه الإجمال بالقدر المستطاع فى بعض الألفاظ دون بعض، وفى بعض اللغات دون بعض، لكنها تكون ساذجة ولا تسلم من الخطأ والبعد عن المراد. وهو نوع يسمى عند الفقهاء- أيضا- بالترجمة الحرفية والترجمة المساوية. النوع الثالث: الترجمة التفسيرية، وهى ترجمة تفسير من التفاسير التى ألفها العلماء باللغة العربية إلى لغة أخرى. وهذا النوع محل جواز إذا اقتصرت الترجمة على كلام المفسر نفسه، ولم تتناول كلام الله تعالى، فإن تناولته كان الحكم فيها المنع والحرمة. وعلى ذلك فالترجمة تعتبر ترجمة لكلام فلان لا لكلام الله تعالى. النوع الرابع: ترجمة المعانى، أى: بيان معانى القرآن بلغة أخرى، وهذه الترجمة تشمل الأنواع الثلاثة المتقدمة. ¬

(¬15) انظر: القول السديد فى حكم ترجمة القرآن المجيد، تأليف محمد مصطفى الشاطر ص 11 وما بعدها. (¬16) سورة الإسراء آية (88).

وتفترق الترجمة عن التفسير بفروق أبرزها 18:

فقد يأتى المترجم من أول الأمر فيفهم المعنى من اللفظ ثم يعبر عنه بلفظ آخر من لغة أخرى يدل عليه، وقد يفهم الآية جملة ويعبر عنها بألفاظ أخرى أجنبية تؤدى هذا المعنى، وقد يأتى لأحد التفاسير المعروفة فيترجمه إلى لغة أخرى. خواص الترجمة وشروطها (¬17): للترجمة خواص وشروط لا بدّ وأن تتوفر فيها وتتسم بها، ومن أبرزها: 1 - لا بدّ من وفائها بمعانى الأصل جميعها ومقاصده على وجه مرض. 2 - أن تكون صيغتها مستقلة عن الأصل، بحيث يمكن الاستغناء بها عنه. 3 - معرفة المترجم لأوضاع اللغتين: لغة الأصل ولغة الترجمة، وكذا معرفته لأساليبها وخصائصها. وتفترق الترجمة عن التفسير بفروق أبرزها (¬18): 1 - استقلال الترجمة عن الأصل وحلولها محله، خلافا للتفسير. 2 - الترجمة لا استطراد فيها، خلافا للتفسير كما لا يخفى. 3 - الترجمة لا بدّ وأن تفى بالغرض كاملا خلافا للتفسير، فيكتفى فيه بمجرد الإيضاح. 4 - كمال الاطمئنان بالترجمة، خلافا للتفسير؛ لاحتمال الإيجاز فيه، والتفسير بطبيعته قائمة فيه الاحتمالات. تتمة (¬19): تجدر الإشارة إلى أن الترجمة لا بدّ وأن يراعى فيها الإحاطة بمعانى الأصل المترجم كلها. والقرآن الكريم- فضلا عن الكلام مطلقا- لا بدّ وأن يحتوى على ضربين من المعانى، هما: المعانى الأولية، والمعانى الثانوية، أو المعانى الأصلية، والمعانى التابعة. فالمعنى الأولى لأى كلام بليغ، هو: ما يستفاد من هذا الكلام ومن أى صيغة تؤديه سواه، ولو كان ذلك بلغة أخرى، ففي قولنا: «حاتم جواد» حكمنا بالجود على حاتم، ونسبة الجود لحاتم معنى أولى يمكن أن نعبر عنه بأى صيغة. وسمى معنى أوليّا؛ لأنه أول ما يفهم من اللفظ، وأصليّا؛ لأنه ثابت ثبات الأصول لا يختلف باختلاف المتكلمين ولا المخاطبين ولا لغات التخاطب. أما المعنى الثانوى أو التابع، فهو: ما يستفاد من الكلام زائدا على معناه الأولى. وسمى ثانويا؛ لأنه متأخر فى فهمه عن ذلك، وسمى تابعا؛ لأنه أشبه بقيد فيه، والقيد تابع للمقيد، أو لأنه يتغير بتغير ¬

(¬17) انظر: الأصلان للدكتور القيعى ص 373 - مناهل العرفان للزرقانى 2/ 9 - ترجمة القرآن لعبد الوكيل الدروبى ص 20 وما بعدها. (¬18) انظر: الأصلان فى علوم القرآن للدكتور محمد عبد المنعم القيعى ص 373 - مناهل العرفان للزرقانى 2/ 10 وما بعدها. (¬19) انظر: مناهل العرفان فى علوم القرآن للزرقانى 2/ 17 وما بعدها.

التوابع، فيختلف باختلاف أحوال المخاطبين، وباختلاف مقدرة المتكلمين، والألسنة واللغات. مثال على ذلك: الجملة السابقة: «حاتم جواد» استفدنا منها معنى أوليا أصليا وهو نسبة الجود إلى حاتم، لكن هذا المعنى نستطيع أن نعبر عنه بعبارات مختلفة، فإذا أردت أن تخبر عن حاتم بالجود قلت: «جاد حاتم» فى مخاطبة خالى الذهن من هذا الخبر، وقلت: «حاتم جواد» إذا كنت تخاطب شاكا مترددا، وقلت: «إن حاتما جواد» إذا كنت تخاطب منكرا غير مسرف فى إنكاره، وقلت: «والله إن حاتما لجواد» إذا خاطبت مسرفا فى الإنكار ... إلى آخر أوجه الخطاب. فالمعنى الأولى زيدت عليه خصوصيات مختلفة ومزايا متغايرة بتغاير هذه الأمثلة، وهذه الاعتبارات المختلفة هى مناط بلاغة الكلام والمتكلم، والقرآن الكريم بلغ الغاية فى البلاغة. هيئة التحرير

3 - الحاجة إلى الترجمة

3 - الحاجة إلى الترجمة الناظر إلى القرآن الكريم يجده عالمى المقصد شاملا للزمان والمكان، وعالميته إنما تستمد- أصلا- من عالمية الإسلام وشموله وكونه الرسالة الخاتمة التى جاءت لتهدى الناس وتخرجهم من عبادة بعضهم وهواهم ودنياهم إلى عبادة ربهم- سبحانه وتعالى-. وقد نزل القرآن- دستور هذه الأمة المحمدية- باللغة العربية، وكثيرا ما وقف حاجز اللغة حائلا كبيرا بين الإسلام وأهله وأهل اللغات الأخرى؛ فكانت الحاجة ملحّة والضرورة قصوى فى أن ينحو المسلمون منحى يبلّغون به ويدعون غيرهم من أهل الملل والنحل الأخرى إلى الإسلام، وذلك يكون بكثير من الوسائل من أهمها: ترجمة معانى القرآن إلى اللغات الأخرى حتى يتحقق الهدف والغاية منه. وأهل القرآن إنما ندبوا إلى ذلك؛ لأن القرآن له مقاصد عالمية لا تتم إلا بنشره، واشتراك الأمم الأخرى المختلفة فى إقامته، ولو نظرنا إلى بعض تلك المقاصد لأمكن حصر أهمها فى الأهداف التالية (¬20): (أ) تطهير العقائد الأولية مما أدخل عليها من آراء المتزيدين، وأضاليل المتأولين. (ب) إنقاذ الضمير البشرى من الذين انتحلوا حق التسلط عليه، وتطهيره مما ران عليه من وساوسهم وخزعبلاتهم. (ج) إقامة سلطان العقل، وإعلان حرية النظر، وهدم صنم التقليد. (د) إسقاط الوسطاء بين الله وخلقه، والمناداة بالمساواة العامة بين الناس أجمعين. (هـ) وحدة الجماعات البشرية كافة؛ بقيامها جملة على كلمة الله العليا. (و) دخول الأمم كافة إلى حظيرة الإسلام والسلام، يساعد على تحقيق الخير للبشرية بنشر تعاليم القرآن. (ز) الاشتراك فى إنذار من لا يساهم من الجماعات على تحقيق هذا الإصلاح العام بالعذاب فى الدنيا وسوء المنقلب فى الحياة الأخرى. هذه بعض الأهداف والمقاصد التى تدعو المسلمين إلى تبليغ دينهم ورسالتهم إلى البشرية. ¬

(¬20) انظر: الأدلة العلمية على جواز ترجمة معانى القرآن إلى اللغات الأجنبية، للأستاذ الشيخ محمد فريد وجدى ص 3.

ولقد شعر كثير ممن نالوا حظا من الروح الإسلامية فى العصر الراهن بفداحة التبعة المترتبة على كتمان ما استؤمنوا عليه من هذه الوديعة الإلهية، وتركها محصورة فيهم موقوفة عليهم فى عهد أصبحت فيه جميع النظم الاجتماعية والروابط الأدبية فى بوتقة النقد الدقيق، واستعدت العقول لقبول أى علاج كان يفرج الكروب ويأسو الكلوم، ويحل المعضلات، وينهج محجة لا تفترق بأهلها عن الرشد، ولا تبعد بهم عن الغاية. فرأى الذين شعروا بأمانة التبليغ أن الضن بالدواء الناجع والبلسم الشافى لجراح الإنسانية يعتبر أكبر جريمة يمكن أن ترتكبها جماعة أسند إليها الاضطلاع بعمل عالمى عظيم، فنشطوا لترجمة معانى القرآن الكريم إلى أمهات اللغات العالمية خروجا من هذه التبعة، وإعذارا إلى الله- تعالى- بهذا العمل، ومدفوعين بعدة عوامل تدعو إلى أهمية هذه الترجمة، من أهمها: أن الأمم لا تقبل ولا يقنعها أن تأخذ الشيء بالواسطة، وبفهم سواها له- بواسطة الشروح، والرسائل الموضحة- وإنما تريده من مصدره الأول، وتدعى أنها تفهم منه أكثر مما يفهم أهله الأخصون. وعليه فترجمة معانى القرآن والحالة هذه أصبحت فى هذا العصر أمرا لا مناص منه قياما بالعهد الذى فى أعناقنا له. هيئة التحرير

4 - الترجمة الجائزة

4 - الترجمة الجائزة لقد ثار جدل وخلاف كبير فى ترجمة القرآن وحكمها بين علماء الأمة فى أواسط القرن الماضى وأوائله بين مجيز بإطلاق وبين مانع، وبين مفرق بين بعض أنواعها وبعضه، وكل فريق يستدل لمذهبه، المجيزون يستدلون بوقائع كثيرة كان غرضهم من ورائها تحقيق المقاصد العظيمة التى أشرنا إلى بعضها فيما سبق، والمانعون يخشون التحريف والتبديل على كتاب الله، فالغرض والهدف سام لكن الخلاف إنما نشأ فى الطريق المؤدى إليهما. وحتى نقف بإنصاف على الجائز من أنواع الترجمة وغير الجائز منها، فلا بد وأن نلقى الضوء على تعريفها اللغوى والعرفى وعلى تقسيماتها وكثير من الأمور التى تعتبر من خواص القرآن حتى يتحقق لنا الغرض. فلو نظرنا إلى التعريفات اللغوية لوجدنا أنها ترجع إلى أربعة معان رئيسية كما سبق، ثلاثة منها ترجع إلى اللغة وحدها، والرابع تشترك فيه اللغة والعرف الذائع بين الأمم وهو الجدير بالاهتمام والعناية؛ إذ هو المتبادر إلى الأفهام والمقصود فى لسان التخاطب العام. وهى كالآتى (¬21): 1 - ترجمة القرآن بمعنى تبليغ ألفاظه: تطلق الترجمة على تبليغ ألفاظ القرآن الكريم للناس، وهى حينئذ جائزة شرعا غير محظورة، وفعله صلّى الله عليه وسلّم أول شىء يدل على ذلك؛ إذ كان صلّى الله عليه وسلّم يقرأ القرآن ويسمعه أولياءه وأعداءه ويدعو إلى الله- عز وجل- به فى كل حين، وعلى ذلك سارت الأمة من بعده إلى يومنا هذا. ودعا إلى ذلك القرآن الكريم نفسه؛ قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (¬22). ودعا إليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم نفسه: «بلغوا عنى ولو آية، وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علىّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». (البخارى، والترمذى، وأحمد)، وقال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». (الشيخان). ¬

(¬21) انظر: مناهل العرفان فى علوم القرآن للزرقانى 2/ 27 وما بعدها. (¬22) سورة البقرة آيتا (159، 160).

2 - ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغته العربية:

2 - ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغته العربية: وهذا أيضا حكمه الجواز وعدم الحظر، قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، (¬23) (النحل: 44). وقد قام الرسول صلّى الله عليه وسلّم ببيانه للناس وتوضيحه لهم أيما توضيح، ومن صنيع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتمد كثير من المفسرين فى تفاسيرهم على المأثور، وصار هناك ما يسمى بالتفسير بالمأثور. 3 - ترجمته بمعنى تفسيره بلغة أجنبية: وهذا أيضا- يأخذ حكم سابقه من الجواز وعدم الحظر، فكلاهما عرض لما يفهمه المفسر من كتاب الله بلغة يفهمها مخاطبه، لا عرض لترجمة القرآن نفسه، وكلاهما حكاية لما يستطاع من المعانى والمقاصد. وتفسير القرآن يكفى أن يكون بيانا لمراد الله- تعالى- بقدر الطاقة حتى يتحقق، وهذا البيان يستوى فيه ما كان بلغة العرب وما ليس بلغة العرب، غير أنه لا بدّ من أمرين، أحدهما: أن يستوفى هذا النوع شروط التفسير، وثانيهما: أن يستوفى شروط الترجمة باعتبار أنه نقل لما يمكن من معانى اللفظ العربى بلغة غير عربية. وترجمة القرآن بهذا المعنى مساوية لترجمة تفسيره العربى؛ إذ الترجمة هنا لم تتناول إلا رأى هذا المفسر وفهمه لمراد الله- تعالى- على قدر طاقته. وهذه الترجمة- أيضا- تسمى ترجمة تفسير القرآن، أو تفسير القرآن بلغة كذا، ولا يجوز أن تسمى ترجمة للقرآن. وبهذا النوع نرفع النقاب لغير العرب عن جمال القرآن، وندفع الشبهات الملفقة والملصقة بالقرآن زورا وبهتانا، ونزيل الحواجز بين الإسلام وعشاق الحق من الأمم الأجنبية، ونبرئ ذمتنا من واجب تبليغ القرآن بلفظه ومعناه. 4 - ترجمة القرآن بمعنى نقله إلى لغة أخرى: هذا هو الإطلاق اللغوى الرابع، وهو الإطلاق الوحيد فى عرف التخاطب الأممى العام، وعلى هذا التعريف اللغوى يمكننا أن نعرف ترجمة القرآن بأنها: نقل القرآن من لغته العربية إلى لغة أخرى، أو هى: التعبير عن معانى ألفاظه العربية ومقاصدها، بألفاظ غير عربية مع الوفاء بجميع هذه المعانى والمقاصد. وإن لوحظ فيها ترتيب ألفاظ القرآن فهى الترجمة الحرفية أو اللفظية أو المساوية، وإن لم يلاحظ فيها هذا الترتيب فتلك ترجمة القرآن التفسيرية أو المعنوية. ¬

(¬23) سورة يونس من آية (15).

وهذا النوع لا يجوز، فهو مستحيل عادة وشرعا. أما كونها مستحيلة عادة؛ فلأنه لا بدّ وأن يتحقق منها الوفاء بجميع معانى القرآن الأولية والثانوية، وبجميع مقاصده وهذا مستحيل عادة. ولأن الترجمة بهذا المعنى مثل للقرآن، ومثله مستحيل كما نعلم من آيات التحدى. وأما كونها مستحيلة شرعا؛ فلأن طلب المستحيل العادى حرمه الإسلام؛ لأنه ضرب من العبث وتضييع للوقت والمجهود فى غير طائل، ولأن محاولة هذه الترجمة فيها ادعاء عمل لإمكان وجود مثل للقرآن وهو تكذيب شنيع لصريح الآية: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (¬24). وأن طلب محاولة هذا النوع فيه تشجيع للناس على انصرافهم عن القرآن والتماس بدل أو أبدال يزعمونها ترجمات له، مع ما يترتب على ذلك من مخاطر شرعية واجتماعية ولغوية. هذه هى المعانى الأربعة التى يدور حولها معنى لفظ الترجمة لغة أو عرفا. أما لو نظرنا إلى تقسيم الترجمة إلى حرفية وتفسيرية أو معنوية، فنرى أن الترجمة الحرفية مستحيلة عادة وشرعا؛ لأن زاعمها يكون آتيا ببدل أو مثل القرآن وهو مستحيل لا يجوز بحال. وأما الترجمة التفسيرية أو المعنوية، وهى التى يقوم فيها المترجم بترجمة تفسير معين للقرآن الكريم مع ملاحظة شروط الترجمة وشروط التفسير فهى جائزة عادة وشرعا، وعلى ذلك فهى لا تسمى ترجمة للقرآن بل تسمى ترجمة تفسير القرآن أو ترجمة معانى تفسير القرآن الكريم. تتمة: لو نظرنا إلى معانى القرآن الكريم بنوعيها: المعنى الأصلى الأولى، والمعنى الثانوى التابع لوجدنا أن ترجمة القرآن بمعنييه هذين- معا- مستحيلة- أيضا- لأن المعانى الثانوية والتابعة هى مظهر إعجاز القرآن، وهى المتحدى بها، ولا يحيط بها لسان عربى فضلا عن لسان أجنبى. أما ترجمة المعنى الأصلى والأولى فقط فهذا جائز وميسور فى أغلب الأحيان، خلافا للمعنى الثانوى فهو غير مستطاع بحال من الأحوال. هيئة التحرير ¬

(¬24) انظر: الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى 1/ 109 المكتبة الثقافية بيروت 1973 - البرهان فى علوم القرآن للزركشى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم 1/ 464 عيسى الحلبى الطبعة الأولى 1376 هـ/ 1957 م- حاشية الدسوقى على الشرح الكبير 1/ 232: 236 فيصل عيسى الحلبى- كشف الأسرار عن أصول البزدوى 1/ 67. دار الكتاب العربى الطبعة الأولى 1411 هـ/ 1991 م- المحلى لابن حزم الظاهرى 3/ 254 - المجموع للنووى 3/ 379. المدونة برواية سحنون 1/ 62 - المغنى لابن قدامة 1/ 526.

5 - الصلاة بالمترجم

5 - الصلاة بالمترجم تكاد كلمة الفقهاء تتفق على منع قراءة ترجمة القرآن بأى لغة كانت فارسية أو غيرها، والنقول عنهم فى ذلك كثيرة، وسواء كانت قراءة هذه الترجمة فى صلاة أم فى غير صلاة، لولا ما نقل عن أبى حنيفة- رحمه الله- من جواز القراءة فى الصلاة بالمترجم. والواقع أن جمهور الفقهاء من السادة المالكية والشافعية والحنابلة والصاحبين وغيرهم على أنه: لا تجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب- مطلقا- سواء أمكنته العربية أم عجز عنها، وسواء كان ذلك فى الصلاة أم فى غيرها، فإن أتى بترجمته فى صلاة بدلا عنها لم تصح صلاته سواء أحسن القراءة أم لا. فالجميع متفقون على أنه لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية خارج الصلاة، ومتفقون أيضا على حرمة القراءة فى الصلاة بغير العربية. لكن إن قرأ فى الصلاة بغير العربية، أتصح صلاته أم تفسد؟ فى هذه الصورة ورد الخلاف عن أبى حنيفة- رحمه الله- إذ ذكر الحنفية فى كتبهم أن الإمام أبا حنيفة كان يقول: إذا قرأ المصلى بغير العربية مع قدرته عليها اكتفى بتلك القراءة. ثم رجع عن ذلك وقال: متى كان قادرا على العربية ففرضه قراءة النظم العربى، ولو قرأ بغيرها فسدت صلاته؛ لخلوها من القراءة مع قدرته عليها، والإتيان بما هو من جنس كلام الناس حيث لم يكن المقروء قرآنا. وهذه الرواية تعزى إلى أقطاب من الحنفية منهم: نوح بن أبى مريم، وعلى بن الجعد، وأبو بكر الرازى. ولا يخفى أن المجتهد إذا رجع عن رأيه وقوله الأول لا يعد ذلك المرجوع عنه قولا له، إذ الرجوع عنه عدول، وعلى ذلك فلا يكون فى مذهب الحنفية قول بكفاية القراءة بغير العربية فى الصلاة للقادر عليها، فهم مع الجمهور. أما العاجز عن قراءة القرآن بالعربية فهو كالأمى فى أنه لا قراءة عليه، ولكن إذا فرض

أن خالف وأدى القرآن بلغة أخرى؛ فإن كان ما يؤديه قصة أو أمرا أو نهيا فسدت صلاته؛ لأنه متكلم بكلام وليس ذكرا. وإن كان ما يؤديه ذكرا أو تنزيها لا تفسد صلاته؛ لأن الذكر بأى لسان لا يفسد الصلاة، لا لأن القراءة بترجمة القرآن جائزة، وعلى هذا فقد مضى القول بأن القراءة بالترجمة محظورة شرعا على كل حال. والله أعلم. هيئة التحرير

6 - تجربة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية

6 - تجربة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية عند ما أنشئ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بموجب القرار الوزارى رقم 20 لسنة 1960 م كان من أهم أهدافه: * بذل كافة الجهود والإمكانيات المتاحة لتحفيظ القرآن الكريم وتجويده. * وضع تفسير سهل مبسط للقرآن الكريم يفهمه العامة والخاصة، خال من التعقيدات اللفظية، والخلافات المذهبية، على أن يترجم هذا التفسير إلى لغات العالم المختلفة، ليسهل فهمه لغير الناطقين بالعربية. ولتحقيق هذه الأغراض والأهداف إلى الواقع العملى صدر القرار الوزارى رقم 62 لسنة 1960 م بإنشاء لجنة للإشراف على تحفيظ القرآن الكريم وتجويده فى داخل مصر وفى البلاد الإسلامية، ضمت هذه اللجنة سبعة عشر عضوا من كبار العلماء والقرّاء والمهتمين بشئون القرآن الكريم (¬25). توّج عمل هذه اللجنة بنجاح باهر، وثمار طيبة فكان المصحف الشريف الذى يقوم المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بطبع عشرات الآلاف منه سنويا ويوزعه بالمجان على المساجد، ومكاتب تحفيظ القرآن الكريم للحفظ منه. هذا بالإضافة إلى المصحف المرتل والمعلم المسجل على أسطوانات تم تسجيلها بعد ذلك على شرائط كاسيت لسهولة الحفظ الصحيح منها. وتمشيا مع تكنولوجيا العصر تم نسخ المصحف المرتل والمصحف المعلم بصوت الشيخ محمود خليل الحصرى شيخ المقارئ المصرية السابق على أقراص الليزر، كما قام المجلس بتسجيل المصحف المجود بأصوات أشهر المقرئين على شرائط كاسيت. وقد سبق المجلس بذلك كثيرا من الدول العربية والإسلامية فى هذا المجال. هذا بالنسبة إلى تحفيظ القرآن الكريم وتجويده، أما بالنسبة لتفسيره، فلقد صدر القرار الوزارى رقم 59 لسنة 1960 م خاص بإنشاء لجنة باسم «لجنة تفسير القرآن الكريم» تضم اثنين وثلاثين عضوا من علماء الأزهر الشريف والمتخصصين فى مجال ¬

(¬25) التشكيل الكامل للجنة المصحف موضح بآخر البحث.

التفسير، والفلك، والطب، والطبيعة، والاجتماع، والهندسة، والزراعة، والجغرافيا، والتاريخ وغير ذلك (¬26). وقد قامت هذه اللجنة بتأليف «المنتخب فى تفسير القرآن الكريم» وهو تفسير سهل مبسط، واضح العبارة، وجيز من غير إخلال، بعيد عن الخلافات المذهبية، والتعقيدات اللفظية، يفهمه العامة والخاصة، ويستفيد منه الجميع. ولزيادة الإقبال على هذا المنتخب يقوم المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بطبع عشرات الآلاف من النسخ منه سنويا تلبية لرغبة القراء. ولسهولة هذا المنتخب ووضوحه بالرغم من إيجازه، قام المجلس بترجمته إلى اللغات: الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والروسية، والأسبانية، والإندونيسية. وكانت هذه التراجم أول تراجم تصدر من دولة عربية، ويجرى الآن ترجمة هذا المنتخب إلى الأردية، والسواحيلية، والصينية، والعبرية، وغير ذلك من لغات العالم الحية. وقد قام بعبء هذه التراجم نخبة مختارة من كبار الأساتذة المتخصصين فى كل لغة، كما قام بمراجعة هذه التراجم صفوة ممتازة ممن لهم باع طويلة فى هذه اللغات. أما المراجعة اللغوية فقد قام بها واحد من الناطقين من كل لغة ترجم إليها المنتخب، المشهود لهم بالعلم والإجادة. فالترجمة الإنجليزية: قام بها الدكتور/ عبد الخالق همت أبو شبانة الذى عايش أهل هذه اللغة أكثر من أربعين عاما. أما المراجعة فقد قام بها الدكتور/ مهدى علام. ونظرا لمرور أكثر من عشر سنوات على هذه الترجمة، فقد كلف المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فريقا من كبار أساتذة كلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر بمراجعة هذه الترجمة علميا ودينيا؛ أما المراجعة اللغوية فتقوم بها أستاذة أمريكية مسلمة متمكنة من هذه اللغة، وعندها دراية كاملة بلغة الناطقين بهذه الترجمة. أما الترجمة الفرنسية: فقد ترجمها من العربية إلى الفرنسية الدكاترة: عشيرة كامل رئيس قسم اللغة الفرنسية بكلية آداب عين شمس، ورقية جبر أستاذ اللغة الفرنسية بكلية الدراسات الإنسانية قسم البنات بجامعة الأزهر، وقام بالمراجعة العلمية والدينية الدكتور/ أحمد البساطى الأستاذ بجامعة الأزهر. أما المراجعة اللغوية فقد قامت بها السيدة/ ماجدة فاضل المسلمة والفرنسية الأصل. ¬

(¬26) التشكيل الكامل للجنة التفسير ولجنة القرآن وعلومه، والإعجاز العلمى للقرآن الكريم بآخر البحث.

أما الترجمة الألمانية: فقد ترجمها من العربية إلى الألمانية الدكتور/ مصطفى ماهر أستاذ اللغة الألمانية بكلية الألسن جامعة عين شمس، وقام بمراجعتها الأستاذ على هوبر. أما المراجعة اللغوية فقد قامت بها السيدة/ إلساماهر الألمانية الأصل. أما الترجمة الروسية: فقد ترجمها من العربية إلى الروسية الدكاترة/ سمية عفيفى، وعبد السلام المنسى الأساتذة بكلية الألسن جامعة عين شمس، وقام بمراجعتها الدكتورة/ رانو بنت عمر الأستاذ بجامعة طشقند بأزبكستان. أما المراجعة اللغوية فقد قامت بها السيدة/ بالينا. أما الترجمة الأسبانية: فقد ترجمها من العربية إلى الأسبانية كل من: الدكتور/ سامى المشطاوى الأستاذ بجامعة شيلى بالبرازيل، والأستاذ/ حسين التريكى السفير السابق بالجامعة العربية، وقام بمراجعتها الدكاترة/ محمود على مكى، الأستاذ بكلية الآداب جامعة القاهرة، وأحمد باسم عبد الغفار، سرى محمد عبد اللطيف، جمال أحمد عبد الرحمن، صبرى محمدى التهامى الأساتذة بكلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر. أما المراجعة اللغوية فقد قامت بها الأستاذة ماريا لويسا أوريندو الأسبانية الأصل والأستاذ بكلية الآداب جامعة القاهرة. أما الترجمة الإندونيسية: فقد ترجمها من العربية إلى الإندونيسية الأساتذة مخلص محمد حنفى، مخلصان جلال الدين، عرفان مسعود عبد الله، عبد الحافظ بن زيد، أمان الله عبد الحليم، عزيز حمدان، أحمد زمرانى، سالم رشدى تشهيونو الأساتذة بجامعات إندونيسيا. وقام بالمراجعة العامة الدكتور محمد قرين شهاب سفير إندونيسيا بالقاهرة ووزير الشئون الإسلامية السابق بأندونيسيا. أما المراجعة اللغوية فقد قام بها الأستاذ/ محمد عارفين بسفارة إندونيسيا بالقاهرة. نص القرارات الوزارية 59 لسنة 1960 م، و 62 لسنة 1960 م. وأسماء لجنة القرآن وعلومه، ولجنة الإعجاز العلمى للقرآن الكريم. هيئة التحرير

قرار وزارى رقم 59 لسنة 1960 بإنشاء لجنة باسم «لجنة تفسير القرآن الكريم» وزير الأوقاف: بعد الاطلاع على القانون رقم 272 لسنة 1959 الخاص بتنظيم وزارة الأوقاف ولائحة إجراءاتها، وعلى القرار الوزارى رقم 20 لسنة 1960 الخاص بإنشاء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- وزارة الأوقاف. قرر ما يأتى: مادة 1 - ينشأ بوزارة الأوقاف لجنة باسم «لجنة تفسير القرآن الكريم». مادة 2 - تعمل هذه اللجنة على وضع تفسير سهل للقرآن الكريم وترجمته إلى اللغات الحية الأخرى. مادة 3 - تتألف هذه اللجنة من: 1 - الأستاذ السيد على السيد (رئيسا) 2 - فضيلة الشيخ إبراهيم زيدان. 3 - فضيلة الشيخ أمين أبو الروس. 4 - الأستاذ حسن علوان. 5 - فضيلة الشيخ حسنين مخلوف. 6 - الدكتور حسين عارف. 7 - الدكتور حسن الساعاتى. 8 - فضيلة الشيخ سيد سابق. 9 - فضيلة الشيخ عبد الجليل عيسى. 10 - فضيلة الشيخ عبد الرحيم فرغل. 11 - فضيلة الشيخ عبد اللطيف السبكى. 12 - فضيلة الشيخ عبد الله المشد. 13 - الأستاذ عبد الغنى المنشاوى.

14 - الدكتور عثمان خليل. 15 - الدكتور على عبد الواحد وافى. 16 - الأستاذ على على منصور. 17 - فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة «مقررا للجنة» 18 - فضيلة الشيخ محمد المبارك. 19 - الدكتور محمد جمال الدين الفندى. 20 - الأستاذ محمد برانق. 21 - فضيلة الشيخ محمد محمود حجازى. 22 - الدكتور محمد سليمان. 23 - الأستاذ محمد شتا. 24 - فضيلة الشيخ محمد أبو العيون. 25 - الدكتور محمد ضياء الدين الريس. 26 - فضيلة الشيخ محمد عرفة. 27 - فضيلة الشيخ محمد على النجار. 28 - فضيلة الشيخ محمد محمد المدنى. 29 - الدكتور محمد يوسف موسى. 30 - الأستاذ محمود حمزة. 31 - الدكتور محمد لبيب شقير. 32 - فضيلة الشيخ محمد سعاد جلال. مادة 4 - يعمل بهذا القرار من تاريخ صدوره تحريرا فى: 20 من ذى القعدة سنة 1379 هـ 15 من مايو سنة 1960 م وزير الأوقاف (أحمد عبد الله طعيمة)

قرار وزارى رقم 62 لسنة 1960 بإنشاء لجنة باسم «لجنة الإشراف على تحفيظ القرآن الكريم» وزير الأوقاف: بعد الاطلاع على القانون رقم 272 لسنة 1959 الخاص بتنظيم وزارة الأوقاف ولائحة إجراءاتها. وعلى القرار الوزارى رقم 20 لسنة 1960 الخاص بإنشاء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف. قرر ما يأتى: مادة 1 - تنشأ بوزارة الأوقاف لجنة باسم (لجنة الإشراف على تحفيظ القرآن الكريم). مادة 2 - تعمل هذه اللجنة على الإشراف على تحفيظ القرآن الكريم وتجويده فى البلاد الإسلامية. مادة 3 - تتألف هذه اللجنة من: 1 - الدكتور أحمد عبد السلام هيبة. 2 - الأستاذ حسن علوان. 3 - فضيلة الشيخ زكى الدين شعبان. 4 - فضيلة الشيخ سليمان ربيع. 5 - الدكتور عبد العزيز عامر. 6 - الأستاذ عبد العزيز على. 7 - فضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضى. 8 - فضيلة الشيخ عيسوى أحمد عيسوى. 9 - الأستاذ لبيب السعيد «مقررا للجنة» 10 - الأستاذ محرم حسونة. 11 - الأستاذ محمد برانق.

12 - المهندس محمد توفيق. 13 - الأستاذ محمد شتا. 14 - الأستاذ محمد عبد المقصود مصطفى. 15 - فضيلة الشيخ محمد عثمان. 16 - فضيلة الشيخ محيى الدين عبد الحميد. 17 - الأستاذ محمود حمزة. مادة 4 - يعمل بهذا القرار من تاريخ صدوره. تحريرا فى: 20 من ذى القعدة سنة 1379 هـ 15 من مايو سنة 1960 م وزير الأوقاف (أحمد عبد الله طعيمة)

المجلس الأعلى للشئون الإسلامية الأمانة العامة للجان العلمية أسماء السادة أعضاء لجنة القرآن الكريم وعلومه 1 - أ. د. محمود عبد الغنى عاشور رئيسا 2 - أ. د. إبراهيم عبد الرحمن خليفة 3 - أ. م. حامد إبراهيم عبد الدائم 4 - أ. د. طه عبد السلام خضير 5 - أ. د. محمد المختار المهدى 6 - أ. د. جودة أبو اليزيد المهدى 7 - أ. د. عبد الغفار حامد هلال 8 - أ. د. عبد الصمد دسوقى 9 - أ. د. محمد بحيرى إبراهيم 10 - الشيخ. رزق خليل حبة

المجلس الأعلى للشئون الإسلامية الأمانة العامة للجان العلمية أسماء السادة أعضاء لجنة الإعجاز العلمى 1 - الأستاذ الدكتور/ أحمد شوقى إبراهيم رئيسا 2 - السيد اللواء/ أحمد عبد الوهاب على 3 - الأستاذ الدكتور/ أحمد أبو الوفا عبد الآخر 4 - الأستاذ الدكتور/ زغلول النجار 5 - الأستاذ الدكتور/ كارم السيد غنيم 6 - الأستاذ الدكتور/ معتز مراد المرزوقى

§1/1