الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

حسين العوايشة

الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الجزء الأول كتاب الطهارة - كتاب الصلاة بقلم حسين بن عودة العوايشة المكتبة الإسلامية دار ابن حزم

بسم الله الرحمن الرحيم

الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1423 هـ - 2002 م المكتبة الإسلامية ص ب: (113) الجبيهة - هاتف 5342887 عمَّان - الأردن دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص ب: 6366/ 14 - تليفون: 701974

مقدمة المؤلف

مقدّمة المؤلف إِنّ الحمد لله، نحمَدُه ونستعينهُ ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شرور أَنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه الله فَلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلل فلا هاديَ لهُ. وأَشهَد أنْ لا إله إِلاَّ الله، وحدَه لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمداً عَبدهُ ورَسولهُ. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3). أمَّا بعد: فإِنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدْي محمّد، وشرّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النَّار، ¬

_ (¬1) آل عمران: 102 (¬2) النساء: 1 (¬3) الأحزاب: 70، 71

فإِنَّني رأيتُ حاجة الأمَّة مُلحَّةً لكتاب فقهيٍّ: شامل، ميسَّر، مُدعَّم بالأدلَّة الثابتة، بعيدٍ عن الغُموض والتَّعقيد والخلافات الفقهيَّة، يفيد من أقوال أهل العلم؛ من غير تعصُّب لمذهب من المذاهب أو عالم من العلماء. وتأمَّلت الكتبَ الموجودة؛ قديمها وحديثها، فرأيتُ الحاجة المُبتغاة مُتناثرة هنا وهناك، ورأيت أقربها إِلى هذا المطلب كتاب "فقه السنَّة" للسَّيد سابق -حفظه الله- تبويباً وترتيباً وتيسيراً وعرضاً وتناولاً؛ فقد أدَّى كتابُه نفعاً عظيماً وجُهداً مباركاً، وقد استفدْتُ منه في كتابي هذا، ولا سيّما في كثيرٍ من العناوين والأدلّة، وكذلك من بعض عناوين المعلِّق على "الروضة الندية" للشيخ محمد الحلاق -حفظه الله- أسأل الله تعالى أن يتقبَّل منِّي ومنه. بَيْد أنَّ الحاجة -فيما أرى- ما تزال مُلحَّة لوجود الكتاب الذي ذكرْتُ سماته في بداية حديثي، لأمور حديثيَّة وفقهيَّة وغير ذلك. لذلك؛ شمَّرتُ عن ساعد الجدِّ، وأنا أعلمُ أنَّ الطريق طويلٌ، والجهد عظيمٌ؛ لأقوم بهذا العمل النافع المبارَك بإِذن الله. وأرجو أن أنتفع من إِخواني بنصيحة أو توجيه أو اقتراح أو تصويب؛ فالمؤمن مرآة المؤمن؛ ليكون الكتاب على خير وجه -بإِذن الله تعالى-. هذا، وقد رجعْتُ لشيخنا الألباني -شفاه الله تعالى وعافاه- في كثير من المسائل، فاستفدْتُ منه، وأنِسْتُ برأيه، فجزاه الله عنِّي وعن المسلمين خيراً. ولعلك سترى بعد ذكر كلمة (شيخنا) (¬1) مرّة -حفظه الله تعالى- ومرّة -شفاه الله وعافاه- وقد ترى كلمة -شفاه الله وعافاه- قبل أو بعد ¬

_ (¬1) شفاه الله وعافاه.

-حفظه الله تعالى- ذلكم أنه قد اشتدّ بشيخنا المرض في فترةٍ من الفترات، ثمَّ تحسَّن حاله، ثمَّ عاوده المرض. كما أننّي كتبتُ بعض العبارات وهو يستمتع بالصحة والعافية، وعند تصحيح التجارب كان في مرضه، وهأنذا الآن على وشك الانتهاء من الكتاب، وقد اشتدّ به المرض، وهو على حالٍ لا أستطيع وصْفها تُذكِّرنا بمقولة قتيبة ابن سعيد -في حياة أحمد بن حنبل رحمه الله- قال: "مات الثوري ومات الورع، ومات الشافعي وماتت السنن، ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع". أخرجه ابن الأعرابي في "معجمه" (1254) والبيهقي في "مناقب الشافعي" (2/ 250) (¬1). ولا أدري ما أقول! هل فقْدنا شيخنا الوالد عبد العزيز بن باز -رحمه الله- هيّأنا للمصاب الجلل الذي سيحلّ بالأمّة، أم أنّ ما نترقبّه من عظيم المصاب يهيّج أحزاننا على فراقه، وهذا كما قال الشاعر: فقُلت له إِنّ الشجى يبعث الشجى ... فدعني فهذا كلّه قبر مالك أسأل الله العظيم، ربَّ العرش العظيم أن يتقبَّلَ منِّي عملي، وأن ينفَعني به وإِخواني المسلمين، وأن لا يجعل لأحدٍ منه شيئاً؛ إِنَّه سبحانه على كلِّ شيء قدير. ثمَّ وقعت مصيبة الموت وكان ذلك قبل مغرب يوم السبت بساعة ونصف تقريباً لثمانية أيّام بقين من شهر جمادى الآخر سنة 1420 هـ الموافق ¬

_ (¬1) وهذا من إِتحافات أخي الشيخ مشهور -حفظه الله ورعاه- في بعض دروسه النافعة في المساجد.

2/ 10/1999م فإِنّا لله وإِنّا إِليه راجعون، ونقول: "إِنَّ العين لتدمع، وإِنَّ القلب ليحزن، وإِنّا بفراقك يا شيخنا الألباني لمحزونون". ورحم الله فقيه المحدثين ومحدّث الفقهاء وشيخ الإِسلام في هذا الزمان، وأجزل له المثوبة والأجر، وجمَعنا به مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. وقد قلت أيام حياته -رحمه الله تعالى-: لولا تفضُّلُ ربِّنا الرحمنِ ... بلقائكم يا شيخنا الألباني ما كنتُ أشعر بالحياة وطعمها ... ولَما استطَبْتُ العيش في عمّانِ علّمتنا كيف النّجاة ننالُها ... فالحمد للغفّار للمنّانِ إِني سألْتُ الله أن ألقاكمُ ... في جنّة الفردوس خير جنانِ ومع الأحبّة والأعزّة كلُّهم ... يا حبّذا عيشي مع الإِخوانِ لا تحسبنّ القول نفثة شاعر ... أو أنّني قد هِمْت في الودْيانِ فالكذْب ليس بجائز في ديننا ... لكنّها مِن غربة الإِيمانِ وأقول الآن بعد مماته -رحمه الله-: ودّعتنا يا شيخنا الألباني ... وادَمعَتَا للعالِم الرباني فارقْتنا والحزن ليس مفارقي ... والدمع يعشق بعدكم أجفاني أسفي على الدنيا بفقد إِمامنا ... والحزن بعدك شيخنا يهواني يا شيخنا إِنّ القلوب تفطرت ... هذا عزائي أيها الثقلان

سأظل أذكركم ويذكرني الشجى ... حتى يوافيَ قبريَ الملكان قلبي يتاجر بالهموم فمن أتى ... سيرى به سوقاً من الأحزانِ أنظل نفرح بالربيع وزهره ... وكذا بماءٍ صبَّ في الوديانِ أم سوف يبهجنا هديل حمائمٍ ... لما تبدّى الحزن من عمّانِ أم سوف يُمتعنا السكون بليله ... حين اختفى عن أمّتي القمرانِ لمّا قضى عبد العزيز إِمامنا ... ثمّ افتقَدنا بعده الألباني ماذا يعيد إِلى القلوب سرورَها ... ماذا يبدّد مبعثَ الأشجان كيف السبيل إِلى ابتسام شفاهنا ... تالله ليس لنا سوى الرحمنِ ذاك الثرى قد ضمّ أغلى عالمٍ ... فلتهنئي يا تربة (الهملان) (¬1) ورجاؤنا استغفار نملٍ شيخنا ... لكمُ ونرجو ذاك في الحيتان منهاجَ خير الناس قد بصّرتنا ... أرشدتنا نحيا مع البرهانِ عرَّفتنا هدي النبي وصحبه ... تالله هذا منهج القرآن علّمتنا حبّ النبي وآله ... حفّزتنا نسعى إِلى الغفرانِ في دقّة الأقوال قد مرّستنا ... درّبتنا نمضي إِلى الإِحسان تالله شمس علومكم ما كُوّرت ... تكوير شمسٍ جاء في القرآنِ وبحار فهمك شيخنا ما سُجّرت ... ستظل مغدقةً مع الأزمانِ لكن بحار الكون يأتيها الفنا ... تسجيرها آتٍ بغير توانِ أمّا انكدار النجم فهو محقّقٌ ... هذي عقيدتنا بلا نكرانِ حين انكدار النجم يلمع علمكم ... وبه المفازة بالمنى وجنان من للحديث مصححاً ومضعّفاً ... إِني شكوت البثّ للرحمن ¬

_ (¬1) هي المقبرة التي دُفن فيها شيخنا -رحمه الله تعالى-.

من للفتاوى حين يعضل أمرها ... مِن بعد فقدِك رائد الفرسان من ذا يصدُّ المُحدِثين وكيدَهم ... ويردُّ ما قالوا من الطغيان من ذا سيُفحم كل صاحب بدعةٍ ... من ذا سيلجم هجمة الفتانِ إِنً الذي قد قال إِنك مرجئٌ ... لا يعرف التأصيل في الإيمان كبُر الكلام خروجه وقبوله ... من فيه شخصٍ خاض في البهتان من قال ذا الإِيمانُ ليس بثابتٍ ... هو في ازديادٍ بل وفي نقصانِ أو قال إنَّ الضُّر قد مس الفتى ... حين اقتراف الذنب والعصيانِ أو قال سبُّ المسلمين مُفسِّقٌ ... وقتالهم يهدي إِلى الكفرانِ كان المصيبَ وليس ذاك بمرجئ ... هذا -وربي- الحقُّ يا إِخواني فاترك هواك فإِنه لك قاتلٌ ... وحذارِ أن تبقى على الهذيانِ إِنَّ الهوى في قتلكم متجاهلٌ ... دِيَةً ولم يورِث سوى الخسران أو قائل ما أنت غيرَ محدّث ... في الفقه ما عرفوا لكم من شانِ ذاك امرؤٌ في جهله متخبّطٌ ... إِنّ الجحود طبيعة الإِنسان روّى الورى من فقهه فتأمّلن ... "صفةَ الصلاة" مصنفَ الألباني "أدب الزفاف" دقائقٌ ولطائفٌ ... "إِرواؤُه" كالماء للعطشانِ وكفى بـ "حكام الجنائز" درّةً ... بيّنتَها للناس خير بيان إنّ "الصحيحة" قد تعاظم نفْعها ... منها عبيق المسك والريحان و"مناسك الحج" التي صنّفتها ... كانت وربّي تحفة الخلاّنِ إِغفالكم إِغفال سنّة أحمدٍ ... نسيانكم ضربٌ من العصيان مهما حييتُ فلست أنسى فضلكم ... إِني أخاف الله أن ينساني

لو كان ذلك جائزاً لوجدتني ... والله في عجزٍ عن النسيانِ أنا في قيامي للصلاة لخالقي ... لا بد من ذكري إِمامي الحاني لا بُدّ من ذكر الذي قد قاله ... في ذي الصلاة وسائر الأركانِ في الحجّ ماذا قال أو أفتى به ... في الصوم في الصدقات في الإِحسانِ لمّا يسبّح بعضهم في سبحةٍ ... قد كان يذكر أحمد العدناني فيقول هذا لم يَرِدْ في ديننا ... ولذا تمثّل في جميع بناني فإِذا السنون فنت سيبقى علمكم ... تالله ما قدّمتَ ليس بفانِ كم من فتاوى كنت تُفتينا بها ... ستظل تذكركم بكل أمان رباه ما أبغي الغلوّ فإِنّه ... يدعو إِلى النيران والشيطان لكن أردت أداء حقِّ إِمامنا ... يا رب باعِدني عن الكفرانِ رحم الإِله الشيخ أوسع رحمةٍ ... وحباه ما يرجو من الرضوان وكتب: حسين بن عودة العوايشة ثمَّ بلَغَنا وفاة الشيخ السيد سابق -رحمه الله- فكان عامنا هذا حافلاً بالأحزان لفَقْد جَمْعٍ من العلماء، وأقول ما قاله الإِمام البخاري حين بلغه نبأ وفاة الإِمام الدارمي -رحمهما الله تعالى-: إِنْ تبْقَ تُفَجعْ بالأحبّة كلهم ... وفناء نفسك -لا أبالك أفجع-.

الطهارة

الطهارة المياه وأقسامها القسم الأول: الماء الطَّهور: وهو الماء الطَّاهر في نفسه، المُطهِّر لغيره، تُرفع به الأحداث والنجاسات. ويشمل الأنواع الآتية: 1 - ماء المطر: قال الله سبحانه: {وأَنْزَلْنَا مِنَ السَّماء ماءً طَهُوراً (¬1)} (¬2) وقال سبحانه: {ويُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً ليُطَهّرَكمْ به (¬3)} (¬4). 2 - ما كان أصله الماء؛ كالثلج والبَرَد: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسكُتُ بين التكبير وبين القراءة إِسكاتة -قال: أحسِبُه قال: هُنَيَّةً- فقلت: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله! إِسكاتُك بين التَّكبير والقراءة؛ ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعد بيني وبين خطايايَ كما باعَدتَ بين المشرق والمغرب، اللهمَّ نقِّني من ¬

_ (¬1) قال ابن كثير: "أي: آلة يُتطهَّر بها؛ كالسَّحور والوجور وما جرى مجراهما". والوَجور: الدواء يوجَر في وسط الفم؛ أي: يُصبُّ. "مختار الصحاح". (¬2) الفرقان: 48 (¬3) قال ابن كثير في "تفسيره": " {لِيُطهِّرَكم به}؛ أي: مِن حدَث أصغر أو أكبر، وهو تطهير الظاهر". (¬4) الأنفال: 11

3 - مياه العيون والينابيع:

الخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهمَّ اغْسِلْ خطاياي بالماء والثلج والبرد" (¬1). 3 - مياه العيون والينابيع (¬2): قال الله تعالى: {أَلمْ تَرَ أَنَّ الله أَنْزَلَ منَ السَّماء مَاءً فَسَلَكهُ يَنابيعَ في الأرْضِ} (¬3). 4 - ماء البحر: لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سأل رجل النّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله! إِنَّا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإِنْ توضأنا به عطِشْنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هو الطَّهورُ ماؤه، الحِلُّ مَيتته" (¬4). 5 - ماء زمزم: لِما ثَبَتَ من رواية عليّ -رضي الله عنه-: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 744، ومسلم: 598، وغيرهما. (¬2) اليَنبوع: عين الماء، وجمعها: ينابيع. "مختار الصحاح". (¬3) الزمر: بعض الآية 21، وفي "تفسير ابن كثير" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية: " ... ليس في الأرض ماءٌ إِلا نزل من السماء، ولكن عروق في الأرض تغيِّره، فذلك قوله تعالى: {فَسَلَكَهُ ينابيعَ في الأرضِ}، فمن سرّه أن يعود الملح عذباً؛ فليصعدْه". (¬4) أخرجه مالك وأصحاب السنن وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (480)، و"صحيح سنن أبي داود" (رقم 76).

6 - الماء الآجن المتغير بطول المكث أو بمخالطة طاهر لا يمكن صونه عنه؛ كالطحلب، وورق الشجر، والصابون، والدقيق.

بسَجْل (¬1) من ماء زمزم، فشَرِب منه وتوضَّأ" (¬2). 6 - الماء الآجن (¬3) المتغير بطول المكث (¬4) أو بمخالطة طاهر لا يمكن صونُه عنه؛ كالطحلب، وورق الشجر، والصابون، والدقيق. "وكذلك ما يتغيَّر في آنية الأدم (الجلد) والنحاس ونحوه؛ يُعْفَى عن ذلك كلِّه، ولا يخرج به الماء عن إِطلاقه". "وأيضاً؛ ما تغيَّر بالسمك ونحوه من دوابِّ البحر، لأنه لا يمكن التحرُّز منه" (¬5). ويظلُّ كلُّ ذاك طَهوراً ما دام اسم الماء المطلق يتناوله. ومن الأدلَّة على ذلك: ما روته أمُّ عطيَّة -رضي الله عنها- قالت: دخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين تُوفِّيت ابنته، فقال: "اغْسِلْنَها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك -إِنْ ¬

_ (¬1) بمعنى الذَّنوب: الدلو الملأى ماء. "النهاية". وفي "فقه اللغة" للثعالبي: "لا يُقال للدلو: سَجْل؛ إِلا ما دام فيها ماء قلَّ أو كثر، ولا يُقال لها: ذَنوب؛ إِلا إِذا كانت ملأى". (¬2) أخرجه عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد المسند" (1/ 76)؛ كما في "الإِرواء" (13)، وانظر "تمام المنة" (ص 46). (¬3) أي: المتغيِّر الطَّعم واللون. (¬4) ونقل شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- اتفاق العلماء على ذلك في "الفتاوى" (21/ 36). (¬5) انظر كتاب "المغني" (أحكام الماء المطلق والمتغيِّر).

رأيتنَّ- بماءٍ وسِدْر (¬1)، واجعَلْنَ في الآخرةِ كافوراً (¬2)، فإذا فرغْتُنَّ؛ فآذِنَّني"، فلما فرغْنا؛ آذنَّاه، فأعطانا حَِقْوه (¬3)، فقال: "أشعِرْنها (¬4) إِيَّاه"؛ تعني: إِزاره (¬5). وفي حديث أمِّ هانئ: "أنَّ النّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل وميمونة من إناء واحد؛ في قصعة فيها أثر العجين" (¬6). قال ابن حزم -رحمه الله تعالى- (مسألة 147) من "المحلى": "وكلُّ ماءٍ خالَطه شيء طاهر مباح، فظهر فيه لونه وريحُه وطعمُه؛ إِلاَّ أنه لم يُزِلْ عنه اسم الماء؛ فالوضوء به جائز، والغُسل به للجنابة جائز. برهان ذلك قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} (¬7)، وهذا ماء، سواء كان الواقع فيه مِسكاً أو عسلاً أو زعفراناً أو غير ذلك". وأما دليل الوضوء في آنية النحاس والجلد ونحوها: فلحديث عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- قال: "أتى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ¬

_ (¬1) السِّدر: شجر النَّبِق. (¬2) الكافور: من أخلاط الطيب، وفي "الصحاح": من الطيب. "لسان العرب". (¬3) بفتح المهملة -ويجوز كسرها، وهي لغة هذيل- بعدها قاف ساكنة، والمراد به هنا الإِزار. "فتح" -بحذف يسير-. (¬4) أي: اجْعلْنه شعارها؛ أي: الثوب الذي يلي جسدها. (¬5) أخرجه البخاري: 1253، ومسلم: 939، وغيرهما. (¬6) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (234)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (303)، وغيرهما، وانظر "المشكاة" (485)، و "الإِرواء" (271). (¬7) النساء: 43، والمائدة: 6

7 - الماء الذي خالطته النجاسة، ولم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه:

فأخرَجْنا له ماءً في تَوْرٍ مِن صُفر (¬1)، فتوضَّأ، فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه مرَّتين مرَّتين، ومسحَ برأسه، فأقبَلَ به وأدْبَرَ، وغَسل رِجليه" (¬2). وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "بِتُّ ذات ليلة عند خالتي ميمونة، فقام النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلِّي متطوِّعاً من الليل، فقام النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى القربة فتوضأ، فقام فصلَّى، فقُمْتُ لمَّا رأيتُه صنَعَ ذلك، فتوضَّأتُ من القِربة، ثمَّ قُمتُ إِلى شقِّه الأيسر، فأخَذ بيدي من وراء ظهره إِلى الشقِّ الأيمن" (¬3). وكذلك حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خَرَجَ لحاجته؛ أجيء أنا وغلام معنا إِداوَة (¬4) من ماء؛ يعني: يستنجي به" (¬5). 7 - الماء الذي خالَطَتْه النجاسةُ، ولم يتغيَّر طعمه أو لونُه أو ريحهُ: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يُقال له: إِنَّه يُستقى لك مِن بئر بُضاعة -وهي بئر يُلقى فيها لحوم الكلاب والمحايض (¬6) وعُذَر النَّاس- فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ الماء طهور، ¬

_ (¬1) التور: شبه الطَّسْت، وقيل: هو الطَّسْت. والصُّفْر: النحاس الجيِّد. "الفتح". (¬2) أخرجه البخاري: (رقم 197)، وروى النسائي نحوه. (¬3) أخرجه البخاري: 6316، ومسلم: 763، وغيرهما. (¬4) هي إِناء صغير من جلد. (¬5) أخرجه البخاري: 150 (¬6) قال في "النهاية": قيل: المحايض جمْع المحيض، وهو مصدر حاض، فلما سُمّي به جَمَعَه، ويقع المحيض على المصدر والزمان والمكان والدّم.

لا ينجِّسه شيء" (¬1). وفي الحديث: "إِذا بَلَغَ الماء قُلَّتين (¬2)؛ لم يَحملِ الخَبَث" (¬3). قال الشوكاني: "وأمَّا حديث القُلَّتين؛ فغايةُ ما فيه أنَّ ما بلَغَ مقدار القلَّتين؛ لا يحمل الخَبَث، فكان هذا المقدار؛ لا يؤثِّرُ فيه الخبث في غالب الحالات، فإِنْ تغيَّر بعض أوصافه؛ كان نَجِساً بالإِجماع الثابت من طُرُق متعدِّدة. وأمّا ما كان دون القلَّتين؛ فلم يَقُل الشارع: إِنه يحمل الخَبَث قطعاً وبتّاً، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (60)، و "الإرواء" (14)، قال أبو داود: "وسمعت قتيبة بن سعيد؛ قال: سألت قيِّم بئر بُضاعة عن عمقها. قال: أكثر ما يكون إلى العانة. قلت: فإِذا نقص؟ قال: دون العورة". قال أبو داود: "وقدرْتُ أنا بئر بُضاعة بردائي مَدَدْتُه عليها، ثمَّ ذرَعْتُه، فإِذا عرضها ستة أذرع، وسألتُ الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إِليه: هل غُيِّر بناؤها عمَّا كانت عليه؟ قال: لا. ورأيت فيها ماءً متغيِّر اللون". (¬2) في "سنن الترمذي": "قال عبدة: قال محمد بن إِسحاق: القُلة هي الجرار، والقُلَّة التي يُستقى فيها". وقال الشافعي وأحمد وِإسحاق -كما في الترمذي أيضاً-: "يكون نحواً من خمس قِرب". والمراد من ذِكْر القلَّتين كثرة الماء، والله أعلم. وسمِّيت قُلَّة؛ لأنَّها تُقَلُّ؛ أي: ترفع وتحْمل. (¬3) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (56)، و"صحيح سنن النسائي" (51)، و"صحيح سنن الترمذى" (57)، و "الإِرواء" (23).

8 - الماء المستعمل:

بل مفهوم حديث القلَّتين يدلُّ على أنَّ ما دونهما قد يحمل الخَبَث وقد لا يحمله، فإِذا حَمَلَهُ؛ فلا يكون ذلك إِلا بتغيُّر بعض أوصافه ... " (¬1). وقال الزهري: "لا بأس بالماء؛ ما لم يغيِّره طعمٌ أو ريحٌ أو لون" (¬2). 8 - الماء المستعمَل: سواء تُوضِّىءَ به أو اغتُسِل ... ونحو ذلك؛ ما لم يُستعمل في إِزالة نجاسة. وفي ذلك أدلَّة كثيرة؛ منها: ما قاله عروة عن المِسْوَر وغيره -يصدِّق كل واحد منهما صاحبه-: "وإِذا توضَّأ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كادوا يقتتلون على وَضوئه" (¬3). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: اغتسل بعض أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جفنة (¬4)، فجاء النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليتوضَّأ منها -أو يغتسل- فقالت له: يا رسول الله! إِنِّي كنتُ جُنُباً. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ الماء لا ¬

_ (¬1) "السيل الجرّار" (باب المياه)، بحذف يسير، ونحوه في "الدراري المضية". (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه" معلَّقاً مجزوماً به. وقال شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى- في "مختصر البخاري" (باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء، رقم: 59): "وصَلَه ابن وهب في"جامعه" بسند صحيح عنه، والبيهقي نحوه". وانظر "الفتح" (1/ 342). (¬3) أخرجه البخاري: 189 (¬4) الجفنة: هي القصعة، وفي "الصحاح": "كالقصعة".

يُجْنِب" (¬1). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يُقال له: إِنَّه يُستقى لك مِن بئر بُضاعة -وهي بئر يُلقى فيها لحوم الكلاب والمحايض (¬2) وعُذَر النَّاس- فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ الماء طهور، لا ينجِّسه شيء" (¬3). وعن الرّبَيِّع بنت مُعَوِّذ -رضي الله عنها- في وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسحَ برأسه مِن فضْل ماءٍ كان في يده" (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لقيني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا جُنُب، فأخذ بيدي، فمشيتُ معه حتى قعد، فانْسَلَلْتُ فأتيتُ الرحل (¬5)، فاغتسلتُ، ثمَّ جئت وهو قاعد، فقال: "أين كنتَ يا أبا هرّ؟ ". فقلتُ له (¬6)، فقال: "سبحان الله يا أبا هرّ! إِنَّ المؤمن لا ينجُس" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح". وانظر "صحيح سنن أبي داود" "صحيح سنن الترمذي" (55)، و"المشكاة" (457). (¬2) قال في "النهاية": قيل: المحايض جمْع المحيض، وهو مصدر حاض، وتقدّم. (¬3) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (60)، و"الإرواء" (14)، تقدّم. (¬4) عن "صحيح سنن أبي داود" (120). (¬5) أى: المكان الذي يأوى فيه. "فتح". (¬6) في رواية أخرى: "كنت جنباً، فكرهتُ أن أجالسك وأنا على غير طهارة". البخاري: 283. (¬7) أخرجه البخاري: 285، ومسلم: 371

قال ابن قدامة: " ... ولأنَّه ماء طاهر لاقى محلاًّ طاهراً؛ كالذي غسل به الثوب الطاهر" (¬1). وقال أيضاً: "ولأنَّه لو غمس يده في الماء؛ لم ينجِّسْه، ولو مسَّ شيئاً رطباً؛ لم يُنجِّسْهُ" (¬2). وعن عمرو بن يحيى عن أبيه؛ قال: "كان عمِّي يكثر من الوضوء. قال لعبد الله بن زيد: أخبِرني كيف رأيتَ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضَّأ؟ فدعا بتورٍ (¬3) مِن ماء، فكفأ على يديه، فغسَلهما ثلاث مرار، ثم أدخَل يده في التَّور، فمضمض واستنثَر ثلاث مرَّات من غَرفة واحدة، ثمَّ أدخَل يده فاغترف بها، فغسَل وجهه ثلاث مرات، ثمَّ غسَل يديه إِلى المرفقين مرتين مرتين، ثمَّ أخذ بيده ماءً، فمسح رأسه، فأدبرَ به وأقبل، ثمَّ غسل رجليه، فقال: هكذا رأيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ" (¬4). وفي "صحيح البخاري": "وأمرَ جريرُ بنُ عبد الله أهلَه أن يتوضَّؤوا بفضل سواكِه" (¬5). قال الحافظ في "الفتح": "وقد صحَّحه الدارقطني بلفظ: كان يقول ¬

_ (¬1) "المغني" (الماء المضاف إِلى مقرِّه والمخالطة لما يلازمه). (¬2) "المغني" (الماء المضاف إِلى مقرِّه والمخالطة لما يلازمه). (¬3) شبه الطَّسْت، وقيل: هو الطَّسْت، وتقدَّم. (¬4) أخرجه البخاري: 199، ومسلم: 235، وفيه الدلالة الصريحة على جواز إدخال اليد في الإِناء إلاَّ ما استُثني؛ خلافاً لمن يتحرَّج من ذلك، أو ينهى عنه. (¬5) كذا أورده معلَّقاً بصيغة الجزم. وقال الحافظ في "الفتح": "هذا الأثر وصله ابن أبي شيبة والدراقطني وغيرهما من طريق قيس بن أبي حازم عنه". وذكر شيخنا في "مختصر البخاري" تصحيح الدارقطني إِسناده. قال الحافظ: "وفي بعض طرقه: كان =

لأهله: توضَّؤوا من هذا الذي أدخل فيه سواكي" (¬1). وعن أبي جحيفة -رضي الله عنه- قال: "خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالهاجرة، فأُتي بوَضوء، فتوضَّأ، فجعَل النَّاس يأخذون من فضل وَضوئهِ فيتمسَّحون به ... " (¬2). قال الحافظ: "وفيه دلالةٌ بيِّنة على طهارة الماء المستعمل". وعن أنس -رضي الله عنه-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا بإِناء من ماء، فأُتي بقدح رَحْراح (¬3) فيه شيء من ماء، فوضع أصابعَه فيه"، قال أنس: "فجعلت أنظر إلى الماء ينبُع من بين أصابعه". قال أنس: "فحزَرْتُ (¬4) مَن توضَّأ ما بين السبعين إلى الثمانين" (¬5). وفي "الفتاوى" (21/ 46) لشيخ الإِسلام: "وسُئِل ... -رحمه الله- عن الماء إِذا غَمَس الرجل يده فيه؛ هل يجوز استعماله أم لا؟ فأجاب: لا ¬

_ = جرير يستاك ويغمس رأس سواكه في الماء، ثمَّ يقول لأهله: توضؤوا بفضله، لا يرى به بأساً". (¬1) انظر (كتاب الوضوء) "باب استعمال فضل وضوء الناس" (رقم 187). (¬2) أخرجه البخاري: 187 (¬3) رَحْراح: أي: متَّسع الفم. وقال الخطَّابي: "الرَّحْراح: الإِناء الواسع الصَّحن القريب القعر، ومثله لا يَسَع الماء الكثير؛ فهو أدلّ على عِظَم المعجزة". قال الحافظ: "وهذه الصفة شبيهة بالطَّست". (¬4) أي: قدَّرْتُ. (¬5) أخرجه البخاري: 200

9 - الماء المسخن:

ينجس بذلك، بل يجوز استعماله عند جمهور العلماء؛ كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وعنه رواية أخرى أنَّه يصير مستعملاً، والله سبحانه وتعالى أعلم". وقال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلَّى" (مسألة 141): "والوضوء بالماء المستعمل جائز، وكذلك الغسل به للجنابة، وسواءٌ وُجد ماءٌ آخر غيره أو لم يوجد، وهو الماء الذي توضَّأ به بعينه لفريضة أو نافلة، أو اغتسل به بعينه لجنابة أو غيرها، وسواء كان المتوضِّىء رجلاً أو امرأة. برهان ذلك: قول الله تعالى: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَىِ أو عَلى سَفَرٍ أو جَاءَ أحدٌ مِنْكُم مِنَ الغَائِطِ أو لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدوا مَاءَ فَتَيَمَّموا} (¬1). فعمَّ -تعالى- كل ماء، ولم يخصَّه، فلا يحِلُّ لأحد أن يترك الماء في وضوئه وغسله الواجب وهو يجده؛ إِلا ما منعه منه نصٌّ ثابت أو إِجماع متيقَّن مقطوع بصحّته". 9 - الماء المسخَّن: فقد ثبت عن عمر -رضي الله عنه-: "أنَّه كان يسخَّن له الماء في قمقم (¬2)، فيغتسل به" (¬3). وثبت عنه أيضاً: "أنَّه كان يغتسل بالحميم" (¬4). ¬

_ (¬1) النساء: 43، والمائدة: 6 (¬2) القُمقم: ما يسخّن فيه الماء من نحاس وغيره ويكون ضيّق الرأس. "النهاية". (¬3) أخرجه الدارقطني وغيره، وصحّحه شيخنا في "الإِرواء" (16). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وصحّحه شيخنا في "الإِرواء" (17). والحميم: هو الماء الحارُّ.

القسم الثاني: الماء الطاهر غير المطهر:

وأمّا حديث: "لا تغتسلوا بالماء المشمَّس؛ فإِنَّه يورث البَرَص"؛ فإِنَّه لم يثبت (¬1). القسم الثاني: الماء الطاهر غير المطهِّر: وهو ما خالَطَه طاهر، فغيَّر اسمه، حتى صار صبغاً أو خَلاً أو ماء وَرْد، أو غَلَب على أجزائه فصيَّره حِبراً، أو طُبِخ فيه فصار مَرَقاً (¬2)، وهذا الصِّنْف لا يجوز الغسل به ولا الوضوء؛ لأنَّ الطَهارة إِنَّما تجوز بالماء؛ لقوله تعالى: { ... فلم تجدوا ماءً فتيمَّموا} (¬3). وهذا لا يقع عليه اسم الماء. وعن عطاء: "أنَّه كره الوضوء باللبن والنّبيذ، وقال: إِنَّ التيمُّم أعجب إِليَّ منه" (¬4). وعن أبي خَلْدة؛ قال: "سألت أبا العالية عن رجل أصابته جنابة، وليس عنده ماء، وعنده نبيذ؛ أيغتسل به؟ قال: لا" (¬5). قال البخاري -رحمه الله- في "صحيحه": "باب: لا يجوز الوضوء ¬

_ (¬1) ضعيف موقوفاً على عمر -رضي الله عنه- ورُوِي مرفوعاً من طُرق واهية جدّاً. وانظر "المشكاة" (489). (¬2) "الشرح الكبير" (ص 11). (¬3) النساء: 43، والمائدة: 6 (¬4) أخرجه البخاري معلَّقاً، وهو في "سنن أبي داود" (86) موصولاً، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (78). (¬5) أخرجه أبو داود: 87، وقال شيخنا -حفظه الله-: "إِسناده صحيح على شرط البخاري". وهو في "صحيح سنن أبي داود" (79).

القسم الثالث: الماء النجس:

بالنّبيذ ولا المسكر، وكرِهه الحسن وأبو العالية" (¬1). قال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله تعالى (¬2) -: "وقول من يقول: لا يُتَوَضَّأ بالنَّبيذ: أقرب إلى الكتاب وأشبه؛ لأنَّ الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيِّباً} (¬3) ". القسم الثالث: الماء النَّجس: وهو ما تغيَّر بمخالطة نَجِس، أو أنْ تُغيِّر النجاسة طعمَه أو لونه أو ريحه. وهذا لا يجوز التطهّر به. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (21/ 30): "الماء إِذا تغيَّر بالنَّجاسات؛ فإِنَّه ينجس بالاتفاق". وجاء في "سُبُل السلام" (ص 21): "قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنَّ الماء القليل والكثير إِذا وقَعَت فيه نجاسة، فغيَّرت له طعْماً أو لوناً أو ريحاً؛ فهو نجِس". النجاسات أولاً: غائط الآدمي، وبوله: وفي ذلك أدلَّة عديدة؛ منها: ¬

_ (¬1) قال شيخنا في "مختصر البخاري": "أمّا أثر الحسن؛ فوصَله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق من طريقين عنه نحوه، وأما أثر أبي العالية؛ فوصله أبو داود وأبو عبيد بسند صحيح عنه نحوه". وهو في "صحيح أبي داود" (87) ". وانظر "الفتح" (1/ 354). (¬2) بعد أن نقل أقوال أهل العلم في المسألة. (¬3) النساء: 43، والمائدة: 6

قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بول الغلام يُنضح، وبول الجارية يُغسل" (¬1). ولم أستدلَّ به على تخفيف طهارة بول الغلام -مع إِفادته ذلك- بل على نجاسة البول بعامَّة، والشاهد: "وبول الجارية يُغسل". وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بول الأعرابي: "دعوه، وأهريقوا على بوله ذَنوباً من ماء -أو سَجْلاً من ماء-" (¬2). وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المُعذَّبَيْن في قبرَيهما: "كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة" (¬3). وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا وطئ أحدُكم بنعليه الأذى؛ فإِنَّ التراب له طَهور" (¬4). وفي رواية: "إِذا وَطِئ الأذى بخُفَّيْه؛ فطَهورهما التراب" (¬5). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- في خلْع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعليه في الصلاة-: قال: بينما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلِّي بأصحابه؛ إِذ خَلَعَ نعليه، فوضَعَهُما عن يساره، فلمَّا رأى ذلك القوم؛ ألقَوا نعالَهم، فلمَّا قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاتَه؛ قال: "ما حَمَلَكُم على إِلقائكم نعالكم؟ ". قالوا: رأيناك ألقيْتَ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم. وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإرواء" (166). (¬2) أخرجه البخاري: 6128، ومسلم: 284، وغيرهما. (¬3) أخرجه البخاري: 1361، ومسلم: 292، وغيرهما. ومعنى: "لا يستتر": لا يستبرئ، ولا يتطهَّر، ولا يستبعد منه. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (371)، وانظر "المشكاة" (503). (¬5) أخرجه أبو داود " صحيح سنن أبي داود" (372) وغيره.

نعليك، فألقينا نعالنا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاني فأخبرني أنَّ فيهما قذراً". وقال: "إِذا جاء أحدكم إِلى المسجد، فلينْظرْ، فإِنْ رأى في نعليه قذراً أو أذى؛ فليَمْسَحْهُ، ولْيُصَلِّ فيهما" (¬1). وممَّا ورد في بول الصغير الذي لم يطعم: ما روته أم قيس بنت مِحْصَن -رضي الله عنها-: "أنَّها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأجلسه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ، فنَضَحَهُ، ولم يغسله" (¬2). قال الحافظ في "الفتح" في تفسير: "لم يأكل الطعام": "المراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرتضعه والتمر الذي يحنَّك به والعسل الذي يلعقه للمُداواة وغيره، فكأنَّ المراد أنَّه لم يحصل له الاغتذاء بغير اللبن على الاستقلال، هذا مقتضى كلام النووي في "شرح مسلم" و "شرح المهذَّب". وقال ابن التين -كما في "الفتح"-: "يُحتمل أنَّها أرادت أنَّه لم يتقوَّت بالطَّعام، ولم يستغنِ به عن الرَّضاع". وعن لُبابة بنت الحارث -رضي الله عنها- قالت: كان الحسين بن علي -رضي الله عنهما- في حجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبال عليه، فقلتُ: اِلبَسْ ثوباً ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره، انظر "صحيح سنن أبي داود" (605)، و"الإِرواء" (284). (¬2) أخرجه البخاري: 223، ومسلم: 287

ثانيا: دم الحيض:

وأعطني إِزاركَ حتى أغسله. قال: "إِنَّما يُغسل من بول الأنثى، وينُضَحُ من بول الذَّكر" (¬1). عن أبي السَّمح؛ قال: "كنت أخدم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إِذا أراد أن يغتسل؛ قال: "ولِّني قفاك"، فأولِّيه قفاي، فأسترُه به، فأُتي بحَسَن -أو حُسين- فبال على صدره، فجئتُ أغسله، فقال: "يُغسل من بول الجارية، ويُرشُّ من بول الغلام" (¬2). وعن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "يُغسل بول الجارية، ويُنضح بول الغلام؛ ما لم يطعم" (¬3). وفي رواية: "قال قتادة: هذا ما لم يطعما الطعام، فإِذا طعما؛ غُسلا جميعاً" (¬4). قال أبو عيسى الترمذي: "وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين من بعدهم -مِثل أحمد وإِسحاق-؛ قالوا: يُنضح بول الغلام، ويُغسل بول الجارية، وهذا ما لم يطعما، فإِذا طعما؛ غُسلا جميعاً". ثانياً: دم الحيض: وفيه أدلَّة عديدة؛ منها: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (361)، وابن ماجه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وانظر "المشكاة" (501). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح أبي داود" (362) وغيره، وانظر "المشكاة" (502). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (363). (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (364).

ثالثا: الودي:

عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حُبَيْش إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله! إِني امرأة أُسْتحاض فلا أطهُر، أفأدَعُ الصلاة؟ فقال: "لا؛ إِنَّما ذلك عِرْق، وليس بالحيضة، فإِذا أقبلتِ الحيضة؛ فدَعي الصلاة، وِإذا أدبرَت؛ فاغْسِلي عنك الدم وصلِّي " (¬1). وعن أم قيس بنت مِحْصَن -رضي الله عنها- قالت: سألتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن دم الحيض يكون في الثوب؟ قال: "حُكِّيه بضِلْع (¬2)، واغسليه بماء وسِدْر" (¬3). وقد نقل النووي في "شرحه" (3/ 200) الإجماع على نجاسته. ثالثاً: الودي: وهو: "البَلَل اللَّزِج الذي يخرج من الذكر بعد البول" (¬4) مباشرة، وهو لا يوجب الغُسل. رابعاً: المَذي: وهو ماءٌ أبيض لَزج رقيق، يخرج بلا دَفْق عند الملاعبة أو تذكُّر الجماع أو إِرادته، وقد لا يحسُّ الإِنسان بخروجه، وهي من النجاسات التي يشقُّ الاحتراز ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 228، ومسلم: 333، وهذا لفظه. (¬2) الضِّلع: هو العود، والأصل فيه ضِلع الحيوان، فسمِّي به العود الذى يشبهه. "النهاية"، وقيل: العود الذى فيه اعوجاج. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (349)، والنسائي وغيرهما، وصحّحه شيخنا في "الصحيحة" (300). (¬4) كذا في "النهاية"، وقال: "هو بسكون الدال وبكسرها وتشديد الياء، وقيل: =

عنها، فخُفِّف تطهيرُه، ولا غُسل على من يصيبه ذلك؛ بل عليه الوضوء، ويغسل ذكَره وخصيتيه قبل ذلك، ويأخذ كفّاً من ماء، وينضح بها ثوبه. والأدلة على ذلك ما يأتي: عن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: كنت رجلاً مذَّاء، فأمرْت رجلاً أن يسأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لمكان ابنته- فسأل، فقال: "توضأ، واغسل ذَكَرَك" (¬1). وفي رواية: "إِذا وَجَدَ أحدُكم ذلك؟ فليَنْضَحْ (¬2) فرْجَه، وليتوضَّأ وضوءه للصلاة" (¬3). وفي رواية: "ليغسل ذكَرَهُ وأنثييه" (¬4). وفي رواية: "من المَذْي الوضوء، ومن المَنِيِّ الغُسْل" (¬5). قال أبو عيسى الترمذي: "وهو قول عامَّة أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ = التشديد أصحّ وأفصح من السكون". (¬1) أخرجه البخاري: 269، ومسلم: 306، وغيرهما. (¬2) ورد النضح على معنيين: الغسل والرش. ولما جاء في بعض الروايات بمعنى الغسل؛ تعيَّن حمل النضح عليه، وهذا ما ذهَب إليه النووي -رحمه الله-. قلت: "وهذا بخلاف الثوب؛ فإِنَّه لم يقل بغسله للتخفيف بخلاف الفرج". (¬3) انظر "صحيح سنن أبي داود" (191). (¬4) انظر "صحيح سنن أبي داود" (192)، وأنثييه؛ أي: خصيتيه. (¬5) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (99) وغيره، وانظر "المشكاة" (311).

خامسا: الميتة:

والتابعين ومن بعدهم، وبه يقول سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق". وعن سهل بن حُنيف -رضي الله عنه- قال: "كنتُ ألقَى من المذي شدَّة وعناء، فكنتُ أُكثر منه الغسل، فذكرْتُ ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسألته عنه فقال: "إِنَّما يُجزئك من ذلك الوضوء". فقلت: يا رسول الله! كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: "يكفيك أن تأخذ كفّاً من ماء، فتنضح به ثوبك، حيث ترى أنَّه أصاب منه" (¬1). قال الشوكاني -رحمه الله-: "فدلَّ هذا الحديث على أن مجرَّد النَّضح يكفي في رفع نجاسة المذْي، ولا يصحُّ أن يُقال هنا ما قيل في المنِيّ، إِنَّ سبب غسله كونه مستقذراً، لأنَّ مجرَّد النضح لا يزيل عين المذي كما يزيله الغسل، فظهر بهذا أنَّ نضحه واجب، وأنَّه نَجِس خُفِّف تطهيره" (¬2). خامساً: الميتة: وهي ما مات من غير تذكية أو ذبح شرعي. ودليل نجاستها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا دُبِغَ الإِهاب، فقد طَهُرَ" (¬3). قال الصنعاني -رحمه الله- في "سبل السلام" (1/ 52): "وأمّا الميتة؛ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (195)، و"صحيح سنن ابن ماجه" (409)، و "صحيح سنن الترمذي" (100). (¬2) "السيل الجرّار" (7/ 35). (¬3) أخرجه مسلم: 366 والإِهاب: هو الجلد قبل أن يُدبَغ؛ فأمّا بعده؛ فلا يسمى إِهاباً.

فلولا أنَّه وَرَدَ "دباغ الأديم طَهوره" (¬1) و"أيّما إِهاب دُبغ؛ فقد طهُر" (¬2)؛ لقُلْنا بطهارتها إِذ الوارد في القرآن تحريم أكْلها لكن حكَمْنا بالنَّجاسة لمَّا قام عليها دليلٌ غير دليل تحريمها". ويندرج تحتها ما قُطع من البهيمة وهي حيَّة؛ لحديث أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما قُطِعَ من البهيمة وهي حيَّةٌ؛ فهو ميتة" (¬3). ويستثنى من ذلك ميتة السمك والجراد؛ فإِنَّها طاهرة حلال أكلها؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُحِلَّتْ لنا ميتتان ودمان فأمّا الميتتان: فالحوت والجراد وأمّا الدَّمان: فالكبد والطحال" (¬4). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: "هو الطَّهور ماؤه، الحلُّ مَيتتُه" (¬5). وجلد الميتة نجس كذلك -كما لا يخفى-؛ للحديث المتقدّم: "إِذا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 366 (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" والترمذي والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3955) وانظر "غاية المرام" (28). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" وأبو داود والترمذي والحاكم في "مستدركه" وحسّنه شيخنا في "غاية المرام" (41). (¬4) أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهما، وصحّحه شيخنا في "الصحيحة" (1118). (¬5) تقدّم في (باب المياه).

سادسا: لحم الخنزير:

دُبِغَ الإِهاب؛ فقد طَهُر". وتقدّم في هذا المعنى بعض النصوص غير بعيد. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "تُصدِّق على مولاة لميمونة بشاة، فماتت، فمرَّ بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "هلاَّ أخذْتم إِهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟. فقالوا: إِنَّها مَيتة. فقال: "إِنَّما حَرُم أكلُها" (¬1). فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "طَهُر"؛ يدلُّ على نجاسته قبل الدِّباغة؛ كما هو بيِّن. سادساً: لحم الخنزير: قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لَعِبَ بالنَّرْدَشير (¬3)؛ فكأنَّما صَبَغَ يده في لحم خنزير ودمه" (¬4). سابعاً: الكلب: ومن الأدلة على نجاسته: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1492، 2221، 5531، ومسلم: 363، وهذا لفظه. (¬2) الأنعام: 145 (¬3) النَّرد: اسم أعجمي معرَّب. وشير: بمعنى: حلو. "النهاية". وتعرف في بلاد الشام بـ (لعبة الطاولة). (¬4) أخرجه مسلم: 2260، والبخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود، وغيرهم.

ثامنا: لحم السباع:

قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا شَرِبَ الكلب في إِناء أحدكم؛ فليَغْسِلْهُ سبعاً" (¬1). وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "طَهور (¬2) إِناء أحدكم إِذا وَلَغَ فيه الكلب: أن يغسله سبع مرات، أولاهنَّ بالتراب" (¬3). ثامناً: لحم السباع (¬4): ومن أدلة نجاستها ما يرويه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "سُئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الماء وما ينوبه من الدوابِّ والسباع فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا كان الماء قُلَّتين؛ لم يحمل الخَبَث" (¬5) وفي لفظ: "لم ينجِّسْه شيء" (¬6). تاسعاً: لحم الحمار: عن أنس -رضي الله عنه- قال: "إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاءه جاءٍ، فقال: أُكِلَتِ الحُمُر ثم جاءه جاءٍ فقال: أُكِلَت الحُمر ثم جاءه جاءٍ، فقال: أُفْنِيَتِ الحُمُر فأمَر منادياً فنادى في النَّاس: "إِنَّ الله ورسوله ينهيانكم عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 172 ومسلم: 279 وغيرهما. (¬2) قال في "سُبُل السلام": "قال في "الشرح الأظهر": فيها ضمّ الطاء ويقال بفتحها؛ لغتان". (¬3) أخرجه مسلم: 279 وأبو داود: 71 وغيرهما. (¬4) انظر للمزيد -إِن شئت- (سؤر السباع). (¬5) أخرجه جمع من الأئمة وانظر "صحيح سنن أبي داود" (56) و"المشكاة" (477) وصحّحه شيخنا في "الإِرواء" (23) وتقدم. (¬6) وهو عند ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (418) وأحمد وصحّحه شيخنا في "الإِرواء" (23) وتقدّم.

عاشرا: الجلالة:

لحوم الحُمُر الأهليَّة؛ فإِنَّها رجس". فأُكْفِئت القُدور وإِنَّها لتفور باللحم" (¬1) عاشراً: الجَلاَّلة (¬2): فقد ثبت في حديث ابن عمر: أنه قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكل الجلاَّلة وألبانها" (¬3). وقال عبد الله بن أبي أوفى: " ... تحدَّثنا أنّما حرَّمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألبته من أجل أنها تأكل العَذِرة" (¬4). وثبت عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنَّه كان إِذا أراد أكل الجلاَّلة حبَسها ثلاثاً (¬5). قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلَّى" (¬6): "وألبان الجلاَّلة حرام، وهي الإِبل التي تأكل الجلَّة -وهي العَذِرة- والبقر والغنم كذلك، فإِن مُنعت من أكلها حتى سقط عنها اسم الجلاَّلة؛ فألبانها حلال طاهرة". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5528، ومسلم: 1940، وغيرهما. (¬2) جاء في "النهاية" ونحوه في "اللسان": "الجَلاَّلة من الحيوان: التي تأكل العَذِرة، والجِلَّة: البعر، فوضَع موضع العَذِرة، يقال: جلَّت الدابَّة الجِلَّة واجْتَلَتْها، فهي جالَّة وجلاَّلة، إِذا التقطتْها". وفي "مختار الصحاح": "جلَّ البعر: التقطه، ومنه سمِّيت الدابَّة التي تأكل العَذِرة: الجَلاَّلة". (¬3) أخرجه أبو داود، وغيره، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (2503). (¬4) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2585). (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عنه، وانظر "الإِرواء" (2505). (¬6) انظر "المحلَّى" (مسألة 140).

حادي عشر: عظام وشعر وقرن ما يحكم بنجاسته:

وأمّا الدَّجاج؛ فلا حرج في أكله، ولو أكَل الأقذار (¬1)، وقد ثبت أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكلهُ؛ كما في حديث زَهْدَم؛ قال: "كنَّا عند أبي موسى الأشعري -وكان بيننا وبين هذا الحيِّ من جَرْم إِخاء - فأُتِي بطعام فيه لحم دجاج، وفي القوم رجُل جالس أحمر، فلم يدْنُ من طعامه، فقال: ادْنُ؛ فقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأكل منه. قال: إِنّي رأيته يأكل شيئاً فقذِرته، فحَلَفْتُ أن لا آكله ... (وذكر الحديث) " (¬2). والبيض أيضاً يحمل نفس الحكم (¬3). حادي عشر: عظام وشَعْر وقَرْن ما يُحكم بنجاسته: لأنها تتغذَّى بالنجاسة؛ إِلا إِذا قَبِلت الدِّباغ (¬4). الأسْآر (¬5) وتُقسَم إِلى قسمين: القسم الأول: الأسآر الطاهرة: وتندرج تحتها الأنواع الآتية: ¬

_ (¬1) انظر "الفتح" (9/ 646) للمزيد من الفائدة. (¬2) أخرجه البخاري: 5518، ومسلم: 1649، وغيرهما. (¬3) استفدته من شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى-. (¬4) أفادنيه شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى-. (¬5) جمع سؤر، وهو فضلة الشرب وبقيَّته.

1 - سؤر الآدمي:

1 - سؤر الآدمي: قال ابن قدامة في "المغني" (¬1) -في معرض كلامه عن سؤر الآدمي-: " ... فهو طاهر، وسؤره طاهر سواء كان مسلماً أو كافراً، عند عامّة أهل العلم ... ". وفي ذلك أدلَّة؛ منها: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... إنَّ المؤمن لا ينجس" (¬2). وفي رواية: "إنَّ المسلم لا ينجس" (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "بينما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، فقال: يا عائشة! ناوليني الثوب". فقالت: إني حائض. فقال: "إنَّ حيضتك ليست بيدك"، فناولَتْهُ (¬4). وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنتُ أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيضع فاه على موضع فيَّ، فيشرب، وأتعرَّق العَرْقَ (¬5) وأنا ¬

_ (¬1) انظر (سؤر الآدمي وعرَقه). (¬2) تقدم تخريجه في (الماء المستعمل). (¬3) أخرجه البخاري: 283، ومسلم: 372 (¬4) أخرجه مسلم: 299 (¬5) جاء في "الفتح" (2/ 129): "عَرْقاً -بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف-. قال الخليل: العُراق: العظم بلا لحم، وإن كان عليه لحم؛ فهو عرق. =

حائض، ثمَّ أناولُه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيضع فاه على موضع فيَّ" (¬1). وهذا صريح في طهارة فم وسؤر الحائض. وعن عبد الله بن سعد -رضي الله عنه- قال: سألتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مواكلة الحائض؟ فقال: "واكِلْها" (¬2). وقد أورده الترمذي -رحمه الله- في (باب: مواكلة الحائض وسؤرها). وأما القول بطهارة سؤر الكافر؛ فللأسباب الآتية: أولاً: التمشي مع القاعدة المعروفة: "الأصل في الأعيان الطهارة". ثانياً: مخالطة المسلمين للمشركين وإباحة ذبائحهم والزواج منهم، ولا نعلم أنَّهم كانوا يغسلون شيئاً ممّا أصابته أبدانهم أو ثيابهم (¬3). وأما قول الله تعالى: {إِنَّما المُشْرِكون نَجَس} (¬4)؛ فلا يُراد منها نجاسة الأبدان. ¬

_ = وفي المحكم عن الأصمعي: العَرْق -بسكون الراء-: قطعة لحم. وقال الأزهري: العَرق واحد العراق، وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم، ويبقى عليها لحم رقيق، فيُكسر ويُطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم دقيق، ويتشمس العظام، يقال: عرَقت اللحم واعترقْتُه وتعرَّقته: إِذا أخذت اللحم منه نهشاً". ومما قال ابن الأثير في "النهاية": "العَرْق: العظم الذي أخذ عنه معظم اللحم". (¬1) أخرجه مسلم: 300 (¬2) انظر "صحيح سنن ابن ماجه" (531) و"صحيح سنن الترمذي" (114). (¬3) قاله السيد سابق -حفظه الله تعالى- بمعناه في "فقه السنَّة" (سؤر الآدمي). (¬4) التوبة: 28

2 - سؤر ما يؤكل لحمه:

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره ": وأما نجاسة بدنه؛ فالجمهور على أنَّه ليس البدن والذات؛ لأنَّ الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب ... ". وقال ابن الجوزي في كتابه "زاد المسير في علم التفسير" (¬1): والثالث: أنَّه لمّا كان علينا اجتنابهم كما تُجتَنَب الأنجاس؛ صاروا بحُكم الاجتناب كالأنجاس، وهذا قول الأكثرين، وهو صحيح". 2 - سؤر ما يؤكل لحمه: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: إِنِّي لَتَحْت ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسيل عليَّ لعابُها، فسمعته يقول: "إِنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه؛ ألا لا وصيَّة لوارث" (¬2). جاء في "سُبل السلام" (1/ 53): "والحديث دليل على أنَّ لعاب ما يؤكل لحمه طاهر. قيل: وهو إِجماع. وهو أيضاً الأصل، فذِكْر الحديث بيانٌ للأصل، ثمَّ هذا مبنيٌّ على أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علِم سيلان اللُّعاب عليه؛ ليكون تقريراً". قال أبو بكر بن المنذر: "أجمع أهلُ العلم -لا اختلاف بينهم- أنَّ سُؤر ما يؤكل لحمُه طاهر؛ يجوزُ شربُه والتطهر به" (¬3). ويرى أهل العلم طهارة روث ما يؤكل لحمه؛ فالقول بطهارة سؤره أولى. ¬

_ (¬1) وقد نَقَلَ ثلاثة أقوال في الآية. (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2194)، والترمذي والدارقطني وغيرهم، وانظر "الإرواء" (6/ 89). (¬3) الأوسط (1/ 299) (المسألة 76).

3 - سؤر الهرة:

3 - سؤر الهرة: عن كبشة بنت كعب بن مالك -وكانت تحت ابن أبي قتادة- أنَّ أبا قتادة دخل فسكبت له وَضوءاً، فجاءت هرة فشربت منه، فأصغى (¬1) لها الإِناء حتى شربت. قالت كبشة: فرآني أنظرُ إِليه. فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلتُ: نعم. فقال: إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّها ليست بنَجَس، إِنَّها من الطَوَّافين عليكم والطَوَّافات" (¬2). وعن داود بن صالح بن دينار التمَّار عن أمه: أنَّ مولاتها أرسلَتها بهريسة (¬3) إِلى عائشة، فوجدَتها تصلِّي، فأشارت إِليَّ أن ضعيها، فجاءت هرَّة، فأكَلت منها، فلمَّا انصرفتْ، أكَلت من حيث أكَلت الهرة. فقالت: إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّها ليست بنَجَس، إِنَّما هي من الطوَّافين عليكم"، وقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضَّأ بفضلها (¬4). وفي طهارة سؤر الهرة قال الترمذي -رحمه الله-: "وهو قول أكثر العلماء من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين ومَن بعدهم؛ مِثل: الشافعي وأحمد ¬

_ (¬1) أي: أمال. (¬2) أخرجه أبو داود، والترمذي، وغيرهما. وانظر "صحيح سنن أبي داود" (68). وقال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الإِرواء" تحت (173): " ... وكذا صحَّحه البخاري والعقيلي والداراقطني؛ كما في تلخيص الحافظ ... ". (¬3) في "لسان العرب": " الهرْس: الدق، ومنه الهريسة، وقيل: الهريس: الحب المهروس قبل أن يُطبخ، فهو الهريسة ... ". (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (69).

القسم الثاني: الأسآر النجسة:

وإسحاق؛ لم يَروْا بسؤر الهرَّة بأساً". القسم الثاني: الأسآر النَّجسة: ويدخل في ذلك: 1 - سؤر الكلب: ومن الأدلَّة على ذلك: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا شَرِب الكلب في إِناء أحدكم؛ فليغسله سبعاً" (¬1). وفي رواية: "إِذا ولَغَ الكلب في إِناء أحدكم؛ فليُرِقْه، ثمَّ ليغسله سبع مرار" (¬2). قال بعض أهل العلم: "ولو كان سؤره طاهراً؛ لم تَجُزْ إِراقته، ولا وَجَب غسْله". وجاء في "سُبل السلام": "والإِراقة إِضاعة مال، فلو كان الماء طاهراً؛ لَما أمر بإِضاعته، إِذ قد نهى عن إِضاعة المال، وهو ظاهر في نجاسة فمه" (¬3). وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: "طَهور إِناء أحدكم إِذا ولَغ فيه الكلب: أن يغسله سبع مرات، أولاهنَّ بالتراب" (¬4). وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "طَهور"؛ تدلُّ على نجاسة سؤر الكلب؛ كما قال بعض أهل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 172، ومسلم: 279 وغيرهما، وتقدَّم. (¬2) أخرجه مسلم: 279 (¬3) (كتاب الطهارة، طهور إِناء أحدكم ... ). (¬4) أخرجه مسلم: 279، وغيره وتقدَّم.

2 - سؤر الحمار:

العلم. 2 - سؤر الحمار: ودليل ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أنس -رضي الله عنه- قال: " أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاءه جاءٍ، فقال: أُكِلَتِ الحُمُر، ثم جاءه جاءٍ، فقال: أُكلَت الحُمر، ثم جاءه جاءٍ، فقال: أُفْنِيَت الحُمُر، فأمَر منادياً، فنادى في النَّاس: "إِنَّ الله ورسوله ينهيانكم عن لحم الحُمُر الأهليَّة؛ فإِنَّها رجس". فأُكْفِئت القُدور وِإنَّها لتفور باللحم" (¬1). وفي رواية (¬2): فأمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا طلحة، فنادى: إِنَّ الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحُمُر؛ فإِنَّها رِجْس أو نَجَس". وقال الترمذي -رحمه الله- في "سننه": "باب: سؤر الحمار (وأورد الحديث السابق) ". 3 - سؤر الخنزير: قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬3). واستدلَّ من استدل من العلماء على نجاسة لحم الحمار بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5528، ومسلم: 1940، وغيرهما، وتقدّم. (¬2) أخرجه مسلم: 1940 (¬3) الأًنعام: 145

4 - سؤر السباع:

"فإِنها رجس" (¬1)؛ فالخنزير بهذا الوصف أولى. وكلُّ شيء ثبتت نجاسة لحمه؛ يُحْكَم بنجاسة سؤره. وكلّ شيء لا يؤكل لحمه -سوى الهِرّ-؛ يُحْكم بنجاسة سؤره" (¬2). 4 - سؤر السباع (¬3): ومن أدلَّة ذلك ما يرويه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سُئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الماء وما ينوبه من الدوابِّ والسباع؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا كان الماء قُلَّتين؛ لم يَحْمِل الخَبَث" (¬4). وفي لفظ: "لم يُنَجِّسْهُ شيء" (¬5). قال شيخنا الألباني -حفظه الله- في "تمام المنَّة" (¬6): " ... قال ابن التُّركماني في "الجوهر النقي" (1/ 250): وظاهر هذا يدلُّ على نجاسة سؤر السباع، إذ لولا ذلك؛ لم يكن لهذا الشرط فائدة، ولكان التقييد به ضائعاً. وذكَر النووي نحوه في "المجموع" (1/ 173) " ... اهـ ¬

_ (¬1) تقدَّم تخريجه. (¬2) انظر "نيل الأوطار" (باب نجاسة لحم الحيوان الذي لا يُؤكل إِذا ذبح). (¬3) في "اللسان": "السَّبُع: يقع على ما له ناب من السباع ويعدو على الناس والدواب فيفترسها؛ مثل: الأسد والذئب والنمر والفهد وما أشبهها ... ". وقيل: "السَّبُع من البهائم العادية: ما كان ذات مخلب". (¬4) تقدم. (¬5) تقدم. (¬6) (ص 47) ( ... ومن السؤر).

ما يظن أنه نجس وليس كذلك

قلتُ: والذي جاء في "المجموع": "واحتجَّ مَن منَع الطهارة بسؤر السباع بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنَّ النّبيَّ سئل عن الماء يكون بالفلاة وما ينوبه من السباع والدوابِّ؟ فقال: "إِذا كان الماء قُلَّتين؛ لم ينجس". قالوا: فدلَّ على أنَّ لورود السباع تأثيراً في تنجيس الماء ... ". ما يُظنّ أنَّه نجس وليس كذلك أولاً: المَنِيّ (¬1): ومن الأدلَّة على طهارته ما يأتي: ما يرويه علقمة والأسود؛ أنَّ رجلاً نزل بعائشة -رضي الله عنها- فأصبح يغسل ثوبه، فقالت عائشة: "إِنَّما كان يجزئك إِنْ رأيته أن تغسل مكانه، فإِن لم ترَ؛ نضَحْتَ حوله، ولقد رأيتُني أفركه من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرْكاً فيصلي فيه" (¬2). وفي رواية: "لقد رأيتُني وإِنِّي لأحكُّه من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يابساً بظُفُري" (¬3). ولو كان المنيُّ نجساً؛ لما صلَّى النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثوبه ذلك. قال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله- عن الفرك: "وهو قول غير واحد من ¬

_ (¬1) وقد قال بعض أهل العلم بنجاسته، ولكن المتأمّل في النصوص وفقهها وأقوال أهل العلم يطمئنّ -إِن شاء الله تعالى- لطهارته. (¬2) أخرجه مسلم: 288، وغيره. (¬3) عن "صحيح مسلم": 290

أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء؛ مِثل: سفيان، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإِسحاق؛ قالوا في المنِيِّ يصيب الثوب: يجزئه الفَرْك، وإِن لم يُغْسَل". جاء في "السيل الجرَّار": "وقد ثبت من حديث عائشة -رضي الله عنها- عند مسلم وغيره أنها كانت تفرك المنيَّ من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي (¬1)، ولو كان نجساً؛ لنزَلَ عليه الوحي بذلك؛ كما نزل عليه الوحي بنجاسة النعال الذي صلَّى فيه" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنت أفرك المنيَّ من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا كان يابسا، ً وأمسحه أو أغسله -شكَّ الحُميدي- إذا كان رطباً" (¬3). وتردُّد الحميدي بين المسح والغسل لا يضرُّ؛ فإِنَّ كلَّ واحد منهما ¬

_ (¬1) ليس في "صحيح مسلم" كما نبَّه أحد الأخوة، وِإنما هو في: "صحيح ابن خزيمة" (290)، وصحّحه شيخنا. (¬2) يشير بذلك اٍلى حديث أبي سعيد -رحمه الله- قال: "بينما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي بأصحابه؛ إِذ خلَع نعليه، فوضعَهما عن يساره، فخَلَعَ الناس نعالَهم، فلمّا قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته؛ قال: ما حمَلكم على إِلقائكم نعالكم؟ ". قالوا: رأيناك ألقيت نعلك فألقينا نعالنا. قال: "إِنَّ جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً". أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "الإرواء" (284)، وتقدّم. (¬3) أخرجه أبو عوانة، والطحاوي، والدارقطني؛ كما في "الإِرواء" (180)، وقال شيخنا -حفظه الله-: "وإسناده صحيح على شرط الشيخين".

ثابتٌ (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلت (¬2) المنيَّ من ثوبه بعِرْق الإِذخِر (¬3)، ثم يصلِّي فيه، ويحتُّه من ثوبه يابساً، ثم يصلِّي فيه" (¬4). وعن عطاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنَّه قال في المنيِّ يصيب الثوب: "أمِطْه عنك -قال أحدهم- بعودٍ أو إِذخِرة؛ فإِنَّما هو بمنزلة البصاق والمخاط" (¬5). قال ابن حزم في "المحلَّى" المسألة (131): "والمنيُّ طاهر في الماء كان أو في الجسد أو في الثوب، ولا تجب إِزالته، والبصاق مثله، لا فرق". وجاء في "سبل السلام" (1/ 55): "وقالت الشافعيَّة: المنيُّ طاهر، واستدلُوا على طهارته بهذه الأحاديث (¬6). ¬

_ (¬1) من قول شيخنا -حفظه الله- في "الإِرواء" (180). (¬2) أي: يميطه. وفي "المحيط": "أخرجه بيده". والسلت: يأتي بمعنى المسح أيضاً. (¬3) هو حشيش طيب الريح. (¬4) أخرجه أحمد وغيره، وإسناده حسن؛ كما في "الإِرواء" (180). ورواه ابن خزيمة في "صحيحه". (¬5) سنده صحيح على شرط الشيخين، وهو منكر مرفوعاً؛ كما في "الضعيفة" (948). (¬6) يريد أحاديث الفرك والحتّ ونحوها.

قالوا: وأحاديث غَسله محمولة على النَّدب وليس الغَسْل دليل النجاسة؛ فقد يكون لأجل النظافة وإِزالة الدَّرن ونحوه، قالوا: وتشبيهه بالبُزاق والمخاط دليل على طهارته أيضاً، والأمر بمسحه بخرقة أو إِذخِرة لأجل إِزالة الدَّرن المستكره بقاؤه في ثوب المصلي، ولوكان نجساً؛ لما أجزأ مسْحه". وقد ورد غَسْل المنيّ؛ كما في بعض النصوص: كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنت أغسل الجنابة من ثوب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيخرُجُ إِلى الصلاة، وإِنَّ بُقَعَ الماء في ثوبه" (¬1). وعنها -رضي الله عنها- أيضاً: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان يغسل المنيَّ ثمَّ يخرج إِلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغَسْل فيه" (¬2). وقال أبو عيسى -رحمه الله-: "وحديث عائشة -رضي الله عنها- أنَّها غسلت منيَّاً من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ليس بمخالف لحديث الفَرْك؛ لأنَّه وإن كان الفرك يجزئ؛ فقد يستحبُّ للرَّجل أن لا يرى على ثوبه أثره". وقال ابن حزم في "المحلَّى" (مسألة 131): "وأمّا حديث سليمان بن يسار (¬3)؛ فليس فيه أمْر من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغَسْله، ولا بإِزالته، ولا بأنَّه نجس، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 229 (¬2) أخرجه مسلم: 289 (¬3) وقد تقدَّم بلفظ: "كان يغسل المنيَّ ثمَّ يخرج إِلى الصلاة في ذلك الثوب ... ".

وإِنَّما فيه أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغسله، وأنَّ عائشة -رضي الله عنها- كانت تغسله وأفعاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليست على الوجوب". ثمَّ ذكر -رحمه الله- حديث أنس بن مالك -رحمه الله- في حكِّ البزاق باليد من المسجد. ولفْظه -كما في البخاري (405) -: عن أنس: "أنَّ النّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى نخامة في القِبْلة، فشقَّ ذلك عليه، حتى رُئي في وجهه، فقام، فحكَّه بيده .. ". قال ابن حزم -رحمه الله-: "فلم يكن هذا دليلاً عند خصومنا على نجاسة النخامة، وقد يغسل المرء ثوبه ممّا ليس نجساً". وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (21/ 605): "وبالجملة؛ فخروج اللبن من بين الفرث والدم: أشبه شيء بخروج المنيِّ من مخرج البول" (¬1). وقال -رحمه الله-: ومن المعلوم أنَّه لم ينقُل أحد أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أحداً من الصحابة بغَسْل المنيّ من بدنه وثوبه، فعُلم يقيناً أنَّ هذا لم يكن واجباً عليهم، وهذا قاطع لمن تدبَّره" (¬2). وقال الحافظ في "الفتح": " ... لا معارضة بين حديثي الغَسْل والفَرْك؛ ¬

_ (¬1) "الفتاوى" (21/ 603)، وله بحث نفيس في طهارة المني والردّ على من يقول بنجاسته (ص 589 وما بعدها) من مجلد (21). (¬2) "الفتاوى" (21/ 605).

ثانيا: الخمر:

لأنَّ الجمع بينهما واضح على القول بطهارة المنيِّ؛ بأن يُحْمل الغَسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب". قال: "وهذه طريقة الشافعيِّ وأحمد وأصحاب الحديث" (¬1). ثانياً: الخمر: وذلك لأنَّ الأصل في الأعيان الطهارة، وليس هناك من دليل على نجاستها. أمَّا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2). فإِن كلمة "رجْس" تعني النجاسة الحُكمية لا الحسِّيَّة، وإلاَّ لَزمنا من ذلك أن نحكم بنجاسة الأنصاب والأزلام. وكذلك التحريم لا يقتضي النجاسة، وإلا لزِمنا الحكم بنجاسة الأمهات والبنات والأخوات والعمَّات ... لأنَّ الله تعالى يقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ ... } (¬3) الآية. والطعام المسروق يحرُم أكْله، ولا يُقال بنجاسته. جاء في "سُبُل السلام" (1/ 52): "والحقّ أنَّ الأصل في الأعيان الطهارة، وأنَّ التحريم لا يلازم النجاسة؛ فإِنَّ الحشيشة محرَّمة طاهرة، وكذا المخدِّرات والسموم القاتلة لا دليل على نجاستها، وأمَّا النجاسة؛ فيلازمها ¬

_ (¬1) انظر "الفتح" (1/ 332). وذكره الشوكاني في "نيل الأوطار" (1/ 67). (¬2) المائدة: 90 (¬3) النساء: بعض الآية 23

التحريم، فكلُّ نجس محرَّم، ولا عَكْس، وذلك لأنَّ الحكم في النجاسة هو المنع عن ملابستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكمٌ بتحريمها؛ بخلاف الحكم بالتحريم؛ فإِنَّه يحرُم لُبْس الحرير والذهب، وهما طاهران ضرورة شرعية وِإجماعاً". وجاء في "الدراري المضيَّة" (¬1) (1/ 28): "ولو كان مجرَّد تحريم الشيء مستلزماً لنجاسته لكان مِثل قوله تعالى: {حُرِّمتْ عَليكُمْ أمَّهاتُكُم ... } إِلى آخره دليلاً على نجاسة النساء المذكورات في الآية، وهكذا يلزم نجاسة أعيان وقع التصريح بتحريمها، وهي طاهرة بالاتِّفاق كالأنصاب (¬2) والأزلام (¬3) وما يُسكر من النباتات والثمرات بأصل الخِلقة. فإِن قلتَ: إِذا كان التصريح بنجاسة شيء أو رجسيَّته يدلُّ على أنَّه نجس كما قلتَ في نجاسة الروثة ولحم الخنزير؛ فكيف لم تحكم بنجاسة الخمر لقوله تعالى: {إِنَّما الخَمْرُ والميْسِرُ والأنْصابُ والأزْلامُ رِجْسٌ} (¬4)؟! قلتُ: لمَّا وقع الخمر هنا مقترناً بالأنصاب والأزلام؛ كان ذلك قرينة صارفة لمعنى الرجسية إِلى غير النجاسة الشرعية. وهكذا قوله تعالى: {إِنَّما المُشْركونَ نَجَسٌ} (¬5)؛ لمّا جاءت الأدلَّة ¬

_ (¬1) باختصار يسير. (¬2) هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها. "تفسير ابن كثير". (¬3) هي قداح كانوا يستقسمون بها. "تفسير ابن كثير". (¬4) المائدة: 90 (¬5) التوبة: 28

ثالثا: روث وبول ما يؤكل لحمه:

الصحيحة المقتضية لعدم نجاسة ذوات المشركين؛ كما ورد في أكل ذبائحهم وأطعمتهم والتوضُّؤ في آنيتهم والأكل فيها؛ كان ذلك دليلاً على أنَّ المراد بالنجاسة المذكورة في الآية غير النجاسة الشرعية". وجاء في "السيل الجرَّار" (1/ 35): "وليس في نجاسة المسكر دليل يصلح للتمسُّك به ... ". ثمَّ ذكر أن الرِّجْس في آية المائدة إِنَّما هو الحرام وليس النجس؛ بدلالة السياق. ثالثاً: روث وبول ما يؤكل لحمه: عن أنس -رحمه الله- قال: "قدِم أناس من عُكْل أو عُرَيْنة، فاجْتَوَوا (¬1) المدينة، فأمرهم النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلقاح (¬2)، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلمَّا صحُّوا، قَتَلوا راعيَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستاقوا النَّعم، فجاء الخبر في أوَّل النهار، فبعَثَ في آثارهم، فلما ارتفع النهار؛ جيء بهم، فأَمَر، فقَطَع أيدِيَهم وأرجُلَهم، وسُمِّرت (¬3) أعينُهم، وأُلقوا في الحَرَّة (¬4) يَستسْقون فلا ¬

_ (¬1) أي: كرهوا المقام فيها لتضرّرهم بالإِقامة. قال ابن العربي: الجوى: داء يأخذ من الوباء، وهي بمعنى: استوخموا، وقد جاءت في رواية أخرى للبخاري: 4192، بهذا اللفظ. (¬2) أى: فأمرهم أن يلحقوا بها. واللِّقاح: النُّوق ذوات الألبان، واحدها لِقْحة بكسر اللام وِإسكان القاف، وقال أبو عمرو: يقال لها ذلك إِلى ثلاثة أشهر، ثمَّ هي لَبون. "فتح". (¬3) سُمّرت: لغة في السَّمل، وهو فقء العين بأي شيء كان، وقد يكون من المسمار، يريد أنَّهم كُحلوا بأميال قد أُحميت. "فتح". (¬4) الحرَّة: أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة.

يُسقون". قال أبو قِلابة: "فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد أيمانِهم وحاربوا الله ورسولَه" (¬1). قال الإِمام أبو البركات ابن تيمية -رحمه الله-: " ... فإِذا أُطْلِق الإِذن في ذلك (¬2)، ولم يشترط حائلاً يقي من الأبوال، وأُطلق الإِذن في الشرب لقوم حديثي العهد بالإِسلام، جاهلين بأحكامه، ولم يأمر بغَسْل أفواههم وما يصيبهم منها؛ لأجل صلاة ولا غيرها، مع اعتيادهم شربها؛ دلَّ ذلك على مذهب القائلين بالطهارة" (¬3). وقال -رحمه الله-: "فتحليل التداوي بها دليل على طهارتها، فأبوال الإِبل وما يلحق بها طاهرة" (¬4). وقال: "والظاهر طهارة الأبوال والأزبال من كل حيوان يؤكل لحمه؛ تمسُّكاً بالأصل، واستصحاباً للبراءة الأصلية، والنجاسة حُكم شرعيٌّ ناقل عن الحُكم الذي يقتضيه الأصل والبراءة، فلا يُقبل قول مدَّعيها إلا بدليل يصلُح للنقل عنهما، ولم نجد للقائلين بالنجاسة دليلاً كذلك ... " (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 233، ومسلم: 1671 (¬2) أي: الشرب من هذه الأبوال. (¬3) "نيل الأوطار" (1/ 62). (¬4) "نيل الأوطار" (1/ 60). (¬5) "نيل الأوطار" (1/ 61).

واستدلَّ بهذا الحديث من قال بطهارة بول ما يُؤكل لحمه (¬1). واستدلوا معه أيضاً بقول ابن مسعود -رحمه الله-: "إِنَّ الله لم يجعل شفاءكم فيما حرَّم عليكم" (¬2)، وذلك أنَّ التحليل يستلزم الطهارة (¬3). وفي الحديث: "صلّوا في مرابض الغنم (¬4)، ولا تصلُّوا في أعطان الإِبل (¬5) " (¬6). وفي بعض الروايات: "فإِنَّها خُلقت من الشياطين" (¬7). وعن جابر بن سَمُرة -رضي الله عنهما-: أنَّ رجلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أأتوضَّأ من لحوم الغنم؟ قال: "إِن شئت؛ فتوضأ، وإن شئت؛ فلا توضَّأ". ¬

_ (¬1) انظر "نيل الأوطار" (1/ 60). (¬2) إِسناده صحيح موقوفاً على ابن مسعود -رضي الله عنه- وعلَّقه البخاري بصيغة الجزم (كتاب الأشربة، باب شراب الحلواء والعسل، "الفتح" (78)، وقال شيخنا الألباني في "الصحيحة" تحت رقم (1633): "إِسناده صحيح". (¬3) ولكنَّ التحريم لا يستلزم النجاسة؛ كما تقدَّم. (¬4) جمع مَربِض -بفتح الميم وكسر الباء- وهو المأوى والمقرّ. (¬5) جمع عَطن؛ قيل: موضع إِقامتها عند الماء خاصّة، وقيل: هو مأواها المطلق، وسواء كان هذا أو ذاك؛ فالأبوال والأرواث حاصلة. (¬6) أخرجه الترمذي، وقال "حديث حسن صحيح" وانظر "الإرواء" (176). و"المشكاة" (739)، والنهي عن الصلاة في أعطان الإبِل لا يقتَضي القولَ بنجاستِها؛ كما لا يخفى. (¬7) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (623)، وانظر "الإِرواء" (176).

قال: أتوضَّأ من لحوم الإِبل؟ قال: "نعم؛ فتوضَّأ من لحوم الإِبل". قال: أصلِّي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم". قال: أصلِّي في مبارك الإِبل؟ قال: "لا" (¬1). جاء في "الفتاوى": "وسُئل عن بول ما يؤكل لحمه؛ هل هو نجس؟ فأجاب: أمّا بول ما يؤكل لحمه وروث ذلك، فإِنَّ أكثر السلف على أنَّ ذلك ليس بنجس وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما، ويُقال: إِنَّه لم يذهب أحد من الصحابة إِلى تنجيس ذلك، بل القول بنجاسة ذلك قول مُحْدَث، لا سَلَف له من الصحابة، وقد بَسَطنا القول في هذه المسألة في كتاب مفرد، وبيَّنَّا فيه بضعة عشر دليلاً شرعيّاً، وأنَّ ذلك ليس بنجس، والقائل بتنجيس ذلك ليس معه دليل شرعيٌّ على نجاسته أصلاً" (¬2). وجاء فيه أيضاً: " ... أنَّ هذه الأعيان لو كانت نجسة؛ لبيَّنه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يبيِّنْه؛ فليست نجسة، وذلك لأنَّ هذه الأعيان تكثر ملابسة الناس لها، ومباشرتهم لكثير منها، خصوصاً الأمَّة التي بُعِث فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإِنَّ الإِبِل والغنم غالب أموالهم، ولا يزالون يُباشرونها ويباشرون أماكنها في مقامهم وسفرهم، مع كثرة الاحتفاء فيهم. فلو كانت نجسة يجب غسل الثياب والأبدان والأواني منها، وعدم مخالطته، ويمنع من الصلاة مع ذلك، ويجب تطهير الأرض ممَّا فيه ذلك إِذا صُلّي فيها، ويحرُم شرب اللبن الذي يقع فيه بعْرها، وتُغسل اليد إِذا أصابها البول أو رطوبة البعر، إِلى غير ذلك من أحكام النجاسة؛ لوجب أن يبيِّن النّبيّ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 360 (¬2) انظر "الفتاوى" (21/ 613) وما بعدها.

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بياناً تحصل به معرفة الحكم، ولو بيَّن ذلك؛ لنُقِل جميعه أو بعضه؛ فإِنَّ الشريعة وعادة القوم توجب مِثل ذلك، فلمَّا لم ينقل ذلك؛ عُلِم أنَّه لم يبيِّن لهم نجاستها. وعدم ذِكْر نجاستها دليل على طهارتها من جهة تقريره لهم على مباشرتها وعدم النَّهي عنه، والتقرير دليل الإِباحة، ومِن وجْه أنّ مِثل هذا يجب بيانه بالخطاب، ولا تُحال الأمّة فيه على الرَّأي؛ لأنَّه من الأصول، لا من الفروع ... " (¬1). وجاء فيه أيضاً: "ومتى قام المقتضي للتحريم أو الوجوب ولم يذكُروا وجوباً ولا تحريماً؛ كان إِجماعاً منهم على عدم اعتقاد الوجوب والتحريم، وهو المطلوب، وهذه الطريقة معتمدة في كثير من الأحكام" (¬2). وفيه أيضاً: " ... وهو إِجماع الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم في كل عصر ومصر على دياس الحبوب من الحنطة وغيرها بالبقر ونحوها، مع القطع ببولها وروثها على الحنطة، ولم ينكر ذلك منكر، ولم يغسل الحنطة لأجل هذا أحدٌ، ولا احترز عن شيء ممَّا في البيادر؛ لوصول البول إِليه، ولا أعلم لمن يخالف هذا شبهة" (¬3). وفيه أيضاً: "ما ثبت واستفاض من أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على راحلته، وأدخَلها المسجد الحرام الذي فضَّله الله على جميع بقاع الأرض، ومعلوم أنَّه ¬

_ (¬1) انظر "الفتاوى" (21/ 578 وما بعدها) بحذف يسير. (¬2) انظر "الفتاوى" (21/ 581). (¬3) "الفتاوى" (21/ 583 و 584)؛ بحذف يسير.

ليس على الدواب من العقل ما تمنع به من تلويث المسجد المأمور بتطهيره؛ للطائفين والعاكفين والرُّكَّع السجود، فلو كانت أبوالها نجسة؛ لكان فيه تعريض المسجد الحرام للتنجيس ... " (¬1). قال ابن عباس: "طاف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعيره" (¬2). وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "شكوت إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أشتكي، فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، فطفتُ، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ يصلّي إِلى جنب البيت، وهو يقرأ: {والطُّور وكِتابٍ مَسْطورٍ} (¬3) " (¬4). قال ابن بطال: "في هذا الحديث جواز دخول الدواب التي يؤكل لحْمها المسجد إِذا احتيج إِلى ذلك؛ لأنَّ بولها لا ينجسه؛ بخلاف غيرها من الدواب" (¬5). قال البخاري -رحمه الله-: "وصلّى أبو موسى في دار البريد والسِّرْقين ¬

_ (¬1) "الفتاوى" (21/ 573 و 574)؛ بحذف يسير. (¬2) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في "كتاب الصلاة" ووصله في "كتاب الحج" برقم (1607) من حديث ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "طاف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجّة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن" ورواه مسلم: 1272 والمحجن: عصا محنيَّة الرأس، والحجن: الاعوجاج. (¬3) الطور: 1 - 2 (¬4) أخرجه البخاري: 1619 (¬5) "الفتح" تحت الحديث (464).

رابعا: الدماء سوى دم الحيض والنفاس:

والبَرِّيَّة إِلى جنبه، فقال: ها هنا وثمَّ سواء" (¬1). رابعاً: الدماء سوى دم الحيض والنفاس: كنت قد تكلّمتُ في (باب النجاسات) عن نجاسة دم الحيض، وأما سائر الدِّماء؛ فطاهرة، سواء كان دم إِنسان أو دم مأكول اللحم من الحيوان؛ لأنَّ الأصل في الأعيان الطهارة، والبراءة الأصلية مستصحبة، فلا يُترك هذا الأصل إلا بنصٍّ صحيح. ومن الأدلة على ذلك: قصّة ذلك الصحابي الأنصاري الذي رماه المشرك بثلاثة أسهم وهو قائم يصلّي، فاستمرَّ في صلاته والدماء تسيل منه، وذلك في غزوة ذات الرقاع (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (كتاب الوضوء، باب أبوال الإِبِل والدواب والغنم ومرابضها). قال الحافظ: "وهذا الأثر وصله أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة له". والسِّرقين: هو الزّبل، ويُقال له: السِّرجين بالجيم. والبرية: الصحراء، منسوبة إِلى البر. ودار البريد المذكورة: موضع بالكوفة، كانت الرسل تنزل فيه إِذا حضرت من الخلفاء إِلى الأمراء، وكان أبو موسى أميراً على الكوفة في زمن عمر وفي زمن عثمان، وكانت الدار في طرف البلد، ولهذا كانت البرِّيَّة إِلى جنبها. وقال المطرزي: البريد في الأصل: الدابَّة المرتبة في الرباط، ثمَّ سمّي به الرسول المحمول عليها، ثمَّ سُمّيت به المسافة المشهورة. "الفتح". ومعنى سواء: يريد أنَّهما متساويان في صحة الصلاة. "الفتح" أيضاً. (¬2) أخرجه أبو داود وغيره من حديث جابر بسند حسن؛ كما في "الصحيحة" (300).

قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: "ومن الظاهر أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِم بها؛ لأنَّه يبعُد أن لا يطَّلع على مِثل هذه الواقعة العظيمة، ولم يُنْقَل أنَّه أخبره بأنّ صلاته بطلت؛ كما قال الشوكاني (1/ 165) " (¬1). وكذلك قول الحسن -رحمه الله تعالى-: "ما زال المسلمون يصلُّون في جراحاتهم" (¬2). وعن محمد بن سيرين عن يحيى الجزَّار؛ قال: "صلى ابن مسعود -رضي الله عنه- وعلى بطنه فرث ودم جزور نحرها، ولم يتوضَّأ" (¬3). وصحَّ عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أيضاً: "أنَّه نحر جزوراً، فتلطَّخ بدمها وفرْثها، ثمَّ أقيمت الصلاة، فصلى ولم يتوضَّأ" (¬4). فائدة: إِنَّ القائلين بنجاسة الدماء ليس عندهم حُجَّة؛ إِلا أنَّه محرَّم بنصّ القرآن، فاستلزموا من التحريم التنجيس؛ كما فعلوا تماماً في الخمر، ولا يخفى أنَّه لا يلزم من التحريم التنجيس؛ بخلاف العكس؛ كما بيّنه الصنعاني في "سبل ¬

_ (¬1) انظر "الصحيحة" تحت رقم (300). (¬2) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (كتاب الوضوء، باب من لم يرَ الوضوء إلاَّ من المخرَجيْن). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "الأمالي" (2/ 51/1) وغيره، وِإسناده صحيح؛ كذا في "الصحيحة" (تحت رقم 300). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (1/ 125)، وغيره؛ كما في "تمام المنّة" (ص 52).

خامسا: رطوبات فرج المرأة:

السلام" ثمَّ الشوكاني وغيرهما ... " (¬1). قال شيخنا -حفظه الله تعالى- "وجملة القول: أنَّه لم يَرِد دليل فيما نعلم على نجاسة الدم على اختلاف أنواعه؛ إلا دم الحيض، ودعوى الاتفاق على نجاسته منقوضة بما سبق من النقول، والأصل الطهارة، فلا يُتْرَك إلاَّ بنص صحيح يجوز به ترْك الأصل، وإِذ لم يَرِدْ شيء من ذلك؛ فالبقاء على الأصل هو الواجب، والله أعلم" (¬2). وذكر نحوه الشوكاني -رحمه الله- في "السيل الجرَّار" (¬3) و"الدَّراري المضيَّة" (¬4). خامساً: رطوبات فرج المرأة: وذلك لاستصحاب البراءة الأصلية؛ كما تقدَّم مراراً ذِكر هذه القاعدة، ولا أعلم أحداً من أهل العلم ذكَرها في النجاسات. واحتجَّ الشَّيخُ الموفَّقُ وغيره على طهارة رطوبة فرجِ المرأة: بأنَّ منيَّ الرَّجل عند الجماع يخالطُ منيَّ المرأة، ولو كان منيُّها نجساً؛ لما اكتفى منه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفرك. "الفتح" (شرح الحديث 230). ¬

_ (¬1) انظر فقه حديث (300) من "الصحيحة". (¬2) انظر "الصحيحة" تحت رقم (301). (¬3) (1/ 44). (¬4) (1/ 25 - 26).

سادسا: قيء الآدمي:

سادساً: قيء الآدمي: إِذِ الأصل الطهارة، فلا يُنقل عنها إلا بدليل. قال الشوكاني في "السيل الجرَّار" (1/ 43): "قد عرَّفناك في أول كتاب الطهارة أنَّ الأصل في جميع الأشياء الطهارة، وأنَّه لا يَنْقُل عن ذلك إلاَّ ناقلٌ صحيح صالح للاحتجاج به غيرَ معارض بما يرجُح عليه أو يساويه، فإِنْ وجدنا ذلك؛ فبها ونعمت، وإِنْ لم نجدْ ذلك كذلك؛ وَجَب علينا الوقوف في موقف المنع، ونقول لمدَّعي النجاسة: هذه الدعوى تتضمَّن أنَّ الله سبحانه أوجب على عباده واجباً هو غسل هذه العين التي تزعم أنَّها نجسة، وأنَّه يمنع وجودها صحة الصلاة بها؛ فهات الدليل على ذلك". ولم يذكره -رحمه الله- في النجاسات في "الدرر البهية" (¬1). وإلى طهارة قيء الآدمي ذهب شيخنا الألباني في "تمام المنة" (¬2). سابعاً: عرق الجنب والحائض: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقِيَه في بعض طريق المدينة وهو جُنُب، فانخَنَسْتُ منه، فذهب فاغتسل ثمَّ جاء، فقال: "أين كنت يا أبا هريرة؟ ". قال: كنتُ جُنُباً، فكرهتُ أن أجالسك وأنا على غير طهارة. فقال: "سبحان الله! إِنَّ المسلم لا ينجس" (¬3). ¬

_ (¬1) وانظر "تمام المنَّة" (53). (¬2) (ص 53). (¬3) أخرجه البخاري: 283، ومسلم: 371 نحوه، وتقدّم.

ثامنا: ميتة ما لا نفس له سائلة:

وبوَّب البخاري في "صحيحه" باباً في ذلك، فقال: "باب عرق الجُنُب، وأن المسلم لا ينجُسُ". ثامناً: ميتة ما لا نفس له سائلة: كالذُّباب والنَّمل والعنكبوت ونحو ذلك ... وذلك لأنَّ الأصل في الأعيان الطهارة والبراءة الأصلية مستصحبة. وفي الحديث: "إِذا وقع الذُّباب في إِناء أحدكم؛ فلَيغْمِسْه كلَّه، ثمَّ ليطْرَحْه؛ فإِنَّ في إِحدى جناحيه داء وفي الآخر شفاء" (¬1). وإِنَّما أمر بغمس الذباب كلّه حفاظاً على الطعام أو الشراب، وفيه دليل الطهارة. وممَّن قال بطهارة ما لا نفس له سائلة: أبو البركات مجد الدين ابن تيمية في "منتقى الأخبار"، والشوكاني في شرحه "نيل الأوطار" (1/ 68). والصنعاني في "سبل السلام" (1/ 36). إِزالة النجاسات أولاً: حكم إِزالة النجاسة: وحكم إِزالة النجاسات فرض. قال ابن حزم -رحمه الله-: "وإِزالة النجاسة وكل ما أمَر الله تعالى بإِزالته فرض". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5782

ثانيا: قاعدة جليلة جامعة في تطهير النجاسات:

وقال: "وهذه المسألة تنقسم أقساماً كثيرة، يجمعها أنَّ كلَّ شيء أمَر الله تعالى على لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باجتنابه أو جاء نصٌّ بتحريمه أو أمَر كذلك بغسله أو مسْحه؛ فكلُّ ذلك فرض يعصي مَن خالفه؛ لما ذكرنا قَبْل مِنْ أَنَّ طاعته تعالى وطاعة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض" (¬1). ثانياً: قاعدة جليلة جامعة في تطهير النجاسات: جاء في "السيل الجرَّار" (1/ 42): "والواجب اتِّباع الدليل في إِزالة عين النجاسة، فما ورد فيه الغَسْل حتى لا يبقى منه لون ولا ريح ولا طعم؛ كان ذلك هو تطهيره. وما ورَد فيه الصبُّ أو الرشُّ أو الحتُّ أو المسح على الأرض أو مجرَّد المشي في أرض طاهرة؛ كان ذلك هو تطهيره. وقد ثبت في السنَّة أنً النعل الذي يصيبه القذر يطهَّر بالمسح، وهو من المغلَّظة اصطلاحاً، وكذلك ورد في الثوب إِذا أصابه القذر عند المشي على أرض قذرة أنَّه يطهِّره المرور على أرض طاهرة" (¬2). ثالثاً: تطهير النجاسات: 1 - العَذِرة (الغائط): وتُزال عند الاستنجاء بالماء أو الحجارة ونحوه: أمّا الماء: فلقوله تعالى: {فيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا} (¬3). ¬

_ (¬1) "المحلَّى" (مسألة 120). (¬2) هناك تفصيلات طيبة (ص 46 وما بعدها)، فارجع إِليها -إِن شئت-. (¬3) التوبة: 108

وقد نزلت هذه الآية في أهل قِباء؛ لأنهم كانوا يستنجون بالماء؛ كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: "نزلت هذه الآية في أهل قِباء: {فيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا} ". قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم هذه الآية" (¬1). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خرج لحاجته؛ أجيء أنا وغلام معنا إِداوة (¬2) من ماء؛ يعني: يستنجي به" (¬3). وأمّا الحجارة: فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار" (¬4). وعن عائشة -رضي الله عنها-: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا ذهب أحدُكم إِلى الغائط؛ فليستطب بثلاثة أحجار؛ فإِنَّها تجزئ عنه" (¬5). وأمّا ما يسدُّ عن الحجارة؛ كالورق ونحوه؛ فإِنَّه مستنبَط من عدَّة نصوص؛ منها: ما يرويه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: اتَّبعتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخرج ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، والترمذي، وغيرهما، وهو في "صحيح سنن أبي داود" (34)، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (45). (¬2) إناء صغير من جلد؛ كما تقدَّم. (¬3) أخرجه البخاري: 150، وتقدَّم. (¬4) أخرجه مسلم: 262 (¬5) أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم، وصحّحه شيخنا -حفظه الله- في "الإرواء" (44).

لحاجته. فكان لا يلتفت، فدنوتُ منه، فقال: "ابغني أحجاراً أستنفض بها - أو نحوه-، ولا تأتني بعظم ولا روث" (¬1). فنهيُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن العظم والرَّوث دالٌّ على جواز ما سواهما ممّا تزال به النجاسة، ولو لم يَجُزْ هذا؛ لقال له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ابغني أحجاراً أستنفض بها" وسكت، أو قال: ولا تأتني بغيرها؛ بيدَ أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ولا تأتني بعظم ولا روث". ومن المعلوم أنَّ النجاسات محصورة؛ بخلاف الأعيان الطاهرة؛ فإِنَّها غير ْمحصورة، فحصْر النهي عن العظم والروث يدلُّ على جواز استعمال غيرهما. وقد علَّل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبب هذا النهي، فقال: "لا تستنجوا بالرَّوث ولا بالعظام؛ فإِنَّه زاد إِخوانكم من الجنِّ" (¬2). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: " ... وهذا كما أنَّه لمَّا أمر بالاستنجاء بالأحجار؛ لم يختصَّ الحجر؛ إِلا لأنَّه كان الموجود غالباً، لا لأنَّ الاستجمار بغيره لا يجوز، بل الصواب قول الجمهور في جواز الاستجمار بغيره؛ كما هو أظهر الروايتين عن أحمد؛ لنهيه عن الاستجمار بالروث ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 155 قال الحافظ في "الفتح -بحذف يسير-: "ابغِني؛ بالوصل من الثلاثي؛ أي: اطلب لي، وفي رواية بالقطع؛ أي: أعنِّي على الطَّلب، يُقال: أبغيتك الشيء؛ أي: أعَنْتُك على طلبه، والوصل أليق بالسياق". ومعنى أستنفض: "أستخرج بها وأستنجي، والنفض: هزّ الشيء ليطير غباره". (¬2) أخرجه الترمذي وغيره، وروى مسلم نحوه، وانظر "الإِرواء" (46).

2 - دم الحيض:

والرِّمَّةَ (¬1) وقال: "إِنهما طعام إِخوانكم من الجنِّ" فلمّا نهى عن هذين تعليلاً بهذه العلَّة؛ عُلم أنَّ الحكم ليس مختصاً بالحجر، وإلاَّ لم يحتج إِلى ذلك" (¬2). وذكر نحوه الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (1/ 256). وقال الشوكاني -رحمه الله- في "الدراري المضية": "وإِذا لم توجد الأحجار؛ فغيرها يقوم مقامها للضرورة؛ ما لم يكن ذلك الغير ممَّا ورد النهي عنه؛ كالروثة والرجيع (¬3) والعظم ... " (¬4). وتُطهّر العَذِرة من النِّعال بالتُّراب: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا وطئ أحدُكم بنعليه أذى؛ فإِنَّ التراب له طَهور" (¬5). وفي رواية: "إِذا وطئ الأذى بخُفَّيه؛ فطَهورهما التراب" (¬6). 2 - دم الحيض: وتطهير دم الحيض من الثوب بحكِّه بضِلع وغَسْله بماء وسِدْر أو صابون ونحوه، ثم ينضح الماء في سائر الثوب: ¬

_ (¬1) أي: العظم البالي. (¬2) "الفتاوى" (21/ 205). (¬3) أي: الرَّوث. (¬4) (1/ 40 - 41). (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (371) وغيره، وانظر "المشكاة" (503). وتقدَّم. (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (372)، والحاكم في "المستدرك". وتقدم.

لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حُكِّيه بضِلْع، واغسليه بماء وسِدْر" (¬1). وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: "سمعت امرأة تسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ثوبها؛ إِذا طَهُرت من حيضها؛ كيف تصنع به؟ قال: إِن رأيتِ فيه دماً؛ فحُكِّيه، ثم اقرصيه بماء، ثم انضحي في سائره، فصلِّي فيه" (¬2). قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الصحيحة" (299): "في هذه الرواية زيادة: "ثم انضحي في سائره"، وهي زيادة هامَّة؛ لأنَّها تبيِّن أنَّ قوله في رواية هشام: "ثم لتنضحه"؛ ليس المراد نضح مكان الدم، بل الثوب كله. ويشهد له حديث عائشة قالت: "كانت إِحدانا تحيض، ثمَّ تقرص الدَّم من ثوبها عند طهرها، فتغسله، وتنضح على سائره، ثمَّ تصلِّي فيه" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنَّ خولة بنت يَسار -رضي الله عنها- أتت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله! إِنَّه ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه، فكيف أصنع؟ قال: "إِذا طَهُرْتِ؛ فاغسليه، ثمَّ صلِّي فيه". ¬

_ (¬1) الضِّلع: العود الذي فيه اعوجاج، وتقدَّم معناه وتخريج الحديث في (باب النجاسات). (¬2) أخرجه أبو داود، والدارمي -والسياق له- والبيهقي وسنده حسن؛ كما في "الصحيحة" (1/ 539) تحت رقم (299). وهو في "صحيح البخاري" (307) بلفظ: "إِذا أصاب ثوب إحداكنَّ الدم من الحيضهّ؛ فلتَقْرصه، ثمَّ لتنضَحْه بماء، ثمَّ لتصلِّي فيه". (¬3) أخرجه البخاري: 308 وابن ماجه، والبيهقي: (2/ 406 - 407).

3 - الإناء الذي ولغ فيه الكلب:

فقالت: فإِنْ لم يخرج الدَّم؟ قال: "يكفيك غسل الدم، ولا يضرُّك أثره" (¬1). قال الشوكاني -رحمه الله-: "ويستفاد من قوله: "لا يضرُّك أثره": أنَّ بقاء أثر النجاسة الذي عسُرت إِزالته: لا يضرُّ، لكن بعد التغيير بزعفران أو صفرة أو غيرهما، حتى يذهب لون الدم؛ لأنَّه مستقذر، وربَّما نسَبها من رآه إِلى التقصير في إِزالته" (¬2). 3 - الإِناء الذي ولغ فيه الكلب: ويكون ذلك بغسله سبع مرات أولاهنَّ بالتراب. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "طَهور إِناء أحدكم إِذا ولَغَ فيه الكلب: أن يغسله سبع مرات أولاهنَّ بالتراب" (¬3). 4 - البول: ويُطهَّرُ البول عموماً بالغَسْل: ومن الأدلة على ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... وبول الجارية يُغسل" (¬4). ¬

_ (¬1) عن "صحيح سنن أبي داود" (351). (¬2) " نيل الأوطار" (1/ 50). (¬3) أخرجه مسلم: 279، وتقدَّم. وورد في "صحيح البخاري" بلفظ: "إِذا شرب الكلب في إِناء أحدكم؛ فليغسله سبعاً"، وتقدَّم. وقد وردت في بعض الروايات: "السابعة بالتراب"،وهذا القول شاذٌّ، والأرجح: "الأولى بالتراب". وانظر "صحيح سنن أبي داود" (66). (¬4) تقدَّم.

وأمّا إِذا كان بول ذَكَر رضيع لم يَطْعَم؛ فيخفَّف فيه بالنَّضح كما تقدَّم، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث السابق: "بَوْل الغلام يُنْضَح". وكما في حديث أمِّ قيس بنت مِحْصَن -رضي الله عنها-: "أنَّها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأجْلَسَه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حِجْره، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه ولم يغْسِلْه" (¬1). وكذلك حديث أبي السَّمح -رضي الله عنه- قال: كنتُ أخدم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إِذا أراد أن يغتسل؛ قال: "ولِّني قفاك"، فأوليّه قفاي، فأستره به، فأُتي بحسن -أو حسين-، فبال على صدره، فجئت أغسله، فقال: "يُغْسَل من بول الجارية، ويُرشُّ من بول الغلام" (¬2). وأمّا الأرض التي يصيبها البول: فيَتِمُّ تطهيرها بأخذ ما بيل عليه من التراب وإلقائه، ثمَّ يُصبُّ على مكانه الماء. فعن أبي هريرة: "أنَّ أعرابياً دخل المسجد ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس، فصلَّى ركعتين، ثمَّ قال: اللهمَّ ارحَمْني ومحمَّداً ولا ترحم معنا أحداً، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لقد تحجَّرتَ واسعاً" (¬3)، ثمَّ لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إِليه، فنهاهم النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: "إِنَّما بُعِثْتم ميسِّرين، ولم تُبْعَثوا معسِّرين، صبُّوا عليه سَجْلاً من ماء أو قال: ذَنوباً من ماء) " (¬4). ¬

_ (¬1) تقدَّم. (¬2) تقدَّم. (¬3) أي: ضيَّقْتَ ما وسَّعه الله، وخصَّصْتَ به نفسك دون غيرك. "النهاية". (¬4) أخرجه البخاري: 220، ومسلم: 284 وأبو داود -وهذا لفظه- وغيرهم.

5 - إزالة الأذى من الذيل والثوب:

وفي رواية عبد الله بن معقل بن مقرِّن؛ قال: "صلَّى أعرابي مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بهذه القصة، وقال فيه): قال -يعني: النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ --: "خذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء" (¬1). 5 - إِزالة الأذى من الذيل (¬2) والثَّوب: عن أمِّ ولد لإِبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: "أنَّها سألت أم سلمة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إِنِّي إِمرأة أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذِر، فقالت أمّ سلمة: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يُطهِّره ما بعده" (¬3). وعن امرأة من بني عبد الأشهل -رضي الله عنها- قالت: "قلتُ: يا رسول ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (367). وقال أبو داود: وهو مرسَل؛ ابن معقِل لم يدرك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". قال شيخنا -حفظه الله-: "قلتُ: وهو مرسل صحيح الإِسناد، ورجاله كلهم ثقات، رجال الشيخين، وقد جاء مرسلاً وموصولاً من طرق أخرى، فالحديث بهما صحيح". ومن الطرق الموصولة التي ذكَرها شيخنا طريق أنس: أنَّ أعرابياً بال في المسجد، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "احفِروا مكانه، ثمَّ صبُّوا عليه ذَنوباً من ماء". وهذا إِسنادٌ رجالُه ثقات؛ كما قال الحافظ في "تلخيص الحبير" (1/ 37). عن "صحيح سنن أبي داود" الأصل من نسخة شيخنا -حفظه الله تعالى-. قلتُ: وذكر الحافظ في "الإِصابة" (3/ 142) رقم (6643) أنَّه عبد الله بن مُغفَّل. (¬2) الذيل: آخر كل شيء، وذيل الإِزار والثوب: ما جُرَّ. "القاموس المحيط". (¬3) صحيح بما بعده، وانظر "صحيح سنن أبي داود " (369)، و"المشكاة" (504).

6 - الودي:

الله! إِنَّ لنا طريقاً إِلى المسجد مُنْتِنة، فكيف نفعل إِذا مُطرنا؟ قال: "أليس بعدها طريق هى أطيب منها؟ ". قالت: قلتُ: بلى. قال: "فهذه بهذه" (¬1). 6 - الوَدْي: ويُطهَّر بالغَسْل. 7 - المَذْي: يُطهَّر ما لامس الفرج منه والأنثيين بالغَسْل، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليغسل ذكره وأنثييه" (¬2). ويُطهره من الثياب بالنضح والرش: كما في حديث سهل بن حُنيف -رضي الله عنه-: ... فقلت: يا رسول الله! كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: "يكفيك أن تأخذ كفّاً من ماء، فتنضح به ثوبك، حيث ترى أنه أصاب منه" (¬3). 8 - جلد الميتة: ويكون ذلك بدبغها: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا دُبِغ الإِهاب؛ فقد طهُر" (¬4). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيّما إِهاب دُبِغ فقد طَهُر" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (370). وانظر "المشكاة" (512). (¬2) تقدَّم. (¬3) تقدَّم. (¬4) أخرجه مسلم: 366، وتقدَّم. (¬5) تقدَّم في (باب النجاسات).

9 - إذا وقع الفأر في السمن ونحوه:

9 - إِذا وقع الفأر في السمن ونحوه: يُلقي الفأر وما حوله، ويؤكَل السمن وما شابهه، هذا إِذا لم يكن في السمن المتبقِّي أثر لنجاسة في طعمٍ أو لونٍ أو رائحة، وإلاَّ؛ ألْقى ما تبقَّى. وحُكم السَّمْن أو الزَّيْت؛ كحُكم الماء ولا فرق، وضابط الأمر يرتبط ببقاء أثرٍ للنَّجاسة أم لا. ولا فرق بين القول في الجامد والمائع؛ إِلا من هذا الباب، وهو بقاء الأثر أو عدمه والله أعلم. قال الزُّهري: "لا بأس بالماء ما لم يغيِّره طعمٌ أو ريحٌ أو لونٌ" (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن ميمونة: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل عن فأرة سقطت فىِ سمن؟ فقال: "ألقوها وما حولها فاطرحوه، وكلوا سمنكم" (¬2). وسئل شيخ الإِسلام -رحمه الله- عن الزيت إِذا كان في بئر، ووقع فيه نجاسة، فما الحكم إِذا كان دون القُلَّتين؟ فأجاب -رحمه الله-: "إِذا كان أكثر مِن القُلَّتين؛ فهو طاهر عند جمهور العلماء؛ كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم ... ¬

_ (¬1) أورده البخاري في "صحيحه" (كتاب الوضوء باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء) معلَّقاً بصيغة الجزم، ووصَله ابن وهب في "جامعه" عن يونس عنه. وروى البيهقي معناه من طريق أبي عمرو -وهو الأوزاعي- عن الزهري. كذا في "الفتح". (¬2) أخرجه البخاري: 235، وغيره.

10 - إذا كان الماء كثيرا ووقعت فيه نجاسة:

والأظهر أنَّه إِذا لم يكن للنجاسة فيه أثر، بل استهلكت فيه، ولم تغيِّر له لوناً ولا طعماً ولا ريحاً؛ فإِنَّه لا ينجُس، والله أعلم" (¬1). 10 - إِذا كان الماء كثيراً ووقعت فيه نجاسة: إِن كان الماء لم يتغيَّر بالنجاسة؛ فهو طاهر، وِإنْ كانت عين النجاسة باقية؛ أُخِذَتْ منه ونُزِحَتْ وأُلقِيَت، وبهذا يكون سائر الماء طاهراً. جاء في "الفتاوى": "وسُئل -رحمه الله- عن بئر وقع فيه كلب أو خنزير أو جمل أو بقرة أو شاة، ثمَّ مات فيها، وذهَب شعره وجلده ولحْمه، وهو فوق القُلَّتين؛ فكيف يُصنع به؟ فأجاب: الحمد لله، أي بئر وقع فيه شيء ممَّا ذكر أو غيره: إِنْ كان الماء لم يتغيَّر بالنجاسة؛ فهو طاهر، فإِن كانت عين النجاسة باقية؛ نُزِحَتْ منه وأُلقِيَتْ، وسائر الماء طاهر ... وأمّا إِنْ كان الماء قد تغيَّر بالنجاسة؛ فإِنَّه يُنْزَحُ منه حتى يطيب، وإن لم يتغيَّر الماء؛ لم يُنْزَحْ منه شيء ... (وذكر حديث بئر بُضاعة) " (¬2). 11 - الماء القليل إِذا تنجَّس يطهُر بالمكاثرة: وذلك حتى لا يبقى أثرُ ريحٍ أو طعمٍ أو لونٍ لنجاسة، وهذا إِذا تعذَّر التخلُّص من النجاسة؛ لظرف المكان ونحوه، إِذ الأصل إِزالة هذه النجاسة ونضْحها. ¬

_ (¬1) "الفتاوى" (21/ 529). (¬2) "الفتاوى" (21/ 38 - 39).

12 - حبل الغسيل:

12 - حبل الغسيل: أما حبْل الغسيل؛ فيطهر إِذا صَعُبَ غسْله بالشمس والريح. "وإن كان سِلكاً يمكنه مسْحه؛ فليَفْعَل" (¬1). 13 - إِذا استحالت النجاسة في الماء ولم يبق لها أثر؛ فإِنَّ الماء طهور: قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- (¬2): والصواب هو القول الأول (¬3)، وأنه متى عُلم أنَّ النجاسة قد استحالت؛ فالماء طاهر، سواء كان قليلاً أو كثيراً، وكذلك في المائعات كلِّها، وذلك لأنَّ الله تعالى أباح الطيِّبات وحرَّم الخبائث، والخبيث متميِّز عن الطيِّب بصفاته، فإِذا كانت صفات الماء وغيره صفات الطيِّب دون الخبيث؛ وجَبَ دخولُه في الحلال دون الحرام. وأيضاً؛ فقد ثبَت من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-: أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل له: أتتوضأ من بئر بُضاعة (وهي بئر يلقى فيها الحِيَض (¬4) ولحوم الكلاب والنتن)؟ فقال: "الماء طهور لا ينجِّسه شيء" (¬5). ¬

_ (¬1) هذا مما استفدته من شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى-. (¬2) "الفتاوى" (21/ 32 - 33). (¬3) وقد ذكر خمسة أقوال في المسألة، وقال في الأول: "لا ينجس". (¬4) الحِيَض: بكسر الحاء وفتح الياء جمع حيضة -بكسر الحاء وسكون الياء: هي الخرقة التي تستعمل في دم الحيض، وانظر "تحفة الأحوذي" (1/ 204). (¬5) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (60) وغيرهما، وتقدَّم. وانظر "الإرواء" (14).

وهذا اللفظ عامٌّ في القليل والكثير، وهو عامٌّ في جميع النجاسات. وأمَّا إِذا تغيَّر بالنجاسة؛ فإِنما حرُم استعماله؛ لأنَّ جرْم النجاسة باقٍ، ففي استعماله استعمالها؛ بخلاف ما إِذا استحالت النجاسة؛ فإِنَّ الماء طَهور، وليس هناك نجاسةٌ قائمة. ومما يبيِّن ذلك؛ أنَّه لو وقع خمر في ماء، واستحالت، ثمَّ شربها شارب؛ لم يكن شارباً للخمر، ولم يجب عليه حدُّ الخمر، إِذ لم يبقَ شيء من طعْمها ولونها وريحها، ولو صُبَّ لبن امرأة في ماء، واستحال، حتى لم يبقَ له أثر، وشرب طفلٌ ذلك الماء؛ لم يَصِرْ ابنها من الرضاعة بذلك. وأيضاً؛ فإِنَّ هذا باق على أوصاف خلقته، فيدخل في عموم قوله تعالى: { ... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}؛ فإِنَّ الكلام إِنَّما هو فيما لم يتغيَّر بالنجاسة؛ لا طعمه، ولا لونه، ولا ريحه". وبه قال الشوكاني -رحمه الله- في "السيل الجرَّار". وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (21/ 611): " ... وعلى هذا؛ فدخان النار الموقدة بالنجاسة طاهر، وبخار الماء النَّجس الذي يجتمع في السقف طاهر". "وسئل -رحمه الله- عن استحالة النجاسة؛ كرماد السِّرجين (¬1) والزّبل النَّجس تصيبه الريح والشمس فيستحيل تراباً؛ فهل تجوز الصلاة عليه أم لا؟ فذَكَر أنَّ فيها قولين في مذهب مالك وأحمد، أحدهما أنَّ ذلك طاهر، وهو قول أبي حنيفة وأهل الظاهر وغيرهم، وهذا القول هو الراجح. ¬

_ (¬1) أى: الزّبل.

رابعا: هل الماء متعين في إزالة النجاسة:

وقال -رحمه الله-: فأمَّا الأرض إذا أصابها نجاسة؛ فمن أصحاب الشافعي وأحمد من يقول: أنَّها تطهُر، وإن لم يقل بالاستحالة؛ ففي هذه المسألة مع مسألة الاستحالة ثلاثة أقوال، والصواب الطهارة في الجميع" (¬1). رابعاً: هل الماء متعيّن في إِزالة النجاسة: الماء متعيّن لإِزالة النجاسة؛ إلاَّ ما ورد فيه النصُّ؛ كالثوب يطهِّره المرور على أرض طاهرة، والنِّعال بالتراب ... ونحو ذلك. قال شيخنا الألباني -حفطه الله-؛ -بعد حديث "حُكِّيه بضِلْع، واغسليه بماء وسِدْر" (¬2) -: يُستفاد من هذه الأحاديث أحكام كثيرة، أذكر أهمَّها: .... أنَّ النجاسات إِنَّما تُزال بالماء دون غيره من المائعات؛ لأنَّ جميع النجاسات بمثابة دم الحيض، ولا فرق بينه وبينها اتِّفاقاً، وهو مذهب الجمهور، ومذهب أبو حنيفة إِلى أنَّه يجوز تطهير النجاسة بكل مائع طاهر. قال الشوكاني: والحقُّ أنَّ الماء أصْلٌ في التطهير؛ لوصفه بذلك كتاباً وسُنَّةً مطلقاً غير مقيَّد، لكن القول بتعيُّنه وعدم إِجزاء غيره يردُّه (¬3). مسْح النعل، وفرْك المنيِّ (¬4) وإماطته بإِذخِرة ... ¬

_ (¬1) انظر "الفتاوى" (21/ 478 و479). (¬2) تقدَّم في (باب إِزالة النجاسة). (¬3) "نيل الأوطار" (ص 48 و49). (¬4) ومضى الكلام حول طهارة المنيّ.

وأمثال ذلك كثير، فالإِنصاف أن يُقال: إِنَّه يطهَّر كلُّ فرد من أفراد النجاسات المنصوص على تطهيرها بما اشتمل عليه النصُّ، لكنَّه إِنْ كان ذلك الفرد المحال عليه هو الماء؛ فلا يجوز العدول إِلى غيره؛ للمزيَّة التي اخُتصَّ بها، وعدم مساواة غيره له فيها، وإنْ كان ذلك الفرد غير الماء؛ جاز العدول عنه إِلى الماء لذلك، وإنْ وجد فرد من أفراد النجاسة لم يقع من الشارع الإِحالة في تطهيره على فرد من أفراد المطهِّرات، بل مجرد الأمر بمطلق التطهير، فالاقتصار على الماء هو اللاَّزم؛ لحصول الامتثال به؛ للقَطع، وغيره مشكوك فيه، وهذه طريقة متوسِّطة بين القولين، لا محيص من سلوكها". قال شيخنا: "وهذا هو التحقيق، فشُدَّ عليه بالنَّواجذ. وممَّا يدلُّ على أنَّ غير الماء لا يجزئ في دم الحيض: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الثاني: "يكفيك الماء"؛ فإِنَّ مفهومه أنَّ غير الماء لا يكفي، فتأمَّل" (¬1). قال الحافظ تعليقاً على حديث عليٍّ -رحمه الله-: "كنتُ رجلاً مذَّاء": "واستدلَّ به ابن دقيق العيد على تعيُّن الماء فيه دون الأحجار ونحوها؛ لأنَّ ظاهره يعيِّن الغسل، والمعيَّن لا يقع الامتثال إلا به، وهذا ما صحَّحه النوويُّ في "شرح مسلم"" (¬2). وقال الشوكاني -رحمه الله- في "الدَّراري المضيَّة" (1/ 30): ¬

_ (¬1) " الصحيحة" فقه الحديث رقم (300). (¬2) "الفتح" (1/ 379).

آداب التخلي وقضاء الحاجة

"ويطهُرُ ما تنجَّس بغسله حتى لا يبقى عينٌ ولا لونٌ ولا ريحٌ ولا طعمٌ، والنَّعل بالمسح، والاستحالة مطهِّرة؛ لعدم وجود الوصف المحكوم عليه، وما لا يمكن غسله؛ فبالصبِّ عليه أو النَّزح منه حتى لا يبقى للنجاسة أثر، والماء هو الأصل في التطهير، فلا يقوم غيره مقامه؛ إلا بإِذن من الشارع". آداب التخلِّي وقضاء الحاجة 1 - أن يبتعد عن الناس ويستتر منهم: عن المغيرة بن شعبه -رضي الله عنه-: أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان إذا ذَهَب المذهب أبْعَدَ" (¬1). وعن جابر بن عبد الله: أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كان إذا أراد البَراز (¬2)؛ انطلق حتى لا يراه أحد" (¬3). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان يذهب لحاجته إلى ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم، وصححه شيخنا في "الصحيحة" (1159). (¬2) البَراز بالفتح: الفضاء الواسع، فكنّوا به عن قضاء الغائط كما كنّوا عنه بالخلاء، لأنهم كانوا يتبرَّزون في الأمكنة الخالية من الناس، قال الخطابي: المحدّثون يَروونه بالكسر وهو خطأ، لأنّه بالكسر مصدر من المبارزة في الحرب، وقال الجوهري بخلافه، وهذا لفظه: البِرَازُ المبارزة في الحرب، والبِرَاز أيضاً كناية عن ثفل الغذاء وهو الغائط، ثمَّ قال: والبَراز بالفتح: الفضاء الواسع، وتبرَّز الرجل أي: خرج إِلى البَراز للحاجة وانظر "النهاية". (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2) وغيره، وانظر "الصحيحة" (1159).

2 - أن لا يتخلى في الطرق والظلال والموارد:

المُغمَّس". قال نافع: المغمَّس: ميلين أو ثلاثة من مكة (¬1). وعن يعلى بن مُرَّة عن أبيه -رضي الله عنه- قال: "كنتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأراد أن يقضي حاجته، فقال لي: "ائت تلك الأشاءتين (قال وكيع: يعني: النخل الصِّغار)، فقل لهما: إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمركما أن تجتمعا"، فاجتمعتا، فاستتر بهما، فقضى حاجته، ثم قال لي: "ائتهما، فقل لهما: لترجعْ كلُّ واحدة منكما إِلى مكانها"، فقلتُ لهما، فرجعتا (¬2). 2 - أن لا يتخلَّى في الطُّرق والظِّلال والموارد: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "اتَّقوا اللَّعَّانَيْن" (¬3). قالوا: وما اللَّعَّانان يا رسول الله؟ قال: "الذي يتخلَّى (¬4) في طريق الناس أو في ظلِّهم (¬5) " (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه السراج في "مسنده" بإسناد صحيح على شرط مسلم وغيره، وانظر "الصحيحة" (1072). وقيل بأنَّ المغمس مكان مستورة؛ إِما بهضاب، وإِما بعضاه، والعضاه: كل شجر له شوك؛ صغُر أو كبُر، والميل: قيل: ثلث الفرسخ، وقيل: هو مدّ البصر وقيل غير ذلك. (¬2) عن "صحيح ابن ماجه" (271). (¬3) قال الإِمام الخطابي -رحمه الله-: "المراد باللَّعَّانين: الأمرين الجالِبَيْن للَّعن، الحاملَين الناس عليه، والداعِيَين إليه، وذلك أنَّ مَن فعَلهما شُتِم ولُعِن؛ يعني: عادة الناس لعْنه، َ فلما صارا سبباً لذلك؛ أضيف اللعن إِليهما". (¬4) أي: يتغوّط. (¬5) قال الخطابي وغيره: هو مُستَظلّ الناس الذي اتَّخذوه مقيلاً ومناخاً ينزلونه ويقعدون فيه. (¬6) أخرجه مسلم: 269

3 - أن لا يبول في الماء الراكد أو المستحم:

وعن معاذ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اتَّقوا الملاعن الثلاث: البِراز (¬1) في الموارد، وقارعة الطريق (¬2)، والظلّ" (¬3). 3 - أن لا يبول في الماء الراكد أو المستحم: عن جابر -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنَّه نهى أن يُبال في الماء الرَّاكد" (¬4). وعن عبد الله بن مُغفَّل -رضي الله عنه-: قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يبولنَّ أحدُكم في مستحمِّه، ثم يغتسل فيه" (¬5). 4 - جواز البول في الإِناء أو الطَّست لمرض أو برد أو نحو ذلك: عن أميمة بنت رقيقة -رضي الله عنها- قالت: "كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَح من عيدان؛ يبول فيه، ويضعه تحت السرير" (¬6). ¬

_ (¬1) هو ثُفل الغذاء هنا، وتقدّم. (¬2) قارعة الطريق: أعلاه، أو جادَّته، أو وسطه، أو صدره، أو ما برز منه، فكلّها متقاربة مشتقة من القرع؛ أي: الضرب، فهي مقروعة بالقدم والحافر، وذلك من تسمية المفعول بالفاعل "فيض القدير". (¬3) أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وغيرهما، وحسنه شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الإرواء" (62). (¬4) أخرجه مسلم: 281، وهو في "صحيح ابن ماجه" (273)، و"صحيح سنن النسائي" (34)، وله لفظ مقارب عند البخاري: 239 (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح أبي داود" (22) وغيره، وانظر "المشكاة" (353). (¬6) أخرجه أبو داود والنسائي "صحيح سنن النسائي" (32) وانظر "المشكاة" (362).

5 - ألا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض حتى لا تنكشف عورته:

وعن إِبراهيم عن الأسود؛ قال: ذكروا عند عائشة أنَّ عليّاً -رضي الله عنهما- كان وصيّاً، فقالت: "متى أوصى إِليه، وقد كنتُ مسنِدَتَه إِلى صدري -أو قالت: حَجري-، فدعا بالطَّسْت (¬1)، فلقد انخنث (¬2) في حَجري، فما شعرتُ أنَّه قد مات، فمتى أوصى إِليه؟! " (¬3). 5 - ألا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض حتى لا تنكشف عورته: لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا أراد حاجة؛ لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض" (¬4). 6 - أن يقول عند دخول الخلاء: "بسم اِلله، اللهمَّ إني أعوذ بك من الخبُث والخبائث": لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سَتْر ما بين الجنِّ وعورات بني آدم إِذا دَخَلَ الخلاء أن يقول: بسم الله" (¬5). ولحديث عبد العزيز بن صهيب؛ قال: سمعتُ أنساً يقول: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا دخل الخلاء؛ قال: "اللهمَّ إِني أعوذ بك من الخُبُث" (¬6) ¬

_ (¬1) الإِناء. (¬2) أي: انثنى ومال لاسترخاء أعضائه عند الموت. (¬3) أخرجه البخاري: 2741 و4459 وغيره، وانظر "صحيح سنن النسائي" (33). (¬4) عن "صحيح سنن أبي داود" (11)، وانظر "الصحيحة" (1071). (¬5) أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وغيرهما، وصحّحه شيخنا في "الإرواء" (50). (¬6) ويجوز إسكان الباء، وانظر "الفتح" (1/ 243).

7 - عدم استقبال القبلة:

والخبائث (¬1) " (¬2). 7 - عدم استقبال القبلة: عن أبي أيُّوب الأنصاري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أتى أحدُكم الغائط؛ فلا يستقبل القبلة، ولا يولِّها ظهرَه، شرِّقوا أو غرِّبوا (¬3) " (¬4). وعن سلمان -رضي الله عنه- قيل له: قد علَّمكم نبيُّكم كلَّ شيء، حتى الخِراءة (¬5). قال: فقال: "أجل؛ لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو نستنجيَ باليمين، أو أن نستنجيَ بأقلَّ من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجيَ برجيع (¬6) أو بعظم" (¬7). ¬

_ (¬1) الخُبْث: جمع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة؛ يريد: ذُكران الشياطين وإناثهم. قاله الخطابي وابن حبان وغيرهما. "فتح". وأصل الخبائث: المعاصي، أو مطلق الأفعال المذمومة. (¬2) أخرجه البخاري: 142، ومسلم: 375 (¬3) وليس التشريق أو التغريب عامّاً لكل البلاد، فمن الناس من يشرِّق أو يغرِّب فيستقبل القبلة أو يستدبرها، والمراد عدم استقبال القبلة أو استدبارها؛ كما هى الإشارة في أوَّل الحديث. (¬4) أخرجه البخاري: 144 (¬5) التخلِّي والقعود للحاجة؛ قال الخطابي: "وأكثر الرواة يفتحون الخاء". "النهاية". (¬6) الرَّجيع: العَذرة والرَّوث، سُمي رجيعاً؛ لأنَّه رجع عن حالته الأولى بعد أن كان طعاماً أو علفاً. "النهاية". (¬7) أخرجه مسلم: 262

قال ابن حزم -رحمه الله تعالى-: "ولا يجوز استقبال القبلة واستدبارها للغائط والبول؛ لا في بنيان، ولا في صحراء، ولا يجوز استقبال القبلة فقط كذلك في حال الاستنجاء. (ثمَّ ذكر حديث أبي أيوب -رضي الله عنه- وغيره، وذكر أيضاً من قال بذلك من السَّلَف) " (¬1). وعن يحيى بن يحيى؛ قال: قلتُ لسفيان بن عيينة: سمعتَ الزُّهريَّ يذكر عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب: أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا أتيتُم الغائط؛ فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببولٍ ولا غائط، ولكنْ شرِّقوا وغرِّبوا". قال أبو أيوب: "فقَدمْنا الشام؛ فوَجَدْنا مراحيضَ قد بُنِيَت قِبَل القِبلةِ، فننحرف عنها ونستغفر اللَّه؟ قال: نعم (¬2) " (¬3). وربَّما يُشْكِل على البعض حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "ارتقَيْتُ فوق بيت حفصةَ لبعض حاجتي، فرأيتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقضي حاجَتَه مُسْتَدْبِرَ القِبلة مستقبِلَ الشام" (¬4). وقول مروان الأصفر: "أناخَ ابنُ عُمر بعيرَه مستقبلَ القِبلة، ثمَّ جَلَس يبولُ ¬

_ (¬1) انظر "المحلّى" (مسألة 146). (¬2) جواب لقوله في البداية: "سمعتَ الزُّهري ... " إِلخ. (¬3) أخرجه البخاري: 394، ومسلم: 264 (¬4) أخرجه البخاري: 148، ومسلم: 266

إِليها، فقلتُ (¬1): يا أبا عبد الرحمن! أليس قد نُهِيَ عن هذا؟ قال: بلى؛ إِنَّما نُهِيَ عن هذا في الفضاء، أمَّا إِذا كان بينك وبينَ القِبلة شيءٌ يستُرُك؛ فلا بأسَ" (¬2). فالجواب عن ذلك: "1 - إِنَّ كل النصوص المتعلِّقة بالموضوع لا تعدو أن تكون قوليَّة أو فعليَّة، سوى أثر ابن عمر، وهو موقوف، ولا يُعارَض المرفوع بالموقوف؛ كما هو معلوم. 2 - إِذا تعارضَ قولٌ وفِعلٌ؛ قُدِّم القول على الفعل؛ كما هو مقرَّر في علم الأصول، والقول يأمر بعدم استقبال القِبّلة أو استدبارها ببولٍ أو غائط. 3 - إِذا تعارَضَ حاظِرٌ ومُبيحٌ؛ قدِّمَ الحاظر على المُبيح. 4 - لقد ثبتَ النَّهي عن البصقِ تجاه القبلة؛ كما في الحديث: "من تَفَلَ تجاه القِبلة؛ جاء يومَ القيامة وتفلتُه بينَ عينيه" (¬3). ومن هذا الحديث يُستَنْبَط أنَّ النَّهي عن استقبال القبلة ببول أو غائطٍ؛ إِنَّما هو مطلقٌ يشمل الصحراء والبُنيان؛ لأنَّه إِذا أفاد الحديث أنَّ البصقَ تجاه القِبلة لا يجوز مُطلقاً؛ فالبول والغائط مستقبلاً لها لا يجوز بالأولى" (¬4). ¬

_ (¬1) أي: مروان الأصفر. (¬2) أخرجه أبو داود: 11، "صحيح سنن أبي داود" (8)، وغيره، وانظر "الإِرواء" (61). (¬3) أخرجه أبو داود، وغيره، وِإسناده صحيح؛ وانظر "الصحيحة" (222). (¬4) كذا قاله لي بمعناه شيخُنا الألباني -حفظه الله-.

8 - التحفظ من البول كي لا يصيب البدن والثياب، والتغليظ في ترك غسله إذا أصاب البدن والثياب:

8 - التحفُّظ من البول كي لا يصيبَ البدن والثياب، والتَّغليظ في ترك غسْله إِذا أصاب البدن والثياب (¬1): عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "مرَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحائط (¬2) من حيطان المدينة -أو مكة-، فَسَمع صوت إِنسانين يعذَّبان في قبورهما، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يُعذَّبان، وما يُعَذَّبان في كبير"، ثمَّ قال: "بلى، كان أحدهما لا يستتر (¬3) من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة" (¬4). 9 - عدم الاستنجاء باليمين: وذلك لما سبق في حديث سلمان: " ... نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجيَ بأقلّ من ثلاثة أحجار" (¬5). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كانت يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليسرى لخلائه وما كان من أذى، وكانت اليُمنى لوضوئه ولمَطعمه" (¬6). وعن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا شرب أحدُكم؛ فلا يتنفَّس في الإِناء، وإذا أتى الخلاء؛ فلا يمسّ ذكره بيمينه، ولا ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة". (¬2) أي: بستان. (¬3) أي: لا يستبرئ ولا يتطهَّر كما تقدَّم. (¬4) أخرجه البخاري: 216، ومسلم: 262، وغيرهما، وتقدم مختصراً. (¬5) تقدَّم تحت رقم (7). (¬6) أخرجه أبو داود، وأحمد، وسنده صحيح كما قال النَّووي والعراقي، وانظر تفصيله في "الإرواء" تحت رقم (93).

10 - الاستنجاء بالماء:

يتمسَّح بيمينه (¬1) " (¬2). وعنه أيضاً؛ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا دخل أحدُكم الخلاء؛ فلا يمسَّ ذَكَرَة بيمينه" (¬3). 10 - الاستنجاء بالماء: عن أنس بن مالك قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خرجَ لحاجته؛ أجيء أنا وغلام معنا إِداوة (¬4) من ماء؛ يعني: يستنجي به" (¬5) .... وعنه -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبرَّز لحاجته، فآتيهِ بالماء، فيَتَغَسَّلُ به" (¬6). 11 - إِذا استجمر بالحجارة؛ فلا يجْعَلْها أقلَّ من ثلاثة: لحديث سلمان المتقدِّم: "نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول ... أو أن نستنجيَ بأقل من ثلاثة أحجار". وأيضاً؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: " ... وكان يأمر بثلاثة ¬

_ (¬1) أى: لا يستنج. (¬2) أخرجه البخاري: 153، ومسلم: 267 (¬3) أخرجه مسلم: 267 (¬4) هي إِناء صغيرمن جلد؛ كما تقدَّم في أول الكتاب. (¬5) أخرجه البخاري: 150، وهو في "صحيح مسلم" (271) نحوه، وتقدّم قريباً. (¬6) أخرجه مسلم: 271

12 - عدم الاستنجاء بالروث أو العظم:

أحجار، وينهى عن الرَّوث والرِّمَّة" (¬1). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا ذهب أحدكم إِلى الغائط؛ فليستطب بثلاثة أحجار؛ فإِنَّها تجزئ عنه" (¬2). 12 - عدم الاستنجاء بالرَّوث أو العظم: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: اتَّبعتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخرج لحاجته، فكان لا يلتفت، فدنوتُ منه، فقال: "ابغني أحجاراً أستنفضُ بها -أو نحوه-، ولا تأتني بعظم ولا روث"، فأتيتُه بأحجارٍ بطرف ثيابي، فوضعتُها إِلى جنبه، وأعرَضْتُ عنه، فلما قضى؛ أتْبَعَه بهنَّ" (¬3). وعن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه: أنَّه سمع عبد الله يقول: أتى النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغائطَ، فأمَرَني أن آتيَه بثلاثة أحجار، فوجدتُ حجرين، والتمست الثالث؛ فلم أجده، فأخذتُ روثةً، فأتيتُه بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: "هذا رِكْس (¬4) " (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (6)، وبعضه في مسلم: 262، وتقدّم قريباً والمراد بالرِّمة: العظم البالي. (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود، وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (44)، وتقدّم، ويُفهم من الحديث أنَّ أقلَّ من ثلاث لا تجزئ. (¬3) أخرجه البخاري: 155، وتقدَّم في (باب إِزالة النجاسات). (¬4) جاء في "الفتح" (1/ 258): الرِّكس: لغة في رجس؛ بالجيم، وقيل: الرِّكس الرَّجيع، رُدَّ من حالة الطهارة إِلى حالة النجاسة. قاله الخطابي وغيره. والأولى أن يقال: رُدَّ من حالة الطعام إِلى حالة الروث. (¬5) أخرجه البخاري: 156

13 - عدم رد السلام عند قضاء الحاجة:

وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُتمسَّح بعظْم أو ببعْر" (¬1). وعلَّل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبب نهيه عن الاستنجاء بالرَّوث والعظام، لأنَّه زاد إِخواننا من الجنِّ، كما في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: "لا تستنجوا بالرَّوث ولا بالعظام؛ فإِنَّه زاد إِخوانكم من الجنِّ" (¬2). 13 - عدم ردِّ السلام عند قضاء الحاجة: عن ابن عمر- رضي الله عنهما-: "أنَّ رجلاً مرَّ ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبول، فسلَّم، فلم يردَّ عليه" (¬3). وعن المهاجر بن قنفذ -رضي الله عنه-: أنَّه أتى النّبىّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يبول، فسلَّم عليه، فلم يردَّ عليه حتى توضَّأ، ثمَّ اعتذر إِليه، فقال: "إِنِّي كرهتُ أن أذكر الله -عزَّ وجلَّ- إِلا على طهر (أو قال: على طهارة) " (¬4). 14 - أن يقول عند الخروج من الخلاء: غفرانك: كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 263 (¬2) أخرجه أحمد، والترمذي، وغيرهما، وصححه شيخنا فى "الإِرواء" (46)، وتقدّم. (¬3) أخرجه مسلم: 370، وغيره. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (13)، والنسائي والدارمي، وانظر "الصحيحة" (834).

15 - دلك اليد بالأرض بعد الاستنجاء:

خرج من الخلاء، قال: غُفرانك" (¬1). 15 - دلْك اليد بالأرض بعد الاستنجاء: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى حاجته، ثمَّ استنجى من تور، ثمَّ دَلَكَ يده بالأرض" (¬2). واستعمال الصابون ونحوه يجزئ عن ذلك. هل يجوز التبوُّل قائماً؟ لقد وَرَدَ عن عائشة -رضي الله عنها- قولُها: "من حدَّثكم أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبولُ قائماً، فلا تصدِّقوه، ما كان يبولُ إلا قاعداً" (¬3). وما بَدَر عن عائشة -رضي الله عنها- نفيٌ، وقد حدَّثَتْ بما عَلِمَتْ. وقد ورَدَ الإِثبات من حُذيفة -رضي الله عنه- وحدَّث بما عَلِمَ، فنُقدِّمه على النفي، وذلك بقوله: "أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُباطَةَ (¬4) قومٍ، فبال قائماً" (¬5). ومن علم حجَّة على من لم يعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم، وهو في "الإِرواء" (52)، و"صحيح سنن أبي داود" (244). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (35) وغيره، وانظر "المشكاة" (360). (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (29) وغيره، وانظر "الصحيحة" (201). (¬4) المزبلة والكناسة: تكون بفناء الدور مرفقاً لأهلها. "الفتح". (¬5) أخرجه البخاري: 226، ومسلم؛ 273، وغيرهما.

قال الحافظ في "الفتح" (1/ 330): "وقد ثَبَتَ عن عُمر وعليٍّ وزيد بن ثابت وغيرهم: أنَّهم بالوا قياماً، وهو دالٌّ على الجواز من غير كراهة إِذا أمِنَ الرَّشاش، والله أعلم، ولم يثبُتْ عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النَّهي عنه شيءٌ (¬1)؛ كما بيَّنتُه في أوائل شرح التِّرمذي، والله أعلم". أمَّا قولُ عمر -رضي الله عنه-: "ما بُلْتُ قائماً منذُ أسلمتُ" (¬2)؛ فَيُقابل بقول زيد -رضي الله عنه-: "رأيتُ عُمر بال قائماً" (¬3). قال شيخنا- حفظه الله-: "ولعلَّ هذا وقع من عمر -رضي الله عنه- بعد قوله المتقدِّم، وبعدما تبيَّن له أنَّه لا شيء في البول قائماً" اهـ. فخُلاصة القول كما قال الحافظ -رضي الله عنه-: "جواز البول قائماً من غير كراهة إِذا أمِنَ الرَّشاش". ¬

_ (¬1) أما حديث: "يا عُمر! لا تَبُل قائماً"؛ فإِنَّه ضعيف، وقد رواه ابن حبان في "صحيحه". قال شيخنا في "الضعيفة" (934): "وهذا سند ظاهره الصحَّة؛ فإِنَّ رجاله ثقات، لكنه معلول بعنعنة ابن جرير؛ فإِنَّه كان مدلِّساً، وقال أبو عيسى في "سننه" (باب ما جاء في النهي عن البول قائماً، تحت الحديث رقم 12): وِإنَّما رفعَ هذا الحديث عبد الكريم بن المُخارق، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعَّفه أيوب السختياني، وتكلَّم فيه". (¬2) أخرجهما ابن أبي شيبة في "المصنَّف"، وِإسنادهما صحيح؛ كما ذكر شيخنا في التعليق على حديث (934) من "الضعيفة". (¬3) أخرجهما ابن أبي شيبة في "المصنَّف"، وِإسنادهما صحيح؛ كما ذكر شيخنا في التعليق على حديث (934) من "الضعيفة".

الوضوء

الوضوء الوُضوء (بالضمّ): الفِعْل، وبالفتح (الوَضوء): ماؤه، ومصدر أيضاً، أو لُغتان قد يُعني بهما المصدر وقد يُعني بهما الماء (¬1). قال الحافظ (¬2): "وهو مشتقٌّ من الوَضاءَة، وسُمّي بذلك لأنَّ المصلّي يتنظّف به فيصير وضيئاً". فضل الوُضوء عن نعيم المُجمِر؛ قال: رَقِيتُ (¬3) مع أبي هريرة -رضي الله عنه- على ظهْر المسجد فتوضّأ فقال: إِنّي سمعْت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنَّ أمَّتي (¬4) يُدعوَن يوم القيامة غُرّاً (¬5) مُحَجَّلينَ (¬6) من آثار الوُضوء" (¬7). ¬

_ (¬1) عن "القاموس المحيط"، وذكر نحوه الحافظ في "الفتح". (¬2) وذكر نحوه الشوكاني في "نيل الأوطار" (أبواب صفة الوضوء ... ). (¬3) بكسر القاف؛ أي: صعدتُ. (¬4) أمَّة الإجابة، وهم المسلمون، لا أمَّة الدَّعوة. انظر "الفتح". (¬5) جمع أغرّ؛ أي: ذو غُرَّة، وأصل الغُرّة: لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثمَّ استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذِّكْر، والمراد بها هنا: النّور الكائن في وجوه أمَّة محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وغُرّاً: منصوب على المفعوليَّة ليُدعَوْن، أو على الحال؛ أي: أنهم إِذا دُعوا على رؤوس الأشهاد؛ نودوا بهذا الوصف، وكانوا على هذه الصفة. (¬6) من التَّحجيل، وهو بياض يكون في ثلاث قوائم الفرس، وأصْله من الحِجل، وهو الخَلخال، والمراد به هنا أيضاً النور. "الفتح". (¬7) أخرجه البخاري: 136، ومسلم: 246، وحذفت الشطر الآخر من الحديث =

وعن أبي مالك الأشعريّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الطُّهورُ (¬1) شَطر الإِيمان" (¬2). وعن حُمران مولى عثمان عن عثمان -رضي الله عنه- قال: رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضّأ مثل وُضوئي هذا، ثمَّ قال: "من توضّأ هكذا؛ غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إِلى المسجد نافلة" (¬3). وعنه أيضاً؛ قال: سمِعْتُ عثمان وهو بفناء (¬4) المسجد، فجاءه المؤذّن عند العصر، فدعا بوَضوء فتوضّأ، ثمَّ قال: والله لأحدّثنّكم حديثاً (¬5)؛ لولا آية ¬

_ = لأنَّه مدْرج، ولفظه: "فمن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّته؛ فليفعل". قال الحافظ في "الفتح": " ... ثمَّ إِنَّ ظاهره بقيَّة حديث، لكن رواه أحمد من طريق فليح عن نعيم: لا أدري قوله: "من استطاع ... " إِلخ من قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو قول أبي هريرة، ولم أر هذه الجملة في رواية أحد؛ ممَّن روى الحديث من الصحابة، وهم عشرة، ولا ممَّن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه، والله أعلم". وقد فصَّل القول في ذلك شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى- في "السلسلة الضعيفة" (1030)، فارجع إِليها -إِن شئت- وِإلى هذا ذهب شيخ الإِسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم -رحمهما الله تعالى- وغيرهما. (¬1) الطُّهور: بضم أوله: إِذا أريد به الفعل الذي هو المصدر، والطَّهور بالفتح: الماء لذي يُتطَّهر به. (¬2) أخرجه مسلم: 223 (¬3) أخرجه مسلم: 229 (¬4) بين يدي المسجد أو في جواره. (¬5) قال النووي: فيه جواز الحلف من غير ضرورة الاستحلاف.

في كتاب الله ما حدَّثْتُكُم: إِنّي سمِعْت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يتوضّأ رَجُلٌ مسلم فيُحسنُ الوُضوء، فيصلّي صلاةً، إلاَّ غَفَرَ الله له ما بينه وبين الصلاة التي تليها". "قال عُروة: الآية: {إِنَّ الذين يكْتُمونَ ما أنْزَلْنا من البيِّنات والهدى} إِلى قوله: {اللاّعِنونَ} (¬1) " (¬2). وعن عثمان بن عفّان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أتمَّ الوُضوءَ كما أمَره الله تعالى؛ فالصّلوات المكتوبات كفّارات لما بينهنَّ" (¬3). وعن حُمران مولى عثمان قال: توضّأ عثمانُ بنُ عفّانَ وُضوءاً حسناً، ثمَّ قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضّأ فأحسن الوُضوء، ثمَّ قال: "من توضّأ هكذا، ثمَّ خرج إِلى المسجد لا ينهزُه (¬4) إلا الصّلاة، غُفر له ما خلا من ذنبه" (¬5). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا توضأ العبد المسلم (أو المؤمن)، فغَسل وجهه؛ فخرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر ¬

_ (¬1) البقرة: 159 (¬2) أخرجه البخاري: 160، ومسلم: 227 (¬3) أخرجه مسلم: 231 (¬4) أي: لا يدفعه أو يحرِّكُه. (¬5) أخرجه مسلم: 232

الوضوء شرط من شروط الصلاة

إِليها بعينيه مع الماء (أو آخر قَطرْ الماء)، فإِذا غسل يديه؛ خرج من يديه كلُّ خطيئة كان بطَشَتها (¬1) يداه مع الماء (أو آخر قطر الماء)، فإِذا غسل رجليه؛ خرجت كلُّ خطيئة مشتها رجلاه مع الماء (أو آخر قطر الماء)، حتى يخرُج نقيّاً من الذّنوب" (¬2). وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من توضّأ فأحسن الوُضوء؛ خَرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره" (¬3). الوضوء شرط من شروط الصلاة قال تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا إِذا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاة فاغْسلُوا وُجوهَكُم وأيْديَكُم إِلى المرافقِ وامْسَحُوا برؤوسكُم وأرجُلَكُمَ إِلى الكعْبَيْن} (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تُقبل (¬5) صلاةُ من أحدثَ حتى يتوضّأ ". ¬

_ (¬1) أي: اكتسبتها. (¬2) أخرجه مسلم: 244، وغيره. (¬3) أخرجه مسلم: 245، وغيره. (¬4) المائدة: 6 (¬5) جاء في "الفتح" تحت حديث (رقم 135): "المراد بالقَبول: هنا ما يُرادف الصحّة، وهو الإِجزاء، وحقيقة القبول ثمرة وقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذِّمَّة، =

قال رجلٌ من حضرَمَوت: ما الحدث (¬1) يا أبا هريرة؛ قال: فُساء أو ضُراط. وعن مصعب بن سعد -رضي الله عنه- قال: "دَخَل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعودُه وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر؟ قال: إِنّي سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا تُقبل صلاة بغير طُهور، ولا صدقةٌ من غُلُول (¬2) " وكنتَ على البصرة" (¬3) (¬4). ¬

_ = ولمَّا كان الإِتيان بشروطها مظنَّة الإِجزاء الذي القَبول ثمرتُه، عبَّر عنه بالقبول مجازاً، وأمَّا القبول المنفي في مثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا من أتى عرَّافاً؛ لم تُقبل له صلاة"؛ فهو الحقيقي؛ لأنَّه قد يصح العمل وَيتخلَّف القَبول لمانع، ولهذا كان بعض السّلف يقول: لأن تُقبل لي صلاة واحدة أحبُّ إِليَّ من جميع الدنيا، قاله ابن عمر. قال: لأنَّ الله تعالى قال: {إِنَّما يتقبل الله من المتقين} (المائدة: 27) " انتهى كلامه -رضي الله عنه- والحديث بلفظ: "من أتى عرَّافاً، فسأله عن شيء؛ لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة"، أخرجه مسلم: 2230، وغيره. (¬1) الحدث: الخارج من أحد السَّبيلين، وتفسير أبي هريرة الأخصّ من ذلك تنبيهاً بالأخفّ على الأغلظ. (الفتح) رواه البخاري: 135، ومسلم: 225 دون قوله: "قال رجل". (¬2) الغُلول: الخيانة، وأصله السَّرقة من مال الغنيمة قبل القِسمة. (¬3) أخرجه مسلم: 224 (¬4) قال النووي في "شرح مسلم": "فمعناه: أنَّك لست بسالمٍ من الغلول، فقد كنت والياً على البصرة، وتعلَّقت بك تَبعات من حقوق الله تعالى وحقوق العباد، ولا يقبل الدُّعاء لمن هذه صفته؛ كما لا تقبل الصلاة والصدقة إلاَّ من مُتصوَن، والظاهر -والله أعلم- أنَّ ابن عمر قصدَ زجر ابن عامر وحثَّه على التوبة وتحريضه على الإقلاع عن المخالفات =

فرائض الوضوء

وعن عليّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مِفتاحُ الصلاة الطَّهور، وتحريمها التّكبير، وتحليلها التّسليم" (¬1). فرائض الوضوء 1 - النِّيَّة لحديتَ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعْت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنَّما الأعمال بالنِّيَّات، وإِنَّما لكلّ امرئ ما نوى" (¬2). والنّيّة: القصد والعزم، ومحلّها القلب، والتلفّظ بها بدعة. 2 - التَّسمية لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى عليه" (¬3). قال الحافظ المنذري -رضي الله عنه- في "الترغيب": " ... وقد ذهب الحسن وإِسحاق بن راهويه وأهل الظَّاهر؛ إِلى وجوب التَّسمية في الوضوء؛ ¬

_ = ولم يُرِد القطع حقيقة بأنَّ الدعاء للفسّاق لا ينفع، فلم يزل النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والسّلف والخلف يدْعون للكفار وأصحاب المعاصي بالهداية والتوبة، والله أعلم. (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (55)، والترمذي، وغيرهما وانظر "الإِرواء" (301). (¬2) أخرجه البخاري: 1، ومسلم: 1907، وغيرهما. (¬3) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (92)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (320)، وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (81).

3 - المضمضة والاستنشاق والاستنثار مرة واحدة.

حتى إِنَّه إِذا تعمَّد ترْكها؛ أعاد الوضوء، وهو رواية الإِمام أحمد ... ". وهو من اختيار صدّيق خان، والشوكاني كما في "السيل الجرّار" (1/ 76 - 77)، و"الدّراري المضيّة" (1/ 45)، وبه يقول شيخنا الألباني -حفظه الله- في "تمام المنّة" (ص89). 3 - المضمضة والاستنشاق والاستنثار مّرة واحدة. عن لقيط بن صَبِرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا توضّأتَ؛ فمضمِض" (¬1). و (مضمِض) فِعل أمر، والأمر يفيد الوجوب؛ إلا لقرينة تصرفه -كما هو معروف-. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من توضّأ؛ فلْيستنثر (¬2)، ومن استجمر؛ فليوتر" (¬3). قال الشوكاني -رحمه الله-: "القول بالوجوب هو الحقّ؛ لأنَّ الله سبحانه قد أمرَ في كتابه العزيز بغسل الوجه، ومحلّ المضمضة والاستنشاق من جملة الوجه، وقد ثبت مداومة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك في كلِّ وضوء، ورواه جميع من روى وضوءَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبيَّن صِفته، فأفاد ذلك أنَّ غسل الوجه المأمور به في القرآن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (131)، وصححه الترمذي والنووي. وانظر كلام الشوكاني في تخريجه بعد سطور. (¬2) من النَّثر: وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ؛ أي: يجذبه بريح أنفه لتنظيف ما في داخله، فيخرُج بريح أنفه. (¬3) أخرجه البخاري: 161، ومسلم: 237

4 - غسل الوجه مرة واحدة.

هو المضمضة والاستنشاق. وأيضاً قد ورد الأمر بالاستنشاق والاستنثار في أحاديث صحيحة. وأخرج أبو داود والترمذي من حديث لَقيط بن صَبِرة بلفظ: "إِذا توضأتَ؛ فمَضمِض"، وإسناده صحيح، وقد صحّحه الترمذي والنَّووي وغيرهما، ولم يأتِ من أعلَّه بما يقدح فيه" (¬1). 4 - غَسْل الوجه مرّة واحدة. قال ابن كثير في "تفسيره": "وحدُّ الوجه عند الفقهاء ما بين منابت شعر الرأس -ولا اعتبار بالصّلع ولا بالغَمَم (¬2) - إِلى منتهى اللحيَيْن والذّقن طولاً، ومن الأذن إِلى الأذن عَرضاً" (¬3). 5 - تخليل اللحية. لحديث أنس -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا توضّأ؛ أخذ كفّاً من ماء، فأدخله تحت حَنَكه؛ فخلّل به لحيته، وقال: "هكذا أمرني ربي عزّ وجلّ" (¬4). ¬

_ (¬1) "السيل الجرَّار" (81 و82). (¬2) الغَمَم: هو سيلان الشعر حتى تضيق الجبهة والقفا. (المحيط). (¬3) انظره في تفسير الآية (6) من سورة المائدة. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (132)، وغيره، وهو صحيح بطرقه وشواهده، وانظر "المشكاة" (408).

6 - غسل اليدين إلى المرفقين مرة واحدة.

6 - غَسل اليدين إِلى المرفقين (¬1) مرة واحدة. 7 - مسح الرأس مرّة واحدة (¬2). 8 - مسح الأذنين مرّة واحدة. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الأذنان من الرأس" (¬3). وبه يقول الإِمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه-. 9 - غَسل الرّجلين إِلى الكعبين مرّة واحدة. ودليل وجوب غسل هذه الأعضاء: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (¬4). 10 - تخليل أصابع اليدين والرجلين. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا توضّأْتَ؛ فخلِّلْ أصابعَ يديْك ورِجليْك" (¬5). وعن لَقيط بن صَبِرة عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا توضّأْتَ؛ فخلِّل ¬

_ (¬1) المرفق: موصل الذراع في العضُد. (¬2) سيأتي التّفصيل المتعلِّق بهذا المسح إِن شاء الله. (¬3) ثبت من عدّة طُرق، بعضها صحيح لذاته، وبعضها صحيح لغيره، وانظر تفصيله فى "الصحيحة" (36). (¬4) المائدة: 6 (¬5) أخرجه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وأحمد، وهو في "الصحيحة" (1306).

11 - الموالاة في الوضوء.

الأصابع " (¬1). 11 - الموالاة في الوضوء. واختُلف فيها على أقوال، والراجح فيها الوجوب؛ إِلا إِذا تُركت لعُذر، والله أعلم. قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "الموالاة في الوضوء، فيها ثلاثة أقوال: أحدها: الوجوب مُطلقاً؛ كما يذكره، أصحاب الإِمام أحمد ظاهر مذهبه، وهو القول القديم للشافعي. والثاني: عدم الوجوب مطلقاً؛ كما هو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، والقول الجديد للشافعي. والثالث: الوجوب؛ إلاَّ إِذا تركها لعُذر؛ مثل عدم تمام الماء؛ كما هو المشهور في مذهب مالك". قلت [أي: شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-]: وهذا القول الثالث؛ هو الأظهر والأشبه بأصول الشريعة وبأصول مذهب أحمد وغيره. وذلك أنَّ أدلة الوجوب لا تتناول إِلا المفرِّط، لا تتناول العاجز عن الموالاة، فالحديث الذي هو عُمدة المسألة الذي رواه أبو داود (¬2) وغيره عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنَّه رأى رجلاً يصلّي وفي ظهر ¬

_ (¬1) صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وهو في "سنن أبي داود" (142) نحوه، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (129)، و"الصحيحة" تحت رقم (1306). (¬2) برقم: 175، وهو في "صحيح سنن أبي داود" (161).

12 - التيامن.

قدمه لمعة قدْر الدِّرهم لم يُصِبها الماء، فأمره النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُعيد الوضوء والصلاة" (¬1) فهذه قضيّة عين، والمأمور بالإِعادة مفرّط؛ لأنَّه كان قادراً على غسل تلك اللمعة كما هو قادر على غسل غيرها، وإِنَّما بإِهمالها وعدم تعاهده لجميع الوضوء بقيت اللمعة، نظير الذين كانوا يتوضّؤون وأعقابهم تلوح، فناداهم بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النَّار" (¬2). وكذلك الحديث الذي في "صحيح مسلم" (¬3) عن عمر -رضي الله عنه-: "أنَّ رجلاً توضّأ، فترك موضع ظُفُر على قدمه، فأبصَره النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "ارجِع فأحسِن وضوءك"، فرجع ثمَّ صلّى (¬4) " (¬5). 12 - التيامن. وهو البدء بغسل اليمين من اليدين والرّجلين، وذلك لعموم ما ورد في التّيامن. ثمَّ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا لَبِستُم وإذا توضّأتم؛ فابدؤوا بأيامِنكم" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وصحّحه شيخنا -حفظه الله- في "الإِرواء" (86). (¬2) أخرجه البخاري: 60، 96، 163، 165، ومسلم: 240، وغيرهما. (¬3) برقم: 243 (¬4) وفي رواية: "فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة"؛ كما تقدّم، رواه أحمد، وأبو داود وانظر "صحيح سنن أبي داود" (161)، و"الإرواء" (86). (¬5) "مجموع الفتاوى" (21/ 135). (¬6) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3488)، وانظر "المشكاة" (401)، وهو في "صحيح سنن ابن ماجه" (323)؛ بلفظ: "بميامنكم".

13 - "الدلك لمن كان ذا شعر كثير كثيف".

13 - "الدلك لمن كان ذا شعرٍ كثير (¬1) كثيف" (¬2). لأنَّ هذا الشعر قد يحول دون بلوغ الماء موضعه، وما لا يتمّ الواجب إلاَّ به؛ فهو واجب. سُنَن الوضوء 1 - السِّواك: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لولا أن أشقّ على أُمّتي؛ لأمَرْتُهم بالسواك مع كلّ وضوء" (¬3). ويستحبّ السّواك للصائم أوّل النَّهار وآخره؛ للبراءة الأصليّة (¬4). 2 - غَسل الكفّين في أوّل الوضوء. ومن الأدلّة على ذلك: حديث عبد الله بن زيد، وفيه:" ... فأكفأ (¬5) على يده من التَّور، فغسل يديه ثلاثاً ... " (¬6). ¬

_ (¬1) ويسمى الشعراني في اللغة، وانظر "المحيط"، و"الوسيط". (¬2) قاله لي بمعناه شيخنا الألباني -حفظه الله-. (¬3) أخرجه أحمد ومالك والنسائي وغيرهم، وذكره البخاري معلقاً، وصحّحه شيخنا -حفظه الله- في "الإرواء" (70). (¬4) انظر "تمام المنّة" (ص 89). (¬5) أي: أمال وصبَّ. (¬6) أخرجه البخاري: 186، ومسلم: 235، وتقدّم.

3 - الدلك لمن لم يكن ذا شعر طويل كثيف.

وكذلك حديث حُمران الآتي في النقطة الرابعة: "فأفْرَغ (¬1) على كفّيه ثلاث مرار، فغسلهما ... ". 3 - الدَّلك لمن لم يكن ذا شعر طويل كثيف. عن عبد الله بن زيد: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتيَ بثُلُثي مُدّ؛ فجعلَ يدْلُك ذراعه" (¬2). 4 - تثليث الغَسل. وفيه عدة أحاديث؛ منها: ما رواه حُمران مولى عثمان: "أنَّه رأى عثمان بن عفان دعا بإِناءٍ، فأفرغ على كفّيه ثلاث مِرار، فغسلَهما، ثمَّ أدخل يمينه في الإِناء فمضمضَ واستنشقَ، ثمَّ غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إِلى المرفقين ثلاث مرار، ثمَّ مسح برأسه، ثمَّ غسل رجليه ثلاث مرار إِلى الكعبين، ثمَّ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من توضّأ نحو وُضوئي هذا، ثمَّ صلّى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه؛ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه" (¬3). وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب: "أنَّ عبد الله بن عمر- رضي الله ¬

_ (¬1) أي: صبَّ. (¬2) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (92)، والحاكم مثله، وصحّحه شيخنا الألباني -حفظه الله-. (¬3) أخرجه البخاري: 159، ومسلم: 226 نحوه، وفيه: "قال ابن شهاب: وكان علماؤنا يقولون: هذا الوضوء أسبَغ ما يتوضّأ به أحدٌ للصلاة". وتقدّم.

عنهما -توضّأ ثلاثاً ثلاثاً؛ يُسنِد ذلك إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬1). وقد ثبتَ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنَّه توضّأ مرّتين مرّتين: لحديث عبد الله بن زيد -رضي الله عنه-: " "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضّأ مرّتين مرتين (¬2) " (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضّأ مرّتين مرتين" (¬4). وثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوضوء مرّة مرّة: كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "توضّأ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرة مرة" (¬5). كما صحّ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَسل بعض أعضائه مرتين وبعضهما ثلاثاً: كما في حديث عمرو بن يحيى المازنيّ عن أبيه: "أنَّ رجلاً قال لعبد الله ابن زيد -وهو جدُّ عمرو بن يحيى-: أتستطيع أن تُريني كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضّأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء، فأفرغَ على يديه، فغسل مرّتين، ثمَّ مضمضَ واستنثر ثلاثاً، ثمَّ غسل وجهه ثلاثاً، ثمَّ ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (79)، وابن ماجه "سنن ابن ماجه" (334)، وتقدّم. (¬2) لكلّ عضو. (¬3) أخرجه البخاري: 158 (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (124)، والترمذي وصححه ابن حبان. (¬5) أخرجه البخاري: 157

4 - الدعاء بعده.

غسل يديه مرّتين مرّتين إِلى المرفقين، ثمَّ مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر؛ بدأ بمقدَّم رأسه حتى ذهب بهما إِلى قفاه، ثمَّ ردَّهما إِلى المكان الذي بدأ منه، ثمَّ غسل رجليه" (¬1). 4 - الدّعاء بعده. وفي ذلك أحاديث، منها: "ما منكم من أحد يتوضّأ فيُبلغ (أو فيُسبغ) الوضوء، ثمَّ يقول: "أشهد أنَّ لا إِله إلا الله وأنَّ محمّداً عبده ورسوله؛ إلاَّ فُتحت له أبواب الجنَّة الثمانية، يدخل من أيِّها شاء" (¬2). 5 - صلاة ركعتين بعده. لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال عند صلاة الفجر: "يا بلال! حدّثني بأرجى (¬3) عملٍ عملتَه في الإِسلام؛ فإِنّي سمْعت دَفَّ (¬4) نعليك بين يديَّ في الجنَّة". قال: "ما عمِلْتُ عملاً أرجى عندي أنِّي لم أتطهَّر طُهوراً في ساعةِ ليلٍ أو نهارٍ؛ إلا صلّيت بذلك الطُّهور ما كُتب لي أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 185، ومسلم: 235، وتقدّم. (¬2) أخرجه مسلم: 234، وغيره، وسأذكره بتمامه إِنْ شاء الله في موضعه. (¬3) بلفظ أفعل التفضيل المبني من المفعول، وِإضافة العمل إِلى الرّجاء؛ لأنَه السبب الداعي إِليه. (فتح). (¬4) قال الخليل: دفَّ الطائر: إِذا حرّك جناحيه وهو قائم على رجليه. =

ما يجب له الوضوء

أصلّي" (¬1). ما يجب له الوضوء 1 - الصلاة، سواء كانت فرضاً أو نافلة. لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (¬2). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تُقبل صلاة من أحدث حتى يتوضّأ" (¬3). 2 - الطّواف بالبيت. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الطّواف بالبيت صلاة؛ إلا أنَّ الله أباح فيه الكلام" (¬4). ¬

_ = وقال الحميدي: الدّف: الحركة الخفيفة والسّير اللين. ووقع في رواية مسلم: "خَشْف"؛ قال أبو عبيد وغيره: الخَشف: الحركة الخفيفة. ووقع في حديث بريدة عند أحمد والترمذي وغيرهما: "خشخشة"، وهو بمعنى الحركة أيضاً. كذا في "الفتح" بحذف يسير. (¬1) أخرجه البخاري: 1149، ومسلم: 2458، وغيرهما. (¬2) المائدة: 6 (¬3) تقدّم في (باب الوضوء شرط من شروط الصلاة). (¬4) أخرجه الترمذي، والدارمي، وابن خزيمة، وغيرهم، وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإِرواء" (121).

الأمور التي يستحب لها الوضوء

الأمور التي يستحبُّ لها الوضوء 1 - عند ذكر الله عزّ وجلّ. عن المهاجر بن قنفذ -رضي الله عنه-: أنَّه أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يبول، فسلَّم عليه، فلم يردَّ عليه حتى توضّأ، ثمَّ اعتذرَ إِليه فقال: "إِنِّي كرهْتُ أن أذكر الله إلا على طُهر (أو قال: على طهارة) " (¬1). وعن أبي الجهيْم -رضي الله عنه- قال: "أقبل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل، فسلَّم عليه، فلم يردَّ عليه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثمَّ ردَّ عليه السّلام" (¬2). ويندرج الدعاء تحت الذِّكْر، لا سيّما وقد ورد فيه نصٌّ خاصٌّ: ففي حديث أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "لمّا فرغ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حنين؛ بعث أبا عامرٍ على جيش إِلى أوطاس، فلقي دريد بن الصِّمَّة، فقُتل دريد، وهزم الله أصحابه. قال أبو موسى: وبعثَني مع أبي عامر، فرُميَ أبو عامر في ركبته، رماه جُشَميٌّ بسهم فأثبته في ركبته، فانتهيت إِليه، فقلت: يا عمِّ! من رماك؟ فأشار إِلى أبي موسى فقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدت له، فلحقْتُهُ، فلمَّا رآني؛ ولّى، فاتَّبعْتُه وجعلْت أقول له: ألا تستحي؟! ألا تثبت؟! فكفَّ، فاختلفنا ضربتين بالسيف، فقتلتُه، ثمَّ قلت لأبي عامر: قتَل الله صاحبك. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره، وهو في "الصحيحة" (834) وتقدم. (¬2) أخرجه البخاري: 337، ومسلم: 369، وغيرهما.

2 - عند كل صلاة.

قال: فانزع هذا السهم. فنزعته، فنزا منه الماء (¬1). قال: يا ابن أخي! أقرِئ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السلام، وقل له: استغفِر لي. واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيراً ثمَّ مات. فرجعتُ، فدخلتُ على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته على سرير مُرمَل (¬2)، وعليه فراش قد أثّر رِمال السرير بظهره وجَنْبَيْه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وقال: قل له: استغفِر لي. فدعا بماء فتوضّأ، ثمَّ رفع يديه فقال: "اللهمّ اغفر لعبيدٍ أبي عامر". ورأيت بياض إِبطيه، ثمَّ قال: "اللهمّ اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس". فقلت: ولي فاستغفر. فقال: "اللهمّ اغفر لعبد الله بن قيس ذنبَه، وأدخلْه يوم القيامة مُدْخَلاً كريماً". قال أبو بردة: إِحداهما لأبي عامر، والأخرى لأبي موسى" (¬3). قال الحافظ: "يُستفاد منه استحباب التّطهير لإِرادة الدعاء، ورفْع اليدين في الدعاء؛ خلافاً لمن خصَّ ذلك بالاستسقاء". 2 - عند كلِّ صلاة. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لولا أن أشقّ ¬

_ (¬1) أي: انصبَّ من موضع السَّهم. (¬2) أي: معمول بالرِّمال، وهي حبال الحصر التي تضفر بها الأسرة "فتح". (¬3) أخرجه البخاري: 4323 واللفظ له، ومسلم: 2498. وأبو بردة هو ابن موسى راوي الحديث عنه.

3 - الوضوء عند كل حدث.

على أمّتي؛ لأمَرْتهم عند كلِّ صلاة بوُضوء، ومع كلِّ وُضوء بسواك" (¬1). وعن عبد الله بن عبد الله بن عمر؛ قال: "قلت: أرأيت توضؤ ابن عمر لكلّ صلاة طاهراً وغير طاهر؟ عمَّ ذاك؟ فقال: حدَّثَتنيه أسماء بنت زيد بن الخطَّاب: أنَّ عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر حدّثها: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالوضوء لكلّ صلاة طاهراً وغير طاهر، فلمّا شقَّ ذلك عليه؛ أمَر بالسواك لكل صلاة، فكان ابن عمر يرى أنَّ به قوَّة، فكان لا يدَع الوضوء لكلّ صلاة" (¬2). 3 - الوضوء عند كلّ حدث. لحديث بريدة بن الحصيب؛ قال: "أصبح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً، فدعا بلالاً، فقال: "يا بلال! بما سبقْتني إِلى الجنّة؟! إِنِّي دخلْتُ البارحة الجنّة، فسمعت خشخشتك أمامي". فقال بلال: يا رسول الله! ما أذّنْتُ قطّ إلاّ صلّيت ركعتين، ولا أصابني حدث قطّ إلا توضّأت عنده، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لهذا" (¬3). 4 - الوضوء (¬4) مِن حَمْل الميت: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد بإِسناد حسن؛ وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (193). (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (38)، وحسّن شيخنا إِسناده في "المشكاة" (426). (¬3) أخرجه الترمذي، والحاكم، وابن خزيمة في "صحيحه"، وِإسناده على شرط مسلم؛ كما ذكر شيخنا في "تمام المنة" (ص111)، وتقدّم في (باب سنن الوضوء) بغير هذا اللفظ. (¬4) استفدته من "تمام المنة" هو والذى قبله.

5 - الوضوء للجنب إذا نام دون اغتسال:

لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من غسَّلَ ميتاً؛ فليغتسل، ومن حمله؛ فليتوضّأ" (¬1). 5 - الوضوء للجُنب إِذا نام دون اغتسال (¬2): وفيه أحاديث منها: عن أبي سلمة؛ قال: سألْتُ عائشة: أكان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرقد وهو جُنب؟ قالت: "نعم، ويتوضّأ" (¬3). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنَّ عمر سألَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيرقد أحدُنا وهو جُنُب؟ قال: "نعم؛ إِذا توضّأ أحدُكم؛ فليرقد وهو جُنُب" (¬4). 6 - الوضوء للجُنب إِذا أراد الأكل. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا كان جُنُباً، فأراد أن يأكل أو ينام؛ توضّأ وضوءه للصّلاة" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم، وانظر "تمام المنة" (ص 112)، و"الإِرواء" (144). (¬2) وكان من هدي النَبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاغتسال قبل النوم والنوم قبل الاغتسال؛ كما في حديث عبد الله بن أبي قيس؛ قال: "سألت عائشة عن وتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ (فذكر الحديث) وفيه: قلت: كيف كان يصنع في الجنابة؟ أكان يغتسل قبل أن ينام أم ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: "كلّ ذلك قد كان يفعل، ربما اغتسل فنام، وربما توضّأ فنام". قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سَِعة". [بفتح السين وكسرها، وانظر "الوسيط"]. أخرجه مسلم: 307 (¬3) أخرجه البخاري: 286، ومسلم: 305 (¬4) أخرجه البخاري: 287، ومسلم: 306 نحوه، وغيرهما. (¬5) أخرجه مسلم: 305

7 - المعاودة للجماع.

7 - المعاودة للجماع. عن أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أتى أحدُكم أهله، ثمَّ أراد أن يعود؛ فليتوضّأ" (¬1). 8 - الوضوء من القيء. لحديث مَعدان بن أبي طلحة عن أبي الدّرداء: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاء، فأفطر، فتوضّأ"، فلقيتُ (¬2) ثوبان في مسجد دمشق، فذكرْتُ له، فقال (¬3): صدق (¬4)، أنا صببتُ له وضوءه (¬5). 9 - الوضوء من أكل ما مسّته النار. وقد دلَّ على وجوب الوضوء: ما روته عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "توضؤوا ممّا مسّت النَّار" (¬6). وأيضاً حديث عبد الله بن إِبراهيم بن قارظ: "أنَّه وجد أبا هريرة يتوضّأ على المسجد، فقال: إِنَّما أتوضّأ من أثوار أقط أكلتها؛ لأنّي سمعتُ رسول الله ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 308، وأبو داود نحوه "صحيح سنن أبي داود" (204). (¬2) قائله معدان بن أبي طلحة. (¬3) أي: ثوبان. (¬4) أى: أبو الدرداء. (¬5) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (76) وغيره، وسيأتي في (أمور تُظنُّ أنها تنقض الوضوء). (¬6) أخرجه مسلم: 353

10 - عند النوم.

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "توضّؤوا ممّا مسَّت النَّار" (¬1). ثمَّ أورد أهل العلم ما ينسخ هذا (¬2)؛ كما فى حديث عمر بن أميّة: أنَّ أباه عمرو بن أميّة أخبره: "أنَّه رأى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحتزُّ (¬3) من كتف شاة في يده، فدُعي إِلى الصلاة، فألقاها والسكّين التي يحتزّ بها، ثمَّ قام فصلّى ولم يتوضّأ" (¬4). وعن جابر قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ترْك الوضوء ممّا غيّرت النّار" (¬5). 10 - عند النوم. لحديث البراء بن عازب -رحمه الله- قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أتيت مضجعك؛ فتوضّأ وضُوءك للصّلاة، ثمَّ اضطجعْ على شقِّكَ الأيمن، ثمَّ قُلْ: اللهمَّ أسلمتُ وجهي إِليك، وفوَّضْت أمري إِليك، وألجأتُ ظهري إِليك؛ رغبةً ورهبةً إِليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إِليك، اللهمّ آمنت بكتابك الذي أنزَلْتَ، وبنبيِّك الذي أرسلتَ، فإِنْ مُتَّ من ليلتك؛ فأنت على الفطرة، واجعلهُنّ آخر ما تتكلّمُ به" قال: فردَّدْتها على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلمَّا بَلَغْتُ: "اللهمَّ آمنتُ بكتابك الذي أنزلْتَ"، قلتُ: "ورسولك" قال: "لا؛ ونبيِّكَ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 352، وغيره، وهناك من حمله على غسل اليد والفم. انظر "الروضة الندية" (1/ 155). (¬2) فقد بوّب النووي لهذا بقوله: "باب نسْخ الوضوء مّما مسّت النار"، وأبو داود بقوله: "في ترْك الوضوء مما مسّت النار". (¬3) أي: يقطع. (¬4) أخرجه البخاري: 5408، ومسلم: 355 (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (177).

مسألة في الوضوء لمس المصحف:

الذي أرسلتَ" (¬1)، وقال النووي في "شرحه" (17/ 32) باستحبابه. مسألة في الوضوء لمسِّ المصحف: اختلف العلماء في مسِّ المصحف من قِبل المحْدث والجُنُب، وذهبَ الجمهور إِلى منْع ذلك (¬2)، واستدلُّوا بحديث: "لا يمسُّ القرآن إلا طاهر" (¬3). جاء في "نيل الأوطار" (1/ 259): "والحديث يدلُّ على أنَّه لا يجوز مسُّ المصحف إلا لمن كان طاهراً، ولكنَّ الطَّاهر يُطلق بالاشتراك على المؤمن والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر ومن ليس على بدنه نجاسة. ويدلُّ لإِطلاقه على الأوَّل: قول الله تعالى: {إِنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ} (¬4). وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي هريرة -رحمه الله-: "المؤمن لا ينجُس" (¬5). وعلى الثاني: {وإِنْ كنْتمْ جُنُباً فاطهَّروا} (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 247، ومسلم: 2710، وغيرهما. قال الحافظ: "النُّكتة في ختم البخاريِّ كتاب الوضوء بهذا الحديث من جهة: أنَّه آخر وضوء أُمِرَ به المكلَّف في اليقَظة، ولقوله في نفس الحديث: "واجعلهنَّ آخر ما تقول"، فأشعر ذلك بختم الكتاب، والله الهادي للصواب". (¬2) وقال الشوكاني في "نيل الأوطار" (1/ 260): "وقد وقع الإِجماع على أنّه لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يمسَّ المصحف، وخالف في ذلك داود" انتهى، وسيأتي هذا القول إِن شاء الله تعالى. (¬3) سيأتي الكلام حول هذا الحديث إِن شاء الله. (¬4) التوبة: 28 (¬5) تقدّم تخريجه. (¬6) المائدة: 6

وعلى الثالث: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسح على الخفَّين: "دعْهما؛ فإِنّي أدخلتُهما طاهرتين". وعلى الرابع: الإجماع على الشيء الذى ليس عليه نجاسة حسِّيَّة ولا حُكميَّة يسمى طاهراً، وقد ورَد إِطلاق ذلك في كثير. فمن أجاز حَمْل المشرك على جميع معانيه؛ حمَله عليه هنا، والمسألة مدونة في الأصول، وفيها مذاهب. والذي يترجَّح أن المشترك مُجملٌ فيها، فلا يُعْمَل به حتى يُبيَّن ... وقال: "استدلَّ المانعون للجُنُب بقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُون} (¬1)، وهو لا يتمُّ إلا بعْد جعْل الضمير راجعاً إِلى القرآن، والظاهر رجوعُه إِلى الكتاب، وهو اللوح المحفوظ؛ لأنَّه الأقرب، والمطهَّرون الملائكة، ولو سَلِمَ عدم الظُّهور؛ فلا أقلَّ من الاحتمال، فيمتنع العمل بأحد الأمرين، ويتوجَّه الرجوع إِلى البراءة الأصليَّة، ولو سَلِم رجوعه إِلى القرآن على التَّعيين؛ لكانت دلالته على المطلوب -وهو منع الجُنُب من مسِّه- غير مسلَّمة؛ لأنَّ الطاهر من ليس بنجس، والمؤمن ليس بنجس دائماً؛ لحديث "المؤمن لا ينجس"، وهو متَّفق عليه (¬2)؛ فلا يصحُّ حمل المطهَّر على من ليس بجُنب أو حائض أو محدَث أو متنجِّس بنجاسة عينيَّة، بل حمْلُه على من ليس بمشرك؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ} (¬3)، لهذا الحديث، والحديث للنهي عن السفر بالقرآن إِلى أرض العدو، ولو سلِم ¬

_ (¬1) الواقعة: 79 (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) التوبة: 28

صِدْق اسم الطَّاهر على من ليس بمحدث حدثاً أكبر أو أصغر؛ فقد عَرَفْتَ أنَّ الراجح كون المشترك مجملاً في معانيه، فلا يعيَّن حتى يبيَّن، وقد دلَّ الدليل ها هنا أنَّ المراد به غيره لحديث: "المؤمن لا ينجس"، ولو سَلِم عدم وجود دليل يمنع من إِرادته؛ لكان تعيينه لمحلِّ النِّزاع ترجيحاً بلا مرجِّح، وتعيينه لجميعها استعمالاً للمشترك في جميع معانيه، وفيه الخلاف، ولو سَلِم رجحان القول بجواز الاستعمال للمشترك في جميع معانيه؛ لما صحَّ؛ لوجود المانع، وهو حديث: "المؤمن لا ينجس". واستدلُّوا بحديث الباب (¬1)، وأُجيب بأنَّه غير صالح للاحتجاج؛ لأنَّه من صحيفة غير مسموعة، وفي رجال إِسناده خلاف شديد، ولو سَلِم صلاحيته للاحتجاج لعاد البحث السابق في لفظ طاهر، وقد عرفْتَه. قال السيد العلامة محمد بن إِبراهيم الوزير: إِنَّ إِطلاق اسم النجس على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر؛ لا يصحُّ لا حقيقةً ولا مجازاً ولا لغةً، صرَّح بذلك في جواب سؤال، وردَّ عليه، فإِن ثبت هذا؛ فالمؤمن طاهر دائماً؛ فلا يتناوله الحديث، سواء كان جُنُباً أو حائضاً أو محدثاً أو على بدنه نجاسة. فإِن قلت: إِذا تمَّ ما تريد من حمْل الطاهر على من ليس بمشرك؛ فما جوابك فيما ثبت في المتَّفق عليه من حديث ابن عباس أنَّه - صلى الله عليه وآله وسلَّم - كتب الى هرقل عظيم الروم: أسلِم تسلم، وأسلِم يؤتك الله ¬

_ (¬1) أي: حديث: "لا يمس القرآن إلاَّ طاهر".

أجرك مرَّتين، فإِنْ تولَّيت فإِنَّ عليك إِثم الأريسيين، و {يا أَهْلَ الكتابِ تعالوْا إِلى كَلِمَةٍ} إِلى قوله: {مُسْلِمونَ}، مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب، ووقوع اللمس منهم له معلوم. قلت: اجعله خاصّاً بمثل الآية والآيتين؛ فإِنَّه يجوز تمكين المشرك من مسِّ المقدار لمصلحة؛ كدعائه إِلى الإِسلام، ويمكن أن يُجاب عن ذلك بأنَّه قد صدر باختلاطه بغيره لا يحرم لمسه؛ ككُتُب التفسير؛ فلا تخصَّص به الآية والحديث. إِذا تقرَّر لك هذا؛ عرفتَ انتهاض الدَّليل على منع من عدا المشرك. وقد عرفت الخلاف في الجُنُب. وأما المحدث حدثاً أصغر؛ فذهب ابن عباس والشعبي والضَّحَّاك؛ وزيد ابن علي والمؤيَّد بالله والهادوية وقاضي القضاة وداود إِلى أنَّه يجوز له مسُّ المصحف، وقال القاسم وأكثر الفقهاء والإِمام يحيى: لا يجوز، واستدلُّوا بما سَلَف، وقد سَلَف ما فيه" اهـ. وأمَّا القراءة له بدون مسٍّ؛ فهي جائزة اتِّفاقاً، وقد ذَكر ابن أبي شيبة -رحمه الله- في "مصنّفه" آثاراً كثيرة في ذلك (¬1). قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلَّى" (1/ 107): "وأمَّا مسُّ المصحف؛ فإِنَّ الآثار التي احتج بها من لم يُجزْ للجنب مسَّه، فإِنَّه لا يصحُّ ¬

_ (¬1) انظر (1/ 98) (في الرجل الذى يقرأ القرآن وهو غير طاهر) وكذا عبد الرزاق في "مصنفه" (1/ 340).

منها شيء (¬1)؛ لأنَّها مُرسلة، وإمَّا صحيفة لا تُسْنَد، وإِمَّا عن مجهول، وإمَّا عن ضعيف، وقد تقصَّيناها في غير هذا المكان". ثمَّ ذكر رسالة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى هِرَقل عظيم الروم (¬2) وما حَوَتْه من الذِّكر ولفظ الجلالة، وتضمُّنها لآية من القرآن الكريم. ثمَّ قال: "فإِن قالوا: إِنِّما بعَث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى هِرَقل آية واحدة! قيل لهم: ولم يمنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غيرها، وأنتم أهل قياس، فإِن لم تقيسوا على الآية ما هو أكثر منها؛ فلا تقيسوا على هذه الآية غيرها". ثمَّ ذكر ردّه على من يحتجُّ بقوله تعالى: {لا يَمَسّه إِلاَّ المُطَهَّرونَ} (¬3)؛ بأنَّه خبر وليس أمراً، وأنَّنا رأينا المصحف يمسُّه الطَّاهر وغير الطَّاهر، فنعلم أنَّ الله -عزّ وجلّ- لم يعْنِ المصحف، وإنما عنى كتاباً آخر، وأورد بعض أقوال السَّلف أنَّهم الملائكة الذين في السَّماء. قلت: ومحور الخلاف وأقواه -فيما رأيت- منصبٌّ على فهم حديث: "لا يمسّ القرآن إِلاَّ طاهر"، وقد جاء من طُرق عدَّة ضعيفة، لكن ضعْفها يسير، وبذلك يثبت الحديث بمجموع الطُّرق؛ كما ذعر شيخنا في "الإِرواء" (122). ¬

_ (¬1) هذا في كل طريق على حدة، بيد أنَّ الحديث ثابت بمجموع الطُّرق كما سيأتي -إِن شاء الله تعالى-. (¬2) أخرجه البخاري: 7، ومسلم: 1773، وغيرهما. (¬3) الواقعة: 79

بَيْد أنَّ الحديث جاء بلفظ: "وأنت طاهر"، من طريق عثمان بن أبي العاص؛ كما في "الكبير" للطبراني، وفيه من لا يُعْرَف، وابن أبي داود في "المصاحف"، وفيه انقطاع، بل في إِسنادهما كليهما إِسماعيل بن رافع، وهو ضعيف الحفظ؛ كما قال الحافظ -رحمه الله- وبيَّنه شيخنا -حفظه الله- في "الإِرواء". أمَّا رواية عمرو بن حزم؛ فقد جاءت بلفظ: "ألاَّ تمسَّ القرآن إِلاَّ على طُهر"؛ كما في "سنن الدارقطنيّ" (1/ 121) (رقم 110) و (رقم 4) أيضاً من طريق عبد الرزاق بيْدَ أنَّها وردت فْي "المصنَّف" بلفظ: "لا يمسّ"، فيخشى التصحيف بما جاء في الدَّارقطني والبيهقيّ برقم (1/ 87). قلتُ: فالمسألة تحتاج إِلى تتبُّع واستقصاء، فإِن ثبت لفظ: "وأنت طاهر ... " وما في معناه (¬1)؛ كان تحريم مسِّ القرآن واضحاً بيِّناً للمحدث والجُنُب والحائض. وجاء في "الإِرواء": "قال إسحاق المروزي في "مسائل الإِمام أحمد" (ص5): قلت (يعني: لأحمد): هل يقرأ الرجل على غير وضوء؟ قال: نعم، ولكن لا يقرأ في المُصحف ما لم يتوضّأ. قال إِسحاق: كما قال؛ لما صحَّ قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يمسّ القرآن إلا طاهر"، وكذلك فعَل أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعون". ثمَّ قال -حفظه الله-: "وممَّا صحَّ في ذلك عن الصحابة ما رواه مصعب ¬

_ (¬1) ولم أتمكّن من المتابعة؛ لنقص عدد من المراجع، بها قد يتحقّق المطلوب، وأسأل الله أن ييسّر لي ذلك.

نواقض الوضوء

ابن سعد بن أبي وقَّاص: أنَّه قال: كنتُ أمسِك المصحف على سعد بن أبي وقَّاص، فاحتَكَكْتُ، فقال سعدٌ: لعلَّك مسَسْتَ ذكَرَكَ؟ قال: فقلتُ: نعم. فقال: قم فتوضّأ. فقمتُ فتوضَّأتُ ثمَّ رجعتُ، رواه مالك (1/ 42) (رقم 59)، وعنه البيهقيّ، وسنده صحيح". ولم يترجَّح لديَّ شيءٌ في هذا، وإِنَّما أنصحُ بالوضوء لمسِّ القرآن ما وجدَ المرء لذلك سبيلاً، وأسأل الله تعالى أن يلهمنا الحقَّ والصَّواب والرَّشاد، وأن يعافينا من الهوى والتعصُّب والضلال. وأمّا القراءة بلا مسٍّ؛ فجوازه بيِّنٌ قويٌّ، ومن الأدلَّة على ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها-: "كان النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكر الله على كلِّ أحيانه" (¬1). قال شيخنا في "الصحيحة" (406):" ... نعم؛ الأفضل أن يقرأ على طهارة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين ردَّ السلام عَقِب التيمُّم: "إِنِّي كرهت أن أذكر الله إِلاَّ على طهارة"، أخرجه أبو داود وغيره، وهو مَخرَّج في "صحيح أبي داود" (23) ". نواقض الوضوء 1 - ما خَرَج من السّبيلين (¬2) (القُبُل والدُّبر) من بول أو مذي أو منيّ أو غائط أو ريح. * أمَّا البول والغائط: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 373، وغيره، وجاء في البخاري معلَّقاً (1/ 83 و163). (¬2) قال البخاري: "باب من لم ير الوضوء إلاَّ من المخرجين". =

فلقوله تعالى: { ... أو جاء أحدٌ مِنكُم من الغائط} (¬1). ولحديث صفوان بن عسّال -رضي الله عنه-: "كان يأمرنا إِذا كنّا سَفْراً (¬2) -أو مسافرين-: أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيّام ولياليهن، إلاَّ من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم ... " (¬3). * وأمَّا الريح: فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يَقبَل الله صلاة أحدكم إِذا أحدث حتّى يتوضّأ" (¬4). ولحديث عبّاد بن تميم عن عمّه: أنَّه شكا إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل الذي يُخيَّل (¬5) إِليه أنَّه يجد الشيء في الصَّلاة، فقال: "لا ينفتل (أو لا ¬

_ = قال الحافظ: "والمعنى: من لم ير الوضوء واجباً من الخروج من شيء من مخارج البدن إلاَّ من القُبل والدُّبر، وأشار بذلك إِلى خلاف من رأى الوضوء ممَّا يخرج من غيرهما من البدن؛ كالقيء والحجامة وغيرهما، ويمكن أن يقال: إِنَّ نواقض الوضوء المعتبرة ترجع إِلى المخرجَيْن، فالنوم مظنَّة خروج الريح، ولمس المرأة ومسّ الذكر مظنّة خروج المذي". "الفتح" (كتاب الوضوء)، تحت باب رقم: (34). (¬1) المائدة: 6، والغائط: هو المكان المطمئنّ من الأرض، يُقصَد لقضاء الحاجة. (¬2) السَّفْر: جمع سافِر، كصاحب وصحْب، والمسافرون: جمع مسافر، والسَّفْر والمسافرون بمعنى. "النهاية". (¬3) أخرجه الترمذي وغيره وقال: حديث حسن صحيح، "صحيح سنن الترمذي" (2801)، وانظر "المشكاة" (520). (¬4) أخرجه البخاري: 6954، ومسلم: 225 (¬5) من الخيال، والمعنى: يظنّ.

ينصرف) حتى يسمعَ صوتاً (¬1) أو يجدَ ريحاً" (¬2). وفي الحديث: "لا وُضوء إلاَّ من صوت أو ريح" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لا وُضوَء إلاَّ من حدَث" (¬4). * وأمَّا المذي: فلحديث علي -رضي الله عنه- قال: كنت رجلاً مذّاءً، فأمرتُ رجلاً أن يسأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لمكانة ابنتهِ- فسأل، فقال: "توضّأ، واغسل ذَكَرك" (¬5). وفي رواية: "إِذا وَجَد أحدكم ذلك؛ فلينضح فرجه، وليتوضّأ وضوءه للصّلاة" (¬6). وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من المذي الوضوء، ومن المنيّ الغسل" (¬7). * وأما المنيّ: فللحديث المتقدِّم:" ... ومن المنيّ الغسل". ¬

_ (¬1) أي: من مخرجه. (¬2) أخرجه البخاري: 137، ومسلم: 361، وغيرهما. (¬3) أخرجه أحمد، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (64)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (416) وغيرهم، وانظر "الإرواء" (1/ 145). (¬4) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ووصَله إِسماعيل القاضي في "الأحكام" بإِسناد صحيح من طريق مجاهد عنه موقوفاً، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي من طريق شعبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه مرفوعاً، وزاد: "أو ريح". ذكَره الحافظ في "الفتح" (1/ 281). (¬5) تقدّم في (باب النّجاسات). (¬6) تقدّم في (باب النّجاسات). (¬7) تقدّم في (باب النّجاسات).

2 - زوال العقل:

2 - زوال العقل: لجنون أو إِغماء أو نحوه؛ لأنَّه أبلغ من النّوم. 3 - مسُّ الفرج بشهوة: لحديث بُسرة بنت صفوان -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا مسَّ أحدُكم ذكَره؛ فليتوضّأ" (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا أفضى أحدُكم بيده إِلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حجاب؛ فليتوضّأ" (¬2). وعن طلق بن عليّ؛ قال: سُئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مسِّ الرجل ذكره بعدما يتوضّأ؟ قال: "وهل هو إلاَّ بَضْعة (¬3) منه" (¬4). وجمَع شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- بين حديث بُسرة وحديث وطلق -رضي الله عنهما- بحمل الأول على المسّ بشهوة والآخر على المسّ بلا شهوة، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل هو إلاَّ بَضعة منك؟ " يُشعر بهذا؛ فحين يكون مسّ ¬

_ (¬1) أخرجه مالك، وأحمد، "صحيح سنن أبي داود" (166)، وغيرهم. وقال الترمذي: حسن صحيح، ووافقه شيخنا في "المشكاة" (319)، وانظر "الإرواء" (116). (¬2) أخرجه ابن حبَّان، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، وِإسناد ابن حبّان جيد؛ وانظر "الصحيحة" (1235). (¬3) أي: قطعة منه. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (167)، وغيره. وقال الترمذي: "هو أحسن شيء في هذا الباب". وقال شيخنا في "المشكاة" (320): وسنده صحيح.

4 - أكل لحم الإبل.

الفرج كأيّ جزء آخر من البدن؛ فإِنَّه لا ينقض الوضوء. 4 - أكْل لحم الإِبل. عن جابر بن سمُرة: "أنَّ رجلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أأتوضّأ من لحوم الغنم؟ قال: "إِن شئت فتوضّأ، وأن شئت فلا توضّأ". قال: أتوضّأ من لحوم الإِبِل؟ قال: "نعم؟ فتوضّأ من لحوم الإِبِل". قال: أصلّي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم". قال: أصلّي في مبارك الإِبل؟ قال: "لا" (¬1). وعن جابر بن سمُرة -رضي الله عنه- قال: "كنا نتوضّأ من لحوم الإِبل ولا نتوضّأ من لحوم الغنم" (¬2). قال الشوكانى -رحمه الله- فى "الدّراري المضيّة" (ص 61): "وقد ذهبَ إِلى انتقاض الوضوء بأكْل لحْوم الإِبل: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن يحيى، وابن المنذر، وابن خزيمة، والبيهقيّ، وحُكي عن أصحاب الحديث، وحُكي عن جماعة من الصّحابة؛ كما قال النّوويّ. قال البيهقيّ عن بعض أصحابنا عن الشّافعي؛ أنَّه قال: إنَّ صحّ الحديث في لحوم الإِبل؛ قُلْت به. قال البيهقيّ: قد صحّ فيه حديثان ... ". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 360، وتقدّم، (¬2) أخرجه أبن أبي شيبة في "المصنف" بسند صحيح؛ كما في "تمام المنَّة" (ص 106).

5 - النوم.

5 - النوم. اختلف أهل العلم في هذه المسألة: * والذين رأَوا عدم نقْضِه استدلّوا بأدّلة؛ منها: قول أنس -رضي الله عنه-: "كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينامون، ثمَّ يُصلّون ولا يتوضّؤون" (¬1). وأيضاً ما ثبت عنه: أنَّه قال: "أُقيمت صلاة العشاء، فقال رجل: لي حاجة، فقام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يناجيه، حتى نام القوم (أو بعض القوم)، ثمَّ صَلَّوا" (¬2). جاء في "تمام المنّة" (100 - 101) بعد حديث أنس: "قد ذكر الحافظ في "الفتح" (1/ 251) (¬3) نحو كلام ابن المبارك هذا، ثمَّ ردّه بقوله: لكن في "مسند البزّار" بإِسناد صحيح في هذا الحديث: "فيضعون جنوبهم، فمنهم من ينام، ثمَّ يقومون إِلى الصَّلاة". قلت (¬4): وأخرجه أيضاً أبو داود في "مسائل الإِمام أحمد" (ص 318) بلفظ: "كان أصحاب النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضعون جنوبهم فينامون، فمنهم من يتوضّأ، ومنهم من لا يتوضّأ"، وإِسناده صحيح على شرط الشيخين. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 376، وغيره. (¬2) أخرجه مسلم: 376 (¬3) انظر "كتاب الوضوء، باب الوضوء من النوم ومن لم يرَ من النَّعسة ... ". (¬4) الكلام لشيخنا -حفظه الله تعالى-.

فهذا اللفظ خلاف اللفظ الأول: "تخفق رؤوسهم" (¬1)؛ فإِنَّ هذا إِنَّما يكون وهُم جلوس؛ كما قال ابن المبارك. فإِمّا أن يُقال: إِنَّ الحديث مضطرب، فيسقط الاستدلال به. وإِمَّا أن يُجمع بين اللفظين، فيُقال: كان بعضهم ينام جالساً، وبعضهم مضطجعاً، فمنهم من يتوضّأ، ومنهم من لا يتوضّأ، وهذا هو الأقرب؛ فالحديث دليل لمن قال: إِنَّ النّوم لا ينقض الوضوء مُطلقاً، وقد صحّ عن أبي موسى الأشعري وابن عمر وابن المسيّب؛ كما في "الفتح". وهو باللفظ الآخر؛ لا يمكن حمْله على النّوم مُمكِّناً مقعدته من الأرض، وحينئذ؛ فهو مُعارض لحديث صفوان بن عسال المذكور في الكتاب بلفظ: " ... لكن من غائط وبول ونوم" (¬2)؛ فإِنَّه يدلُّ على أنَّ النّوم ناقض مُطلقاً؛ كالغائط والبول، ولا شك أنَّه أرجح من حديث أنس؛ لأنَّه مرفوع إِلى النّبيّ ¬

_ (¬1) أي: ينامون حتى تسقط أذقانهم على صدورهم وهم قعود، وقيل هو من الخُفوق: الاضطراب. "النهاية". والحديث في "صحيح مسلم" (376). (¬2) ولفظه كما يأتي: عن زرّ بن حُبيش؛ قال: أتيتُ صفوان بن عسال المرادي أسأله عن المسح على الخُفَّين؟ فقال: ما جاء بك يا زرّ؟ فقلتُ: ابتغاء العلم. فقال: "إِنَّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً بما يطلب"، قلت: إِنَّه حكَّ في صدري المسح على الخُفَّين بعد الغائط والبول، وكنتَ امرأ من أصحاب النْبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجئت أسألك: هل سمعته يذكر في ذلك شيئاً؟ قال: نعم؛ كان يأمرنا إذا كنّا سَفْراً -أو مسافرين- أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهنَّ؛ إلاَّ من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم ... ". رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح". "صحيح سنن الترمذي" (2801)، وغيره، وتقدّم مختصراً.

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس كذلك حديث أنس، إِذ من الممكن أن يكون ذلك قبل إِيجاب الوضوء من النّوم. فالحقُّ أنَّ النَّوم ناقضٌ مُطلقاً، ولا دليل يصلح لتقييد حديث صفوان، بل يؤيّده حديث عليّ مرفوعاً:" ... وكاء السَّهِ (¬1) العينان؛ فمن نام فليتوضّأ"، وإسناده حسن؛ كما قال المنذري والنّووي وابن الصّلاح، وقد بيّنْتُه في "صحيح أبي داود" (198)؛ فقد أمَر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلّ نائم أن يتوضّأ. ولا يعكّر على عمومه -كما ظنَّ البعض- أنَّ الحديث أشار إِلى أنَّ النّوم ليس ناقضاً في نفسه، بل هو مَظِنّة خروج شيء من الإنسان في هذه الحالة؛ فإِنَّا نقول: لمّا كان الأمر كذلك؛ أمَر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلّ نائم أن يتوضّأ، ولو كان متمكّناً؛ لأنَّه -عليه السلام- أخبر أن العينين وكاء السَّهِ، فإِذا نامت العينان؛ انطلق الوكاء؛ كما في حديث آخر، والمتمكِّن نائم؛ فقد ينطلق وكاؤه، ولو في بعض الأحوال، كأن يميل يميناً أو يساراً، فاقتضت الحكمة أن يؤمر بوضوء كل نائم، والله أعلم. وما اخترناه هو مذهب ابن حزم (¬2). وهو الذي مال إِليه أبو عبيد القاسم بن سلام في قصَّة طريفة حكاها عنه ابن ¬

_ (¬1) الوكاء: الخيط الذي تُشَدُّ به الصُّرَّة والكيس وغيرهما، جعل اليقظة للإست كالوكاء للقربة؛ كما أنَّ الوكاء يمنع ما في القربة أن يخرج، كذلك اليقظة تمنع الإِست أن تُحْدِث إلاَّ باختيار. و"السَّهِ": حَلْقة الدُّبر، وكنّى بالعين عن اليقظة؛ لأنَّ النَّائم لا عين له تُبصر. "النهاية". (¬2) وسيأتي قوله في آخر المسألة إِن شاء الله تعالى.

عبد البرّ فى "شرح الموطّأ" (1/ 57/2)؛ قال: كنتُ أُفتي أنَّ من نام جالساً لا وضوء عليه، حتى قَعَد إِلى جنبي رجل يوم الجمعة، فنام، فخرجَت منه ريح، فقُلت: قم فتوضّأ. فقال: لم أنَم. فقُلت: بلى، وقد خَرَجَت منك ريحٌ تنقض الوضوء، فجعلَ يحلف بالله ما كان ذلك منه، وقال لي: بل منك خَرَجت! فزايَلْت ما كنت أعتقد في نوم الجالس، وداعيْتُ غلبة النّوم ومخالطته القلب". ثمَّ قال شيخنا -حفظه الله-: " (فائدة هامة): قال الخطابي في "غريب الحديث" (ق 32/ 2): وحقيقة النوم هو الغشية الثقيلة التي تهجم على القلب فتقطعه عن معرفة الأمور الظاهرة، والناعس هو الذي رهقه ثِقَل، فقطعه عن معرفة الأحوال الباطنة. وبمعرفة هذه الحقيقة من الفرق بين النّوم والنّعاس؛ تزول إِشكالات كثيرة، ويتأكّد القول بأنَّ النّوم ناقض مطلقاً" اهـ. قُلْت: وذكر الحافظ في "الفتح" (1/ 314) نقْل ابن المنذر وغيره عن بعض الصحابة والتّابعين المصير إِلى أنَّ النوم حَدَث ينقض قليله وكثيره، وهو قول أبي عبيد وِإسحاق بن راهويه، قال ابن المنذر: "وبه أقول؛ لعموم حديث صفوان بن عسال ... ". قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (مسألة 158): "والنّوم في ذاته حَدَث ينقض الوضوء، سواء قلّ أو كثُر، قاعداً أو قائماً، في صلاة أو غيرها، أو راكعاً كذلك، أو ساجداً كذلك، أو متكئاً، أو مضطجعاً؛ أيقنَ من حواليه أنَّه لم يُحدث أو لم يوقنوا".

باب أمور تظن أنها تنقض الوضوء وليست كذلك

وقال -رحمه الله- عقب حديث صفوان بن عسّال -رضي الله عنه-: " ... فعمّ عليه السلام كلّ نوم، ولم يخصّ قليله من كثيره، ولا حالاً من حال، وسوّى بينه وبين الغائط والبول. وهذا قول أبي هريرة، وأبي رافع، وعروة بن الزبير، وعطاء، والحسن البصري، وسعيد بن المسيّب، وعكرمة، والزهري، والمزني، وغيرهم كثير". باب أمورٌ تُظنّ أنَّها تنقضُ الوضوء وليست كذلك 1 - مسُّ الفرج بلا شهوة كما تقدَّم (¬1). 2 - لمْس المرأةِ إِن لم ينزل منه شيء. وفيه أحاديث؛ منها: ما روته عائشة -رضي الله عنها-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلها ولم يتوضّأ" (¬2). وعنها: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبّل امرأة من نسائه، ثمَّ خرج إِلى الصَّلاة ولم يتوضّأ" (¬3). قال عروة (¬4): فقلتُ لها: من هي إلاَّ أنت؟ فضحِكَت. ¬

_ (¬1) انظر (باب نواقض الوضوء، (رقم 7). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (164)، وغيره. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (165)، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (406)، وانظر "المشكاة" (323). (¬4) هو عروة بن الزبير ابن أخت عائشة -رضي الله عنها-.

3 - خروج الدم لجرح أو حجامة أو نحو ذلك.

3 - خروج الدّم لجرح أو حجامة أو نحو ذلك. ومن الأدلّة على ما تقدَّم معنا ذِكره (¬1). في قصّة ذلك الأنصاري الذي رماه المشرك بثلاثة أسهم وهو قائم يصلّي، فاستمرَّ في صلاته والدّماء تسيل منه. وتقدَّم أيضاً قول الحسن -رحمه الله-: "ما زال المسلمون يُصلون في جراحاتهم". قال الحافظ: "وقد صحّ أنَّ عمر صلّى وجرحُه ينبع دماً" (¬2). وقال طاوُس ومحمد بن عليّ وعطاء وأهل الحجاز: ليس في الدّم وضوء (¬3). ¬

_ (¬1) في (كتاب الطهارة، باب ما يظنُّ أنَه نجس وليس كذلك). (¬2) انظر "الفتح" (1/ 287). (¬3) أورده البخاري معلقاً بصيغة الجزم. وقال الحافظ في "الفتح" (كتاب الوضوء، باب 34): "وأثره هذا وصَله ابن أبي شيبة بإِسناد صحيح، ولفظه: إنَّه كان لا يرى في الدم وضوءاً، يغسل عنه الدم، ثمَّ حسبه". وقال الحافظ: "وعطاء هو ابن أبي رباح، وأثره هذا وصَله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه". وذكره شيخنا -حفظه الله- في "مختصره" (1/ 57)، فقال:" ... وصَله عبد الرزاق بسند صحيح عنه". وأهل الحجاز: رواه عبد الرزاق من طريق أبي هريرة وسعيد ابن جبير وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر وسعيد بن المسيّب. وأخرجه إِسماعيل القاضي من طريق أبي الزِّناد عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وهو قول مالك والشافعي. "الفتح". ولم أذكر أثر محمد بن علي، وهو أبو جعفر الباقر، فوصله سمويه في "الفوائد".

4 - القيء قل أو كثر.

وعَصَر ابن عمر بَثْرَة (¬1)، فخرج منها الدَّم، ولم يتوضّأ (¬2). وبَزقَ ابنُ أبي أوفى (¬3) دماً، فمضى في صلاته (¬4). وقال ابن عمر والحسن فيمن يحتجم: ليس عليه إلاَّ غَسْل محاجمه (¬5)، 4 - القيء قلّ أو كَثُر. وذلك لعدم ورود الدّليل الموجب له. وروى مَعدان بن أبي طلحة عن أبي الدّرداء -رضي الله عنه-: "أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاء فتوضّأ، فلقيت (¬6) ثوبان في مسجد دمشق، فذكرْت ذلك له فقال (¬7): ¬

_ (¬1) البَثْرة: خُراج صغير. (¬2) أورده البخارى معلقاً بصيغة الجزم، ووصله ابن أبي شيبة بإِسناد صحيح، وزاد قبل قوله: "ولم يتوضّأ": "ثمَّ صلى"؛ كما في "الفتح". (¬3) هو عبد الله الصَّحابي ابن الصَّحابي. كذا في "الفتح". (¬4) وصَله سفيان الثوري في "جامعه" عن عطاء ابن السائب: أنَّه رآه فعَل ذلك، وسفيان سمع من عطاء قبل اختلاطه، فالإِسناد صحيح. عن "الفتح" (أول كتاب الوضوء). (¬5) وصله ابن أبي شيبة عنهما، ووصله الشافعي والبيهقيّ (1/ 140) عن ابن عمر وحده، وسنده صحيح؛ كما في "مختصر البخاري" (1/ 57). والمحاجم: موضع الحجامة. (¬6) قائله معدان بن أبي طلحة. (¬7) أي: ثوبان.

5 - الشك في الحدث.

صدق (¬1)، أنا صبَبْت له وَضوءه (¬2) " (¬3). فالحديث لا يدلّ على النقض إِطلاقاً؛ لأنَّه مجرّد فعل منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأصل أنّ الفعل لا يدلّ على الوجوب. وغايته أن يدلّ على مشروعيّة التأسّي في ذلك، وأمّا الوجوب؛ فلا بُدّ له من دليل خاصٍّ، وهذا مما لا وجود له هنا (¬4). 5 - الشكّ في الحدث. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا وجَدَ أحدُكم في بطنه شيئاً، فأشكلَ عليه؛ أخَرَجَ منه شيء أم لا؟ فلا يخرجنّ من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجدَ ريحاً" (¬5). وعن عبّاد بن تميم عن عمّه: أنَّه شكا إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجلّ الذي يُخيّل إِليه أنَّه يجد الشيء (¬6) في الصّلاة، فقال: "لا ينفتل (أو لا ينصرف) ¬

_ (¬1) أي: أبو الدرداء. (¬2) أي: ماء وُضوئه. (¬3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (76) وغيره، وانظر "الإِرواء" (111)، و"حقيقة الصيام" (ص 15)، و"تمام المنَّة" (111)، وتقدّم. (¬4) كذا في "الإرواء" من قول شيخنا -حفظه الله تعالى-. (¬5) أخرجه مسلم: 362، وأبو عوانة، والترمذي، وغيرهم. (¬6) أي: الحدث خارجاً منه، وفيه العدول عن ذكر الشيء المستقذر بخاصٍّ اسمه؛ إلاَّ للضرورة. "الفتح".

6 - الإحساس بالنقطة.

حتّى يسمع صوتاً (¬1) أو يجد ريحاً" (¬2). قال الحافظ -رحمه الله-: "هذا الحديث أصل في حُكم بقاء الأشياء على أُصولها حتى يتيقَّن خلاف ذلك، ولا يضّر الشكّ الطارئ عليها، وأخَذَ بهذا الحديث جمهور العلماء" (¬3). 6 - الإِحساس بالنّقطة. وما قيل في الأمر السابق يُقال هنا. وقد سُئل شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- فيما إذا أحسَّ بالنّقطة في صلاته؛ فهل تبطل صلاته؟ فأجاب: "مجرّد الإِحساس لا ينقض الوضوء، ولا يجوز له الخروج من الصّلاة الواجبة بمجرّد الشكّ؛ فإِنَّه قد ثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه سُئل عن الرّجل يجد الشيء في الصَّلاة، فقال: "لا ينصرفُ حتّى يسمعَ صوتاً أو يجدَ ريحاً". وأما إِذا تيقَّن خروج البول إِلى ظاهر الذّكر؛ فقد انتقض وضوؤه، وعليه الاستنجاء؛ إلاَّ أن يكون به سلس البول؛ فلا تبطل الصّلاة بمجرّد ذلك إِذا فعَل ما أُمِر به، والله أعلم" (¬4). ¬

_ (¬1) أي: من مخرجه. (¬2) أخرجه البخاري: 137، ومسلم 361، وغيرهما، وتقدّم في (باب نواقض الوضوء). (¬3) "الفتح" تحت حديث (137). (¬4) "الفتاوى" (21/ 220).

7 - الأخذ من الشعر أو الأظفار، وخلع الخفين.

7 - الأخْذ من الشّعر أو الأظفار، وخلْع الخفّين. ولا دليل على الوضوء من ذلك. قال الحسن: "إِنْ أخذ من شعره أو أظفاره وخَلَع خُفّيه، فلا وضوء عليه" (¬1). ونقل ابن المنذر الإِجماع على ذلك (¬2). مسائل في الوضوء 1 - المضمضة باليمين. لحديث حُمران مولى عثمان، وفيه:" ... فأدخل يمينه في الإِناء، فمضمض واستنشق" (¬3). 2 - الاستنثار باليُسرى. عن عليّ -رضي الله عنه-: "أنَّه دعا بوَضوء؛ فتمضمض واستنشق، ونثر بيده اليُسرى، ففعل هذا ثلاثاً، ثمَّ قال: هذا طهور نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬4). 3 - المضمضة والاستنشاق من غَرفة واحدة. عن عبد الله بن زيد -رضي الله عنه-: "أنَّه أفرَغَ من الإِناء على يديه، ¬

_ (¬1) أورده البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ووصله سعيد بن منصور وابن المنذر بإِسناد صحيح. كما قال الحافظ في "الفتح" (كتاب الوضوء، تحت باب: 34). (¬2) "الفتح" (كتاب الوضوء، تحت باب 34). (¬3) أخرجه البخاري: 156، ومسلم: 226، وغيرهما. (¬4) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي "صحيح سنن النسائي" (89) وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (91).

4 - المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا من صيام.

فغسَلهما، ثمَّ غَسَل أو مضمض واستنشق من كفّةٍ (¬1) واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً، فغسل يديه إِلى المرفقين مرَّتين مرَّتين، ومسح برأسه ما أقبل وما أدبر، وغسل رجليه إِلى الكعبين، ثمَّ قال: هكذا وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬2). وعن عبد خير؛ قال: رأيتُ عليّاً -رضي الله عنه- أُتي بكرسي، فقعد عليه، ثمَّ أُتي بكوز من ماء، فغسل يديه ثلاثاً، ثمَّ تمضمض مع الاستنشاق بماء واحدة" (¬3). 4 - المبالغة في المضمضة والاستنشاق إِلا من صيام. عن لقيط بن صبرة: أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له:" ... وبالغْ في الاستنشاق إلاَّ أنْ تكون صائماً" (¬4). 5 - تخليل اللحية. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا توضّأ؛ أخذ كفّاً من ماء، فأدخله تحت حنكه، فخلَّل به لحيته، وقال: "هكذا أمَرني ربي عز وجل" (¬5). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "الفتح": " ... وفي نسخة من غرفة واحدة" وللأكثر من "كفّ" بغير هاء" اهـ قال الأصيلي: "صوابه منَ كفٍّ واحد". (¬2) أخرجه البخاري: 191، ومسلم: 235؛ نحوه. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (104). (¬4) أخرجه أصحاب السنن الأربعة وغيرهم، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وغيره، وانظر "حقيقة الصيام" (ص 12). (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (132)، والبيهقيّ عنه وتقدّم، =

6 - وجوب مسح جميع الرأس.

قال شَيخنا -حفظه الله تعالى- بعد أن ذكر قول الشوكاني في "السيل الجرّار" (1/ 81) حول وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار: "ثمَّ ذكر مثل ذلك في تخليل اللحية (تحت رقم 6)، وهو الصواب، وينبغي أن يُقال ذلك في تخليل الأصابع أيضاً؛ لثبوت الأمر به عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". 6 - وجوب مسح جميع الرأس. قال الله تعالى: {وامْسَحُوا برؤوسِكُم} (¬1). وعن عمرو بن يحيى المازنيّ عن أبيه: أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد -وهو جدُّ عمرو بن يحيى-: أتستطيع أن تُرِيَني كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضّأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم. فدعا بماء فأفرغ على يديه، فغسل مرتين، ثمَّ مضمض واستنثر ثلاثاً، ثمَّ غسل وجهه ثلاثاً، ثمَّ غسل يديه مرتين مرتين إِلى المرفقين، ثمَّ مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر؛ بدأ بمقدَّم رأسه حتى ذهب بهما إِلى قفاه، ثمَّ ردَّهما إِلى المكان الذي بدأ منه، ثمَّ غسل رجليه" (¬2). وسُئل مالك -رحمه الله-: أيجزئ أن يمسحَ بعض الرأس؟ فاحتجّ بحديث عبد الله بن زيد هذا (¬3). ¬

_ = وللحديث طريق أخرى صحَّحها الحاكم، ووافقه ابن القَّطان والذّهبي، والحديث صحيح بشواهده. وانظر "الإِرواء" (92). (¬1) المائدة: 6، والباء هنا زائدة لا تبعيضيَّة، فيراد مسح الكلّ. انظر "الفتح" (شرح حديث 285). وذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أنها للإِلصاق "الفتاوى" (21/ 123). (¬2) أخرجه البخاري: 185، ومسلم: 235، نحوه وتقدّم. (¬3) وصله ابن خزيمة في "صحيحه" (157)؛ كما ذكر الحافظ -رحمه الله- في "الفتح".

7 - كيف يمسح الرأس؟

وإلى وجوب مسْح جميع الرأس هذا ذهب شيخ الإِسلام ابن تيميّة -رحمه الله تعالى- وذكر أنَّه المشهور من مذهب مالك وأحمد (¬1). وقال ابن المسيّب: المرأة بمنزلة الرجل، تمسح على رأسها (¬2). 7 - كيف يُمسح الرأس؟ يُمسح باليدين إِقبالاً وإِدباراً، بادئاً بمقدّم رأسه، حتى يبلغ قفاه: لحديث عبد الله بن زيد:" ... ثمَّ مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر؛ بدأ بمقدّم رأسه، حتى ذهب بهما إِلى قفاه، ثمَّ ردّها إِلى المكان الذي بدأ منه ... " (¬3). وعن يزيد بن أبي مالك: أنَّ معاوية توضأ للنَّاس كما رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضّأ، فلمَّا بلغَ رأسه؛ غَرف غرفةً من ماء فتلقاها بشماله؛ حتى وضعها على وسط رأسه، حتى يقطر الماء أو كاد يقطر، ثمَّ مسح من مقدّمه إِلى مؤخّره، ومن مؤخره إِلى مقدّمه" (¬4). 8 - مسح الرأس مرة واحدة. لحديث عبد الله بن زيد المتقدّم، وهو يتوضّأ وضوء النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه: ¬

_ (¬1) انظر "الفتاوى" (21/ 122 - وما بعدها). (¬2) أورده البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ووصَله ابن أبي شيبة بلفظ: "الرجل والمرأة في المسح سواء". "الفتح". (¬3) أخرجه البخاري: 185، ومسلم: 235، وغيرهما، وتقدّم. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (115).

9 - مسح الرأس مرتين.

" ... فمسح رأسه، فأقبَل بهما وأدبَر مرّة واحدة، ثمَّ غسل رجليه إِلى الكعبين". 9 - مسح الرأس مرتين. لحديث الرُّبَيِّع بنت مُعوّذ عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه:" ... ومسَح برأسه مرتين ... " (¬1). 10 - مسح الرأس ثلاثاً. فقد صحّ من حديث عثمان -رضي الله عنه-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح برأسه ثلاثاً" (¬2). وقد قال الحافظ في "الفتح" (¬3): "وقد روى أبو داود من وجهين صحّح أحدهما ابن خزيمة وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرأس، والزيادة من الثقة مقبولة". وذكر في "التلخيص": أنَّ ابن الجوزي مال في "كشف المشكل" إِلى تصحيح التكرير. قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: "وهو الحقّ؛ لأنَّ رواية المرة الواحدة - وإِن كَثرت- لا تُعارض رواية التثليث؛ إِذ الكلام في أنَّه سنَّة، ومن شأنها أن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (117). (¬2) قال شيخنا في "تمام المنَّة" (ص91): أخرجه أبو داود بسندين حسَنين، وله إِسناد ثالث حسن أيضاً، وقد تكلّمت على هذه الأسانيد بشيء من التفصيل في "صحيح سنن أبي داود" (95 و98). (¬3) تعليقاً على حديث (159).

11 - المسح على العمامة.

تُفعل أحياناً وتُترك أحياناً، وهو اختيار الصنعاني في "سبل السلام"؛ فراجعه إِن شِئت" (¬1). 11 - المسح على العمامة. عن بلال -رضي الله عنه-: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَح على الخفّين والخِمار (¬2) " (¬3). وفي حديث المغيرة بن شُعبة -رضي الله عنه-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضّأ، فمسح بناصيته على العمامة (¬4) وعلى الخفيّن" (¬5). وعنه -رضي الله عنه- أيضاً: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على الخفّين ومُقدَّم رأسه وعلى عمامته" (¬6). وعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: "بعثَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سريّة، فأصابهم البرد، فلمّا قدِموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أمرهم أن يمسحوا على العصائب (¬7) والتساخين" (¬8). ¬

_ (¬1) "تمام المنَّة" (ص91). (¬2) أراد به العمامة؛ لأنَّ الرجل يغطي بها رأسه؛ كما أنَّ المرأة تغطّيه بخمارها. "النهاية". (¬3) أخرجه مسلم: 275 (¬4) العمامة: ما يُلفُّ على الرأس ويغطَّى به. (¬5) أخرجه مسلم 274، وغيره. (¬6) أخرجه مسلم: 274 (¬7) كلّ ما عصَبْتَ به رأسك من عمامة أو منديل أو خرقة. "النهاية". (¬8) جاء في النهاية: الخفاف، ولا واحد لها من لفظها، وقيل: "واحدها تَسخان =

قال ابن حزم -رحمه الله- بعد أن ذكر بعض الأحاديث في المسْح على العمامة: "فهؤلاء ستة من الصحابة -رضي الله عنهم-: المغيرة بن شعبة، وبلال، وسلمان، وعمرو بن أميّة، وكعب بن عجرة، وأبو ذرّ، كلّهم يروي ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأسانيد لا معارض لها ولا مطعن فيها، وبهذا القول يقول جمهور الصحابة والتابعين ... " (¬1). وقال الصنعاني:" ... كان يمسح على رأسه تارة، وعلى العمامة تارة، وعلى النّاصية والعمامة تارة". ويرى شيخنا -حفظه الله- أنْ يفعل المرء ما يتيسّر له من هذه الحالات. ولا يُشترط في المسح على العمامة لبْسها على طهارة، ولك أن تمسح بلا توقيت ولا تحديد؛ لعدم ورود النصِّ في ذلك. قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (تحت المسألة: 202): "وإنما نصَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اللباس على الطهارة- على الخفيّن، ولم ينصّ ذلك في العمامة والخمار. قال الله تعالى: {لِتُبيِّنَ للنَّاس ما نُزِّلَ إِليْهم} (¬2)، {وما كان ربُّكَ ¬

_ = وتَسْخين وتَسْخن. انظر باب (التاء مع السين) و (السين مع الخاء)، وقيل: التساخين ما يُسخَّن به القدم من خُفٍّ وجورب ونحوهما". أخرجه أحمد، وهو في "صحيح سنن أبي داود" (133). (¬1) أنظر "المحلّى" (المسألة: 201). (¬2) النحل: 44

نَسِيّاً} (¬1). فلو وجب هذا في العمامة والخمار؛ لبيَّنه -عليه السلام- كما بيّن ذلك في الخفّين، ومدّعي المساواة في ذلك بيْن العمامة والخمار وبيْن الخفّين مُدَّعٍ بلا دليل، ويُكلَّف البرهان على صحة دعواه في ذلك. فيُقال له: من أين وجب -إِذ نصَّ عليه السلام في المسح على الخفين أنَّه لَبِسهما على طهارة-: أنَّه يجب هذا الحكم في العمامة والخمار؟ ولا سبيل له إِليه أصلاً بأكثر من قضيّة من رأيه؛ وهذا لا معنى له! قال الله تعالى: {قُل هَاتوا بُرْهانَكُم إِنْ كنْتُمْ صَادقينَ} (¬2). وقال في الردّ على من يقول بتوقيت المسح على العمامة والخمار (¬3): "يقال له: ما دليلك على صحّة ما تذكر من أن يحكم للمسح على العمامة بمثل الوقتين المنصوصَين (¬4) في المسح على الخفّين؟ وهذا لا سبيل إِلى وجوده بأكثر من الدّعوى، وقد مسح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على العمامة والخمار، ولم يوقِّت في ذلك وقتاً، ووقّت في المسح على الخفيّن؛ فيلزمنا أن نقول ما قاله عليه السلام، وأن لا نقول في الدين ما لم يَقُلْه عليه السّلام، قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدودُ اللهِ فلا تَعْتَدُوها} (¬5) ". ¬

_ (¬1) مريم: 64 (¬2) البقرة: 111، والنمل: 64 (¬3) انظر المسألة: 203 (¬4) أي: السّفر والحضر. (¬5) البقرة: 229

12 - مسح باطن وظاهر الأذنين.

12 - مسْح باطن وظاهر الأذنين. عن عبد الله بن عمرو: أنَّ رجلاً أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! كيف الطّهور؟ فدعا بماء في إِناء، فغسل كفّيه ثلاثاً، ثمَّ غسل وجهه ثلاثاً، ثمَّ غسل ذراعيه ثلاثاً، ثمَّ مسَح برأسه، فأدخَل إِصْبعيه السبّاحتين (¬1) في أذنيه، ومسَح بإِبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسبّاحتين باطن أذنيه، ثمَّ غسل رجليه ثلاثاً، ثمَ قال: "هكذا الوُضوء؛ فمن زاد على هذا؛ فقد أساء وظلم"، أو: "ظلم وأساء" (¬2). وعن أبي مليكة؛ قال: "رأيت عثمان بن عفّان سُئل عن الوضوء، فدعا بماء، فأُتي بميضأة ... (وذكر الحديث إِلى أن بلغَ:) ثمَّ أدخل يده، فأخذ ماءً فمسح برأسه وأذنيه، فغسل بطونهما وظهورهما مرّة واحدة، ثمَّ غسل رجليه، ثمَّ قال: أين السائلون عن الوضوء؟ هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ" (¬3). وفي حديث المقدام بن معديكرب؟ قال: " ... ومسَح بأذنيه ظاهرهما وباطنهما، -زاد هشام-: وأدخل أصابعه في صِماخ (¬4) أذنيه" (¬5). ¬

_ (¬1) السبَّاحة والمُسبِّحة: الإِصبع التي تلي الإِبهام، سُمِّيت بذلك لأنها يُشار بها عند التَّسبيح. "النهاية". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (123) وغيره، وانظر "المشكاة" (417). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (99). (¬4) ثقب الأذن، ويقال بالسين. "النهاية". (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (114).

13 - مسح الأذنين بماء الرأس وجواز أخذ ماء جديد لهما عند الحاجة.

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما" (¬1). 13 - مسْح الأذنين بماء الرّأس وجواز أخْذ ماء جديد لهما عند الحاجة. قال المُناوي في شرح حديث: "الأذُنان من الرأس" (¬2): "الأذُنان من الرأس، لا من الوجه ولا مستقلّتان؛ يعني: فلا حاجة إِلى أخْذ ماء جديد منفرد لهما غير ماء الرأس في الوضوء، بل يجزئ مسْحهما ببلل ماء الرأس، وإلاَّ لكان بياناً للخلقة فقط، والمصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُبعث لذلك، وبه قال الأئمة الثلاثة ... "، وذكر مخالفة الشّافعيِّة في ذلك. واحتجّ النَّووي في "المجموع" (1/ 412) بحديث عبد الله بن زيد -رضي الله عنه-: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخَذ لأذنيه ماءً خلاف الذي أخذ لرأسه"، وقال: حديث حسن، رواه البيهقيّ وقال: إِسناده صحيح. بيْد أنَّ شيخنا -حفظه الله- بيّن شذوذه في: "الضعيفة" (995)، و"صحيح سنن أبي داود" (111). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقيّ، وهو صحيح بالمتابعة؛ فقد أخرجه أبو داود والحاكم، وانظر "الإرواء" (90). (¬2) حديث صحيح له طُرق كثيرة عن جماعة من الصحابة؛ منهم: أبو أمامة، وأبو هريرة، وابن عمرو، وابن عباس، وعائشة، وأبو موسى، وأنس، وسمرة بن جندب، وعبد الله ابن زيد. وانظر تفصيله في "الصحيحة" (36).

وقال النّووي -رحمه الله- في موطن آخر (¬1): "وهو حديث صحيح كما سبق بيانه قريباً؛ فهذا صريح في أنَّهما ليستا من الرّأس، إِذ لو كانتا منه؛ لما أخذ لهما ماءً جديداً كسائر أجزاء الرّأس، وهو صريح في أخذ ماء جديد، فيحتجّ به أيضاً على من قال: يمسحمها بماء الرّأس ... ". قال شيخنا -حفظه الله-: "ولا حُجّة فيه على ما قالوا؛ إِذ غاية ما فيه مشروعيّة أخذ الماء لهما، وهذا لا ينافي جواز الاكتفاء بماء الرّأس؛ كما دلَّ عليه الحديث، فاتّفقا ولم يتعارضا. ويؤيد ما ذكرتُ: أنَّه صحّ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنَّه مسح برأسه من فضل ماءٍ كان في يده". رواه أبو داود في "سننه" بسند حسن كما بيّنته في "صحيح سننه" (121)، وله شاهد من حديث ابن عباس في "المُستدرك" (1/ 147) بسند حسن أيضاً، ورواه غيره؛ فانظر: "التلخيص الحبير" (ص 33). وهذا كلّه يُقال على فرض التّسليم بصحّة حديث عبد الله بن زيد، ولكنه غير ثابت، بل هو شاذٌّ كما ذكرت في "صحيح سنن أبي داود" (111)، وبيّنته في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (تحت 995). وجملة القول: فإِنَّه أسعد النَّاس بهذا الحديث من بين الأئمّة الأربعة أحمد ابن حنبل -رضي الله عنهم- أجمعين؛ فقد أخذ بما دلّ عليه الحديث في المسألتين، ولم يأخذ به في الواحدة دون الأخرى كما صنع غيره" (¬2) أهـ. ¬

_ (¬1) "المجموع" (1/ 414). (¬2) انظر "الصحيحة" التعليق على حديث (36).

14 - عدم ورود المسح على العنق.

وخلاصة القول التي بدت لي: "جواز مسح الأذنين بماء الرأس، مع جواز أخْذ ماء جديد لهما، إِذا دعت الحاجة لذلك، والله أعلم". 14 - عدم ورود المسْح على العُنق. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: "لم يصح عن النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه مسح على عنقه في الوضوء، بل ولا رُوي عنه ذلك في حديث صحيح، بل الأحاديث الصحيحة التي فيها صفة وضوء النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يمسح على عنقه؛ ولهذا لم يستحبّ ذلك جمهور العلماء؛ كمالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهم، ومن استحبّه؛ فاعتمد فيه على أثر يُروى عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أو حديث يضعُف نقْلُه: "أنَّه مسح رأسه حتى بلغ القذال (¬1) " (¬2)، ومِثل ذلك لا يصح عمدة، ولا يُعارض ما دلّت عليه الأحاديث" (¬3). وأما حديث: "مسح الرقبة أمان من الغِلّ"؛ فموضوع (¬4). ¬

_ (¬1) جِماع مؤخَّر الرأس. (¬2) أخرجه أبو داود وغيره، وفيه ثلاث علل: الضعف، والجهالة، والاختلاف في صحبة والد مصرف. وضعّفه النووي، وابن تيمية، والعسقلاني، وغيرهم. وانظر: "الضعيفة" (تحت رقم 69)، و"ضعيف سنن أبي داود" (15). (¬3) "الفتاوى" (21/ 127 و128). (¬4) قاله النَّووي في "المجموع شرح المهذَّب" (1/ 465)، ونقله السيوطي في "ذيل الأحاديث الموضوعة" عن النووي، وأقرّه، وللحافظ كلام فيه في "التلخيص الحبير"، وانظر تفصيل تخريجه في "السلسلة الضعيفة" (69).

15 - غسل الرجلين إلى الكعبين.

15 - غسل الرِّجلين إِلى الكعبين. عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال: "شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله ابن زيد عن وضوء النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فدعا بتور من ماء، فتوضأ لهم وضوء النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فأكفأ على يديه من التّور فغسل يديه ثلاثاً، ثمَّ أدخل يده في التّور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات، ثمَّ أدخل يده فغسل وجهه ثلاثاً، ثمَّ غسل يديه مرّتين إِلى المرفقين، ثمَّ أدخل يده فمسح رأسه فأقبَل بهما وأدبر مرّة واحدة، ثمَّ غسل رجليه إِلى الكعبين" (¬1). 16 - غَسل الرجلين بغير عدد. لحديث يزيد بن أبي مالك، وفيه: " ... فتوضّأ ثلاثاً ثلاثاً، وغسل رجليه بغير عدد" (¬2). 17 - تخليل أصابع الرجلين. عن المستورد بن شدَّاد -رضي الله عنه- قال: "رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا توضّأ يدلك أصابع رجليه بخِنصره" (¬3). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا توضّأْتَ، فخلِّل أصابع يديْك ورجليك" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 186، ومسلم: 235، وتقدّم. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (116). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح أبي داود" (134) وغيره، وانظر "المشكاة" (407). (¬4) أخرجه أصحاب السنن الأربعة وغيرهم، وقال الحاكم: "صحيح الإِسناد"، ووافقه الذهبي وغيره. وانظر "الصحيحة" (1306)، و"حقيقة الصيام" (12).

18 - الترهيب من النقص في غسل الرجلين.

وعن لَقِيط بن صَبِرة: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أسبغ الوضوء، وخلِّل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق؛ إلاَّ أن تكون صائماً" (¬1). 18 - الترهيب من النقص في غسل الرجلين. عن سالم مولى شدَّاد؛ قال: دخلَت عليَّ عائشة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم تُوفّي سعدُ بن أبي وقاص، فدخل عبد الرحمن بنُ أبي بكر، فتوضّأ عندها، فقالت: يا عبد الرحمن! أسبغ الوضوء؛ فإِنّي سمعْت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ويْلٌ (¬2) للأعقاب (¬3) من النّار" (¬4). وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "أخبرَني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أنَّ رجلاً توضّأ، فترك موضع ظُفُر على قدمه، فأبصره النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ارجعْ؛ فأحسِن وضوءك، فرجع ثمَّ صلَّى" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (129)، والترمذي -وقال: "حديث حسن صحيح"- والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم، وهو في "المشكاة" (405)، وتقدّم. (¬2) الويل: كلمة تُقال لمن وقع في هلكة ولا يُترّحم عليه؛ بخلاف ويح؛ كذا في "التنقيح". "فيض القدير". وهو الحزن والهلاك والمشقة من العذاب. "النهاية". (¬3) أي: التي لا ينالها ماء الطُّهر. "فيض". والعَقِب: مؤخَّر القدم. وفي "النهاية": أراد صاحب العقب، فحذف المضاف، وِإنّما قال ذلك لأنَّهم كانوا لا يستقصون غَسْل أرجلهم في الوضوء. (¬4) أخرجه البخاري: 60 من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- ورواه البخارى: 165، ومسلم: 240، وغيرهما؛ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بهذا السياق. (¬5) أخرجه مسلم: 243، وغيره وتقدم. وفي رواية: "فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة". رواه أحمد، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (161)، و"الإرواء" (86).

19 - النضح بعد الوضوء.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنَّه رأى قوماً يتوضؤون من المطهرة، فقال: أسبغوا الوُضوء؛ فإِني سمعْت أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ويل للعراقيب (¬1) من النار" (¬2). 19 - النّضح بعد الوضوء. عن الحكم بن سفيان الثقفي -رضي الله عنه-: "أنَّه رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضّأ، ثمَّ أخذ كفّاً من ماء فنضحَ به فرجه" (¬3). 20 - وجوب استيعاب جميع أجزاء محلّ الطهارة، ولا يصحّ الوضوء بترك مثل موضع الظُّفُر أو قدر الدّرهم. عن جابر؛ قال: "أخبرني عمر بن الخطاب: أنَّ رجلاً توضّأ، فترك موضع ظُفُر على قدمه، فأبصره النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "ارجع فأحسن وُضوءك فرجع ثمَّ صلّى" (¬4). ¬

_ (¬1) هو من الإنسان فويق العَقب. "النهاية"، وقال النووي: وهو العصبة التي فوق العَقب. (¬2) أخرجه مسلم: تحت حديث رقم (242)، وغيره. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (154) والنسائي، وهو صحيح لغيره فإِنّ له شاهداً من رواية زيد بن حارثة -رضي الله عنه- رواه أحمد وغيره، وانظر "المشكاة" (366). (¬4) أخرجه مسلم: 243، وتقدم.

21 - ما يوجب إعادة الوضوء.

21 - ما يوجب إِعادة الوضوء. للحديث السابق. 22 - التيمّن في الوضوء. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعجبه التّيمّن (¬1)؛ في تنعُّله (¬2)، وترجُّله (¬3)، وطُهُوره؛ في شأنه كلّه" (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا لبستم وإِذا توضّأتم؛ فابدأوا بأيامنكم" (¬5). وعن أم عطيّة -رضي الله عنها- قالت: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهنّ في غسل ابنته: "ابدأنَ بميامنها ومواضع الوضوء منها" (¬6). ¬

_ (¬1) أي: الابتداء باليمين، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعجبه الفأل الحسن؛ كما في رواية ابن حبَّان عن أبي هريرة، وأحمد عن عائشة، وغيرهما، وهو في "الكلم" (248). وعند الشيخين: "قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الحسنة يسمعها الرجل". قال في "الفتح": "قيل: إِنه كان يحبُّ الفأل الحسن، إِذ أصحاب اليمين أهل الجنة". (¬2) أي: لُبس نعله. (¬3) أي: ترجيل شعره، وهو تسريحه ودهنه. (¬4) أخرجه البخاري: 168، ومسلم: 268، وغيرهما. قيل: "هو عام مخصوص؛ لأنَّ دخول الخلاء والخروج من المسجد يبدأ فيهما باليسار". (¬5) تقدّم. (¬6) أخرجه البخاري: 167، ومسلم: 939، وغيرهما، وتقدّم.

23 - إسباغ الوضوء على المكاره.

23 - إِسباغ الوضوء على المكاره. عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ ". قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "إِسباغ الوُضوء على المكاره (¬1)، وكثرة الخُطا إِلى المساجد، وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة؛ فذلكم الرّباط (¬2) " (¬3). وتقدَّم حديث لَقيط بن صَبِرة: "أسبِغ الوضوء، وخلِّل بين الأصابع، وبالِغ في الاستنشاق؛ إلاَّ أن تكون صائماً". 24 - عدم ترتيب الوضوء لا يفسده. الأصل في الوضوء الترتيب، ولكن ليس هناك ما يدلّ على أنَّ عدم ترتيب الوضوء يفسده، فقد ثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه توضّأ من غير ترتيب؛ كما في حديث المقدام بن معديكرب -رضي الله عنه- قال: "أُتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوَضوء، فتوضّأ، فغسل كفّيه ثلاثاً، ثمَّ غسل وجهه ثلاثاً، ثمَّ غسل ذراعيه ثلاثاً، ثمَّ مضمض واستنشق ثلاثاً، ومسح برأسه وأُذنيه ظاهرهما وباطنهما، وغسل رجليه ثلاثاً" (¬4). ¬

_ (¬1) جمع مَكْرَه، وهو ما يكرهه الإِنسان ويشقُّ عليه، والكُره: المشقَّة، والمعنى: أن يتوضّأ مع البرد الشديد والعِلل التي يتأذَّى معها بمسِّ الماء. "النهاية". (¬2) الرباط في الأصل: الإِقامة على جهاد العدو بالحرب؛ أي: أنَّ المواظبة على الطهارة والصلاة والعبادة كالجهاد في سبيل الله. "النهاية" بحذف. (¬3) أخرجه مسلم: 251، وغيره. (¬4) أخرجه أحمد، وأبو داود، وقال الشوكاني: "إِسناده صالح"، وحسّن إِسناده النووي والحافظ ابن حجر. وانظر "تمام المنّة" (ص88).

25 - النهي عن الاعتداء في الوضوء.

25 - النّهي عن الاعتداء في الوُضوء. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه؛ قال: جاء أعرابيٌّ إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، ثمَّ قال: "هكذا الوضوء؛ فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدّى وظلم" (¬1). وفي الحديث: "إِنّه سيكون في هذه الأمَّة قومٌ يعتدون في الطُهور (¬2) والدُّعاء" (¬3). 26 - الرجل يُوضِّئ صاحبه. عن أسامة بن زيد: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمّا أفاض من عرفة؛ عدل إِلى الشِّعْب، فقضى حاجته. قال أسامةُ بن زيد: فجعلْت أصُبُّ عليه ويتوضّأ، فقلت: يا رسول الله! أتصلّي؟ فقال: "المُصلَّى أمامك" (¬4). وعن المغيرة بن شعبة: "أنَّه كان مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، وأنَّه ذهب لحاجةٍ له، وأنَّ مغيرةَ جعل يصبُّ الماء عليه وهو يتوضّأ، فغسل وجهه ويديه ومسح على الخُفّين" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائى "صحيح سنن النسائي" (136)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (339)، وانظر "المشكاة" (417). (¬2) الطهور: بالضم ويُفتح. "مرقاة" (2/ 125). (¬3) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (87)، وابن ماجه، وانظر "المشكاة" (418). (¬4) أخرجه البخاري: 181 (¬5) أخرجه البخارى: 182، ومسلم: 274، وغيرهما.

27 - التخفيف في الوضوء.

27 - التخفيف في الوضوء. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "بتُّ عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الليل، فلمّا كان في بعض الليل؛ قام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتوضّأ من شنٍّ (¬1) مُعلَّق وضوءاً خفيفاً -يخفّفه عمرو ويقلّله (¬2) - وقام يُصلِّي ... " (¬3). وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغسل (¬4) (أو كان يغتسل) (¬5) بالصّاع (¬6) إِلى خمسة أمداد (¬7)، ويتوضّأ بالمُدّ" (¬8). ¬

_ (¬1) الشَّنُّ: القربة العتيقة. (¬2) أي: يصِفه بالتخفيف والتقليل. وقال ابن المنيِّر: يخفِّفه؛ أى: لا يُكثر الدَّلك، ويقلِّله؛ أي: لا يزيد على مرة مرة. وقيل: الاقتصار على سيلان الماء على العضو أخفُّ من قليل الدَّلك، والله أعلم. عن "الفتح" بشيء من الاختصار. (¬3) أخرجه البخاري: 138 (¬4) أي: جسده. (¬5) قال الحافظ: "الشَّكُّ فيه من البخاري أو من أبي نُعيم لما حدَّثه به". (¬6) الصَّاع: إناء يتسع خمسة أرطال وثُلُثاً بالبغدادي، وقال بعض الحنفيَّة: ثمانية. "الفتح". وهو أربعة أمداد. "النهاية". و"الفتح". وقال أبو داود في "سننه": "وسمعْتُ أحمد بن حنبل يقول: الصَّاع خمسة أرطال، وهو صاع ابن أبي ذئب، وهو صاع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". (¬7) جاء في "النهاية": "المُدُّ في الأصل: رُبع الصاع، وِإنّما قُدِّر به لأنَّه أقل ما كانوا يتصدقون به في العادة". وفيه أيضاً: "وهو رطل وثُلُث بالعراقي، عند الشافعي وأهل الحجاز، وهو رطلان عند أبي حنيفة وأهل العراق". (¬8) أخرجه البخارى: 201، ومسلم: تحت 325، وغيرهما.

28 - استعمال فضل وضوء الناس.

وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل بخمس مكاكيك (¬1)، ويتوضّأ بمكّوك" (¬2). وعن عُمارة: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضّأ، فأُتي بإِناء فيه ماء؛ قدر ثُلُثي المدّ" (¬3). وعن عبد الله بن زيد: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتيَ بثُلُثي مُدّ، فجعل يدلك ذراعه" (¬4). 28 - استعمال فضل وضوء النّاس. عن أبي جُحيفَة -رضي الله عنه- قال: "خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالهاجرة (¬5)، فأُتي بوَضوء فتوضّأ، فجعل النّاسُ يأخذون من فضل وَضوئه فيتمسّحون به، فصلّى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يديه ¬

_ (¬1) جاء في "النهاية": "أراد بالمكُّوك: المُدّ، وقيل: الصَّاع، والأول أشبه؛ لأنّه جاء في حديث آخر مفسراً بالمُدِّ، والمكوك: اسم للمكيال". وقوله: "والأول أشبه"؛ هو الصواب إِن شاء الله؛ فقد ورَدت فيه النصوص كما تقدّم، أمّا الصَّاع إِلى خمسة أمداد فهو مقدار ما كان يغتسل به عليه السلام. (¬2) أخرجه مسلم: 325، وغيره. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (85). (¬4) عن "صحيح سنن ابن خزيمة" (118)، وعند الحاكم مِثله، وصحَّحه شيخنا -حفظه الله-. (¬5) نصف النهار، عند اشتداد الحرّ؛ لأنَّ الناس يستكنُّون في بيوتهم، كأنّهم قد تهاجروا.

فوائد يحتاج المتوضىء إليها.

عَنَزَة (¬1) "" (¬2). فوائد يحتاج المتوضِّىء إِليها (¬3). * الكلام المباح أثناء الوضوء مُباح، ولم يَرِدْ في السنّة ما يدلّ على منعه. * الدّعاء عند غسل الأعضاء باطل لا أصل له. * لو شكَّ المتوضئ في عدد الغسلات؛ يبني على اليقين، وهو الأقل. * وجود الحائل -مثل الشَّمع (¬4) - على أيّ عضو من أعضاء الوضوء يُبطله، أمّا اللون وحده -كالخضاب بالحنّاء مثلاً-، فإِنَّه لا يؤثر في صحة الوضوء؛ لأنَّه لا يَحُولُ بين البشرة وبين وصول الماء إِليها. * المستحاضة ومن به سلس بول أو انفلات ريح أو غير ذلك من الأعذار يتوضؤون لكلّ صلاة إِذا كان العذر يستغرق جميع الوقت، أو كان لا يمكن ضبطه، وتعدّ صلاتهم صحيحة مع قيام العُذر. * يجوز الاستعانة بالغير في الوضوء. * يباح للمتوضّئ أن يُنشّف أعضاءه بمنديل أو نحوه؛ صيفاً وشتاءً. ¬

_ (¬1) العَنَزة: رُميْح بين العصا والرُّمح، فيه زُجٌّ. "المحيط". والزُّج: الحديدة في أسفل الرمح. "الوسيط". (¬2) أخرجه البخاري: 187 (¬3) عن كتاب "فقه السنّة" للسيد سابق -حفظه الله تعالى- بحذف يسير. (¬4) [أو ما يُعْرَف بـ (المنيكير)].

خلاصة ميسرة لأعمال الوضوء.

خُلاصة مُيسَّرة لأعمال الوضوء (¬1). - النيّة: لحديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: "إِنَّما الأعمال بالنّيات، وِإنَّما لكلّ امرئ ما نوى ... " (¬2). ومحل النيّة القلب، وأما التلفّظ بها؛ فبدعة. - التسوّك (¬3). - غسل الكفّين، ويخلّل الأصابع فيها؛ إِن لم يُرِد تخليلهما عند غسل اليدين إِلى المرفقين. - المضمضة والاستنشاق والاستنثار، والمبالغة في ذلك إلاَّ من صيام. والأصل هو المضمضة والاستنشاق من ماء واحد، والفصل جائز، ويكون ذلك باليمين، وأمّا النّثر؛ فباليد اليُسرى. - غَسل الوجه. - تخليل اللحية. - غَسل اليدين إِلى المرفقين، ويخلِّل أصابع اليدين إن لم يخلِّلْهما عند غَسل الكفّين. ¬

_ (¬1) ذَكرتُ هذه الأمور والمسائل من غير دليل؛ لتقدُّم ذلك في مواطن متفرقة؛ إلاَّ ما لزم. (¬2) أخرجه البخاري: 54، ومسلم: 1907، وغيرهما، وهو في البخاري أيضاً في مواطن متفرّقة، وتقدّم. (¬3) ولم يرِد نصٌّ في تحديد موضعه. وجاء في "تمام المنّة" (89): "ويستحبُّ السِّواك للصّائم أوّل النهار وآخره؛ للبراءة الأصلية".

الذكر المستحب عقب الوضوء

- مسح الرأس كلّه إِقبالاً وإِدباراً. - مسح الأذنين باطنهما وظاهرهما. - غَسل الرجلين إِلى الكعبين، مع تخليل أصابع الرجلين. الذكر المستحب عقب الوضوء عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: كانت علينا رعايه الإِبل، فجاءت نوبتي، فروّحتُها بعَشِيّ (¬1)، فأدْركْت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائماً يحدّث النّاس، فأدركت من قوله: "ما من مسلم يتوضّأ فيحسن وضوءَه، ثمَّ يقوم فيصلّي ركعتين، مُقبِلٌ عليهما بقلبه ووجهه؛ إلاَّ وَجَبَت له الجنَّة". قال: فقلت: ما أجود هذه! فإِذا قائل بين يديَّ يقول: التي قبلها أجود، فنظرْتُ فإِذا عمر، قال: إِنّي قد رأيتُك جئتَ آنِفاً. قال: "ما منكم من أحدٍ يتوضّأ فيُبلغ (أو فيُسبغ) (¬2) الوُضوء، ثمَّ يقول: أشهد أن لا إِله إِلا الله، وأن محمداً عبد الله ورسوله؛ إلاَّ فُتحت له أبواب الجنَّة الثمانيةُ يدخُل من أيّها شاء" (¬3). وفي رواية أُخرى لعقبة -رضي الله عنه-: "من توضّأ فقال: أشهد أن لا ¬

_ (¬1) أي: ردَدْتُها إِلى مراحها في آخر النهار، وتفرغت من أمرها، ثمَّ جئت إِلى مجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬2) فيبلِغ أو فيُسبغُ؛ بمعنى واحد، والإسباغ: الإِتمام والإِكمال. (¬3) أخرجه مسلم: 234، وغيره، وتقدم مختصراً (ص 12).

إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله" (¬1). زاد الترمذي: "اللهم اجعلني من التَّوَّابين، واجعلني من المتطهِّرين" (¬2). وفي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... ومن توضّأ فقال: سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إِله إلاَّ أنت، أستغفرك وأتوب إِليك؛ كُتب له في رَِقٍّ (¬3)، ثمَّ جُعلَ في طابع، فلم يُكسر إِلى يوم القيامة" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 234، وفي الحديث زيادة: "وحده لا شريك له"؛ كما هو بيِّن، وقد خالف فيها زيد بن الحُباب عبد الرحمن بن مهدي. بَيْد أنَّ ابن وهب تابع ابن الحُباب؛ كما في "سنن أبي داود" (169). فصحَّت هذه الزيادة، والحمد لله، وقد استفدت هذا من مراجعة شيخنا -حفظه الله-. (¬2) قال المنذري في "الترغيب والترهيب": "وتُكُلِّم فيه". وقال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الإرواء" (96): "وأعلّه الترمذي بالاضطراب، وليس بشيء؛ فإِنّه اضطراب مرجوح؛ كما بينَّته في "صحيح سنن أبي داود" (162). ولهذه الزيادة شاهد من حديث ثوبان، رواه الطبراني في "الكبير" (1/ 72/1)، وابن السنِّي في "اليوم والليلة" (رقم 30)، وفيه أبو سعد البقَّال الأعور، وهو ضعيف". (¬3) بفتح الراء وكسْرها وهو جلد رقيق يكتب فيه، وانظر "المحيط". (¬4) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، ورواته رواة "الصحيح"، واللفظ له. ورواه النسائي، وقال في آخره: "خُتم عليها بخاتم، فوضعت تحت العرش، فلم تُكسر إِلى يوم القيامة"، وصوّب وقفه على أبي سعيد. وقال شيخنا: "ولكنه في حُكم المرفوع؛ لأنَّه لا يُقال بمجرَّد الرأي كما لا يخفى". وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (218).

المسح على الخفين

المسح على الخفين أولاً: المسح على الخفين. وفيه أدلَّة عديدة؛ منها: ما رواه عروة بن المغيرة عن أبيه؛ قال: كنتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأهويت لأنزع خفَّيه، فقال: "دعْهُما؛ فإِني أدخلتُهما طاهرتين"، فمسح عليهما (¬1). وعن عبد الله بن عمر عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنَّه مسح على الخفَّين" (¬2). وعن همَّام بن الحارث؛ قال: "رأيت جرير بن عبد الله بال، ثمَّ توضّأ ومسح على خفَّيه، ثمَّ قام فصلَّى، فسُئل؟ فقال: "رأيتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنَع مثل هذا". قال إِبراهيم: فكان يعْجِبُهم؛ لأنَّ جريراً كان مِن آخر من أسلم (¬3). وعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: "بعثَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سريَّة، فأصابهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 206، ومسلم: 274، وتقدّم. (¬2) أخرجه البخاري: 202 (¬3) أخرجه البخاري: 387، ومسلم: 272، وغيرهما. وفي "صحيح مسلم": "قال الأعمش: قال إِبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إِسلام جرير كان بعد نزول المائدة، وفيها آية الوضوء التي تفيد وجوب غسل الرجلين". وفي "صحيح سنن النسائي" (114): "وكان إِسلام جرير قبل موت النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيسير".

ثانيا: المسح على الجوربين.

البرد، فلمَّا قَدمِوا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أمرهم أن يمسحوا على العصائب (¬1) والتساخين (¬2) " (¬3). وقال الحافظ في "الفتح" (202) تعليقاً على حديث عبد الله بن عمر السابق: "نقَل ابن المنذر عن ابن المبارك؛ قال: ليس في المسح على الخُفَّين عن الصحابة اختلاف؛ لأنَّ كلَّ من رُوِيَ عنه منهم إِنكاره؛ فقد رُوِيَ عنه إِثباتُه. وقال ابن عبد البرِّ: لا أعلم رُوي عن أحد من فقهاء السلف إِنكاره إِلا عن مالك، مع أن الروايات الصحيحة عنه مصرِّحة بإِثباته. ... وقال ابن المنذر: اختلف العلماء؛ أيّهما أفضل: المسح على الخفَّين أو نزْعهما وغسل القدمين؟ قال: والذي أختاره أنَّ المسح أفضل؛ لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض. قال: وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السُّنن أفضل من ترْكه" اهـ. ثانياً: المسح على الجوربين. عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: "توضّأ النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومسح ¬

_ (¬1) كل ما عَصَبْتَ به رأسك من عمامة أو منديل أو خرقة. "النهاية"، وتقدّم. (¬2) جاء في "النهاية": "الخفاف، ولا واحد لها من لفظها، وقيل: واحدها: تسَخْان وتَسخين وتَسخن". وانظر: (باب التاء مع السين) و (السين مع الخاء). وقيل: التساخين ما يُسخَّن به القدم من خُفٍّ وجورب ونحوهما. وتقدم. (¬3) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (133)، وانظر "المسح على الجوربين" (ص 23)، وتقدّم.

على الجوربين والنَّعلين" (¬1). قال أبو داود: "ومسح على الجوربين: عليُّ بن أبي طالب، وأبو مسعود، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعمرو بن حريث، ورُوي ذلك عن عمر بن الخطَّاب، وابن عبّاس" (¬2). وذكر ابن حزم عدداً كبيراً من السلف قالوا بالمسح على الجوربين؛ منهم: ابن عمر، وعطاء، وِإبراهيم النخعي، وغيرهم، وأورد عدداً من الآثار المتعلَّقة بذلك (¬3). وعن يحيى البكَّاء؛ قال: "سمعْت ابن عمر يقول: المسح على الجوربين كالمسح على الخفَّين، وتلقَّى نافع ذلك عنه، فقال: هما بمنزلة الخفَّين" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (143)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (86)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (121)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (453)، وانظر "الإِرواء" (101). (¬2) انظر "المحلَّى" (2/ 115) (مسألة 212). (¬3) قال شيخنا -حفظه الله تعالى- تعليقاً على رسالة القاسمي -رحمه الله تعالى- حول هذا الموضوع (ص54): "قلت: هذه الآثار أخرجها: عبد الرزاق في "المصنف" (745 و773 و779 و781 و782)، وابن أبي شيبة أيضاً في "المصنف"، والبيهقيّ: (1/ 285)، وكثير من أسانيدها صحيح عنهم، وبعضهم له أكثر من طريق واحد، ومن ذلك طريق قتادة عن أنس أنه كان يمسح على الجوربين مثل الخفين، وسنده صحيح، رواه عبد الرزاق (779)، وهو عند ابن أبي شيبة (1/ 188) مختصراً". (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة بسند حسن عنه، وكذلك قال إِبراهيم النَّخعي، أخرجه بسند صحيح عنه. كذا في تحقيق "المسح على الجوربين" لشيخنا -حفظه الله تعالى-.

ثالثا: المسح على النعلين.

قال شيخنا الألبانيّ -حفظه الله تعالى-: "فبعْد ثبوت المسح على الجوربين عن الصحابة -رضي الله عنهم- أفلا يجوز لنا أن نقول فيمن رغبَ عنه ما قاله إِبراهيم هذا في مسحهم على الخفَّين: فمن ترك رغبةً عنه؛ فإِنَّما هو من الشيطان (¬1)؟! قال أبو عيسى: "سمعتُ صالح بن محمد التِّرمذي؛ قال: سمعتُ أبا مقاتل السَّمرقندي يقول: دخَلْتُ على أبي حنيفة في مرضه الذي مات فيه، فدعا بماء فتوضّأ، وعليه جوربان، فمسح عليهما، ثمَّ قال: فعلتُ اليوم شيئاً لم أكنْ أفعله: مسحْتُ على الجوربين وهما غير منعَّلين". وعن عطاء؛ قال: "المسح على الجوربين بمنزلة المسح على الخفَّين" (¬2). ثالثاً: المسح على النَّعلين. عن أوس بن أبي أوس الثَّقفي: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضّأ ومسح على نعليه وقدميه، وقال عبَّاد: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى كِظامة قوم -يعني: الميضأة- (ولم يذكر مسدَّد الميضأة والكِظامة، ثمَّ اتفقا): فتوضّأ ومسح على نعليه وقدميه" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 180) بإِسناد صحيح عنه؛ كما في تحقيق "المسح على الجوربين" (ص 54). (¬2) صحَّح شيخنا إِسناده في تحقيق "المسح على الجوربين" (ص 63). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (145)، وانظر "المسح على الجوربين" (ص 43).

رابعا: المسح على الخف أو الجورب المخرق.

وعن ابن عمر، قال: "رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبسها (يعني: النِّعال السِّبتيَّة (¬1)) ويتوضّأ فيها ويمسح عليها" (¬2). وثبت عن أبي ظبيان: "أنَّه رأى عليّاً -رضي الله عنه- بال قائماً، ثمَّ دعا بماء، فتوضّأ، ومسح على نعليه، ثمَّ دخل المسجد فخلعَ نعليه (¬3) ثمَّ صلَّى" (¬4). رابعاً: المسح على الخفِّ أو الجورَب المخرَّق. قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: "وأمَّا المسح على الخفِّ أو الجورب ¬

_ (¬1) قال في "النهاية": السِّبت بالكسر: جُلود البقر المدبوغة بالقَرَظ يُتخذ منها النّعال، سُمِّيت بذلك؛ لأنَّ شعرها قد سُبِتَ عنها أي: خُلق وأُزيل، وقيل: لأنها انسَبَتت بالدِّباع: أي لانت. (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" من طريق ابن خزيمة، وسنده صحيح؛ وانظر كتاب "المسح على الجوربين" (ص 45). وزاد على ذلك فقال: "له طريق أخرى عن ابن عمر نحو رواية البزَّار، أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 97)، ورجاله ثقات معروفون، غير أحمد بن الحسين اللهبي، وله شاهد من حديث ابن عبَّاس: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضّأ مرّة مرّة، ومسح على نعليه"، أخرجه عبد الرزاق في "المصنَّف" (783)، والبيهقي (1/ 286)؛ من طريقين عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عنه. وهذا إِسناد صحيح غاية، وهو على شرط الشيخين". (¬3) يُستفاد من هذا أنَّ خلع النعال والجوارب ونحو ذلك بعد المسح لا ينقض الوضوء. (¬4) أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني" بسند صحيح. وانظر تحقيق "المسح على الجوربين" (ص 47) لشيخنا -حفضها الله تعالى-. وجاء في "تمام المنِّة" (115): "زاد البيهقيّ: "فأمّ الناس"، وِإسناده صحيح على شرط الشيخين".

المخرَّق؛ فقد اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً؛ فأكثرهم يمنع منه، على خلاف طويل بينهم، تراه في مبسوطات الكتب الفقهيَّة و"المحلَّى"، وذهبَ غيرُهم إِلى الجواز، وهو الذي نختاره. وحجَّتنا في ذلك أنَّ الأصل الإِباحة، فمن منع واشترط السَّلامة من الخرق أو وضع له حدّاً؛ فهو مردود؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كلُّ شرط ليس في كتاب الله؛ فهو باطل"، متفق عليه (¬1). وأيضاً؛ فقد صحَّ عن الثَّوريِّ: أنَّه قال: امسحْ عليها ما تعلَّقت به رجلك، وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلاَّ مخرَّقة، مشقَّقة، مرقَّعة؟! أخرجه عبد الرزاق في "المصنَّف" (753)، ومن طريقه البيهقيُّ (1/ 283). وقال ابن حزم (2/ 100): فإِن كان في الخفَّين أو فيما لبس على الرجلين خرقٌ صغيرٌ أو كبيرٌ طولاً أو عرضاً، فظهر منه شيء من القدم -أقلّ القدم أو أكثرها أو كلاهما- فكل ذلك سواء، والمسح على كلِّ ذلك جائز، ما دام يتعلَّق بالرجلين منهما شيء، وهو قول سفيان الثوريِّ وداود وأبي ثور وإسحاق ابن راهويه ويزيد بن هارون. ثمَّ حكى أقوال العلماء المانعين منه على ما بيّنها من اختلاف وتعارُض، ثمَّ ردَّ عليها، وبين أنَّها ممّا لا دليل عليها سوى الرأي، وختم ذلك بقوله: لكنَّ الحقَّ في ذلك ما جاءت به السنَّة المبيِّنة للقرآن؛ من أنَّ حُكم القدمين اللَّتين ليس عليهما شيء ملبوسٌ يمسح عليه أن يُغسلا، وحُكمهما إِذا كان عليهما شيء ملبوس أن يُمسح على ذلك الشيء، بهذا جاءت السنَّة، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2735، ومسلم: 1504

{وما كان ربّكَ نَسِيّاً} (¬1)، وقد عَلِم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذ أمرَ بالمسح على الخفَّين وما يُلبس في الرجلين، ومُسِحَ على الجوربين: أنَّ من الخفاف والجوارب وغير ذلك ممَّا يُلبس على الرجلين المخرَّق خرقاً فاحشاً أو غير فاحش وغير المخرَّق، والأحمر والأسود والأبيض، والجديد والبالي، فما خصَّ -عليه السلام- بعض ذلك دون بعض، ولو كان حكمُ ذلك في الدين يختلف؛ لما أغفله الله تعالى أن يوحي به، ولا أهمَله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المفترض عليه البيان، حاشا له من ذلك، فصحَّ أنَّ حُكم المسمح على كلِّ حال، والمسح لا يقتضي الاستيعاب في اللغة التي بها خوطِبْنا. وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "اختياراته" (ص 13): ويجوز المسح على اللَّفائف في أحد الوجهين، حكاه ابن تميم وغيره، وعلى الخفِّ المخرَّق ما دام اسمه باقياً والمشي فيه ممكناً، وهو قديم قولَي الشافعي واختيار أبي البركات وغيره من العلماء. قلت: ونسبه الرَّافعي في "شرح الوجيز" (2/ 370) للأكثريَّة، واحتجَّ له بأنَّ القول بامتناع المسح يُضيِّق باب الرخصة، فوجب أن يمسح، ولقد أصاب -رحمه الله-" (¬2) اهـ. وأخيراً أقول: إِنَّ إِيراد هذه الاشتراطات التي ليست من الدين في شيء تجعلنا نردُّ رخصة الله علينا، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّ الله يحبُّ أن تؤتى رخصُه ¬

_ (¬1) مريم: 64 (¬2) "إِتمام النصح في أحكام المسح" (84 - 86).

كما يكره أن تُؤتى معصيتُه" (¬1)! وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "ومعلومٌ أنَّ الخفاف في العادة لا يخلو كثير منها عن فتقٍ أو خرقٍ، لا سيما مع تقادُم عهدها، وكان كثير من الصحابة فقراء، لم يكن يمكنهم تجديد ذلك. ولما سُئِل النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصَّلاة في الثَّوب الواحد، فقال: "أوَ لكلِّكم ثوبان" (¬2)؟! وهذا كما أنَّ ثيابهم كان يكثر فيها الفتق والخرق حتى يحتاج لترقيع؛ فكذلك الخفاف" (¬3). وقال -رحمه الله-: "وكان مقتضى لفْظه أنَّ كلَّ خفٍّ يلبسه النَّاس ويمشون فيه؛ فلهم أن يمسحوا عليه، وإن كان مفتوحاً أو مخروقاً؛ من غير تحديد لمقدار ذلك؛ فإِنَّ التحديد لا بدَّ له من دليل" (¬4). وقال -رحمه الله- أيضاً: "وأيضاً؛ فأصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين بلَّغوا سنَّته وعملوا بها؛ لم يُنْقَل عن أحدٍ منهم تقييد الخفِّ بشيء من القيود، بل أطلقوا المسح على الخفّين، مع علمهم بالخفاف وأحوالها، فعُلم أنَّهم كانوا قد فهموا عن نبيِّهم جواز المسح على الخفّين مطلقاً. وأيضاً؛ فكثير من خفاف النّاس لا يخلو من فتق أو خرق يظهر منه بعض القدم، فلو لم يجز المسح عليها؛ بطل مقصود الرخصة، لا سيِّما والذين ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وغيره، وسنده صحيح على شرط مسلم، وانظر "الإِرواء" (564). (¬2) أخرجه البخاري: 358، ومسلم: 515، وغيرهما. (¬3) "الفتاوى" (21/ 174). (¬4) "الفتاوى" (21/ 174).

خامسا: المسح على اللفائف.

يحتاجون إِلى لُبس ذلك هم المحتاجون" (¬1). وقال (ص183) (¬2): "وإنْ قالوا بأنَّ المسح إِنَّما يكون على مستور أو مغطَّى ونحو ذلك؛ كانت هذه كلّها عبارات عن معنى واحد، وهو دعوى رأس المسألة بلا حُجَّة أصلاً، والشارع أمرَنا بالمسح على الخفّين مطلقاً، ولم يقيِّدْه، والقياس يقتضي أنَّه لا يقيَّد". وقال (ص212 و213) (¬3): " ... ولفظ الخفِّ يتناول ما فيه من الخرق وما لا خرق فيه، لا سيَّما والصحابة كان فيهم فقراء كثيرون، وكانوا يسافرون، وإذا كان كذلك؛ فلا بدَّ أن يكون في بعض خفافهم خروق، والمسافرون قد يتخرَّق خفُّ أحدهم، ولا يمكنه إِصلاحه في السَّفر، فإِن لم يجز المسح عليه؛ لم يحصل مقصود الرخصة" اهـ. ولو كان هناك استثناء أو منع؛ -لبيَّنه الشرع؛ كما هو شأن الأضحية-، فلمَّا لم يبلُغْنا شيء من هذا؛ دلَّ على أنَّ المسح يظلُّ على إِطلاقه، والمخرَّق جزء من هذا المطلق. خامساً: المسح على اللفائف. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: " ... فإِنْ قيل: فيلزم من ذلك جواز المسح على اللفائف، وهو أن يلفَّ الرجل لفائف من البرد أو خوف الحفاء أو من جراح بهما ونحو ذلك. قيل: في هذا وجهان، وذكَرهما الحلواني، والصواب أنَّه يمسح على ¬

_ (¬1) "الفتاوى" (21/ 175). (¬2) "الفتاوى" المجلد (21). (¬3) "الفتاوى" المجلد (21).

سادسا: أحكام تتعلق بالمسح على الخفين.

اللفائف، وهي بالمسح أولى من الخفّ والجورب؛ فإِنَّ تلك اللفائف تستعمل للحاجة في العادة، وفي نزْعها ضرر: إِمَّا إِصابة البرد، وإمّا التأذِّي بالحفاء، وإِمّا التأذي بالجراح، فإِذا جاز المسح على الخفّين والجوربين؛ فعلى اللفائف بطريق الأولى" (¬1). سادساً: أحكام تتعلَّق بالمسح على الخفَّين. 1 - خلْع الممسوح عليه هل ينقض الوضوء؛ قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: "اختلف العلماء فيمن خلَع الخفَّ ونحوه بعد أن توضّأ ومسح عليه على ثلاث أقوال: الأوَّل: أنَّ وضوءه صحيح ولا شيء عليه. الثاني: أنَّ عليه غسل رجليه فقط. الثالث: أنَّ عليه إِعادة الوضوء. وبكلٍّ من هذه الأقوال قد قال به طائفة من السَّلف، وقد أخرج الآثار عنهم بذلك: عبد الرزاق في "المصنَّف" (1/ 210/809 - 813)، وابن أبي شيبة (1/ 187 - 188)، والبيهقيّ (1/ 289 - 290). ولا شكَّ أنَّ القول الأول هو الأرجح؛ لأنَّه المناسب لكون المسح رخصة وتيسيراً من الله، والقول بغيره ينافي ذلك؛ كما قال الرافعي في المسألة التي قبلها؛ كما تقدّم، ويترجّح على القولين الآخرين بمرجِّح آخر، بل مرجِّحين: ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (21/ 184 - 185).

الأوَّل: أنَّه موافق لعمل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقد قدَّمْنا بالسند الصحيح عنه: "أنَّه أحدث، ثمَّ توضّأ ومسَح على نعليه، ثمَّ خلعَهما، ثمَّ صلى". والآخر: موافقته للنَّظر الصحيح؛ فإِنَّه لو مسَح على رأسه، ثمَّ حلق؛ لم يجب عليه أن يُعيد المسح بله الوضوء. وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال في "اختياراته" (ص 15): "ولا ينتقض وضوء الماسح على الخفِّ والعمامة بنزعهما، ولا بانقضاء المدَّة، ولا يجب عليه مسح رأسه، ولا غسل قدميه، وهو مذهب الحسن البصريِّ؛ كإِزالة الشعر الممسوح على الصحيح من مذهب أحمد، وقول الجمهور". وهو مذهب ابن حزم أيضاً، فراجِع كلامه في ذلك ومناقشته لمن خالف؛ فإِنَّه نفيس. "المحلّى" (2/ 105 - 109) (¬1) " اهـ. قال البخاري في "صحيحه" (¬2): "وقال الحسن: إنْ أخذَ من شعره وأظفاره أو خلَعَ خفَّيه، فلا وضوء عليه". ¬

_ (¬1) "إِتمام النصح في أحكام المسح" (86 - 88). (¬2) (كتاب الوضوء) (1/ 55). قال الحافظ في "الفتح" (1/ 281): "التعليق عنه -أي؛ الحسن- للمسألة الأولى: وصَله سعيد بن منصور وابن المنذر بإِسناد صحيح"، وتقدّم في (باب ما يظن أنَّه ينقض الوضوء).

2 - انتهاء مدة المسح هل ينقض الوضوء؟

ونقَل ابن المنذر الإِجماع على ذلك (¬1). 2 - انتهاء مدَّة المسح هل ينقض الوضوء؟ قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: "للعلماء في ذلك أقوال، أشهرها قولان في مذهب الشافعي: الأوَّل: يجب استئناف الوضوء. الثاني: يكفيه غَسل القدمين. والثالث: لا شيء عليه، بل طهارته صحيحة، يصلّي بها ما لم يُحْدث. قاله النَّووي -رحمه الله-. قلت: وهذا القول الثالث أقواها، وهو الذي اختاره النَّووىِ، خلافاً لمذهبه، فقال -رحمه الله- (1/ 527): وهذا المذهب حكاه ابن المنذر عن الحسن البصريِّ وقَتادة وسليمان بن حرب، واختاره ابن المنذر، وهو المختار الأقوى، وحكاه أصحابنا عن داود. قلت: وحكاه الشعراني في "الميزان" (1/ 150) عن الإِمام مالك، وحكى النَّووي عنه غيره؛ فليحقَّق، وهو الذي ذهب إِليه شيخ الإِسلام ابن تيمية كما تراه في كلامه السابق في المسألة الثالثة (ص92) تبعاً لابن حزم، وذكر هذا في القائلين به إِبراهيم النخعي وابن أبي ليلى. ثمَّ قال (2/ 94): وهذا هو القول الذي لا يجوز غيره؛ لأنَّه ليس في شيء ¬

_ (¬1) انظر "الفتح" (كتاب الوضوء، تحت باب 34)، وتقدّم أيضاً في نفس الباب السابق.

3 - هل تنزع الخفاف من جنابة؛

من كتب الأخبار أنَّ الطَّهارة تنتقض عن أعضاء الوضوء، ولا عن بعضها، بانقضاء وقت المسح، وإِنَّما نهى -عليه السلام- عن أن يمسح أحدٌ أكثر من ثلاث للمسافر أو يوم وليلة للمقيم، فمن قال غير هذا؛ فقد أقحم في الخبر ما ليس فيه، وقوَّل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لم يقل، فمن فعل ذلك واهماً؛ فلا شيء عليه، ومن فعَل ذلك عامداً بعد قيام الحجة عليه؛ فقد أتى كبيرة من الكبائر، والطهارة لا ينقضها إلاَّ الحدث، وهذا قد صحّت طهارته ولم يُحْدِث، فهو طاهر، والطاهر يصلّي ما لم يُحْدِث أو ما لم يأت نصٌّ جليٌّ فيِ أنَّ طهارته انتقضت وإِنْ لم يُحدِث، وهذا الذي انقضى وقت مسْحه لم يُحْدِث ولا جاء نصٌّ في أنَّ طهارته انتقضت؛ لا عن بعض أعضائه، ولا عن جميعها؛ فهو طاهرٌ يصلِّي حتى يُحْدِث، فيخلع خفَّيه حينئذ، وما على قدميه، ويتوضّأ، ثمَّ يستأنف المسح توقيتاً آخر، وهكذا أبداً. وبالله تعالى التوفيق" (¬1). 3 - هل تنْزَع الخفاف من جنابة؛ نعم؛ تُنْزَع؛ لحديث صفوان بن عسَّال، قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمُرُنا إِذا كنَّا سَفْراً أن لا ننزِعَ خفافنا ثلاثة أيام ولياليهنَّ؛ إلاَّ من جنابة، ولكنْ من غائط وبول ونوم" (¬2). 4 - اللبس على طهارة شرطٌ للمسح. لحديث المغيرة -رضي الله عنه- قال: "كنتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفرٍ، ¬

_ (¬1) "تمام النصح في أحكام المسح" (ص92 و93). (¬2) أخرجه مسلم: 276، وغيره، وتقدم.

5 - محل المسح.

فأهويْتُ لأنزعَ خفَّيه، فقال: "دعْهُما؛ فإِنِّي أدخلتُهما طاهرتين"، فمسح عليهما" (¬1). 5 - محلُّ المسح. يمسح على ظهر الخفَّين أو النعلين أو الجوربين، ويجوز مسح أيِّ جزء تُغْسَل فيه القدم خلا أسفلها (¬2). عن المغيرة بن شعبة -رضى الله عنه-: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كان يمسح على الخُفَّين"، وقال: "على ظهر الخُفَّين" (¬3). وعن علي -رضي الله عنه- قال: "لو كان الدِّين بالرَّأي لكان أسفل الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على ظاهر خُفَّيْه" (¬4). 6 - مدَّة المسح، ومتى تبدأ؟ مدّة المسح ثلاثة أيام ولياليهنَّ للمسافر، ويوم وليلة للمقيم. عن شُريح بن هانئ؛ قال: أتيتُ عائشة أسألها عن المسح على الخفَّين؟ فقالت: عليك بابن أبي طالب؛ فسَلهُ؛ فإِنَّه كان يسافر مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فسألناه؛ فقال: "جَعَلَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ للمسافر، ويوماً ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 206، ومسلم: 274 نحوه، وغيرهما، وتقدّم. (¬2) العبارة الأخيرة استفدتها من شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى-. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (146) وغيره وانظر "الإرواء" (101). (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (147)، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، وغيرهم. وصحّح الحافظ إِسناده في "التلخيص". وانظر "الإِرواء" (103).

وليلةً للمقيم" (¬1). وعن خُزيمة بن ثابت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: "المسح على الخُفَّين للمسافر ثلاثة أيَّام، وللمقيم يوم وليلة" (¬2). وعن صفوان بن عسَّال؛ قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرُنا إِذا كُنَّا سَفْراً أن لا ننزعَ خفافنا ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ؛ إلاَّ من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم" (¬3). قال أبو عيسى التِّرمذي: "وهو قول أكثر العلماء من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين ومَن بعدهم من الفقهاء؛ مثل: سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإِسحاق؛ قالوا: يمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهنَّ". ويبدأ التوقيت من المسح بعد الحدث على القول الراجح. قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: " ... فالأحاديث الصحيحه التي رواها جمع من الصحابة في "صحيح مسلم" والسنن الأربعة والمسانيد وغيرها؛ ففيها أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمر بالمسح، وفي بعضها: رخَّص في المسح، وفي غيرها: جَعَل المسح للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثةٌ أيام ولياليهن، ومن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 276 (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (142)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (83)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (448)، وانظر "المسح على الجوربين" (ص 88). (¬3) أخرجه أحمد، وهو في "صحيح سنن الترمذي" (84)، و"صحيح سنن النسائي" (122)، و"الإِرواء" (104)، وتقدم.

الواضح جدّاً أنَّ الحديث كالنَّصِّ على ابتداء مدة المسح من مباشرة المسح، وهو كالنصٍّ أيضاً على ردِّ القول الأوَّل؛ لأنَّ مقتضاه -كما نصُّوا عليه في الفروع- أنَّ من صلَّى الفجر قبيل طلوع الشمس، ثمَّ أحدث عند الفجر من اليوم الثاني، فتوضّأ ومسح لأوَّل مرة لصلاة الفجر؛ فليس له المسح بعدها! فهل يصدق على مثل هذا أنَّه مسح يوماً وليلة؟! أمَّا على القول الثاني الرَّاجح؛ فله أن يمسح إِلى قبيل الفجر من اليوم الثالث، بل لقد قالوا أغرب ممَّا ذكرنا: فلو أحدث ولم يمسح حتى مضى من بعد الحدث يوم وليلة أو ثلاثة إِن كان مسافراً؛ انقضت المدَّة، ولم يجُز المسح بعد ذلك حتّى يستأنف لبساً على طهارة، فحرموه من الانتفاع بهذه الرخصة؛ بناء على هذا الرأي المخالف للسنَّة! ولذلك لم يسَع الإِمام النَّوويّ إلاَّ أن يخالف مذهبه -وهو الحريص على أنْ لا يخالفه ما وجد إِلى ذلك سبيلاً- لقوَّة الدَّليل، فقال -رحمه الله تعالى- بعد أن حكى القول الأوَّل ومن قال به (1/ 487)؛ قال: وقال الأوزاعي وأبو ثور: ابتداء المدَّة من حين يمسح بعد الحدث، وهو رواية عن أحمد وداود، وهو المختار الراجح دليلاً، واختاره ابن المنذر، وحكى نحوه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وحكى الماورديُّ والشاشيُّ عن الحسن البصريِّ أنَّ ابتداءها من اللبس" (¬1). وقال شيخنا -حفظه الله تعالى-: " .. روى عبد الرزاق في "المصنَّف" (1/ 209/807) عن أبي عثمان النَّهدي؛ قال: "حضرتُ سعداً وابن عمر يختصمان إِلى عمر في المسح على الخفَّين، فقال عمر: يمسح عليهما إِلى ¬

_ (¬1) "تمام النصح" (89 و90).

هل يشرع المسح على الجبيرة ونحوها؟

مِثل ساعته من يومه وليلته. قلت: وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وهو صريح في أنَّ المسح يبتدئ من ساعة إِجرائه على الخفِّ إِلى مثلها من اليوم والليلة، وهو ظاهر كلِّ الآثار المرويَّة عن الصحابة في مدَّة المسح فيما عَلِمنا" (¬1). هل يشرع المسْح على الجبيرة ونحوها؟ قال البيهقي: لا يثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الباب شيء يعني باب المسح على العصائب والجبائر. قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلى" (2/ 103) (مسألة 209): "ومن كان على ذراعيه أو أصابعه أو رجليه جبائر أو دواء ملصق لضرورة؛ فليس عليه أن يمسح على شيء من ذلك؛ وقد سقط حُكم ذلك المكان؛ فإِن سقط شيء من ذلك بعد تمام الوضوء؛ فليس عليه إِمساس ذلك المكان بالماء؛ وهو على طهارته ما لم يحدث -: برهان ذلك-: قول الله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إِلاَّ وسعها} (¬2) وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أمرتكم بأمر فأْتوا منه ما استطعتم؟ " (¬3). فسقط بالقرآن والسنّة كل ما عجز عنه المرء، وكان التعويض منه شرعاً، والشرع لا يلزم إلاَّ بقرآن أو سنّة، ولم يأت قرآن ولا سنّة بتعويض المسح على الجبائر والدواء من غسل ما لا يقدر على غسله، فسقط القول بذلك". ¬

_ (¬1) "تمام النصح" (91 و92). (¬2) البقرة: 286 (¬3) أخرجه البخاري: 7288، ومسلم: 1337

ثمَّ بيَّن ضعف بعض الأحاديث التي ذُكرت في الموضوع، وأجاب عن أثر ابن عمر المتقدّم بأنّه فِعْل منه لا إِيجاباً بالمسح، وقد صحّ عنه أنّه كان يُدخل الماء في باطن عينيه في الوضوء والغُسل ولا يشرع ذلك، فضلاً عن أن يكون فرضاً (¬1). وسألتُ شيخنا -حفظه الله- عن هذا فقال: "نعم، ونزيد أنّه قد ثبت المسح على الجبيرة عن بعض الصحابة، وإنْ كنّا لا نتبنّى ذلك لِما سبق؛ فلا نحجّر على الناس أن يفعلوا ذلك". قلت: "من باب احترام الرأي!، فقال -حفظه الله-: نعم". ¬

_ (¬1) انظر "تمام المنة" (ص134)، و"الإرواء" (1/ 142).

الغسل

الغُسل الغُسل -بضم الغين المعجمة-: اسم للاغتسال، وهو تعميم البدن بالماء. وقال الحافظ في "الفتح": "وحقيقة الاغتسال غَسْل جميع الأعضاء، مع تمييز ما للعبادة عمَّا للعادة بالنيَّة". قال الله تعالى: {وإِنْ كُنْتمْ جُنُباً (¬1) فاطَهَّروا} (¬2). وقال تعالى: {يا أَيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكَارى حتَّى تَعْلَموا ما تقولونَ ولا جُنباً إِلاَّ عابري سبيلٍ حتَّى تغْتَسلوا} (¬3). ¬

_ (¬1) قال في "النهاية": "الجُنُب: الذي يجب عليه الغُسل بالجماع وخروج المنيّ ... ". (¬2) المائدة: بعض الآية: 6 (¬3) النساء: 43، قال الحافظ في "الفتح": "قال الكرماني: غرضُه [أي: البخارى -رحمه الله-] بيان أن وجوب الغسل على الجُنُب مستفاد من القرآن. قلت: وقدَّم الآية [أي: {وإِن كنتم جُنُباً فاطهروا}] التي من سورة المائدة على الآية [أي: [يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة ... } الآية] التي من سورة النساء لدقيقة، وهي أنَّ لفظ التي في المائدة: {فاطَّهَّروا}؛ ففيها إِجمال، ولفظ التي فى النساء: {حتى تغتسلوا}؛ ففيها تصريح بالاغتسال، وبيان للتّطهير المذكور، ودلَّ على أنَّ المراد بقوله تعالى: {فاطهروا}: فاغتسلوا، قوله تعالى في الحائض: {ولا تقربوهنّ حتى يَطْهُرْن فإِذا تَطَهَّرْن}؛ أي: اغتسلن اتفاقاً".

موجبات الغسل

موجبات الغُسْل أولاً: خروج المنيِّ بدفق -سواء كان في النَّوم أو اليقظة- من ذكر أو أنثى: لِما ثَبَتَ عن أمِّ سلمة أمِّ المؤمنين -رضي الله عنها-: أنها قالت: جاءت أمّ سُليم امرأة أبي طلحة إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله! إِنَّ الله لا يستحيي من الحقِّ (¬1)؛ هل على المرأة من غُسل إِذا هي احتلمتْ؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نعم؛ إِذا رأت الماء" (¬2). ولحديث عليّ -رضي الله عنه-: "إِذا رأيتَ المذي؛ فاغسل ذكَرك وتوضأ وضوءك للصّلاة، فإِذا فَضَخْتَ (¬3) الماء؛ فاغتسل" (¬4). قال ابن قُدامة -رحمه الله-: "فخروج المنيِّ الدافق بشهوة يوجب الغسل من الرجل والمرأة في يقظة أو في نوم، وهو قول عامَّة الفقهاء، قال التِّرمذي، ولا نعلم فيه خلافاً" (¬5). ومنيُّ الرجل غليظ أبيض، أمَّا منيُّ المرأة؛ فرقيق أصفر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ ¬

_ (¬1) قال في "الفتح": "قدَّمت هذا القول، تمهيداً لعُذرها في ذِكر ما يستحيى منه". (¬2) أخرجه البخاري: 282، ومسلم: 313، وغيرهما. (¬3) فضْخ الماء: دفْقه وخروجه على وجه الشدّة. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (190)، وغيره، وانظر "الإِرواء" (125). (¬5) "المغني" (1/ 197/ باب ما يوجب الغُسل).

ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر ... " (¬1). ويستفاد من الحديثين المتقدِّمين: عدم وجوب الغُسل على من احتلَمَ ولم يجد منيّاً؛ من ذكر أو أنثى. فقد سألتْ زوجُ أبي طلحة رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل على المرأة من غُسل إِذا هي احتلمتْ؟ ". فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نعم؛ إِذا رأتِ الماء". فقيَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاغتسال برؤيتها الماء، فإِنْ لم ترَ؛ فلا اغتسال عليها. وفي حديث عليّ -رضي الله عنه-: "إِذا فَضَخْتَ الماء؛ فاغْتَسلْ". فإِذا لم تفضخ الماء؛ فلا اغتسال إِذن. كما يُستفاد من ذلك وجوب الاغتسال، ولو لم يذكر الاحتلام؛ لأنَّ تعليق الاغتسال في الحديثين السابقين كان برؤية الماء وفضْخه؛ كما هو بيِّن. وقد جاء هذا صريحاً في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: سُئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يجد البَلَل ولا يذكر احتلاماً؟ قال: "يغتسل". وعن الرجل يرى أنَّه قد احتلم ولا يجد البلل؟ قال: "لا غُسل عليه". فقالت أمُّ سُليم: المرأة ترى ذلك؛ أعليها غُسل؟ قال: "نعم: إِنَّما النِّساء شقائق الرِّجال" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 312 (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (216) التحقيق الثاني، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (496)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (98)، وانظر "المشكاة" (441).

ثانيا: التقاء الختانين:

خُلاصة لما سبق: 1 - إِذا احتلم ولم يجد منيّاً؛ فلا غُسل عليه. 2 - إِذا استيقظ من نومه، ووجد بللاً، ولم يذكر احتلاماً؛ فعليه، الغُسل. 3 - إِذا جامع فعليه الاغتسال؛ أنزَل أو لم يُنْزِل. 4 - الرجل والمرأة في كل ذلك سواء. ثانياً: التقاء الختانين: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا جلسَ بين شُعَبِها (¬1) الأربع، ثمَّ جَهَدَها (¬2)؛ فقد وجب الغُسل" (¬3). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا جَلَسَ بين ¬

_ (¬1) قاله في "النهاية": "هي اليدان والرّجلان، وقيل: الرجلان والشُّفران، فكنى بذلك عن الإِيلاج". والشُّفران: طرف الناحيتين. وجاء في "الفتح": "والشُّعَب: جمع شُعبة، وهي القطعة من الشيء. قيل: المراد هنا يداها ورجلاها، وقيل: رجلاها وفخذاها وقيل: ساقاها وفخذاها، وقيل: فخذاها واسكتاها، وقيل: فخذاها وشُفراها، وقيل: نواحي فرجها الأربع". والاسكتان: ناحيتا الفرج. (¬2) أي: بلغ المشقَّة، قيل: معناها كدّها بحركته، أو بلَغ جهده في العمل بها. (¬3) أخرجه البخاري: 291، ومسلم: 348

شُعَبها الأربع، ومسَّ الخِتانُ الخِتان (¬1)؛ فقد وجب الغُسل" (¬2). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا التقى الختانان، وتوارت الحَشَفة (¬3)؛ فقد وجب الغُسل" (¬4) وعن حبيب بن شهاب عن أبيه؛ قال: "سألتُ أبا هريرة: ما يوجب الغُسل؟ فقال: إِذا غابَتِ المُدَّورة" (¬5). قال النَّوويُّ في "المجموع" (2/ 133): "وجوب الغُسل وجميع الأحكام المتعلِّقة بالجماع يُشتَرَط فيها تغييب الحشفة بكمالها في الفرج، ولا يُشترَط زيادة على الحشفة، ولا يتعلَّق ببعض الحشفة وحده شيء من الأحكام". انتهى. وهذا لأنَّه بأقلَّ من الحشفة لا يمسُّ الخِتان الخِتان. ¬

_ (¬1) قال النووي: "وقال العلماء: معناه: غيَّبْتَ ذكَرك في فرجها ... ". والختانان: هما موضع القطع من ذكَر الغلام وفرج الجارية. "النهاية". وجاء في "شرح متنقى الأخبار" (1/ 278): "الختان: المراد به هنا موضع الختن، والخَتْن في المرأة: قطع جلدة في أعلى الفرج، مجاورة لمخرج البول، كعُرف الدِّيك، ويسمّى الخفاض". (¬2) أخرجه مسلم: 349، وفي بعض الروايات: "وألزق الخِتان بالخِتان"، و"صحيح سنن أبي داود" (200). (¬3) أي: رأس الذكَر. (¬4) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (495)، وانظر "الصحيحة" تحت الحديث (1261). (¬5) وإسناده صحيح كما قال شيخنا في "الصحيحة" تحت الحديث (1261).

وجاء في "سبل السلام" (1/ 151): "قال الشافعي: إِنَّ كلام العرب يقتضي أنَّ الجنابة تُطلق بالحقيقة على الجماع، وإِن لم يكن فيه إِنزال؛ فإِنَّ كلَّ من خوطب بأنَّ فلاناً أجنبَ عن فلانة؛ عَقَلَ أنَّه أصابها، وإِن لم يُنْزِل. ولم يُخْتَلَف أنَّ الزِّنى الذي يجب به الجلد هو الجماع، ولو لم يكن منه إِنزال". ثمَّ قال -رحمه الله- بعد ذلك: "فتعاضد الكتاب والسنَّة على إِيجاب الغسل من الإِيلاج". وكان جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- يرون أنَّ الغُسل لا يجب إلاَّ من إِنزال؛ لحديث أبي سعيد الخُدري -رضي الله عنه- قال: خرجتُ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الاثنين إِلى قُباء، حتى إِذا كنَّا في بني سالم؛ وقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على باب عِتبان فصرخ به، فخرج يجرُّ إِزاره، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أعْجَلْنا (¬1) الرجل". فقال عِتبان: يا رسول الله! أرأيت الرَّجل يُعْجَل عن امرأته ولم يُمْنِ؛ ماذا عليه؟ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّما الماء من الماء" (¬2). غير أنَّ هذا الحديث نُسخ؛ لما نصَّ عليه أهل العلم. فعن أُبيّ بن كعب -رضي الله عنه- قال: "إِنَّ الفُتيا التي كانوا يُفتون أنَّ ¬

_ (¬1) أي: حمَلناه على أن يعَجل من فوق امرأته قبل فراغ حاجته من الجماع. (¬2) أخرجه مسلم: 343، وأصله في البخاري: 180، ومعنى الماء من الماء: "أي: الاغتسال من الإِنزال، فالماء الأول معروف، والثاني المني، وفيه من البديع الجناسى التامّ"، "سبل السلام" (1/ 148).

ثالثا: انقطاع الحيض والنفاس:

الماء من الماء؛ كانت رخصة رخَّصها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بدء الإِسلام، ثمَّ أمر بالاغتسال بعد" (¬1). قال النَّووي -رحمه الله- في "شرحه" (4/ 36): "اعلم أنَّ الأمَّة مجتمعة الآن على وجوب الغُسل بالجماع، وإِن لم يكن معه إِنزال، وعلى وجوبه بالإِنزال، وكان جماعة من الصحابة على أنَّه لا يجب إلاَّ بالإِنزال، ثمَّ رجعَ بعضهم، وانعقد الإِجماع بعدُ بآخرين". ثالثاً: انقطاع الحيض والنِّفاس: لقول الله تعالى: {ويَسْألونَكَ عن المحيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فاعْتَزِلوا النِّساءَ في المحيضِ ولا تَقرَبوهُنَّ حتَّى يَطْهُرْنَ فإِذا تَطَهَّرْنَ فأتُوهُنَّ من حيثُ أَمَرَكُمُ الله إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابينَ ويُحبُّ المُتَطَهِّرينَ} (¬2). ولحديث فاطمة بنت أبي حُبيش -رضي الله عنها-: كانت تُستحاض، فسأَلَت النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال: "ذلك عِرق وليست بالحيضة، فإِذا أقبَلت الحيضةُ؛ فدعي الصَّلاة، وإِذا أدبرتْ؛ فاغتسلي وصلِّي" (¬3). وقد سمَّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحيض نفاساً؛ كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا نذكرُ إلاَّ الحجَّ، حتى جِئْنا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (199)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (96)، وهو في "صحيح ابن خزيمة" (225)، وانظر "المشكاة" (448). (¬2) البقرة: 222 (¬3) أخرجه البخاري: 320، ومسلم: 334، وغيرهما.

رابعا: الموت:

سَرِفَ (¬1)، فطَمِثْتُ (¬2)، فدخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، فقال: "ما يُبكيِكِ؟ ". فقلتُ: واللهِ؛ لودِدْتُ أنِّي لم أكن خرَجْتُ العام. قال: "ما لكِ؟ لعلَّكِ نَفسْتِ؟ ". قلتُ: نعم (¬3) .. وقالَ ابن حزم: "والنُّفساء والحائض شيء واحد"، وأشار إِلى الحديث السابق وغيره (¬4). رابعاً: الموت (¬5): لحديث ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- قال: "بينما رجل واقف بعرفة، إِذ وقعَ عن راحلته، فوَقَصَتْهُ (¬6)، أو قال: فأقعَصَتْهُ (¬7)، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغسلوه بماء وسدْر ... " (¬8). ولحديث أمِّ عطيَّة -رضي الله عنها- قالت: دَخَلَ علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين تُوُفِّيت ابنتُه، فقال: "اغْسِلْنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك -إِن ¬

_ (¬1) هو ما بين مكة والمدينة. (¬2) أي: حِضْتُ. (¬3) أخرجه مسلم: 1211 (¬4) انظر "المحلَّى" (المسألة 184). (¬5) قال في "الدراري المضيَّة" (1/ 70): "يجب على الأحياء، إِذ لا وجوب بعد الموت من الواجبات المتعلقة بالبدن". (¬6) الوقص: كسْر العنُق. (¬7) القعص: أن يُضرب الإنسان فيُقتل قتلاً سريعاً مكانه، وانظر "النهاية". (¬8) أخرجه البخاري: 1266، ومسلم: 1206، وغيرهما.

خامسا: الكافر إذا أسلم:

رأيتنَّ- بماءٍ وسِدْر ... " (¬1). قال ابن المنذر: "وأجمعوا أنَّ الميِّت يُغسَّل غُسْل الجنابة" (¬2). خامساً: الكافر إِذا أسلم: لحديث قيس بن عاصم: "أنَّه أسلم، فأمره النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يغتسلَ بماء وسدر" (¬3). وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في قصَّة ثمامة بن أُثال عندما أسلم: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَره أن يغتسل" (¬4). سادساً: غُسل الجُمُعة: عن أبي سعيد الخُدري -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "غُسْل يوم الجُمُعة واجبٌ على كلِّ محتلم" (¬5). قال الحافظ في "الفتح" (2/ 357): "وهو بمعنى اللزوم قطعاً". ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى: 1253، ومسلم: 939، وغيرهما، وتقدّم. (¬2) " الإِجماع" (ص 42). (¬3) أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي وهو في "صحيح سنن النسائي" (182)، وغيرهم. وانظر "الإِرواء" (128). (¬4) أخرجه البيهقيّ. وقال شيخنا في "الإِرواء" (128): "وهذا سند صحيح على شرط الشيخين ... ". (¬5) أخرجه البخاري: 879، ومسلم: 846، وغيرهما.

وفي رواية (¬1): "قال عمرو (¬2): أما الغُسل؛ فأشهد أنَّه واجب، وأمَّا الاستنان والطيب؛ فالله أعلم ... ". وفي الحديث: " ... إِذا جاء أحدُكم الجمعة؛ فليغتسل" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لله تعالى على كلِّ مسللِ حقٌّ أن يغتسل في كلِّ سبعة أيام يوماً" (¬4). وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنَّ عمر ابن الخطاب بينما هو قائمٌ في الخطبة يوم الجمعة؛ إِذ دخل رجلٌ من المهاجرين الأوَّلين من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فناداه عمر: أيَّةُ ساعةٍ هذه؟! قال: إِنِّي شُغِلْتُ، فلم أنْقَلِبْ إِلى أهلي حتى سمِعْتُ التَّأذين، فلم أزِدْ أن توضّأت. فقال: والوضوء أيضاً! وقد عَلِمْتَ أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمُرُ بالغُسْل" (¬5). "وحكى ابن المنذر عن إِسحاق بن راهويه أنَّ قصَّة عمر وعثمان تدلُّ على وجوب الغسل، لا عدم وجوبه، من جهة تَرْك عمر الخطبة، واشتغاله بمعاتبة عثمان، وتوبيخ مِثله على رؤوس الناس، فلو كان ترْك الغسل مباحاً؛ لما فعل ¬

_ (¬1) البخاري: 880 (¬2) هو عمرو بن سليم الأنصاري الراوي عن أبي سعيد الخدري. (¬3) أخرجه البخاري: 877، ومسلم: 844 (¬4) أخرجه البخاري: 898، ومسلم: 849، وغيرهما، قال ابن دقيق العيد في "إِحكام الأحكام" (1/ 331): الحديث صريح في الأمر بالغُسل للجمعة، وظاهر الأمر الوجوب، وقد جاء مُصرَّحاً به بلفظ الوجوب في حديث آخر ... (¬5) أخرجه البخاري: 878، ومسلم: 845

عمر ذلك، وإِنَّما لم يرجع عثمان للغسل لضيق الوقت، إِذ لو فعل؛ لفاتته الجمعة، أو لكونه كان اغتسل كما تقدَّم" (¬1). قال في "نيل الأوطار" (1/ 292): "ولعلَّ النَّووي ومن معه ظنّوا أنَّه لو كان الاغتسال واجباً؛ لنزل عمر عن منبره، وأخذ بيد ذلك الصَّحابي، وذهب به إِلى المغتسل، أو لقال له: لا تقِفْ في هذا الجمع، أو: اذهب فاغتسل فإِننا سننظرك ... ، أو ما أشبه ذلك، ومِثل هذا لا يجب على من رأى الإِخلال بواجب من واجبات الشريعة، وغاية ما كُلِّفنا به في الإِنكار على من ترك واجباً هو ما فعَله عمر في هذه الواقعة، على أنَّه يُحتمل أن يكون قد اغتسل في أوَّل النَّهار، كما قال الحافظ في "الفتح"". ثمَّ ذكر ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (2/ 21) حديث مسلم (231) عن حُمران بن أبان؛ قال: "كنت أضع لعثمان طهوره، فما آتي عليه يومٌ؛ إلاَّ وهو يُفيض، عليه نُطفة (¬2) ". ثمَّ قال: "فقد ثبت بأصحِّ إِسناد أنَّ عثمان كان يغتسل كلَّ يوم، فيوم الجمعة يوم من الأيَّام بلا شكٍّ ... ". وجاء في "نيل الأوطار" (1/ 290): " ... قال النَّووي: فحُكي وجوبه عن طائفة من السلف، حكوه عن بعض الصحابة، وبه قال أهل الظاهر. وحكاه ابن المنذر عن مالك، وحكاه الخطَّابي عن الحسن البصري ¬

_ (¬1) "الفتح" (2/ 362)، وغيره. (¬2) قال النووي: "النُّطفة؛ بضم النون: وهي الماء القليل ومراده: لم يكن يمرُّ عليه يوم إلاَّ اغتسل"، وفي "النهاية": سمّي المنيّ نُطفة لقلّته.

ومالك، وحكاه ابن المنذر أيضاً عن أبي هريرة وعمَّار وغيرهما. وحكاه ابن حزم عن عمر وجمع من الصحابة ومن بعدهم، وحُكي عن ابن خزيمة، وحكاه شارح الغنية لابن سريج قَوْلاً للشافعي ... ". وقال: "وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف وفقهاء الأمصار إِلى أنَه مستحبٌّ" (¬1). وعن عبد الله بن أبي قتادة؛ قال دخل عليَّ أبي وأنا أغتسل يوم الجمعة، فقال: غُسلك هذا من جنابة أو للجمعة؛ قلت: من جنابة. قال: أعِد غُسلاً آخر؛ إِنّي سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من اغتسل يوم الجمعة؛ كان في طهارة إِلى الجمعة الأخرى" (¬2). واحتجَّ من رأى عدم وجوب الغسل بحديث مسلم (857): "من توضّأ فأحسن الوضوء، ثمَّ أتى الجمعة، فاستمع، وأنصت؛ غُفِر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيَّام، ومن مسَّ الحصى؛ فقد لغا". وعدُّوه من أقوى الأدلة على الاستحباب؛ كما في "التَّلخيص الحبير" ¬

_ (¬1) "نيل الأوطار" (1/ 290). وانظر ما قاله في "المحلّى" (2/ 23 - 25) حول قصة عمر وعثمان -رضي الله عنهما-. وممّا قاله -رحمه الله-: " ... فصحَّ ذلك الخبر حُجَّة لنا وإجماعاً من الصحابة -رضي الله عنهم- إِذ لم يكن فيهم آخر يقول لعمر: ليس ذلك عليه واجباً". (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وإسناده قريب من الحسن؛ قاله شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (703). وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، وانظر "الصحيحة" (2321). وذكَر الحافظ في "الفتح" (2/ 361) أنَّ الطحاوي أخرجه.

لابن حجر. قال في "الفتح" (2/ 362): "ليس فيه نفي الغُسل، وقد ورد من وجه آخر في "الصحيحين" بلفظ: "من اغتسل"؛ فيحتمل أن يكون ذِكر الوضوء لمن تقدَّم غُسله على الذّهاب، فاحتاج إِلى إِعادة الوضوء". قلت: وفي المعنى الذي أشار إِليه الحافظ أحاديث: 1 - ما رواه البخاري (910) من حديث سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من اغتسل يوم الجمعة، وتطهَّرَ بما استطاع من طُهرٍ، ثمَّ ادَّهن أو مسَّ من طيب، ثمَّ راح، فلم يفرِّق بين اثنين، فصلَّى ما كُتبَ له، ثمَّ إِذا خرج الإِمام أنصت؛ غُفِرَ له ما بينه وبين الجُمُعة الأخرى". 2 - ما رواه مسلم في "صحيحه" (857) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: "من اغتسل، ثمَّ أتى الجُمُعة، فصلَّى ما قُدِّر له، ثمَّ أنصتَ حتى يفرُغ من خُطبته، ثمَّ يصلِّي معه؛ غفِرَ له ما بينه وبين الجُمُعة الأخرى، وفَضْل ثلاثة أيام". 3 - ما رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1763) من حديث أبي ذرّ - رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من اغتسل يوم الجمعة، فأحسن الغسل، ثمَّ لَبِس من صالح ثيابه، ثمَّ مسَّ من دهن بيته ما كتبَ الله له، أو من طيبه، ثمَّ لم يفرِّق بين اثنين؛ كفَّر الله عنه ما بينه وبين الجمعة قبلها". قال سعيدٌ (¬1): "فذكرتُها لعمارة بن عمرو بن حزم؛ قال: صدق، وزيادة ¬

_ (¬1) هو سعيد المقبري؛ أحد رواة الحديث.

ثلاثة أيّام" (¬1). 4 - ما رواه أبو داود (¬2) وغيره، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من اغتسل يوم الجمعة، ولَبِس من أحسن ثيابه، ومسَّ من طيب إِنْ كان عنده، ثمَّ أتى الجمعة، فلم يتخطَّ أعناق النَّاس، ثمَّ صلَّى ما كتَب الله له، ثمَّ أنصتَ إِذا خرج إِمامُه حتى يفرغَ من صلاته؛ كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها". قال ويقول أبو هريرة: "وزيادة ثلاثة أيّام"، ويقول: "إِنَّ الحسنة بعشر أمثالها". واحتجُّوا أيضاً باستحبابه بما ثبت عن عكرمة: أنَّ أُناساً من أهل العراق جاؤوا فقالوا: يا ابن عبّاس! أترى الغُسل يوم الجمعة واجباً؛ قال: لا، ولكنّه أطهر وخيرٌ لمن اغتسل، ومن لم يغتسل؛ فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدأ الغُسل: كان الناس مجهودين، يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيِّقاً، مقاربَ السقف، وِإنما هو عريش، فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم حارّ، وعَرَق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله تلك الريح؛ قال: "أيّها الناس! إِذا كان هذا اليوم؛ فاغتسلوا، وليمسَّ أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه". ¬

_ (¬1) قال شيخنا: "إِسناده حسن". ورواه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (900)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (704). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (331) وغيره، وانظر "المشكاة" (1387).

قال ابن عباس: ثمَّ جاء الله بالخير، ولَبِسوا غير الصوف، وكُفُوا العمل، ووُسِّعَ مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضاً من العرق" (¬1). قال الحافظ في "الفتح" (2/ 362): "وعلى تقدير الصحَّة؛ فالمرفوع منه وردَ بصيغة الأمر الدالَّة على الوجوب، وأمّا نفي الوجوب؛ فهو موقوف؛ لأنَّه من استنباط ابن عباس، وفيه نظر، إِذ لا يلزم من زوال السَّبب زوال المسبِّب". وتُشعرنا الحال التي ذكرها ابن عباس -رضي الله عنهما- (¬2)؛ أنَّ هذا كان قبل أحاديث الإِيجاب، والله أعلم، فتأمَّل قوله: "ثمَّ جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصُّوف، وكُفوا العمل، ووُسّع مسجدهم ... ". فهذا يدلُّ على التَّقادم الزَّمني كما هو ظاهر. "ويُجاب أيضاً عن ربط الغُسل بالعِلَّة بأنَّه يقتضي سقوط الغُسل أصلاً، فلا يعدُّ فرضاً ولا مندوباً" (¬3). واحتجُّوا أيضاً بما ثبت عن عائشة -رضي الله عنها-: أنها قالت: كان النَّاس ينتابون (¬4) يوم الجمعة من منازلهم، والعوالي (¬5)، فيأتون في الغبار، ¬

_ (¬1) حسّنه شيخنا كما في "صحيح سنن أبي داود" (340). وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 362): "أخرجه: أبو داود، والطحاوي، وإسناده حسن". (¬2) وأيضاً عائشة -رضي الله عنها- في النقطة التالية. (¬3) انظر "الفتح" (2/ 363). (¬4) أي: يحضرونها نوباً، والانتياب: افتعال من النوبة. "فتح". (¬5) هي القرى التي حول المدينة على أربع أميال فصاعداً من المدينة.

ويصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنسانٌ منهم -وهو عندي- فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو أنَّكم تطهَّرتم ليومكُم هذا" (¬1). واحتجُّوا بقولها أيضاً: "كان الناس مَهَنَةَ أنفسهم، وكانوا إِذا راحوا إِلى الجمعة، راحوا في هيئتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم" (¬2) قال الحافظ: "وأجيب بأنَّه ليس فيه نفيُ الوجوب، وبأنَّه سابقٌ على الأمر به والإِعلام بوجوبه ... " (¬3). قلت: وهذا الحال الذي ذَكَرَته عائشة -رضي الله عنها- والأمر الذي وصفت يؤكِّد الوجوب؛ كما هو بيِّن؛ فليس هذان النصّان فقط ممّا يُقتصر على الاستدلال بهما على الوجوب؛ ليعلَّل بإِزالة الغبار والعرق. وإِذا كانت كلمة (لو) هي الدالَّة على الاستحباب في نظر البعض في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو أنّكم تطهّرتم ليومكم هذا"، فهي كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو أنَّكم تتوكَّلون على الله حقَّ توكُّله؛ لرزَقَكُمْ كما يرزُقُ الطَّير؛ تغدو خماصاً، وتروح بطاناً" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 902، ومسلم: 847 (¬2) أخرجه البخارى: 903، ومسلم: 847 (¬3) "الفتح" (2/ 363). (¬4) أخرجه أحمد، والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"، والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد"، وأقره الذهبي. وقال شيخنا: "بل هو صحيح على شرط مسلم؛ فإِنّ رجاله رجال الشيخين، غير ابن هبيرة وأبي تميم؛ فمن رجال مسلم وحده، وقد تابعه ابن لهيعة عن ابن هبيرة به". وانظر: "الصحيحة" (310).

واحتجُّوا أيضاً بحديث سمرة بن جندب؛ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من توضّأ يوم الجمعة؛ فبها ونعمت، ومن اغتسل؛ فالغُسْل أفضل" (¬1). قال ابن حزم -رحمه الله تعالى- في "المحلَّى" (2/ 25): " ... فسقَطَتْ هذه الآثار كلّها، ثمَّ لو صحَّت؛ لم يكن فيها نصٌّ ولا دليل على أنّ غسل الجمعة ليس بواجب، وإِنَّما فيها أنَّ الوضوء نعم العمل، وأنَّ الغُسل أفضلِ، وهذا لا شكَّ فيه، وقد قال الله تعالى: {ولوْ آمنَ أَهْلُ الكتابِ لكانَ خَيراَ لَهمْ} (¬2)؛ فهل دلَّ هذا اللفظ على أنَّ الإِيمان والتقوى ليس فرضاً؟! حاشا لله من هذا". وقال -رحمه الله تعالى (¬3) -: "وكلُّ ما أخبرَ عليه السَّلام أنَّه واجب على كلِّ مسلم وحقُّ الله تعالى على كلِّ محتلم؛ فلا يحلُّ ترْكه، ولا القول بأنَّه منسوخ، أو أنَّه ندبٌ؛ إلاَّ بنصٍّ جليٍّ بذلك مقطوع؛ على أنَّه وارد بعده مبيِّن أنَّه ندْب، أو أنَّه قد نُسِخ؛ لا بالظُّنون الكاذبة المتروك لها اليقين". وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-: "وأقوى ما عارضوا به حديث: "من توضّأ يوم الجمعة؛ فبها ونِعْمَت، ومن اغتسل؛ فالغسل أفضل"، ولا يُقاوم ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن، والنسائي، والدارمي، وانظر "المشكاة" (540). (¬2) آل عمران: 110 (¬3) "المحلّى" (2/ 21).

سنده سندَ هذا الحديث (¬1) ... " (¬2). وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ومن اغتسل؛ فالغسل أفضل": لا ينفي الوجوب، فالأفضليَّة تجامع الوجوب ولا شكَّ، وهي في القول بالوجوب آكد من القول بسنِّيَّتها (¬3). وقال الصنعاني -رحمه الله-: "وإِن كان حديث الإِيجاب أصحَّ؛ فإِنَّه أخرجه السبعة (¬4)؛ بخلاف حديث سمُرة، فلم يُخْرِجه الشيخان، فالأحوط للمؤمن أن لا يترك غُسل الجمعة" (¬5). وذكر الصنعاني -رحمه الله- أيضاً في "سبل السلام" (1/ 156) أنَّ وجوب غسل يوم الجمعة أقوى من وجوب عدد من المسائل الفقهيَّة المختلف فيها. وقال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنَّة" (12): "وجملة القول أنَّ الأحاديث المصرِّحة بوجوب غُسل الجمعة فيها حُكم زائد على الأحاديث المفيدة لاستحبابه، فلا تعارُض بينهما، والواجب الأخذ بما تضمَّن الزيادة فيها". ¬

_ (¬1) أي: حديث: "من جاء منكم الجمعة فليَغتَسِل". رواه البخاري: 894 ومسلم: 846، وتقدّم في أول (غُسل الجمعة) بلفظ مقارب. (¬2) "إِحكام الأحكام" (1/ 332). (¬3) قاله شيخنا -حفظه الله- بمعناه. (¬4) وهم: أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. (¬5) "سبل السلام" (1/ 156).

وقال في "نيل الأوطار" (1/ 292): " ... وبهذا يتبيَّن لك عدم انتهاض ما جاء به الجمهور من الأدلَّة على عدم الوجوب، وعدم إِمكان الجمع بينها وبين أحاديث الوجوب؛ لأنَّه وإِن أمكن بالنِّسبة إِلى الأوامر؛ لم يُمْكن بالنسبة إِلى لفظ (واجب) و (حقّ)؛ إلاَّ بتعسُّف لا يُلجئ طلبُ الجمع إِلى مِثله. ولا يشكُّ من له أدنى إِلمام بهذا الشَّأن أنَّ أحاديث الوجوب أرجح من الأحاديث القاضية بعدمه ... ". قال الحازمي في "الاعتبار" (¬1): "الوجه الرابع والأربعون في ترجيح أحد الحديثين على الآخر: أن يكون في أحدهما احتياطٌ للفرض وبراءة الذمَّة بيقين، ولا يكون الآخر ذلك؛ فتقديم ما فيه الاحتياط للفرض وبراءة الذمَّة بيقين أولى". وقال ابن دقيق العيد في "إِحكام الأحكام" (1/ 332): " ... وأمَّا غير هذا الحديث (¬2) من المعارَضات المذكورة لما ذكرناه من دلائل الوجوب؛ فلا تقوى دلالته على عدم الوجوب؛ لقوَّة دلائل الوجوب عليه، وقد نصَّ مالك على الوجوب، فحمله المخالفون -ممَّن لم يمارس مذهبه- على ظاهره، وحُكي عنه أنَّه يروي الوجوب، ولم يرَ ذلك أصحابه على ظاهره". قال الشيخ أحمد محمد شاكر: "الحقُّ الذي نذهب إِليه ونرضاه: أنَّ غُسل يوم الجمعة واجبٌ حتْم، وأنَّه واجب لليوم وللاجتماع، فمن تركه؛ فقد قصَّر فيما وجب عليه، ولكن صلاته صحيحة إِذا كان طاهراً. ¬

_ (¬1) ص 37 (¬2) أي: "من توضّأ يوم الجمعة؛ فبها ونعْمَت ... ".

وأيضاً؛ فإنَّ الأصل في الأمر أنَّه للوجوب، ولا يُصرف عنه إِلى النَّدب إلاَّ بدليل، وقد ورد الأمر بالغُسل صريحاً، ثمَّ تأيَّد في معنى الوجوب بورود النص الصريح الصحيح بأنَّ غُسل يوم الجمعة واجب، ومثل هذا الذي هو قطعيُّ الدّلالة، والذي لا يحتمل التَّأويل؛ لا يجوز أن يؤوَّل لأدلَّة أخرى، بل تؤوَّل الأدلَّة الأخرى إِنْ كان في ظاهرها المعارضة له، وهذا بيِّن لا يحتاج إِلى بيان" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر التعليق على "الرسالة" للإِمام الشافعي -رحمه الله تعالى- (ص 307) بشيء من الحذف.

الأغسال المستحبة

الأغْسالُ المُسْتَحَبَّة أولاً: غُسل العيدين: ولم يرِد في هذا حديث صحيح. قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: "وأحسن ما يُستدلّ به على استحباب الاغتسال للعيدين ما رَوى البيهقيّ من طريق الشافعي عن زاذان؛ قال: سأل رجلٌ عليّاً -رضي الله عنه- عن الغسل؟ قال: "اغتسل كلّ يوم إِن شئت". فقال: لا؛ الغسل الذي هو الغسل؟ قال: "يوم الجُمعة، ويوم عرفة (¬1)، ويوم النَّحر، ويوم الفطر" (¬2). وقال -حفظه الله تعالى-: "روى الفريابي (127/ 1 و2) عن سعيد بن المسيّب أنَّه قال: "سنّة الفطر ثلاث: المشي إِلى المصلَّى، والأكل قبل الخروج، والاغتسال"، وإِسناده صحيح" (¬3). ثانياً: غُسل يوم عرفة: لأثر عليٍّ السابق. ثالثاً: غُسل الإِحرام: لحديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: "أنَّه رأى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تجرَّد ¬

_ (¬1) وهذا خاصٌّ بالحاجِّ دون غيره، كما تدلُّ على ذلك النصوص. (¬2) أخرجه البيهقي، وسنده صحيح، وأنظر "الإِرواء" (146). (¬3) انظر "الإِرواء" تحت الحديث (636).

رابعا: الاغتسال عند دخول مكة:

لإِهلاله (¬1) واغتسل" (¬2). ومن شواهده أيضاً قول ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إِنَّ من السُّنَّة أن يغتسل إِذا أراد أن يُحْرِم، وإذا أراد أن يدخُلَ مكَّة" (¬3). قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: "وهذا وإِن كان موقوفاً؛ فإِنَّ قوله: "من السُّنَّة"؛ إِنَّما يعني سنَّته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ كما هو مقرَّر في علم أصول الفقه" (¬4). رابعاً: الاغتسال عند دخول مكَّة: لِما ثبت عن نافع: أنَّه قال: "كان ابنُ عمر -رضي الله عنهما- إِذا دخل أدنى الحرم؛ أمسك عن التَّلبية، ثمَّ يبيت بذي طُوى (¬5)، ثمَّ يُصلِّي به الصُّبح ويغتسل، ويحدِّث أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك" (¬6). ¬

_ (¬1) الإِهلال: رفع الصوت بالتلبية، يُقال: أهل المُحرم بالحجِّ يُهلُّ إِهلالاً: إِذا لبَّى ورفع صوته. "النهاية". (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (664)، والدارمي، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، وغيرهم. وانظر "الإرواء" (149). (¬3) أخرجه الدارقطني، والحاكم، وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي. وقال شيخنا: "وإنما هو صحيح فقط؛ فإِن فيه سهل بن يوسف، ولم يرو له الشيخان". وانظر "الإرواء" (149). (¬4) انظر "الإِرواء" (149). (¬5) وادٍ معروف بقرب مكة. (¬6) أخرجه البخاري: 1573، ومسلم: 1259

خامسا: غسل من غسل ميتا.

ولأثر ابن عمر السابق: "إِنَّ من السُّنَّة أن يغتسل إِذا أراد أن يُحرم، وإذا أراد أن يدخُلَ مكَّة". قال الحافظ: "قال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكَّة مستحبٌّ عند جميع العلماء، وليس في ترْكه عندهم فديةٌ، وقال أكثرهم: يجزئ عنه الوضوء" (¬1). خامساً: غُسل من غَسََّل ميِّتاً. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من غَسَّل مَيِّتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضّأ" (¬2). قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "أحكام الجنائز" (ص 53 و54): "وظاهر الأمر يفيد الوجوب، وإِنَّما لم نَقُلْ به لحديثين: الأوَّل: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس عليكم في غسل مَيِّتكم غُسْل إِذا غَسَّلْتموه؛ فإِنَّ ميِّتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديَكم" (¬3). الثاني: قول ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كنَّا نغسل الميِّت، فمنَّا من يغتسل، ومنَّا من لا يغتسل" (¬4). قال في "الدراري" (1/ 77): "وذهب الجمهور إِلى أنَّه مستحبٌّ" ... ". ¬

_ (¬1) "الفتح" (3/ 435). (¬2) أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنّه، وغيرهما، وصححه ابن القطَّان وغيره، وهو في "أحكام الجنائز" (ص 53)، و"الإِرواء" (144)، وتقدّم. (¬3) أخرجه الحاكم، والبيهقيّ، وهو حسن الإِسناد؛ كما قال الحافظ في "التلخيص". (¬4) أخرجه الدارقطنيّ، والخطيب في "تاريخه" بإِسناد صحيح كما قال الحافظ.

سادسا: الاغتسال عند كل جماع:

سادساً: الاغتسال عند كلِّ جماع: لحديث أبي رافع أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف ذات يوم على نسائه، يغتسل عند هذه وعند هذه. قال: فقلتُ: يا رسول الله! ألا تجعله واحداً؟ قال: "هذا أزكى وأطيب وأطهر" (¬1). سابعاً: اغتسال المستحاضة لكلِّ صلاة، أو للظُّهر والعصر جميعاً غُسلاً، وللمغرب والعشاء جميعاً غُسلاً، وللفجر غُسلاً: لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إنَّ أمَّ حبيبة استُحيضت في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمَرها بالغسل لكلِّ صلاة ... " الحديث (¬2). وفي رواية عنها: "استُحيضت امرأة على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأُمِرَت أن تعجِّل العصر وتؤخِّر الظُّهر، وتغتسل لهما غُسلاً واحداً، وتؤخِّر المغرب وتعجِّل العشاء وتغتسل لهما غُسلاً، وتغتسل لصلاة الصبح غُسلاً" (¬3). ثامناً: الاغتسال من دفن المشرك: عن علي -رضي الله عنه-: أنه أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إنَّ أبا طالب مات. فقال: "اذهب فوارِه". قال: إِنَّه مات مشركاً. قال: "اذهب فوارِه". فلمّا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (480)، وغيرهما، وانظر "آداب الزفاف" (ص 107). (¬2) أخرجه أبو داود وغيره بإِسناد حسن، وقوَّاه الحافظ ابن حجر. استفدته والذي بعده من "تمام المنة" (122 - 123). (¬3) قال شيخنا في "تمام المنَّة" (122): "وإِسناد هذه الرواية صحيح على شرط الشيخين، والأولى صحيح فقط؛ كما بينتُه في "صحيح السنن" (300 و305) ".

تاسعا: الاغتسال من الإغماء:

واريته؛ رجعْت إِليه، فقال لي: "اغتسل" (¬1). تاسعاً: الاغتسال من الإِغماء: عن عبد الله بن عُتبة؛ قال: "دخلتُ على عائشة، فقلتُ: ألا تحدِّثيني عن مرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالت: بلى؛ ثَقُل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "أصلَّى الناس؟ ". قلنا: لا هم ينتظرونك. قال: "ضعوا لي ماءً في المِخْضَب (¬2) ". قالت: فَفَعلْنا، فاغتسل، فذهب لينوءَ (¬3)، فأُغْمِيَ عليه، ثمَّ أفاقَ، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أصلَّى الناس؟ ". قُلنا: لا؛ هم ينتظرونك يا رسول الله. قال: "ضعوا لي ماءً في المِخْضَب". قالت: فقعد، فاغتسل (¬4) ... " (¬5). قال الشوكاني بعد هذا الحديث: "وقد ساقه المصنِّف ها هنا للاستدلال به على استحباب الاغتسال للمُغمى عليه، وقد فعله النّبيّ -صلى الله عليه وآله وسلَّم- ثلاث مرَّات وهو مُثقلٌ بالمرض، فدلَّ ذلك على تأكُّد استحبابه" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (184)، وغيرهم. وانظر "أحكام الجنائز" (ص 134). (¬2) شبه المركن، وهي إِناء تُغسل فيه الثِّياب. (¬3) أي: لينهض بجهد. (¬4) وذُكر الاغتسال في الحديث أربع مرات. (¬5) أخرجه البخاري: 687، ومسلم: 418 (¬6) "نيل الأوطار" (1/ 306).

أركان الغسل وواجباته

أركان الغُسل وواجباته 1 - النيَّة وهي ركن أو شرط: ومحلُّها القلب، والتلفُّظ بها بدعة كما تقدَّم في الوضوء. 2 - التَّسمية: وحُكمها حكم التسمية في الوضوء، وتقدَّم. 3 - غَسل جميع الأعضاء وهو رُكن: قال الله تعالى: {وإِنْ كنْتُمْ جُنُباً فاطَّهَّروا} (¬1)؛ أي: اغتسلوا (¬2). وقال تعالى: {يا أيُّها الَذينَ آمنوا لا تقْرَبوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى حتَّى تَعْلَموا ما تقولونَ ولا جُنباً إِلاَّ عابري سبيلٍ حتَّى تَغْتَسِلوا} (¬3). قال الحافظ: " ... فيها تصريحٌ بالاغتسال، وبيانٌ للتَّطهير المذكور (¬4) " (¬5) اهـ. وقال تعالى: {ويَسْألونَكَ عن المَحيضِ قُلْ هوَ أذىً فاعْتَزِلوا النِّساءَ في المحيضِ ولا تقْرَبوهنَّ حتَّى يَطْهُرْنَ فإِذا تَطَهَّرْنَ فأتُوهُنَّ من حيثُ أَمَرَكم الله} (¬6). ¬

_ (¬1) المائدة: بعض الآية 6 (¬2) وانظر تفسير البغوي لسورة المائدة، وكلام الحافظ في "الفتح" (1/ 359). (¬3) النساء: 43 (¬4) أي: في الآية التي قبلها. (¬5) "الفتح" (1/ 359). (¬6) البقرة: 222

سنن الغسل

قال الحافظ ابن حجر: "أي: اغتَسَلْن اتفاقاً" (¬1). وقال البغوي في "تفسيره": "فإِذا تطهَّرْنَ؛ يعني: اغتسلْنَ". وجاء في "السيل الجرَّار" (1/ 113): "أمَّا تعميم البدن؛ فلا يتمُّ مفهوم الغُسل إلاَّ به". سُنَن الغُسْل مُراعاة فِعل الرسول - صلى الله عليه وأله وسلَم- في البدء والترتيب والانتهاء وغير ذلك، وسيأتي تفصيله بإِذن الله في تضاعيف الكتاب. ما يَحْرُم على الجُنُب 1 - الصلاة: سواء كانت فريضة أو نافلة. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تُقبل صلاةٌ بغير طُهور" (¬2). 2 - الطَّواف: وتقدّمت الأدلَّة في بحث الوضوء. مسائل في غُسل المرأة لا فرقَ بين غُسل المرأة وغُسل الرجل؛ غير أنَّه: ¬

_ (¬1) "الفتح" (1/ 359). (¬2) تقدم.

1 - ليس على المرأة أن تنقض ضفيرتها (¬1) لغُسل الجنابة: لحديث أمّ سلمة -رضي الله عنها- قالت: قُلتُ: يا رسول الله! إِنِّي امرأةٌ أشدُّ ضَفْرَ (¬2) رأسي، أفأنقُضُه لغُسل الجنابة؟ قال: "لا؛ إِنَّما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حَثَيات (¬3)، ثمَّ تُفيضين عليك الماء فتطهُرين" (¬4). وفي رواية: "واغمِزي قُرونَك عند كلِّ حَفْنة" (¬5). وعن عُبيد بن عُمير؛ قال: بَلَغَ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النِّساء إذا اغتسلْنَ أن ينقُضْنَ رؤوسهنَّ، فقالت: يا عجباً لابن عمرو هذا! يأمرُ النِّساء إِذا اغتسلْنَ أن ينقضْنَ رؤوسَهُنَّ؟! أفلا يأمُرُهنَّ أن يحلقنَ رؤوسهنَّ؟! لقد كنتُ أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إِناء واحد، ولا أزيد على أن أُفرغَ على رأسي ثلاث إِفراغات" (¬6). 2 - يجب عليها نقض ضفيرتها في غُسْل الحيض: ومن الأدلَّة على ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- وفيه تقول: " ... فأدركني يوم عرفة وأنا حائض، فشكوتُ إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "دَعي ¬

_ (¬1) هي لفيفة من الشعر المنسوج بعضه على بعض. (¬2) هي لفيفة من الشعر المنسوج بعضه على بعض. (¬3) أي: ثلاث غُرف بيديه، واحدها حَثية. "النهاية". (¬4) أخرجه مسلم: 330، وغيره. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (227). ومعنى اغمزي قرونك؛ أي: اكبسي ضفائر شعرك عند الغُسل، والغمز: العصر والكبس باليد. (¬6) أخرجه مسلم: 331، وغيره.

عُمْرَتَك، وانقضي رأسكِ، وامتشطي، واهلِّي بحجٍّ ... " (¬1). قال الحافظ في "الفتح" (1/ 418): "وظاهر الحديث الوجوب، وبه قال الحسن وطاووس في الحائض دون الجُنُب، وبه قال أحمد، ورجَّح جماعة من أصحابه أنَّه للاستحباب فيهما ... ". قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تمام المنَّة" (125): "وقد ذهب إِلى التفصيل المذكور: الإِمام أحمد، وصححه ابن القيِّم في "تهذيب السنن" فراجِعه (1/ 165 - 168)، وهو مذهب ابن حزم (2/ 37 - 40) ". ومن الأدلَّة على ذلك حديث أسماء بنت شَكَل في النقطة الآتية. 3 - استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فِرصة من مسك في موضع الدَّم (¬2): عن عائشة -رضي اللَّه عنها-: أنّ أسماء (¬3) سألت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن غُسل المحيض؟ فقال: "تأخذ إِحداكنَّ ماءَها وسدْرتها (¬4)، فتطهَّر، فتحسن الطُّهور، ثمَّ تصبُّ على رأسها، فتدلُكه دلكاً شديداً (¬5) حتى تبلُغ شؤون ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 317 (¬2) هذا العنوان من "صحيح مسلم" (كتاب الحيض). (¬3) هي بنت شَكَل؛ كما في رواية أخرى لمسلم: 332 (¬4) السِّدرة: شجرة النَّبِق، والمقصود هنا الورق؛ ليستعمل في الغسل، ويقوم مقامه الصابون ونحوه. (¬5) وهذا كما تقدّم دليل على التفريق بين غسل المرأة في الحيض وغسلها من الجنابة؛ فقد أكَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الحائض أن تبالغ في التّدليك الشديد والتطهير ما لم يؤكّد في غُسلها من الجنابة. وانظر "تمام المنَّة" (125).

صفة غسل الجنابة

رأسها (¬1)، ثمَّ تصبُّ عليها الماء، ثمَّ تأخذ فِرصة (¬2) ممسَّكة فتطهَّرُ بها". فقالت أسماء: وكيف تطهَّرُ بها؟ فقال: "سبحانْ الله! تطهَّرينَ بها". فقالت عائشة -كأنها تُخفي ذلك-: تتّبعين أثر الدَّم. وسألته عن غُسل الجنابة؟ فقال: "تأخذُ ماءً، فتطهَّرُ، فتحْسن الطُّهور، أو تُبْلغُ الطُّهور، ثمَّ تصبُّ على رأسها، فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها، ثمَّ تفيض عليها الماء". فقالت عائشة: نِعْم النِّساء نساء الأنصار، لم يكنْ يمنعُهُنَّ الحياءُ أن يتفقَّهْنَ في الدِّين (¬3). 4 - "لا يجب على المرأة إِذا اغتسلتْ من جنابة أو حيض غَسْل داخل الفَرْج في أصحِّ القولين، والله أعلم" (¬4). صِفةُ غُسل الجنابة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا اغتسل من ¬

_ (¬1) أي: أصول شعر رأسها. (¬2) الفِرْصة: قطعة من صوف أو قطن أو خِرقة. والممسَّكة: المطيَّبة بالمسك، يُتتبّع بها أثر الدم، فيحصل منه الطيب والتنشيف. "النهاية". (¬3) أخرجه مسلم: 332، وغيره، وأصله في البخاري: 314 و315 و7357 (¬4) قاله شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (21/ 297)، وقال في موطن آخر (21/ 297): "وِإنْ فعلت جاز". قال لي شيخنا -حفظه الله-: "جاز تنظُّفاً، لا تعبُّداً".

مسح اليد بالتراب أو غسلها بالصابون ونحوه:

الجنابة يبدأ، فيغسل يديه، ثمَّ يُفرغُ بيمينه على شماله، فيغسلُ فرجه، ثمَّ يتوضّأ وُضوءه للصَّلاة، ثمَّ يأخذ الماء، فيُدخل أصابعه في أصول الشَّعر، حتَّى إِذا رأى أن قد استبرأ (¬1)؛ حفَنَ على رأسه ثلاث حفَنات، ثمَّ أفاض على سائر جسده، ثمَّ غسَل رجليه" (¬2). مسح اليد بالتُّراب أو غسلها بالصابون ونحوه: ومن الأدلَّة على ذلك حديث ميمونة: " ... ثمَّ قال بيده الأرض (¬3)، فمسَحها بالتُّراب، ثمَّ غسَلها" (¬4). وفي رواية مسلم (¬5): "ثمَّ ضرب بشماله الأرض، فدلَكَها دَلْكاً شديداً ... ". غسْل اليدين قبل إدخالهما في الإِناء: لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "بدأ فغسل يديه قبل أن يُدخل يده في الإِناء ... " (¬6). ¬

_ (¬1) أي: أوصل البلل إِلى جميعه. "النووي". (¬2) أخرجه البخاري: 248، ومسلم: 316، وهذا لفظه وغيرهما. (¬3) قال الحافظ في "الفتح" (1/ 372): كذا في روايتنا، وللأكثر "بيده على الأرض وهو من إطلاق القول على الفعل ... ". (¬4) أخرجه البخاري: 259 (¬5) برقم: 317 (¬6) أخرجه مسلم: 316

الوضوء قبل الغسل:

الوضوء قبل الغُسل: عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا اغتسل من الجنابة؛ بدأ فغسل يديه، ثمَّ يتوضّأ كما يتوضّأ للصَّلاة (¬1)، ثمَّ يُدخِل أصابعه في الماء، فيخلِّل بها أصول شعره (¬2)، ثمَّ يصبُّ على رأسه ثلاث غرَف بيديه، ثمَّ يُفيضُ على جلده كلِّه" (¬3). المضمضة والاستنشاق: قال ابن عبَّاس؛ قال: حدَّثتنا ميمونة؛ قالت: "صَبَبْتُ للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُسلاً، فأفرغ بيمينه على يساره فغسلهما، ثمَّ غَسل فرجه، ثمَّ قال بيده الأرض، فمسحها بالتُّراب، ثمَّ غسلها، ثمَّ تمضمضَ واستنشق ... " (¬4). إِفاضة الماء على الرأس ثلاثاً وتخليل الشعر: لحديث عائشة -رضي الله عنها-: " ... ثمَّ يُدخلُ أصابعه في الماء، فيخلِّل بها أصول شعره، ثمَّ يصبُّ على رأسه ثلاث غُرف بيديه" (¬5). وعنها -رضي الله عنها- أيضاً: " ... ثمَّ يخلِّل بيده شعره، حتى إذا ظنَّ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "الفتح": "فيه احتراز عن الوضوء اللغوي". (¬2) قال الحافظ: "وفائدة التخليل: إِيصال الماء إِلى الشّعر والبشرة، ومباشرة الشّعر باليد، ليحصل تعميمه بالماء ... ". (¬3) أخرجه البخاري: 248 وهذا لفظه، ومسلم: 316 (¬4) أخرجه البخارى: 259، ومسلم: 317 نحوه. (¬5) أخرجه البخاري: 248، ومسلم: 316، وتقدّم.

البدء بشق أيمن الرأس ثم أيسره:

أنَّه قد أروى (¬1) بشَرتهُ (¬2)؛ أفاض عليه الماء ثلاث مرَّات، ثمَّ غسل سائر جسده" (¬3). وفي الحديث: "أمَّا أنا؛ فأفيض على رأسي ثلاثاً" (¬4). وأشار بيديه كلتيهما (¬5). البدء بشقِّ أيمن الرَّأس ثمَّ أيسره: لحديث عائشة -رضي الله عنها-: " ... فأخَذ بكَفِّهِ، فبدأ بشقِّ رأسه الأيمن، ثمَّ الأيسر، فقال بهما على رأسه" (¬6). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنَّا إِذا أصابت إِحدانا جنابة؛ أخذت بيديها ثلاثاً فوق رأسها، ثمَّ تأخذ بيدها على شقِّها الأيمن، وبيدها الأخرى على شقِّها الأيسر" (¬7). ¬

_ (¬1) من الإِرواء؛ يقال: أرواه: إِذا جعَله ريّاناً. (¬2) المراد هنا: ما تحت الشعر. (¬3) أخرجه البخاري: 272 (¬4) قال الحافظ: "ويُحتمل أن تكون هذه الغرفات الثلاث للتكرار، ويحتمل أن يكون لكلّ جهة من الرأس غرفة ... ". انظر شرح الحديث: 256. (¬5) أخرجه البخاري: 254، ومسلم: 327، نحوه، وغيرهما. (¬6) أخرجه البخاري: 258 (¬7) أخرجه البخارى: 277. قال الحافظ: وللحديث حُكم الرَّفع؛ لأن الظَّاهر اطِّلاع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، وهو مصيّر من البخارى إلى القول بأن لقول الصّحابي: "كنّا نفعل كذا" حُكم الرفع، سواء صرّح بإِضافته إِلى زمنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم لا، وبه جزم الحاكم".

تأخير غسل الرجلين:

تأخير غَسل الرجلين: عن ميمونة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قالت: "توضّأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصَّلاة غير رجليه، وغسَل فرجه وما أصابه من الأذى، ثمَّ أفاض عليه الماء، ثمَّ نحَّى رجليه فغسلهما" (¬1). قال الحافظ في "الفتح" (1/ 362): "واختلف نظر العلماء، فذهب الجمهور إِلى استحباب تأخير غَسْل الرجلين في الغُسْل، وعن مالك: إنْ كان المكان غير نظيف؛ فالمستحبُّ تأخيرهما، وإِلاَّ؛ فالتقديم". وقال شيخنا في "الإِرواء" (1/ 170) عقب حديث ميمونة -رضي الله عنها-: "وهذا نصٌّ على جواز تأخير غَسْل الرجلين في الغسل، بخلاف حديث عاثشة، ولعلَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل الأمرين: تارة يغسل رجليه مع الوضوء فيه، وتارة يؤخِّر غسلهما إِلى آخر الغُسل، والله أعلم" اهـ. وراجعتُ شيخنا -حفظه الله- في ذلك، ففهمتُ منه أنَّ الأمر يتبع الحال والوضع الذي فيه المغتسل؛ فيتصرّف حسبما يقتضيه حاله. عدم الوضوء بعد الغُسل (¬2): عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل ويصلِّي الركعتين وصلاة الغداة، ولا أراه يُحدث وضوءاً بعد الغُسل" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 249، وغيره. (¬2) لأنَّ السّنة الوضوء قبل الغُسل، كما تدلُّ على ذلك النصوص. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (225)، والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصحَّحه الحاكم والذهبي وغيرهما. ورواه ابن ماجه عن عائشة بلفظ: =

عدم استعمال المنديل:

عدم استعمال المنديل: ودليل ذلك حديث ميمونة بنت الحارث -رضي الله عنها- وفيه: "فناولْتُه خِرْقَةً، فقال بيده هكذا، ولم يُرِدْها" (¬1). وفي رواية لها: "ثمَّ أتيتُه بالمنديل، فردَّه" (¬2). التيمُّن في الغُسل: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحبُّ التيمُّن (¬3) في شأنه كلِّه: في نعليه، وترجُّله، وطَهوره" (¬4). إِفاضة الماء على الجلد كلِّه: كما في حديث عائشة: " ... ثمَّ غَسل سائر جسده" (¬5). ¬

_ = "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يتوضّأ بعد الغسل؛ من الجنابة". وانظر "صحيح سنن ابن ماجه" (470)، و"المشكاة" (445). (¬1) أخرجه البخاري: 266، قال الحافظ ابن حجر: "ولم يُرِدْها؛ بضم أوّله وِإسكان الدال: من الإِرادة، والأصل: يريدها، لكن جزم بـ (لم)، ومن قالها بفتح أوّله وتشديد الدَّال؛ فقد صحّف وأفسد المعنى". قلت: أمَا إِذا دعت الحاجة لاستعمال المنديل وما شابهه من برْد ونحوه، فلا حرج من ذلك". (¬2) أخرجه مسلم: 317 (¬3) هو الابتداء في الأفعال باليمين من اليد والرجل والجانب. (¬4) أخرجه البخاري: 5854، ومسلم: 268، وغيرهما. (¬5) أخرجه البخاري: 272، وفي لفظ "لمسلم" (316): "ثمَّ أفاض على سائر جسده".

الغسل بالصاع ونحوه:

وفي رواية لها: " ... ثمَّ يفيض على جلده كلِّه" (¬1). الغُسل بالصَّاع ونحوه: عن أبي جعفر (¬2): "أنَّه كان عند جابر بن عبد الله هو وأبوه وعنده قومٌ، فسألوه عن الغُسل؟ فقال: يكفيك صاعٌ. فقال رجلٌ: ما يكفيني. فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى (¬3) منك شعراً وخيرٌ منك، ثمَّ أمَّنا في ثوبٍ" (¬4). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل في القَدَح، وهو الفَرَق، وكنتُ أغتسل أنا وهو في الإِناء الواحد". قال قتيبة: قال سفيان: "والفَرَق: ثلاثة آصُع" (¬5). وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغسل (¬6) (أو كان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 248 (¬2) قال الحافظ: "هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بـ (الباقر) ". (¬3) أي: أطول وأكثر. وفي رواية "مسلم" (329): "كان شعْر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من شعرك وأطيب". قال الحافظ: "وفي هذا الحديث بيان ما كان عليه السلف من الاحتجاج بأفعال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والانقياد إلى ذلك، وفيه جواز الردّ بعنف على من يماري بغير عِلم؛ إِذا قصد الرادُّ إِيضاح الحق، وتحذير السامعين من مِثل ذلك، وفيه كراهية التنطُّع والإسراف فى الماء". (¬4) أخرجه البخاري: 252 (¬5) أخرجه مسلم: 319، وهو في البخاري: 250 بلفظ مقارب. (¬6) أي: جسده.

هل الدلك واجب؟

يغتسل (¬1) بالصَّاع (¬2) إِلى خمسة أمداد (¬3)، ويتوضّأ بالمدِّ" (¬4). وعن عائشة -رضي الله عنها-: "أنَّها كانت تغتسل هي والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إِناء واحد؛ يتَّسع ثلاثة أمداد أو قريباً من ذلك" (¬5). هل الدَّلك واجب؟ قال الحافظ في "الفتح" (1/ 359): "وحقيقة الغسل: جريان الماء على الأعضاء. واختُلف في وجوب الدَّلك: فلم يوجبه الأكثر، ونُقل عن مالك والمزني وجوبه، واحتجَّ ابن بطَّال بالإِجماع على وجوب إِمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسْلها؛ قال: فيجب ذلك في الغسل قياساً؛ لعدم الفرق بينهما. وتُعُقِّبَ ¬

_ (¬1) قال الحافظ: "الشكُّ من البخاري، أو من أبي نُعيم لما حدّثه به". (¬2) الصّاع: إِناء يتسع خمسة أرطال وثُلُثاً بالبغدادي، وقال بعض الحنفية: ثمانية. "الفتح". وهو أربعة أمداد. "النهاية" و"الفتح". وقال أبو داود في "سننه": "وسمعتُ أحمد بن حنبل يقول: الصاع خمسة أرطال، وهو صاع ابن أبي ذئب، وهو صاع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -"، وتقدّم. (¬3) جاء في "النهاية": "المدُّ في الأصل: رُبع الصاع، وإنَّما قُدِّر به لأنَّه أقل ما كانوا يتصدَّقون به في العادة". وفيه أيضاً: "وهو رطل وثُلُث بالعراقي، عند الشافعي وأهل الحجاز، وهو رطلان عند أبي حنيفة وأهل العراق". وفيه: "وقيل: ان أصل المدِّ مقدَّر بأن يمدَّ الرجل يديه، فيملأ كفَّيه طعاماً"، وتقدّم. (¬4) أخرجه البخارى: 201، ومسلم: 325، وغيرهما، وتقدّم. (¬5) أخرجه مسلم: 321

بأنَّ جميع من لم يوجب الدَّلك أجازوا غَمْس اليد بالماء للمتوضئ من غير إِمرار، فبطلَ الإِجماع، وانتفت الملازمة". قال الصنعاني (¬1) -رحمه الله تعالى-: "وقولها: "ثمَّ أفاض الماء": الإِفاضة: الإِسالة. وقد استدلَّ به على عدم وجوب الدَّلك، وعلى أنَّ مُسمَّى (غُسل) لا يدخل فيه الدَّلك؛ لأنَّها عبَّرت ميمونة بالغسل، وعبَّرت عائشة بالإِفاضة، والمعنى واحد، والإِفاضة لا دلْك فيها، فكذلك الغَسل ... " (¬2). قال في "المغني" (¬3): "ولا يجب عليه إِمرار يده على جسده في الغُسل والوضوء إِذا تيقَّن أو غلب على ظنِّه وصول الماء إِلى جميع جسده، وهذا قول الحسن والنَّخعي والشَّعبي وحمَّاد والثَّوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ... " (¬4). ويرى شيخنا -حفظه الله تعالى- وجوب الدَّلك لمن كان ذا شعر كثير، ويسمَّى (الشَّعرانيّ) في اللغة كما تقدَّم. وهذا كقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في مباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه؛ فقد قال: " ... ثمَّ هذا التَّخليل غير واجب اتِّفاقاً؛ إلاَّ إِنْ كان الشَّعر ملبَّداً بشيء يحول بين الماء وبين الوصول إِلى أصوله، والله ¬

_ (¬1) عقب حديث عائشة -رضي الله عنها- في صفة الغُسل. (¬2) "سُبُل السلام" (ص 161). (¬3) (باب الوضوء مع الغسل والدّلك، 1/ 218). (¬4) وذكَر الأقوال المخالفة لذلك.

مراعاة غسل المرافغ عند الاغتسال:

أعلم" (¬1). مُراعاة غَسل المرافغ (¬2) عند الاغتسال: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا أراد أن يغتسل من الجنابة؛ بدأ بكفَّيه، فغسلهما، ثمَّ غَسَل مرافِغَه، وأفاض عليه الماء، فإِذا أنقاهما؛ أهوى بهما إِلى حائط، ثمَّ يستقبل الوضوء، ويفيض الماء على رأسه" (¬3). ¬

_ (¬1) "الفتح" (1/ 360). (¬2) هي أصول المغابن؛ كالآباط والحوالب وغيرهما من مطاوى الأعضاء، وما يجتمع فيه من الوسخ والعرق. "النهاية". والمغابن: مفردها غَبَن، وهي: الإِبط. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (223). قال في "بذْل المجهود" (2/ 243): "فإِذا أنقاهما: أي: الفَرج والمرافغ أو اليدين" (أهوى بهما): أي: أمالها إِلى حائط ليغسلهما بالتراب فيكون أنظف".

مسائل في الاغتسال

مسائل في الاغتسال النَّهي عن البول في المستحمّ: عن عبد الله بن مغفَّل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يبولنَّ أحدُكم في مستحمِّه ثمَّ يغتسل فيه" (¬1). "قال علي بن محمد: إِنَّما هذا في الحفيرة، فأمَّا اليوم؛ فلا، فمغتسلاتهم الجِصُّ (¬2) والصَّاروج (¬3) والقيرُ (¬4)، فإِذا بال، فأرسَل عليه الماء؛ فلا بأس به" (¬5). وقال ابن المبارك: وقد وُسِّع في البول في المغتسل إِذا جرى فيه الماء" (¬6). جواز الاغتسال عُرياناً بحيث لا يُرى: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: "بينا (¬7) أيوب ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود: 27، و"صحيح سنن أبي داود" (22)، وغيره. وانظر "المشكاة" (353). (¬2) الجِص: ما يُبنى به. "معرَّب". (¬3) الصاروج: خليط يستعمل في طلاء الجدران والأحواض. "معرَّب" أيضاً. (¬4) القير والقار: شيء أسود يُطلى به السفن والإبل، أو هما الزِّفت. "المحيط". (¬5) انظر "صحيح سنن ابن ماجه" (246). (¬6) انظر "صحيح سنن الترمذي" (20). (¬7) أصلها بين، وأشبِعت الفتحة.

التستر في الغسل:

يغتسل عُرياناً؛ خرَّ عليه رِجل جراد (¬1) من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فنادى ربُّه: يا أيُّوب! ألم أكنْ أغنيتك عمَّا ترى؟ قال: بلى يا ربِّ، ولكنْ لا غِنى لي عن برَكَتِكَ" (¬2). وعنه أيضاً عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كانت بنو إِسرائيل يغتسلون عُراة، ينظر بعضهم إِلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده ... " (¬3). التَّستُّر في الغُسل: عن أمّ هانئ -رضي الله عنها- قالت: "ذهبتُ إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح، فوجدتُه يغتسل وفاطمة تسترُه، فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أمُّ هانئ" (¬4). وعن ميمونة -رضي الله عنها- قالت: "ستَرْتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يغتسل من الجنابة، فغسَل يديه ... " (¬5). وعن أبي السَّمح -رضي الله عنه- قال: "كنتُ أخدُم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إِذا أراد أن يغتسل؛ قال: وَلِّني! فأوَلِّيه قفايَ، وأنشرُ الثَّوب، فأسترهُ به" (¬6). ¬

_ (¬1) أي: جماعة جراد. (¬2) أخرجه البخاري: 3391، وغيره. (¬3) أخرجه البخاري: 278، ومسلم: 339 (¬4) أخرجه البخاري: 280، ومسلم: 336، وغيرهما. (¬5) أخرجه البخاري: 281 (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (362)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (497)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (218).

هل يجزئ غسل عن غسل إذا كانا واجبين؟

وعن يعلى بن أمية -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلاً يغتسل بالبَراز (¬1) بلا إِزار، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ الله -عزَّ وجلَّ- حييٌّ سِتير، يُحبُّ الحياء والسَّتر، فإِذا اغتسل أحدكم؛ فليستتر" (¬2). هل يجزئ غُسل عن غُسل إِذا كانا واجبين؟ قال شيخنا: "الذي يتبيَّن لي أنَّه لا يجزئ ذلك، بل لا بدّ من الغسل لكلّ ما يجب الغُسل له غُسلاً على حِدة، فيغُتسل للحيض غسلاً، وللجنابة غُسلاً آخر، أو للجنابة غسلاً، وللجمعة غُسلاً آخر. لأنَّ هذه الأغسال قد قام الدليل على وجوب كل واحد منها على انفراده، فلا يجوز توحيدها في عمل واحد، ألا ترى أنَّه لوكان عليه قضاء شهر رمضان أنَّه لا يجوز له أن ينوي قضاءه مع صيامه لشهر رمضان أداءً! وهكذا يقال عن الصلاة ونحوها، والتفريق بين هذه العبادات وبين الغسل لا دليل عليه، ومن ادَّعاه؛ فليتفضَّل بالبيان" (¬3). وقال -حفظه الله تعالى (¬4) -: "وقد عكس ابن حزم، فاستدلَّ بالحديث على ما ذهَبنا إِليه، فقال بعد أن ذكَر أنَّ من أجنب يوم الجمعة فلا يجزيه إلاَّ ¬

_ (¬1) بالفتح الفضاء الواسع، وبالكسر: ثُفل الغذاء، وتقدّم. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3387) وغيره، وانظر "المشكاة" (447). (¬3) "تمام المنَّة" (126). (¬4) "تمام المنَّة" (127 و128).

غُسلان: غُسل ينوي به الجنابة، وغُسل آخر ينوي به الجمعة ... إِلخ. قال (2/ 43): برهان ذلك قول الله تعالى: {وما أُمِروا إِلاَّ ليَعْبُدوا الله مُخْلِصينَ له الدِّينَ} (¬1)، وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّما الأعمال بالنيات، ولكلّ امرئ ما نوى" وتقدّم، فصحّ يقيناً أنَّه مأمور بكل غُسل من هذه الأغسال، فإِذْ قد صحّ ذلك؛ فمن الباطل أن يجزئ عملٌ عن عملين أو أكثر، وصحّ يقيناً أنَّه إِنْ نوى أحدٌ ما عليه من ذلك؛ فإِنَّما له بشهادة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصادقة الذي نواه فقط؛ وليس له ما لم ينوه، فإِنْ نوى بعمله ذلك غُسلين فصاعداً؛ فقد خالف ما أمر به؛ لأنَّه مأمور بغسل تام لكل وجه من الوجوه التي ذكَرنا، فلم يفعل ذلك، والغُسل لا ينقسم، فبطل عمله كلّه؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ" (¬2). ثمَّ ذكَر أنَّه ذهب إِلى ما اختاره من عدم الإِجزاء جماعة من السّلف، منهم جابر بن زيد والحسن وقتادة وإِبراهيم النخعي والحكم وطاوس وعطاء وعمرو ابن شعيب والزهري وميمون بن مهران، قال: "وهو قول داود وأصحابنا". وقد ساق الآثار بذلك عنهم فراجِعْها، ويحسُن أن يلحق بهم أبو قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- فقد رَوى الحاكم (1/ 282) من طريق يحيى ابن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة قال: دخل عليّ أبي وأنا أغتسل يوم الجمُعة، فقال: غُسلك من جنابة أو للجمعة؟ قال: قلت: من جنابة. قال: أعِد غُسلاً آخر، فإِنّي سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من اغتسل يوم الجمعة ¬

_ (¬1) البيّنة: 5 (¬2) أخرجه البخاري: 2697، ومسلم: 1718

الطوف على جميع نسائه بغسل واحد:

كان في طهارة إِلى الجمعة الأخرى" (¬1). الطوف على جميع نسائه بغُسل واحد: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدور على نسائه في السَّاعة الواحدة من الليل والنَّهار وهنَّ إِحدى عشْرة ... " (¬2). وفي "صحيح مسلم": (309)، عنه بلفظ: "كان يطوف (¬3) على نسائه بغُسل واحد". الاغتسال عند كلّ واحدة غُسلاً: عن أبي رافع: أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف ذات يوم على نسائه، يغتسل عند هذه وعند هذه. قال: فقلتُ له: يا رسول الله! ألا تجعله غُسلاً واحداً؟ قال: "هذا أزكى وأطيب وأطهر" (¬4). جواز نوم الجُنُب واستحباب الوضوء له: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا أراد أن ينام وهو جُنب؛ غَسَل فرجه وتوضّأ للصّلاة" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة وابن حبَّان وغيرهما. وانظره في "الصحيحة" (2321)، وتقدّم. (¬2) أخرجه البخاري: 268 (¬3) وهو كناية عن الجماع كما قال الحافظ وغيره. (¬4) أخرجه أبو داود، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (480)، وغيرهما. وانظر "آداب الزفاف" (ص 107)، وتقدّم. (¬5) أخرجه البخاري: 288، ومسلم: 305

اغتسال الرجل مع امرأته من إناء واحد من الجنابة واشتراكهما في ذلك:

وعن عبد الله بن أبي قيس؛ قال: سألْتُ عائشة عن وتْرِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ (فذكَر الحديث، وفيه): قلت: كيف كان يصنع في الجنابة؟ أكان يغتسل قبل أن ينام أم ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كلّ ذلك قد كان يفعل، ربَّما اغتسل فنام، وربَّما توضّأ فنام. قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سَعَة (¬1). اغتسال الرجل مع امرأته من إِناء واحد من الجنابة واشتراكهما في ذلك: لحديث أمّ سلمة: " ... وكنتُ أغتسل أنا والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إِناء واحدٍ من الجنابة" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنتُ أغتسل أنا والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إِناء واحد، تختلف أيدينا فيه" (¬3). وعنها -رضي الله عنها- قالت: "كنتُ أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إِناء بيني وبينه واحد، فيبادرني حتى أقول: دَعْ لي، دَعْ لي. قالت: وهما جُنُبان" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 307، وغيره. (¬2) أخرجه البخاري: 322، ومسلم: 296، وغيرهما. (¬3) أخرجه البخاري: 261، ومسلم: 321، وزاد في آخره: "من الجنابة". (¬4) أخرجه مسلم: 321

الاغتسال بفضل المرأة وما جاء في النهي عن ذلك:

وفي الباب عدّة أحاديث، أكتفي بما ذكَرت. الاغتسال بفضل المرأة وما جاء في النهي عن ذلك: عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما-: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل بفضل ميمونة" (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: اغتسل بعض أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جفنة، فجاء النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليغتسل أو يتوضّأ، فقالت: يا رسول الله! إِنِّي كنتُ جُنُباً. فقال: "الماء لا يُجنب" (¬2). وعن حُميد بن عبد الرحمن الحِمْيَري؛ قال: لقيتُ رجلاً صَحِب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما صحِبه أبو هريرة -رضي الله عنه- أربع سنين؛ قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يمتشط أحدُنا كلَّ يوم، أو يبول في مغتسله، أو يغتسل الرَّجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرَّجل، وليغترفا جميعاً" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 323، وهو في "صحيح سنن ابن ماجه" (298) بلفظ: "من الجنابة". (¬2) أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (61)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (296)، وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (27). (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (232)، وغيره، وبعضه في سنن أبي داود "صحيح سنن أبي داود" (23). قال الحافظ في "الفتح" (1/ 300): "رجاله ثقات، ولم أقف لمن أعلّه على حجّة قوية، ودعوى البيهقيّ أنَه في معنى المرسل مردودة؛ لأنَّ إِبهام الصحابي لا يضرّ، وقد صرّح التابعيّ بأنَّه لقيه ... ".

وحمَل بعض أهل العلم هذا الحديث وما في معناه على التَّنزيه جمعاً بين الأدلَّة، وإِلى هذا أشار الحافظ في "الفتح" (¬1). ¬

_ (¬1) (1/ 300)، تحت الحديث (193).

خلاصة ميسرة لأعمال الغسل

خُلاصة ميسَّرة لأعمال الغُسل * غَسل اليدين. * غَسل القُبُل والدُّبر. * مَسْح اليدين بالتُّراب، أو غسلهما بالصابون ونحوه، وضرورة غَسل اليدين قبل إِدخالهما الإِناء. - التوضُّؤ كوضوء الصلاة سوى الرِّجلين، أو غسلهما إِنْ شاء (¬1). * تخليل الشعر، وصبّ ثلاث غرف بيديه، والبدء بشقِّ أيمن الرَّأس، ثمَّ الأيسر. * البدء بالشقِّ الأيمن دائماً من الجسد، ثمَّ الشقّ الأيسر. * غَسل الرِّجلين إِن لم يفعل ذلك من قبل. * تُراعى الأمور الآتية خلال الغسل: 1 - إِفاضة الماء على سائر الجسد والجلد كلِّه. 2 - الإِقلال في استعمال الماء. 3 - مراعاة غسل المرافغ (¬2) ومطاوى الأعضاء. 4 - ضرورة الدَّلك للشَّعراني. 5 - عدم الوضوء بعد الغسل. ¬

_ (¬1) انظر -إِن شئت- (باب صفة غُسل الجنابة) "تأخير غَسل الرجلين". (¬2) تقدّم معنى المرافغ أنّها أصول المغابن كالآباط والحوالب وغيرها من مطاوى الأعضاء، وما يجتمع فيه من الوسخ والعرق.

التيمم

التَّيمُّم تعريفه: التيمّم لغة: القَصْد، ومنه قوله تعالى: {ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيْثَ منهُ تُنْفِقُون} (¬1)، وتقول العرب: تيمّمك الله بحفظه أي: قَصَدَكَ ... أمّا التيمّم شرْعاً: فهو القصد إِلى الصعيد (¬2)؛ بمسح الوجه واليدين بنيّة استباحة الصَّلاة ونحوها (¬3). ثبوت مشروعيته بالكتاب والسنَّة والإِجماع أمّا في كتاب الله العظيم ففي قوله عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (¬4). ¬

_ (¬1) البقرة: 267 (¬2) قال ابن سفيان وأبو إِسحاق: "الصعيد: ما علا وجه الأرض، وقيل: الأرض، وقيل: الأرض الطيِّبة، وقيل: التراب الطيِّب، والعرب تقول لظاهر الأرض صعيد". وعن الخليل قال: "الصعيد: الأرض؛ قلَّ أو كثُر". انظر "لسان العرب"، و"حِلية الفقهاء" (ص 59). (¬3) قاله في "الفتح" (1/ 432) ونقَلَه عن عدد من العلماء. (¬4) النساء: 43

اختصاص أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - به

وأمَّا في السنَّة؛ ففيه أحاديث كثيرة، منها: ما رواه جابر بن عبد الله عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أُعطيتُ خمساً لم يُعطهنَّ أحدٌ قبلي: نُصرتُ بالرُّعب مسيرة شهر، وجُعِلت ليَ الأرض مسجداً وطهوراً (¬1)؛ فأيُّما رجلٍ من أمَّتي أدركتْه الصَّلاة فليصلِّ، وأُحلَّت لي المغانم (¬2) ولم تحلّ لأحدٍ قبلي، وأُعطيت الشفاعة وكان النّبيّ يُبعث إِلى قومه خاصَّة، وبُعِثْتُ إِلى النَّاسِ عامَّة" (¬3). أمّا الإِجماع، فقد ذكَره ابن قدامة -رحمه الله- في "المُغني" (1/ 233) فقال: "وأمَّا الإِجماع؛ فأجمعت الأمَّة على جواز التيمُّم في الجملة". قال البخاري: "باب التيمُّم في الحضر إِذا لم يجد الماء وخاف فوت الصّلاة، وبه قال عطاء" (¬4). اختصاص أمَّة محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به لحديث جابر السابق: "أُعطيتُ خمساً لم يعطهنَّ أحد قبلي" منها: ¬

_ (¬1) وجُعلت ليَ الأرضُ مسجداً؛ أي: موضع السجود؛ لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازاً عن المكان المبنيّ للصلاة، وهو من مجاز التشبيه؛ لأنَّه لمّا جازت الصلاة في جميعها؛ كانت كالمسجد في ذلك. "فتح". جاء في "الفتح": "ويستفاد من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً"؛ أنّ الأصل في الأرض الطهارة، وأنَّ صحة الصلاة لا تختصّ بالمسجد المبنيّ لذلك". (¬2) وفي بعض الروايات الغنائم، ومعناهما واحد. (¬3) أخرجه البخاري: 335، 438، 3122، وهذا لفظه، ومسلم: 521، وغيرهما. (¬4) "الفتح" (1/ 441)، وقال الحافظ: "وقد وصله عبد الرزاق من وجه صحيح، وابن أبي شيبة من وجه آخر ... ".

سبب مشروعيته

"وجُعلَت لي الأرضُ مسجداً وطهوراً". قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (21/ 347): "وهذا التيمُّم المأمور به في الآية؛ هو من خصائص المسلمين، وممَّا فضَّلهم الله به على غيرهم من الأمم، ففي "الصحيحين"؛ عن جابر بن عبد الله أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أُعطيتُ خمساً ... " وذكر الحديث. سبب مشروعيَّته عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها استعارت من أسماءَ قِلادةً فهلكت، فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً فوجدها، فأدركتهم الصّلاة وليس معهم ماء، فصلَّوا، فشكَوا ذلك إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأنزلَ الله آية التيمُّم، فقال أسيد بن حُضَير لعائشة جزاكِ الله خيراً؛ فوالله ما نَزل بك أمر تكرهينه؛ إلاَّ جعل الله ذلك لكِ وللمسلمين فيه خيراً" (¬1). كيفيَّة التيمُّم 1 - النيَّة: ومحلّها القلب؛ كما تقدَّم في الوضوء والغُسل. 2 - التسمية. 3 - ضرب الكفَّين بالصعيد الطاهر، ثمَّ ينفخ فيهما، أو ينفضهما لتخفيف التُّراب -إِن وُجد- ثمَّ يمسح بهما الوجه والكفَّين؛ كما في حديث عمَّار بن ياسر -رضي الله عنه-: " ... إِنَّما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 334 و336 ومواضع أُخرى، ومسلم: 367، وغيرهما.

ثمَّ تنفُخ (¬1)، ثمَّ تمسح بهما وجهك وكفَّيك" (¬2). وموضع المسح هو الموضع الذي يُقطع منه السارق. قال ابن قدامة -رحمه الله- في "المغني" (1/ 258): "ويجب مسْح اليدين إِلى الموضع الذي يُقطع منه السارق، أومأ أحمد إِلى هذا لما سُئل عن التيمُّم؛ فأومأ إِلى كفَّيه ولم يجاوز، وقال: قال الله تعالى: {والسَّارقُ والسَّارِقةُ فَاقْطَعوا أَيْديَهُمَا} (¬3)، من أين تقطع يد السارق؟ أليس من هاهنا، وأشار إِلى الرسغ، وقد روينا عن ابن عبَّاس نحو هذا". 4 - ملاحظة الاكتفاء بضربة واحدة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "التيمُّم ضربة للوجه والكفَّين" (¬4). ¬

_ (¬1) وفي بعض الروايات عند البخاري (347) وغيره: "ثمَّ نفضهما". وسألْت شيخنا -حفظه الله- إِن كان المراد من النفخ أو النفض الإقلال من التراب فيعمل بأيِّهما، فقال: "هو كذلك"، ثمَّ قال: "وقد لا يلزم أيٌّ منهما لعدم وجود التراب". (¬2) أخرجه البخاري: 338، ومسلم: 368، وغيرهما. (¬3) المائدة: 38 (¬4) أخرجه أحمد، وابن خزيمة في "صحيحه"، وأبو داود، والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"، وغيرهم، ومعناه في "الصحيحين"؛ كما في حديث عمّار السابق. وانظر "الإِرواء" (161)، و"الصحيحة" (694).

نواقض التيمم

نواقض التيمُّم 1 - ينقض التيمُّم كلَّ ما ينقض الوضوء، لأنَّه يقوم مقامه (¬1). قال الحسن: "يُجزئه التيمُّم ما لم يُحدِث" (¬2). قال ابن حزم في "المحلّى" (مسألة 333): "كلُّ حدث ينقض الوضوء؛ فإِنه ينقض التيمُّم، هذا ما لا خلاف فيه من أحد من أهل الإِسلام". 2 - وجود الماء لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ الصعيد الطيِّب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإِذا وجد الماء فليمِسَّه بشرته؛ فإِنَّ ذلك هو خير" (¬3). (وفي رواية: طهور المسلم). قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (مسألة 234): "وينقض التيمّم أيضاً وجود الماء، سواء وَجَده في صلاة (¬4) أو بعد أن صلّى، أو قبل أن ¬

_ (¬1) انظر (باب: هل التيمُّم يقوم مقام الماء؟) (¬2) ذكره البخاري معلَّقاً، وذكر الحافظ في "الفتح" (1/ 446) وَصْل عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وحمّاد بن سلمة له، وصحّح شيخنا إِسناده في "مختصر البخارى" (1/ 96). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده"، والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، وهو في "صحيح سنن الترمذي" (107)، و"صحيح سنن أبي داود" (321)، وغيرهم، وصححه ابن حبان، والدارقطني، وأبو حاتم، والحاكم، والذهبي، والنووي، وشيخنا في "الإرواء" (153). (¬4) قال شيخنا -حفظه الله-: "فإِذا وجد الماء فليُمسَّه بشرته، تشمل من كان في الصلاة أيضاً".

ما يتيمم به وعدم اشتراط التراب:

يصلي ... ". قال في "المغني" (1/ 270): وإِذا وجد المتيمّم الماء وهو في الصلاة؛ خرج فتوضّأ أو اغتسل إِن كانْ جُنُباً واستقبل الصلاة. قال: وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر ... وقال أيضاً: "ولنا قوله عليه السلام: "الصعيد الطيّب وضوء المسلم، وإنْ لم يجد الماء عشر سنين، فإِذا وجدت الماء فأمسَّه جلدك". أخرجه أبو داود والنسائي؛ دلَّ بمفهومه على أنَّه لا يكون طهوراً عند وجود الماء، وبمنطوقه على وجوب إِمساسه جلده عند وجوده، لأنَّه قدِرَ على استعمال الماء؛ فبطل تيمُّمه كالخارج من الصلاة، ولأنَّ التيمُّم طهارة ضرورة، فبطلت بزوال الضرورة ... ". ما يُتيمَّم به وعدم اشتراط التراب: قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (¬1). قال شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-: وقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}، نكرة في سياق الإِثبات، كقوله: {إِنَّ الله يأمُرُكمْ أن تذْبَحوا بقَرَةً} (¬2)، وقوله: {فَتحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬3)، وقوله: {فصِيَامُ ثلاثَة أيَّامٍ في ¬

_ (¬1) النساء: 43 (¬2) البقرة: 67 (¬3) النساء: 92

الحَجِّ وسَبْعَةٍ إِذا رَجعْتُم} (¬1)، وقوله: {فَمَنْ لم يجِدْ فَصيامُ ثلاثَةِ أيامٍ} (¬2)، وهذه تسمّى مطلقة، وهي تفيد العموم على سبيل البدل لا على سبيل الجمع، فيدلّ ذلك على أنّه يتيمّم أيّ صعيد طيّب اتفق، والطيِّب هو الطاهر، والتُّراب الذي ينبعث مراد من النصّ بالإِجماع، وفيما سواه نزاع سنذكره إِن شاء الله تعالى (¬3). قال يحيى بن سعيد: "لا بأس بالصلاة على السَّبْخة (¬4) والتيمّم بها" (¬5). وفي حديث عائشة الطويل: " ... قد أُريت دار هجرتكم رأيت سَبْخةً ذات نخْل بين لابتين وهما الحرَّتان" (¬6). قال ابن خزيمة عقب الحديث السابق في "صحيحه" (1/ 134): "ففي قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُريت سبْخة ذات نخل بين لابتين؛ وإعلامه إِيَّاهم أنها دار هجرتهم -وجميع المدينة، كانت هجرتهم- دلالة على أنَّ جميع المدينة سبخة، ولو كان التيمُّم غير جائز بالسّبخة وكانت السَّبخة على ما توهَّم بعض أهل عصرنا، أنَّه من البلد الخبيث، بقوله: {والذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا}، لكان قول هذه المقالة أنَّ أرض المدينة خبيثة لا طيِّبة، وهذا قول بعض أهل العناد لمَّا ذمَّ أهل المدينة، فقال: إِنها خبيثة فاعلم أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) البقرة: 196 (¬2) المائدة: 89 (¬3) "الفتاوى" (21/ 348). (¬4) بتسكين الباء، وفي بعض النسخ بفتحها. هي الأرض المالحة لا تكاد تُنبت. (¬5) أخرجه البخاري معلّقاً بصيغة الجزم ولم يخرجه الحافظ. (¬6) أخرجه البخاري: 2297، والحرّة: الأرض ذات الحجارة السُّود.

سمّاها طيبة -أو طابة- فالأرض: السبخة هي طيبة على ما أخبر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن المدينة طيبة، وإِذا كانت طيبة وهي سبخة؛ فالله عزّ وجلّ قد أمر بالتيمّم بالصعيد الطيب في نصِّ كتابه، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أعلم أن المدينة طيبة -أو طابة- مع إِعلامهم إِياهم أنها سبخة، وفي هذا ما بان وثبت أنَّ التيمُّم بالسباخ جائز". أمَّا تسمية طابة؛ فقد وردت في البخاري (1872) كما في حديث أبي حُميد -رضي الله عنه- قال: "أقبَلنْا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تبوك؛ حتى أشرَفْنا على المدينة فقال: هذه طابة". وروى مسلم (1385) وغيره عن جابر بن سمرة وقد قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنَّ الله تعالى سمّى المدينة طابة". وأما تسمية طَيْبَة؛ فقد ثبتت في "صحيح مسلم" (1384) أيضاً عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنها طَيْبَة (يعني: المدينة) وإِنِّها تنفي الخبث كما تنفي النّار خَبث الفضة". قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (21/ 364): "وأمّا الصعيد ففيه أقوال؛ فقيل: يجوز التيمُّم بكلِّ ما كان من جنس الأرض، وإِن لم يعلَق بيده، كالزرنيخ (¬1)، والنُّورة (¬2)، والجصّ (¬3)، وكالصخرة الملساء، فأمّا ما لم يكن من جنسها كالمعادن فلا يجوز التيمُّم به، وهو قول أبي حنيفة، ¬

_ (¬1) في "المحيط": حَجَر معروف، منه أبيض وأحمر وأصفر. (¬2) في "الوسيط": حجر الكلس. (¬3) الجَصّ: ما يُبنى به وهو معرّب. "مختار الصحاح".

ومحمّد يوافقه، لكن بشرط أن يكون مُغبراً؛ لقوله: (منه) (¬1). وقيل: يجوز بالأرض، وبما اتّصل بها حتى بالشَّجر، كما يجوز عنده وعند أبي حنيفة بالحجر والمدر (¬2)، وهو قول مالك، ... وقيل: لا يجوز إلاَّ بتراب طاهر، له غبار يعلق باليد، وهو قول أبي يوسف والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى. واحتج هؤلاء بقوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيدِيكم منه}، وهذا لا يكون إلاَّ فيما يعلق بالوجه واليد، والصَّخر لا يعلق لا بالوجه ولا باليد، واحتجُّوا بقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "جُعلت لي الأرض مسجداً، وجُعلت تربتها طَهوراً". قالوا: فعمَّ الأرض بحُكم المسجد، وخصّ تربتها -وهو ترابها- بحُكم الطهارة. واحتجّ الأولون بقوله تعالى: {صعيداً}، قالوا: والصَّعيد هو الصَّاعد على وجه الأرضِ، وهذا يعمُّ كلَّ صاعد؛ بدليل قوله تعالى: {وإِنَّما لجاعِلُون ما عليها صعِيداَ جُرُزاً} (¬3)، وقوله: {فَتُصبحَ صعيداً زلقاً} (¬4). واحتجّ من لم يخصّ الحكم بالتراب بأنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "جُعلت لي ¬

_ (¬1) قال شيخنا -حفظه الله-: " ... وهذه الآية ينبغي أن تُفهم من خلال السُّنَّة كما قال تعالى: {وأَنْزَلْنا إِليك الذِّكرَ لِتُبيِّنَ للنَّاسِ ما نزَلَ إِليهم} النحل: 44، فالدّم حرام في كتاب الله وكذلك الميتة، وبيّن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لم يحرم من ذلك، فلا بدَّ من ضمّ السُّنّة للقرآن؛ لتكون النتيجة صحيحة وكاملة". (¬2) أي: الطين المتماسك. "النهاية". (¬3) الكهف: 8 (¬4) الكهف: 40

الأرض مسجداً وطَهوراً؛ فأيّما رجل من أمّتي أدركتْهُ الصلاة فليصلِّ"، وفي رواية: "فعنده مسجده وطَهوره". فهذا يُبيِّن أنّ المسلم في أيّ موضع كان عنده مسجده وطهوره. ومعلوم أنَّ كثيراً من الأرض ليس فيها تراب حرث، فإِن لم يجُز التيمُّم بالرّمل؛ كان مخالفاً لهذا الحديث، وهذه حجة من جوَّز التيمُّم بالرمل دون غيره، أو قرن بذلك السّبخة؛ فإِنَّ من الأرض ما يكون سبخة، واختلاف التُّراب بذلك كاختلافه بالألوان؛ بدليل قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ الله خلق آدم من قبضة قبَضَها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض؛ جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسّهل والحزَن، والخبيث والطيب" (¬1). وآدم إِنّما خُلق من تراب، والتُّراب الطيب والخبيث، الذي يخرج بإِذن ربّه، والذي خبُث لا يخرج إلاَّ نكدا، لا يجوز التيمُّم به فعُلم أنَّ المراد بالطيِّب الطاهر، وهذا بخلاف الأحجار والأشجار؛ فإِنها ليست من جنس التراب، ولا تعلق باليد، بخلاف الزرنيخ والنورة، فإِنها معادن في الأرض، لكنها لا تنطبع كما ينطبع الذهب والفضة والرصاص والنحاس". اهـ. قال ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (1/ 200) في هديه في التيمُّم: "وكذلك كان يتيمّم بالأرض التي يصلَّي عليها؛ تراباً كانت أو سبخة أو رملاً، وصحَّ عنه أنه قال: "حيثما أدْركَتْ رجلاً من أمتي الصلاة فعنده ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات"، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وغيرهم كما في "الصحيحة" (1630) والنص الذي ذكره شيخ الاِسلام -رحمه الله- نحوه.

مسجدُه وطَهوره" (¬1). وهذا نصٌّ صريح في أنّ من أدركته الصلاة في الرّمل؛ فالرمل لى طهور، ولمّا سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك، قطعوا تلك الرّمال في طريقهم وماؤهم في غاية القلَّة، ولم يُروَ عنه أنَّه حملَ معه التراب، ولا أمر به، ولا فعله أحد من أصحابه، مع القطع بأنَّ في المفاوز الرمال أكثر من التراب، وكذلك أرض الحجاز وغيره، ومن تدبَّر هذا؛ قطع بأنَّه يتيمّم بالرمل، والله أعلم، وهذا قول الجمهور". قال في "نيل الأوطار" (1/ 328): "ويؤيد حمْل الصعيد على العموم تيمّمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحائط ... ". وقال أيضاً: "قال ابن دقيق العيد: "ومن خصّص التيمُّم بالتراب، يحتاج إِلى أن يقيم دليلاً يخص به هذا العموم (¬2) ... " (¬3). وسألتُ شيخنا -حفظه الله- عن اشتراط بعض العلماء الغبار والتراب في التيمُّم فقال: "إِنَّ الغبار ليس من شروط الصعيد، والصعيد هو وجه الأرض، فيشمل الصخرة والرمل والتراب. والصخرة التي هطلت عليها الأمطار فلا غبار عليها، فهل حين التيمُّم بها ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وإسناده حسن، وله شواهد عديدة ذكرها شيخنا في "الإرواء" (285). (¬2) أي: عموم حديث: "فأينما أدركَت رجلاً من أمّتي الصلاة ... " (¬3) "نيل الأوطار" (1/ 329).

من يستباح له التيمم:

حقَّق قوله تعالى: {فتيمَّموا صَعِيداً طيِّباً} (¬1) أم لا؟ وكذلك الأرض الرملية سواء مُطرت أم لم تُمطر؛ عند الضرب فلا غبار عليها، فهذا تكليف بما لا يُطاق. ثمَّ ذكر سفر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة إِلى تبوك وأكثرها رملية، ولم يصطحب عليه الصلاة السلام معه تراباً عند سفره. ومن اشترط التراب فقد أوجب على المسافرين الذين يجتازون تلك المناطق؛ أن يصطحبوا معهم التراب. وهذا يتناسب مع قاعدة: "يسِّروا ولا تعسِّروا"؛ وهو المُطابق لمزيَّة ما خَصَّه الله تعالى للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: "أعطيت خمساً لم يعطهنَّ أحد قبلي: نُصرت بالرُّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجلٍ من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ ... " (¬2). فإِذا أدركته في الرِّمال فهل يبحث عن الغُبار؟ واشتراط خروج شيء من الممسوح غير وارد" (¬3). وخلاصة القول: يجوز التيمُّم بالصعيد الطيّب سواء كان له غبار أم لا، وسواء كان تراباً أم لا، كما يجوز التيمُّم بالسبخة والرمال والجدار والصخرة الملساء ونحو ذلك، والله أعلم. من يستباح له التيمُّم: يُستباح التيمُّم لمن أحدث حدثاً أصغر أو أكبر، سواء كان في سفر أو ¬

_ (¬1) النساء: 43 (¬2) تقدّم. (¬3) كذا قاله شيخنا -حفظه الله تعالى- بمعناه.

حضر، للأسباب الآتية: 1 - إِذا لم يجد الماء، لقوله تعالى: { ... فَلَمْ تَجِدوا مَاءً فَتَيَمَّموا صَعِيداً طيباً} (¬1). ولحديث عمران بن حصين "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلاً معتزلاً لم يُصلِّ في القوم، فقال: يا فلان! ما منَعك أن تصلي في القوم، فقال: يا رسول الله! أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإِنَّه يكفيك" (¬2). ولحديث أبي ذر -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإِن لم يجد الماء عشر سنين، فإِذا وجد الماء فليُمسّه بشره (¬3) فإِنَّ ذلك خير" (¬4). ويدخل في معنى عدم وجود الماء؛ بُعده أو وجوده في بئر عميقة، أو صعوبة استخراجه لفقد الحبل أو الدلو، أو وجود حيوان مفترس عنده أو عدوّ آدمي؛ بحيث يتعذَّر الانتفاع به أو إِذا احتاجه لشُرب (¬5) أو لعجن، أو طبخ" أو ¬

_ (¬1) النساء: 43 (¬2) أخرجه البخاري: 348، ومسلم: 682 نحوه. (¬3) في بعض كتب الحديث بشرته، والمعنى واحد، قال في "مختار الصحاح": البشرة، والبشر: ظاهر جلد الإنسان. (¬4) أخرجه أحمد، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (107)، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (321)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (311)، وانظر "المشكاة" (530)، و"الإِرواء" (153)، وتقدّم. (¬5) قال ابن حزم في "المحلى" (مسألة 242): ومن كان معه ماءٌ يسير يكفيه =

إِزالة نجاسة. قال الحسن في المريض عنده الماء ولا يجد من يُناوله: "يتيمّم" (¬1). جاء في "المغني" (1/ 238): "ومن حال بينه وبين الماء سبع أو عدو أو حريق أو لص فهو كالعادم، ولو كان الماء بمجمع الفساق، تخاف المرأة على نفسها منهم فهي عادمة ... ". وفيه أيضاً (1/ 239): "ومن كان مريضاً لا يقدر على الحركة ولا يجد من يناوله الماء، فهو كالعادم ... ". قال في "الدراري" (1/ 85): "فإِنَّ من تعذّر عليه استعمال الماء فهو عادم للماء، إِذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع؛ فمن كان يشاهد ماءً في قعر بئر يتعذّر عليه الوصول إِليه بوجه من الوجوه؛ فهو عادم. 2 - إِذا خشي الضرر من استعمال الماء؛ لمرض أو جرح أو شدَّة برودة، وكان عاجزاً عن تسخينه؛ لقوله تعالى: {ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكم إنَّ اللهَ كان بكم رحيماً} (¬2). وعن جابر قال: "خرجنا في سفر؛ فأصاب رجلاً منّا حجر، فشجّه في رأسه، ثمَّ احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمُّم؟ ¬

_ = لشربه فقط؛ ففرْضه التيمُّم، لقوله الله تعالى: {ولا تقتُلُوا أَنْفسكُم} [النساء: 29] (¬1) أورده البخاري معلّقاً بصيغة الجزم، ووصَله إِسماعيل القاضي في "الأحكام" من وجه صحيح كما ذكر الحافظ في "الفتح" (1/ 441). (¬2) النساء: 29

فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلمّا قدِمنا على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُخبر بذلك فقال: قتلوه قتَلهم الله، ألا سألوا إِذ لم يعلموا؛ فإِنّما شفاء العِيّ السؤال" (¬1). وعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: احتلمتُ في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفَقتُ إِن اغتسلتُ أن أهلِك، فتيمَّمْتُ، ثمَّ صلّيت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا عمرو! صلّيت بأصحابك وأنت جُنُب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إِني سمعت الله يقول: {ولا تقتلوا أنْفُسَكم إِنَّ اللهَ كان بكم رحيماً}. فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئاً" (¬2). وفي رواية: "فغسَل مغابنه وتوضّأ وضوءه للصلاة، ثمَّ صلّى بهم، فذكر نحوه ... " (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (325)، وابن ماجه، والدارقطنيّ، وصححه ابن السكن كما في "الدراري المضية" (1/ 821)، و"المشكاة" (531). وقال شيخنا في "تمام المنة" (131): "هذا الحديث ضعَّفه البيهقي والعسقلاني وغيرهما، لكن له شاهد من حديث ابن عباس يرتقي به إِلى درجة الحسن ... ". (¬2) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (323)، والدارقطنيّ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه النووي أيضاً وغيرهم، وعلّقه البخاري (1/ 95)، وقواه الحافظ ابن حجر كما في "الفتح" (1/ 454)، وصححه شيخنا وذكر أنه على شرط مسلم، وانظر "الإِرواء" (154). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (324)، والدارقطني وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (154).

هل يتيمم من خاف فوت الرفقة؟

وقال البخاري: (باب إِذا خاف الجُنُب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش يتيمّم). وأورد حديث عمرو بن العاص مُعلّقاً بصيغة التمريض. هل يتيمّم من خاف فوت الرفقة؟ أجاز ذلك ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (2/ 165) (المسألة 229) وغيره. وسألت شيخنا -حفظه الله تعالى- عن ذلك فقال: "إِنَّ خوف فَوْت الرفقة مسألة مطاطة، فربما فوت الرفقة عرَّض للهلاك، فله أن يتيمّم، وربما لم يؤدِّ ذلك إِلى ضرر، وإِنّما هو مجرّد فقْد الصحبة، فقد يكون خوف فوت الصحبة عذراً وقد لا يكون، والشخص نفسه هو الذي يقدّر ذلك لا المفتي". التيمُّم لردِّ السلام في الحضر أو السفر بوجود الماء: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أقبلتُ أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى دخَلنا على أبي جُهيم بن الحارث بن الصِّمّة الأنصاري، فقال أبو الجُهيم: "أقبَل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نحو بئر جَمَل (¬1) فلقيه رجل فسلَّم عليه، فلم يردّ عليه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثمَّ ردَّ عليه السلام" (¬2). قال ابن خزيمة (1/ 139) في "صحيحه" -عقب الحديث السابق-: ¬

_ (¬1) موضع معروف في المدينة. (¬2) أخرجه البخاري: 337، ومسلم: 369، وغيرهما.

(باب استحباب التيمم في الحضر لرد السلام وإن كان الماء موجودا).

(باب استحباب التيمُّم في الحضر لرد السلام وإِن كان الماء موجوداً). تيمّم المريض: قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1). ويتيمّم المريض إِذا وجدَ مشقَّة أو حرجاً في الوضوء بالماء أو الغسل به، أو خشي زيادة علة أو مرض. وتقدّم قول الحسن في المريض عنده الماء ولا يجد من يُناوله: "يتيمّم" (¬2). قال ابن حزم في "المحلى" (2/ 158) (مسألة 224): "لا يتيمّم من المرضى إِلا من لا يجد الماء، أو من عليه مشقَّة وحرج في الوضوء بالماء، أو في الغسل به، أو المسافر الذي لا يجد الماء الذي يقدر على الوضوء به أو الغسل به". ثمَّ ذكر الآية السابقة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (21/ 399): "والذي عليه الجمهور: أنَّه لا يُشترط فيه خوف الهلاك؛ بل من كان الوضوء يزيد مرضه، أو ¬

_ (¬1) المائدة: 6 (¬2) أورده البخاري معلقاً، ووصله إِسماعيل القاضي في "الأحكام" من وجه صحيح، وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن الحسن وابن سيرين قالا: "لا يتيمّم ما رجا أن يقدر على الماء في الوقت، ومفهومه يوافق ما قبله". "الفتح" (1/ 441)، وتقدّم.

تيمم المسافر:

يؤخر برْأه يتيمّم، وكذلك في الصيام والإِحرام، ومن يتضرَّر بالماء لبرد؛ فهو كالمريض عند الجمهور". تيمُّم المسافر: قال الله تعالى: {وإِن كنتم مَرْضَى أو على سَفَرٍ أو جَاء أحَدٌ منْكُم مِنَ الغائِطِ أو لامَسْتُمِ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدوا مَاءً فَتَيَمَّموا صَعِيداً طَيِّباً} (¬1). قال ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 28): "أجمع كلّ من أحفظ عنه من أهل العلم؛ على أن المسافر إِذا خشي على نفسه العطش ومعه مقدار ما يتطهَّر به من الماء؛ أنَّه يُبقي ماءَه للشرب ويتيمّم. رويَ هذا القول عن علي وابن عباس والحسن ومجاهد وعطاء وطاوس وقتادة والضحاك". قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (21/ 350): "اتفق المسلمون على أنّه إِذا لم يجد الماء في السفر تيمّم وصلَّى إِلى أن يجد الماء، فإِذا وجد الماء فعليه استعماله. وكذلك يتيمّم الجنب، ذهب الأئمة الأربعة وجماهير السلف والخلف؛ إِلى أنَّه يتيمّم إِذا عدم الماء في السفر إِلى أن يجد الماء، فإِذا وجده كان عليه استعماله". وقال -رحمه الله-: "والمسافر إنّما يتيمّم إِذا لم يجد الماء" (¬2). ¬

_ (¬1) النساء: 43 (¬2) "الفتاوى" (21/ 398).

تيمم الجنب:

وقال -رحمه الله- أيضاً: "كما أن المسافر قد لا يكون معه إِلا ما يكفيه لشربه وشرب دوابِّه، فهذا عند الجمهور عادم للماء فيتيمّم" (¬1). تيمّم الجُنُب: قال الله- عزّ وجلّ-: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬2). وعن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: "جاء رجل إِلى عمر بن الخطَّاب فقال: إِني أجنبتُ فلم أصب الماء، فقال عمّار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكرُ أنَّا كنّا في سفر أنا وأنت، فأمّا أنت فلم تُصلِّ، وأمَّا أنا فتمعَّكْتُ (¬3) فصلّيتُ، فذكرتُ للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان يكفيك هذا" فضرب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكفيه الأرض ونفخ (¬4)، فيهما، ثمَّ مسح بهما وجهه وكفَّيه" (¬5). ¬

_ (¬1) "الفتاوى" (21/ 399). (¬2) النساء: 43 (¬3) أي: تمرَّغْت، وجاءت هذه في إِحدى روايات البخاري: 347، ومسلم: 368، وكأنَّ عمَّار استعمل القياس في هذه المسألة، لأنَّه لما رأى أن التيمُّم إِذا وقع بدل الوضوء على هيئة الوضوء؛ رأى أنَّ التيمُّم عن الغُسل يقع على هيئة الغُسل. "الفتح". ويُستفاد من هذا الحديث: وقوع اجتهاد الصحابة في زمن النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن المجتهد لا لوم عليه إِذا بذل وُسعه وِإن لم يصب الحق، وأنَه إِذا عمل بالاجتهاد لا تجب عليه الإِعادة. "الفتح" أيضاً. (¬4) استدلَّ بالنفخ على استحباب تخفيف التراب. "فتح". (¬5) أخرجه البخاري: 338، ومسلم: 368

هل التيمم إلى المناكب والآباط صحيح؟

قال شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-: "وقد ثبت تيمُّم الجنب في أحاديث صحاح وحِسَان كحديث عمَّار بن ياسر -رضي الله عنه- وهو في "الصحيحين"، وحديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- وهو في البخاري، وحديث أبي ذر وعمرو بن العاص وصاحب الشجَّة -رضي الله عنهم- وهو في "السنن" ... " (¬1). وقال ابن حزم -رحمه الله-: "ويتيمّم الجُنُب والحائض، وكلّ من عليه غُسل واجب؛ كما يتيمّم المُحدِث ولا فرق" (¬2). وقال ابن قدامة -رحمه الله- عن تيمّم الجُنُب: " ... وهو قول جمهور العلماء: منهم علي وابن عباس وعمرو بن العاص وأبو موسى وعمّار، وبه قال الثوري ومالك والشافعي وأبو ثور وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي ... " (¬3). هل التيمُّم إِلى المناكب والآباط صحيح؟ قال إِسحاق بن إِبراهيم بن مخلد الحنظليّ: "حديث عمّار في التيمُّم للوجه والكفين: هو حديث حسن صحيح، وحديث عمّار: تيمّمنا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى المناكب والآباط؛ ليس هو بمخالف لحديث الوجه والكفين، لأنَّ عمّاراً لم يذكر أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَرهم بذلك، وِإنّما قال: فعلْنا كذا وكذا. فلما سأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَره بالوجه والكفين، فانتهى إِلى ما علّمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الوجه والكفين". ¬

_ (¬1) "الفتاوى" (21/ 400). (¬2) "المحلى" (المسألة 249). (¬3) "المغني" (1/ 261).

التيمم ضربة أم ضربتان؟

والدليل على ذلك: ما أفتى به عمّار بعد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التيمُّم أنَّه قال: "الوجه والكفين" ففي هذا دلالة على أنَّه انتهى إِلى ما علمه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلَّمه إِلى "الوجه والكفين" (¬1). التيمُّم ضربة أم ضربتان؟ قد تقدّم حديث عمّار -رضي الله عنه-: "التيمُّم ضربة للوجه والكفَّين" وما في معناه، وفيه إِفادة الاقتصار على الضربة الواحدة للوجه والكفين. قال في "الدراري المضَيَّة" (1/ 85): "وقد ذهب إِلى كون التيمُّم ضربة واحدة للوجه والكفين الجمهور ... ". قال شيخنا في "الإِرواء" (1/ 185): "واعلم أنّه قد روي هذا الحديث (¬2) عن عمّار بلفظ ضربتين؛ كما وقع في بعض طُرقه، وكل ذلك معلول لا يصحّ. قال الحافظ في "التلخيص" (ص56): وقال ابن عبد البر: أكثر الآثار المرفوعة عن عمّار ضربة واحدة، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة، وقد جمع البيهقي طُرق حديث عمَّار فأبلغ". ثمَّ قال شيخنا: "وفي الضربتين أحاديث أخرى، وهي معلولة أيضاً كما بيّنه الحافظ في "التلخيص" وحقَّقْتُ القول على بعضها في "ضعيف سنن أبي داود" (58 و59) " (¬3). ¬

_ (¬1) "سنن الترمذي" (باب التيمُّم). (¬2) أي حديث عمّار: "التيمّم ضربة للوجه والكفين". (¬3) "الإِرواء" (1/ 186).

هل التيمم يقوم مقام الماء؟

هل التيمُّم يقوم مقام الماء؟ قال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" (21/ 352): "وتنازعوا هل يقوم (¬1) مقام الماء، فيتيمّم قبل الوقت، كما يتوضّأ قبل الوقت، ويصلّي به ما شاء من فروض ونوافل، كما يصلّي بالماء، ولا يبطل بخروج الوقت، كما لا يبطل الوضوء؟ على قولين مشهورين، وهو نزاع عمليّ ... ". وقال -رحمه الله تعالى-: "وهذا القول هو الصحيح (¬2)، وعليه يدّل الكتابُ والسنّة والاعتبار؛ فإِن الله جعَل التيمُّم مُطهِّراً؛ كما جعَل الماء مطهِّراً، فقال تعالى: { ... فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (¬3) فأخبر تعالى أنَّه يريد أن يُطهِّرنا بالتراب؛ كما يطهِّرنا بالماء" (¬4). وقال -رحمه الله-: "ولنا أنّه قد ثبت بالكتاب والسنّة أنَّ التراب طهور، كما أنَّ الماء طهور، وقد قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصَّعيد الطيِّب طهور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإِذا وجدت الماء فأمِسّه بشرتك، فإِن ذلك خير" (¬5). فجعله مطهِّراً عند عدم الماء مطلقاً، فدلَّ على أنَّه مطهّر للمتيمّم، ¬

_ (¬1) أي: التيمُّم. (¬2) أي: أنَّ التيمّم يقوم مقام الماء. (¬3) المائدة: 6 (¬4) "الفتاوى" (21/ 436). (¬5) تقدّم.

وإِذا كان قد جعل المتيمّم مطهراً؛ كما أن المتوضئ مطهر، ولم يقيّد ذلك بوقت، ولم يقُل إِنَّ خروج الوقت يبطله، كما ذكر أنّه يبطله القدرة على استعمال الماء، دلّ ذلك على أنّه بمنزلة الماء عند عدم الماء، وهو موجب الأصول، فإِنَّ التيمُّم بدل عن الماء، والبدل يقوم مقام المُبدل في أحكامه، وإن لم يكن مماثلاً له في صفته، كصيام الشهرين؛ فإِنّه بدل عن الإِعتاق، وصيام الثلاث والسبع؛ فإِنّه بدل عن الهَدي في التمتُّع، وكصيام الثلاثة الأيام في كفّارة اليمين؛ فإِنّه بدل عن التكفير بالمال، والبدل يقوم مقام المُبدل ... " (¬1). وقال -رحمه الله- أيضاً: "والشارع حكيم إِنّما يُثبت الأحكام ويبطلها بأسباب تُناسبها، فكما لا يُبطل الطهارة بالأمكنة؛ لا يبطل بالأزمنة وغيرها؛ من الأوصاف التي لا تأثير لها في الشرع" (¬2). وقال -رحمه الله- أيضاً: "والتيمّم كالوضوء فلا يبطل تيمّمه إلاَّ ما يبطل الوضوء، ما لم يقدر على استعمال الماء، وهذا بناءً على قولنا، وقول من وافَقنا على التوقيت في مسح الخفّين، وعلى انتقاض الوضوء بطهارة المستحاضة، فإِنَّ هذا مذهب الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد" (¬3). وقال -رحمه الله- كذلك: "وِإذا كان تطهّر قبل الوقت (¬4)، كان قد ¬

_ (¬1) "الفتاوى" (21/ 353، 354). (¬2) "الفتاوى" (21/ 361). (¬3) "الفتاوى" (21/ 362). (¬4) أي: بالتيمّم.

أحسن، وأتى بأفضل ممّا وجب عليه، وكان كالمتطهر للصلاة قبل وقتها، وكمن أدَّى أكثر من الواجب في الزّكاة وغيرها، وكمن زاد على الواجب في الركوع والسجود، وهذا كلّه حسَن إِذا لم يكن محظوراً؛ كزيادة ركعة خامسة في الصلاة. والتيمّم مع عدم الماء حسَن ليس بمحرّم، ولهذا يجوز قبل الوقت للنافلة ولمسّ المصحف وقراءة القرآن" (¬1). وذكر -رحمه الله- "أنَّ هذا هو مذهب أبي حنيفة، وهو قول سعيد بن المسيّب، والحسن البصري، والزهري، والثوري، وغيرهم، وهو إِحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل" (¬2). قال ابن حزم -رحمه الله-: "والمتيمّم يصلي بتيمّمه ما شاء من الصلوات: الفرض والنوافل ما لم ينتقض تيمّمه بحدَث أو بوجود الماء؛ وأمّا المريض؛ فلا ينتقض طهارته بالتيمّم إلاَّ ما ينقض الطهارة من الأحداث فقط؛ وبهذا يقول أبو حنيفة، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وداود. وروينا أيضاً: عن حمّاد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: يصلي الصلوات كلها بتيمّم واحد مِثل الوضوء ما لم يُحدث. وعن معمر قال: سمعتُ الزهري يقول: التيمُّم بمنزلة الماء، يقول: يصلّي به ما لم يُحدِث. وعن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: صلّ بتيمّم واحد الصلوات كلها ما ¬

_ (¬1) "الفتاوى" (21/ 363). (¬2) "الفتاوى" (21/ 352).

لم تُحدِث، هو بمنزلة الماء. وهو قول يزيد بن هارون، ومحمد بن علي بن الحسين وغيرهم" (¬1). وقال -رحمه الله- أيضاً: "والتيمّم جائز قبل الوقت وفي الوقت، إِذا أراد أن يصلي به نافلة أو فرضاً كالوضوء ولا فرق؛ لأنَّ الله تعالى أمر بالوضوء والغسل والتيمّم عند القيام إِلى الصلاة، ولم يقُل تعالى: إِلى صلاة فرض دون النافلة؛ فكلّ مريد الصلاة: فالفرض عليه أن يتطهّر لها بالغسل إِن كان جنباً، وبالوضوء أو التيمُّم إِن كان محدثاً؛ فإِذ ذلك كذلك، فلا بد لمريد الصلاة من أن يكون بين تطهره وبين صلاته مُهلة من الزمان؛ فإِذ لا يمكن غير ذلك فمن حدّ في قدْر تلك المهلة حدّاً فهو مبطل؛ لأنه يقول من ذلك ما لم يأت به قرآن ولا سنّة ولا إِجماع ولا قياس ولا قول صاحب؛ فإِذ هذا كما ذكَرنا؛ فلا ينقض الطهارة بالوضوء ولا بالتيمّم: طول تلك المهلة ولا قِصَرها وهذا في غاية البيان، والحمد لله رب العالمين" (¬2). وقال في موطن آخر (22/ 33): "وكلّ ما يباح بالماء يباح بالتيمّم". وذكَر لي شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى- " أنَّ كلَّ أحكام التيمُّم تنسحب على أحكام الوضوء، إلاَّ أن وجود الماء يُبطله". اهـ. والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَر المستحاضة أن تتوضّأ لكلّ صلاة؛ ولم يأمر مَن فقَد الماء أن يتيمّم لكلّ صلاة. والخلاصة: إِن التيمُّم بدل من الماء عند عدمه؛ فيباح به الصلاة وغيرها، ¬

_ (¬1) "المحلّى" (2/ 175). (¬2) "المحلى" (2/ 180) (المسألة 237).

اشتراط طهارة الصعيد للمتيمم:

ويصلّي بالتيمّم الواحد ما تيسَّر له من الفرائض والنوافل، كما لا يشترط دخول الوقت فيتيمّم قبل دخول الوقت، ولا يبطل بخروج الوقت. اشتراط طهارة الصعيد للمتيمّم: لا بُدَّ من طهارة الصعيد للمتيمّم وإِنْ ضرب بيده غير طاهر لم يجْزه، لقوله تعالى: {فَتَيَمَّموا صَعِيداً طيباً}. والنجس ليس بطيّب. وفي الحديث: "جُعلت لي كلّ أرض طيبة مسجداً وطهوراً" (¬1). قال في "المغني" (1/ 260) (¬2): "وإن كان ما ضرب بيده غير طاهر لم يجزه. لا نعلم في هذا خلافاً، وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. ولنا قول الله تعالى: {فَتَيَمَّموا صَعِيداً طيِّباً} والنجس ليس بطيِّب، ولأن التيمُّم طهارة، فلم يَجُز بغير طاهر كالوضوء ... ". جواز تيمّم جماعة من موضع واحد: يجوز تيمّم جماعة من موضع واحد؛ لأنَّ القول بطهورية الصعيد المستعمل؛ كالقول بطهورية الماء المستعمل (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" والضياء، ورواه ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 12)، وابن الجارود بإِسناد صحيح عن أنس كما ذكر الحافظ في "الفتح" (1/ 438) (كتاب: التيمُّم)، وقال شيخنا: إِسناده صحيح على شرط مسلم، وهو في "الإرواء" (152) التحقيق الثاني. (¬2) بحذف يسير. (¬3) تقدّم.

صحة اقتداء المتوضئ بالمتيمم:

قال في "المغني" (1/ 260): "ويجوز أن يتيمّم جماعة من موضع واحد بغير خلاف؛ كما يجوز أن يتوضّأ جماعة من حوض واحد ... ". إِذا كان التراب على بساط أو ثوب؛ فلا مانع من التيمُّم به، وذكر ذلك ابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 132). صحَّة اقتداء المتوضّئ بالمتيمّم: لحديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فقد أمَّ قومه بعد أن تيمّم من الجنابة كما تقدّم (¬1). وبه استدلَّ الشوكاني في "نيل الأوطار" (1/ 325). وأيضاً لأنَّ التيمُّم يقوم مقام الماء مطلقاً كما تقدّم. وجاء في البخاري: "وأَمَّ ابن عباس وهو متيمّم" (¬2). قال مالك في "الموطأ": "من قام إِلى الصلاة فلم يجد ماءً فعمل بما أمره الله به من التيمُّم، فقد أطاع الله عزّ وجلّ، وليس الذي وجد الماء بأطهر منه ولا أتمّ صلاة؛ لأنهما أُمِرا جميعاً؛ فكلُّ عمل بما أمره الله عزّ وجلّ به؛ وإِنّما العمل بما أمر الله تعالى به من الوضوء؛ لمن وجد الماء والتيمّم لمن لم يجد الماء قبل أن يدخل في الصلاة". عدم الإِعادة لمن صلّى بالتيمّم وإِن لم يفت الوقت: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خرج رجلان في سفر، ¬

_ (¬1) ذكره البخاري معلّقاً بصيغة الجزم، وقال الحافظ في "الفتح" (1/ 446): "وصله ابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهما، وإسناده صحيح". (¬2) انظر الحاشية السابقة.

فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمّما صعيداً طيباً فصلَّيا، ثمَّ وجد الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يُعِد الآخر، ثمَّ أتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرا ذلك له فقال للذي لم يُعد: "أصبْت السنّة وأجزأَتْك صلاتك"، وقال للذي توضّأ وأعاد: "لك الأجر مرتين" (¬1). وهذا يُرجِّح عدم الإِعادة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن لم يُعِد، "أصبْتَ السنّة وأجزأتك صلاتك"، وهذا يُفهم أن الثاني قد أخطأ السنّة، وأما أجر المرتين؛ فعلى الصلاة وإِعادتها بالاجتهاد، والله أعلم. وبعد أن عرفْنا السُّنّة الصحيحة في هذا الأمر؛ فلا يجوز لنا أن نُخالف عنها. وفي الحديث: "لا تُصلّوا صلاة في يوم مرتين" (¬2). قال في "نيل الأوطار" (1/ 325) -تعليقاً على حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه-: استدل بهذا الحديث الثوري ومالك وأبو حنيفة وابن المنذر، على أنَّ مَن تيمّم لشدة البرد وصلّى لا تجب عليه الإِعادة، لأنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمره بالإِعادة، ولو كانت واجبة لأمره بها، ولأنَّه أتى بما أُمر به وقدر عليه، فأشبه سائر من يصلّي بالتيمّم ... ". وعن عمران قال: "كنّا في سفَر مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإِنَّا أسرينا حتى كُنّا في آخر الليل؛ وقعنا وقعة ولا وقعةَ أحلى عند المسافر منها، فما أيقَظَنا إلاَّ حرّ الشمس، فذكر بعض الحديث وقال: ونودي بالصلاة فصلّى بالناس، فلما ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (327)، وابن السكن وغيرهما، وانظر "المشكاة" (533). (¬2) أخرجه أحمد، وغيره وإسناده حسن كما قال شيخنا في "المشكاة" (1157)، وصححه النووي وابن السكن، وهو في "صحيح سنن أبي داود" (540).

انفتل من صلاته؛ إِذا هو برجل معتزلٍ، لم يصلِّ مع القوم قال: ما منعك يا فلان أن تصلّي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد، فإِنَّه يكفيك. ثمَّ سار النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاشتكى إِليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلاناً كان يُسمِّيه أبو رجاء -نسيهُ عَوْفٌ- ودعا عليّاً فقال: اذهبا فابتغيا الماء بين مزادتين (¬1) أو سطيحتين من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة ونفرْنا خُلُوفاً (¬2)، قالا لها: انطلقي إِذاً، قالت: إِلى أين؟ قالا: إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالت: الذي يُقال له الصَّابيُّ. قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي فجاءا بها إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحدَّثاه الحديث قال: فاستنزلوها عن بعيرها ودعا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإِناء ففُرّغ فيه من أفواه المزادتين أو سطيحتين، وأوكأ أفواههما، وأطلق العزاليَ (¬3)، ونودي في الناس اسقوا واستقوا، فسقى مَن شاء واستقى مَن شاء، وكان آخر ذاك أن أعطي الذي أصابته الجنابة إِناء من ماء، قال: اذهب فأفرِغه عليك" (¬4). ¬

_ (¬1) المزادة: بفتح الميم: قربة كبيرة يزاد فيها جلد من غيرها، وتسمّى أيضاً السطيحة، وجاء في "النهاية": السطيحة من المزاد: ما كان من جلدين قوبل أحدهما بالآخر، فسُطح عليه وتكون صغيرة وكبيرة، وهي من أواني المياه. (¬2) " ... أي أنَّ رجالها تخلفوا لطلب الماء ... قال ابن فارس: الخالف: المستقي، ويقال أيضاً لمن أناب، ولعلّه المراد هنا، أي أنَّ رجالهما غابوا عن الحيّ". "فتح". (¬3) جمع العزلاء، وهو فم المزادة الأسفل. "النهاية". (¬4) أخرجه البخاري مطولاً: 344، وابن خزيمة مختصراً: 271

شراء الماء للوضوء وعدم التيمم:

قال ابن خزيمة -بعد أن ذكَر هذا الحديث-: "ففي هذا الخبر أيضاً دلالة على أنَّ المتيمّم إِذا صلّى بالتيمّم، ثمَّ وجد الماء فاغتسَل إِنْ كان جُنباً أو توضّأ إِن كان مُحدِثاً -لم يجب عليه إِعادة ما صلّى بالتيمّم. إِذ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر المصلي بالتيمّم؛ لمّا أمره بالاغتسال بإِعادة ما صلّى بالتيمّم" (¬1). جاء في "المحلّى" (2/ 165): "وعن مالك عن نافع أنَّه أقبل مع ابن عمر من الجرف، فلما أتى المربد لم يجد ماء، فنزل فتيمّم بالصعيد، وصلّى ثمَّ لم يُعِد تلك الصلاة (¬2)، وهو قول داود وأصحابنا". قال ابن قدامة في "المغني" (1/ 243): "إِنْ تيمّم في أول الوقت وصلّى أجزأه؛ وإِنْ أصاب الماء في الوقت". وأورد حديث: "لك الأجر مرتين" (¬3). شراء الماء للوضوء وعدم التيمُّم: اختلف أهل العلم في هذه المسألة، فمنهم من رأى جواز شراء الماء للوضوء، ومنهم من لم ير للنصوص المانعة من بيع الماء (¬4). والراجح الجواز؛ لقول الله تعالى: { ... فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا} (¬5). "وهذا واجبٌ فإِنَّ القدرة على ثمن العين؛ كالقدرة على العين" (¬6). ¬

_ (¬1) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 137). (¬2) انظر "الموطأ" (48) رواية محمد بن الحسن الشيباني. (¬3) تقدّم. (¬4) منهم ابن حزم في "المحلى" (2/ 182) (مسألة 241). (¬5) النساء: 43 (¬6) قاله ابن قدامة في "المغني" (1/ 240).

هل هناك مسافة معينة في البحث عن الماء؟

قال في "المغني" (1/ 240): "وإِنْ وجَده يباع بثمن مِثْله في موضعه أو زيادة يسيرة يقدر على ذلك؛ مع استغنائه عنه لقوَّته ومؤنة سفره لزِمَه شراؤه، وإِنْ كانت الزّيادة كثيرة تجحف بماله؛ لم يلزم شراؤه لأنَّ عليه ضرراً ... ". وقال لي شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى-: "من شأن الشخص أن يبذُل المال في الأمور الدنيوية؛ فهذا أولى". هل هناك مسافة معيَّنة في البحث عن الماء؟ لم يرِدْ في هذا نصٌّ معين، وسأَلتُ شيخنا -حفظه الله تعالى- عن ذلك فأجاب: "إِنَّ ضابط الأمر هو الاستطاعة والقدرة وعدم خروج الوقت في البحث". مَن وجد ما يكفي بعض طهارته يستعمله ويتيمّم للباقي: قال الله تعالى: {فاتَّقُوا الله ما اسْتَطَعْتُم} (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا أمرْتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2). قال الإِمام الشوكاني -رحمه الله- عقب هذا الحديث في "نيل الأوطار" (1/ 329): "هذا الحديت أصْلٌ من الأصول العظيمة، وقاعدة من قواعد الدين النّافعة، وقد شهد له صريح القرآن، قال الله تعالى: ¬

_ (¬1) التغابن: 16 (¬2) أخرجه البخاري: 7288، ومسلم: 1337، وغيرهما.

الصلاة بدون وضوء أو تيمم:

{فاتَّقُوا الله ما اسْتَطَعْتُم} فلك الاستدلال بالحديث على العفو عن كلّ ما خرج عن الطاقة، وعلى وجوب الإِتيان لما دَخل تحت الاستطاعة من المأمور به، وأنَّه ليس مجرَّد خروج بعضه عن الاستطاعة موجب للعفو عن جميعه. وقد استدلّ به المصنف على وجوب استعمال الماء الذي يكفي لبعض الطهارة وهو كذلك". وفي بعض ألفاظ روايات حديث عمرو بن العاص المعروف: "فَغَسل مغابنه وتوضّأ وضوءه للصلاة، ثمَّ صلّى بهم، فذكر نحوه، ولم يذكر التيمُّم" (¬1). قال أبو داود: وروى هذه القصة عن الأوزاعي، عن حسّان بن عطية، قال فيه: "فتيمّم". قال في "المغني" (1/ 261): "إِذا كان به قرْح أو مرض مخوف وأجنب فخشي على نفسه إِن أصاب الماء غسَلَ الصحيح من جسده، وتيمّم لما لم يُصبه الماء". الصلاة بدون وضوء أو تيمّم: من كان محبوساً أو مصلوباً وحِيل بينه وبين التراب والماء؛ فليصلِّ كما هو. عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (324)، والدارقطني وغيرهما وانظر "الإِرواء" (154)، وتقدم.

فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلَّوا، فشكَوا ذلك إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأنزل الله آية التيمُّم ... " (¬1). قال البخاري -رحمه الله- (باب إِذا لم يجد ماءً ولا تُراباً) (¬2)، وأورد حديث عائشة -رضي الله عنها-. قال ابن رشيد تعليقاً على تبويب البخاري السابق: "كأنّ المصنف نزَّل فقْد شرعيَّة التيمُّم منزلة فقد التراب بعد شرعيَّة التيمُّم، فكانَّه يقول: حُكْمهم في عدم المطهّر -الذي هو الماء خاصّة- كحكمنا في عدم المطهّرَيْن: الماء والتراب، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة؛ لأنَّ الحديث ليس فيه أنّهم فقدوا التراب، وإِنّما فيه أنّهم فقدوا الماء فقط؛ ففيه دليل على وجوب الصلاة لفاقد الطهورَين، ووجهُهُ أنّهم صلَّوا معتقدين وجوب ذلك، ولو كانت الصلاة حينئذ ممنوعة لأنكر عليهم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبهذا قال الشافعي وأحمد وجمهور المحدِّثين وأكثر أصحاب مالك ... " (¬3). قال ابن حزم في "المحلّى" (2/ 188): "ومن كان محبوساً في حضر أو سفر بحيث لا يجد تراباً ولا ماء، أو كان مصلوباً وجاءت الصلاة -فليصلِّ كما هو، وصلاته تامّة ولا يعيدها- سواءٌ وُجد الماء في الوقت أو لم يجده إلاَّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 336، ومسلم: 367، وغيرهما، وتقدّم. (¬2) انظر "صحيح البخارى" (1/ 92). (¬3) انظر "الفتح" (1/ 440).

بعد الوقت". برهان ذلك قول الله تعالى: {فاتَّقُوا الله ما اسْتَطَعْتُم} (¬1). وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وسْعَها} (¬2)، وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أمرتكم بأمر فأْتوا منه ما استطعتم" (¬3)، وقوله تعالى: {وقد فَصَّل لكم ما حرَّم عليكُم إِلاَّ ما اضطررتم إِليه} (¬4). فصحّ بهذه النصوص أنَّه لا يلزمنا من الشرائع إِلا ما استطعنا، وأنَّ ما لم نستطعه فساقطٌ عنّا. وصحّ أنَّ الله تعالى حرّم علينا ترك الوضوء أو التيمُّم للصلاة؛ إلاَّ أن نضطرَّ إِليه، والممنوع من الماء والتراب مضطرٌّ إِلى ما حُرّم عليه من ترْك التطهُّر بالماء أو التراب، فسقط عنّا تحريم ذلك عليه، وهو قادر على الصلاة بتوفيتها أحكامها وبالإِيمان، فبقي عليه ما قَدِر عليه، فإِذا صلّى كما ذكَرنا، فقد صلّى كما أمَره الله تعالى، ومن صلّى كما أمره الله تعالى؛ فلا شيء عليه ... ". وجاء في "المنتقى" (1/ 237): (باب الصلاة بغير ماء ولا تراب عند الضرورة) وأورد الحديث نفسه. ¬

_ (¬1) التغابن: 16 (¬2) البقرة: 286 (¬3) أخرجه البخاري: 7288، ومسلم: 1337، وغيرهما، وتقدّم. (¬4) الأنعام: 119

هل يتيمم إذا كان قادرا على استعمال الماء، وخشي خروج الوقت باستعماله؟

هل يتيمّم إِذا كان قادراً على استعمال الماء، وخشي خروج الوقت باستعماله؟ قال شيخنا في الردِّ على الشيخ السيد سابق -حفظهما الله تعالى-: "والذي يتبيَّن لي خلافه (¬1)، وذلك لأنَّه من الثابت في الشريعة أنَّ التيمُّم إِنّما يشرع عند عدم وجود الماء بنصِّ القرآن الكريم، وتوسَّعت في ذلك السنّة المطهرة فأجازَتْه لمرض أو برد شديد كما ذكَره المؤلّف، فأين الدليل على جوازه مع قدرته على استعمال الماء؟ فإِن قيل: هو خشية خروج الوقت، قلتُ: هذا وحده لا يصلُح دليلاً، لأنَّ هذا الذي خشي خروج الوقت له حالتان لا ثالث لهما: إِمّا أن يكون ضاق عليه الوقت بكسبه وتكاسُله، أو بسببٍ لا يملكه مِثل النَّوم والنسيان، ففي هذه الحالة الثانية؛ فالوقت يبتدئ من حين الاستيقاظ أو التذكُّر بقدر ما يتمكن من أداء الصلاة فيه كما أُمِر، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "من نسي صلاة أو نام عنها فكفَّارتها أن يصلِّيها إِذا ذكرها". أخرجه الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم، فقد جعل الشارع الحكيم لهذا المعذور وقتاً خاصّاً به، فهو إِذا صلّى كما أمر، يستعمل الماء لغسله أو وضوئه، فليس يخشى عليه خروج الوقت، فثبَت أنّه لا يجوز له أن يتيمّم، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية كما في "الاختيارات" (ص12)، وذكَر في "المسائل الماردينية" (ص 65) أنَّه مذهب الجمهور. وأمّا في الحالة الأولى؛ فمن المسلَّم أنَّه في الأصل مأمور باستعمال الماء ¬

_ (¬1) أي: أنَه لا يجوز التيمّم؛ لأن الشيخ السيد سابق -حفظه الله- يرى جواز ذلك، كما في "فقه السنّة" (1/ 79).

هل يكره لعادم الماء جماع زوجته؟

وأنه لا يتيمّم، فكذلك يجب عليه في هذه الحالة أن يستعمل الماء، فإِنْ أدرك الصلاة فبها، وإِنْ فاتته فلا يلومنّ إلاَّ نفسه، لأنَّه هو الذي سعى إِلى هذه النتيجة. هذا هو الذي اطمأنّت إِليه نفسي، وانشرح له صدري، وإِنْ كان شيخ الإِسلام وغيره قالوا: إِنّه يتيمّم ويصلِّي (¬1)، والله أعلم. ثمَّ رأيت الشوكاني كأنّه مال إِلى هذا الذي ذكَرته فراجع "السيل الجرّار" (1/ 126 - 127) " (¬2) انتهى. قلت: قال الشوكاني -رحمه الله- في "الدراري المضيّة" (1/ 86): "وأمّا ما قيل من أنّ فوات الصلاة باستعمال الماء وإِدراكها بالتيمّم سبب من أسباب التيمُّم؛ فليس على ذلك دليل؛ بل الواجب استعمال الماء، وهو إِن كان تراخيه عن تأدية الصلاة إِلى ذلك الوقت لعذر مسوغ للتأخير كالنوم والسهو ونحوهما؛ فلم يوجب الله تعالى عليه إِلا تأدية الصلاة في ذلك الوقت بالطهور الذي أوجبه الله تعالى عليه، وإِن كان التراخي لا لعذر إِلى وقت لو استعمل الوضوء فيه؛ لخرج الوقت فعليه الوضوء، وقد باء بإِثم المعصية". هل يُكره لعادم الماء جماع زوجته؟ لا يُكره ذلك لقول أبي ذرّ للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كنت أعزُب (¬3) عن الماء، ومعي ¬

_ (¬1) قد سبق قوله -رحمه الله- في "الاختيارات"، ولكنّه في عدة مواطن من "الفتاوى" رجَّح الرأي الآخر. (¬2) انظر "تمام المنَّة" (132، 133). (¬3) أي: أُبعِد. "النهاية".

أهلي؛ فتصيبني الجنابة، فأصلّي بغير طهور، فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنصف النهار وهو في رهطٍ من أصحابه، وهو في ظلِّ المسجد، فقال: أبو ذرّ؟ فقلت: نعم، هلكْتُ يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قلت: إِنّي كنتُ أعزب عن الماء، ومعي أهلي فتصيبني جنابة، فأصلّي بغير طهور. فأمر لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بماء، فجاءت به جارية سوداء بعُس (¬1) يتخضخض ما هو بملآن، فتستَّرْتُ إِلى بعيري فاغتسلْت، ثمَّ جئتُ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا أبا ذر إِنَّ الصعيد الطيّب طَهور، وإِن لم تجد الماء إِلى عشر سنين، فإذا وجدْتَ الماء فأمسَّه جِلدك" (¬2). وروي عن ابن عبّاس في الرجل يكون مع أهله في السفر وليس معهم ماء؛ فلم ير بأساً أن يغشى أهله ويتيمّم (¬3). قال ابن المنذر -رحمه الله-: "وبهذا القول نقول؛ لأنَّ الله تعالى أباح وطي الزوجة وملك اليمين، فما أباح فهو على الإِباحة، لا يجوز حظْر ذلك ولا المنع منه إلاَّ بسنّةٍ أو إِجماع، والممنوع منه: حال الحيض والإِحرام والصيام، ¬

_ (¬1) العُسّ: القدح الكبير وجمعه عِساس وأعساس. "النهاية". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (322) وأحمد والترمذي، وانظر "المشكاة" (530)، والشطر الأخير منه تقدم تخريجه. قال في "نيل الأوطار" (1/ 326): "وذِكْر العشر سنين لا يدّل على عدم جواز الاكتفاء بالماء بعدها؛ لأنَّ ذِكرها لم يُرَد به التقييد، بل المبالغة؛ لأن الغالب عدم فُقدان الماء وكثرة وجدانه لشدة الحاجة إِليه، فعدَمُ وجدانه إنِّما يكون يوماً أو لبعض يوم. (¬3) "الأوسط" (2/ 17).

وحال المظاهر قبل أن يكفّر، وما وقع بتحريم الوطي منه بحجَّة، فأمّا كل مختلف فيه في ذلك، فمردود إِلى أصل إِباحة الكتاب الوطي، قال الله تعالى: {فإِذا تَطَهَّرنَ فَأْتُوهنَّ من حَيْثُ أَمَرَكم الله} (¬1). وقد جعل التيمُّم طهارة لمن لم يجد الماء، ولا فرق بين من صلّى بوضوء عند وجود الماء، وبين من صلّى بتيمّم حيث لا يجد الماء؛ إِذ كلٌّ مؤدِ ممَّا فُرضَ عليه" (¬2). قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (2/ 192) (مسألة 247): "ومن كان في سفر ولا ماء معه، وكان مريضاً يشقّ عليه استعمال الماء؛ فله أن يُقبِّل زوجته ويطأها، وهو قول ابن عباس وجابر بن زيد والحسن البصري وسعيد بن المسيب، وقتادة وسفيان الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإِسحاق وداود وجمهور أصحاب الحديث". وذكَر أقوالاً وتفصيلات أخرى لبعض السلف. وبوَّب لذلك أبو البركات -رحمه الله- في "منتقى الأخبار" (1/ 325): (باب الرُّخصة في الجماع لعادم الماء) وذكر حديث أبي ذر -رضي الله عنه-. قال لي شيخنا -حفظه الله تعالى- بعد إِيراد حديث أبي ذر -رضي الله عنه- فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإِن لم تجد الماء إِلى عشر سنين"؛ يُفهِم أنَّه لا يمكن ¬

_ (¬1) البقرة: 222. (¬2) "الأوسط" (2/ 17).

أن يترك جِماعها في هذه المدّة؛ فلمن لم يجد الماء في غير سفر أن يجامع أهله فيتيمّم".

الحيض والنفاس

الحيض والنِّفاس الحيض تعريفه: الحيض: "دم يرخيه الرّحم، إِذا بَلَغت المرأة، ثمَّ يعتادها في أوقاتٍ معلومة" (¬1). جاء في "حلية الفقهاء" (ص63): "الحيض: نزول دم المرأة لوقتها المعتاد، ومن العرب من تُسمِّي الحائض النّفساءَ، وإِنَّما سُمِّيت بذلك لسيلان (¬2) النَّفْس، والدَّم يُسمَّى نَفْساً". قال الشاعر: تسيلُ على حدِّ الظبات (¬3) نفوسُنا ... وليست على غير السيوف تَسيلُ. وقته: "ليس في السنَّة تحديد لسنِّ البنت التي تحيض، وينبغي أن يُنظر إِلى ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 313)، وانظر ما جاء في "الفتح"، و"المحلى" (2/ 220) و"المجموع" (3/ 342). (¬2) والحيض أصْله السَّيلان، قال في "القاموس": "حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً ومحاضاً؛ فهي حائض، وحائضة: سال دمها، والمحيض: اسم ومصدر، ومنه الحوض؛ لأنَّ الماء يسيل إليه". (¬3) مفرد الظُّبّة: وهو حدُّ السيف والسنان والخنجر وما أشبههما. وانظر "الوسيط".

لونه:

صفة دم الحيض الطارئ، لا سيَّما أنَّ ربط حُكم شرعيّ بسنَة مُعيَّنة؛ قد لا يكون ربطاً بمعروف محدود. وهناك عائلات كثيرة لا تُسجِّل في الذِّهن أو الورق سَنَة الولادة أو الوفاة، فقد لا تعلم البنت أو الأمّ كم مضى من عمُرها، فليس من المعقول أن يأتي الشرع بشيء لا يُمكن، وقد قال عليه الصلاة السلام: "إذا كان دم الحيض فإِنَّه أسود يُعرَِف (¬1) " (¬2). وإِلى هذا ذهب الدارمي وغيره، فقد قال بعد ذكر الاختلافات: "كل هذا عندي خطأ؛ لأن المرجع في جميع ذلك إِلى الوجود (¬3)، فأيّ قَدْر وُجد في أيّ حال وسنّ، كان وجب جعله حيضاً، والله أعلم" (¬4). لونه: أ- السواد: لحديث فاطمة بنت حبيش -رضي الله عنها- أنَّها كانت تُستحاض، فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا كان دم الحيض؛ فإِنَّه أسود يُعرَف؛ فأمسِكي عن الصَّلاة، فإِذا كان الآخر؛ فتوضّئي إِنما هو عرْق" (¬5). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه بعد سطور -إِن شاء الله-. (¬2) قاله لي شيخنا -حفظه الله تعالى-. (¬3) أي: وجود الدم. (¬4) "المجموع شرح المهذّب" (2/ 274). ونقله عنه الشيخ ابن عثيمين -حفظه الله- في كتابه "الدماء الطبيعية للنساء" (ص 6). (¬5) أخرجه أبو داود: 286، "صحيح سنن أبي داود" (263)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (350) والطحاوي في "مشكل الآثار" والدارقطني والحاكم =

قال في "نيل الأوطار" (1/ 342): "والحديث فيه دلالة على أنَّه يعتبر التمييز بصفة الدَّم، فإِذا كان متصفاً بصفة السواد فهو حيض، وإلاَّ فهو استحاضة". وبه يقول الشافعي -رحمه الله- وغيره في حقِّ المبتدئة. ب- الحُمرة. بر- الصُّفرة: "وهو الماء الذي تراه المرأة كالصديد يعلوه اصفرار" (¬1). د- الكُدرة: "وهو ما كان لونه ينحو نحو السَّواد" (¬2)، لحديث علقمة بن أبي علقمة عن أمِّه (¬3) مولاة عائشة -رضي الله عنها- أنَّها قالت: كان النِّساء يبعَثن إِلى عائشة أمّ المؤمنين بالدِّرَجَة (¬4) فيها الكُرسف (¬5)، فيه الصُّفرة من دم الحيض، يسألنها عن الصَّلاة، فتقول لهنَّ: لا تعجَلْن حتى ترَيْن القصَّة (¬6) البيضاء -تريد بذلك الطُّهر من الحيضة-" (¬7). ¬

_ = والبيهقي، وحسّنه شيخنا في "الإِرواء" (204). (¬1) قاله الحافظ في "الفتح" (1/ 426). (¬2) "المعجم الوسيط". (¬3) انظر ما ذكَره شيخنا في "الإرواء" (1/ 219): حول أمّ علقمة. (¬4) الدِّرَجَة؛ بكسر الدال وفتح الراء، جمع دُرْج: وهو السَّفط الصغير تضع فيه المرأة خِفَّ متاعها وطيبها، وقيل: إِنّما هو الدُّرَجَة تأنيث دُرْج ... "النهاية". (¬5) القطن. (¬6) هو أن تخرج القطنة أو الخرقة التي تحشي بها الحائض، كأنَّها قصَّة بيضاء لا يخالطها صُفرة. وقيل: القصة شيء كالخيط الأبيض، يخرج بعد انقطاع الدّم كله. "النهاية". (¬7) أخرجه مالك وعلّقه البخاري، وصححه شيخنا -حفظه الله- في "الإرواء" (198).

ومن طريق أخرى عن مولاة عائشة -رضي الله عنها- أيضاً بلفظ: "قالت: إِذا رأتِ الدَّم فلتُمسكْ عن الصَّلاة حتى تَرى الطُّهر أبيض كالفضَّة، ثمَّ تَسُلّ وتُصلّي" (¬1). والكدرة والصفرة لا تكون حيضاً إلاَّ في أيام الحيض، وفي غير ذلك لا تُعدّ حيضاً؛ لحديث أمّ عطيّة "كنَّا لا نعُد الصُّفرة والكُدرة بعد الطُّهر شيئاً" (¬2). فإِنَّه يدلّ بطريق المفهوم أنَّهنَّ كنَّ يعدُدْن ذلك قبل الطهر حيضاً. قال شيخنا في "تمام المنَّة في التعليق على فقه السنَّة" (ص 136): "والحديث (¬3) وإِن كان موقوفاً؛ فله حُكم المرفوع (¬4) لوجوه، أقواها أنَّه يشهد له مفهوم حديث أمّ عطيَّة المذكور في الكتاب (¬5) عقب هذا بلفظ: "كنَّا لا نعدُّ الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً"، فإنَّه يدلّ بطريق المفهوم أنَّهنَّ كنَّ يعتبرن ذلك قبل الطهر حيضاً، وهو مذهب الجمهور؛ كما قال الشوكاني. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي: (1/ 214) وإسناده حسن، وانظر "الإِرواء" (1/ 219). (¬2) أخرجه أبو داود: (307)، "صحيح سنن أبي داود" (300) والدارمي، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (529)، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وشيخنا في "الإرواء" (199)، ورواه غيرهم أيضاً، وأخرجه البخاري: 326، ولم يذكر "بعد الطهر". (¬3) أي: حديث: "كانت النساء يبعَثن إِلى عائشة بالدِّرجة فيها الكُرسف ... ". (¬4) قال في "سبُل السلام" (1/ 186): " (كُنَّا) له حُكم الرفع إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن المراد: كنا في زمانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع عِلمه؛ فيكون تقريراً منه، وهذا رأْي البخاري وغيره من علماء الحديث؛ فيكون حُجَّة". (¬5) أي: "فقه السنة".

مدته:

وكنتُ قديماً أرى أنَّ الحيض هو الدَّم الأسود فقط، لظاهر حديث فاطمة بنت حبيش -رضي الله عنها- المذكور في الكتاب، ثمَّ بدا لي وأنا أكتب هذه التعليقات؛ أنَّ الحقَّ ما ذكَره السيد سابق: أنَّه الحُمرة والصُّفرة والكُدرة أيضاً قبل الطهر؛ لهذا الحديث وشاهده، وبدا لي أيضاً أنَّه لا يعارضهما حديث فاطمة؛ لأنه وارد في دم الاستحاضة التي اختلط عليها دم الحيض بدم الاستحاضة، فهي تُميِّز بين دم الاستحاضة ودم الحيض بالسَّواد، فإِذا رأته تركَت الصَّلاة، وإِذا رأت غيره صلَّت، ولا يَحتَمل الحديث غير هذا، والله أعلم". وجاء في "المحلّى"، (2/ 229): "وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإِسحاق وعبد الرحمن بن مهدي: الصّفرة والكُدرة في أيّام الحيض حيض، وليست في غير أيّام الحيض حيضاً. وقال اللَّيث بن سعد: الدَّم والصُّفرة والكُدرة في غير أيام الحيض ليس شيء من ذلك حيضاً، وكلّ ذلك في أيام الحيض حيض". جاء في "المغني" (1/ 349): "والصُّفرة والكُدرة في أيَّام الحيض من الحيض؛ يعني إِذا رأت في أيام عادتها صُفرة أو كُدرة فهو حيض، وإنْ رأته بعد أيام حيضها لم يُعتدَّ به؛ نصَّ عليه أحمد وبه قال يحيى الأنصاري وربيعة ومالك والثوري والأوزاعي وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي وإسحاق". مدَّته: اختلف العلماء في أقلِّه وأكثره، فمِن قائل: أقلّ الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً، وقد رُوي هذا عن عطاء بن أبي رباح وأبي ثور، وروي عن

أحمد أنَّ أقلَّه يوم، وأنَّ أكثره سبعة عشر (¬1). قال الحافظ في "الفتح" (1/ 425): "اختلف العلماء في أقلّ الحيض وأقلّ الطهر، ونقل الداودي أنَّهم اتفقوا على أنَّ أكثره خمسة عشر يوماً، وقال أبو حنيفة: لا يجتمع أقل الطُّهر وأقلّ الحيض معاً، فأقل ما تنقضي به العدَّة عنده ستون يوماً، وقال صاحباه: تنقضي في تسعة وثلاثين يوماً؛ بناءً على أنَّ أقلَّ الحيض ثلاثة أيام، وأنَّ أقل الطّهر خمسة عشر يوماً، وأنَّ المراد بالقُرء الحيض، وهو قول الثوري، وقال الشافعي: القُرء: الطُّهر، وأقله خمسة عشر يوماً، وأقل الحيض يوم وليلة ... ". "ويُذكر عن عليّ وشُريح (¬2) إِن امرأة جاءت ببيّنة من بطانة أهلها، ممّن يُرضى دينُه أنَّها حاضت ثلاثاً في شهر صُدِّقت. وقال عطاء (¬3): الحيض يومٌ إِلى خمسَ عشرة". ¬

_ (¬1) انظر "الشرح الكبير" (1/ 320). (¬2) قال شيخنا في "المختصر" (1/ 91): "وصله الدارمي (1/ 212 - 213) بسندٍ صحيح عنهما به نحوه، وفيه قصَّة". وسياق هذه القصّة ما رواه الشعبي أنَّه "جاءت امرأة إِلى عليّ تُخاصِم زوجها طلقها، فقالت: حِضت في شهر ثلاث حِيَض، تطهر عند كلِّ قرء، وتصلّي جاز لها، وإلاَّ فلا، قال علي: قالون". قال الحافظ (1/ 425): قال "وقالون بلسان الروم: أحسنت، فهذا ظاهر في أنَّ المراد أن يشهد له بأنَّ ذلك وقع منها". (¬3) قال الحافظ (1/ 425): وصله الدارمي بإِسناد صحيح، قال: أقصى الحيض خمس عشرة، وأدنى الحيض يوم". وقال شيخنا في "المختصر" (1/ 91): وصله الدارمي (1/ 210 - 211) مفرّقاً =

والحقّ أنَّه لم يأتِ في تحديد مدّة الحيض ما ينهض للاحتجاج، وتحديد ذلك يعود للمرأة، ويكون على حالات، كما سيأتي قريباً -إِن شاء الله تعالى-. قال في "المغني" (1/ 321): "ولنا أنَّه ورد في الشرع مطلقاً من غير تحديد، ولا حدَّ له في اللغة ولا في الشريعة؛ فيجب الرّجوع فيه إِلى العُرف والعادة ... ". ثمَّ ذكر حالات نادرة عن علماء السلف في الحيض والطهر. ثمَّ قال: " ... وقولهنَّ يجب الرجوع إِليه لقوله تعالى: {ولا يحلّ لهنَّ أن يكتُمن ما خَلَقَ الله في أرحامهنَّ} (¬1) فلولا أنَّ قولهنَّ مقبول ما حرَّم عليهنَّ الكِتمَان، وجرى ذلك مجرى قوله: {ولا تكتموا الشَّهادة} (¬2) ... ". قال الحافظ في "الفتح" (1/ 425) بعد إِيراد قوله تعالى: {ولا يحلّ لهنَّ أن يكتُمن ما خَلَقَ اللهُ في أرحامهنَّ}: "وقد روى الطبري بإِسناد صحيح عن الزُّهري قال: بلغنا أنَّ المراد بما خلق الله في أرحامهن: الحمل والحيض؛ فلا يحلّ لهنَّ أن يكتمن ذلك لتنقضي العدَّة، ولا يملك الزوج الرجعة إِذا كانت له. وروى أيضاً بإِسناد حسن عن ابن عمر قال: "لا يحلّ لها إِنْ كانت حائضاً أن تكتم حَيْضتها، ولا إِن كانت حاملاً أن تكتم حَمْلَها". ¬

_ = نحوه، وسند "اليوم" حسن، وسند الباقي صحيح. (¬1) البقرة: 228 (¬2) البقرة: 283

ومطابقة الترجمة للآية؛ من جهة أنَّ الآية دالَّة على أنَّها يجب عليها الإِظهار، فلو لم تُصدَّقْ فيه لم يكن فيه فائدة. قال معتمر عن أبيه: سألتُ ابنَ سيرين عن المرأة ترى الدَّم بعد قُرئها بخمسة أيّام؟ قال: النِّساء أعلم بذلك" (¬1). ¬

_ (¬1) ذكر الحافظ في "الفتح" (1/ 425) وَصْل الدارمي له وصحح شيخنا إِسناده في "المختصر" (1/ 91).

النفاس

النِّفاس تعريفه: هو سيلان الدَّم من رَحِم المرأة بسبب الولادة (¬1). مدَّته: أكثره أربعون يوماً لحديث أمّ سلمة -رضي الله عنها- قالت: "كانت المرأة من نساء النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقعد في النِّفاس أربعين ليلة؛ لا يأمرها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقضاء صلاة النِّفاس" (¬2). وعنها بلفظ: "كانت النفساء على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً، أو أربعين ليلة ... " (¬3). قال أبو عيسى الترمذي: "أجمع أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين ومن بعدهم، على أنَّ النُّفساء تَدَعُ الصَّلاة أربعين يوماً؛ إِلا أن ترى ¬

_ (¬1) مضى في (باب الحيض)،" ... سُمِّيت بذلك لسيلان النّفس، والدم يُسمى نفْساً". جاء فى "كفاية الأخيار" (1/ 75): وفي اصطلاح الفقهاء ... ويسمّى هذا الدّم نفاساً؛ لأنَّه يخرج عَقِب نفَس. (¬2) أخرجه أبو داود والحاكم، وصحح النووي إِسناده في "المجموع"، ووافقه الذهبي، وحسَّن شيخنا إِسناده في "الإرواء" (201). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (304)، والترمذي والدارمي وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي وأحمد، وهو في "الإرواء" (201).

حكم النفاس حكم الحيض في كل شيء

الطُّهر قبل ذلك؛ فإِنَّها تغتسل وتصلّي، فإِذا رأت الدَّم بعد الأربعين؛ فإِنَّ أكثر أهل العلم قالوا لا تدَع الصَّلاة بعد الأربعين، وهو قول أكثر الفقهاء، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإِسحاق". وقال أبو عبيد: "وعلى هذا جماعة النَّاس، وروي هذا عن عمرو بن عباس وعثمان بن أبي العاص وعائذ بن عمرو وأنس وأمّ سلمة -رضي الله عنهم- وبه قال الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي ... " (¬1). وليس لأقلّه حدٌّ؛ أي وقت رأت الطُّهر اغتسلت وهي طاهر. وبهذا قال الثوري والشافعي. وقال مالك والأوزاعي وأبو عبيد: "إِذا لم ترَ دماً تغتسل وتصلّي". قال في "المغني" (1/ 359): "ولنا أنَّه لم يَرِد في الشرع تحديده؛ فيرجع فيه إِلى الوجود، وقد وُجد قليلاً وكثيراً ... ". قال لي شيخنا -حفظه الله تعالى-: "تمكُث المرأة أربعين يوماً نفساء، وإذا استمرَّ الدَّم بعد ذلك تُعدّ مستحاضة، وإذا طهُرت قبل الأربعين؛ فقد طهُرت إِذا رأت القصَّة البيضاء؛ كما هو معروف بالحيض". حُكم النفاس حُكم الحيض في كلّ شيء قال في "المحلّى" (مسألة 261): "ودم النفاس يمنع ما يمنع منه دم الحيض؛ هذا لا خلاف فيه عن أحد ... وحكمه حُكم الحيض في كلّ شيء، لقولِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة: ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 358).

ما يحرم على الحائض والنفساء

"أنَفِسْتِ؟ قالت: نعم"، فسمَّى الحيض نفاساً؛ وكذلك الغُسل منه واجب بإِجماع". ما يحرُم على الحائض والنّفساء 1 - الصّلاة (¬1): وتقدَّم حديث أمّ سلمة -رضي الله عنها- في ذلك، وفي حديث فاطمة بنت حبيش: " ... فإِذا أقبلَت الحيضة فاتركي الصَّلاة". 2 - الطَّواف: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة -رضي الله عنها- حين حاضت: "هذا شيء كَتَبَه الله على بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري" (¬2). قال في "سبل السلام" (1/ 190): "وفيه دليل على أنَّ الحائض يصحّ منها جميع أفعال الحج غير الطواف بالبيت، وهو مُجمَع عليه". 3 - الصَّوم (¬3): لحديث أبي سعيد الخُدريّ -رضي الله عنه- قال: " خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أضحى -أو في فطرٍ - إِلى المصلّى، فمرّ على النساء فقال: يا معشر النَّساء تصدَّقن، فإِني أُريتكنَّ أكثر أهل النَّار، ¬

_ (¬1) انظر "المنتقى" (باب الحائض لا تصوم ولا تصلي وتقضي الصوم دون الصلاة)، "نيل الأوطار" (1/ 353) وأيضاً (باب سقوط الصلاة عن النفساء) (1/ 359). وقال في "سبل السلام" (1/ 189) بعد حديث أبي سعيد: "وهو إِخبار يفيد تقريرها على ترك الصوم والصلاة، وكونهما لا يجِبان عليها، وهو إِجماع في أنهما لا يجِبان حال الحيض، ويجب قضاء الصوم لأدلة أُخر". (¬2) أخرجه البخاري: 305، ومسلم: 1211 (¬3) انظر الحاشية المتقدمة في التعليق على الأمر الأول "الصلاة".

فقلن: وبمَ يا رسول الله؟ قال: تُكثرن اللّعنَ وتكفُرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقْل ودين أذهب لِلُبّ الرجل الحازم من إِحداكنّ، قُلن: وما نقصان ديننا وعقْلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مِثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عَقْلها، أليس إِذا حاضت لم تصلِّ ولم تصُم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها" (¬1). قال في "نيل الأوطار" (1/ 354): "نقلَ ابن المنذر والنووي وغيرهما إِجماع المسلمين؛ على أنَّه لا يجب على الحائض قضاء الصَّلاة، ويجب عليها قضاء الصيام ... ". وقال النووي -رحمه الله تعالى- في "المجموع" (2/ 351): "ونقل الترمذي وابن المنذر وابن جرير وآخرون الإِجماع؛ أنَّها لا تقضي الصَّلاة وتقضي الصوم ... ". وقال -رحمه الله- أيضاً في "المجموع" (2/ 351): "قال أبو جعفر في كتابه "اختلاف الفقهاء": أجمعوا على أنَّ عليها اجتناب كلّ الصلوات فرْضها ونفلها، واجتناب جميع الصيام فرضه ونفله، واجتناب الطواف فرضه ونفله، وإنها إِن صلَّت أو صامت أو طافت؛ لم يجزها ذلك عن فرضٍ كان عليها". 4 - الوطء: قال الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذىً ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 304، ومسلم: 79

فاعتزلوا النِّساء في المحيض ولا تقربوهنَّ حتى يطُهُرن فإِذا تطهَّرن فأتوهنَّ من حيث أمَركُم الله إِنَّ الله يُحبّ التَّوابين ويحبّ المتطهرين} (¬1). عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أتى حائضاً أو امرأة في دُبُرها، أو كاهناً فصدَّقه بما يقول؛ فقد كفَر بما أُنزل على محمَّد" (¬2). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنَّ اليهود كانوا إِذا حاضت المرأة فيهم؛ لم يُؤاكلوها ولم يجامعوهنّ (¬3) في البيوت، فسأل أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذىً فاعتزلوا النِّساء في المحيض ... } إِلى آخر الآية". فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اصنعوا كلّ شيء إلاَّ النّكاح". فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدَع من أمرنا شيئاً إلاَّ خالفَنا فيه" (¬4). قال في "المحلّى" (2/ 220): "أمَّا امتناع الصَّلاة، والصوم، والطواف، والوطء في الفرج في حال الحيض؛ فإِجماع متيقّن مقطوع به، لا خلاف بين ¬

_ (¬1) البقرة: 222 (¬2) انظر "صحيح سنن أبي داود" (3304)، و"صحيح سنن ابن ماجه" (522)، و"صحيح سنن الترمذي" (116) وانظر "آداب الزفاف" (105). (¬3) أي: لم يخالطوهنّ ولم يساكنوهنّ في بيت واحد. "النووي". (¬4) أخرجه مسلم: 302، وغيره.

ما يحل للرجل من الحائض

أحدٍ من أهل الإِسلام فيه". وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (21/ 624): "وطء الحائض لا يجوز باتّفاق الأئمّة ... ". ما يحلُّ للرجل من الحائض "يجوز التمتع بما دون الفرج من الحائض، وفيه أحاديث: الأول: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... واصنعوا كلّ شيء إلاَّ النكاح (¬1) " (¬2). الثاني: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر إِحدانا إِذا كانت حائضاً أن تتَّزر، ثمَّ يُضاجعها زوجها، وقالت مرَّة: يباشرها (¬3) " (¬4). الثالث: عن بعض أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: إِنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان إِذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً [ثمَّ صنعَ ما أراد] " (¬5). ¬

_ (¬1) أي: الجماع. (¬2) تقدمّ تخريجه. (¬3) المراد هنا وطء المرأة خارج الفرج. (¬4) البخاري: 302، ومسلم: 293، وأبو عوانة في "صحيحه"، وأبو داود وهذا لفظه. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (242) والسياق له، وسنده صحيح على شرط مسلم، وصححه ابن عبد الهادي، وقوّاه ابن حجر، والبيهقي (1/ 314) والزيادة له. كذا قال شيخنا -حفظه الله- في "آداب الزفاف" (ص 125).

وقالت الصهباء بنت كريم: قلت لعائشة: "ما للرجل من امرأته إِن كانت حائضاً؟ قالت: كلّ شيء إلاَّ الجماع (¬1) " (¬2). وعن عمِّ حرام بن حكيم أنَّه سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: "لك ما فوق الإِزار" (¬3). وجاء في "المغني" (1/ 350): "ويستمتع من الحائض بما دون الفرج". قال في "سبل السلام" (1/ 188): " ... فأمَّا لو جامع وهي حائض؛ فإِنَّه يأثم إِجماعاً ... ". وذكر ابن حزم في "المحلّى" (2/ 249): حديث عائشة -رضي الله عنها- أنَّها قالت: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ناوليني الخُمرة (¬4) من المسجد، ¬

_ (¬1) قال شيخنا في "آداب الزفاف" (ص 224): رواه ابن سعد (8/ 485) وقد صحّ عنها مِثله في الصائم، وبيانه في "الأحاديث الصحيحة" (220 و221). (¬2) انظر "آداب الزفاف" (ص123 - 125) طبعة "المكتبة الإِسلامية"، والتخريجات كذلك، من نفس الكتاب. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (197). (¬4) جاء في "شرح النووي" (3/ 210): "أمّا الخُمْرة -فبضم الخاء وإسكان الميم- قال الهروي وغيره: هي هذه السجَّادة، وهي ما يضع عليه الرجل جزء وجهه في سجوده؛ من حصير أو نسيجة من خُوص [ورق النّخل وما شابهه] ... وقال الخطابي: هي سجادة يسجد عليها المصلي ... وسُميت خمرة لأنَها تخمر الوجه: أي: تغطيه وأصل التخمير التغطية، ومنه خمار المرأة، والخَمر لأنها تغطي العقل".

كفارة من جامع الحائض

فقلت: إِنّي حائض. فقال: "تناوَليها؛ فإِنَّ الحيضة ليست في يدك" (¬1). وذكر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضاً، قال: بينما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد فقال: "يا عائشة! ناوليني الثوب"، فقالت: إِني حائض. فقال: "حيضتك ليست في يدك، فناولتْه" (¬2). ثمَّ قال -رحمه الله-: فهما دليل أن لا يجتنب إلاَّ الموضع الذي فيه الحيضة وحده. ونقل شيخ الإِسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (21/ 624) اتفاق الأئمّة على تحريم وطء الحائض، كما تقدّم. كفّارة من جامع الحائض على من جامع الحائض أن يتصدَّق بدينار أو نصف دينار؛ لحديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: "يتصدَّق بدينار أو نصف دينار" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 298، وغيره. (¬2) أخرجه مسلم: 291، وغيره. (¬3) أخرجه أصحاب السنن "صحيح سنن أبي داود" (237)، و"صحيح سنن النسائي" (278)، و"صحيح سنن ابن ماجه" (523). والطبراني في "المعجم الكبير" وابن الأعرابي في "معجمه" والدارمي والحاكم والبيهقي بإِسناد صحيح على شرط البخاري، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وابن دقيق العيد، وابن التركماني، وابن القيّم، وابن حجر العسقلاني، كذا في "آداب الزفاف" (ص 122) ا. هـ. قلت: والظاهر أن دينار الذهب 4.25 غم -والله تعالى أعلم-.

متى يجوز إتيان الحائض إذا طهرت؟

قال شيخنا في "آداب الزفاف" (ص 123): "قال أبو داود في "المسائل" (26): "سمعت أحمد سُئل عن الرجل يأتي امرأته وهي حائض؛ قال: ما أحسن حديث عبد الحميد فيه! (قلت: يعني: هذا). قلت: وتذهب إِليه؟ قال: نعم؛ إِنَّما هو كفَّارة. قلت: فدينار أو نصف دينار؟ قال: كيف يشاء". وذهب إِلى العمل بالحديث جماعةٌ آخرون من السلف؛ ذكر أسماءهم الشوكاني في "النيل" (1/ 244) وقوَّاه. قلت: -أي شيخنا حفظه الله- ولعلَّ التمييز بين الدينار ونصف الدينار، يعود إِلى حال المتصدّق من اليسار أو الضّيق؛ كما صرَّحت بذلك بعض روايات الحديث؛ وإِنْ كان سنده ضعيفاً، والله أعلم". متى يجوز إِتيان الحائض إِذا طهُرت؟ قال في "روح المعاني" (2/ 122): " {حتى يطهُرن} والغاية انقطاع الدَّم عند الإِمام أبي حنيفة -رضي الله عنه- فإنْ كان الانقطاع لأكثر مدَّة الحيض حلَّ القربان بمجرَّد الانقطاع، أو إِنْ كان لأقلّ منها لم يحلّ إلاَّ بالاغتسال، أو ما هو في حُكمه من مضيّ وقت الصَّلاة، وعند الشافعية هي الاغتسال بعد الانقطاع، قالوا: ويدلُّ عليه صريحاً قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية ابن عباس (يطَّهرن) -بالتشديد- أى: (يتطهَّرن) والمراد به: يغتسلن، لا لأنَّ الاغتسال معنى حقيقي للتطهير؛ كما يوهمه بعض عباراتهم -لأنَّ استعماله فيما عدا الاغتسال شائع في الكلام المجيد

والأحاديت؛ على ما لا يخفى على المتتبّع -بل لأنَّ صيغة المبالغة يُستفاد منها الطهارة الكاملة، والطهارة الكاملة للنساء عن المحيض هو الاغتسال- فلمَّا دلّت قراءة التشديد على أنَّ غاية حرمة القربان هو الاغتسال، -والأصل في القراءات التوافق- حُملت قراءة التخفيف عليها، بل قد يُدّعى أنَّ الطهر يدلّ على الاغتسال أيضاً، بحسب اللغة. ففي "القاموس" طهُرت المرأة: انقطع دمها، واغتسلت من الحيض كتطهَّرت. وأيضاً قوله تعالى: {فإِذا تطهَّرن فأتوهنَّ} يدلّ التزاماً على أنَّ الغاية هي الاغتسال، لأنَّه يقتضي تأخّر جواز الإِتيان عن الغسل، فهو يُقوّي كون المراد بقراءة التخفيف الغُسل لا الانقطاع، وربما يكون قرينة على التجوز في الطهر، بحمله على الاغتسال إِن لم يسلّم ما تقدّم، وعلى فرض عدم التسليم هذا وذاك، والرجوع إِلى القول بأنَّ قراءة التخفيف من الطهر، وهو حقيقة في انقطاع الدم لا غير، ولا تجوُّز ولا قرينة، وقراءة التشديد من التطهر، ويستفاد منه الاغتسال". وقال البغوي -رحمه الله- (1/ 197): تطهَّرن: يعني: اغتسلن. قال في "المغني" (1/ 353): "فإِن انقطع دمها فلا توطأ حتى تغتسل". وجملته أنَّ وطء الحائض قبل الغسل حرام، وإِن انقطع دمها في قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: هذا كالإِجماع منهم، وقال أحمد بن محمد المروزي: "لا أعلم في هذا خلافاً ... ".

ولنا قول الله تعالى: {ولا تقربوهنَّ حتى يطهُرن فإِذا تطهَّرن فأتوهنَّ من حيث أمَركم الله} يعني: إِذا اغتسلن هكذا فسَّره ابن عباس، ولأنَّ الله تعالى قال في الآية: {ويحبُّ المتطهِّرين} فأثنى عليهم، فيدلّ على أنَّه فِعْل منهم؛ أثنى عليهم به، وفِعْلهم هو الاغتسال؛ دون انقطاع الدم، فشَرط لإِباحة الوطء شرطين: انقطاع الدم والاغتسال، فلا يباح إلاَّ بهما؛ كقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إِذا بَلَغُوا النكاح فإِنْ آنستم منهم رُشْداً فادفعُوا إِليهم أموالَهم} (¬1)، لمّا اشترط لدفع المال عليهم بلوغ النكاح والرّشد، لم يُبَح إلاَّ بهما، كذا هاهُنا، ولأنها ممنوعة من الصلاة لحدث الحيض، فلم يُبَح وطؤها كما لو انقطع لأقل الحيض، وما ذكروه من المعنى منقوض؛ بما إِذا انقطع لأقل الحيض، ولأنَّ حدث الحيض آكد من حدث الجنابة، فلا يصحّ قياسه عليه. جاء في "الفتاوى" (21/ 624): "أمَّا المرأة الحائض إِذا انقطع دمها؛ فلا يطؤها زوجها حتى تغتسل إِذا كانت قادرة على الاغتسال، وإلا تيمَّمت كما هو مذهب جمهور العلماء، كمالك وأحمد والشافعي. وهذا معنى ما يُروى عن الصحابة حيث روي عن بضعة عشر من الصحابة -منهم الخلفاء- أنَّهم قالوا: في المعتدَّة هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. والقرآن يدلُّ على ذلك، قال الله تعالى: {ولا تقربوهنَّ حتى يطهُرن فإِذا ¬

_ (¬1) النساء: 6

تطهَّرن فأتوهنَّ من حيث أمركم الله} (¬1). قال مجاهد: {حتى يطهُرن} يعني: ينقطع الدَّم، {فإِذا تطهَّرن}: اغتسلن بالماء، وهو كما قال مجاهد. وإِنَّما ذكر الله غايتين على قراءة الجمهور، لأنَّ قوله: {حتى يطهُرن} غاية التحريم الحاصل بالحيض، وهو تحريم لا يزول بالاغتسال ولا غيره، فهذا تحريم يزول بانقطاع الدَّم، ثمَّ يبقى الوطء بعد ذلك جائزاً بشرط الاغتسال، لا يبقى محرَّماً على الإِطلاق، فلهذا قال: {فإذا تطهَّرن فأتوهنَّ من حيث أمركُم الله}. وهذا كقوله: {فإِن طلَّقها فلا تحلُّ له من بعدُ حتى تَنكحَ زوجاً غيره} (¬2). فنكاح الزوج الثاني غاية التحريم الحاصل بالثلاث، فإِذا نَكَحت الزوج الثاني زال ذلك التحريم، لكن صارت في عصمة الثاني؛ فحرمت لأجل حقّه، لا لأجل الطَّلاق الثلاث، فإِذا طلَّقها جاز للأوَّل أن يتزوَّجها. وقد قال بعض أهل الظاهر: المراد بقوله: {فإذا تطهَّرن} أي: غسلْن فرجهنّ، وليس بشيء، لأنَّ الله قد قال: {وإِن كنتم جُنُباً فاطَّهروا} (¬3)؛ فالتطهّر في كتاب الله هو الاغتسال، وأمَّا قوله: {إنَّ الله يحبّ التَّوابين ويُحبُّ ¬

_ (¬1) البقرة: 222 (¬2) البقرة: 230 (¬3) المائدة: 6

المتطهِّرين} (¬1) فهذا يدخل فيه المغتسل والمتوضئ والمستنجي، لكن التطهّر المقرون بالحيض؛ كالتطهر المقرون بالجنابة، والمراد به الاغتسال. وأبو حنيفة -رحمه الله- يقول: إِذا اغتسلت، أو مضى عليها وقت صلاة، أو انقطع الدَّم لعشرة أيام حلَّت؛ بناءً على أنَّه محكوم بطهارتها في هذه الأحوال، وقول الجمهور هو الصواب كما تقدَّم، والله أعلم". وجاء في الكتاب السابق أيضاً (ص624): "وسئل رحمه الله عن إِتيان الحائض قبل الغسل، وما معنى قول أبي حنيفة: فإِن انقطع الدَّم لأقل من عشرة أيام، لم يَجُزْ وطؤها حتى تغتسل؟ وإِن انقطع دمها لعشرة أيام جاز وطؤها قبل الغسل؟ وهل الأئمة موافقون على ذلك؟ فأجاب: أمَّا مذهب الفقهاء؛ كمالك والشافعي وأحمد فإِنَّه لا يجوز وطؤها حتى تغتسل، كما قال تعالى: {ولا تقربوهنَّ حتى يطهُرن فإِذا تطهَّرن فأتوهنَّ من حيثُ أمركم الله}، وأمَّا أبو حنيفة فيجوِّز وطأها إِذا انقطع لأكثر الحيض، أو مرَّ عليها وقت الصَّلاة فاغتسلت، وقول الجمهور هو الذي يدلّ عليه ظاهر القرآن والآثار". وقد رأيت قول شيخ الإِسلام -رحمه الله- المتقدِّم قد رجَّح عدم الوطء إلاَّ بعد الاغتسال، حين قال -رحمه الله-: "وقال بعض أهل الظاهر: المراد بقوله: {فإِذا تطهّرن} أي: غسلن فروجهنَّ، وليس بشيء؛ لأنَّ الله قد قال: {وإِن كنتم جُنُباً فاطَّهروا}. فالتطهُّر في كتاب الله هو الاغتسال، وأمَّا قوله: {إِنَّ الله يحبُّ التوَّابين ¬

_ (¬1) البقرة: 222

ويحبُّ المتطهِّرين}، فهذا يدخل فيه المغتسل والمتوضئ والمستنجي، لكن التطهّر المقرون بالحيض؛ كالتَّطهر المقرون بالجنابة والمراد به الاغتسال". قلت: وزاد هذا الترجيح عندي ما جاء في "اللسان": "طَهَرت المرأة وطَهُرت وطَهِرت: اغتسلت من الحيض وغيره". وطهُرت المرأة وهي طاهر: انقطع عنها الدَّم ورأت الطُّهر فإِذا اغتسلت؛ قيل تطهَّرت واطَّهَّرت، قال الله عزَّ وجلَّ: {وإِن كنتم جُنُباً فاطَّهَّروا}. وروى الأزهري عن أبي العباس أنَّه قال في قوله عزَّ وجلّ: {ولا تقربوهنَّ حتى يطُهرن فإِذا تطهَّرن فأتوهنَّ من حيث أمركم الله} وقرأ: {حتى يطَّهَّرْن}، قال أبو العبّاس والفرّاء: "يطّهّرن لأنَّ من قرأ: {يطْهرن} أراد: انقطاع الدَّم، فإِذا تطهَّرن اغتسلن؛ فصيَّر معناهما مختلفاً، والوجه أن تكون الكلمتان بمعنى واحد؛ يُريد بهما جميعاً الغسل، ولا يحلّ المسيس إِلا بالاغتسال، وتُصدِّق ذلك قراءة ابن مسعود: {حتى يَتَطهَّرْن} ". وقال ابن الأعرابي: "طَهَرت المرأة هو الكلام، قال: ويجوز طهُرت، فإِذا تَطَهَّرن: اغتسلن. وقال: تطهَّرت المرأة: اغتسلت". وخلاصة القول: عدم جواز إِتيان الحائض إِذا طهُرت إِلا بعد الاغتسال (¬1). ¬

_ (¬1) انتهيت إِلى هذا وأنا أعلم من شيخنا، أنه يرى جواز إتيان المرأة قبل الاغتسال بعد الطهر من الحيض أو النفاس؛ كما في الطبعة الأولى من الطبعة الجديدة من "آداب الزفاف" سنة 1409هـ. ثم سألته "هل رأيتم غير ذلك؟ "، فقال: "نعم، يَطْهُرن غير يَطَّهْرن، فلا بد من الاغتسال".

مسائل تتعلق في غسل الحائض والنفساء

مسائل تتعلق في غسل الحائض والنّفساء 1 - نقْض المرأة شعرها عند غسل المحيض: كما في حديث عائشة -رضي الله عنها-: " ... فأدركني يوم عرفة وأنا حائض، فشكوت إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "دعي عمرتك وانقضي رأسكِ، وامتَشِطي وأهلّي بحجٍّ، ففعلْت" (¬1). 2 - استحباب استعمال المُغتَسِلة من الحيض فِرصة من مسِك في موضع الدَّم: عن منصور بن صفية عن أمّه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "سأَلَت امرأةٌ (¬2) النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف تغتسل من حيضتها؟ قال: "فذَكرت أنَّه علَّمها كيف تغتسل، ثمَّ تأخذ فِرصة من مِسك (¬3)، فتَطهَّر بها. قالت: كيف أتطهَّر بها؟ قال: "تطهَّري بها سبحان الله! " (¬4) واستَتر (وأشار ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 317، ومسلم: 1211، وتقدّم. (¬2) هي أسماء بنت شَكَل، كما في بعض روايات مسلم. (¬3) جاء في "النهاية": "الفِرصة -بكسر الفاء-: قطعة من صوف أو قطن أو خرقة، يُقال: فَرَصْت الشيء إِذا قطعته، والممسّكة: المُطيّبة بالمِسك؛ يتتبَّع بها أثر الدم؛ فيحصل منه الطيب والتنشيف". قال النووي: "واختلف العلماء في الحكمة في استعمال المسك، فالصحيح المختار الذي قاله الجماهير من أصحابنا وغيرهم، أنَّ المقصود باستعمال المِسك؛ تطييب المحلّ، ودفع الرائحة الكريهة". (¬4) قال النووي -رحمه الله- قد قدّمنا أنَّ -سبحان الله- في هذا الموضع =

كيف تغتسل الحائض أو النفساء؟

لنا سفيانُ بن عيينة بيده على وجهه)، قال: قالت عائشة: واجتذبْتُها إِليَّ، وعرفتُ ما أراد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: تتبَّعي بها أثر الدَّم" (¬1). كيف تغتسل الحائض أو النفساء؟ عن عائشة -رضي الله عنها- "أنَّ أسماء سألَت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن غُسل المحيض؟ فقال: "تأخذ إِحداكنَّ ماءَها وسدْرتها فتطهَّر؛ فتُحسن الطُّهور، ثمَّ تصب على رأسها؛ فتدلُكُه دلكاً شديداً؛ حتى تبلغ شؤون (¬2) رأسها، ثمَّ تصبّ عليها الماء، ثمَّ تأخذ فِرصة ممسّكة؛ فتطَهَّر بها". فقالت أسماء: وكيف تطَهَّر بها؟ فقال: سبحان الله! تطَّهّرين بها". فقالت عائشة (كأنَّها تخفي ذلك): تَتَبَّعين أثر الدَّم (¬3). ¬

_ = وأمثاله؛ يراد به التّعجُّب، وكذا لا إِله إلاَّ الله، ومعنى التعجّب هنا؛ كيف يخفى مِثل هذا الظاهر؛ الذي لا يحتاج الإِنسان في فهمه إِلى فكر. (¬1) أخرجه البخاري: 314، 315، 7357، ومسلم: 332، وغيرهما، وتقدّم. قال الحافظ: "وفي هذا الحديث من الفوائد: التسبيح عند التعجُّب، واستحباب الكنايات فيما يتعلّق بالعورات، وفيه سؤال المرأة العالم عن أحوالها التي يُحتشم منها، وفيها الاكتفاء بالتعريض والإشارة في الأمور المستهجنة، وتكرار الجواب لإفهام السائل، وفيه تفسير كلام العالم بحضرته لمن خفي عليه، إِذا عرف أن ذلك يُعجبه، وفيه الأخذ عن المفضول بحضرة الفاضل، وفيه صحّة العرْض على المحدّث؛ إِذا أقرّه ولم يُقل عقبه نعم، وفيه الرّفق بالمتعلّم، وإقامة العُذر لمن لا يَفهم، وفيه حُسن خُلُقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعظيم حلمه وحيائه". "الفتح". بحذف يسير. (¬2) قال في "النهاية": عظامه وطرائقه وتواصيل قبائله، وهي أربعة بعضها فوق بعض. (¬3) أخرجه مسلم: 332، وأصله في البخاري: 314، 315، 7357، وانظر الحديث السابق.

كيف تطهر الحائض ثوبها؟

كيف تُطهِّر الحائض ثوبها؟ تطهِّر الحائض ثوبها بحكة بضِلَع (¬1)، وتغسله بماء وسِدْر أو صابون أو نحوه من المنظّفات، ثمَّ تنضح الماء في سائر الثوب، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حُكّيه بضِلَع واغسليه بماء وسِدْر" (¬2). وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: "سمعتُ امرأة تسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ثوبها إِذا طهُرت من محيضها، كيف تصنع به؟ قال: إِنْ رأيت فيه دماً فحُكّيه، تمَّ اقرصيه بماء، ثمَّ انضحي في سائره؛ فصلّي فيه". قال شيخنا في "الصحيحة" تحت (رقم 299): "في هذه الرواية زيادة: "ثمَّ انضحي في سائره"، وهي زيادة هامَّة؛ لأنها تبيِّن أنَّ قوله في رواية هشام: "ثمَّ لتنضحه" ليس المراد نضْح مكان الدَّم بل الثوب كلّه. ويشهد له حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كانت إحدانا تحيض، ثمَّ تقرص الدَّم من ثوبها عند طُهْرها فتغسله، وتنضح سائره، ثمَّ تصلّي فيه" (¬3). ¬

_ (¬1) أي بعود، والأصل فيه ضلع الحيوان، فسمّي به العود الذي يُشبهه، وقد تسكّن اللام تخفيفاً. "النهاية". (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (349)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (281)، والدارمي، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (511) وغيرهم، وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الصحيحة" (300) وتقدّم. (¬3) أخرجه البخاري: 308

الاستحاضة

الاستحاضة تعريفها: "هي أن يستمرّ بالمرأة خروج الدّم؛ بعد أيام حيضها المعتادة" (¬1). أحوال المستحاضة (¬2): 1 - أن تكون مدّة الحيض معروفة لها قبل الاستحاضة، وفي هذه الحالة تُعدّ هذه المدَّة المعروفة هي مدَّة الحيض والباقي استحاضة؛ لحديث أمّ سلمة -رضي الله عنها-: أنَّها استّفتت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في امرأة تُهراق الدّم؟ فقال: "لتنظر قدْر الليالي والأيام التي كانت تحيضهنّ وقدْرهنَّ من الشَّهر، فتدَع الصَّلاة، ثمَّ لتغتسل ولتستثْفر (¬3) ثمَّ تصلّي" (¬4). قال الخطابي: هذا حُكم المرأة يكون لها من الشَّهر أيام معلومة؛ تحيضها في أيام الصِّحَّة قبل حدوث العلَّة، تمَّ تُستحاض فتهريق الدَّم، ويستمرّ بها السيلان، أمرها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تدَع الصَّلاة من الشهر، قدر الأيام ¬

_ (¬1) "النهاية". (¬2) عن كتاب "فقه السنّة" للسيد سابق -حفظه الله- بحذف وتصرُّف. (¬3) هو أن تشدّ فرجها بخرقة عريضة؛ بعد أن تُحتشى قُطناً، وثوثّق طرفيها في شيء تشدّه على وسطها، فتمنع بذلك سيل الدّم، وهو مأخوذ من ثَفَر الدّابة الذي يجعل تحت ذنبها. "النهاية". (¬4) رواه مالك والخمسة إلاَّ الترمذي، وقال النووي: إسناده على شرطهما، وانظر "المشكاة" (559)، و"صحيح سنن أبي داود" (244) و"صحيح سنن النسائي" (202) و"صحيح سنن ابن ماجه" (506).

التي كانت تحيض؛ قبل أن يصيبها ما أصابها، فإِذا استوفت عدد تلك الأيام؛ اغتسلت مرّة واحدة، وحُكمها حُكم الطَّواهر (¬1). جاء في "الفتاوى" (21/ 628): "وبهذا الحديث أخَذ جمهور العلماء في المستحاضة المعتادة؛ أنَّها ترجع إِلى عادتها؛ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد". 2 - أن يستمر بها الدَّم ولم يكن لها أيَّام معروفة؛ إِمَّا لأنَّها نسيت عادتها، أو بلَغت مستحاضة، ولا تستطيع تمييز دم الحيض، وفي هذه الحالة يكون حيضها ستة أيام أو سبعة، على غالب عادة النِّساء (¬2)؛ لحديث حمنة بنت جحش قالت: كنتُ أُستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أستفتيه وأخبره، فوجدتُه في بيت أُختي زينب بنت جحش، فقلت: يا رسول الله إِنّي امرأة أُستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما ترى فيها، قد منعَتني الصَّلاة والصَّوم؟ فقال: "أنعتُ لَكِ الكُرسُف (¬3) فإِنَّه يذهبُ الدَّم"، قالت: هو أكثر من ذلك. قال: "فاتَّخذي ثوباً"، فقالت: هو أكثر من ذلك، إِنَّما أثجُّ ثجَّاً (¬4). قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سآمرك بأمرين أيَّهما فعلْتِ أجزأ عنك من الآخر، وإِنْ ¬

_ (¬1) فهذه هي المعتاده التي لها عادة من أيام معروفة تعود إليها. (¬2) انظر "المغني" (1/ 346). (¬3) أي: القطن. (¬4) الثَّجّ: شدَّة السيلان.

قويتِ عليهما فأنتِ أعلم"، فقال لها: "إِنَّما هي ركضة (¬1) من رَكَضات الشيطان، فتحيَّضي ستَّة أيَّام أو (¬2) سبعة أيَّام، في عِلم الله، ثمَّ اغتسلي حتى إِذا رأيتِ أنَّك قد طهُرت واستنقأتِ؛ فصلّي ثلاثاً وعشرين ليلة، أو أربعاً وعشرين ليلة وأيَّامها وصومي، فإِنَّ ذلك يجزيك، وكذلك فافعلي كل شهر؛ كما تحيض النِّساء وكما يطهُرن، ميقات حيضهنّ وطُهرهنّ، وإِن قويتِ على أن تؤخِّري الظهر وتعجلّي العصر؛ فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر، وتؤخِّرين المغرب وتعجلين العشاء، ثمَّ تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر فافعلي، وصومي إِنْ قدرْتِ على ذلك". قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وهذا أعجب الأمرين إِليّ" (¬3). ¬

_ (¬1) قال في النهاية: "أصل الرّكض: الضَّرب بالرجل والإِصابة بها؛ كما تُركض الدابة وتُصاب بالرِّجل؛ أراد الإِضرار بها والأذى، المعنى أنَّ الشيطان قد وجد بذلك طريقاً إِلى التلبيس عليها؛ في أمر دينها وطُهرها وصلاتها، حتى أنساها ذلك عادتها، وصار في التقدير؛ كأنّه ركضة بآلة من ركضاته". وذكَره الشوكاني في "نيل الأوطار" (1/ 344). وقال الصنعاني في "سبل السلام" (1/ 183): "معناه أنَّ الشيطان قد وجد سبيلاً إِلى التلبيس عليها في أمر دينها وطُهرها وصلاتها حتى أنساها عادتها وصارت في التقدير؛ كأنها ركضة منه، ولا ينافي ما تقدّم إِنَّه عِرق يُقال له العاذل؛ لأنَّه يُحمل على أنَّ الشيطان ركضه حتى انفجر". (¬2) قال في "سبل السلام" (1/ 184): "ليست فيه كلمة (أو) شكاً من الراوي ولا للتخيير، للإِعلام بأنَّ للنساء أحد العددين، فمنهنَّ من تحيض ستّاً، ومنهنَّ من تحيض سبعاً، فترجع إِلى من هي في سنّها وأقرب إِلى مزاجها". (¬3) أخرجه أبو داود: 287 "صحيح سنن أبي داود" (267)، والترمذي "صحيح سنن =

قال الخطابي -تعليقاً على هذا الحديث-: إِنَّما هي امرأة مبتدئة لم يتقدَّم لها أيام، ولا هي مميّزة لدمها، وقد استمرَّ بها الدَّم حتى غلبَها، فردَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها إِلى العُرف الظاهر والأمر الغالب من أحوال النِّساء، كما حَمَل أمرها في تحيُّضها كل شهر مرّة واحدة؛ على الغالب من عادتهن، ويدلّ على هذا قوله: "كما تحيض النِّساء ويطهُرن بميقات حيضهنَّ وطُهرنَّ". قال: وهذا أصلٌ في قياس أمر النِّساء؛ بعضهنَّ على بعض؛ في باب الحيض والحمل والبلوغ، وما أشبه هذا من أمورهنّ. 3 - أن لا تكون لها عادة، ولكنَّها تستطيع تمييز دم الحيض عن غيره، وفي هذه الحالة تعمل بالتَّمييز، لحديث فاطمة بنت أبي حبيش -رضي الله عنها- أنَّها كانت تُستحاض، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا كان دم الحيض؛ فإِنَّه أسود يُعرف؛ فأمسكي عن الصَّلاة، فإِذا كان الآخر؛ فتوضَّئي إِنَّما هو عرْق (¬1) " (¬2). ¬

_ = الترمذي" (110)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (510) والطحاوي في "مشكل الآثار" والدارقطني والحاكم، وانظر "الإِرواء" (188). (¬1) تقدّم تخريجه. (¬2) قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (21/ 630): "وفي المستحاضة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث سنن: سنة في العادة لمن تقدّم، وسنَّة في المميزة، وهو قوله: "دم الحيض أسود يُعرَف"، وسنّة في غالب الحيض، وهو قوله: "تحيَّضي ستاً أو سبعاً ثمَّ اغتسلي، وصلّي ثلاثاً وعشرين، أو أربعاً وعشرين، كما تحيض النساء، =

أحكام المستحاضة

أحكام المُستحاضة (¬1) 1 - جواز وطئها في حال جريان دم الاستحاضة؛ عند جماهير العلماء؛ لأنَّها كالطَّاهرة في الصَّلاة والصوم وغيرهما، فكذا في الجماع، ولأنَّه لا يحرم إلاَّ عن دليل، ولم يأت دليل بتحريم جماعها. قال ابن عبّاس: "المستحاضة يأتيها زوجها إِذا صلَّت، الصَّلاة أعظم" (¬2). [وعن عكرمة قال: "كانت أم حبيبة تُستحاض فكان زوجها يغشاها" (¬3). وعن حَمْنة بنت جحش: "أنَّها كانت مُستحاضة؛ وكان زوجها ¬

_ = ويطهرن لميقات حيضهنّ وطهرهنّ". وقال -رحمه الله- أيضاً في نفس الموضع: "على أنَّ المستحاضة المميزة؛ تجلس ستاً أو سبعاً وهو غالب الحيض". وجاء في "الفتاوى" أيضاً (21/ 630): " ... إِمّا العادة فإِنَّ العادة أقوى العلامات؛ لأنَّ الأصل مقام الحيض دون غيره. وإمّا التمييز؛ لأنَّ الدم الأسود والثخين المُنتن؛ أولى أن يكون حيضاً من الأحمر. وإِمَّا اعتبار غالب عادة النساء؛ لأنَّ الأصل إِلحاق الفرد بالأعمّ الأغلب". (¬1) النقاط من (1 - 3) من "سبل السلام"، إلاَّ ما كان بين معقوفين مستطيلين فليس منه، ومن (4 - 6) من كتاب "فقه السنّة" بتصرف يسير. (¬2) ذكره البخاري معلقاً، وانظر "الفتح" (1/ 428) وقال شيخنا في "المختصر" (1/ 92): "وصله الدارمي (1/ 203) بإِسناد صحيح عنه دون الإتيان، ولكنّه أخرج هذا القدر منه (1/ 207) بسند ضعيف عنه، وأخرجه عبد الرزاق أيضاً". (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (302).

يجامعها" (¬1)]. 2 - أنَّها تُؤمر بالاحتياط في طهارة الحدث النجس؛ فتغسل فرجها قبل الوضوء وقبل التَّيمُّم، وتحشو فرجها بقطنة، أو خرقة دفعاً للنجاسة، وتقليلاً لها، فإِنْ لم يندفع الدَّم بذلك؛ شدَّت مع ذلك على فرجها وتلجَّمت واستثفرت (¬2). كما هو معروف في الكتب المطوَّلة. 3 - ومنها أنَّه ليس لها الوضوء قبل دخول وقت الصَّلاة عند الجمهور؛ إِذ طهارتها ضروريّة؛ فليس لها تقديمها قبل وقت الحاجة. 4 - أنه لا يجب عليها الغسل لشيء من الصَّلاة، ولا في وقت من الأوقات إلاَّ مرّة واحدة؛ حينما ينقطع حيضها، وبهذا قال الجمهور من السَّلف والخلف. 5 - أنَّه يجب عليها الوضوء لكلّ صلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت أبي حبيش -وهي تحدِّثه عن استحاضتها-: "توضَّئي لكلّ صلاة" (¬3). وقوله لها: "إِنَّه دم عِرق فتوضئي لكلّ صلاة" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (303) وغيره، وانظر "تمام المنة" (ص 137). (¬2) قال في "النهاية": " ... استثفري وتلجّمي، أي: اجعلي موضع خروج الدم عصابة تمنع الدم، تشبيها بوضع اللجام في فم الدّابة". (¬3) أخرجه أبو داود وغيره، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (109)، وتقدّم. (¬4) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وقال شيخنا في "الإِرواء" (110): "وسنده على شرط الشيخين وقد أخرجه البخاري من طريق أبي معاوية به نحوه، وراجِع تعليق الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- على الترمذي".

الحائض والنفساء تقضيان الصوم ولا تقضيان الصلاة

6 - أنَّ لها حُكم الطاهرات: تُصلّي وتصوم وتعتكف، وتفعل كلّ العبادات. الحائض والنفساء تقضيان الصوم ولا تقضيان الصَّلاة تقضي الحائض والنّفساء الصوم ولا تقضي الصَّلاة؛ لحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ... أليس إِذا حاضت لم تُصلِّ ولم تصُم؟ ... " (¬1). قال في "نيل الأوطار" (1/ 353): "فيه إِشعار بأنَّ منْع الحائض من الصوم والصَّلاة كان ثابتاً بحُكم الشَّرع قبل ذلك المجلس ... ". وعن معاذة أنَّ امرأة قالت لعائشة: "أتجزي إِحدانا صلاتها إِذا طهُرت؟ فقالت: أحروريّة (¬2) أنت؟ كنَّا نحيض مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يأمرنا به، أو قالت: ¬

_ (¬1) جزء من حديث رواه البخاري: 304، ومسلم: 219، وقد ذكرْته بتمامه في (باب ما يحرُم على الحائض والنفساء). (¬2) الحروري منسوب إِلى حروراء، بلدة على ميلين من الكوفة، ويُقال لمن يعتقد مذهب الخوارج حروري؛ لأنَّ أول فرقة منهم خرجوا على عليّ بالبلدة المذكورة، فاشتهروا بالنسبة إِليها، وهم فِرَق كثيرة، لكن من أصولهم المتفق عليها بينهم؛ الأخذ بما دلَّ عليه القرآن، وردّ ما زاد عليه من الحديث مطلقاً؛ ولهذا استفهمت عائشة معاذة استفهام إِنكار. وزاد مسلم في رواية عاصم عن معاذة فقلت: "لا ولكنّي أسأل"، أي: سؤالاً مجرّداً لطلب العلم لا للتعنّت. "الفتح" (1/ 422) بحذف يسير. قال شيخنا في "الإِرواء" (1/ 221): "وإنكار عائشة عليها إِمّا لعلمها أنهم كانوا يوجبون القضاء على الحائض، فقد حكى ابن عبد البرّ القول بذلك عن طائفة من الخوارج، وإمّا لعلمها بأنَّ أصولهم تقتضي ذلك".

إذا طهرت الحائض بعد العصر أو بعد العشاء

فلا نفعله" (¬1). وفي لفظ لمسلم (335): "فنؤمَر بقضاء الصوم ولا نؤمَر بقضاء الصلاة". وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: كانت المرأة من نساء النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقعد في النفاس أربعين ليلة؛ لا يأمرها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقضاء صلاة النفاس (¬2). إِذا طهُرت الحائض بعد العصر أو بعد العشاء إِذا طهرت الحائض بعد العصر؛ صلّت الظهر والعصر، وإِذا طهرت بعد العشاء؛ صلّت المغرب والعشاء. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إِذا طهُرت الحائض بعد العصر؛ صلّت الظهر والعصر، وإذا طهُرت بعد العشاء صلّت المغرب والعشاء". وعن عبد الرحمن بن عوف قال: "إِذا طهُرت الحائض قبل أن تغرب الشمس؛ صلّت الظهر والعصر، وإذا طهُرت قبل الفجر صلَّت المغرب والعشاء". قال في "نيل الأوطار" (1/ 355): "رواهما سعيد بن منصور في "سننه" والأثرم، وقال: قال أحمد: عامَّة التابعين يقولون بهذا القول إلاَّ الحسن وحده". وسألت شيخنا -حفظه الله- بعض التفصيل في ذلك فقال: "إِذا طهُرت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 321، ومسلم: 335، نحوه وغيرهما. (¬2) أخرجه أبو داود والحاكم وغيرهما، وحسَّنه شيخنا في "الإِرواء" (201).

الجمع الصوري للمستحاضة

الحائض بعد العصر أو قبل غروب الشمس، فإِنَّه يجب عليها أن تصلّي الظُّهر والعصر، وإِذا طهُرت بعد العشاء، فإِنَّه يجب عليها أن تصلّي المغرب والعشاء؛ لأنَّ وقت الظهر والعصر يتداخلان، ففي السّفر يُمكن الجمع بين كلِّ من الصلاتين؛ تقديماً أو تأخيراً، وفي حالة الإِقامة أيضاً لرفع الحرج". الجمع الصوري للمستحاضة وفيه حديث حَمنة بنت جحش -رضي الله عنها- المتقدِّم وفيه: " ... وإِنْ قويتِ على أن تؤخِّري الظهر وتعجِّلي العصر؛ فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين: الظهر والعصر، وتؤخرين المغرب وتعجِّلين العشاء، ثمَّ تغتسلين، وتجمعين بين الصلاتين فافعلي". قال في "سبل السلام" (1/ 183): "فتغتسلين فتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر، أي: جمعاً صورياً ... ". الحامل إِذا رأت الدَّم وبيان أنَّها لا تحيض إِذا رأت الحامل دماً فهو دم فساد (¬1)؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سبايا أوطاس: "لا توطَأ حامل حتى تضع، ولا حائل (¬2) حتى تستبرئ بحيضة" (¬3). ¬

_ (¬1) قال شيخنا -حفظه الله-: "دم فساد؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّما هو عرق"؛ فهذا في المستحاضة". (¬2) الحائل: كلّ أنثى لا تحبل. "الوسيط". (¬3) أخرجه أبو داود والدارمي والدارقطني والحاكم والبيهقي وأحمد، وقال الحاكم: =

جاء في "المغني" (1/ 371) (حُكم الحامل إِذا رأت الدَّم، وبيان أنَّها لا تحيض): "مذهب أبي عبد الله -رحمه الله- أنَّ الحامل لا تحيض، وما تراه من الدَّم فهو دم فساد، وهو قول جمهور التابعين؛ منهم: سعيد بن المسيب وعطاء والحسن وجابر بن زيد وعكرمة ومحمد بن المنكدر والشعبي ومكحول وحماد والثَّوري والأوزاعي وأبو حنيفة وابن المنذر وأبو عبيد وأبو ثور ... ". وقال في "منار السبيل" (1/ 62): "فإِنْ رأت الحامل دماً فهو فساد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرئ بحيضة" (¬1). يعني: تستعلم براءتها من الحمل بالحيضة؛ فدلَّ على أنَّها لا تجتمع معه". قال شيخنا في "الإِرواء" (187): "ويشهد له ما روى الدَّارمي (1/ 227، 228) من طريقين عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت: "إِنَّ الحُبلى لا تحيض، فإِذا رأت الدَّم؛ فلتغتسل ولتصلِّ"، وإِسناده صحيح". وسألتُ شيخنا -حفظه الله- عن أمر الاغتسال؟ فقال: "هو من باب النَّظافة". ¬

_ = "صحيح على شرط مسلم"، وقال الحافظ في "التلخيص الحبير": "إِسناده حسن"، وانظر تفصيل تخريجه في "الإِرواء" (187). (¬1) تقدّم تخريجه.

مسائل متنوعة تتعلق بالحائض والنفساء والمستحاضة

مسائل متنوّعة تتعلق بالحائض والنّفساء والمستحاضة * حُكم النّفساء حُكم الحائض في جميع ما يحرُم عليها ويسقُط عنها: قال في "المغني" (1/ 362): "وحُكم النفساء حُكم الحائض في جميع ما يحرُم عليها ويسقُط عنها، لا نعلم في هذا خلافاً، وكذلك تحريم وطئها وحلّ مباشرتها، والاستمتاع بما دون الفرج منها ... ". * اغتسال الحائض والنفساء للإِحرام: عن جابر -رضي الله عنه- قال: "إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكثَ تسع سنين لم يحجّ، ثمَّ أذَّن في الناس في العاشرة؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجٌّ، فقدم المدينة بشر كثير؛ كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويعمل مثل عمله. فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة؛ فولَدَت أسماءُ بنت عميس محمَّدَ بن أبي بكر، فأرسلت إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف أصنع؟ ". فقال: "اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي" (¬1). * لا بأس أن تشرب المرأة الحائض دواءً يقطع عنها الحيض، إِذا لم يكن يضرّ بها، ويحسن بها استشارة طبيبة مسلمة مختصّة في هذا الأمر: قال في "المغني" (1/ 375): "رُوي عن أحمد -رحمه الله- أنَّه قال: لا بأس أن تشرب المرأة دواءً؛ يقطع عنها الحيض؛ إِذا كان دواءً معروفاً". * شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين واعتزالها المصلّى: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1218، وغيره، قال في "النهاية": " ... استثفري: أي: اجعلي موضع خروج الدم عصابة تمنع الدم، تشبيهاً بوضع اللجام في فم الدابة"، وتقدم.

عن أمِّ عطية -رضي الله عنها- قالت: "سمعْتُه (¬1) يقول: يخرُج العواتِق (¬2) وذواتُ الخدور (¬3) -أو العواتق ذواتُ الخُدور- والحُيَّض، ويشهدن الخير ودعوة المؤمنين، ويعتزل الحُيَّض المصلّى" (¬4). * قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض (¬5): عن منصور بن صفيَّة أنَّ أمَّه حدَّثته أنَّ عائشة -رضي الله عنها- حدَّثتها: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتَّكئ في حجري، وأنا حائض ثمَّ يقرأ القرآن (¬6) " (¬7). * غَسل الحائض رأس زوجها وترجيله (¬8): عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنتُ أرجّل رأس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) أي: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانت لا تذكره إِلا قالت: "بأبي". (¬2) العاتق: الشّابة أو ما تُدرك، وقيل: هي التي لم تَبِنْ من والديها ولم تُزوَّج، وقد أدركت وشبَّت، وتُجمع على العُتَّق والعواتق". "النهاية". (¬3) جمع خِدْر وهو ستر يكون في ناحية البيت؛ تفعد البكر وراءه. (¬4) أخرجه البخاري: 324، ومسلم: 890 (¬5) هذا العنوان من "الفتح". (¬6) أخرجه البخاري: 297، ومسلم: 301 (¬7) جاء في "الفتح" (1/ 402): "فيه جواز ملامسة الحائض، وأنَّ ذاتها وثيابها على الطهارة؛ ما لم يلحق شيئاً منها نجاسة، وفيه جواز القراءة بقرب محل النجاسة؛ قاله النووي. وفيه جواز استناد المريض في صلاته إِلى الحائض إِذا كانت أثوابها طاهرة؛ قاله القرطبي". (¬8) هذا العنوان من "الفتح".

وأنا حائض" (¬1). * لا حرج من سؤر الحائض ومؤاكلتها: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنتُ أشرب وأنا حائض؛ ثمَّ أناوله النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فيضع فاه على موضع فيَّ فيشرب، وأتعرَّق (¬2) العَرْق وأنا حائض؛ ثمَّ أناوله النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فيضع فاه على موضع فيَّ" (¬3). وعن عبد الله بن سعد -رضي الله عنه- قال: "سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مؤاكلة الحائض؟ فقال: "واكِلْها" (¬4). قال في "نيل الأوطار" (1/ 355): "والحديث يدلّ على جواز مواكلة الحائض. قال الترمذي: وهو قول عامَّة أهل العلم؛ لم يَروا بمواكلة الحائض بأساً. قال ابن سيد النَّاس في "شرحه": "وهذا أجمع النَّاس عليه، وهكذا نَقل الإِجماع محمد بن جرير الطبري". وأمَّا قوله تعالى: {فاعتزلوا النِّساء في المحيض} (¬5) فالمراد: اعتزلوا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 295، ومسلم: 217 (¬2) العَرْق: العظم إِذا أُخِذ عنه معظم اللحم، يُقال: عَرَقْتُ العظم واعترقته وتعرَّقُته: إِذا أخذْت عنه اللحم بأسنانك. "النهاية". (¬3) أخرجه مسلم: 300، وغيره، وتقدم. (¬4) أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (114)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (531). (¬5) البقرة: 222

وطأهنَّ". * الإِجهاض: سواءٌ كان قبل تخلُّق الجنين أو بعده فإِنّه يُعدُّ نفاساً، والنّفساء كالحائض، لا تصوم ولا تصلّي، ولكنَّها تقضي الصيام دون الصَّلاة (¬1). * إِذا لم تر المرأة في أيامها الأخيرة من الحيض وقبل طُهرها أثراً للدّم، ولم تلحظ القصة البيضاء؛ فهي حائض ما دامت في عادتها. * إِذا شعرت المرأة بألم العادة، ولم تَرَ دماً قبل غروب الشمس؛ فإِنَّها تُتمّ صومها وتؤدّي صلاتها، إِذ الضابط في الحُكم على الحيض رؤيتها الدّم، وكذلك إِذا لم تجزم أنَّ دمها دمُ حيض، فلا يُحكم لها بالحيض حتى تجزم. * إذا اضطرب موعد قدوم الدورة؛ فإِنَّها تنظر إِلى لون الدَّم؛ لأنَّ دم الحيض أسود يُعرف. * كفَّارة من أتى زوجته وهي نفساء ككفّارة من أتاها وهي حائض. * إِذا نزلت نقاط يسيرة من الدَّم من المرأة طوال شهر، فلا شكَّ أنَّها مرَّت في عادتها من الحيض، إِذا لم تكن حاملاً، فهي أدرى بنفسها؛ فيما إِذا كانت معتادة. يعني لها عادة كل شهر، تحيضُ في الأسبوع الأول أو الثاني أو الثالث أو الرابع -فهي وهذه الحالة، تُمسِك عن الصَّلاة والصيام في الأيّام التي ¬

_ (¬1) استفدتُ هذا إلى آخر الباب من شيخنا -حفظه الله تعالى- من مجالستي له، ومن خلال بعض الاستفسارات، وذكرْتُه هكذا مُلخصاً، والأدلة والتفصيلات مبثوثة داخل الكتاب في العديد من الأبواب، فلم أُعِدها.

تقدِّرها أنَّها هي أيَّام الحيض، وسائر الأيام من الشهر، تصلّي وتصوم، لأنَّها مستحاضة. * إِذا رأت المرأة دماً في أوان عادتها، ولم تَرَه في بعض الأيام؛ فإِنَّه لا يُنظر إِلى انقطاع الدَّم أو استمراره، فهي حائض ما دامت في عادتها، فالمعتادة لا تنظر إِلى استمرار الدَّم أو انقطاعه، فهي حائض وإن لم تَرَ دماً. * الحُمرة والصُّفرة بعد أيَّام الحيض تُعدّ استحاضة. * لا قيمة للكُدرة التي تراها المرأة إلاَّ في أيَّام الحيض، أمَّا قبل الحيض أو بعده ببضعة أيَّام فلا. * إِذا كانت المرأة حاملاً ثمَّ أُجريت لها عمديَّة جراحية، وأُخرج الطفل دون نزول دم من المكان المعتاد، فإِنَّها لا تمضي عليها أحكام النّفاس، ولا تُعدّ نفساء. * إِذا أُصيبت الحامل بحادث، وأجهضت الجنين، مُصاحباً ذلك نزيفاً حادّاً؛ فهي نُفَساء.

الصلاة

الصَّلاة الصَّلاةُ في اللغة: الدُّعاء، قال الله تعالى: {وَصَلِّ عليهم إِنَّ صلاتَكَ سكَنٌ لهم} (¬1) أي: ادعْ لهم، وقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا دُعي أحدكم فليُجب، فإِن كان مُفطراً؛ فليطعَم وإِن كان صائماً؛ فليصلِّ" (¬2). وقال الشاعر: تقول بنتي وقد قرَّبت مرتحلا ... يا ربِّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا عليك مِثل الذي صليت فاغتمضي ... نوماً فإِنَّ لجنب المرء مضطجعا (¬3). ومعناها في اصطلاح الفقهاء: أقوالٌ وأفعالٌ مُفتَتَحةٌ بالتكبير، مختَتَمةٌ بالتسليم، بشرائطَ مخصوصةٍ، وهذا التعريف يشمل كلّ صلاةٍ مفتتحةٍ بتكبيرة الإِحرام، ومختتمةٍ بالسلام، ويخرج عنه سجود التلاوة وهو سجدة واحدة عند سماع آية من القرآن المشتملة على ما يترتّب عليه ذلك السجود من غير تكبير، أو سلام" (¬4). جاء في "المغني" (1/ 376) (¬5): "وهي واجبةٌ بالكتاب والسنَّة والإِجماع، أمَّا الكتاب فقول الله تعالى: {وما أمروا إِلاَّ ليعبدوا الله مخلِصين ¬

_ (¬1) التوبة: 103 (¬2) أخرجه مسلم: 1431، وغيره. (¬3) عن كتاب "المغني" (1/ 376). (¬4) "الفقه على المذاهب الأربعة" (1/ 160). (¬5) بحذف وتصرُّفٍ يسيرين.

فضل الصلاة ومنزلتها في الإسلام

له الدين حُنفاءَ ويقيموا الصَّلاة ويُؤتوا الزكاة وذلك دين القَيِّمة} (¬1). وأمَّا السُّنّة؛ فقد ثبَت عن ابن عمر عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "بُني الإِسلام على خمس: شهادةِ أن لا إِله إلاَّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله، وإِقامِ الصَّلاة، وإيتاءِ الزكاة والحجِّ وصومِ رمضان" (¬2). وأمَّا الإِجماع؛ فقد أجمعت الأمَّة على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة". فضل الصلاة ومنزلتها في الإِسلام (¬3) للصلاة منزلةٌ عظيمةٌ في الإِسلام وقد ورد في ذلك آيات كثيرة والمتتبّع لآيات القرآن الكريم يرى أنَّ الله سبحانه يذكُر الصَّلاةَ ويقرِنُها بالذِّكر تارةً: {إنَّ الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذِكْر الله أكبر} (¬4)، {قدْ أفلحَ من تزكَّى وذكَرَ اسمَ ربِه فصلَّى} (¬5)، {وأقم الصَّلاة لذِكْري} (¬6). وتارةً يَقرِنُها بالزكاة: {وأقيموا الصَّلاة وآتوا الزكاة} (¬7)، ومرّة بالصبر: ¬

_ (¬1) البيّنة: 5 (¬2) أخرجه البخاري: 8، ومسلم: 16، وغيرهما. (¬3) انظر كتابي "الصلاة وأثرها في زيادة الإِيمان وتهذيب النفس". (¬4) العنكبوت: 45 (¬5) الأعلى: 14، 15 (¬6) طه: 14 (¬7) البقرة: 110

{واستعينوا بالصَّبر والصَّلاة} (¬1)، وطوراً بالنُّسك: {فَصَلِّ لرَبِّك وانْحَرْ} (¬2)، {قُلْ إِنَّ صلاتي ونُسُكي ومحْيَايَ ومَمَاتي لله رَبِّ العالمينَ لا شريكَ لهُ وبِذَلِكَ أُمرتُ وأنا أوَّل المُسلمِين} (¬3). وأحياناً يفتَتِح بها أعمال البر ويختتمها بها، كما في سورة "المعارج" وفي أول سورة المؤمنين: {قدَ أفلح المُؤمنُون * الذينَ هُم في صلاتهم خاشعُونَ} إلى قوله: {والذين هُم على صلواتهم يُحافظونَ * أولئكَ هُمُ الوارِثونَ * الذين يرِثونَ الفردوسَ هُم فيها خالدون} (¬4). وقد بَلغَ من عناية الإِسلام بالصَّلاة، أنْ أمرَ بالمحافظة عليها في الحضر والسفَر، والأمن والخوف؛ فقال تعالى: {حافظوا على الصَلَوَات والصَّلاة الوُسطى وقوموا لله قانتين * فإِنْ خفتم فَرِجالاً أو رُكبَاناً فإِذا أمنْتم فاذكروا الله كما علَّمكم ما لم تكونوا تعلمون} (¬5)، وقال مُبَيِّناً كيفيَّتَها في السفر والحرب والأمن: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً * وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا ¬

_ (¬1) البقرة: 45 (¬2) الكوثر: 2 (¬3) الأنعام: 162، 163 (¬4) المؤمنون: 1 - 11 (¬5) البقرة: 238، 239

فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬1). وقد شدَّد النكيرَ على من يُفرِّط فيها، وهدَّد الذين يُضيّعونها. فقال جلَّ شأنه: {فَخَلفَ من بعدهِم خلْفٌ أضاعوا الصَّلاةَ واتَّبعُوا الشّهواتِ فسوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} (¬2)، وقال: {فويلٌ للمُصَلّينَ * الذينَ همْ عنْ صلاتهم ساهون} (¬3). ولأنَّ الصَّلاة من الأمور الكبرى التي تحتاجِ إِلى هداية خاصّة، سأَل إِبراهيمِ عليه السلام ربّه، أن يجعله هو وذريّته مقيماً لها فقال: {رَبِّ اجعلني مُقيم الصَّلاةِ ومن ذُرّيتي ربّنا وتقبَّلْ دُعاء} (¬4) " (¬5). وقد وردَت أحاديثُ كثيرةٌ في فضل الصَّلاة وسموّ منزلتها في الدين، منها: ¬

_ (¬1) النساء: 101 - 103 (¬2) مريم: 59 (¬3) الماعون: 4، 5 (¬4) إِبراهيم: 40 (¬5) انظر كتاب "فقه السنّة" (1/ 90 - 92) للسيد سابق -حفظه الله تعالى-.

حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: "كنتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفَر، فأصبحْتُ يوماً قريباً منه، ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله أخبِرني بعمل يُدخلني الجنَّة، ويباعدني من النَّار، قال: لقد سأَلتَني عن عظيم، وإنَّه ليسير على من يسَّره الله عليه: تعبدُ الله ولا تشركُ به شيئاً، وتقيمُ الصَّلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت، ثمَّ قال: ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصوم جُنَّة (¬1)، والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النَّار، وصلاة الرجل في جوف الليل، قال: ثمَّ تلا: {تتجافى جُنوبُهم عن المضاجع} حتى بلغ: {يعملون} (¬2)، ثمَّ قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعَموده، وذِروة سَنامه؟ (¬3) قلتُ: بلى يا رسول الله: قال: رأس الأمر الإِسلام وعموده الصَّلاة، وذروة سَنامه الجهاد، ثمَّ قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كلِّه؟ قلت: بلى يا نبيّ اللهَ، فأخذَ بلسانه، قال: كُفَّ عليك هذا، فقلتُ: يا نبيّ الله وإِنَّا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟ فقال: ثَكِلَتْك (¬4) أمّك يا معاذ! وهل يكُبُّ النّاسَ في النَّار على وجوههم أو على مناخرهم إلاَّ حصائدُ ألسنتهم" (¬5). ¬

_ (¬1) أي: يقي صاحبه ما يُؤذيه من الشهوات؛ والجُنّة: الوقاية. "النهاية". (¬2) السجدة: 16 - 17 (¬3) الذِّروة: أعلى سَنام البعير، وذِروة كلِّ شيء أعلاه. "النهاية". السَّنام: كُتل من الشحم محدّبة على ظهر البعير والناقة، والسَّنام من كل شيء أعلاه. "الوسيط". (¬4) قال في "النهاية" -بحذف-: أي: فقَدَتْك، والثُّكْل: فقْد الولد، والموت يعم كلَّ أحد، فإِذن الدعاء عليه كلا دُعاء ... ويجوز أن يكون من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب، ولا يُراد بها الدعاء كقوله تربت يداك .... (¬5) أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد، وهو حديث صحيح بطُرُقه، خرَّجه شيخنا في "الإرواء" (413).

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوّل ما يحايسَبُ به العبد يوم القيامة الصَّلاة، فإِن صلحت؛ صلح سائر عمله، وإِنْ فسدت؛ فسد سائر عمله" (¬1). وعن أبي هريرة أنَّه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أرأيتم لو أنَّ نهراً بباب أحدِكم يغتسلُ فيه كلَّ يوم خمساً؛ ما تقولُ ذلك يُبقي من درنه؟ قالوا: لا يُبقي من درنه (¬2) شيئاً. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا" (¬3). وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تحترقون تحترقون (¬4)، فإِذا صلّيتم الصُّبحَ غَسَلَتْها، ثمَّ تحترقون تحترقون، فإِذا صلّيتم الظهرَ غَسَلَتها، ثمَّ تحترقون تحترقون، فإِذا صلّيتم العصر غَسَلَتها، ثمَّ تحترقون تحترقون، فإِذا صليتم المغرب غَسَلَتها، ثمَّ تحترقون تحترقون، فإِذا صلّيتم العشاء غَسَلَتها، ثمَّ تَنامون فلا يُكتبُ عليكم حتى تَستَيْقظوا" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وصححه شيخنا بمجموع طُرُقه في "الصحيحة" (1358). (¬2) أي: وسخه. (¬3) أخرجه البخاري: 528، ومسلم: 667 (¬4) الإِحراق: الإِهلاك، وهو من إِحراق النار. "النهاية". والمراد هنا: استحقاق الهلاك لاقتراف الذنوب والآثام. (¬5) قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 234): رواه الطبراني في "الصغير" و"الأوسط" وإسناده حسن. ورواه في "الكبير" موقوفاً عليه، وهو أشبه، ورواته محتجٌّ بهم في الصحيح، وحسّنه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (351).

وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: "كان رجلان أخَوان، فهلكَ أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة، فَذُكِرَتْ فضيلة الأول منهما عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألم يكن الآخر مسلماً؛ قالوا: بلى، وكان لا بأس به. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وما يُدريكم ما بَلَغَتْ به صلاته؟ إِنَّما مثَل الصَّلاةِ كمثل نهرٍ عَذْبٍ غَمْرٍ، بباب أحدكم، يَقْتَحم فيه كلَّ يوم خمس مرات، فما ترَون في ذلك يُبقي من درنه؟ فإِنّكم لا تدرون ما بلَغتْ به صلاته" (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان رجلان من بَلِي من -قضاعة- أسلما مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستشهد أحدهما، وأُخِّر الآخرُ سنةً، فقال طلحة بن عبيد الله: فرأيتُ المؤخَّرَ منهما أُدخلَ الجنَّة قبل الشهيد، فتعجّبتُ لذلك، فأصبحتُ، فذكرتُ ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو ذُكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أليس قد صام بعده رمضانَ، وصلَّى ستةَ آلاف ركعةٍ، وكذا وكذا ركعةً، صلاةَ سنةٍ؟ " (¬2). ¬

_ (¬1) قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 243): رواه مالك واللفظ له، وأحمد بإِسناد حسن، والنسائي وابن خزيمة في "صحيحه" إِلا أنَّه قال: عن عامر بن سعد ابن أبي وقاص قال: سمعتُ سعداً وناساً من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولون: "كان رجلان أخوان في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان أحدهما أفضل من الآخر، فتوفِّي الذي هو أفضلهما، ثمَّ عُمِّر الآخرُ بعده أربعين ليلة، ثمَّ توفّي، فذُكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ألم يكن يصلي؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، وكان لا بأس به، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وماذا يُدريكم ما بلغَت به صلاته ... " الحديث. قال شيخنا: "وهذا اللفظ هو عند أحمد (1534) أيضاً"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (364). (¬2) قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 244): رواه أحمد بإِسناد حسن =

حكم ترك الصلاة

حُكم ترْك الصَّلاة عن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنَّ بين الرجل وبين الشرك والكُفر تركَ الصَّلاة" (¬1). وعن بريدة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "العهد الذي بيننا وبينهم الصَّلاة، فمَن تركها فقد كفر" (¬2). وعن عبد الله بن شقيق قال: "كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يَرون شيئاً من الأعمال تركُه كفرٌ غير الصَّلاة" (¬3). إِنَّ ما تقدم من النصوص ينطق بكفر تارك الصَّلاة، ولكن هل هو كفر مُخرجٌ من الملّة؟ أم هو كُفر دون كُفر؟ وهل هو كفر عمل أم كفر اعتقاد (¬4)؟ ومن الأمور المتفق عليها؛ أنَّ من لم يقر بوجوب الصلاة فهو كافر، بالنص ¬

_ = ورواه ابن ماجه وابن حبان في "صحيحه" والبيهقي كلهم عن طلحة بنحوه، أطول منه. وزاد ابن ماجه وابن حبان في آخره: "فلما بينهما أبعدُ ممّا بين السماء والأرض". وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (366). (¬1) أخرجه مسلم: 82 (¬2) أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم والذهبي ووافقهم شيخنا في "المشكاة" (574). (¬3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2114)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (562). (¬4) وانظر كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- الآتي قريباً بإِذن الله -سبحانه-.

والإِجماع (¬1). جاء في "النهاية": " ... ومنه الحديث: "من قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باء به أحدهما" لأنَّه إِمَّا أن يصدُق عليه أو يكذب، فإِن صدَق فهو كافر، وإن كذب عاد الكُفر إِليه بتكفيره أخاه المسلم. والكُفر (¬2) صنفان: أحدهما الكُفر بأصل الإِيمان وهو ضدُّه، والآخر الكُفر بفَرْعٍ من فروع الإِسلام، فلا يَخْرج به عن أصْل الإِيمان. وقيل: الكُفر على أربعة أنحاء: كُفر إِنكار، بألاَّ يعرف الله أصلاً ولا يعترف به. وكُفر جُحود، ككُفر إِبليس، يعرف الله بقلبه ولا يُقِرّ بلسانه (¬3). وكُفر عِنَاد، وهو أن يعترف بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به؛ حسداً وبغياً، ككُفَر أبي جهل وأضرابه. وكُفر نفاق، وهو أن يُقرّ بلسانه ولا يعتقد بقلبه. قال الهروي: سُئل الأزهري عمّن يقول بخلق القرآن: أتسمِّيه كافراً؟ فقال: الذي يقوله كُفر، فأُعيد عليه السؤال ثلاثاً ويقول مِثل ما قال، ثمَّ قال في الآخر: قد يقول المسلم كُفراً. ومنه حديث ابن عباس قيل له: " {ومن لم يحكُم بما أنزَل الله فأولئك ¬

_ (¬1) وسيأتي كلام شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- في ذلك غير بعيد بإِذن الله -سبحانه-. (¬2) انظر تقسيم ابن القيم -رحمه الله- للكفر في "مدارج السالكين" (1/ 337). (¬3) بل كفره كفر إِباء واستكبار، وهو قول ابن القيم -رحمه الله- في "مدارج السالكين" (1/ 337).

هم الكافرون} (¬1) قال: هم كَفَرة، وليسو كمن كفَر بالله واليوم الآخر". ومنه حديثه الآخر: "إِنَّ الأوس والخزرج ذكروا ما كان منهم في الجاهلية، فثار بعضهم إِلى بعض بالسيوف، فأنزل الله تعالى: {وكيفَ تكفرونَ وأنتم تُتلى عليكُمْ آياتُ الله وفيكُم رسولُه} (¬2) ولم يكن ذلك على الكُفر بالله، ولكن على تغطيتهم ما كانوا عليه من الأُلفة والمودَّة" (¬3). انتهى. قال النووي -رحمه الله- في شرح حديث مسلم المتقدّم -بحذف-: "إِنَّ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصَّلاة": "وأمَّا تارك الصَّلاة فإِن كان مُنكِراً لوجوبها فهو كافر بإِجماع المسلمين، خارج من ملّة الإِسلام؛ إلاَّ أن يكون قريب عهد بالإِسلام ولم يخالط المسلمين مدّة؛ يبلغه فيها وجوب الصَّلاة عليه، وإِن كان ترَكه تكاسلاً مع اعتقاده وجوبها -كما هو حال كثير من النَّاس- فقد اختلف العلماء فيه فذهب مالك والشافعي -رحمهما الله- والجماهير من السلف والخلف إِلى أنَّه لا يكفر، بل يفسق ويُستتاب، فإِنْ تاب وإِلا قتلناه حدّاً كالزاني المحصَن، ولكنَّه يُقتل بالسيف، وذهب جماعة من السلف إِلى أنّه يكفر وهو مرويٌّ عن عليّ بن أبي طالب وهو إِحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل -رحمه الله- وبه قال عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي -رضوان الله عليه- وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي ¬

_ (¬1) المائدة: 44 (¬2) آل عمران: 101 (¬3) إِنْ صحّ هذا الخبر، وهناك كلام طيب لابن كثير في هذا الموضع فارجِع إِليه -إِن شئت-.

-رحمهما الله- أنَّه لا يكفر ولا يقتل، بل يُعزّر ويُحبس حتى يصلّي، واحتجّ من قال بكفره بظاهر الحديث الثاني المذكور وبالقياس على كلمة التوحيد، واحتجّ من قال لا يُقتل بحديث "لا يحلّ دم امرئ مسلم إلاَّ بإِحدى ثلاث ... " (¬1) وليس فيه الصَّلاة، واحتجّ الجمهور على أنَّه لا يكفَّر بقوله تعالى: {إِنَّ الله لا يغفر أن يُشرَك به ويَغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (¬2) وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قال لا إله إلاَّ الله دخل الجنة"، "من مات وهو يعلم أن لا إِله إلاَّ الله دخل الجنَّة"، "ولا يلقى اللهَ تعالى عبدٌ بهما غير شاكٍّ فيُحجب عن الجنَّة" (¬3)، "حرم الله على النَّار من قال لا إِله إلاَّ الله ... " (¬4). وغير ذلك، واحتجّوا على قتله بقوله تعالى: {فإِنْ تابوا وأقاموا الصَّلاة وآتَوُا الزكاة فخلّوا سبيلهم} (¬5)، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إِله إلاَّ الله، ويقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم" (¬6). وتأوّلوا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بين العبد وبين الكفر ترك الصَّلاة" (¬7)، على معنى أنَّه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 6878، ومسلم: 1676 (¬2) النساء: 48 (¬3) أخرجه مسلم: 26، 27 (¬4) أخرجه مسلم: 29 (¬5) التوبة: 5 (¬6) أخرجه البخاري: 25، ومسلم: 22 (¬7) تقدّم تخريجه.

يستحق بترك الصَّلاة عقوبة الكافر وهي القتل، أو أنَّه محمول على المستحلّ، أو على أنَّه قد يؤول به إِلى الكفر، أو أن فِعله فِعل الكفّار والله أعلم". وفي "مجموع الفتاوى" (22/ 40) لشيخ الإِسلام ابن تيمية: "وسُئل -رحمه الله- عن تارك الصَّلاة من غير عُذر، هل هو مسلم في تلك الحال؟ فأجاب: أمَّا تارك الصَّلاة؛ فهذا إِن لم يكن معتقداً لوجوبها فهو كافر بالنصّ والإِجماع، لكنْ إِذا أسلم ولم يعلم أنَّ الله أوجب عليه الصَّلاة، أو وجوب بعض أركانها؛ مِثل أن يصلّي بلا وضوء، فلا يعلم أنَّ الله أوجب عليه الوضوء، أو يصلّي مع الجنابة فلا يعلم أنَّ الله أوجب عليه غُسل الجنابة، فهذا ليس بكافر إِذا لم يعلم. وقال (ص 48): "وإِذا صبر حتى يقتل فهل يقتل كافراً مرتداً، أو فاسقاً كفسّاق المسلمين؟ على قولين مشهورين؛ حُكيا روايتين عن أحمد، وهذه الفروع لم تُنقَل عن الصحابة، وهي فروع فاسدة، فإِنْ كان مقرّاً بالصَّلاة في الباطن، معتقداً لوجوبها، يمتنع أن يصرّ على تركها حتى يقتل وهو لا يصلّي، هذا لا يُعرَف من بني آدم وعادتهم؛ ولهذا لم يقع هذا قطّ في الإِسلام، ولا يعرف أنَّ أحداً يعتقد وجوبها، ويقال له: إِنْ لم تصلّ وإِلاَّ قتلناك، وهو يصرّ على تركها، مع إِقراره بالوجوب، فهذا لم يقع قطّ في الإِسلام. ومتى امتنع الرجل من الصَّلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقرّاً بوجوبها، ولا ملتزماً بفِعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلّت عليه النصوص الصحيحة.

كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس بين العبد وبين الكفر إلاَّ ترك الصَّلاة". رواه مسلم (¬1). وقوله: "العهد الذي بيننا وبينهم الصَّلاة فمن تركَها فقد كفَر". وقول عبد الله بن شقيق: "كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كُفر إلاَّ الصَّلاة". فمن كان مُصرّاً على تركها حتى يموت، لا يسجد لله سجدة قط، فهذا لا يكون مسلماً مقرَّاً بوجوبها، فإِنّ اعتقاد الوجوب، واعتقاد أنّ تاركها يستحقّ القتل؛ هذا داعٍ تامٌّ إِلى فعلها، والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور، فإِذا كان قادراً ولم يفعل قطّ؛ علم أنَّ الداعي في حقّه لم يوجد، والاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل، لكن هذا قد يعارضه أحياناً أمور توجب تأخيرها وترْك بعض واجباتها، وتفويتها أحياناً. فأمَّا من كان مُصرّاً على تركها لا يصلّي قطّ، ويموت على هذا الإِصرار والترك؛ فهذا لا يكون مسلماً؛ لكن أكثر النَّاس يصلّون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في "السنن" حديث عبادة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد في اليوم والليلة، من حافظ عليهنّ؛ كان له عهد عند الله أنْ يدخله الجنّة، ومن لم يحافظ عليهنّ لم يكن له عهد عند الله، إِنْ شاء عذّبه وإنْ شاء غفر له" (¬2). ¬

_ (¬1) وتقدم تخريجه. (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (410)، وغيرهما وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "المشكاة" (570)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (363) و"السنّة" لابن أبي عاصم (967).

فالمحافظ عليها الذي يصلّيها في مواقيتها، كما أمر الله تعالى، والذي ليس يؤخّرها أحياناً عن وقتها، أو يترك واجباتها، فهذا تحت مشيئة الله تعالى، وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضه، كما جاء في الحديث". وجاء (ص 53) -منه-: "وسئل عن رجل يأمره الناس بالصَّلاة ولم يصلّ فما الذي يجب عليه؟ فأجاب: إِذا لم يصلّ فإِنَّه يستتاب، فإِن تاب وإِلاَّ قُتل، والله أعلم". ويظهر من كلام شيخ الإِسلام -رحمه الله- أنه قد قسم الناس إِلى أربعة أقسام: 1 - الممتنع منها حتى يُقَتل؛ كما في قوله المتقدم: "ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل؛ لم يكن في الباطن مقراً لوجوبها، ولا ملتزماً بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين". 2 - المُصرّ على الترك؛ كما يظهر في قوله: "فمن كان مصراً على تركها حتى يموت؛ لا يسجد لله سجدةً قط؛ فهذا لا يكون مسلمأ مُقرّاً بوجوبها". بمعنى أنه يرى -رحمه الله- كُفره. 3 - الذي لا يحافظ عليها ويظهر من قوله: "لكنّ أكثر الناس يُصلّون تارة ويتركونها تارة ... " وهذا تحت المشيئة؛ لحديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- المشار إِليه آنفاً. 4 - المؤمنون المحافظون على الصلاة، وهم أصحاب العهد في دخول الجنّة. وبهذا يرى شيخ الإِسلام -رحمه الله- أن الامتناع من الصلاة حتى القتل،

أو الإِصرار على الترك؛ قرينتان للكفر، فقد قال -رحمه الله- في الممتنع: " ... لم يكن في الباطن مقرّاً بوجوبها"، وقال -رحمه الله- في المُصرّ على الترك (22/ 48): " ... فهذا لا يكون قطُّ مسلماً مقرّاً بوجوبها". وبهذا ينحصر الخلاف في المُصرّ على الترك، وهو المُشكل في كل الأقسام، وعليه مدار البحث والنظر، وتحقيق مناط الحُكم مرتبِطٌ بتنقيح مناطه، ويعود الأمر إِلى الإِقرار بالوجوب وعدمه. وبالله التوفيق. وجاء أيضاً في "مجموع الفتاوى" (24/ 285) -بحذف-: "وسُئل -رحمه الله- عن الصلاة على الميت الذي كان لا يصلّي، هل لأحد فيها أجر أم لا؟ وهل عليه إِثم إِذا ترَكها مع عِلمه أنه كان لا يصلّي؟ وكذلك الذي يشرب الخمر، وما كان يصلّي؛ هل يجوز لمن كان يعلم حاله أنْ يصلّي عليه أم لا؟ فأجاب: أمّا من كان مظهِراً للإِسلام، فإِنّه تجري عليه أحكام الإِسلام الظاهرة؛ من المناكحة، والموارثة، وتغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ونحو ذلك، لكن من عُلِم منه النفاق والزندقة، فإِنه لا يجوز لمن عَلِم ذلك منه الصلاة عليه؛ وإن كان مُظهِراً للإِسلام". وقال (ص 286): "وكلّ من لم يُعلَم منه النفاق وهو مسلم؛ يجوز الاستغفار له والصلاة عليه بل يشرع ذلك". وجاء (ص 287) منه: "وسُئل عن رجل يصلي وقتاً، ويترك الصلاة كثيراً، أو لا يصلّي هل يصلّى عليه؟

فأجاب: مثل هذا ما زال المسلمون يصلّون عليه، بل المنافقون الذين يكتمون النفاق يصلّي المسلمون عليهم، ويُغسَّلون، وتجري عليهم أحكام الإِسلام؛ كما كان المنافقون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإِن كان من علم نفاق شخص؛ لم يجُز له أن يصلّي عليه، كما نُهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة على من عَلم نفاقَه، وأمّا من شُكّ في حاله؛ فتجوز الصلاة عليه، إِذا كان ظاهره الإِسلام". وقال ابن القيّم -رحمه الله- في كتاب "الصلاة وحُكم تاركها" (ص 38) في المسألة الأولى -وقد رجّح استتابة تارك الصلاة: المسألة الثانية: " ... أنه لا يقتل حتى يُدعى إِلى فِعلها فيمتنع". فماذا إِذا لم يُدع ولم يُستَتب؟ وماذا إِذا لم يُهدَّد بالقتل من الحاكم، أيُحكَم عليه بالكفر، وهذا هو واقعنا مع الأسف، فتنبّه وتدبّر. ومِثله ما جاء في "الاختيارات" (ص32) في ردّ شيخ الإِسلام -رحمه الله- على متأخري الفقهاء: " ... إِذ يمتنع أن يعتقد أنّ الله فرَضها ولا يفعلها، ويصبر على القتل؛ هذا لا يفعله أحد قطّ" وقد سبقت الإِشارة إِلى مِثل هذا، وانظر "مجموع الفتاوى" (7/ 218) فإِن فيه تفصيلاً أكثر. وجاء في "المرقاة" (2/ 276): "فمن تركها فقد كفر: أي: أظهر الكُفر وعمل عمل أهل الكُفر فإِنّ المنافق نفاقاً اعتقادياً كافر، فلا يُقال في حقّه كَفر". وجاء في "الصحيحة" (1/ 174) -بحذف-: "فالجمهور على أنَّه لا يكفُر بذلك، بل يفسق، وذهب أحمد -في رواية- إِلى أنَّه يكفر، وأنَّه يُقتَل ردّة لا حدّاً، وقد صحّ عن الصحابة أنَّهم كانوا لا يرون من الأعمال شيئاً ترْكه كُفر غير الصَّلاة. رواه الترمذي والحاكم.

وأنا أرى أنَّ الصواب رأي الجمهور، وأنّ ما ورَد عن الصحابة ليس نصّاً على أنَّهم كانوا يريدون بـ (الكفر) هنا الكفر الذي يُخلِّد في النار ... ثمَّ وقفْتُ على "الفتاوى الحديثة" (84/ 2) للحافظ السخاوي، فرأيته يقول بعد أن ساق بعض الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصَّلاة -وهي مشهورة معروفة-: "ولكن؛ كل هذا إِنَّما يُحمل على ظاهره في حقّ تاركها جاحداً لوجوبها، مع كونه ممَّن نشأ بين المسلمين؛ لأنَّه يكون حينئذ كافراً مرتدّاً بإِجماع المسلمين، فإِنْ رجع إِلى الإِسلام؛ قُبِل منه وإِلاَّ قُتل. وأمّا من تركَها بلا عذر بل تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها؛ فالصحيح المنصوص الذي قطَع به الجمهور أنَّه لا يكفر، وأنَّه -على الصحيح أيضاً بعد إِخراج الصَّلاة الواحدة عن وقتها الضروري؛ كأن يترك الظهر مثلاً حتى تغرب الشمس، أو المغرب حتى يطلع الفجر؛ يستتاب كما يستتاب المرتدّ، ثمَّ يُقتل إِن لم يَتُب، ويُغسل ويصلَّى عليه ويُدفن في مقابر المسلمين، مع إِجراء سائر أحكام المسلمين عليه (¬1)، ويؤول إِطلاق الكفر عليه لكونه شاركَ الكافر في بعض أحكامه، وهو وجوب العمل؛ جمعاً بين هذه النصوص وبين ما صحّ أيضاً عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "خمس صلوات كتبهنّ الله ... (فذكر الحديث، وفيه:) إِنْ شاء عذبه، وإِن شاء غفر له"، وقال أيضاً: "من مات وهو يعلم أن لا إِله إلاَّ الله؛ دخل الجنّة" إِلى غير ذلك ... ولهذا لم يزل المسلمون يَرِثون تارك الصَّلاة ويورّثونه، ولو كان كافراً؛ لم يُغفر له؛ لم يَرِث ولم يُورَث". وقد ذكر نحو هذا الشيخ سليمان عبد الله في "حاشيته على المقنع" ¬

_ (¬1) سيأتي كلام شيخنا في إِبطال هذا؛ عما قريب -بإِذن الله تعالى-.

(1/ 95 - 96)، وختم البحث بقوله: "ولأنَّ ذلك إِجماع المسلمين، فإِننا لا نعلم في عصرٍ من الأعصار أحداً من تاركي الصَّلاة تُرك تغسيلُه والصَّلاة عليه، ولا مُنع ميراث موروثه، مع كثرة تاركي الصَّلاة، ولو كَفَر؛ لثبتت هذه الأحكام، وأمَّا الأحاديث المتقدمة؛ فهي على وجه التغليظ والتشبيه بالكافر لا على الحقيقة؛ كقوله عليه الصَّلاة والسلام: "سِباب المسلم فسوق وقتاله كُفر" (¬1)، وقوله: "من حلف بغير الله فقد أشرك" (¬2)، وغير ذلك. قال الموفق: وهذا أصوب القولين". أقول [أي: شيخنا -حفظه الله-]: نقلْت هذا النص من "الحاشية" المذكورة، ليعلم بعض متعصّبة الحنابلة أن الذي ذهَبْنا إِليه ليس رأياً لنا تفرَّدْنا به دون أهل العلم، بل هو مذهب جمهورهم، والمحققين من علماء الحنابلة أنفسهم؛ كالموفّق هذا -وهو ابن قدامة المقدسي- وغيره؛ ففي ذلك حُجّة كافية على أولئك المتعصبة، تَحْمِلُهم إِنْ شاء الله تعالى على ترك غلَوائهم، والاعتدال في حُكمهم. بيد أنَّ هنا دقيقة قَلَّ من رأيته تنبّه لها، أو نبّه عليها، فوجب الكشفُ عنها وبيانها، فأقول: إِنَّ التارك للصلاة كسَلاً؛ إِنَّما يصح الحكم بإِسلامه، ما دام لا يوجد هناك ما يكشف عن مكنون قلبه، أو يدلّ عليه، ومات على ذلك قبل أن يستتاب؛ كما هو الواقع في هذا الزمان، أمَّا لو خُيِّر بين القتل والتوبة بالرجوع إِلى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 48، ومسلم: 64 (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2787)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1241) وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (2561).

المحافظة على الصَّلاة، فاختار القتل عليها، فقُتل؛ فهو في هذه الحالة يموت كافراً، ولا يُدفَن في مقابر المسلمين، ولا تَجري عليه أحكامهم؛ خلافاً لما سبق عن السخاوي؛ لأنَّه لا يُعقل -لو كان غير جاحد لها في قلبه - أن يختار القتل عليها، هذا أمر مستحيل معروف بالضرورة من طبيعة الإِنسان، لا يحتاج إِثباته إِلى برهان". انتهى. وكم أعجبني قول بعض طلاب العلم: "إِنَّ ممّا أخشاه أن يكون المكفّرون لتارك الصلاة مطلقاً؛ قد عظّموا الصَّلاة أكثر من الشهادتين". وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "أُمِرَ بعبد من عباد الله أن يضربَ في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة، فجُلدَ جلدةً واحدةً، فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه وأفاق قال: على ما جلدتموني؟ قالوا: إِنّك صليت صلاةً واحدةً بغير طهورٍ، ومررتَ على مظلومٍ فلم تنصره" (¬1). قال شيخنا -حفظه الله تعالى- من فقه الحديث: قال الطحاوي عقبه: "فيه ما قد دل أن تارك الصلاة لم يكن بذلك كافراً، لأنّه لو كان كافراً لكان دعاؤه باطلاً لقول الله تعالى: {وما دعاء الكافرين إلاَّ في ضلال}. ونقله عنه ابن عبد البر في "التمهيد" (4/ 239)، وأقره، بل وأيده بتأويل الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة على أن معناها: "من ترك الصلاة جاحداً لها معانداً مستكبراً غير مقرّ بفرضها. وألزم من قال بكفره بها وقبلها ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" وغيره، وخرّجه شيخنا في "الصحيحة" (2774).

على ظاهرها فيهم أن يكفر القاتل والشاتم للمسلم، وأن يكفر الزاني و ... و .. إِلى غير ذلك مما جاء في الأحاديث لا يُخرج بها العلماء المؤمن من الإِسلام، وإِن كان بفعل ذلك فاسقاً عندهم، فغير نكير أن تكون الآثار في تارك الصلاة كذلك". وفي "المغني" (2/ 298) بحثٌ نفيسٌ فارجِع إِليه -إِن شئت-. ثمَّ رأيتُ ردّاً للشيخ علي الحلبي -حفظه الله- على من يقول بتكفير تارك الصلاة إِذا كان غير جاحد لوجوبها، ذكر فيه عدداً من الحجج والبراهين من ذلك: 1 - في كتاب "الجامع" (2/ 546 - 547) للخلاّل، عن إِبراهيم بن سعد الزّهري، قال: سألتُ ابن شهابٍ عن الرجل يترك الصلاة؟ قال: "إِنْ كان إِنّما يتركها أنه يبتغي ديناً غير الإِسلام قُتل، وإِنْ كان إِنّما هو فاسق من الفُسّاق، ضُرب ضرباً شديداً أو سُجن". 2 - قال الإِمام ابن المنذر في كتاب "الإِجماع" (ص 148) في مسألة تارك الصلاة: "لم أجِدْ فيها إِجماعاً" (¬1) أي: على كُفره. 3 - نَقَلَ الحافظ محمد بن نصر المقدسيّ عن ابن المبارك قولَه في تكفير تارك الصلاة -في كتابه "تعظيم قدر الصلاة" (2/ 998) -، ثمَّ قال: "فقيل ¬

_ (¬1) ومِثله ما ذَكَره في مقدّمة كتاب "حكم تارك الصلاة" لشيخنا عن الإِمام محمد ابن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- فقد قال كما في "الدُّرر السنيّة" (1/ 70) - جواباً على من قال عمّا يُكَّفَّر الرجل به؟ وعمّا يقاتَل عليه؟: "أركان الإِسلام الخمسة؛ أولها الشهادتان، ثمَّ الأركان الأربعة؛ إِذا أقرَّ بها وتركها تهاوناً، فنحن وإنْ قاتلناه على فِعلها فلا نكفره بتركها، والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود، ولا نكَفّر إلاَّ ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان".

لابن المبارك: أيتوارثان إِنْ مات؟! أو إِن طَلَّقها يقع طلاقُهُ عليها؟ فقال: أمّا في القياس؛ فلا طلاق ولا ميراث، ولكنْ أَجْبُنُ" ... 4 - قال الإِمام ابن القيّم في "كتاب الصلاة" (ص 55): "وها هنا أصل آخر، وهو أنّ الكفر نوعان: كُفر عمل، وكُفر جحود وعناد. فكُفر الجحود: أن يكفر بما علم أنّ الرسول جاء به من عند الله جُحوداً وعناداً من أسماء الربّ وصفاته وأفعاله وأحكامه، وهذا الكفر يضادُّ الإِيمان من كل وجه، وأما كُفر العمل، فينقسم إِلى ما يضادّ الإِيمان، وإِلى ما لا يضاده، فالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف، وقتل النّبيّ وسّبه يضادّ الإِيمان. وأمّا الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة، فهو من الكفر العملي قطعاً، ولا يمكن أن يُنفى عنه اسم الكفر؛ بعد أنْ أطلقه الله ورسوله عليه، فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر، وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكنْ هو كفر عمل لا كفر اعتقاد، ومن الممتنع أن يُسمّي الله -سبحانه- الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ويُسمّي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تارك الصلاة كافراً، ولا يُطلِق عليهما اسم الكفر، وقد نفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإِيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر، وعمّن لا يأمن جاره بوائقه، وإِذا نفي عنه اسم الإِيمان، فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كُفر الجحود والاعتقاد، وكذلك قوله: "لا ترْجِعوا بعدي كُفّاراً يضربُ بعضكم رقاب بعض" (¬1) فهذا كُفر عمل (¬2) ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 6868، ومسلم: 66 (¬2) قلت: ولا يخفى ما يقوله ابن القيّم -فيما يظهر من كلامه- تبعاً لشيخ الإِسلام -رحمهما الله تعالى- أنه يُعلّق الكفر على تحقُّق الترك، والإِصرار عليه؛ باعتبارهما قرينة على عدم الإِقرار بالوجوب.

5 - قال الإِمام الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في "أضواء البيان" (4/ 347) -بعد نقاشٍ طويلٍ في المسألة، وسَرْدٍ مستوعب لأدلة المكفِّرين، وغيرهم-: "هذا هو حاصل كلام العلماء وأدلتهم في مسألة ترك الصلاة عمداً؛ مع الاعتراف بوجوبها. وأظهر الأقوال أدلة عندي: قول من قال إِنه كافر، وأجرى الأقوال على مقتضى الصناعة الأصولية وعلوم الحديث قول الجمهور: إِنه كُفر غير مخرج عن الملة لوجوب الجمع بين الأدلة إِذا أمكن. وإِذا حمل الكفر والشرك المذكوران في الأحاديث على الكفر الذي لا يخرج من الملة؛ حصل بذلك الجمع بين الأدلة والجمع واجب إِذا أمكن؛ لأن إِعمال الدليلين أولى من إِلغاء أحدهما؛ كما هو معلوم في الأصول وعلم الحديث. وقال النووي في "شرح المهذب" -بعد أن ساق أدلة من قالوا إِنه غير كافر ما نصه-: "ولم يزل المسلمون يورّثون تارك الصلاة ويوَرِّثون عنه، ولو كان كافراً لم يغفر له ولم يرث ولم يورث". من أجل هذا؛ عدّ الإِمام ابن رشد في كتابه "بداية المجتهد" (1/ 228) قول مكفّري تارك الصلاة: " ... مضاهياً لقول من يكفّر بالذنوب". ولعلّه -من أجل ذا- قال العلامة أبو الفضل السَّكْسَكي في كتابه "البرهان" (ص 35): "إِنّ تارك الصلاة -إِذا لم يكن جاحداً- فهو مسلم -على الصحيح من مذهب أحمد- وأنّ المنصورية يسمّون أهل السنّة مرجئة؛ لأنهم يقولون بذلك، ويقولون: هذا يؤدي إِلى أن الإيمان

عندهم قول بلا عمل"! 6 - قال الإِمام ابن عبد البّر في "التمهيد" (4/ 236) مُلزِماً مكفّري تارك الصلاة -لمجرّد العمل-: "ويلزم من كَفَّرهم بتلك الآثار (¬1) وقبلها على ظاهرها فيهم: أن يكفِّر القاتل، والشاتم للمسلم، وأن يكفِّر الزاني، وشارب الخمر، والسارق، والمنتهب، ومن رغب عن نسب أبيه. فقد صح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (¬2). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ... " (¬3). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ترغبوا عن آبائكم، فإِنّه كُفرٌ بكم أن ترغبوا عن آبائكم" (¬4). وقال أيضاً: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" (¬5). إِلى آثار مِثل هذه لا يُخرجُ بها العلماء المؤمن من الإِسلام، وإِنْ كان بفعل ذلك فاسقاً عندهم، فغير نكير أنْ تكون الآثار في تارك الصلاة كذلك". ¬

_ (¬1) منها حديث بُريدة بن الخصيب -مرفوعاً-: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كَفر"، وتقدّم تخريجه. (¬2) أخرجه البخاري: 48، ومسلم: 64، وتقدّم. (¬3) أخرجه البخاري: 6810، ومسلم: 57 (¬4) أخرجه البخاري: 6768، ومسلم: 62 (¬5) تقدّم.

7 - قال الإِمام عبد الحقِّ الإِشبيلي في كتابه "الصلاة والتهجّد" (ص 96): " ... وذهب سائر المسلمين من أهل السنّة -المحدثين وغيرهم- إِلى أن تارك الصلاة متعمداً، لا يكفر بتركها، وأنه أتى كبيرة من الكبائر إِذ كان مؤمناً بها، مُقرّاً بفرضها، وتأولوا قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقول عمر، وقول غيره ممن قال بتكفيره، كما تأولوا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (¬1)، وغير ذلك مما تأوّلوه، ومن قال بقتل تارك الصلاة من هؤلاء، فإِنما قال: يقتل حدّاً، ولا يقتل كفراً، وإِلى هذا ذهب مالك والشافعي وغيرهما. 8 - ويقول الحافظ العراقي في "طرح التثريب" (2/ 149): "وذهب جمهور أهل العلم إِلى أنه لا يكفر بترك الصلاة -إِذا كان غير جاحد لوجوبها-، وهو قول بقية الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي، وهي رواية عن أحمد بن حنبل -أيضاً-". انتهى كلام الشيخ علي الحلبي -حفظه الله-. قلتُ: ومهما يكن مِن أمر؛ فإِنه لا ينبغي أن نختلف في هذه المسألة، أو نجعل فيها ولاءً وبراءً -إِذ الخلاف شرٌّ- وهذه من مسائل الاجتهاد، والذي ينبني على هذه المسألة أمران: 1 - أمْرٌ يتعلّق بجزاء تارك الصلاة عند اللَّه -تعالى- أيخلُد في النّار أم لا؟ وليس لنا من هذا الأمر شيء. 2 - وأمْرٌ يتعلق بإِجراء الأحكام عليه في الدنيا، وينقسم إِلى قسمين: أ- ما ينبني عليه من إِجراء أحكام الكافر؛ كمنع الميراث، وتطليق زوجته، وعدم دفنه في مقابر المسلمين عند موته ... إِلخ. ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه.

على من تجب؟

وهذا لم يمض عليه عَمَلُ مَن قبلنا، ومن هم خيرٌ منا، وتقدم الكلام فيه. ب- ما ينبني عليه من الاستتابة إِذا امتنع؛ من قتل، ونحن نعلم -مع الأسف- غياب هذا، والعجز عنه. ولو تحقق هذا؛ لانتهى ما طال حوله الجدل، فلنتآلف ولتجتمع قلوبنا، ولنعمل للإِسلام؛ ليأتي اليوم الذي نفرح فيه؛ بتطبيق أحكامه، وهذا من أبرزها، وبالله التوفيق. على مَن تجب؟ تجب الصَّلاة على المسلم العاقل البالغ؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النّائم حتى يستيقظ، وعن المُبتَلى حتى يبرَأ (¬1)، وعن الصّبيّ حتى يكبُر (¬2) " (¬3). صلاة الصبيّ تقدَّم حديث عائشة -رضي الله عنها-: "رفع القلم ... " ويتضمّن ذلك الصبيّ حتى يكبر أو يحتلم. بيْد أنَّ عدم الوجوب لا يُعفي وليَّه أن يأمره بها حين يبلغ سبْع سنين، وأن يُعاقبه بالضّرب على ترْكها حين يبلغ عشراً، كما في الحديث: "مُرُوا أولادكم بالصَّلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرِّقوا ¬

_ (¬1) وفي رواية: "وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق"، انظر "الإِرواء" (297). (¬2) وفي رواية: "حتى يحتلم". المصدر السابق. (¬3) أخرجه أبو داود وغيره وقال الحاكم: صحيح عى شرط مسلم ووافقه الذهبي وكذا شيخنا في "الإرواء" (297).

عدد الفرائض

بينهم في المضاجع" (¬1). عدد الفرائض وفرائض الصَّلاة في اليوم والليلة خمس كما في حديث طلحة بن عبيد الله: "أنَّ أعرابياً جاء إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثائر الرأس فقال: يا رسولَ الله أخبِرني ماذا فرض الله عليَّ من الصَّلاة، فقال: الصلوات الخمس إلاَّ أن تطوَّع شيئاً، فقال: أخبِرني ما فرَض الله عليَّ من الصيام. فقال: شهر رمضان إلاَّ أن تطوَّع شيئاً، فقال: أخبِرني بما فرض الله عليَّ من الزكاة، فقال: فأخبَره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرائع الإِسلام، قال: والذي أكرمك لا أتطوّع شيئاً، ولا أنقُص ممَّا فرض الله عليَّ شيئاً. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أفلح إِنْ صدق، أو دخل الجنَّة إِن صدق" (¬2). مواقيت الصَّلاة قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً (¬3)} (¬4). قال في "المغني" (1/ 378): "أجمعَ المسلمون على أنَّ الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت محددةٍ". ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبى شيبة في "المصنف" وأبو داود والدارقطني والحاكم والبيهقي وأحمد وغيرهم، وهو حديث صحيح خرَّجه شيخنا في "الإِرواء" (247)، وانظر "تمام المنة" (ص 139). (¬2) أخرجه البخاري: 1891، ومسلم: 11، وغيرهما. (¬3) النساء: 103 (¬4) جاء في "تفسير ابن كثير": قال ابن مسعود: "إِنَّ الصلاة وقتاً كوقت الحجّ، وقال زيد بن أسلم: (كتاباً موقوتاً): مُنجَّماً: كلّما مضى نجم جاء نجم، يعني: كلما مضى وقت جاء وقت".

وقد بيّنَت الأحاديث هذه المواقيت؛ كما في حديث عبد الله بن عمرو، أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "وقتُ الظهر إِذا زالت الشمس وكان ظلُّ الرَّجلِ كطوله، ما لم يحضُر العصر، ووقت العصر ما لم تصفَرَّ الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إِلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر، ما لم تطلع الشمس، فإِذا طلعت الشمس فأمسِك عن الصَّلاة، فإِنَّها تطلع بين قرنيْ شيطانٍ" (¬1). وكذلك حديث جابر: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاءه جبريلُ عليه السلام فقال: قم فصلِّه، فصلّى الظهر حين زالت الشمس، ثمَّ جاءه العصر فقال: قم فصلّه فصلّى العصر حين صار ظلُّ كلِّ شيءٍ مثلَه، ثمَّ جاءه المغرب فقال: قم فصلّه، فصلّى المغرب حين وجبت (¬2) الشمس، ثمَّ جاءه العشاء فقال: قم فصلّه، فصلّى العشاء حين غاب الشفَق، ثمَّ جاءه الفجر فقال: قم فصلِّه، فصلَّى الفجر حين برق الفجر أو قال: سطع الفجر، ثمَّ جاء من الغد للظهر فقال: قم فصلّه، فصلّى الظهر حين صار ظلُّ كلِّ شيءٍ مثله، ثمَّ جاءه العصر حين صار ظلُّ كلِّ شيءٍ مثليه، ثمَّ جاءه المغرب وقتاً واحداً لم يَزُل عنه. ثمَّ جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل أو قال ثلث الليل، فصلّى العشاء، ثمَّ جاء حين أسفر (¬3) جداً، فقال له: قم فصلّه، فصلّى الفجر ثمَّ قال: ما بين هذين ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم:612 (¬2) أصل الوجوب: السقوط والوقوع، والمراد هنا: الغروب. (¬3) أسفر الصبح: إِذا انكشف وأضاء والمراد: تأخيرها إِلى أن يطلع الفجر الثاني ويتحقّقه، وقيل إِن الأمر بالإِسفار خاصٌّ في الليالي المقمرة؛ لأنَّ أول الصبح لا يتبيّن فيها فأُمروا بالإِسفار احتياطاً. "النهاية" بتصرف.

وقت الظهر

وقتٌ" (¬1) وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ للصلاة أولاً وآخراً، وإنّ أوّل وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإنّ أول وقت صلاة العصر حين يدخل وقتها، وإِنّ آخر وقتها حين تصفرّ الشمس، وإنّ أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وإِنّ أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإِنّ أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإِنَّ آخر وقتها حين تطلع الشمس" (¬2). وقت الظُّهر (¬3) عن عبد الله بن عمرو أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "وقت الظهر إِذا زالت ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (488) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (127) والدارقطني والحاكم وعنه البيهقي وأحمد، وقال الحاكم: "حديث صحيح مشهور" ووافقه الذهبي، وشيخنا الألباني، وانظر "الإِرواء" (250). (¬2) أخرجه الترمذي والطحاوي في "شرح المعاني" والدارقطني في "السنن" وغيرهم، وخرّجه شيخنا في "الصحيحة" (1696). (¬3) قال في "المغني" (1/ 378): "بدأ الخرقي بذِكر صلاة الظهر؛ لأنَّ جبريل بدأ بها حين أمّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عباس وجابر، وبَدأ بها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين علَّم الصحابة مواقيتَ الصلاة في حديث بريدة وغيره، وبدأ بها الصحابة حين سُئلوا عن الأوقات في حديث أبي برزة وجابر وغيرهما". انتهى. قلتُ: لكن بدأت بعض الألفاظ بصلاة الفجر، كما في "صحيح مسلم" (612). فعن عبد الله بن عمرو أنَّ نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا صلّيتم الفجر فإِنَّه وقت إِلى أنْ يطلع =

الشمس، وكان ظلّ الرجل كطوله، ما لم يحضُر العصر" (¬1). يبدأ وقت الظهر حين تزول الشمس عن بطن السماء ووسطها، ويستمرّ ذلك حتى يصير ظلّ كلّ شيء مثله، باستثناء فيء (¬2) الزوال. وأجمع أهل العلم على أن أوّل وقت الظهر زوال الشمس، قاله ابن المنذر وابن عبد البرّ، وقد تظاهرَت الأخبار بذلك ... (¬3). قال في "المغني" (1/ 380): "ومعنى زوال الشمس: ميلها عن كبد ¬

_ = قرن الشمس الأول، ثمَّ إِذا صليتم الظهر فإِنه وقتٌ إِلى أن يحضر العصر، فإِذا صلّيتم العصر فإِنَّه وقتٌ إِلى أن تصفر الشمس، فإِذا صليتم المغرب فإِنَّه وقتٌ إلى أن يسقط الشفق، فإِذا صليتم العشاء فإِنَه وقتٌ إِلى نصف الليل". وورد في "صحيح مسلم" (612): عن عبد الله بن عمرو أيضاً مرفوعاً بلفظ: "وقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول ... " ولكن أحاديث الابتداء بوقت صلاة الظهر أكثر. واستحسن شيخ الإسلام ابن تيمية: كما في "الاختيارات" (ص 33): أن يُبدَأ بالفجر؛ لأنَّ الصلاة الوسطى هي العصر، وإنَّما تكون الوسطى إِذا كان الفجر هو الأوّل. (¬1) أخرجه مسلم: 612 (¬2) قال في "النهاية": " ... وأصْل الفيء الرجوع، يُقال: فاء يفي فئةً وفُيوءاً؛ كأنه كان في الأصل لهم فرجع إِليهم، ومنه قيل للظلِّ الذى يكون يعد الزوال: فيء، لأنَّه يرجع من جانب الغرب إِلى جانب الشرق". قال النووي: "والفيء لا يكون إلاَّ بعد الزوال، وأمّا الظلّ فيُطلق على ما قبل الزوال وبعده، وهذا قول أهل اللغة". وقال الحافظ في "الفتح" (6/ 326): "والفيء يكون من عند زوال الشمس، ويتناهى بمغيبها". (¬3) انظر "الأوسط" (2/ 326)، و"المغني" (1/ 378).

السماء، ويُعرف ذلك بطول ظلّ الشخص بعد تناهي قِصَره، فمن أراد معرفة ذلك فليُقدّر ظلّ الشمس، ثمَّ يصبر قليلاً ثمَّ يقدّره ثانياً، فإِنْ كان دون الأول فلم تَزُل، وإن زاد ولم ينقص فقد زالت، وأمَّا معرفة ذلك بالأقدام فتختلف باختلاف الشهور والبلدان، فكلّما طال النهار قصر الظل، وإِذا قصر طال الظلّ، فكلّ يوم يزيد أو ينقص". جاء في "عون المعبود" (3/ 300): "قال الشيخ عبد القادر الجيلاني في "غنية الطالبين": فإِذا أردت أن تعرف ذلك؛ فقِس الظل بأن تنصب عموداً أو تقوم قائماً في موضع الأرض مستوياً معتدلاً، ثمَّ علِّم على منتهى الظل؛ بأن تخط خطاً، ثم انظر أينقص أو يزيد، فإِن رأيته ينقص؛ علمْتَ أنّ الشمس لم تَزُل بعد، وإِنْ رأيته قائماً لا يزيد ولا ينقص؛ فذلك قيامها وهو نصف النهار، لا تجوز الصلاة حينئذ، فإِذا أخذ الظل في الزيادة؛ فذلك زوال الشمس، فقِس من حدّ الزيادة إِلى ظلّ ذلك الشيء الذي قست به طول الظل، فإِذا بلغ إِلى آخر طوله؛ فهو وقت آخر الظهر". وقال شيخنا -حفظه الله تعالى- موضّحاً دخول وقت الظهر (¬1): "لو وضَعْنا شاخصاً وراقبْنا ظلّه حتى صار الظلّ 2 سم مثلاً، وبعد ذلك لم يطُل أكثر من ذلك ولم يقصُر، ثمَّ تحرَّك حتى صار مثلاً 2 سم و1 ملم، فهذا اسمه فيء الزوال، بمعنى زالت الشمس عن وسط السماء، ودخل وقت الظهر". ¬

_ (¬1) قاله لي هكذا بمعناه حين طلبْتُ منه توضيحاً عمليّاً لذلك.

الإبراد بصلاة الظهر عند الحر

وانظر ما قاله ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 328) تحت (باب ذكر معرفة الزوال). الإِبراد بصلاة الظهر عند الحرّ عن أبي ذرّ -رضي الله عنه- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فقال: أبرِد، ثمَّ قال: أبرِد، حتى فاء الفيء -يعني للتلول (¬1) - ثمَّ قال: أبردوا بالصَّلاة؛ فإِنَّ شدّة الحرّ من فيح (¬2) جهنّم" (¬3). وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: "قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أبردوا بالصَّلاة، فإِنَّ شدّة الحرّ من فيح جهنّم" (¬4). قال في "المغني" (1/ 400): "وقال القاضي: إِنَّما يُستحبُّ الإِبراد بثلاثة شروط: شدّة الحرّ، وأن يكون في البلدان الحارّة ومساجد الجماعات، فأمَّا من صلاّها في بيته، أو في مسجدٍ بفناء بيته؛ فالأفضل تعجيلها، وهذا مذهب الشافعي؛ لأنَّ التأخير إِنَّما يُستحبّ لينكسر الحرّ ويتسع في ¬

_ (¬1) جمع تلّ: وهو ما ارتفع من الأرض عمّا حوله، وهو دون الجبل، وتُجمع أيضاً على تِلال وأتلال، وانظر "الوسيط". (¬2) الفيح: سطوع الحر وفورانه، وفاحت القدر غلت. "النهاية". (¬3) أخرجه البخاري: 3258، ومسلم: 616، قال النووي (3/ 119): "ومعنى قوله رأَينا فيء التّلول: أنَّه أخّر تأخيراً كثيراً؛ حتى صار للتلول فيءٌ، والتلولُ مُنبطحة غير منتصبة، ولا يصير لها فيءٌ في العادة؛ إلاَّ بعد زوال الشمس بكثير". (¬4) أخرجه البخاري: 3259، ومسلم: 615

وقت صلاة العصر

الحيطان، ويكثر السعي إِلى الجماعات، ومن لا يصلّي في جماعة لا حاجة به إِلى التأخير". واختلف العلماء في غاية الإِبراد: قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (2/ 20) (¬1): "وقد اختلف العلماء في غاية الإِبراد، فقيل: حتى يصير الظلّ ذراعاً بعد ظلّ الزوال، وقيل: رُبع قامة، وقيل: ثلثها وقيل: نصفها، وقيل: غير ذلك. ونزلها المازري على اختلاف الأوقات، والجاري على القواعد أنَّه يختلف باختلاف الأحوال، لكن يشترط أن لا يمتدّ إِلى آخر الوقت". وقت صلاة العصر ويبدأ حين يكون ظلّ الشيء مثله مع فيء الزوال، ويمتدّ إِلى غروب الشمس. قال لي شيخنا -حفظه الله تعالى- في بيان وقت العصر في درس عمليّ: "قلنا في بيان صلاة الظهر أنَّ طول الشاخص 1م مثلاً وفيء الزوال 2سم و1 ملم، فمتى يكون وقت العصر؟ عندما يصير هذا الظلّ طوله 1م و2سم و1ملم، فالشاخص الذي قلنا إِنَّ طوله 1م، يصير ظلّه على الأرض 1م و2سم و1ملم وهو فيء الزوال". انتهى. وفي ذلك أحاديث منها حديث جابر المتقدّم وفيه: " ... ثمَّ جاءه العصر فقال: قُم فصلِّه، فصلَّى العصر حين صار ظلّ كل شيء مثليه". وكذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ¬

_ (¬1) ونقله السيد سابق -حفظه الله- في "فقه السنة" (1/ 99).

الترهيب من ترك صلاة العصر

" ... ومن أدرك ركعة (¬1) قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" (¬2). وفي رواية: "إِذا أدرك أحدكم سجدةً (¬3) من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتمّ صلاته" (¬4). الترهيب من ترك صلاة العصْر عن أبي المَليح قال: كنّا مع بريدة في غزوةٍ في يوم ذي غيم، فقال: بكِّروا بصلاة العصر، فإِنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من ترك صلاة العصر فقد حَبِط عمله" (¬5). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الذى تفوتُه صلاة العصر كأنَّما وُتِرَ (¬6) أهلَه وماله" (¬7). ¬

_ (¬1) سيأتي الكلام حولها في (باب من أدرك ركعة من صلاة الفجر أو العصر). (¬2) أخرجه البخاري: 579، ومسلم: 608 (¬3) سيأتي الكلام حولها في (باب من أدرك ركعة من صلاة الفجر أو العصر). (¬4) أخرجه البخاري: 556 من حديث أبي هريرة، ومسلم: 609 من حديث عائشة -رضي الله عنهما-. (¬5) أخرجه البخاري: 553، 594، وانظر للمزيد من الفوائد الحديثية، "الإِرواء" (255). (¬6) قال في "الفتح": "وُتِر أهله: هو بالنصب عند الجمهور على أنَه مفعول ثانٍ لوُتِر، وأُضمر في (وُتِر) مفعول لم يسمّ فاعله، وهو عائد على الذي فاتَتْه، فالمعنى: أصيب بأهله وماله، وهو متعدٍّ إِلى مفعولين ... ". (¬7) أخرجه البخاري: 552، ومسلم: 626، وغيرهما.

تعجيلها عند الغيم

تعجيلها عند الغيم لقول بريدة السابق حين غزا في يوم ذي غيمْ: "بكّروا بصلاة العصر ... ". صلاة العصر هي الصَّلاة الوسطى قال الله تعالى: {حافِظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} (¬1). وعن عليّ -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم الخندق: "ملأ الله عليهم بيوتهم، وقبورهم ناراً؛ كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس" (¬2). وفي رواية: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر؛ ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً ... " (¬3). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "حَبَسَ المشركون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة العصر، حتى احمرَّت الشمس أو اصفرَّت، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر؛ ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً"، أو قال: "حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً" (¬4). قال ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 368): "ويُقال: إِنها سُمّيت وسطى ¬

_ (¬1) البقرة: 238 (¬2) أخرجه البخاري: 4111، ومسلم: 627 (¬3) أخرجه مسلم: 627 (¬4) أخرجه مسلم: 628

وقت صلاة المغرب

لأنها بين صلاتين في الليل، وصلاتين في النهار". وقت صلاة المغرب ويبدأ وقت صلاة المغرب إِذا غابَ جميع قُرص الشمس، ويستمرّ إِلى مغيب الشّفق (¬1) الأحمر، وتقدَّم حديث مسلم (612): "فإِذا صلّيتم المغرب؛ فإِنَّه وقْتٌ إِلى أن يسقُط الشّفق". ويُستحبّ التعجيل بصلاة المغرب وفي ذلك نصوص عديدة منها: 1 - ما رواه سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي المغرب إِذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب" (¬2). 2 - عن أبي أيوب -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلّوا صلاة المغرب مع سقوط الشمس" (¬3). 3 - ما رواه رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: "كُنّا نصلّي المغرب مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فينصرف أحدُنا؛ وإِنَّه ليُبصر مواقع نَبْلِه" (¬4). جاء في "المغني" (1/ 390): "وإِذا غابت الشمس وجَبَت المغرب، ولا يُستحبّ تأخيرها إِلى أن يغيب الشّفق، أمَّا دخول وقت المغرب بغروب ¬

_ (¬1) قال في "النهاية": الشفق من الأضداد؛ يقع على الحُمرة التي تُرى في المغرب بعد مغيب الشمس، وبه أخذَ الشافعي، وعلى البياض الباقي في الأفق الغربي بعد الحمرة المذكورة، وبه أخذَ أبو حنيفة. (¬2) أخرجه البخاري: 561، ومسلم: 636 (¬3) أخرجه الطبراني وغيره وخرجه شيخنا في "الصحيحة" (1915). (¬4) أخرجه البخاري: 559، ومسلم: 637

التعجيل بصلاة المغرب:

الشمس؛ فإِجماع أهل العلم لا نعلم بينهم خلافاً فيه، والأحاديث دالّة عليه وآخره مغيب الشّفق، وبهذا قال الثوري وإِسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وبعض أصحاب الشافعي، وقال مالك والأوزاعي والشافعي: ليس لها إلاَّ وقت واحد عند مغيب الشمس؛ لأن جبريل عليه السلام صلاّها بالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اليومين لوقت واحد في بيان مواقيت الصَّلاة". التعجيل بصلاة المغرب: لما تقدّم من النصوص: وقال ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 369): "وأجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنَّ التعجيل بصلاة المغرب أفضل، وكذلك نقول". وقت العشاء يبدأ وقت صلاة العشاء حين يغيب الشّفق، ويمتدّ إلى نصف الليل، وتقدَّم حديث جابر -رضي الله عنه-: " ... فصلّى العشاء حين غاب الشّفق ... "، إِلى قوله: "ثمَّ جاء من الغد ... ثمَّ جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل أو قال ثُلث الليل، فصلّى العشاء ... ثمَّ قال: ما بين هذين وقْت". وفي الحديث: "إِذا ملأ الليل بطن كلِّ وادٍ فصلّ العشاء الآخرة" (¬1). استحباب تأخير العشاء عن أوّل وقْتها وفيه أحاديثُ عديدة، منها: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وغيره، وهو ثابت بمجموع طرقه، وانظر "الصحيحة" (1520).

حديث أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- يصف صفة صلاة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المكتوبة- قال: "وكان يستحِبُّ أن يؤخّر من العشاء التي تدْعونها العَتَمةَ" (¬1). وعن حميد قال: "سُئل أنسٌ: هل اتخذ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتَماً؟ قال: أخّرَ ليلةً صلاة العشاء إِلى شطر الليل، ثمَّ أقبلَ علينا بوجهه، فكأني أنظر إِلى وبيص (¬2) خاتمه، قال: إِنّ الناس قد صلَّوا وناموا، وإِنَّكَم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتموها" (¬3). وعن عائشة؛ قالت: "أَعْتَم (¬4) النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة حتى ذهب عامّة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثمَّ خرج فصلّى، فقال: "إِنَّه لَوَقتها؛ لولا أن أشقَّ على أمّتي" (¬5). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لولا أن أشقَّ على أمّتي، لأمَرْتهم أن يُؤخّروا العشاء إِلى ثلث الليل أو نصفه" (¬6). وعن محمد بن عمرو بن الحسن بن عليّ قال: قدم الحجّاج فسأَلنا جابر ¬

_ (¬1) ووردَ معلقاً في البخاري: (1/ 150)، وموصولاً (547)، وانظر مسلم: 647 (¬2) أي: بريق. (¬3) رواه البخاري: 5869، ومسلم: 640 (¬4) أي: أخر صلاة العشاء حتى اشتدّت عتمة الليل وظُلمته. (¬5) أخرجه مسلم: 638، وغيره. (¬6) أخرجه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وهو في "صحيح سنن ابن ماجه" (565)، وصحّح شيخنا إِسناده في "المشكاة" (611).

ابن عبد الله فقال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي الظهرَ بالهاجرةِ (¬1)، والعصر والشمس نقيةٌ، والمغرب إِذا وجبتْ، والعشاء أحياناً وأحياناً: إِذا رآهم اجتمعوا عجّلَ، وإذا رآهم أبطأوا أخَّر، والصبح -كانوا أو كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها بغَلَس" (¬2). قال الحافظ في "الفتح" (2/ 48) عقب الحديث (567): " ... فعلى هذا من وجد به قوّةً على تأخيرها، ولم يغلِبه النوم ولم يشقّ على أحد من المأمومين؛ فالتأخير في حقّه أفضل، وقد قرّر النووي ذلك في "شرح مسلم"، وهو اختيار كثير من أهل الحديث من الشافعيّة وغيرهم والله أعلم. ونقل ابن المنذر عن الليث وإِسحاق؛ أنَّ المستحبّ تأخير العشاء إِلى قبل الثُلث، وقال الطحاوي: يُستحبُّ إِلى الثلث، وبه قال مالك وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعي في الجديد، وقال في القديم: التعجيل أفضل، وكذا قال في "الإِملاء" وصحّحه النووي وجماعة وقالوا: إِنَّه ممَّا يُفتي به على القديم، وتعقب بأنَّه ذكره في "الإِملاء" وهو من كُتُبه الجديدة، والمختار من حيث الدليل أفضلية التأخير، ومن حيث النظر التفصيل والله أعلم". قلت: "ولعلّ ذلك يتبع ما بالحيّ والجماعة من قوّة؛ يُراعى فيها أضعفهم؛ حرصاً على صلاة الجماعة. ¬

_ (¬1) قال في "النهاية": "والهجير والهاجرة: اشتداد الحرّ نصف النّهار". وأشار الحافظ في "الفتح" (2/ 42) أنَّه عقبَ الزوال؛ حين اشتداد الحرّ، وذلك في معرض مناقشة بعض الأقوال. (¬2) أخرجه البخاري: 560، ومسلم: 646

آخر وقت للعشاء

فربّما استدعى الأمر إِلى عدم التأخير مُطلقاً لظروف المصلِّين، وربما كان المصلّون قلَّةً في مسجدٍ ما، يستطيعون تأخير الصلاة إِلى ثلث الليل أو قبله أو بعده، ويراعى في ذلك الانتفاع من وقت الانتظار في العبادة والطاعة، والله أعلم". ولابن المنذر في "الأوسط" (2/ 369) كلام نفيس في هذا فارجع إِليه -إِن شئت-. آخر وقت للعشاء تعدَّدت الأقوال في آخر وقت للعشاء، فمنهم مَن قال: إِنَّ العشاء يمتدُّ إِلى طلوع الفجر الثاني، ومنهم من قال: إِنّه يمتدّ إِلى ثُلث الليل، ومنهم من قال: إِلى نصف الليل. ومنهم من قال: وقت الاختيار إِلى ثلث الليل، ووقت الضرورة إِلى طلوع الفجر الثاني. واستدلّ من قال بامتداد العشاء إِلى طلوع الفجر الثاني بحديث "مسلم" (681): " ... أما إِنّه ليس في النّوم تفريط، إِنَّما التفريطُ على من لم يُصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأُخرى ... ". قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تمام المنّة" (ص140): " ... ولا دليل فيه على ما ذهبوا إِليه، إِذ ليس فيه بيان أوقات الصلاة، ولا سيق من أجل ذلك وإِنّما لبيان إِثم من يؤخِّر الصلاة حتى يخرجها عامداً عن وقتها مطلقاً؛ سواء كان يعقبها صلاة أخرى مِثل العصر مع المغرب، أوْ لا، مِثْل الصبح مع الظهر، ويدلّ على ذلك أنّ الحديث ورَد في صلاة الفجر؛ حين فاتتْه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع

أصحابه وهم نائمون في سَفَر لهم، واستعظَم الصحابة -رضي الله عنهم- وقوع ذلك منهم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم: "أما لكم فيَّ أُسوة؟ " ثمَّ ذكَر الحديث. كذلك هو في "صحيح مسلم" وغيره، فلو كان المراد من الحديث ما ذهبوا إِليه من امتداد وقت كل صلاة إِلى دخول الأخرى، لكان نصّاً صريحاً على امتداد وقت الصبح إِلى وقت الظهر، وهم لا يقولون بذلك، ولذلك اضطروا إِلى استثناء صلاة الصبح من ذلك، وهذا الاستثناء على ما بينّا من سبب الحديث يعود عليه بالإِبطال؛ لأنَّه إِنَّما ورَد في خصوص صلاة الصبح، فكيف يصحّ استثناؤها؟! فالحقّ أنَّ الحديث لم يَرِد من أجل التحديد، بل لإِنكار تعمُّد إِخراج الصلاة عن وقتها مطلقاً، ولذلك قال ابن حزم في "المحلّى" (3/ 233) مجيباً على استدلالهم المذكور: "هذا لا يدلّ على ما قالوه أصلاً، وهم مُجمِعون معَنا أنَّ وقت صلاة الصبح لا يمتدّ إِلى وقت صلاة الظهر، فصحّ أنَّ هذا الخبر لا يدل على اتّصال وقْت كلّ صلاة بوقت التي بعدها، وإِنَّما فيه معصية من أخَّرَ صلاةً إِلى وقْتِ غيرها فقط، سواءٌ اتصل آخر وقتها بأول الثانية أمْ لم يتَّصل، وليس فيه أنّه لا يكون مفرِّطاً أيضاً من أخَّرها إِلى خروج وقتها، وإِن لم يدخُل وقتُ أخرى، ولا أنّه يكون مُفرِّطاً، بل هو مسكوت عنه في هذا الخبر، ولكن بيانه في سائر الأخبار التي فيها نصٌّ على خروج وقتِ كلِّ صلاة، والضرورة توجبُ أنَّ من تعدَّى بكل عمل وقته الذي حدَّه الله تعالى لذلك العمل؛ فقد تعدّى حدود الله، وقال تعالى: {ومن يتَعَدَّ حدودَ الله فأولئكَ هم الظالمون} (¬1) ". وإذ قد ثَبت أنّ الحديث لا دليل فيه على امتداد وقت العشاء إِلى الفجر، ¬

_ (¬1) البقرة: 229

فائدة:

فإِنَّه يتحتّم الرجوع إِلى الأحاديث الأخرى التي هي صريحة في تحديد وقت العشاء مِثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ووقت صلاة العشاء إِلى نصف الليل الأوسط ... ". رواه "مسلم" (612) وغيره. وقد مضى بتمامه في الكتاب، ويؤيّده ما كتب به عمر بن الخطاب إِلى أبي موسى الأشعري: " ... وأَن صلِّ العشاء ما بينك وبين ثلث الليل، وإنْ أخَّرْت فإِلى شطْر الليل، ولا تكن من الغافلين". أخرجه مالك والطحاوي وابن حزم، وسنده صحيح. فهذا الحديث دليل واضح على أنَّ وقت العشاء إِنّما يمتدّ إِلى نصف الليل فقط، وهو الحقّ، ولذلك اختارَه الشوكاني في "الدرر البهية"، فقال: " ... وآخر وقت صلاة العشاء نصف الليل"، وكذا في "السيل الجرّار" (1/ 183) وتبِعه صديق حسن خان في "شرحه" (1/ 69 - 70)، وقد رُوي القول به عن مالك كما في "بداية المجتهد"، وهو اختيار جماعة من الشافعية كأبي سعيد الاصطخري وغيره. انظر "المجموع" (3/ 40). فخلاصة الأمر أنَّ وقت صلاة العشاء؛ يمتدّ إلى نصف الليل فقط، وحديث "مسلم" (612) المتقدم عُمدة في ذلك وفيه: " ... ووقت صلاة العشاء إِلى نصف الليل الأوسط ... " وبالله التوفيق. فائدة: ينتهي الليل بطلوع الفجر الصادق، قال الله تعالى: {وكلُوا واشْرَبُوا حتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِن الخَيْطِ الأسْوَدِ من الفَجْر} (¬1). فالخيط ¬

_ (¬1) البقرة: 187

وقت صلاة الصبح

الأسود آخر الليل، والخيط الأبيض أول الفجر. وقت صلاة الصبح يبدأ وقت صلاة الصبح حين يطلُع الفجر الصّادق، ويمتدّ إِلى طلوع الشمس. جاء في "المغني" (1/ 395): "وإذا طلَع الفجر الثاني وجَبَت صلاة الصبح، والوقت مُبقىً إِلى ما قبل أنْ تطلُع الشمس، ومن أدرَك منها ركعةً قبل أن تطلُع فقد أدرَكها وهذا مع الضرورة. وجملته: إِنَّ وقت الصبح يدخل بطلوع الفجر الثاني إِجماعاً، وقد دلَّت عليه أخبار المواقيت وهو البياض المستطير (¬1) المنتشر في الأفق، ويُسمَّى الفجر الصادق؛ لأنَّه صدقَك عن الصبح وبيَّنه لك، والصبحُ ما جمع بياضاً وحمرةً، ومنه سُمِّي الرجل الذي في لونه بياض وحمرة أصبح، فأمَّا الفجر الأول: فهو البياض المستدق صُعُداً (¬2) من غير اعتراض، فلا يتعلّق به حكم، ويُسمَّى الفجر الكاذب". ¬

_ (¬1) الفجر المستطير: هو الذي انتشر ضوؤه واعترض في الأفق، بخلاف المستطيل. ومنه حديث بني قريظة: وهان على سراة بني لؤيٍّ ... حريقٌ بالبويرة مستطير أي: منتشر متفرّق، كأنه طار في نواحيها. "النهاية". (¬2) أي: طولاً.

التغليس بصلاة الفجر

التغليس (¬1) بصلاة الفجر يستحبُّ التغليس بصلاة الفجر؛ بأن تُصلّى في أوّل وقتها، كما تدلّ على ذلك الأحاديث الصحيحة، منها: حديث أبي مسعود البدري: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى الصبح مرّة بغلس، ثمَّ صلّى مرّة أخرى فأسفَر بها، ثمَّ كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، ولم يعد إِلى أن يسفر" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنَّ نساءُ المؤمنات يشهدنَ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الفجر مُتَلَفِّعاتٍ بمروطهنَّ، ثمَّ ينقلبنَ إِلى بيوتهنَّ حين يقضين الصلاة؛ لا يعرفهنَّ أحدٌ من الغَلَس" (¬3). ¬

_ (¬1) الغَلس: ظُلمة آخر الليل كما تقدّم، والمراد بالتغليس هنا: المبادرة بصلاة الفجر في أوّل وقتها. (¬2) أخرجه أبو داود بسند حسن كما قال النووي وابن حبان في "صحيحه" (378) وصححه الحاكم والخطابي والذهبي وغيرهم، كما بيّنه شيخنا -حفظه الله تعالى- في "صحيح سنن أبي داود" (378)، وقال: "والعمل بهذا الحديث هو الذي عليه جماهير العلماء؛ من الصحابة والتابعين والأئمّة المجتهدين ... "، وانظر "الضعيفة" (2/ 372). ومعنى إِلى أن يُسفر: "أي: ينكشف ويُضيء فلا يُشَكُّ فيه، وسيأتي شرحه قريباً -إِن شاء الله- في حديث: "أسفروا بالفجر ... "، وقال ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 381): "وقال بعضهم: معروف في كلام العرب قولهم: أسفرت المرأة عن وجهها، وأسفري عن وجهك، أي: اكشفي". (¬3) أخرجه البخاري: 578، ومسلم: 645، وغيرهما. قال الحافظ في "الفتح" (2/ 55): " (كنَّ): قال الكرماني: هو مِثل (أكلوني =

وفي رواية: "وما يعرف بعضنا وجوه بعض" (¬1). ولا يُعارض هذا الحديث قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أسفروا (¬2) بالفجر؛ فإِنَّه أعظم ¬

_ = البراغيث) لأنَّ قياسه الإِفراد وقد جُمِع. قوله (نساء المؤمنات): تقديره نساء الأنفس المؤمنات أو نحوها، ذلك حتى لا يكون من إِضافة الشيء إلى نفسه، وقيل: إِنَّ (نساء) هنا بمعنى الفاضلات، أي: فاضلات المؤمنات، كما يقال: رجال القوم، أي: فضلاؤهم. وقوله (لا يعرفهن أحد)، قال الداودي: معناه: لا يُعرفن أنساء أم رجال، أى: لا يظهر للرائي إلاَّ الأشباح خاصّة، وقيل: لا يُعرف أعيانهن فلا يُفرّق بين خديجة وزينب، وضعّفه النووي بأنّ المتلفّعة في النهار لا تعرف عينها فلا يبقى في الكلام فائدة، وتعقّب بأن المعرفة إِنما تتعلق بالأعيان، فلو كان المراد الأول لعبَّر بنفي العِلم، وما ذكر من أن المتلفّعة بالنهار لا تُعرف عينُها فيه نظر، لأنَّ لكلّ أمرأة هيئة غير هيئة الأخرى في الغالب، ولو كان بدنها مُغطّى. وقال الباجي: هذا يدلّ على أنهنّ كنّ سافرات، إِذ لو كنَّ متنقّبات لمنع تغطية الوجه من معرفتهنّ لا الغلس. قلت: وفيه ما فيه، لأنَّه مبني على الاشتباه الذي أشار إِليه النووي، وأمّا إِذا قلنا إِنَّ لكل واحدة منهن هيئة غالباً فلا يلزم ما ذكر. والله أعلم. والمروط: جمع مِرط بكسر الميم وهو كساء معلم من خز أو صوف أو غير ذلك، وقيل: لا يسمى مِرْطاً؛ إلاَّ إِذا كان أخضر، ولا يلبسه إلاَّ النساء، وهو مردود بقوله مِرْط من شعر أسود، وقوله: ينقلبن أي: يرجعن". (¬1) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" بسند صحيح عنها. عن " جلباب المرأة المسلمة" (ص 66). (¬2) أسفر الصبح إِذا انكشف وأضاء. قالوا: يُحتمل أنهم حين أمرهم بتغليس صلاة الفجر في أوّل وقتها؛ كانوا يصلّونها عند الفجر الأوّل حرصاً ورغبةً، فقال: أسفِروا بها =

للأجر" (¬1). قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (2/ 55): "وأمّا ما رواه أصحاب السنن وصحّحه غير واحد من حديث رافع بن خديج قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أسفِروا بالفجر فإِنَّه أعظم للأجر"، فقد حَمَله الشافعي وغيره على أنَّ المراد بذلك تحقُّق طلوع الفجر، وحَمله الطحاوي على أنَّ المراد الأمر بتطويل القراءة فيها؛ حتى يخرج من الصلاة مُسفِراً، وأبعَدَ من زَعمَ أنَّه ناسخ للصلاة في الغلس". وقال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الإِرواء" (1/ 286): "قال الترمذي عقب الحديث: وقد رأى غير واحد من أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين الإِسفار بصلاة الفجر. وبه يقول سفيان الثوري. وقال الشافعي وأحمد وإِسحاق: معنى الإِسفار: أن يتضح الفجر، فلا يُشكّ فيه، ولم يرو أنَّ معنى الإِسفار تأخير الصَّلاة". قلت [الكلام لشيخنا -حفظه الله-]: "بل المعنى الذي يدل عليه مجموع ألفاظ الحديث إِطالة القراءة في الصَّلاة حتى يخرج منها في الإِسفار، ومهما أسفَر فهو أفضل وأعظم للأجر؛ كما هو صريحُ بعضِ الألفاظ المتقدمة، فليس معنى الإِسفار إِذن هو الدخول في الصَّلاة في وقت الأِسفار؛ كما هو ¬

_ = أي: أخّروها إِلى أن يطلع الفجر الثاني وتتحققوه. وقيل: إِن الأمر بالإسفار خاصٌ في الليالي المقمرة؛ لأنَّ أوّل الصبح لا يتبّين فيها، فأُمروا بالأِسفار احتياطاً. "النهاية" بحذف يسير. (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود والدارمي وغيرهم، وهو حديث صحيح خرَّجه شيخنا في "الإرواء" (258)، وذكر له طُرقاً وشواهد عديدة.

مشهور عن الحنفية، لأنَّ هذا خلاف السنّة الصحيحة العملية التي جرى عليها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كما تقدَّم في الحديث الذي قبله، ولا هو التحقّق من دخول الوقت كما هو ظاهر كلام أولئك الأئمّة، فإِنَّ التحقق فرْض لا بد منه، والحديث لا يدلّ إلاَّ على شيء هو أفضل من غيره، لا على ما لا بدّ منه كما هو صريح قوله: " ... فإِنَّه أعظم للأجر"، زِدْ على ذلك أنَّ هذا المعنى خلاف قوله في بعض ألفاظ الحديث: " ... فكلّما أصبحتم بها فهو أعظم للأجر". وخلاصة القول؛ أنَّ الحديث إِنّما يتحدّث عن وقت الخروج من الصلاة، لا الدخول، فهذا أمر يُستفاد من الأحاديث الأخرى، وبالجمع بينها وبين هذا: نستنتج أنَّ السنَّة الدخول في الغلس والخروج في الإِسفار، وقد شرح هذا المعنى الإِمام الطحاوي في "شرح المعاني"، وبيّنه أتمّ البيان بما أظهر أنَّه لم يُسبَق إِليه، واستدلّ على ذلك ببعض الأحاديث والآثار، وختم البحث بقوله: فالذي ينبغي الدخول في الفجر في وقت التغليس، والخروج منها في وقت الإِسفار؛ على موافقة ما روينا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه. وهو قول أبي حنيفة وأيي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله تعالى-. وقد فاتهَ -رحمه الله- أصرح حديث يدلّ على هذا الجمع؛ منْ فِعْله عليه الصلاة والسلام وهو حديث أنس -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي، .. الصُّبح إِذا طلَع الفجر إِلى أن ينفسح البصر". أخرجه أحمد بسند صحيح كما تقدَّم بيانه في آخر تخريج الحديث السابق. وقال الزيلعي (1/ 239): "هذا الحديث يُبطلِ تأويلهم الإِسفار بظهور الفجر" وهو كما قال -رحمه الله تعالى-". انتهى ولشيخ الإِسلام

من أدرك ركعة من صلاة الفجر أو العصر

كلام مهم في "الفتاوى" (22/ 95) فارجع إِليه -إِن شئت-. من أدرَك ركعة من صلاة الفجر أو العصر عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أدرَك من الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس؛ فقد أدرَك الصبح، ومن أدرَك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدرَك العصر" (¬1). وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أدرَك أحدُكم سجدةً من صلاة العصر قبل أن تغرُب الشمس، فليُتمَّ صلاته، وإذا أدرَك سجدةً من صلاة الصُّبح قبل أن تطلع الشمس، فليتمّ صلاته" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أدرَك من العصر سجدةً قبل أن تغرب الشمس؛ أو من الصبح قبل أنْ تطلع، فقد أدرَكها" (¬3) والسجدة إِنَّما هي الركعة (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 579، ومسلم: 608 (¬2) أخرجه البخاري: 556 (¬3) أخرجه مسلم: 609، وغيره. (¬4) قوله: "والسجدة إِنما هي الركعة" مُدرجة في الحديث ليست من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال شيخنا في "الإِرواء" (تحت الحديث 252): "وهي مُدرجةٌ في الحديث ليست من كلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال الحافظ في "التلخيص" (ص65): قال المحبّ الطبري في "الأحكام": ويُحتمل إِدراج هذه اللفظة الأخيرة. قلت: -أي: شيخنا حفظه الله -: "وهو الذي أُلقيَ في نفسي وتبيّن لي بعد أن تتبعتُ مصادر الحديث فلم أجدها عند غير مسلم. والله أعلم".

وجاء في "صحيح البخاري" (556) (كتاب مواقيت الصلاة) "باب من أدرَك ركعةً من العصر قبل الغروب"، وأورد فيه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "إِذا أدرَك أحدكم سجدةً ... ". قال الحافظ في "الفتح" (2/ 38): "قوله (باب من أدرَك ركعةً من العصر قبل الغروب) أورد فيه حديث أبي سلمة عن أبي هريرة: "إِذا أدرَك أحدكم سجدةً من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتمّ صلاته، فكأنَّه أراد تفسير الحديث، وأنَّ المراد بقوله: "فيه سجدة"، أي: ركعة. وقد رواه الإِسماعيلي من طريق حسين بن محمد عن شيبان بلفظ: "من أدرَك منكم ركعة" فدلّ على أنَّ الاختلاف في الألفاظ وقَع من الرواة، ... و [في] رواية مالك في أبواب وقت الصبح بلفظ: "من أدرَك ركعة" ولم يُختَلف على راويها في ذلك، فكان عليها الاعتماد. وقال الخطابي: "المراد بالسجدة الركعة بركوعها وسجودها، والركعة إِنّما يكون تمامها بسجودها فسُمّيت على هذا المعنى سجدة"". قال شيخنا في "الإِرواء" (1/ 275): " ... وقد أخرجه البيهقي (1/ 378) من طريق محمد بن الحسين بن أبي الحنين حدثنا الفضل يعني ابن دكين به، بلفظ: "إِذا أدرك أحدكم أوّل سجدة ... " بزيادة "أوّل" في الموضعين. ... فثبتَ مما ذكَرْنا أنَّ هذه الزيادة صحيحة ثابتة في الحديث، وهي تعيِّن أنَّ المراد من الحديث إدراك الركوع مع السجدة الأولى؛ كما سبَق بيانه، وما يترتّب عليه من رفْع الخلاف الفقهي في الحديث الذي قبله"،

الأوقات التي ورد النهي عن الصلاة فيها

أي: حديث: "من أدرَك ركعةً من الصبح ... ". الأوقات التي ورَد النّهي عن الصَّلاة فيها لقد ورَد النهي عن الصَّلاة في عِدّه مواطن، وهي ما يأتي: 1 - بعد صلاة الفجر حتى تطلُع الشمس. 2 - وحين طلوعها حتى ترتفع قدر رمح. 3 - وحين استوائها. 4 - وحين تميل إِلى الغروب. 5 - وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس؛ وذكر بعض العلماء جواز ذلك قبل اصفرار الشمس، كما سيأتي إِن شاء الله. ودليل ذلك: حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صلاة بعد صلاة العصر حتَّى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتَّى تطلع الشمس" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 586، ومسلم: 827 قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (63 - 65) بحذف يسير: "فقد نهى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة وقت طلوع الشمس، ووقت الغروب، مُعلِّلاً ذلك النهي: بأنّها تطلع وتغرب بين قرني شيطان، وأنَّه حينئذ يسجُد لها الكفار. ومعلوم أنَّ المؤمن لا يقصد السجود إلاَّ لله تعالى، وأكثر النّاس قد لا يعلمون أنَّ طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أنَّ الكفار يسجدون لها، ثمَّ إِنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهى عن الصلاة في هذا الوقت حَسماً لمادّة المشابهة بكلّ طريق. =

وحديث عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- في قصة إِسلامه، وفيه: "فقلتُ: يا نبي الله! أخبِرني عمَّا علَّمك الله وأجهلُهُ، أخبرْني عن الصلاة؟ ". قال: "صلِّ صلاة الصبح. ثمَّ أقْصِرْ عن الصَّلاة حتى تطلع الشمس حتَّى ترتفع، فإِنّها تطلعُ حين تطلعُ بين قرْني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثمَّ صلِّ فإِنَّ الصَّلاة مشهودةٌ محضورةٌ (¬1) حتَّى يستقلَّ الظِّلُّ بالرمح (¬2). ثمَّ أقصِرْ ¬

_ = ... وكان فيه تنبيهٌ على أنَّ كلّ ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها ممّا يكون كفراً أو معصية بالنية؛ يُنهى المؤمنون عن ظاهره، وإنْ لم يقصدوا به قصْد المشركين سدّاً للذريعة، وحسماً للمادة"، ولهذا نهَى عن الصلاة إِلى ما عُبد من دون الله في الجملة، وإِن لم يكن العابد يقصد ذلك، ولهذا يُنهى عن السجود لله بين يدي الرّجل، وإن لم يقصد الساجد ذلك، لِمَا فيه من مُشابهة السجود لغير الله. فانظر كيف قَطَعت الشريعة المشابهة في الجهات وفي الأوقات، وكما لا يُصلّي إِلى القبلة التي يُصلون إِليها؛ كذلك لا يصلّي إِلى ما يُصلّون له؛ بل هذا أشدّ فساداً، فإِنَّ القبلة شريعة من الشرائع، قد تختلف باختلاف شرائع الأنبياء، أمَّا السجود لغير الله وعبادته؛ فهو مًحرّم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله، كما قال سبحانه وتعالى: {واسألْ من أرسَلْنا من قبلِك من رُسُلنا أجعَلْنا من دون الرحمن آلهةً يُعبدون}. [الزخرف: 45]. (¬1) أي: تشهدها الملائكة وتحضرها. (¬2) قال النووي -رحمه الله-: أى: يقوم مقابله في جهة الشمال؛ ليس مائلاً إِلى المغرب ولا إِلى المشرق، وهذه حالة الاستواء، وفي الحديث التصريح بالنهي عن الصلاة حينئذ حتى تزول الشمس، وهو مذهب الشافعي وجماهير العلماء، واستثنى الشافعي حالة الاستواء يوم الجمعة. وقال في "النهاية": أي: حتى يبلغ ظلّ الرمح المغروس في الأرض أدنى غاية القلَّة والنقص؛ لأنَّ ظلَّ كل شيء في أوّل النّهار يكون طويلاً، ثمَّ لا يزال ينقص حتى يبلغ أقصره =

عن الصَّلاة. فإِنَّ حينئذ تُسْجَرُ جهنم (¬1) فإِذا أقبل الفيءُ فَصَلِّ (¬2). فإِن الصَّلاة مشهودةٌ محضورةٌ، حتَّى تصلِّي العصر ثمَّ أقصِر عن الصَّلاة (¬3) حتَّى تغرب الشمس. فإِنّها تغرُب بين قرني شيطانٍ، وحينئذ يسجد لها الكفار" (¬4). وعن عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- قال: "ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلِّي فيهنّ، أو أن نقبرَ فيهنّ موتانا (¬5): حين تطلعُ الشمس بازغةً (¬6) حتى ترتفع، وحين يقوم قائمُ الظهيرة (¬7) حتى تميل ¬

_ = وذلك عند انتصاف النهار، فإِذا زالت الشمس عاد الظِّل يزيد، وحينئذ يدخل وقت الظهر، وتجوز الصلاة ويذهب وقت الكراهة. وهذا الظّل المتناهي في القِصَر هو الذي يسمّى ظلَّ الزوال، أي: الظل الذي تزول الشمس عن وسط السماء، وهو موجود قبل الزيادة. فقوله: "يستقل الرّمح بالظل" هو من القلة لا من الإِقلال والاستقلال الذي بمعنى الارتفاع والاستبداد، يقال: تقلل الشيء، واستقله، وتقالَّه: إِذا رآه قليلا. (¬1) أي: توقد إِيقاداً بليغاً. "شرح النووي". (¬2) أقبل الفيء: ظهر إِلى جهة الشرق، والفيء مختصّ بما بعد الزّوال، وأمّا الظلّ فيقع على ما قبل الزوال وبعده. "شرح النووي". (¬3) أي: أمسِكْ وكفّ. (¬4) أخرجه مسلم: 832، وغيره. (¬5) قال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنة" (ص 143): [الواجب] تأخير دفْن الجنازة حتى يخرج وقت الكراهة، إلاَّ إِذا خيف تغيّر الميت، وهو قول الحنابلة كما ذكره المؤلف [أي: السيد سابق -حفظه الله-] في كتاب "الجنائز". (¬6) البزوغ: ابتداء طلوع الشمس، يقال: بزغت الشمس، وبزغ القمر وغيرهما: إِذا طلعَت. "النهاية". (¬7) أي: قيام الشمس وقت الزوال، من قولهم: قامت به دابّته: أي: وقَفَت =

الشمس، وحين تضَيَّف (¬1) الشمس للغروب حتى تغرب" (¬2). أمّا الصلاة بعد العصر؛ فقد ذكر بعض العلماء جوازها قبل اصفرار الشمس؛ لحديث عليّ -رضي الله عنه-: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصَّلاة بعد العصر إلاَّ والشمس مرتفعة" (¬3). وعن المقدام بن شريح عن أبيه قال: "سألت عائشة عن الصلاة بعد العصر؛ فقالت: صلِّ، إِنما نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قومك أهل اليمن عن الصلاة إِذا طلعت الشمس" (¬4). ¬

_ = والمعنى: أنَّ الشمس إذا بَلَغَت وسط السماء أبطأت حركة الظلّ إِلى أن تزول، فيحسب النّاظر المتأمل أنها قد وقفت وهي سائرة؛ لكن سيراً لا يظهر له أثر سريع؛ كما يظهر قبل الزوال وبعده، فيُقال لذلك الوقوف المشاهد: قامَ قائم الظهيرة. "النهاية". ويستثنى من ذلك التطوّع يوم الجمعة، كما سيأتي إِن شاء الله تعالى، وقال شيخنا في "تمام المنة" (ص143): "وفيه أحاديث كثيرة؛ تراجع في "زاد المعاد" و"إِعلام أهل العصر بحُكم ركعتي الفجر" للعظيم آبادي وغيرهما". قال النووي: حال استواء الشمس، ومعناه: حين لا يبقى للقائم فى الظهيرة ظلٌّ في المشرق ولا في المغرب. (¬1) أي: تميل، يُقال: ضاف عنه يضيف. وانظر "النهاية". (¬2) أخرجه مسلم: 831، وغيره. (¬3) أخرجه أبو داود والنسائي وأبو يعلى في "مسنده" وغيرهم، وهو حديث صحيح خرَّجه شيخنا في "الصحيحة" (200). (¬4) قال شيخنا -شفاه الله- في "الضعيفة" تحت الحديث (945): "وسنده صحيح على شرط مسلم".

قال شيخنا في "الصحيحة" (1/ 342) بعد حديث "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس": "فهذا مطلق، يقيّده حديث عليّ -رضي الله عنه- وإلى هذا أشار ابن حزم -رحمه الله- بقوله المتقدِّم: "وهذه زيادة عدْل لا يجوز ترْكها". ثمَّ قال البيهقي: "وقد رُوي عن علي -رضي الله عنه- ما يخالف هذا. وروي ما يوافقه". ثمَّ ساق هو والضياء في "المختارة" (1/ 185) من طريق سفيان قال: أخبَرني أبو إِسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلِّي ركعتين في دبر كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ، إلاَّ الفجر والعصر". قلتُ -أي: شيخنا حفظه الله تعالى-: "وهذا لا يخالف الحديث الأوّل إِطلاقاً، لأنَّه إنما ينفي أن يكون النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى ركعتين بعد صلاة العصر، والحديث الأوّل لا يُثبِت ذلك حتى يُعارَض بهذا، وغاية ما فيه أنَّه يدلّ على جواز الصَّلاة بعد العصر إِلى ما قبل اصفرار الشمس، وليس يلزم أن يفعل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أثبت جوازه بالدليل الشرعي كما هو ظاهر. نعم، قد ثبَت عن أمّ سلمة وعائشة -رضي الله عنهما- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى ركعتين سنة الظهر البعدية بعد صلاة العصر، وقالت عائشة: إِنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داوم عليها بعد ذلك، فهذا يُعارض حديث عليّ الثاني، والجمع بينهما سهْل، فكلٌّ حَدَّث بما عَلِم، ومن عَلِم حُجَّةٌ على من لم يعلم، ويظهر أنَّ علياً -رضي الله عنه- عَلِم فيما بعد من بعض الصحابة ما نفاه في هذا الحديث،

فقد ثبَت عنه صلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد العصر، وذلك قول البيهقي: "وأمّا الذي يوافقه ففيما أخبَرنا ... " ثمَّ ساق من طريق شعبة عن أبي إِسحاق عن عاصم بن ضمرة قال: "كُنّا مع عليّ -رضي الله عنه- في سفر فصلَّى بنا العصر ركعتين، ثمَّ دخل فسطاطه (¬1) وأنا أنظر، فصلّى ركعتين". ففي هذا أنَّ عليّاً -رضي الله عنه- عَمِل بما دلّ عليه حديثه الأوّل من الجواز. وروى ابن حزم (3/ 4) عن بلال مُؤذِّن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لم ينه عن الصلاة إلاَّ عند غروب الشمس". قلت: وإِسناده صحيح، وهو شاهد قويّ لحديث عليّ -رضي الله عنه- وأمّا الركعتان بعد العصر، فقد روى ابن حزم القول بمشروعيّتهما عن جماعةٍ من الصحابة، فمن شاء فليرجع إِليه. وما دلَّ عليه الحديث من جواز الصلاة ولو نفلاً بعد صلاة العصر وقبل إصفرار الشمس، هو الذي ينبغي الاعتماد عليه في هذه المسألة التي كثُرت الأقوال فيها، وهو الذي ذهب إِليه ابن حزم تبعاً لابن عمر -رضي الله عنهما- كما ذكره الحافط العراقي وغيره، فلا تكن ممّن تغرّه الكثرة، إذا كانت على خلاف السُنَّة. ثمَّ وجَدْتُ للحديث طريقاً أخرى عن عليّ -رضي الله عنه- بلفظ: "لا تصلُّوا بعد العصر، إلاَّ أن تُصلّوا والشمس مرتفعة". أخرجه الإمام أحمد (1/ 130): حدثنا إِسحاق بن يوسف: أخبرنا سفيان عن أبي إِسحاق عن ¬

_ (¬1) الفُسطاط: -بالضم والكسر- المدينة التي فيها مجتمع الناس. "النهاية".

عاصم عن عليّ -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: فذكره. قلت: وهذا سند جيّد، ورجاله كلّهم ثقات رجال الشيخين غير عاصم وهو ابن ضمرة السلولي وهو صدوق. كما في "التقريب". قلت: فهذه الطريق مما يُعطي الحديث قوّة على قوّة، لا سيما وهي من طريق عاصم الذي روى عن عليّ أيضاً أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يصلّي بعد العصر، فادّعى البيهقي من أجل هذه الرواية إِعلال الحديث، وأجَبْنا عن ذلك بما تقدّم، ثمَّ تأكَّدْنا من صحة الجواب حين وقَفْنا على الحديث من طريق عاصم أيضاً. فالحمد لله على توفيقه" اهـ. ثمَّ وجدت لابن المنذر في "الأوسط" (2/ 388 - 391) كلاماً مفيداً في ذلك. قال -رحمه الله- (ص 388): "قد ثبتت الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنهيه عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، فكان الذي يوجبه ظاهر هذه الأحاديث عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوقوف عن جميع الصلوات بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، فدّلت الأخبار الثابتة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أنَّ النهي إِنّما وقع في ذلك على وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، فممّا دلّ على ذلك حديث عليّ بن أبي طالب، وابن عمر، وعائشة -رضي الله عنهم-، وهي أحاديث ثابتة بأسانيد جياد، لا مطعن لأحد من أهل العلم فيها. ثمَّ ساقها بأسانيده. ثمَّ قال (ص390): (ذِكر الأخبار الدالة على إِباحة صلاة التطوّع بعد

صلاة العصر) ثمَّ ذكر حديث أم سلمة قالت: "دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد العصر فصلّى ركعتين فقلت: يا رسول الله إِن هذه صلاة ما كنت تصليها؟ قال: قدم وفد بني تميم فحبسوني عن ركعتين كنت أركعهما بعد صلاة الظهر" (¬1). وقال بعد ذلك: "قد ثبت أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى بعد العصر صلاة كان يصليها بعد الظهر شغل عنها وهي صلاة تطوع، فإِذا جاز أن يتطوع بعد العصر بركعتين جاز أن يتطوع المرء ما شاء من التطوع إِذا اتقى الأوقات التي نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التطوع فيها، مع أنا قد روينا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإِسناد ثابت لا أعلم لأحد من أهل العلم فيه مقالاً، أنّه كان يصلي بعد العصر ركعتين". وذكر تحته عدداً من الأحاديث منها: حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "والله ما ترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين عندي بعد العصر قط" (¬2). وحديث الأسود بن يزيد ومسروق يقولان: "نشهد على عائشة أنها قالت: ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندي في يومي إلاَّ صلاها، تعني ركعتين بعد العصر" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" (10/ 179) برقم (26577)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (563، 564) ونحوه في "صحيح البخاري" (1233)، و"صحيح مسلم" (834). (¬2) أخرجه البخاري: 591، ومسلم: 835 (¬3) أخرجه البخاري: 593، ومسلم: 835

التطوع حين الإقامة

التطوّع حين الإِقامة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاَّ المكتوبة" (¬1). وعن ابن بُحينة -رضي الله عنه- قال: أقيمت صلاة الصبحِ فرأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يصلّي والمؤذن يُقيم، فقال: "أتُصلِّي الصبح أربعاً" (¬2). وعن عبد الله بن سَرجِس قال: "دخل رجلٌ المسجد ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الغداة فصلّى ركعتين في جانب المسجد، ثمَّ دخل مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلمّا سلَّمَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا فلان! بأيِّ الصلاتين اعتددتَ؟ أبصلاتك وحدك، أم بصلاتك معنا؟ " (¬3). ولا يعني هذا أن يقطع كل مصلٍّ صلاته حين يسمع الإِقامة، إِذ الأمر يختلف من إِمام إِلى إِمام، ومن مُصلٍّ إِلى مُصلٍّ، فربّما كان المصلّي في حالٍ يُرجّح فيها أنه يُدرك التكبيرة الأولى لصلاة الفريضة، أو كان آخر في وسط الصلاة، وقد عَهِد من إمامه الانتظار لتسوية الصفوف وسدّ الفُرج، فيتسنّى له استكمال صلاته مع استعجال غير مُخلٍّ، فهذا وذاك لا يقطعان الصلاة، أمَّا إِذا رجّح المصلّي فوات تكبيرة الإِحرام لأنَّه في بداية صلاته، أو لاستعجال إمامه بالتكبير دون تسوية الصفوف؛ فعليه أن يُبادر بالفريضة ويدَع ما سواها. سمعتُه من شيخنا -حفظه الله-. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد ومسلم: 710، وأصحاب السنن. (¬2) أخرجه البخاري: 663، ومسلم: 711، وهذا لفظه. (¬3) أخرجه مسلم: 712

صلاة ما له سبب وقت الكراهة

صلاة ما له سبب وقت الكراهة ذهب بعض أهل العلم إِلى جواز صلاة ما له سبب؛ كتحيّة المسجد وسُنّة الوضوء بعد الصبح وعند اصفرار الشمس، واستدلُّوا بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنَّة الظهر بعد صلاة العصر، وغير ذلك من النصوص. وجاء في "الفتاوى" (23/ 178) باختصارٍ وتصرُّف: "في أوقات النهي، والنزاع في ذوات الأسباب، وغيرها. فإِن للناس في هذا الباب اضطراباً كثيراً. فنقول: قد ثبت بالنص والإِجماع أنّ النهي ليس عاماً لجميع الصلوات، فإِنّه قد ثبت في "الصحيحين" عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك -وفي لفظ- فيتم صلاته -وفي لفظ- سجدة". وكلها صحيحة وكذلك قال: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك -وفي لفظ-: فليتم صلاته -وفي لفظ-: سجدة" (¬1). وفي هذا أمره بالركعة الثانية من الفجر عند طلوع الشمس. وفيه أنه إِذا صلى ركعة من العصر عند غروب الشمس صحت تلك الركعة، وهو مأمور بأن يَصل إِليها أخرى. وقد ثبت أن أبا بكر الصديق قرأ في الفجر بسورة البقرة. فلمّا سلّم، قيل له: كادت الشمس تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين. فهذا خطاب الصديق للصحابة يبين أنها لو طلعت لم يضرهم ذلك، ولم تجدهم غافلين، بل وجدتهم ذاكرين الله. وفي حديث جبير مرفوعاً: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا ¬

_ (¬1) انظر "الإِرواء" (252) و (253).

البيت وصلّى أية ساعة من ليل أو نهار" (¬1). فهذا العموم لم يخص منه صورة لا بنص ولا إِجماع، وحديث النهي مخصوص بالنص والإِجماع، والعموم المحفوظ راجح على العموم المخصوص. والبيت ما زال الناس يطوفون به، ويصلون عنده مِن حين بناه إِبراهيم الخليل، وكان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه قبل الهجرة يطوفون به، ويصلون عنده، وكذلك لما فتحت مكة كثر طواف المسلمين به، وصلاتهم عنده. ولو كانت ركعتا الطواف منهياً عنها في الأوقات الخمسة لكان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن ذلك نهياً عاماً، لحاجة المسلمين إِلى ذلك، ولكان ذلك ينقل، ولم ينقل مسلم أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذلك، مع أن الطواف طرفي النهار أكثر وأسهل. وفي النهي تعطيلٌ لمصالح ذلك الطواف والصلاة. وذوات الأسباب إِنما دعا إِليها داع؛ لم تفعل لأجل الوقت؛ بخلاف التطوع المطلق الذي لا سبب له، وحينئذ فمفسدة النهي إِنما تنشأ ممّا لا سبب له دون ما له السبب، ولهذا قال في حديث ابن عمر: "لا تحرّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها" (¬2). وانظر الكتاب المذكور للمزيد من الفوائد. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي والنسائي والدارمي وغيرهم، وخرجه شيخنا في "الإِرواء" (481). (¬2) أخرجه البخاري: 582، ومسلم: 828

الأذان

الأذان تعريفه: الأذان لغةً: الإِعلام وهو اشتقاق من الأذَن -بفتحتين- وهو الاستماع. قال الله تعالى: {وأَذانٌ من اللهِ ورسولِه} (¬1)، أي: إِعلام. و {آذنْتُكم على سواء} (¬2) أعلمتكم فاستوينا في العلم. وقال الحارث بن حلزة: آذنَتْنا ببينها أسماء ... رُبَّ ثاوٍ يملّ منه الثواء أي: أعلَمَتْنا. وشرعاً: "الإِعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة" (¬3). قال الحافظ في "الفتح" (2/ 77): "قال القرطبي وغيره: الأذان على قلّة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة، لأنَّه بدَأ بالأكبرية وهي تتضمّن وجود الله وكماله، ثمَّ ثنّى بالتوحيد ونفَى الشريك، ثمَّ بإِثبات الرسالة لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمَّ دعا إِلى الطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة، لأنّها لا تعرف إِلا من جهة الرسول، ثمَّ دعا إِلى الفلاح وهو البقاء الدائم، وفيه الإِشارة إِلى المعاد، ثمَّ أعاد ما أعاد توكيدا. ويحصل من الأذان الإِعلام بدخول الوقت، والدعاء ¬

_ (¬1) التوبة: 3 (¬2) الأنبياء: 109 (¬3) انظر "الفتح" (2/ 77)، و"المغني" (1/ 413)، وغيرهما.

فضله:

إِلى الجماعة، وإِظهار شعائر الإِسلام. والحكمة في اختيار القول له دون الفعل سهولة القول، وتيسره لكل أحد في كل زمان ومكان". فضله: لقد وردَت أحاديثُ كثيرةٌ في فضل الأذان والمؤذِّنين، من ذلك: 1 - ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا نودي للصلاة أدبَر الشيطان وله ضُراط؛ حتى لا يسمعَ التأذين، فإِذا قضىَ النِّداء أقَبَل، حتى إِذا ثُوِّب (¬1) بالصلاة أدبَر (¬2) ... " (¬3). 2 - وعنه -رضي الله عنه- أيضاً أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو يعلم النّاس ما في النّداء والصفّ الأوّل؛ ثمَّ لم يجدوا إلاَّ أن يستَهِموا (¬4) عليه لاستهَموا، ¬

_ (¬1) قال الجمهور: المراد بالتثويب هنا الإِقامة، وبذلك جزم أبو عوانة في "صحيحه" والخطابي والبيهقي وغيرهم، وقال القرطبي: ثُوِّب بالصلاة: إِذا أقيمت وأصله أنَّه رجع إِلى ما يشبه الأذان، وكلّ من ردّد صوتاً فهو مثوب، ويدلّ عليه رواية مسلم [389]، في رواية أبي صالح عن أبي هريرة: "فإذا سمع الإقامة ذهب". "الفتح" (2/ 85). (¬2) أخرجه البخاري: 608، ومسلم: 389 (¬3) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 87): "قال ابن بطال: يُشبه أن يكون الزجر عن خروج المرء في المسجد بعد أن يؤذّن المؤذّن من هذا المعنى، لئلاّ يكون متشبّهاً بالشيطان الذي يفرّ عند سماع الأذان، والله أعلم". (¬4) أي: لم يجدوا شيئاً من وجوه الأولوية؛ أمّا في الأذان، فبأن يستووا في معرفة الوقت وحُسن الصوت، ونحو ذلك من شرائط المؤذن وتكملاته، وأمّا في الصفّ الأوّل؛ فبأن يصلوا دفعة واحدة، ويستووا في الفضل؛ فيُقرع بينهم إِذا لم يتراضوا فيما بينهم في الحالين". "الفتح" (2/ 97).

ولو يعلمون ما في التهجير (¬1) لاستبقوا إِليه، ولو يعلمون ما في العَتَمَة والصُّبح لأتوهما ولو حَبْواً" (¬2). 3 - وعن معاوية -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "المؤذّنون أطول النّاس أعناقاً يوم القيامة" (¬3). 4 - وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يسمع مدى صوت المؤذّن جنّ ولا إِنسٌ ولا شيءٌ؛ إلاَّ شَهِدَ له يوم القيامة" (¬4). 5 - وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يُغفر للمؤذّن مُنتهى أذانه، ويستغفر له كلّ رطب ويابس سمِعَه" (¬5). 6 - وقد دعا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمؤذّنين والأئمّة فقال: "اللهم أرشِدِ الأئمّةَ، ¬

_ (¬1) أي: التبكير إلى الصلاة. (¬2) أخرجه البخاري: 615، ومسلم: 437، وغيرهما. (¬3) أخرجه مسلم: 387، وغيره. (¬4) أخرجه مالك والبخاري: 609، والنسائي وابن ماجه وزاد: "ولا حجرٌ ولا شجر إلاَّ شهد له". وابن خزيمة في "صحيحه" ولفظه: "قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لا يسمع صوته شجر ولا مدر [المدر: الطين اللّزج المتماسك، والقطعة منه مَدَرَةَ، وأهل المَدَر: مكان البيوت المبنيّة؛ خلاف البدو وسُكان الخيام. "الوسيط".] ولا حجر ولا جن ولا إِنس إلاَّ شهد له". وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (170). (¬5) أخرجه أحمد بإِسناد صحيح والطبراني في "الكبير"، عن "صحيح الترغيب والترهيب" (226)، وانظر إِن شئت (227) أيضاً للمزيد من الفائدة.

سبب مشروعيته

واغفر للمؤذنين" (¬1). 7 - وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الإِمام ضامنٌ، والمؤذن مُؤتَمنٌ، فأرشدَ الله الأئمّة، وعفا عن المؤذنين" (¬2). 8 - وعن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا كان الرجل بأرض قِيٍّ (¬3)، فحانت الصلاة، فليتوضأ، فإِن لم يجد ماءً فليتيمّم، فإِن أقام، صلّى معه مَلَكاه، وإِن أذَّنَ وأقام، صلّى خلفه من جنود الله ما لا يُرى طرفاه" (¬4). سبب مشروعيّته 1 - عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون؛ فيتحيَّنون الصلاة ليس يُنادى لها، فتكلّموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخِذوا ناقوساً مِثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا بلال، قم فنادِ بالصلاة" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والترمذي وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" إلاَّ أنهما قالا: "فأرشَد الله الأئمّة، وغفَر للمؤذنين". عن "صحيح الترغيب والترهيب" (230). (¬2) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (232). (¬3) القِيّ: بكسر القاف وتشديد الياء: الأرض القفر. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في كتابه عن ابن التيمي عن أبيه عن أبي عثمان النهدي عنه. كما في "الترغيب والترهيب" وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (241). (¬5) أخرجه البخاري: 604، ومسلم: 377

2 - وعن عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- قال: لمّا أمر رسول الله بالناقوس يعمل؛ ليضرب به للنّاس لجمْع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجلٌ يحمل ناقوساً في يده فقلت: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إِلى الصلاة، قال: أفلا أدُلّك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى، قال: فقال تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إِله إلاَّ الله. قال: ثمَّ استأخرَ عنّي غير بعيد، ثمَّ قال: تقول إِذا أقَمْت الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إِله إلاَّ الله. فلما أصبحْتُ أتيْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرتُه بما رأيتُ فقال: "إِنَّها لَرُؤيا حَقّ إِنْ شاء الله، فقم مع بلال فَألْقِ عليه ما رأيت فليؤذِّن به، فإِنَّه أندى صوتاً منك". فقمت مع بلال، فجعلْتُ أُلقيه عليه ويُؤذِّن به، قال: فسمعَ ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج يجرّ رداءَه ويقول: والذي بعثَك بالحقّ يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما أُري، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فللَّه الحمد" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود: 499، "صحيح سنن أبي داود" (469)، والبخاري في "خلْق أفعال العباد" وغيرهما ... وهو حديث حسن خرَّجه شيخنا في "الإِرواء" (246)، وذكر تصحيح جماعة من الأئمّة له؛ كالبخاري والذهبي والنووي وغيرهم.

وجوب الأذان

وجوب الأذان وفي وجوب الأذان العديد من الأدلّة منها: 1 - حديت مالك بن الحويرث قال: "أتينا إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن شَبَبَة مُتقاربون فأقمنا عندهُ عشرين يوماً وليلةً، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رحيماً رفيقاً، فلما ظنَّ أنَّا قد اشتهينا أهلنا -أو قد اشتقنا- سألَنا عمّن تركْنا بعدنا، فأخبرناهُ، قال: ارجعوا إِلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلِّموهم، ومروهم -وذكَر أشياء أحفظُها أو لا أحفظها- وصلُّوا كما رأيتموني أصلّي، فإِذا حضرتِ الصلاة فليؤذن لكم أحدُكم وليؤمَّكم أكبرُكم" (¬1). 2 - حديث عمرو بن سَلِمَة وفيه ... فقال [أي: النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]: "صلّوا صلاة كذا في حين كذا، وصلّوا كذا في حين كذا، فإِذا حضرت الصلاة فليؤذّن أحدكم وليؤمّكم أكثركم قرآناً" (¬2). قال في "المحلّى" (3/ 167): " ... فصحّ بهذين الخبرين (¬3) وجوب الأذان ولا بدّ، وأنّه لا يكون إلاَّ بعد حضور الصلاة في وقتها". وقال أيضاً فيه (3/ 169): "وممّن قال بوجوب الأذان والإِقامة فرضاً: أبو سليمان وأصحابه، وما نعلم لمن لم يرَ ذلك فرضاً حُجّة أصلاً، ولو لم يكن إلاَّ استحلال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دماء من لم يسمع عندهم أذاناً وأموالهم وسبيهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 631، في بعض الكتب عن عمرو بن سلمة عن أبيه وكذا في "صحيح سنن أبي داود" (548)، قال شيخنا: " ... عن أبيه غير محفوظ". (¬2) أخرجه البخاري: 4302 (¬3) أي: الحديثين المتقدّميْن.

صفة الأذان

لكفى في وجوب فرض ذلك (¬1)، وهو إِجماع متيقّن من جميع من كان معه من الصحابة -رضي الله عنهم- بلا شكّ؛ فهذا هو الإِجماع المقطوع على صحّته". قال ابن المنذر في "الأوسط" (3/ 24): "فالأذان والإِقامة واجبان على كل جماعة في الحضر والسفر، لأنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالأذان، وأمره على الفرض، وقد أمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا محذورة أن يؤذن بمكة، وأمر بلالاً بالأذان، وكل هذا يدل على وجوب الأذان". صفة الأذان لقد وردَ الأذان بالكيفيّتين الآتيتين: 1 - خمس عشرة كلمة، كما في حديث عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- المتقدِّم. 2 - تسع عشرهّ كلمة بترجيع الشهادتين، كما في حديث أبي محذورة - رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علَّمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإِقامة سبع عشرة كلمة: الأذان: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله (¬2)، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، ¬

_ (¬1) قال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنة" (ص 144): "والوجوب يثبت بأقلّ من هذا". (¬2) وهذا هو الترجيع وهو الترديد كما في "النهاية".

أشهد أنَّ محمداً رسول، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إِله إلاَّ الله. والإِقامة: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إِله إلاَّ الله (¬1). وفي رواية لأبي محذورة -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله، علِّمْني سُنَّةَ الأذان، قال: فمسحَ مُقَدَّمَ رأسي وقال: "الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، ترفع بها صوتك، ثمَّ تقول: أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله، تخفض بها صوتك، ثمَّ ترفع صوتك بالشهادة (¬2): أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح. فإِنْ كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إِله إلاَّ الله" (¬3). وسألت شيخنا -حفظه الله تعالى-: هل الأصل الإِكثار من أذان بلال أم ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (474)، والترمذي والنسائي وابن ماجه، وأخرجه مسلم: 379، بترديد التكبير مرتين. (¬2) وهذا هو الترجيع وهو الترديد كما تقدّم. (¬3) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (472)، وانظر "تمام المنة" (ص 146).

وجوب ترتيب الأذان

أذان أبي محذورة -رضي الله عنهما-؟ فقال: ليس عندنا شيء يحدد الأكثر من الأذانات الثابتة في السنَّة، وإِنَّما السنَّة أن ينوّع. وسألته عن الترجيع، فقال: أحياناً. وجوب ترتيب الأذان قال في "المغني" (1/ 438): "ولا يصحّ الأذان إلاَّ مرتَّباً؛ لأنَّ المقصود منه يختلّ بعدم الترتيب وهو الإِعلام؛ فإِنَّه إِذا لم يكن مرتَّباً لم يُعلم أنَّه أذان، ولأنَّه شُرِع في الأصل مُرتّباً، وعلَّمه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا محذورة مرتّباً". تثويب (¬1) المؤذّن في صلاة الصبح وهو قوله: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم للحديث السابق، وموضعه الفجر الأوّل لحديث أبي محذورة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم؛ في الأولى من الصبح". وعنه أيضاً قال: "كنت أؤذّن لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكنت أقول في أذان الفجر الأوّل: حيَّ على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر ¬

_ (¬1) التثويب: الأصل في التثويب: أن يجيء الرجل مستصرخاً؛ فيلوّح بثوبه ليُرى ويشتهر فسمّي الدعاء تثويباً لذلك، وكلّ داع مثوّب، وقيل: إِنّما سُمّي تثويباً من ثاب يثوب إِذا رجع، فهو رُجوعٌ إِلى الأمر بالمبادرة إِلى الصلاة، وأنَّ المؤذن إِذا قال: حيَّ على الصلاة؛ فقد دعاهم إِليها، وإذا قال بعدها: الصلاة خير من النوم، فقد رجع إِلى كلامٍ معناه المبادرة إِليها. "النهاية".

الله أكبر، لا إِله إلاَّ الله" (¬1). وكن بلال أنَّه: أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤْذنه بصلاة الفجر فقيل: هو نائم، فقال: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، فأُقرَّت في تأذين الفجر، فثبت الأمر على ذلك" (¬2). قال شيخنا في "تمام المنّة" (ص146): "قلتُ: إِنّما يشرع التثويب في الأذان الأوّل للصبح، الذي يكون قبل دخول الوقت بنحو ربع ساعة تقريباً؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان في الأذان الأوّل بعد الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين". رواه البيهقي (1/ 423)، وكذا الطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 82)، وإِسناده حسن كما قال الحافظ. وحديث أبي محذورة مُطلق، وهو يشمل الأذانين، لكنّ الأذان الثاني غير مراد؛ لأنَّه جاء مُقيَّداً في رواية أخرى بلفظ: "وإِذا أذَّنْتَ بالأوّل من الصبح فقُل: الصلاة خير من النوم. الصلاة خير من النوم"، أخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي وغيرهم، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (510 - 516)، فاتفقَ حديثه مع حديث ابن عمر، ولهذا قال الصنعاني في "سبل السلام" (1/ 167 - 168) عَقبَ لفْظ النسائي: "وفي هذا تقييد لما أطلقَتْه الروايات. قال ابن رسلان: وصحَّح هذه الرواية ابن خزيمة. قال: فشرعيّة التثويب إِنّما هي في الأذان الأوّل للفجر؛ لأنَّه لإِيقاظ النائم، وأمَّا الأذان الثاني ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (473)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (628) وورَد برقم (614) في (باب الأذان في السفر) بلفظ: "الصلاة خير من النوم، في الأولى من الصبح". (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (586).

آخر الأذان

فإِنَّه إِعلام بدخول الوقت، ودعاء إِلى الصلاة. اهـ من "تخريج الزركشي لأحاديث الرافعي". ومِثْل ذلك في "سنن البيهقي الكبرى" عن أبي محذورهّ: أنَّه كان يُثوّب في الأذان الأوّل من الصبح بأمْره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قلت [أي: شيخنا -حفظه الله تعالى-]: وعلى هذا ليس "الصلاة خير من النوم" من ألفاظ الأذان المشروع للدعاء إِلى الصلاة والإِخبار بدخول وقتها، بل هو من الألفاظ التي شُرعت لإِيقاظ النائم، فهو كألفاظ التسبيح الأخير الذي اعتاده الناس في هذه الأعصار المتأخرة؛ عِوَضاً عن الأذان الأول". وقال -حفظه الله- (ص148): (فائدة): قال الطحاوي بعد أن ذكر حديث أبي محذورة وابن عمر المتقدّمين الصريحين في التثويب في الأذان الأوّل: "وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله تعالى-". آخر الأذان (¬1) عن بلال قال: آخر الأذان: "الله أكبر الله أكبر، لا إِله إلاَّ الله" (¬2). عن الأسود قال: كان آخر أذان بلال: "الله أكبر الله أكبر، لا إِله إلاَّ الله" (¬3). عن أبي محذورة: أنَّ آخر الأذان: "لا إِله إلاَّ الله" (¬4). ¬

_ (¬1) عجبتُ لهذا التبويب لأوّل وهلة حين قرأتُه في "سنن النسائي" وما أسرع ما زال التعجب؛ حين تذكّرت ما أبتدعَه المسلمون من زيادات عليه! (¬2) عن "صحيح سنن النسائي" (1/ 140) بأسانيد صحيحة وكلها في (باب آخر الأذان). (¬3) عن "صحيح سنن النسائي" (1/ 140) بأسانيد صحيحة وكلها في (باب آخر الأذان). (¬4) عن "صحيح سنن النسائي" (1/ 140) بأسانيد صحيحة وكلها في (باب آخر الأذان).

صفة الإقامة

صفة الإِقامة 1 - إِفراد كلماتها إلاَّ التكبير الأوّل والأخير و (قد قامت الصلاة)، ففيها التثنية، كما في حديث عبد الله بن زيد المتقدّم، وفيه: " ... وتقول إِذا أقيمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إِله إلاَّ الله". 2 - تربيع الأوّل وتثنية جميع الكلمات، إلاَّ الكلمة الأخيرة (لا إِله إلاَّ الله). كما في حديث أبي محذورة المتقدّم: "والإِقامة: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إِله إلاَّ الله". ما يقول مَن يسمع المؤذّن 1 - يقول مِثْل ما يقول المؤذّن، إلاَّ في الحيعلتين: (حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح)، فإِنَّه يقول: لا حول ولا قوّة إلاَّ بالله، كما في حديث أبي سعيد الخدريّ: "إِذا سمعتم النّداء، فقولوا مِثل ما يقول المؤذّن" (¬1). قال يحيى وحدّثني بعض إِخواننا أنَّه قال: "لمّا قال حيَّ على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، وقال: هكذا سمعتُ نبيّكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 611، ومسلم: 383 (¬2) أخرجه البخاري: 612، 613، وانظر -إِن شئت- للمزيد من الفوائد =

وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا قال المؤذّن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدُكم: الله أكبر الله أكبر، ثمَّ قال: أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، قال: أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، ثمَّ قال: أشهد أنَّ محمّداً رسول الله، قال: أشهد أنَّ محمّداً رسول الله، ثمَّ قال: حيَّ على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، ثمَّ قال: حيَّ على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، ثمَّ قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثمَّ قال: لا إِله إلاَّ الله، قال: لا إِله إلاَّ الله، من قلبه- دخل الجنّة" (¬1). وسألت شيخنا -حفظه الله- عن حديث مسلم (386): "من قال حين يسمع المؤذّن: أشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمّداً عبده ورسوله، رضيت بالله ربّاً وبمحمّد رسولاً، وبالإِسلام ديناً؛ غُفر له ذنبه". سألتُه: "حين يسمع" أي: حين ينتهي من الأذان أم خلاله؟ فقال: إِذا لاحظت أنّ إِجابة المؤذّن ليست واجبة، فالأمر حينئذٍ واسع. 2 - أن يصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بعد الانتهاء من الأذان، ثمَّ يسأل الله عزّ وجلّ له الوسيلة، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أنَّه سمع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِذا سمعتُم المؤذّن فقولوا مِثل ما يقول، ثمَّ صلّوا عليَّ، فإِنَّه من صلّى عليَّ صلاةً صلّى الله عليه بها عشراً، ثمَّ سلوا الله لي الوسيلة، فإِنّها منزلةٌ في الجنّة لا تنبغي إلاَّ لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي ¬

_ = الحديثية وغيرها "الفتح" (2/ 93). (¬1) أخرجه مسلم: 385

الوسيلة حلَّت له الشفاعة" (¬1). وعن جابر بن عبد الله أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من قال حين يسمع النّداء: اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامّة (¬2) والصلاة القائمة؛ آت محمّداً الوسيلة (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 384 (¬2) المراد بها دعوة التوحيد؛ كقوله تعالى: {له دعوة الحقّ} [الرعد: 14] وقيل لدعوة التوحيد تامة؛ لأنَّ الشركة نقْص، أو التّامة التي لا يدخلها تغيير ولا تبديل؛ بل هي باقية إِلى يوم النشور، أو لأنّها تستحقّ صفة التمام وما سواها فمعرّض للفساد، وقال ابن التين: وُصفت بالتامّة؛ لأن فيها أتّم القول وهو "لا إِله إلاَّ الله" ... "فتح" (2/ 95). (¬3) قال ابن الأثير في "النهاية" بحذف: الوسيلة: ما يُتوصّل به إِلى الشيء ويُتقرّب به، وجمعها وسائل، يُقال: وسَل إِليه وسيلة وتوسّل، والمراد به في الحديث: القرب من الله تعالى. وقيل: هي منزلة من منازل الجنّة كما جاء في الحديث. اهـ وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ الوسيلة درجة عند الله؛ ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة على خلْقه. [حسن شيخنا إِسناده في "فضل الصلاة" (ص 50)]. وجاء في "الفتح" (2/ 95): "والوسيلة: هي ما يُتقرّب به إِلى الكبير، يُقال: توسلْت، أي: تقربت، وتُطلق على المنزلة العلية، ووقع ذلك في حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم [384] بلفظ: فإِنّها منزلة في الجنة لا تنبغي إِلاَ لعبد من عباد الله" الحديث ونحوه للبزار عند أبي هريرة، ويمكن ردّها إِلى الأوّل؛ بإِنّ الواصل إِلى تلك المنزلة قريب من الله؛ فتكون كالقربة التي يتوسّل بها".

والفضيلة (¬1)، وابعثه مقاماً محموداً (¬2) الذي وعَدْته، حلّت له (¬3) شفاعتي يوم القيامة" (¬4). وعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنَّه سمع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِذا سمعتم المؤذّن فقولوا مِثل ما يقول، ثمَّ صلّوا عليّ، فإِنَّه من صلّى عليَّ صلاة؛ صلّى الله بها عشراً، ثمَّ سلوا الله لي الوسيلة، فإِنَّها منزلة فى الجنّة؛ لا تنبغي إلاَّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل ليّ الوسيلة حلّت له شفاعتي (¬5) " (¬6). ¬

_ (¬1) الفضيلة: أي: المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى أو تفسيراً للوسيلة. (¬2) أى: يحمد القائم فيه، وهو مُطلق في كلّ ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات. "الفتح" (2/ 95). (¬3) حلّت له: أي: استحقت ووجبت أو نزلت عليه. "فتح". (¬4) أخرجه البخاري: 614 (¬5) أخرجه مسلم: 384 (¬6) قال شيخنا في "الإِرواء" (1/ 260): "وقع عند البعض زيادات في متْن هذا الحديث فوجَب التنبيه عليها: الأولى: زيادة: "إِنَّك لا تُخلِف الميعاد" في آخر الحديث عند البيهقي؛ وهي شاذة لأنّها لم تَرِد في جميع طُرق الحديث عن عليّ بن عياش اللهمّ إلاَّ في رواية الكشميهني لصحيح البخاري خلافاً لغيره؛ فهي شاذّة أيضاً لمخالفتها لروايات الآخرين للصحيح، وكأنَه لذلك لم يلتفت إِليها الحافظ، فلم يذكُرها في "الفتح" على طريقته في جمع الزيادات من طُرُق الحديث، إلاَّ أنَّه عزاها للبيهقي فهي شاذة يقيناً، ويؤيد ذلك أنها لم تقع في "أفعال العباد" للبخاري والسند واحد. =

ويقول إِن شاء: "رضيتُ بالله ربّاً وبمحمّد رسولاً وبالإِسلام ديناً"، لحديث سعد بن أبي وقاص عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "من قال حين يسمع المؤذّن: أشهد أن لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسولُه، رضيت بالله ربّاً وبمحمّد رسولاً وبالإِسلام ديناً؛ غُفر له ذنبُه" (¬1). والدعاء مستجاب بعد الأذان؛ كما في حديث عبد الله بن عمرو -رضي ¬

_ = ووقعَت هذه الزيادة في الحديث في كتاب "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" لشيخ الإِسلام ابن تيمية في جميع الطبعات (ص55) طبعة المنار الأولى، و (ص37) الطبعة الثانية منه و (ص49) الطبعة السلفية؛ والظاهر أنها مُدرَجة من بعض النُّساخ. والله أعلم. الثانية: في رواية البيهقي أيضاً: "اللهمّ إِنّي أسألك بحقّ هذه الدعوة". ولم تَرِدْ عند غيره. فهي شاذّة أيضاً، والقول فيها كالقول في سابقتها. الثالثة: وقع في نسخة من "شرح المعاني" "سيدنا محمّد" وهي شاذّة مدرجة ظاهرة الإِدراج. الرابعة: عند ابن السنّي "والدرجة الرفيعة" وهي مُدرجة أيضاً من بعض النساخ، فقد علمْتَ مما سبق أن الحديث عنده من طريق النسائي وليست عنده ولا عند غيره، وقد صرّح الحافظ في "التلخيص" (ص78) ثمَّ السخاوى في "المقاصد" (ص 212) أنها ليست في شيء من طرق الحديث. قال الحافظ: وزاد الرافعي في "المحرر" في آخره: يا أرحم الراحمين. وليست أيضاً في شيء من طرقه، ومن الغرائب أنَّ هذه الزيادة وقعت في الحديث في كتاب "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" لابن تيمية وقد عزاه لصحيح البخاري: وإنّي أستبعد جداً أن يكون الخطأ منه لما عرف به -رحمه الله- من الحفظ والضبط، فالغالب أنّه من بعض النساخ". (¬1) أخرجه مسلم: 386، وغيره.

استحباب إجابة المؤذن والدليل على عدم وجوبها

الله عنهما- أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إِنَّ المؤذّنين يفضلوننا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قل كما يقولون، فإِذا انتهيتَ فسَلْ تُعطه" (¬1). وفي الحديث: "لا يُردّ الدعاء بين الأذان والإِقامة" (¬2). وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثنتان لا تُردّان، أو قلَّما تُردّان: الدعاء عند النّداء، وعند البأس؛ حين يلحم بعضهم بعضاً" (¬3). استحباب إِجابة المؤذّن والدليل على عدم وجوبها عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال: "إِنّهم كانوا يتحدثون حين يجلس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على المنبر حتى يسكت المؤذّن، فإِذا قام عمر على المنبر، لم يتكلّم أحد حتى يقضي خطبتيه كلتيهما". قال شيخنا في "الضعيفة" تحت الحديث (87): أخرجه مالك في موطئه والطحاوي والسياق له وابن أبي حاتم في "العلل" وإِسناد الأوّلين صحيح. وقال في "تمام المنّة" (ص340): "نعم، قد وجدْتُ له متابعاً قوياً، أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (2/ 124) من طريق يزيد بن عبد الله عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال: "أدركت عمر وعثمان، فكان الإِمام إِذا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (492). (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وانظر "الإِرواء" (244). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2215) وغيره، وانظر "المشكاة" (672).

الآداب التي ينبغي أن يتصف بها المؤذن، وما يفعله عند الأذان:

خرج يوم الجمعة تركْنا الصلاة، فإِذا تكلّم تركْنا الكلام". وهذا إِسناد صحيح، ويزيد هذا هو ابن الهاد الليثي المدني. ثمَّ قال -حفظه الله-: "في هذا الأثر دليل على عدم وجوب إِجابة المؤذّن، لجريان العمل في عهد عمر على التحدث في أثناء الأذان وسكوت عمر عليه، وكثيراً ما سئلتُ عن الدليل الصارف للأمر بإِجابة المؤذّن عن الوجوب؛ فأجبْت بهذا. والله أعلم". الآداب التي ينبغي أن يتصف بها المؤذّن، وما يفعله عند الأذان: 1 - أن يحتسب في أذانه ويبتغي وجْه الله سبحانه، ولا يطلب الأجر. لحديث عثمان بن أبي العاص قال: "إِنَّ آخر ما عَهد إِليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن اتخِذ مؤذّناً؛ لا يأخذ على أذانه أجراً" (¬1). وقد ذكر الترمذي -رحمه الله تعالى- كراهة أهل العلم أخْذ المؤذّن على الأذان أجراً، واستحبابهم الاحتساب في ذلك. 2 - أن يكون على طُهر، لحديث المهاجر بن قنفذ -رضي الله عنه- "أنَّه أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يبول، فسلَّم عليه، فلم يردّ عليه حتى توضّأ، ثمَّ اعتذر إِليه فقال: إِنّي كرِهتُ أن أذكر الله إلاَّ على طهر -أو قال- على طهارة" (¬2). قال ابن المنذر في "الأوسط" (3/ 38): "ليس على من أذّن وأقام وهو ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (585)، وابن أبي شيبة، وأنظر "الإرواء" (5/ 316). (¬2) أخرجه أبو داود والنسائي والدارمي وابن ماجه وغيرهم، وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الصحيحة" (834).

3 - أن يؤذن قائما لما ثبت عن ابن أبي ليلى قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال.

جُنُب إِعادة، لأنَّ الجنب ليس بنجس، لقي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأهوى إِليه فقال: إِنّي جُنُب، فقال: إِنَّ المسلم ليس بنجس (¬1)، وروي عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه كان يذكر الله على كل أحيانه (¬2)، والأذان على الطهارة أحب إِليَّ، وأكره أن يقيم جنبا لأنّه يعرض نفسه للتهمة ولفوات الصلاة". انتهى. قال لي شيخنا -حفظه الله تعالى-: "الأصل في الأذكار حتى السلام أن تكون على طهارة وهو الأفضل فالأذان من باب أولى، ولكن نقول عن الأذان بغير وضوء مكروه كراهة تنزيهيّة". 3 - أن يؤذّن قائماً لما ثبت عن ابن أبي ليلى قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال. قال: وحدثنا أصحابنا: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين -أو قال المؤمنين- واحدة، حتى لقد هممتُ أن أبُثَّ رجالاً في الدُّور يُنادونَ النَّاس بحين الصلاة، وحتى هممتُ أنْ آمر رجالاً يقومون على الآطام (¬3) يُنادون المسلمين بحين الصلاة حتّى نقسوا (¬4) أو كادوا أن ينقسوا" قال: فجاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، إِنّي لمَّا رجعْت لِمَا رأيت من اهتمامك رأيت رجلاً كأنَّ عليه ثوبين أخضرين، فقام على المسجد فأذّن، ثمَّ قعد قعدة، ثمَّ قام فقال مِثلها، إِلا أنَّه يقول: قد قامت الصلاة، ولولا أن يقول النّاس: قال ابن المثنى: أن تقولوا، لقلت إِنّي كنت ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه. (¬2) تقدّم تخريجه في (باب الأمور التي يستحبّ لها الوضوء). (¬3) الآطام: جمع أطم وهو بناء مرتفع، وآطام المدينة: حصون كانت لأهلها. (¬4) أي: ضربوا بالناقوس.

يقظاناً غير نائم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وقال ابن المثنى-: "لقد أراك الله عزّ وجلّ خيراً" ولم يقل عمرو: "لقد أراك الله خيراً" فَمُرْ بلالاً فليؤذّن، قال: فقال عمر: أما إِنّي قد رأيت مثل الذي رأى ولكنّي لمّا سُبِقْتُ استحييت. قال: وحدَّثنا أصحابنا قال: وكان الرجل إِذا جاء يَسأل فيُخبر بما سبق من صلاته، وإِنهم قاموا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بين قائم وراكع وقاعد ومصلٍّ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابن المثنى: قال عمرو: وحدثني بها حصين عن ابن أبي ليلى -حتى جاء معاذ- قال شعبة: وقد سمِعْتها من حصين فقال: لا أراه على حال، إِلى قوله: كذلك فافعلوا". قال أبو داود: ثمَّ رجعْت إِلى حديث عمرو بن مرزوق قال: فجاء معاذ فأشاروا إِليه، قال شعبة: وهذه سمعْتُها من حصين، قال فقال معاذ: لا أراه على حال إلاَّ كنت عليها، قال: فقال: إِنَّ معاذاً قد سنَّ لكم سنّة كذلك فافعلوا (¬1). وقد جرى العمل على الأذان قائماً خَلفاً عن السلف. قال في "المغني" (1/ 435): قال ابن المنذر: أجمع كُلّ من أحفظ من أهل العلم أنَّ السّنةَ أن يُؤذّن قائماً ... " (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (478). (¬2) وقد استدلَّ بعض الفقهاء بالحديث المتفق عليه: "يا بلال: قم فنادِ بالصلاة"، على سنّية القيام، وفي الاستدلال به نظر كما في التلخيص (ص75) لأنَّ معناه: اذهب إِلى موضع بارز فنادِ فيه. "الإِرواء" (1/ 241).

4 - أن يستقبل القبلة.

وثبت أنَّ ابن عمر: "كان يؤذّن على البعير؛ فينزل فيُقيم" (¬1). قال ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 12): ويدلّ على أنَّ الأذان قائماً قوله: "قم يا بلال". وعن الحسن بن محمّد قال: "دخلتُ على أبي زيد الأنصاري فأذَّن وأقام وهو جالس، قال: وتقدَّم رجلٌ فصلّى بنا، وكان أعرج أصيبت رجله في سبيل الله تعالى" (¬2). 4 - أن يستقبل القبلة. قال في "المغني" (1/ 439): " ... المستحبّ أن يُؤذّن مستقبل القبلة؛ لا نعلم خلافاً ... ". جاء في "الإِرواء" (1/ 250) بعد تخريج حديث ضعيف في ذلك، لكنّ الحُكم صحيح فقد ثبت استقبال القبلة في الأذان من المَلَك الذي رآه عبد الله ابن زيد الأنصاري في المنام. وروى السرَّاج في "مسنده" (1/ 23/1) عن مجمع بن يحيى قال: "كنتُ مع أبي أمامة بن سهل، وهو مستقبل المؤذّن، فكبّر المؤذّن وهو مستقبل القبلة" وإسناده صحيح. 5 - أن يضع أصبُعيه في أذنيه. وقد ثبتَ هذا من قول أبي جحيفة: "إِنّ بلالاً وضَع أصبُعيه (¬3) في ¬

_ (¬1) حسّنه شيخنا في "الإِرواء" (226). (¬2) أخرجه البيهقي وحسنّه شيخنا في "الإِرواء" (225). (¬3) قال الحافظ في "الفتح" (1/ 116): لم يرد تعيين الأصبع التي يستحبّ =

أذنيه" (¬1) قال في "المحرّر" (1/ 37): "ويجعل إِصبعيه في أذنيه". قال أبو عيسى الترمذي: "وعليه العمل عند أهل العلم؛ يستحبّون أن يُدخِل المؤذّن إِصبعيه في أُذنيه في الأذان" (¬2). 6 - أن يلتفت يميناً ويساراً التفافاً يسيراً يلوي به عنقه، ولا يحوّل صدره عن القبلة، عند قوله: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح. عن أبي جحيفة "أنَّه رأى بلالاً يؤذّن، فجعلتُ أتتبع فاهُ هاهنا وهاهنا بالأذان" (¬3). ¬

_ = وضْعها، وجزم النووي أنها المسبّحة، وإِطلاق الإِصبع مجاز عن الأنملة. (¬1) أخرجه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي وشيخنا في "الإِرواء" (230)، وذكره البخاري معلقاً غير مجزوم به انظر "الفتح" (2/ 114). (¬2) وسألت شيخنا عمّا رواه البخاري معلّقاً بصيغة الجزم وقد وصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة بسند جيد عنه كما في "مختصر البخاري" (1/ 164) بلفظ: "كان ابن عمر لا يجعل إِصبعيه في أذنيه". فقال حفظه الله: "لو كان هناك حديثان أحدهما يُثبت عبادة، والآخر ينفيها؛ فلا شكَّ في هذه الحالة، أنَّ المُثبِت مقدّم على النافي، وعندنا الآن فِعل بلال المختصّ في أذان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والذي يغلب على الظنّ فِعله ذلك بمشهدٍ من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيكون له حُكم الحديث المرفوع، بينما الأثر المنسوب اٍلى ابن عمر ليس فيه هذه القوّة الفقهية، فلا نشكّ في ترجيح وضع بلال إِصبعيه في أذنيه على ترك ابن عمر ذلك". (¬3) أخرجه البخاري: 634

قال الحافظ في "الفتح" (2/ 115): "ورواية وكيع عن سفيان عند مسلم أتمّ حيث قال: "فجعلْتُ أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يميناً وشمالاً يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح" وهذا تقييد للالتفات في الأذان وأنَّ محلّه عند الحيعلتين، وبوّب عليه ابن خزيمة: انحراف المؤذّن عند قوله حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح؛ بفمه لا ببدنه كله، قال: وإِنَّما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الوجه ... ". قال النووي: "قال أصحابنا: والمراد بالالتفات: أن يلوي رأسه وعنقه، ولا يحوّل صدره عن القبلة، ولا يزيل قدمه عن مكانها، وهذا معنى قول المصنّف: "ولا يستدير". وهذا هو الصحيح المشهور الذي نصّ عليه الشافعي، وقطع به الجمهور" (¬1). وقال -رحمه الله- في "المجموع" (107): "قد ذكَرنا أنَّ مذهبنا أن يستحب الالتفات في الحيعلة يميناً وشمالاً، ولا يدور ولا يستدبر القبلة؛ سواء كان على الأرض أو على منارة، وبه قال النخعي والثوري والأوزاعي وهو رواية عن أحمد، وقال ابن سيرين: يكره الالتفات، وقال مالك: لا يدور ولا يلتفت إلاَّ أن يريد إِسماع النّاس. وقال أبو حنيفة وإِسحاق وأحمد في رواية: يلتفت ولا يدور إلاَّ أن يكون على منارة فيدور ... ". قال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنّة" (ص150): "أمّا تحويل الصدر؛ فلا أصل له في السُّنّة البتّة". ¬

_ (¬1) ذكره في "المجموع" ونقله عنه شيخنا في "تمام المنة" (ص151).

7 - أن يؤذن في مكان مرتفع.

فائدة: جاء في "الأوسط" (ص26): قال الأوزاعي: "يستقبل القبلة، فإِذا قال حيّ على الصلاة؛ استدار إِن شاء عن يمينه فيقول: حيّ على الصلاة مرّتين، ثمَّ يستدير عن يساره كذلك". فهذا يبيّن أنّه يقول في استدارة اليمين حي على الصلاة، حي على الصلاة، ولا يستدير عن يساره إلاَّ بعد أن يقولهما والله أعلم. 7 - أن يؤذّن في مكان مرتفع. لحديث ابن أبي ليلى السابق وفيه: " ... رأيت رجلاً كأنّ عليه ثوبين أخضرين، فقام على المسجد فأذّن، ثمَّ قعد قعدة، ثمَّ قام فقال مِثلها". وعن امرأة من بني النجار قالت: "كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذّن عليه الفجر، فيأتي بسَحَر فيجلس على البيت ينظر إِلى الفجر، فإِذا رآه تمطّى، ثمَّ قال: اللهمّ إِني أحمدك وأستعينك على قريش، أن يقيموا دينك. قالت: ثمَّ يؤذّن، قالت: والله ما علمْته كان تركها ليلة واحدة، تعني هذه الكلمات" (¬1). وذكره أبو داود في: "باب الأذان فوق المنارة". قال الحافظ في "الفتح" (2/ 84): " ... لأنَّ الأذان يُستحبّ أن يكون على مكان عالٍ لتشترك الأسماع ... ". انتهى. وانظر ما قاله ابن المنذر في "الأوسط" (3/ 28) تحت (ذِكر الأذان على ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (487).

8 - أن يرفع صوته بالأذان.

المكان المرتفع). 8 - أن يرفع صوته بالأذان. عن أبي سعيد الخُدري -رضي الله عنه-: أنَّه قال لعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصة الأنصاري: "إِنّي أراك تحبّ الغنم والبادية، فإِذا كنتَ في غنمك -أو باديتك- فأذَّنت بالصلاة فارفع صوتك بالنّداء؛ فإِنَّه لا يسمع مدى صوت المؤذّن جنٌّ ولا إِنسٌ ولا شيء؛ إلاَّ شهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعْته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬1). 9 - أن يتمهّل في الأذان ويترسّل (¬2). جاء في "المغني" (1/ 418): "ويترسّل في الأذان ويحدر الإِقامة" (¬3). أذان الأعمى إِذا كان له من يُخبره (¬4) عن عمر -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ بلالاً يؤذّن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يُنادي ابن أمّ مكتوم، ثمَّ قال: وكان رجلاً أعمى لا يُنادي حتى يقال له: أصبحتَ أصبحتَ" (¬5). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان ابن أمّ مكتوم يؤذّن لرسول الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 609، وغيره، وأشرْت إِليه في "فضل الأذان". (¬2) وهو التمهّل والتأنّي. (¬3) وقد رُوي في ذلك حديث: "إِذا أذّنتَ فترسَّل، وإذا أقمت فاحدُر"، ولا يثبت، وانظر تفصيله في "الإِرواء" (228). (¬4) هذا العنوان من "صحيح البخاري". (¬5) أخرجه البخاري: 617

الانتظار بين الأذان والإقامة

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أعمى" (¬1). الانتظار بين الأذان والإِقامة عن عبد الله بن مُغفَّل المزني أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "بين كلّ أذان صلاة -ثلاثاً- لمن شاء" (¬2). وعن أنس بن مالك قال: "كان المؤذّن إِذا قام ناسٌ من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبتدرون السواري حتى يخرُج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهم كذلك يُصلّون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء (¬3) " (¬4). قال عثمان بن جبلة وأبو داود عن شعبة: "لم يكن بينهما إلاَّ قليل" (¬5). وفي الحديث: "اجعل بين أذانك وإِقامتك نفَساً، قدْر ما يقضي المعتصر (¬6) حاجته في مهل، وقدْر ما يفرُغ الآكل من طعامه في مهل" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 381 (¬2) تقدّم. (¬3) أي: لم يكن بينهما شيء كثير. (¬4) أخرجه البخاري: 625 (¬5) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به، ووصله الإسماعيلي في "مستخرجه" ومن طريقه البيهقي (2/ 19) بسند صحيح عنه، انظر "مختصر البخاري" (1/ 163). (¬6) هو الذي يحتاج إِلى الغائط؛ ليتأهّب للصلاة قبل دخول وقتها، وهو من العَصْر اْو العَصَر، وهو الملجأ والمستخفى. "النهاية". (¬7) حسّنه شيخنا بمجموع طُرُقه في "الصحيحة" (887).

هل يجوز الكلام بين الإقامة والصلاة؟

وعن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "كان بلال يؤذّن، ثمَّ يُمْهِلُ فإِذا رأى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد خرج أقام الصلاة" (¬1). جاء في "الفتح" (2/ 106): "قال ابن بطال: لا حدّ لذلك (¬2) غير تمكُّن دخول الوقت واجتماع المصلّين". وعن جابر بن سمرة قال: "كان بلال لا يؤخرّ الأذان عن الوقت، وربما أخرَّ الإِقامة شيئاً" (¬3). هل يجوز الكلام بين الإِقامة والصلاة؟ عن أنس -رضي الله عنه- قال: "أُقيمت صلاة العشاء فقال رجل: لي حاجة، فقام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُناجيه، حتى نام القوم (أو بعض القوم) ثمَّ صلَّوا" (¬4). قال ابن حزم في "المحلّى" (تحت مسألة 334): "والكلام جائز بين الإِقامة والصلاة -طال الكلام أو قصُر- ولا تُعاد الإِقامة لذلك". اهـ الأذان عند دخول الوقت: ولا يجوز الأذان قبل الوقت في غير الفجر -كما سيأتي-. قال في "المحلّى" (3/ 160) (مسألة 314): "لا يجوز أن يؤذّن لصلاةٍ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد ومسلم: 606 (¬2) أي: زمن الانتظار. (¬3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (584)، وانظر "الإِرواء" (227). (¬4) أخرجه مسلم: 376، وتقدّم في (باب نواقض الوضوء).

قبل دخول وقتها إلاَّ صلاة الصبح فقط". وجاء في "المغني" (1/ 421): "عدم إِجزاء الأذان قبل الوقت، وقال: وهذا لا نعلم فيه خلافاً وقال: قال ابن المنذر: أجمَع أهل العِلم على أنَّ مِن السنّة أن يؤذّن للصلوات بعد دخول وقتها إلاَّ الفجر، ولأنَّ الأذان شُرع للإِعلام بالوقت، فلا يشرع قبل الوقت لئلا يذهب مقصوده". وجاء فيه أيضاً: " ... يشرع الأذان للفجر قبل وقتها، وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وإِسحاق، ومنعه الثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن ... " وذكر الدليل على ذلك. ثمَّ قال (ص 421): ولنا قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ بلالاً يؤذّن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابن أم مكتوم" (¬1). متفق عليه (¬2)، وهذا يدلّ على دوام ذلك منه، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرّه عليه ولم ينهه عنه، فثبت جوازه" اهـ. وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يمنعنّ أحدَكم -أو أحداً منكم- أذانُ بلالٍ من سحوره، فإِنَّه يؤذّن -أو ينادي بليل، ليَرجع (¬3) قائمكم ولينبّه نائمكم ... " (¬4). ¬

_ (¬1) هذا بيّن أنَّ مؤذّن الأذان الأوّل غير مؤذّن الأذان الثاني، وهي سُنّة متروكة، وهذا يُعين في التمييز بين الأذان الأول والثاني، وانظر "تمام المنة" (ص 148). (¬2) أخرجه البخاري: 617، 622، 623، ومسلم: 1092 (¬3) " ... معناه يرد القائم -أي: المتهجّد- إِلى راحته، ليقوم إِلى صلاة الصبح نشيطاً، ويكون له حاجة إِلى الصيام فيتسحّر". "الفتح" (2/ 104 - 105). (¬4) أخرجه البخاري: 621، ومسلم: 1093

هل يقيم غير الذي أذن:

ْقال القاسم بن محمّد (¬1): "ولم يكن بين أذانهما إلاَّ أن يرقى ذا وينزل ذا" (¬2). هل يقيم غير الذي أذَّن: يجوز أن يقيم غير الذي أذَّن، لعدم ورود نصِّ ثابت يمنع ذلك، أمّا حديث: "من أذَّن فهو يقيم" فإِنَّه ضعيف، وانظر "الضعيفة" (35). قال ابن حزم في "المحلّى" (تحت المسألة 329): "وجائز أن يُقيم غير الذى أذَّن؛ لأنَّه يأتِ عن ذلك نهْي يصحّ". وقال شيخنا -حفظه الله تعالى- تعليقاً على الحديث السابق: "ومن آثار هذا الحديث السيئة أنَّه سبب لإِثارة النزاع بين المصلّين، كما وقع ذلك غير ما مّرة، وذلك حين يتأخر المؤذن عن دخول المسجد لعذر، ويريد بعض الحاضرين أن يقيم الصلاة، فما يكون من أحدهم إلاَّ أن يعترض عليه محتجًّا بهذا الحديث، ولم يدر المسكين أنَّه حديث ضعيف؛ لا يجوز نسبته إِليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فضلاً عن أن يمنع به الناس من المبادرة إِلى طاعة الله تعالى، ألا وهي إِقامة الصلاة". الإِقامة في موضع غير موضع الأذان: لما تقدّم من حديث عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- وفيه صفة الأذان إِلى أن قال: "ثمَّ استأخَر عنّي غير بعيد، ثمَّ قال: تقول: إِذا أقمتَ الصلاة ... "، وذكر الحديث. ¬

_ (¬1) هو الراوي عن عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) أخرجه البخاري: 1918، 1919، ومسلم: 1092

هل تعاد الإقامة إذا طال الفصل بينها وبين الصلاة؟

قال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنّة" (ص 145) -بحذف-: "في هذا دليل واضح على أن السنّة في الإِقامة في موضع غير موضع الأذان. وقد وجدت بعض الآثار تشهد لحديث عبد الله بن زيد، فروى ابن أبي شيبة (1/ 224) عن عبد الله بن شقيق قال: من السُّنّة الأذان في المنارة، والإِقامة في المسجد، وكان عبد الله يفعله، وسنده صحيح، وروى عبد الرزاق (1/ 506) أن عمر بن عبد العزيز بعث إِلى المسجد رجالاً: إِذا أُقيمت الصلاة فقوموا إِليها. وسنده صحيح أيضاً. وهو ظاهر في أن الإِقامة كانت في المسجد". هل تعاد الإِقامة إذا طال الفَصل بينها وبين الصلاة؟ لا تُعاد الإِقامة إِذا فُصل بين الإِقامة والصلاة بكلام ونحوه، لحديث حُميد قال: سألتُ ثابتاً البُناني عن الرجل يتكلّم بعدما تُقام الصلاة، فحدَّثني عن أنس بن مالك قال: "أُقيمت الصلاة، فعرَض للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلٌ فحبَسَه بعد ما أُقيمت الصلاة" (¬1). وعن أنس -رضي الله عنه- أيضاً قال: "أُقيمت الصلاة والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُناجي (¬2) رجلاً في جانب المسجد، فما قام إِلى الصلاة حتى نام القوم" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج وقد أُقيمت الصّلاة وعُدّلت الصفوف، حتى إِذا قام في مصلاّه انتظرنا أن يُكبّر، انصرف ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 643 (¬2) أي: يحادث. (¬3) أخرجه البخاري: 642

متى يقوم الناس إلى الصلاة؟

قال: على مكانكم (¬1)، فمكَثنا على هيئتنا، حتى خرج إِلينا ينطِف (¬2) رأسه ماءً وقد اغتسل" (¬3). متى يقوم الناسُ إِلى الصلاة؟ روى ابن المنذر عن أنس أنَّه كان يقوم إِذا قال المؤذّن: "قد قامت الصلاة". قال شيخنا في "تمام المنة" (ص 151): قلتُ: ينبغي تقييد ذلك بما إِذا كان الإِمام في المسجد، وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة: "إِن الصلاة كانت تقام لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فيأخذ الناس مصافّهم قبل أن يقوم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقامه". رواه مسلم وغيره، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (553)، وأما إِذا لم يكن في المسجد فلا يقومون حتى يَروْه قد خرَج لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أُقيمت الصلاة فلا تقوموا؛ حتى تروني قد خرجْت". متفق عليه واللفظ لمسلم، وهو مخرَّج في "صحيح أبي داود" (550 - 552). انظر الشوكاني (3/ 162). النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان لغير حاجة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يسمع النّداء ¬

_ (¬1) أي: كونوا على مكانكم. (¬2) أي: يقطر. (¬3) أخرجه البخاري: 639، ومسلم: 605 قال الحافظ في "الفتح" (2/ 122): "وفي هذا الحديث من الفوائد ... جواز الفصْل بين الإِقامة والصلاة؛ لأن قوله "فصلَّى" ظاهرٌ في أنَّ الإِقامة لم تُعَدْ، والظاهر أنَّه مُقيَّد بالضرورة وبأمْن خروج الوقت، وعن مالك إِذا بعُدت الإِقامة من الإِحرام تعاد، وينبغي أن يُحمل على ما إذا لم يكن عُذر".

الأذان والإقامة للفائتة:

في مسجدي هذا، ثمَّ يخرج منه إلاَّ لحاجة؛ ثمَّ لا يرجع إِليه إلاَّ منافق" (¬1). وعن عثمان بن عفّان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أدركه الأذان في المسجد ثمَّ خرج لم يخرج لحاجة، وهو لا يُريد الرجعة فهو منافق" (¬2). وعن سعيد بن المسيّب -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يخرج من المسجد أحد بعد النداء إلاَّ منافق؛ إلاَّ أحدٌ أخرجَتْه حاجة، وهو يريد الرجوع" (¬3). وعن أبي الشعثاء قال: "كنّا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة، فأذّن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعَه أبو هريرة بصَره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أمّا هذا فقد عصى أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬4). الأذان والإِقامة للفائتة: من فاتته صلاة؛ لنومٍ أو نسيان، فإِنه يشرع له أن يؤذّن ويقيم حينما يريد صلاتها (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" ورواته محتجٌ بهم في "الصحيح" كما في "الترغيب والترهيب" للمنذري، وصححه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (256). (¬2) أخرجه ابن ماجه، وصححه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (257). (¬3) أخرجه أبو داود في "مراسيله" وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (258). (¬4) أخرجه مسلم: 655 وذكر بعض العلماء أن خروج المسلم لغير حاجة من المسجد عند الأذان؛ كهروب الشيطان عند سماعه. (¬5) انظر "الأوسط" (3/ 32).

وذلك لحديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: "شغَلَنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل، فأنزل الله عز وجل: {وكفى الله المؤمنين القتال} (¬1)، فأمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالاً فأقام لصلاة الظهر، فصلاّها كما كان يصلّيها لوقتها" ثمَّ أقام للعصر فصلاها كما كان يصلّيها في وقتها، ثمَّ أذّن للمغرب فصلاّها في وقتها" (¬2). ولحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قَفَل (¬3) من غزوة خيبر سار ليلهُ، حتى إِذا أدركه الكرى (¬4) عرَّس (¬5)، وقال لبلال: اكلأ (¬6) لنا الليل فصلّى بلال ما قُدِّر له، ونام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، فلما تقارب الفجر استند بلال إِلى راحلته مُواجه الفجر، فَغَلَبَت بلالاً عيناه وهو مُستند إِلى راحلته، فلم يستيقظ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربَتهم الشمس، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولهم استيقاظاً، ففزع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أيْ: بلال! " فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ (بأبي أنت وأمّي! يا رسول الله!) بنفسك، قال: "اقتادوا" (¬7)، فاقتادوا رواحلهم شيئاً، ثمَّ توضّأ ¬

_ (¬1) الأحزاب: 25 (¬2) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائي" (638) وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (1/ 257). (¬3) أي: رجع. (¬4) أي: النعاس. (¬5) أي: نزل للنوم والاستراحة. (¬6) أي: ارقب واحرُس. (¬7) أي: خذوا مقاود الرواحل وانطلقوا.

الأذان لمن يصلي وحده:

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمَر بلالاً فأقام (¬1) الصلاة، فصلّى بهم الصبح فلمّا قضى الصلاة قال: "من نسي الصلاة فليصلِّها إِذا ذكَرها، فإِن الله قال: {وأقِم الصلاة لذِكْري} (¬2) " (¬3). وفي رواية: " ... قال: فأمرَ بلالاً فأذّن وأقام وصلّى" (¬4). الأذان لمن يصلّي وحده (¬5): عن عقبة بن عامر سمعْت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "يعْجَب ربُّك من راعي غنم في رأس شظيّة (¬6) الجبل يُؤذّن بالصلاة ويصلي فيقول الله عز وجلّ: انظروا إِلى عبدي هذا؛ يُؤذّن ويقيم الصلاة يخافُ منّي، قد غفرْتُ لعبدي وأدخلْتُه الجنّة" (¬7). قال ابن المنذر في "الأوسط" (3/ 60): "أحبّ إِليّ أن يؤذّن ويقيم إِذا صلّى وحده، ويجزيه إِن أقام وإِن لم يؤذن، ولو صلّى بغير أذان ولا إِقامة لم يجب عليه الإِعادة، وإِنما أحببت الأذان والإِقامة للمصلّي وحده لحديث ¬

_ (¬1) في رواية أبي قتادة (681): "ثمَّ أذَّن بلال بالصلاة". (¬2) طه: 14 (¬3) أخرجه مسلم: 680 وغيره، وبعضه في البخاري. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (421). (¬5) هذا العنوان من "سنن النسائي". (¬6) الشظية: قطعة مرتفعة في رأس الجبل. وانظر "النهاية". (¬7) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي "صحيح سنن النسائي" (642) وغيرهم، وانظر "الإرواء" (214).

أذان الراعي:

أبي سعيد الخدري (¬1). لئلا يظن ظانّ أن الأذان لاجتماع الناس لا غير، وقد أمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مالك بن الحويرث وابن عمه بالأذان ولا جماعة معهما لأذانهما وإِقامتهما" (¬2). أذان الراعي: عن عبد الله بن ربيعة: أنَّه كان مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فسمع صوت رجل يؤذّن، فقال مِثل قوله، ثمَّ قال: "إِنَّ هذا لراعي غنمٍ، أو عازِبٌ عن أهله" فنظَروا فإِذا هو راعي غنم (¬3). الأذان في السفر: عن مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- قال: أتى رجلان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريدان السفر، فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أنتما خرجتما فأذِّنا ثمَّ أقيما، ثمَّ لِيَؤمّكما أكبركما" (¬4). قال أبو عيسى الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم؛ اختاروا الأذان في السفر، وقال بعضهم تُجزئ الإِقامة؛ إِنّما الأذان على من يريد أن يجمع الناس، والقول الأوّل أصحّ، وبه يقول أحمد وإسحاق. ¬

_ (¬1) المتقدّم. (¬2) كما سيأتي بعد الحديث -إن شاء الله تعالى-. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (641). (¬4) أخرجه البخاري: 630

هل للنساء أذان وإقامة؟

هل للنساء أذان وإِقامة؟ نعم، للنساء ذلك؛ لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّما النساء شقائق الرجال" (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنها- "أنها كانت تؤذّن وتقيم ... " (¬2). وعن وهب بنَ كيسان قال: "سُئل ابن عمر: هل على النساء أذان؟ فغضب، وقال: أنا أنهى عن ذِكر الله! " (¬3). ولم يرَ الشافعي وأحمد -رحمهما الله تعالى- بأساً في ذلك. انظر للمزيد من الفائدة -إِن شئت- "الأوسط" (3/ 53). لا أذان ولا إِقامة لصلاة العيدين: عن ابن عبّاس وجابر قالا: "لم يكن يؤذَّن يوم الفطر ولا يوم الأضحى" (¬4). وسيأتي في صلاة العيدين إِن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) حديث صحيح خرّجه شيخنا في "المشكاة" (441) وهو في "صحيح سنن أبي داود" (216) التحقيق الثاني و "صحيح سنن الترمذي" (98). (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" وغيره، وهو حسنٌ لغيره وانظر تخريجه في "تمام المنة" (ص 153). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (1/ 223) بسند جيد، عن "تمام المنة" (ص 153). (¬4) أخرجه البخاري: 960، ومسلم: 886

الكلام في الأذان:

الكلام في الأذان: يجوز الكلام في الأذان لحاجة، فقد "تكلّم سليمان بن صُرَد في أذانه" (¬1). وقال الحسن: "لا بأس أنْ يضحك وهو يؤذن أو يقيم" (¬2). وعن عبد الله بن الحارث قال: "خطبَنا ابن عبّاس في يوم ردغْ (¬3)، فلما بلغ المؤذن حيَّ على الصلاة فأمره أن ينادي: الصلاة في الرِّحال، فنظر القوم بعضهم إِلى بعض، فقال: فعَل هذا من هو خير منه، وإِنّها عَزْمة (¬4) " (¬5). ما يُحقن بالأذان من الدماء (¬6): عن أنس بن مالك أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان إِذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" في "كتاب الأذان" (باب الكلام في الأذان) معلقاً بصيغة الجزم، وقال الحافظ: "وصَله أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة له، وأخرجه البخاري في التاريخ عنه وإسناده صحيح ولفظه: "إِنّه كان يؤذّن في العسكر؛ فيأمر غلامه بالحاجة في أذانه". (¬2) أخرجه البخاري معلّقاً بصيغة الجزم في "كتاب الأذان" (باب الكلام في الأذان)، قال الحافظ: لم أره موصولاً. (¬3) وفي بعض النسخ بالزاي "رزْغ"، قال في "النهاية": "الرَّدَغَة: طين ووحل كثير، وتجمع على رَدَغ ورداغ، وقال في الرزغ: هو الماء والوحل". (¬4) ضد الرخصة. (¬5) أخرجه البخاري: 116 (¬6) هذا العنوان من "صحيح البخاري".

حتى يصبح وينظر، فإِنْ سمع أذاناً كفّ عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم (¬1)، قال: فخرجنا إِلى خيبر فانتهينا إِليهم ليلاً فلمّا أصبح ولم يسمع أذاناً ركل وركبت خلف أبي طلحة وإِنَّ قدمي لتمس قدم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فخرجوا إِلينا بمكاتلهم (¬2) ومساحيهم (¬3) فلمّا رأو النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: محمد والله والخميس (¬4). قال: فلمّا رآهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكبر خربت خيبر إِنّا إِذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباح المنذرين". قال الحافظ في "الفتح" (2/ 90) بعد هذا الحديث: "قال الخطابي: فيه أنَّ الأذان شعار الإِسلام، وأنّه لا يجوز ترْكه، ولو أنَّ أهل بلد اجتمعوا على ترْكه؛ كان للسلطان قتالهم عليه" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 610، ومسلم: 382 (¬2) المكاتِل: جمع المِكتل -بكسر الميم- وهو القُفّة أي: الزِّنبيل. "شرح الكرماني" (5/ 10). (¬3) المساحي: جمع المسحاة، وهي المجرفة إلاَّ أنّها من الحديد. "شرح الكرماني" (5/ 10). (¬4) الخميس: الجيش، سمّي به لأنّه مقسوم بخمسة أقسام: المقدّمة، والساقة [المؤخرة] والميمنة، والميسرة، والقلب. وقيل: لأنّه تخمّس فيه الغنائم. "النّهاية". (¬5) وجاء في "شرح الكرماني" (5/ 10): " [قال] التيمي: وإنما يُحقن الدم بالأذان لأن فيه الشهادة بالتوحيد والإقرار بالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: وهذا لمن قد بلغَته الدعوة، وكان يمسك عن هؤلاء حتى يسمع الأذان ليعلم أكانوا مجيبين للدعوة أم لا، لأن الله تعالى قد وعده إظهار دينه على الدين كله.

من بدع الأذان ومخالفاته:

من بدع الأذان ومخالفاته: الأصل في العبادات المنع إِلا أن يرد الدليل، والأذان عبادة لا يجوز الإِحداث فيها، فمن المخالفات والمحدثات في الأذان التي لم يرد فيها نص ولم يفعلها الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-: 1 - التغنّي في الأذان واللحن فيه. وقد ثبت أنّ رجلاً جاء إِلى ابن عمر -رضي الله عنهما- فقال: "إِنّي أحبّك في الله، قال فاشهد عليّ أنّي أبغضك في الله، قال: ولمَ؟ قال: لأنك تلحنُ في أذانك وتأخذ عليه أجراً" (¬1). 2 - التسبيح قبل الفجر. 3 - زيادة الصلاة على النّبيّ والسلام فيه (¬2). شروط (¬3) الصلاة: 1 - دخول الوقت (¬4)، وقد تقدّم في (باب مواقيت الصلاة). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" وغيره، وانظر "الصحيحة" تحت الحديث (42). (¬2) انظر ما قاله شيخنا -شفاه الله تعالى- في "تمام المنّة" (ص 158). (¬3) الشرط: هو الأمر الذي يتوقّف عليه وجود الحُكم، ويلزم من عَدمه عدم الحُكم، ولا يلزم من وجوده وجود الحُكم، فلا يلزم من وجود الوضوء الذي هو شرط الصلاة وجودها، ولا يلزم من وجود الشاهدين وجود عقد الزواج، ووجودهما شرط لصحّته، ولكن لا تصحّ الصلاة من غير وجود الوضوء، ولا يصح النكاح مِن غير شاهدين. عن "أصول الفقه" (ص 59) للشيخ محمّد أبي زهرة. (¬4) انظر ما قاله شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في "الفتاوى" (22/ 75) حول وقت الاختيار ووقت الاضصرار.

2 - الطهارة من الحدث.

قال في "المغني" (1/ 407) بحذف يسير: "ومن صلَّى قبل الوقت، لم تجُز صلاته في قول أكثر أهل العلم، سواءٌ فعَله عمداً أو خطأ كلّ الصلاة أو بعضها، وبه قال الزهري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي". 2 - الطهارة من الحَدَث. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذا قُمتم إِلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديَكم إِلى المرافق وامسحو ابرؤوسكم وأرجُلَكم إِلى الكعبين وإِنْ كنتم جُنُباً فاطهروا} (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تُقبل صلاةُ من أحدث حتى يتوضأ" قال رجل من حضرموت: ما الحدَث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط" (¬2). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لا تُقبل صلاةٌ بغير طُهور، ولا صدَقة من غُلول" (¬3). ¬

_ (¬1) المائدة: 6 (¬2) أخرجه البخاري: 135، ومسلم: 225 دون قوله: "قال رجل ... " وتقدّم. قال الحافظ في "الفتح" (2/ 235): "أحدَث: أو وُجد منه الحدث، والمراد به الخارج من أحد السبيلين، وإنّما فسّره أبو هريرة بأخصّ من ذلك؛ تنبيهاً بالأخفّ على الأغلظ ... ". (¬3) أخرجه مسلم: 224 وغيره، وانظر للمزيد من الفوائد الحديثية "الإِرواء" (1/ 153).

3 - تطهير الثوب والبدن والمكان من النجاسة.

3 - تطهير الثوب والبدن والمكان من النجاسة (¬1). أمّا تطهير الثياب فلنصّ القرآن: {وثيابك فطهِّر} (¬2). ولحديث أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: سَألتِ امرأة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت يا رسول الله: أرأيت إِحدانا إِذا أصاب ثوبها الدّم من الحيضة كيف تصنع؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أصاب ثوب إِحداكنّ الدّم من الحيضة فلتقرُصه ثمَّ لِتَنضحْه بماء ثمَّ لتصلّي فيه" (¬3). ومنها حديث خلْعِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للنّعل، كما في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "صلّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم؛ فلمّا كان في بعض صلاته؛ خلَع نعليه فوضَعهما عن يساره، فلما رأى الناس ذلك خلعوا نعالهم، فلمّا قضى صلاته قال: "ما بالكم ألقيتم نعالكم؟ " قالوا: رأيناك ألقيتَ نعليك فألقينا نعالنا، فقال: (إِنَّ جبريل أتاني فأخبَرني أنّ فيهما قَذَراً -أو قال: أذى- (وفي رواية: خَبَثاً)، فألقيتُهما، فإِذا جاء أحدكم إِلى المسجد، فلينظر في نعليه، فإِن رأى فيهما قَذَراً -أو قال: أذى- (وفي الرواية الأخرى: خَبَثاً)؛ ¬

_ (¬1) من كتاب "الدراري المضية" (1/ 108) بتصرف. (¬2) المدثر: 4 (¬3) أخرجه البخاري: 307، ومسلم: 291

فليمسحهما، وليصلِّ فيهما (¬1) " (¬2). وأمّا تطهير البدن؛ فلانّه أولى من تطهير الثوب؛ ولِما ورَد من وجوب تطهيره، من ذلك: حديث أنس -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تنزّهوا من البول؛ فإِنَّ عامّة عذاب القبر منه" (¬3). ولحديث عليّ -رضي الله عنه- قال: كنتُ رجلاً مذّاءً فأمَرْت رجلاً أن يسأل النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكان ابنته، فسأل فقال: "توضّأ واغسلْ ذَكرَك" (¬4). وأمّا المكان؛ فلِما ثبتَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رشّ الذَّنوب على بوْل الأعرابي، كما ¬

_ (¬1) وسألت شيخنا -حفظه الله تعالى- عن قول بعض العلماء: "من صلّى مُلابساً لنجاسة عامداً؛ فقد أخلّ بواجب، وصلاته صحيحة" فقال: نحن نقول: أخلّ بشرط، لكن هل هو معذور أم ليس بمعذور؟ فللمعذور نقول: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنعليه، ولمّا خلَعهما؛ سألوه عن السبب فقال: جاءني جبريل وأخبرني أنَّ فيهما قذراً. قلت: يعني إِذا كان معذوراً فلا بأس، أمّا إِذا لم يكن كذلك فالصلاة باطلة؟ فقال -حفظه الله تعالى-: نعم. قلت: بعد أن صلى وجدَ فيه قذارة؟ فقال: مثل ذاك. وذكر لي -حفظه الله تعالى- أنَّ المصلي إِذا تذكّر أثناء الصلاة أنّه جُنب، أو أنه على غير وضوء؛ فإِنّه يستطيع أن يذهب ويغتسل أو يتوضّأ إِذا كان المكان قريباً، ويرجع لاستكمال صلاته؛ بانياً على ما مضى. لكن إِذا انتهى من الصلاة وتذكر أنّه كان على غير طُهر، فإنّه يتطهّر ويُعيد الصلاة. (¬2) أخرجه أبو داود: 650 "صحيح سنن أبي داود" (605)، وابن خزيمة والحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي والنووي، وانظر "الإرواء" (284)، وصفة الصلاة (ص 81). (¬3) حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإرواء" (280). (¬4) أخرجه البخاري: 269، ومسلم: 303، وتقدّم.

4 - ستر العورة:

في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- " أنَّ أعرابياً بال فى المسجد، فثار إِليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دعوه وأهريقوا على بوله ذَنوباً من ماء أو سَجْلاً من ماء، فإِنّما بُعثتم مُيَسِّرين ولم تُبعثوا مُعَسِّرين" (¬1) 4 - ستر العورة: قال الله تعالى: {يا بني آدمَ خذوا زينَتكم عند كلّ مسجد} (¬2). وبيّن ابن عباس -رضي الله عنهما- سبب نزول هذه الآية فقال: "كانت المرأةُ تطوف بالبيت وهي عُريانه، فتقول: من يُعيرني تِطوافاً تجعله على فرجها، وتقول: اليوم يبدو بعضُه أو كلُّه ... فما بدا منه فلا أُحلّه فنزلَت هذه الآية: {خذوا زينتَكم عند كلّ مسجد} " (¬3). قال البغوي في "تفسيره" (2/ 157): في قوله سبحانه: {يا بني آدم خذوا زينتَكم عند كلّ مسجد} يعني: الثياب، قال مجاهد: ما يُواري عورتك ولو عباءة. قال الكلبي: "الزينة: ما يواري العورة عند كلّ مسجد لطواف وصلاة". قال شيخ الإِسلام في كتابه "حجاب المرأة ولباسها في الصلاة" (ص 14) في (فصل في اللباس في الصلاة): وهو أخْذ الزينة عند كلّ مسجد، الذي يسمّيه الفقهاء: "باب ستر العورة في الصلاة". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 6128 وغيره وتقدّم في (كتاب الطهارة) والسَّجل والذَّنوب: الدلو الممتلئة ماءً. (¬2) الأعراف: 31 (¬3) أخرجه مسلم: 3028

ما يجب على الرجل ستره عند الصلاة:

وقال -رحمه الله- (ص 23): "وفي الصلاة نوع ثالث؛ فإِن المرأة لو صلَّت وحدها، كانت مأمورة بالاختمار، وفي غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها في بيتها، فأَخْذ الزينة في الصلاة لحق الله، فليس لأحد أن يطوف بالبيت عُرياناً ولو كان وحده بالليل، ولا يصلي عُرياناً ولو كان وحده، فعلم أن أخذ الزينة في الصلاة لم يكن لتحتجب عن الناس، فهذا نوع، وهذا نوع. وحينئذ فقد يستر المصلي في الصلاة ما يجوز إِبداؤه في غير الصلاة، وقد يُبدي في الصلاة ما يستره عن الرجال. فالأول مِثل المَنكِبين، فإِنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يصلّي الرجل في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء فهذا لحقّ الصلاة، ويجوز له كشف منكبيه للرجال خارج الصلاة". وقال -رحمه الله- (ص 32): "والمنكبان في حقه؛ كالرأس في حقّ المرأة؛ لأنّه يصلّي في قميص أو ما يقوم مقام القميص ... ". ما يجب على الرّجل ستره عند الصلاة: يجب ستر القُبل والدُّبر، وجاء في بعض النصوص ما يدّل على أنّه يجب على المصلّي أن يستر من بدنه ما ليس بعورة وهو القسم الأعلى منه؛ كما في حديث بريدة -رضي الله عنه-: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُصلّي الرجل في لحاف واحد؛ لا يتوشّح به (¬1) ونهى أن يُصلّي الرجل في سراويل وليس عليه رداء" (¬2). قال شيخنا في "تمام المنّة" (163): "وفي الحديث دلالة على أنّه ¬

_ (¬1) أي: يتغشّى به. (¬2) أخرجه أبو داود وغيره وإسناده حسن وانظر "تمام المنّة" (162).

يجب على المصلّي أن يستر من بدنه ما ليس بعورة، وهو القسم الأعلى منه، وذلك إِنْ وجَد كما يدلّ عليه حديث ابن عمر وغيره، وظاهر النهي يفيد بطلان الصلاة، ويؤكّد ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يصلّينّ أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه (وفي رواية: عاتقيه. وفي أخرى: منكبيه) منه شيء". رواه الشيخان وأبو داود وغيرهم، وهو مخرَّج في "الإِرواء" (275) و "صحيح أبي داود" (637). قال الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/ 59): "وقد حمَل الجمهور هذا النهي على التنزيه، وعن أحمد: لا تصحّ صلاة من قَدِرَ على ذلك فتركَه، وعنه أيضاً: تصحّ ويأثم"". وقد ورَد في بعض الأحاديث ما يدّل على جواز الصلاة في الثوب الواحد. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ سائلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في ثوب واحد، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَولكُلِّكُمْ ثوبان" (¬1). وعن محمّد بن المنكدر قال: "رأيت جابر بن عبد الله يُصلّي في ثوبٍ واحد، وقال: رأيت النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي في ثوب" (¬2). وعنه أيضاً قال: "صلّى جابر في إِزارٍ قد عقَده من قبل قفاه وثيابه موضوعة على المِشجَب (¬3) قال له قائل: تُصلّي في إِزارٍ واحدٍ؟ فقال: إِنّما صنعْتُ ذلك ليراني أحمقُ مثلُك، وأيُّنا كان له ثوبان على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -"؟ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 358، ومسلم: 515، وتقدّم. (¬2) أخرجه البخاري: 353 (¬3) هو عيدان تُضمّ رؤوسها ويُفرَج بين قوائمها توضَع عليها الثياب وغيرها. "فتح". (¬4) أخرجه البخاري: 352

وعن عمر بن أبي سلمة "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى في ثوبٍ واحدٍ قد خالف بين طرفيه" (¬1). ولكن الصلاة في الثوب الواحد بقيد تغطية العاتقين (¬2). قال البخاري -رحمه الله- (¬3): (باب إِذا صلّى في الثوب الواحد، فليجعل على عاتقيه). وروى حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يُصلي (¬4) أحدُكم في الثوب الواحد؛ ليس على عاتِقَيه شيء" (¬5). ثمَّ روى حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أشهدُ أنّي سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: من صلّى في ثوبٍ واحدٍ؛ فليخالِف بين طرفيه" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 354 (¬2) العاتق: هو ما بين المنكبين إِلى أصل العُنُق. (¬3) انظر "الفتح" (1/ 471). (¬4) قال في "الفتح" (1/ 471): قوله (لا يصلي)، قال ابن الأثير: كذا هو في الصحيحين بإِثبات الياء، ووجهه أن (لا) نافية، وهو خبر بمعنى النهي. قلت [أي: الحافظ -رحمه الله-]: ورواه الدارقطني في "غرائب مالك" من طريق الشافعي عن مالك بلفظ: "لا يُصلِّ"، بغير ياء، ومن طريق عبد الوهاب بن عطاء عن مالك بلفظ "لا يصلِّيَنّ" بزيادة نون التأكيد. (¬5) أخرجه مسلم: 516. (¬6) انظر البخاري: 360.

حجة من يرى أن الفخذ ليست بعورة:

جاء في "الفتح" (1/ 471): " ... ودلالته على الترجمة من جهة؛ أنَّ المخالفة بين الطرفين لا تتيسَّر إلاَّ بجعل شيءٍ من الثوب على العاتق، كذا قال الكرماني". حُجّة من يرى أنَّ الفخذ ليست بعورة (¬1): استدل القائلون بأنَّ السُّرّة والفخذ والركبة ليست بعورة بهذه الأحاديث: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مضطجعاً في بيته كاشفاً عن فخذيه، فاستأذَن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال، ثمَّ استأذَن عمر، فأذِن له وهوكذلك، فتحدّث، ثمَّ استأذن عثمان، فجلس النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسوّي ثيابه وقال محمّد: -ولا أقول ذلك في يوم واحد- فدخل، فتحدّث، فلمّا خرج قالت له عائشة: دخل عليك أبو بكر فلم تجلس، ثمَّ دخل عثمان، فجلست وسوَّيتَ ثيابك؟ فقال: ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة" (¬2). قال البخاري -رحمه الله-: "وقال أنس: حسَر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن فَخِذه (¬3)، ¬

_ (¬1) عن "فقه السنة" (1/ 125) بتصرف يسير. (¬2) أخرجه الطحاوي في "المشكل" وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإِرواء" (1/ 298) وأصْله في مسلم: 2401 (¬3) أخرجه البخاري معلقاً وموصولاً: 371 وانظر "الفتح" (1/ 478) -إِن شئت- للمزيد من الفائدة وانظر أيضاً "صحيح مسلم" (2401).

وحديث أنس أسند، وحديث جَرهَد (¬1) أحوط، حتى يُخرَجَ من اختلافهم، وقال أبو موسى: غطَّى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُكبتيه حين دخل عثمان (¬2). وقال زيد بن ثابت: أنزل الله على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفخِذه على فخذي، فثقُلَت عليَّ حتى خِفتُ أن ترُضَّ فخذي" (¬3). قال ابن حزم (¬4): "فصحّ أنَّ الفخذ ليست عورة، ولوكانت عورة؛ لَما كشَفَها الله عزّ وجلّ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المطهَّر المعصوم من الناس؛ في حال النّبوة والرسالة، ولا أَراها أنس بن مالك ولا غيره، وهو تعالى قد عصَمَه من كشْف العورة في حال الصّبا وقبل النّبوة". ثمَّ ذكَر حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- في "الصحيحين": "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إِزاره، فقال له العباس عمّه: يا ابن أخي! لو حلَلْتَ إِزارك فجعلتَه على منكِبك دون الحجارة، قال: فحلَّه فجعلَه على مَنْكِبه، فسقط مغشياً عليه، فما رؤي بعد ذلك عُرياناً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬5). وعن أبي العالية البَراء قال: قلتُ لعبد الله بن الصامت نُصلِّي يوم الجمعة ¬

_ (¬1) قال شيخنا في "مختصر البخاري" (1/ 107): "وصَله مالك والترمذي وحسّنه، وصحّحه ابن حبان". (¬2) وصَله البخاري في كتاب "فضائل الصحابة" وانظر (3695). (¬3) وصَله البخاري في "كتاب الجهاد" وانظر رقم (2832) وأشار شيخنا إِلى ذلك في "مختصره"، وكذا الذي قبله. (¬4) انظر "المحلّى" (3/ 7272). (¬5) انظر البخاري: 364، ومسلم: 340

حجة من يرى أنها عورة:

خلْف أمراء، فيؤخّرون الصلاة، قال: فضرب فَخذي ضربةً أوجعتني، وقال: سألتُ أبا ذرٍّ عن ذلك فضرَب فخِذي، وقال: سألتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك: فقال: "صَلُّوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة". قال: وقال عبد الله: ذُكر لي أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب فَخِذَ أبي ذرّ" (¬1). وفي رواية لمسلم: "وقال: إِنِّي سألتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سألتني، فضربَ فخِذي كما ضرَبتُ فَخِذَك ... " (¬2). قال ابن حزم: فلو كانت الفخذ عورة؛ لما مسَّها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من أبي ذرّ أصلاً بيده المقدّسة. ولو كانت الفخذ عند أبي ذرّ عورة، لما ضرب عليها بيده، وكذلك عبد الله بن الصامت وأبي العالية. وما يستحلّ مسلم أن يضرب بيده على ذَكَر إِنسان، على الثياب، ولا على حلقة دُبُر الإِنسان على الثياب، ولا على بدن امرأة أجنبية على الثياب، البتة". ثمَّ ذكَر ابن حزم (¬3) بإِسناده إِلى أنس بن مالك أنّه أتى ثابت بن قيس بن شمّاس؛ وقد حسر عن فَخِذيه ... " (¬4). حُجَّة من يرى أنَّها عورة: واستدلّ القائلون بأنّها عورة بهذين الحديثين: 1 - عن محمّد بن جحش قال: "مرّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على معمر، وفخذاه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 648 (¬2) انظره تحت رقم: 648 (¬3) انظر "المحلى" (3/ 278). (¬4) انظر البخاري: 2845

مكشوفتان فقال: يا معمر غطِّ فخذيك؛ فإِنَّ الفخذين عورة" (¬1). 2 - وعن جَرهَد قال: مرّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليّ بُردة وقد انكشفت فخِذي فقال: "غطِّ فخذك فإِنَّ الفخِذ عورة" (¬2). قال شيخنا في "تمام المنّة" (159 - 160): "ومن الواضح لدى كلّ ناظرٍ في الأدلّة التي ساقَها المؤلّف؛ أنَّ أدلّة القائلين بأنَّ الفخذ ليس بعورة فعليّة من جهة، ومبيحة من جهة أخرى. وأدلة القائلين بأنّه عورة قولية من جهة، وحاظرة من جهة أخرى، ومن القواعد الأصولية التي تساعد على الترجيح بين الأدلة والاختيار قاعدتان: الأولى: الحاظر مُقدَّم على المبيح. والأخرى: القول مُقدَّم على الفِعل؛ لاحتمال الخصوصية وغيرها؛ مع أنَّ الفعل في بعض الأدلة المشار إِليها لا يظهر فيها أنَّه كان مقصوداً متعمّداً؛ كحديث أنس وأثر أبي بكر -رضي الله عنهما- أضِف إِلى ذلك أنّها وقائعُ أعيان لا عموم لها؛ بخلاف الأدلّة القولية، فهي شريعة عامّة، وعليها جَرى عمل المسلمين سلَفاً وخلفاً، بحيث لا نعلم أنّ أحداً منهم كان يمشي أو يجلس كاشفاً عن فَخِذيه؛ كما يفعل بعض الكفّار اليوم، ومن يقلّدهم من المسلمين الذ ين يلبسون البنطلون الذي يسمّونه بـ (الشورت)، وهو (التبان) في اللغة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند وغيره وإسناده ضعيف لكنّه يتقوى بغيره كما فى "المشكاة" (3114)، و"الإرواء" (1/ 297 - 298). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" والحاكم في "المستدرك" وغيرهما وذكره البخاري معلقاً انظر "الفتح" (1/ 478)، وإسناده ضعيف لكنّه يتقوى بغيره أيضاً، وانظر "الإرواء" (1/ 298).

ولهذا، فلا ينبغي التردد في كون الفخذ عورة ترجيحاً للأدلة القولية، فلا جَرَم أن ذهب إِليه أكثر العلماء، وجزم به الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/ 52 - 53) و"السيل الجرّار" (1/ 160 - 161). نعم، يمكن القول بأنّ عورة الفخذين أخفّ من عورة السوأتين، وهو الذي مال إِليه ابن القيّم في "تهذيب السنن" كما كُنتُ نقَلْتهُ عنه في "الإِرواء" (1/ 301). وحينئذ، فمسُّ الفَخِذ الذي وقع في حديث أبي ذرّ -والظاهر أنَّه من فوق الثوب- ليس كمس السوأتين ... ". انتهى. وعن أنس بن مالك " أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزا خيبر فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس، فركب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركب أبو طلحة، وأنا رديف أبي طلحة، فأجرى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زقاق خيبر، وإنّ ركبتي لتمسّ فخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمَّ حسر الإِزار عن فخِذه حتى إِني أنظر إِلى بياض فخذ نبيَّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... ". قال شيخنا في "الإِرواء" (1/ 300) بعد تخريج الحديث: أخرجه البخاري (1/ 105) والبيهقي (2/ 230) وأخرجه مسلم (4/ 145، 5/ 185) وأحمد (3/ 102) إِلا أنهما قالا: "وأنحسر" بدل "وحسر"، ولم يذكر النسائي في روايته (2/ 92) ذلك كلّه. قال الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 245) عقب رواية مسلم: "قال النووي في الخلاصة: وهذه الرواية تُبيّن رواية البخاري، وأنّ المراد: انحسر بغير اختياره لضرورة الإِجراء. انتهى". قلت [القائل: شيخنا -حفظه الله تعالى-]: وأجاب عن ذلك الحافظ في "الدراية" بقوله (ص 434): "قلت: لكن لا فرق في نظري بين الروايتين؛ من

ما يجب على المرأة ستره في الصلاة

جهة أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يُقرّ على ذلك لو كان حراماً، فاستوى الحال بين أن يكون حسَره باختياره، وانحسر بغير اختياره". وهذا من الحافظ نظر دقيق، ويؤيده أن لا تعارض بين الروايتين، إِذ الجمع بينهما ممكن بأن يقال: حسَر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثوب فانحسر. وقد جمع الشوكاني بين هذين الحديثين وبين الأحاديث المتقدّمة في أن الفخِذ عورة بأنهما حكاية حال، لا عموم لها. انظر "نيل الأوطار" (1/ 262). ولعل الأقرب أن يقال في الجمع بين الأحاديث: ما قاله ابن القيم في "تهذيب السنن" (6/ 17): "وطريق الجمع بين هذه الأحاديث: ما ذكره غير واحد من أصحاب أحمدَ وغيرهم: أنّ العورة عورتان: مخففة ومغلظة، فالمغلظة: السوأتان، والمخففة: الفخذان. ولا تَنافي بين الأمر بغض البصر عن الفخذين لكونهما عورة، وبين كشفهما لكونهما عورة مخففة. والله أعلم". قلت: وكأنّ الإمام البخاري -رحمه الله- أشار إِلى هذا الجمع بقوله المتقدّم: "وحديث أنس أسند، وحديث جَرهَد أحوط" اهـ. ما يجب على المرأة سِتْره في الصلاة يجب على المرأة أن تستر بدنها كلّه في الصلاة خلا الوجه والكفين، لقول الله تعالى: {ولا يُبدين زينتهنّ إِلاَّ ما ظَهَر منها} (¬1). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "أي: لا يُظهرن شيئاً من الزينة ¬

_ (¬1) النور: 31

للأجانب إِلا ما لا يمكن إِخفاءه". قال ابن المنذر في "الأوسط" (5/ 70): "وقد روينا عن جماعة من أهل التفسير أنهم قالوا في قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إِلاَّ ما ظهر منها} الآية، أنّ ذلك الكفان والوجه، فممّن روينا ذلك عنه ابن عباس، وعطاء ومكحول، وسعيد بن جبير". قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "جلباب المرأة المسلمة" (ص 40): " ... وقد اختلفت أقوال السلف في تفسيرها؛ فمن قائل: إِنّها الثياب الظاهرة، ومن قائل: إِنّها الكحل والخاتم والسوار والوجه، وغيرها من الأقوال التي رواها ابن جرير في "تفسيره" (18/ 84) عن بعض الصحابة والتابعين، ثمَّ اختار هو أنّ المراد بهذا الاستثناء الوجه والكفان، فقال: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عَنَى بذلك الوجه والكفين، يدخل في ذلك -إِذا كان كذلك- الكحل والخاتم والسوار والخضاب، وإنّما قلنا: ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل؛ لإِجماع الجميع على أنّ على كلّ مصلٍّ أن يستر عورته في صلاته، وأنّ للمرأة أن تكشف وجهها وكفّيها في صلاتها، وأنّ عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها، إلاَّ ما روي عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه أباح لها أن تبدي من ذراعها قدْر النصف (¬1)، فإِذا كان ذلك من جميعهم إِجماعاً؛ كان معلوماً بذلك أنَّ لها أن تبديَ من بدنها ما لم يكن عورة كما ذلك للرجال، لأنَّ ما لم يكن عورة فغير حرام إِظهاره، وإِذا كان لها إِظهار ذلك؛ كان معلوماً أنَّه ممَّا استثنى الله تعالى ذكره بقوله: {إِلاَّ ما ¬

_ (¬1) وهو حديث منكر وانظر "جلباب المرأة المسلمة" (ص 41).

ظهر منها}؛ لأنَّ كل ذلك ظاهر منها". ثمَّ ذكر شيخنا (ص51) كلام القرطبي (12/ 229): "قال ابن عطية: ويظهر لي بحُكم ألفاظ الآية أنَّ المرأة مأمورة بأن لا تُبديَ، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بدَّ منه، أو إِصلاح شأن، ونحو ذلك فـ {ما ظهر} على هذا الوجه ممّا تؤدي إِليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه". وقال -حفظه الله- (ص51 - 52) -بحذف يسير-: " ... وبيانه أنَّ السلف اتفقوا على أنّ قوله تعالى: {إِلاَّ ما ظهَر منها} يعود إِلى فعلٍ يصدر من المرأة المكلَّفة، غاية ما في الأمر أنهم اختلفوا فيما تظهره بقصدٍ منها، فابن مسعود يقول: هو ثيابها؛ أي: جلبابها. وابن عباس ومن معه من الصحابة وغيرهم يقول: هو الوجه والكفان منها. فمعنى الآية حينئذ: إلاَّ ما ظهرَ عادة بإِذن الشارع وأمرِه. ألستَ ترى أن المرأة لو رفعت من جلبابها حتى ظهر من تحته شيء من ثيابها وزينتها -كما يفعل ذلك بعض المتجلببات- أنها تكون قد خالفَت الآية باتفاق العلماء؛ فقد التقى فِعْلها هذا مع فِعْلها الأول، وكلاهما بقصد منها؛ لا يمكن إلاَّ هذا، فمناط الحكم إِذن في الآية؛ ليس هو ما ظهر دون قصد من المرأة -فهذا ممّا لا مؤاخذة عليه في غير موضع الخلاف أيضاً اتفاقاً - وإِنما هو فيما ظهر دون إِذنٍ من الشارع الحكيم". وقال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تمام المنّة" (ص 160): "روى ابن أبي شيبة في "المصنّف" (4/ 253) عن ابن عباس في تفسير الآية

المذكورة: "قال: الكفّ ورقعة الوجه". وسنده صحيح. "ورَوَى نحوه عن ابن عمر بسند صحيح أيضاً ... ". وفي الحديث: "لا يقبل الله صلاة حائض (¬1) إلاَّ بخمار (¬2) " (¬3). وروى عبد الرزاق من طريق أم الحسن قالت: "رأيت أمّ سلمة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تصلّي في دِرْع (¬4) وخمار" (¬5). وعن عبيد الله الخولاني -وكان يتيماً في حِجر ميمونة- أنَّ ميمونة كانت تُصلّي في الدّرع والخمار ليس عليها إِزار" (¬6). قال شيخنا في "تمام المنّة" (ص 162): "وفي الباب آثار أُخرى؛ مما يدلّ على أنَّ صلاة المرأة في الدرع والخمار كان أمراً معروفاً لديهم، وهو أقلّ ما يجب عليهنّ لستر عورتهنّ في الصلاة. ولا ينافي ذلك ما روى ابن أبي شيبة والبيهقي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "تصلي المرأة ¬

_ (¬1) هي التي بلَغت سنَّ المحيض وجرى عليها القلم، ولم يُرِدْ في أيام حيضها، لأنَّ الحائض لا صلاة عليها. "النهاية". (¬2) هو غطاء الرأس. (¬3) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي شيبة وغيرهم، وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإِرواء" (116). (¬4) درع المرأة: قميصها. "النهاية". (¬5) وإسناده صحيح كما في "تمام المنّة" (ص 162). (¬6) أخرجه مالك في "الموطّأ"، وعنه ابن أبي شيبة والبيهقي وإسناده صحيح، انظر "تمام المنّة" (ص 162).

هل يكشف الرجل رأسه في الصلاة؟

في ثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار". وإسناده صحيح. وفي طريق أخرى عن ابن عمر قال: "إِذا صلت المرأة فلتصلِّ في ثيابها كلها: الدرع والخمار والملحفة (¬1) ". رواه ابن أبي شيبة وسنده صحيح أيضاً. فهذا كله محمول على الأكمل والأفضل لها، والله أعلم". ملاحظة: احِرص على الثياب التي تستر العورة، واعلم أنَّه لا تجوز الصلاة في الثوب الرقيق الذي يُبرز لَون الجلد. وقد سألت شيخنا -حفظه الله تعالى- عمّن لبس ثوباً خفيفاً بحيث يبيّن لون الجلد؛ من بياض أو حمرة فقال: "إِذا كان اللباس خفيفاً، بحيث يصف العضو، فهو كالعاري". هل يكشف الرجل رأسه في الصلاة؟ قال الله تعالى: {يا بني آدمَ خذوا زينَتكم عند كلّ مسجد} (¬2). قال ابن كثير في "تفسيره": "قال العوفي عن ابن عباس ... كان رجال يطوفون بالبيت عُراة فأمَرهم الله بالزينة، والزينة اللباس، وهو ما يُواري السوأة وما سوى ذلك من جيّد البز (¬3) والمتاع (¬4) فأمرهم أن يأخذوا زينتهم عند كلّ مسجد ... ". ¬

_ (¬1) ما يتخذ من اللباس فوق سائر اللباس من دثار البرد ونحوه، وانظر "المحيط". (¬2) الأعراف: 31 (¬3) البز: الهيئة والشارة. "الوسيط". (¬4) المتاع: كلّ ما يُنفع به ويُرغب في اقتنائه؛ كالطعام وأثاث البيت والسلعة والأداة والمال. "الوسيط".

وقال: "ولهذه الآية وما ورَد في معناها من السنّة التجمُّل عند الصلاة، ولا سيّما يوم الجمعة ويوم العيد، والطِّيب لأنَّه من الزينة، والسواك لأنَّه من تمام ذلك ومن أفضل اللباس البياض ... ". فإِذا كان الطِّيب والسواك ولبس البياض من الزينة؛ أفلا يكون غطاء الرأس من الزينة؟! قال شيخنا في "تمام المنة" (ص 164) -بحذف يسير-: "والذي أراه في هذه المسألة؛ أنَّ الصلاة حاسرَ الرأس مكروهةٌ، ذلك أنَّه من المُسلَّم به استحباب دخول المسلم في الصلاة في أكمل هيئة إِسلاميّة؛ للحديث المتقدّم" ... فإِنَّ الله أحقّ أن يُتزيَّن له". وليس من الهيئة الحسنة في عُرف السلف اعتياد حسْر الرأس والسير كذلك في الطرقات والدخول كذلك في أماكن العبادات، بل هذه عادة أجنبية؛ تسرَّبَتَ إِلى كثيرٍ من البلاد الإِسلامية؛ حينما دخَلَها الكُفار، وجلبوا إِليها عاداتهم الفاسدة، فقلَّدهم المسلمون فيها، فأضاعوا بها وبأمثالها من التقاليد شخصيّتهم الإِسلامية، فهذا العرض الطارئ لا يصلح أن يكون مسوِّغاً لمخالفة العُرف الإِسلامي السابق ولا اتخاذه حُجَّةً لجواز الدخول في الصلاة حاسر الرأس. وأمّا استدلال بعض إِخواننا ... على جوازه قياساً على حسر المُحرم في الحجّ؛ فمن أبطلِ قياسٍ قرأْتُه ... كيف والحسر في الحجّ شعيرة إِسلامية، ومن مناسكه التي لا تُشاركه فيها عبادة أُخرى، ولو كان القياس المذكور صحيحاً؛ للزم القول بوجوب الحسر في الصلاة؛ لأنَّه واجب في الحجّ، وهذا

5 - استقبال القبلة

إلزامٌ لا انفكاك لهم عنه إلاَّ بالرجوع عن القياس المذكور ... ". وقال -حفظه الله- (ص 166): "وأمّا استحباب الحسر بنية الخشوع؛ فابتداعُ حُكمٍ في الدين لا دليل عليه إلاَّ الرأي، ولو كان حقّاً؛ لفعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو فعَله لنُقل عنه؛ وإذ لم يُنقل عنه، دلّ ذلك أنَّه بدعة فاحذرها. وممّا سلف تعلم أنَّ نفي المؤلّف (¬1) ورود دليل بأفضلية تغطية الرأس في الصلاة، ليس صواباً على إِطلاقه، إلاَّ إِن كان يُريد دليلاً خاصاً، فهو مُسلَّم، ولكنّه لا ينفي ورود الدليل العام على ما بيّناه آنفاً، وهو التزيّن للصلاة بالزّيّ الإِسلامي المعروف من قَبل هذا العصر، والدليل العام حجّة عند الجميع عند عدم المُعارِض فتأمّل". 5 - استقبال القِبلة قال الله تعالى. {قد نرى تقلُّب وجْهِك في السماء فَلَنولينَّك قبلةً ترضاها فولِّ وجْهَك شطْر المسجد الحرام وحيثُما كنتم فولُّوا وجوهَكم شَطره} (¬2). ¬

_ (¬1) أي: الشيخ الفاضل السيد سابق -حفظه الله- حين قال: "ولم يَرِدْ دليلٌ بأفضلية تغطية الرأس في الصلاة". (¬2) البقرة: 144، وقوله تعالى: شطره: أي: نحوه كما أنشدوا: ألا مَن مُبلِغٍ عنّا رسولاً ... وما تُغني الرسالةُ شطْر عمرو أي: نحو عمرو وتقول العرب: هؤلاء القوم يشاطروننا؛ إِذا كانت بيوتهم تُقابل بيوتهم. "المغنى" (1/ 447).

حكم المشاهد للكعبة وغير المشاهد لها

ْوقد ورد في مناسبة نزول هذه الآية حديث مسلم (525) عن البراء بن عازب قال: "صلّيت مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى بيت المقدس ستةَ عشَر شهراً، حتى نزَلت الآية التي في البقرة {وحيثما كنتم فولُّوا وجوهكم شَطره}. فنزلت بعدما صلّى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانطلق رجل من القوم، فمرَّ بناسٍ من الأنصار وهم يُصلّون، فحدَّثهم، فولَّوا وجوههم قِبَل البيت". وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قام إِلى الصلاة؛ استقبل الكعبة في الفرض والنفل (¬1). وفي حديث "المسيء صلاته": "إِذا قمتَ إِلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثمَّ استقبِل القبلة فكبِّر" (¬2). حُكم المشاهد للكعبة وغير المشاهد لها (¬3) يجب على المشاهد للكعبة أن يستقبل عينها، أمّا من لا يستطيع مشاهدتها؛ فيجب عليه أن يستقبل جهتها لقول الله عزّ وجلّ: {لا يكلّف الله نفساً إِلاَّ وسعها}، وهذا هو الواسع والمقدُور. ولحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "ما بين المشرق والمغرب قِبلة" (¬4). ¬

_ (¬1) قال شيخنا في "صفة الصلاة" (ص 55) بعد ذِكْر هذه العبارة: "هذا شيء مقطوع به لتواتره ... ". (¬2) وسيأتي تخريجه بإِذن الله تعالى. (¬3) عن "فقه السنة" (1/ 129) بتصرف يسير. (¬4) أخرجه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإرواء" (292).

متى يسقط استقبال القبلة؟

هذا بالنسبة لأهل المدينة، ومن جرى مجراهم، وأمّا الأقطار الأخرى فيختلف الأمر حسب الموقع. متى يسقط استقبال القبلة؟ يسقط استقبال القبلة في الأحوال الآتية: 1 - صلاة التطوع للراكب. عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: "رأيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة أنمار يُصلّي على راحلته متوجّهاً قِبَل المشرق متطوّعاً" (¬1). وعنه أيضاً: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلّي على راحلته حيث توجّهت؛ فإِذا أراد الفريضة نزَل فاستقبل القبلة" (¬2). وعن عامر بن ربيعة قال: "رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على الراحلة يُسبِّح، يومئ برأسه قِبَل أيّ وجه توجَّه (¬3) ولم يكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة" (¬4). 2 - صلاة الخائف والمريض والعاجز والمُكره. يجوز الصلاة لغير القبلة لمن عَجَز من استقبالها من خوف أو مرض أو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4140 (¬2) أخرجه البخاري: 400 (¬3) أي: أينما توجّهت راحلته. (¬4) أخرجه البخاري: 1097، ومسلم: 701. وانظر للمزيد من الأدلة "صحيح مسلم" (كتاب صلاة المسافرين)، (باب جواز صلاة النافلة على الدابّة في السفر حيث توجّهت).

حكم من خفيت عليه القبلة

إِكراه لقوله تعالى: {لا يكلِّف الله نفساً إِلاَّ وُسْعَها} (¬1). ولقوله سبحانه: {فإِنْ خِفْتُم فَرِجالاً أو رُكباناً} (¬2). قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: " ... فإِن كان خوفٌ هو أشدَّ من ذلك، صلَّوا رجالاً قياماً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القِبلة أو غير مستقبليها" (¬3). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "غزوتُ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبَل نجْد، فوازينا العدوّ، فصافَفْنا لهم، فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي لنا" (¬4). فقوله: (وازَيْنا) أي: (قابَلْنا) وهذا يقتضي عدم التزام القبلة بل الانصراف عنها حسب وضْع العدوّ. حُكم من خفيت عليه القبلة عن عبد الله بن ربيعة عن أبيه قال: "كُنا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر في ليلة مُظلمة فلم نَدْرِ أين القبلة، فصلّى كل رجل حياله (¬5)، فلمّا أصبحنا ذَكَرْنا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزَل {فأينما تولّوا فثمَّ وجهُ الله} (¬6) " (¬7). ¬

_ (¬1) البقرة: 286 (¬2) البقرة: 239 (¬3) أخرجه البخاري: 4535 (¬4) أخرجه البخاري: 942 (¬5) أي: تلقاء وجهه. "النهاية". (¬6) البقرة: 115 (¬7) أخرجه الترمذي وغيره وهو حديث حسن خرّجه شيخنا في "الإِرواء" (291).

كيفية الصلاة

وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسيرة أو سريَّة، فأصابنا غيم، فتحرَّينا واختلفنا في القبلة، فصلّى كلُّ رجل منّا على حدة، فجعل أحدنا يخطُّ بين يديه لنعلم أمكنتنا، فلمّا أصبحنا نظرناه؛ فإِذا نحن صلّينا على غير القبلة، فذكَرنا ذلك للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، [فلم يأمرنا بالإِعادة]، وقال: (قد أجزأت صلاتكم) " (¬1). وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "بَيْنا الناس بقُباء في صلاة الصبح إِذ جاءهم آتٍ فقال: إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أُنزلَ عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها ... وكانت وجُوههم إِلى الشام فاستداروا إِلى الكعبة" (¬2). وبهذا فعلى الإِنسان أن يبذل وُسعه في معرفة القبلة، فإِنْ تبيّن له أنَّه صلّى على غير القبلة فلا إِعادة عليه، وقد أجزأت صلاته، كما يجوز للشخص أن يحوّل أخاه إِلى جهة القبلة ويصوّبه أثناء الصلاة. كيفيّة الصلاة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل المسجد، فدخَل رجل فصلّى، فسلَّم على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فردَّ وقال: ارجِع فصلِّ فإِنَّك لم تُصلِّ فرجع يُصلِّي كما صلّى، ثمَّ جاء فسلّم على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ارجع فصلّ ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي وابن ماجه والطبراني وحسنه شيخنا في "الإِرواء" (1/ 323). (¬2) أخرجه البخاري: 403، ومسلم: 526

فإِنَّكَ لم تُصلِّ ثلاثاً، فقال: والذي بعثكَ بالحقِّ ما أُحسن غيره فعلِّمني فقال: إِذا قُمتَ إلى الصلاة فكبِّر ثمَّ اقرَأ ما تيسر معك من القرآن، ثمَّ اركع حتَّى تطمئنَّ راكعاً، ثمَّ ارفعْ حتَّى تعدلَ قائماً، ثمَّ اسجد حتَّى تطمئنَّ ساجداً، ثمَّ ارفع حتَّى تطمئنَّ جالساً، وافعل ذلك في صلاتك كلِّها" (¬1). وهذا حديث جامع في الصلاة، وإِليك أعمال الصلاة بشكل مُجمل (¬2). استقبال القبلة، ثمَّ القيام لمن يستطيع وإلا صلى قاعداَّ، فإِن لم يستطع فعلى جنب، وينوي الصلاة بقلبه دون التلفّظ بها، ويستفتح الصلاة بقوله: "الله أكبر"، ويرفع اليدين مع التكبير، ويجعلها حذو مَنكِبيه، وربما كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفعهما حتى يحاذي بهما فروع أُذنيه (¬3)، ويضع اليمنى على اليُسرى على الصدر، مع الحِرص على النظر إِلى موضع السجود، ويتخيّر من أدعية الاستفتاح ما تيسرّ له (¬4)، ثمَّ يستعيذ بالله تعالى ويقرأ الفاتحة ويقرأ بعد الفاتحة ما تيسّر مما سيأتي تفصيله إِنْ شاء الله ثمَّ يسكت سكتة، ئمَّ يرفع يديه ويكبّر ويركع مطمئنّاً في ركوعه، ذاكراً ما تيسّر من أذكار الركوع، ثمَّ يعتدل من الركوع حتى يستوي قائماً حتى يعود كلَ فقارٍ (¬5) مكانه، قائلاً: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 757، ومسلم: 397 (¬2) لخّصتها من كتاب "صفة صلاة النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" لشيخنا الألباني -حفظه الله تعالى-. (¬3) أي: أعاليهما، وفَرْع كل شيء أعلاه. "النهاية". (¬4) دون التزام بدعاءٍ واحد، بل تارة بهذا وتارة بهذا، وكذلك الشأن مع أدعية الركوع والسجود والتشهد ونحو ذلك. (¬5) هي العظام التي يقال: لها خرز الظهر، قاله القزاز، وقال ابن سيده: هي من =

سمع الله لمن حَمده؛ مع ما تيسّر من أذكار الاعتدال من الركوع، مطمئنّاً في ذلك ثمَّ يكبّر ويهوي ساجداً، واضعاً يديه قبل ركبتيه، ممكّناً أنفه وجبهته من الأرض، مع الحرص على أن يسجد على سبعة أعضاء: الكفين والركبتين والقدمين والجبهة والأنف، مطمئنّاً في ذلك متخيّراً الأذكار الواردة، ويرفع من السجود مكبّراً حتى تطمئنَّ مفاصله، فارشاً رجله اليسرى، قاعداً عليها ناصباً رجله اليمنى، متخيّراً الأدعية الواردة في ذلك، ثمَّ يكبرّ ويسجد السجدة الثانية، يفعل مثل ما فعَل في الأولى، ثمَّ يرفع رأسه مكبِّراً، ثمَّ يجلس جلسة الاستراحة، قاعداً على رجله اليسرى معتدلاً، ويعتمد على اليدين يعجن (¬1) في النهوض إِلى الركعة الثانية ويصنع في هذه الركعة مِثْل ما صنع في الأولى، بيْد أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجعلها أقصر من الأولى. ثمَّ يجلس للتشهّد، فإِذا كانت الصلاة ركعتين كالفجر، جلَس مفترشاً كما كان يجلس بين السجدتين، ثمَّ يبسط كفه اليسرى على ركبته اليسرى، ويقبض أصابع كفّه اليمنى كلّها، ويشير بإِصبعه التي تلي الإِبهام إِلى القبلة، يحركها يدعو بها، ويدعو بالأدعية الواردة في ذلك، ثمَّ يصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي ذلك صِيَغٌ عديدة، ثمَّ ينهض إِلى الركعة الثالثة مُكبّراً، ويفعل كما فعل في الركعة الأولى، فيجلس الاستراحة ويعجن معتمداً على يديه، وبعد أن يُتمّ الرابعة؛ يجلس للتشهد الأخير، ويفعل فيه ما كان يفعله في التشهد الأول، ¬

_ = الكاهل إِلى العَجْب. "الفتح" (2/ 308)، والعَجْب: أصل الذَّنَب ومُؤخرّ كل شيء. "المحيط". (¬1) أي: يعتمد على يديه إِذا قام؛ كما يفعل الذي يعجن العجين. "النهاية".

بيْد أنَّه يقعد فيه متوركاً (¬1)، ثمَّ يصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما هو الشأن في التشهد الأول، ثمَّ يستعيذ بالله من أربع فيقول: "اللهمّ إِنِّي أعوذ بك من عذاب جهنّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرّ فتنة المسيح الدّجال"، ثمَّ يدعو قبل السلام بالأدعية المنوّعة الواردة في ذلك، وهو الأولى -كما سيأتي إِن شاء الله- ثمَّ يسلم عن يمينه وعن يساره بما ورَد من الصيغ في ذلك. ¬

_ (¬1) وذلك بأن يُنحّي رجليه في التشهد الأخير، ويُلصق مقعدته بالأرض، وهو: أي التورك مِن وضْع الوَرِك عليها، والوَرِك: ما فوق الفخذ. وانظر "النهاية".

الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الجزء الثاني تتمة كتاب الصلاة بقلم حسين بن عودة العوايشة المكتبة الإسلامية دار ابن حزم

بسم الله الرحمن الرحيم

الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1423 هـ - 2002 م المكتبة الإسلامية ص ب: (113) الجبيهة - هاتف 5342887 عمَّان - الأردن دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص ب: 6366/ 14 - تليفون: 701974

فرائض الصلاة وسننها

فرائض الصلاة وسننها 1 - النية: وهي شرط أو ركن. قال الله تعالى: {وما أُمروا إِلاَّ ليعبدواْ الله مُخلِصين له الدين} (¬1). وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّما الأعمال بالنيات، وإِنّما لكلّ امرئٍ ما نوى ... " (¬2). هل يتلفظ بها؟ قال شيخنا في "صفة الصلاة" (ص86) (باب التكبير): "ثمَّ كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستفتح الصلاة بقوله "الله أكبر" (¬3) وقال في التعليق: "وفي الحديث إِشارة إِلى أنَّه لم يكن يستفتحها بنحو قولهم: "نويت أن أصلِّي" إلخ بل هذا من البدع اتفاقاً، وإِنما اختلفوا في أنّها حسنة أو سيئة، ونحن نقول: إِنَّ كلّ بدعة في العبادة ضلالة، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النّار"". 2 - تكبيرة الإِحرام (¬4): وهي ركن؛ لحديث عليّ -رضي الله عنه- قال: ¬

_ (¬1) البينة: 5 (¬2) أخرجه البخاري: 1، ومسلم: 1907، وتقدم. (¬3) أخرجه مسلم تحت: 771 بلفظ: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا استفتح الصلاة كبّر ثمَّ قال: "وجهت وجهي" ... ". (¬4) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 217): "تكبيرة الإِحرام رُكن عند الجمهور، وقيل شرط، وهو عند الحنفية، ووجه عند الشافعية،، قيل: سُنّة، قال ابن المنذر: لم يقُل به أحد غير الزهري، ونقلَه غيره عن سعيد بن المسيب والأوزاعي ومالك، ولم يثبت عن أحد منهم تصريحاً، وإِنما قالوا فيمن أدرك الإمام راكعاً تجزئة تكبيرة الركوع. =

3 - رفع اليدين:

"مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" (¬1). وفي حديث المسيء صلاته: " ... إِنه لا تتمّ صلاةٌ لأحدٍ من الناس حتى يتوضّأ؛ فيضع الوضوء مواضعه ثمَّ يقول: الله أكبر" (¬2). وفي حديث أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه-: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قام إِلى الصلاة اعتدلَ قائماً، ورفع يديه حتى يحاذي بهما مَنكِبيه، فإِذا أراد أن يركع؛ رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثمَّ قال: الله أكبر ... " (¬3). 3 - رفْع اليدين: قد ثبت الرفع في جميع التكبيرات، ولكن هناك تكبيرات التزم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع اليدين فيها وهناك تكبيرات لم يلتزم بها. فمن الحالات التي ورد التزام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها بالرفع عند التكبير: 1 - تكبيرة الإحرام. 2 - حين الركوع. ¬

_ = نعم نقَله الكرخي من الحنفية عن إِبراهيم بن عليّة وأبي بكر الأصمّ ومخالفتهما للجمهور كثيرة". (¬1) أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وهو مخرّج في "الإِرواء" (301). (¬2) أخرجه الطبراني بإِسناد صحيح عن "صفة الصلاة" (ص66). (¬3) حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإِرواء" (2/ 14)، و"المشكاة" (802)، وانظر "الفتح" (2/ 217).

3 - حين الرفع من الركوع. فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قام في الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو مَنكِبيه، وكان يفعل ذلك حين يُكبِّر للرّكوع، ويفعل ذلك إِذا رفع رأسه من الركوع ويقول: سمع الله لمن حمده، ولا يفعل ذلك في السجود" (¬1)، ولحديث أبي قِلابة: "أنَّه رأى مالك بن الحويرث إِذا صلّى كبَّر ورفع يديه، وإِذا أراد أن يركع رفع يديه، وإِذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه، وحدَّث أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع هكذا" (¬2). 4 - إِذا قام من الركعتين إِلى الثالثة، لِما حدّثه عبيد الله عن نافع "أنَّ ابن عمر كان إِذا دخل في الصلاة كبّر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه. ورفع ذلك ابن عمر إِلى نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). وسألت شيخنا -حفظه الله تعالى- عن هذه الحالة، فقال: "عندي تردّد في التزام الرفع هنا، وأميل إِلى الالتزام؛ لأنَّه من رواية ابن عمر -رضي الله عنهما- الذي روى الرفع عند الركوع والرفع منه". كما قد ثبت الرفع في التكبيرات الأخرى أيضاً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 736، ومسلم: 390 (¬2) أخرجه البخاري: 737، ومسلم: 391 (¬3) أخرجه البخاري: 739، ومسلم: 390

قال شيخنا في "تمام المنة" (172، 173): "قد ثَبت الرفع في التكبيرات الأخرى أيضاً، أمّا الرفع عند الهوي إلى السجود والرفع منه، ففيه أحاديث كثيرة عن عشرة من الصحابة، قد خرَّجْتها في "التعليقات الجياد"، منها: عن مالك بن الحويرث " أنَّه رأى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفَع يديه في صلاته إِذا ركع، وإذا رفَع رأسه من الركوع، وإِذا سجد، وإِذا رفَع رأسه من السجود، حتى يحاذي بهما فروع أذنيه"، أخرجه النسائي وأحمد وابن حزم بسند صحيح على شرط مسلم، وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه" كما في "الفتح" للحافظ، ثمَّ قال: "وهو أصحّ ما وقفْتُ عليه من الأحاديث في الرفع في السجود". وأمّا الرفع من التكبيرات الأخرى، ففيه عدّة أحاديث أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرفع يديه عند كل تكبيرة. ولا تعارُض بين هذه الأحاديث؛ وبين حديث ابن عمر المتقدّم في الكتاب بلفظ: " ... ولا يرفعهما بين السجدتين"، لأنَّه نافٍ، وهذه مثبتة، والمثبت مقدّم على النافي كما تقرر في علم الأصول. وقد ثبت الرفع بين السجدتين عن جماعة من السلف منهم أنس -رضي الله عنه- بل منهم ابن عمر نفسه، فقد روى ابن حزم من طريق نافع عنه؛ "أنَّه كان يرفع يديه إِذا سجد وبين الركعتين". وإِسناده قوي. وروى البخاري في جزء "رفع اليدين" (ص 7) من طريق سالم بن عبد الله أنَّ أباه كان إِذا رفع رأسه من السجود، وإذا أراد أن يقوم رفع يديه. وسنده صحيح على شرط البخاري في "الصحيح".

4 - وضع اليدين على الصدر:

وعَمِل بهذه السنّة الإِمام أحمد بن حنبل، كما رواه الأثرم، ورُوي عن الإِمام الشافعي القول به، وهو مذهب ابن حزم، فراجع "المحلّى"". 4 - وضْع اليدين على الصدر: للعلماء في وضْع اليدين عند القيام الأوّل أقوال عديدة، وقد ثبَت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه وضع يديه على صدره. وذكَر شيخنا الأدلّة في "صفة الصلاة" (ص 88) فقال: و"كان يضع اليُمنى على ظهر كفّه اليُسرى والرسغ (¬1) والساعد" (¬2). وسألتُ شيخنا -حفظه الله تعالى-: "هل ترون وضْع اليمنى على ظهر كفّه اليسرى والرسغ والساعد واجباً أم سنّة؟ فقال: "الوضع مطلقاً واجب، ولكن على التفصيل المذكور سنّة". و"أمر بذلك أصحابه" (¬3)، و"كان -أحياناً- يقبض باليمنى على اليسرى" (¬4). وفي الحديث: "إِنَّا معشر الأنبياء؛ أُمرنا بتعجيل فِطرنا، وتأخير سُحورنا، ¬

_ (¬1) الرسغ: مَفصل بين الساعد والكف، والساعد هو الذراع. (¬2) سيأتي تخريجه. (¬3) أخرجه مالك، وابن أبي شيبة، كما في "الفتح" وانظر "مختصر البخاري" (1/ 283)، وأبو عوانة. (¬4) أخرجه النسائي والدارقطني بسند صحيح، وفي هذا الحديث دليل على أنّ السُّنّة القبض، وفي الحديث الأول الوضع، فكُلٌّ سُنّة، وأمّا الجمع بين الوضع والقبض فبدعة، عن "الصفة" (ص 88) بحذف يسير.

ووضْع أيماننا على شمائلنا" (¬1). قلت لشيخنا: "أتفيد كلمة (أُمرنا) هنا الوجوب"؟ فقال -حفظه الله تعالى-: "نعم تفيد الوجوب، وهناك قرينة أُخرى أقوى من هذه، وهو حديث سهل بن سعد الساعدي؛ كما في صحيح البخاري، ومن طريق مالك في "موطئه" بإِسناده العالي عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: "كانوا يؤمَرون بوضْع اليمنى على اليُسرى في الصلاة " ينمي (¬2) ذلك إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". و"كان يضعهما على الصدر" (¬3). وأخبرني شيخنا أنَّه يرى سنيّة ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه الطيالسي وغيره، وصححه ابن حبّان. قال شيخنا في "أحكام الجنائز" (ص 49): وسنده صحيح على شرط مسلم. (¬2) أي ينسبه إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬3) أخرجه أبو داود وابن خزيمة في "صحيحه"، وأحمد وأبو الشيخ في "تاريخ أصبهان" (ص 125)، وحسَّن أحد أسانيده الترمذي، ومعناه في "المؤطأ" والبخاري في "صحيحه" عند التأمّل، و"أحكام الجنائز" (ص 150). قال شيخنا في "صفة الصلاة" (ص 88): "وضْعهما على الصدر هو الذي ثبت في السُّنة، وخلافه إِمّا ضعيف، أو لا أصل له، وقد عَمِل بهذه السنة الإِمام إِسحاق بن راهويه، فقال المروزي في "المسائل" (ص222): "كان إِسحاق يوتر بنا ... ويرفع يديه في القنوت، ويقنت قبل الركوع، ويضع يديه على ثدييه أو تحت الثديين، ومثله قول القاضي عياض المالكي في "مستحبات الصلاة" من كتابه "الإِعلام" (ص 15 - الطبعة الثالثة- الرباط): "ووضع اليمنى على ظاهر اليسرى عند النحر. [والنحر أعلى الصدر]. وقريب منه ما روى عبد الله بن أحمد في "مسائله" (ص 62) قال: "رأيت أبي إذا صلّى وضع يديه إِحداهما على الأخرى فوق السُّرة". وانظر "إِرواء الغليل" (353).

و"كان ينهى عن الاختصار (¬1) في الصلاة"؟ (¬2). كيفية رفْع اليدين: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه ممدودة الأصابع، [لا يُفرِّج بينهما ولا يضمّهما] " (¬3). ويجعل كفيه حذو منكبيه، لحديث ابن عمر المتقدّم: "رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قام في الصلاة، رفَع يديه حتى يكونا حذو مَنكبيه". وأحياناً يُبالغ في رفعهما حتى يحاذي بهما أطراف أُذُنيه (¬4). وتقدّم أتمّ منه، وفي رواية: "حتى يحاذي بهما فروع أذنيه" (¬5). وقت الرّفع: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه تارة مع التكبير، وتارة بعد التكبير، وتارة ¬

_ (¬1) هو أن يضع يده على خاصرته؛ كما فسّرَه بعض الرواة. (¬2) أخرجه البخاري، ومسلم، وهو مخرج في "الإرواء" (374). (¬3) أخرجه أبو داود وابن خزيمة، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. عن "صفة الصلاة" (87). (¬4) لحديث مالك بن الحويرث "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا كبّر رفع يديه حتى يحاذى بهما أُذنيه، وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذى بهما أُذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع، فقال: "سمع الله لمن حمده"، فعل مثل ذلك". (¬5) فروع أُذنيه: أي أعاليهما، وفَرع كل شيء أعلاه. "النهاية".

5 - دعاء الاستفتاح:

قبله" (¬1). 5 - دعاء الاستفتاح: ويكون بعد تكبيرة الإِحرام وقبل القراءة. قال شيخنا في "تلخيص الصِّفة" (ص 16): "وقد ثبَت الأمر به فينبغي المحافظة عليه". وقد راجعتُ شيخنا -حفظه الله تعالى- فقلت له: هل قولكم: ثبت الأمر به؛ ضرْب من ضروب التعبير اللغوي أَم ماذا؟ فقال -حفظه الله تعالى-: "إِني لم أستعمل لفظ الوجوب لسبب؛ وهو أَنِّي لم أستحضر أنَّ أحداً من أهل العلم قال بالوجوب، فإِن وُجد فهو بمعنى الوجوب، وإن لم يقُل به أحد من العلماء فلا نتجرّأ على القول بما لم يقولوا". وقد ثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدعية عديدة في هذا الموطن، فيحسن بالمصلى أن يقرأ تارةً بهذا وتارة بهذا، وإليك هذه الصيّغ (¬2). 1 - اللهمّ باعِدْ بيني وبين خطاياي؛ كما باعدْتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطاياي كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس (¬3)، اللهم اغسِلني ¬

_ (¬1) انظر "صحيح البخاري" (738، 739)، و"سنن أبي داود"، و"صفة الصلاة" (87) وانظر -إِن شئت- "تمام المنّة" (173) للمزيد من الفائدة. (¬2) نقلْتُها وتخريجاتها من كتاب "صفة الصلاة" (91 - 95) بتصرُّف. (¬3) الدنس: الوسخ، انظر "النهاية".

من خطاياي بالماء والثلج والبَرد"، وكان يقوله في الفرض (¬1). 2 - وجَّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً (¬2) [مسلماً] وما أنا من المشركين، إِنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين، لا شريك له وبذلك أُمِرت وأنا أوّل المسلمين (¬3)، اللهّم أنت الملِك، لا إِله إلاَّ أنت، [سبحانك وبحمدك]، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمْتُ نفسي، واعترفْتُ بذنبي، فاغفر لي ذنبي جميعاً؛ إنَّه لا يغفر الذنوب إلاَّ أنت، واهدني لأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلاَّ أنت، واصرف عنّي سيئها؛ لا يصرف عنّي سيئها إلاَّ أنت، لبّيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إِليك (¬4) [والمهدي من هديت]، أنا بك وإليك. [لا منجا ولا ملجأ منك إلاَّ إِليك]، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 744، ومسلم: 598 (¬2) الحنيف: هو المائل إِلى الإِسلام، الثابت عليه، والحنيف عند العرب: من كان على دين إِبراهيم عليه السلام، وأصل الحَنَف: الميل، "النهاية". (¬3) قال شيخنا في التعليق: "هكذا في أكثر الروايات، وفي بعضها: "وأنا من المسلمين"، والظاهر أنه من تصرُّف بعض الرواة، وقد جاء ما يدّل على ذلك، فعلى المصلّي أن يقول: "وأنا أوّل المسلمين"، ولا حرج عليه في ذلك؛ خلافاً لما يزعم البعض، توهُّماً منه أن المعنى: "إِنّي أوّل شخص اتصف بذلك، بعد أن كان الناس بمعزل عنه"، وليس كذلك، بل معناه: بيان المسارعة في الامتثال لما أُمر به، ونظيره {قُلْ إِنْ كان للرحمن ولدٌ فأنا أولُ العابدين}، وقال موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وأنا أولُ المؤمنين}. (¬4) قال شيخنا في التعليق: "أي لا ينسب الشر إِلى الله تعالى، لأنه ليس في فِعْله تعالى شر، بل أفعاله عزّ وجلّ كلها خير؛ لأنها دائرة بين العدل والفضل والحكمة، وهو كلّه خير لا شر فيه، والشر إِنما صار شرّاً لانقطاع نسبته وإضافته إِليه تعالى". ثمَّ ذكَر كلاماً مفيداً لابن القيم -رحمه الله تعالى-".

تباركتَ (¬1) وتعاليتَ، أستغفرك وأتوب إِليك". وكان يقوله في الفرض والنفل (¬2). 3 - "سبحانك، اللهمّ وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك، ولا إِله غيرك" (¬3). 4 - " الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بُكرة (¬4) وأصيلاً" (¬5). استفتح به رجل من الصحابة فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عجبْتُ لها! فُتِحت لها أبواب السماء" (¬6). 5 - "الحمد لله حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه"؛ استفتح به رجل آخر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لقد رأيت اثني عَشَر مَلَكاً يبتدرونها (¬7) أيهم يرفعها" (¬8). 6 - "اللهمّ لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد، أنت قيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهنّ، [ولك الحمد، أنت مَلِك ¬

_ (¬1) أصله البركة، تطلق على الدوام والثبوت وقيل للزيادة والكثرة. (¬2) أخرجه مسلم: 771، وأبو عوانة، وأبو داود، وغيرهم. (¬3) أخرجه أبو داود، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. (¬4) البُكرة: أول النهار إِلى طلوع الشمس. "الوسيط". وفي "المحيط": "البُكرة: الغُدوة، وهي البكرة، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس". (¬5) الأصيل: الوقت بعد العصر إِلى المغرب. "مختار الصحاح". وفي "الوسيط": "الأصيل: الوقت حين تصفَر الشمس لمغربها". (¬6) أخرجه مسلم: 601، وغيره. (¬7) يعجلون ويستبقون. انظر "المحيط". (¬8) أخرجه مسلم: 600، وأبو عوانة.

السماوات والأرض ومن فيهنّ]، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك حقّ، وقولك حقّ، ولقاؤك حقّ، والجنّة حقّ، والنار حقّ، والساعة حقّ، والنبيّون حقّ، ومحمّد حقّ، اللهمّ لك أسلمتُ، وعليك توكّلتُ، وبك آمنْتُ، وإِليك أنَبْتُ، وبك خاصمْتُ، وإليك حاكمْتُ، [أنت ربنا وإِليك المصير، فاغفِر لي ما قدَّمْت، وما أخّرتُ، وما أسررت وما أعلنْت]، [وما أنت أعلم به مني]، أنت المقدِّم وأنت المؤخر، [أنت إِلهي]، لا إله إلاَّ أنت، [ولا حول ولا قوة إِلا بك] " (¬1). وكان يقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الليل كالأنواع الآتية (¬2): 7 - "اللهمّ ربّ جبرائيل وميكائيل وإِسرافيل فاطر السماوات والأرض! عالم الغيب والشهادة! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحقّ بإِذنك، إِنك تهدي من تشاء إِلى صراط مستقيم (¬3) " (¬4). 8 - كان يكبر عشراً، ويحمد عشراً، ويسبح عشراً، ويُهلّل عشراً، ويستغفر عشراً، ويقول: "اللهمّ اغفر لي واهدني وارزقني [وعافني] " عشراً، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 7499، ومسلم: 769، وغيرهما. (¬2) قال شيخنا في التعليق على "الصفة": "ولا ينفي ذلك مشروعيتها في الفرائض أيضاً كما لا يخفى؛ إلاَّ الإِمام كي لا يطيل على المؤتمّين". وقال -شفاه الله وعافاه- في "تمام المنّة" (ص 175): في مثل هذا: "وإذا كان ذلك مشروعاً في الفريضة؛ ففي النافلة من باب أولى كما لا يخفى على أولي النهى". (¬3) هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، ونقَل الإِمام ابن جرير إِجماع الأمّة على ذلك. (¬4) أخرجه مسلم: 770، وأبو عوانة.

6 - الاستعاذة:

ويقول: "اللهمّ إِني أعوذ بك من الضيق يوم الحساب" عشراً (¬1). 9 - "الله أكبر [ثلاثاً] (ذو الملكوت والجبروت (¬2)) والكبرياء والعظمة (¬3) " (¬4). 6 - الاستعاذة: لقول الله: {فإِذا قرأْتَ القرآنَ فاستعِذ بالله من الشيطان الرجيم} (¬5). قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (مسألة 363): "وفرض على كلّ مصلّ أن يقول إِذا قرأ: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". لا بُدّ له في كلّ ركعةٍ من ذلك؛ لقول الله تعالى: {فإِذا قرأْتَ القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} ..... ". وقال رادّاً على من لا يقول بفرضيته: "ومن الخطأ أن يأمر الله تعالى بأمر؛ ثمَّ يقول قائل بغير برهانٍ من قرآن ولا سنّة: هذا الأمر ليس فرضاً، لا سيّما أمرُهُ تعالى بالدعاء في أن يعيذنا من كيد الشيطان؛ فهذا أمْر متيقّن أنَّه فرض؛ لأنَّ اجتناب الشيطان والفرار منه، وطلَب النجاة منه؛ لا يختلف اثنان في أنَّه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وابن شيبة وأبو داود والطبراني في "الأوسط" بسند صحيح وآخر حسن. (¬2) اسمان مبنيان مِن الملك والجبر. (¬3) العظمة والملك: قيل هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود ولا يُوصف به إلاَّ الله تعالى. "النهاية". (¬4) أخرجه الطيالسي، وأبو داود بسند صحيح. (¬5) النحل: 98

فرض، ثمَّ وضع الله تعالى ذلك علينا عند قراءة القرآن". وقال: "وكان ابن سيرين يستعيذ في كلّ ركعة". وعن ابن جريج عن عطاء قال: "الاستعاذة واجبة لِكُلِّ قراءة في الصلاة وغيرها ... ". قال ابن جريج: فقلت له: من أجل {فإِذا قرأْتَ القرآن فاستعِذ بالله من الشيطان الرجيم} قال: نعم". وقال شيخنا في "تلخيص صفة الصلاة" (ص 17): "ثمَّ يستعيذ بالله تعالى وجوباً ويأثم بتركه. قال: والسنّة أن يقول تارة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه (¬1) وتارة يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان ... إِلخ". وجاء في "الاختيارات" (ص 50): "ويستحبّ التعوّذ أوّل كلّ قراءة". والراجح قول ابن حزم -رحمه الله- والله أعلم. الإِسرار بها (¬2): ويسنّ الإِتيان بها سرّاً: قال في "المغني": "ويُسِرُّ بالاستعاذة ولا يجهر بها، لا أعلم فيها خلافاً". انتهى. لكن الشافعي يرى التخيير بين الجهر بها والإسرار في الصلاة الجهريّة. مشروعية الاستعاذة في كلّ ركعة: يسرع الاستعاذة في كلّ ركعة؛ لعموم قوله تعالى: {فإِذا قرأْتَ القرآنَ ¬

_ (¬1) هو الشعر المذموم، وانظر كتابي "تأمّلات قرآنية" في شرح معنى الاستعاذة. (¬2) انظر "فقه السنة" (1/ 148).

فاستعِذ بالله من الشيطان الرجيم}. واستدلّ من استدلّ من العلماء على اقتصار الفاتحة في الركعة الأولى من حديث أبي هريرة: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا نهضَ من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ "الحمد لله رب العالمين"، ولم يسكت (¬1). وذكر هذا الشيخ السيد سابق -حفظه الله تعالى- في "فقه السنّة"، وردّ عليه شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تمام المنّة" (ص 176) قائلاً: "السّنّة المشار إِليها ليست صريحة فيما ذكَره المؤلف، لأنَّ قول أبي هريرة في حديثه المذكور في الكتاب: "ولم يسكت"، ليس صريحاً في أنَّه أراد مطلق السكوت، بل الظاهر أنَّه أراد سكوته السكتة المعهودة عنده، وهي التي فيها دعاء الاستفتاح، وهي سكتة طويلة، فهي المنفية في حديثه هذا. وأمّا سكتة التعوذ والبسملة؛ فلطيفة لا يحسُّ بها المؤتمُّ لاشتغاله بحركة النهوض للركعة، وكأنّ الإِمامَ مسلماً -رحمه الله- أشار إِلى ما ذكَرنا مِن أن السكتة المنفية في هذا الحديث؛ هي المثبتة في حديت أبي هريرة المتقدّم، فإِنَّه ساق الحديث المشار إِليه، ثمَّ عقّبه بهذا، وكلاهما عن أبي هريرة، والسند إِليه واحد، فأحدهما متمّم للآخر، حتى لكأنَّهما حديث واحد، وحينئذ يظهر أنّ الحديث ليس على إِطلاقه، وعليه نرجّح مشروعية الاستعاذة في كلّ ركعة لعموم قوله تعالى: {فإِذا قرأتَ القرآن فاسْتَعِذْ بالله}، وهو الأصحّ في مذهب الشافعية، ورجّحه ابن حزم في "المحلّى"، والله أعلم". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 599

7 - القيام في الفرض:

7 - القيام في الفرض: قال الله تعالى: {حافظوا على الصَلَوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين (¬1)} (¬2). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حُصين: "صَلِّ قائماً" (¬3). ولهذا كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم في صلاته في الفرض والتطوّع؛ ائتماراً بهذه الآية الكريمة (¬4). وأمّا في الخوف جازت الصلاة على أي حال: رِجالاً أو رُكباناً: يعني مستقبلي القبلة وغير مستقبليها (¬5) كما تقدّم. أما في المرض فيصلّي حسب القدرة؛ قائماً أو قاعداً أو على جَنب، كما في حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- المتقدّم قال: "كانت بي بواسيرُ فسألت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة فقال: صَلِّ قائماً، فإِن لم تستطع فقاعداً، فإِن لم تستطع فعلى جَنب" (¬6). وصلّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه جالساً (¬7). ¬

_ (¬1) أي: خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه. (¬2) البقرة: 238 (¬3) وسيأتي تخريجه في الحديث الآتي بعد سطور -إِن شاء الله تعالى-. (¬4) انظر للمزيد من الفائدة كتاب "صفة الصلاة" (ص 77). (¬5) انظر "تفسير ابن كثير". (¬6) أخرجه البخاري: 1117 (¬7) أخرجه الترمذي وصححه أحمد كما في "صفة الصلاة" (ص 77).

وسألت شيخنا -شفاه الله تعالى- عمّن يفضّل التربّع في القعود فقال: "أولاً يختار هيئة من هيئات الصلاة الواردة في السنّة، مثلاً كانت الصلاة افتراشية، لكنه قد يرى التورك أسهل فيتورّك، أو كانت الصلاة تورّكية لكنّه يستطيع الافتراش فيؤثره، وربّما لم يستطع هذا أو ذاك، فحينئذٍ يأتي بالتربّع، ولعلّ التربّع كالافتراش والتورّك، فهنا نقول له اجلس على النحو الذي يريحك". ثمَّ رأيت هذا متضَّمّناً في صحيح البخاري (827) فعن عبد الله بن عبد الله ابن عمر: "أنه كان يرى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يتربّع في الصلاة إِذا جلس، ففعلته وأنا يومئذ حديث السنّ، فنهاني عبد الله بن عمر وقال: إِنما سُنّة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى، فقلت: إِنك تفعل ذلك، فقال: إِنَّ رجليَّ لا تحملاني". وإذا كان في السفينة ونحوها وخشي الغرق، فله ألا يصلّي فيها قائماً فقد سئُل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في السفينة، فقال: "صلِّ فيها قائماً؛ إلاَّ أن تخاف الغرق" (¬1). ويجوز الاعتماد على عمود أو نحوه للتمكّن من القيام لما ثبت أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "لما أسنَّ وكبر؛ اتَخَذَ عموداً في مُصلاه يعتمد عليه" (¬2). أمّا في صلاة الليل: فقد "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً ¬

_ (¬1) أخرجه البزار والدارقطني وعبد الغنيّ المقدسي في السنن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، كذا في "صفة الصلاة" (ص 79). (¬2) أخرجه أبو داود وغيره، وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا فى "الإِرواء" (383).

قاعداً، وكان إِذا قرأ قائماً ركعَ قائماً، وإذا قرأ قاعداً ركعَ قاعداً" (¬1). وقد ثبت أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يُصلّي جالساً فيقرأ وهو جالس، فإِذا بقي من قراءته نحْوٌ من ثلاثين أو أربعين آية، قام فقرأها وهو قائم، ثمَّ يركع، ثمَّ سجد يفعل في الركعة الثانية مِثْل ذلك" (¬2). أمّا في النافلة، فقد رُخّص للمصلّي أن يُصلّي قاعداً مع قدرته على القيام، بيْد أنَّ له نصف أجر القائم، كما في حديث عمران بن حُصين قال: "سألت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الرجل وهو قاعد فقال: من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلّى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد" (¬3). قال أبو عبد الله -يعني البخاري-: نائماً عندي: مضطجعاً ها هنا (¬4). أجر المريض والمسافر أجر الصحيح المقيم: عن أبي بردة قال: سمعت أبا موسى مراراً يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا مرض العبد أو سافر، كُتب له مِثلُ ما كان يعمل مقيماً صحيحاً" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 730 (¬2) أخرجه البخاري: 1119، ومسلم: 731 (¬3) أخرجه البخاري: 1116، ومسلم: 735 من حديث عبد الله بن عمرو قال: حُدِّثت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة ... ". (¬4) ويؤيد اللفظ الآخر المتقدم وقد خاطب فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك عمران بن حصين -رضي الله عنه- فقال: " ... فإنْ لم تستطع فعلى جنب". وفي "القاموس المحيط": ضجَع: وضع جنبه بالأرض. (¬5) أخرجه البخاري: 2996، وغيره وللمزيد من الفوائد الحديثية الهامّة =

8 - قراءة الفاتحة في كل ركعة -وهي ركن-.

8 - قراءة الفاتحة في كلّ ركعة -وهي ركن-. لحديث عبادة بن الصامت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (¬1). وفي لفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خِداج (¬3) ثلاثاً غير تمام" (¬4). وأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المسيء صلاته" أن يقرأ بها في صلاته (¬5). وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: "أُمِرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسَّر" (¬6). وقد تقدّم حديث المسيء صلاته: وفيه "وافعل ذلك في صلاتك ¬

_ = انظر -إِن شئت- "الإِرواء" (560). (¬1) أخرجه البخاري: 756، ومسلم: 394 (¬2) أخرجه الدارقطني وصححه، وابن حبّان في "صحيحه" وانظر "الإرواء" (2/ 10). (¬3) أى: ناقصة، يُقال: "خدجت الناقة إِذا ألقت ولدها قبل أوانه"، وانظر "النهاية". (¬4) أخرجه مسلم: 395، وغيره. (¬5) أخرجه البخاري في "جزء القراءة خلف الإمام" بسند صحيح، وانظر "صفة الصلاة" (ص 79). (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (732)، وقوّى الحافظ إِسناده في "الفتح" (2/ 243).

كلّها" (¬1). وفي رواية: "في كلّ ركعة" (¬2). فضائلها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قال الله تعالى: قَسَمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإِذا قال العبد: الحمد لله ربِّ العالمين، قال الله تعالى: حَمِدني عبدي، وإِذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجَّدني عبدي (وقال مرّة: فوَّض إِليَّ عبدي) فإِذا قال: إِيَّاك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإِذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمتَ عليهم غيرِ المغضوب عليهم ولا الضَّالِّين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" (¬3). وكان يقول: "ما أنَزل الله عز وجلّ في التوراة ولا في الإِنجيل مثل أمّ القرآن، وهي السبع المثاني (¬4) [والقرآن العظيم الذي أوتيته] " (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 793، ومسلم: 397 (¬2) أخرجه أحمد بسند جيد وانظر "صفة الصلاة" (ص 114). (¬3) مسلم: 395 (¬4) قال الباجي: "يريد قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآنَ العظيم} [الحجر: 87] وسُمّيت السبع؛ لأنها سبع آيات، والمثاني؛ لأنها تُثنّى في كل ركعة (أي: تعاد)، وإنما قيل لها: (القرآن العظيم) على معنى التخصيص لها بهذا الاسم، وإنْ كان كل شيء من القرآن قرآناً عظيماً، كما يقال في الكعبة: "بيت الله"، وإن كانت البيوت كلها لله، ولكن على سبيل التخصيص والتعظيم له". (¬5) خرجه النسائي والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر "صفة الصلاة" (ص 98).

هل يجهر بالبسملة؟

هل يُجهر بالبسملة؟ عن أنس -رضي الله عنه-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين" (¬1). وقدّ بوّب له البخاري بقوله: (باب ما يقول بعد التكبير) وهو ممّا يدّل على عدم التلفظ بالبسملة. وكذلك بوّب النووي له بقوله: "باب حُجّة من قال: لا يجهر بالبسملة". عن أنس أيضاً قال: "صليّت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم" (¬2). قال النووي في "شرح مسلم" (4/ 111): "ومذهب الشافعي -رحمه الله- وطوائف من السلف والخلف أنَّ البسملة آية من الفاتحة وأنَّه يجهر بها حيث يجهر بالفاتحة". قال شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- في "الفتاوى" (22/ 274): "وأمّا البسملة؛ فلا ريب أنَّه كان في الصحابة من يجهر بها، وفيهم من كان لا يجهر بها، بل يقرؤها سرّاً، أو لا يقرؤها والذين كانوا يجهرون بها أكثرهم كان يجهر بها تارة، ويُخافت بها أخرى، وهذا لأنَّ الذّكر قد تكون السنّة المخافتة به، ويجهر به لمصلحة راجحة مِثْل تعليم المأمومين، فإِنَّه قد ثبت في الصحيح "أنَّ ابن عباس قد جهر بالفاتحة على الجنازة، ليُعلّمهم أنَّها سُنّة". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 743، ومسلم: 399 (¬2) أخرجه مسلم: 399

وقال (ص 274) أيضاً: "وثبت في "الصحيح" (¬1) أنَّ عمر بن الخطاب كان يقول: "الله أكبر، سبحانك اللهمّ وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدّك، ولا إِله غيرك" يجهر بذلك مرّات كثيرة. واتفق العلماء على أنَّ الجهر بذلك ليس بسنّة راتبة؛ لكنْ جهر به للتعليم، ولذلك نقل عن بعض الصحابة أنَّه كان يجهر أحياناً بالتعوذ، فإِذا كان من الصحابة من جهَر بالاستفتاح والاستعاذة مع إِقرار الصحابة له على ذلك؛ فالجهر بالبسملة أولى أن يكون كذلك، وأن يشرع الجهر بها أحياناً لمصلحة راجحة. لكنْ لا نزاع بين أهل العلم بالحديث: أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجهر بالاستفتاح. ولا بالاستعاذة، بل قد ثبت في الصحيح أنَّ أبا هريرة قال له: يا رسول الله! أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعِدْ بيني وبين خطاياي، كما باعَدْتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطاياي كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياى بالثلج والماء والبرَد". وفي "السنن" عنه أنَّه كان يستعيذ في الصلاة قبل القراءة، والجهر بالبسملة أقوى من الجهر بالاستعاذة، لأنَّها آية من كتاب الله تعالى، وقد تنازع العلماء في وجوبها، وإِن كانوا قد تنازعوا في وجوب الاستفتاح والاستعاذة، وفي ذلك قولان في مذهب أحمد وغيره، لكن النزاع في ذلك أضعف من النزاع في وجوب البسملة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 399، وانظر "شرح النووي" (4/ 112) فإِن فيه فوائد حديثية هامّة.

والقائلون بوجوبها من العلماء أفضل وأكثر، لكن لم يثبت عن النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه كان يجهر بها، وليس في "الصحاح" ولا في "السنن" حديث صحيح صريح بالجهر، والأحاديث الصريحة بالجهر كلّها ضعيفة؛ بل موضوعة؛ ولهذا لمّا صنّف الدارقطني مصنَّفاً في ذلك، قيل له: هل في ذلك شيء صحيح؟ فقال: أمّا عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا، وأمّا عن الصحابة فمنه صحيح، ومنه ضعيف. ولو كان النّبيّ يجهر بها دائماً، لكان الصحابة ينقُلون ذلك، ولكان الخلفاء يعلمون ذلك، ولما كان الناس يحتاجون أن يسألوا أنس بن مالك بعد انقضاء عصر الخلفاء، ولما كان الخلفاء الراشدون ثمَّ خلفاء بني أميّة وبني العبّاس كلهم متفقين على ترك الجهر، ولما كان أهل المدينة -وهم أعلم أهل المدائن بسنّته- يُنكرون قراءتها بالكلية سرّاً وجهراً، والأحاديث الصحيحة تدل على أنّها آية من كتاب الله، وليست من الفاتحة، ولا غيرها". قال ابن القيّم -رحمه الله-: "وكان يجهر بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" تارة، ويُخفيها أكثر مما يجهر بها، ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائماً في كل يوم وليلة خمس مرات أبداً، حضَراً وسفَراً، ويخفي ذلك على خلفائه الرَّاشدين، وعلى جمهور أصحابه، وأهل بلده في الأعصار الفاضلة، هذا من أمحل المحال حتى يحتاج إِلى التشبُّث فيه بألفاظ مجملة، وأحاديث واهية، فصحيح تلك الأحاديث غير صريح، وصريحُها غير صحيح، وهذا موضع يستدعي مجلّداً ضخماً" (¬1). قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تمام المنّة" (169): "والحقّ أنَّه ليس ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" (1/ 206)، تحقيق وتخريج وتعليق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط. جاء في التعليق (ص 206) على الكتاب المذكور "الثابت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عدم =

هل البسملة آية من الفاتحة؟

في الجهر بالبسملة حديث صريح صحيح؛ بل صحّ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإسرار بها من حديث أنس، وقد وَقَفْتُ له على عشرة طرُق ذكَرْتها في تخريج كتابي "صفة صلاة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" أكثرها صحيحة الأسانيد، وفي بعض ألفاظها التصريح بأنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يجهر بها، وسندها صحيح على شرط مسلم، وهو مذهب جمهور الفقهاء، وأكثر أصحاب الحديث. وهو الحقّ الذي لا ريب فيه". هل البسملة آية من الفاتحة؟ قد اختُلف في ذلك، والراجح أنَّ النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد عدّها آية، كما في ¬

_ = الجهر بها، فقد روى البخاري: (2/ 188) في "صفة الصلاة": باب ما يقول بعد التكبير عن أنس أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، وأخرجه الترمذي (246) وعنده: "القراءة" بدل "الصلاة"، وزاد: "عثمان" وأخرجه مسلم (399) في الصلاة: باب حُجّة من قال لا يجهر بالبسملة بلفظ: "صليتُ مع رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ورواه أحمد (3/ 264) والطحاوي (1/ 119)، والدارقطني (119)، وقالوا فيه: فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. ورواه ابن حبان في "صحيحه" وزاد: ويجهرون بالحمد لله رب العالمين، وفي لفظ للنسائي (2/ 135) وابن حبان: فلم أسمع أحداَ منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وفي لفظ لأبي يعلى الموصلي في "مسنده": فكانوا يستفتحون القراءة فيما يجهر به بالحمد لله رب العالمين، وفي لفظ للطبراني في "معجمه" وأبي نعيم في "الحلية" وابن خزيمة في "صحيحه" (498) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 119): وكانوا يُسرون ببسم الله الرحمن الرحيم. قال الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 327): ورجال هذه الروايات كلهم ثقات مخرّج لهم في الصحيح جمع".

من لا يستطيع حفظ الفاتحة:

الحديث الآتي: عن أم سلمة ذكَرت أو كلمة غيرها، قراءة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بسم الله الرحمن الرحيم {الحمد لله رب العالمين* الرحمن الرحيم* مالك يوم الدين} يقطع قراءته آية آية" (¬1). من لا يستطيع حِفظ الفاتحة: من لم يستِطع أن يأخذ شيئاً من القرآن، فليقل: "سبحان الله والحمد لله ولا إِله إلاَّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله"؛ لحديث عبد الله بن أبي أوفى قال: "جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إِنِّي لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن فعلِّمني ما يجزئني فقال: قُل: سبحان الله والحمد لله ولا إِله إلاَّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله" (¬2). ولحديث رِفاعة بن رافع "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علّم رجلاً الصلاة، فقال: "إِنْ كان معك قرآن فاقرأ، وإلاّ فاحمده وكبِّره وهلِّله، ثمَّ اركع" (¬3). ولكن لا بدّ من تعلّم الفاتحة وبذْل الجهد في ذلك، فإِن عَجز عن ذلك فلا يُكلَّف إلاَّ وُسْعه. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وعنه البيهقي والترمذي وغيرهم وهو حديث صحيح خرجه شيخنا في "الإِرواء" (343). (¬2) أخرجه أبو داود وغيره وصححه جمْع من العلماء وحسن شيخنا إسناده كما في "الإِرواء" (303). (¬3) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "تمام المنّة" (169).

هل تقرأ الفاتحة خلف الإمام؟

هل تُقرأ الفاتحة خلف الإِمام؟ الأصل أنَّ الصلاة لا تصِحّ إلاَّ بقراءة سورة الفاتحة؛ في كل ركعة من ركعات الفرض والنفل، إلاَّ أنّ المأموم تسقط عنه القراءة، ويجب عليه الاستماع والإِنصات في الصلاة الجهرية؛ لقول الله تعالى: {وإِذا قُرئ القرآن فاستمِعوا له وأنصِتوا لعلكم تُرحَمون} (¬1). ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا كبّر الإمام فكبِّروا وإذا قرأ فانصِتوا" (¬2) وعلى هذا يُحمَل حديث: "من كان له إِمام فقراءة الإِمام له قراءة" (¬3)، أي: إِنّ قراءة الإِمام له قراءة في الصلاة الجهرية، وأمّا الصلاة السرية فالقراءة فيها على المأموم، وكذا تجب عليه القراءة في الصلاة الجهرية، إِذا تمكَّن من الاستماع للإِمام (¬4). وجاء في "صفة الصلاة" (ص 98): "وكان قد أجاز للمُؤتمين أن يقرؤوا بها وراء الإِمام في الصلاة الجهرية، حيث كان "في صلاة الفجر، فقرأ فثقُلت عليه القراءة، فلمّا فَرغَ قال: "لعلكم تقرؤون خلف إِمامكم" قلنا: نعم هذًّا (¬5) يا رسول الله! قال: (لا تفعلوا؛ إِلاَّ [أن يقرأ أحدكم] بفاتحة الكتاب، فإِنَه لا ¬

_ (¬1) الأعراف: 204 (¬2) أخرجه مسلم: 404 (¬3) سيأتي تخريجه -إِن شاء الله-. (¬4) عن "فقه السنة" (1/ 159) بتصرف يسير. (¬5) الهذُّ: سرعة القراءة ومداركتها في سرعة واستعجال.

صلاة لمن لم يقرأ بها) " (¬1). ثمَّ نهاهم عن القراءة كلِّها في الجهرية، وذلك حينما "انصرفَ من صلاةٍ جهر فيها بالقراءة (وفي رواية: أنَّها صلاة الصبح)، فقال: "هل قرأ معي منكم أحد آنفاً؟! "، فقال رجل: نعم؛ أنا يا رسول الله! فقال: إِنّي أقول: "ما لي أُنازَع (¬2)؟!. [قال أبو هريرة:] فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فيما جَهَر فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقراءة- حين سَمِعوا ذلك من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، [وقرؤوا في أنفسهم سِرًّا فيما لا يَجْهَرُ فيه الإِمام] " (¬3). وجعَل الإِنصات لقراءة الإِمام من تمام الائتمام به فقال: "إِنّما جُعِل الإِمام ليُؤتمَّ به، فإِذا كبَّر فكبِّروا" (¬4) وفي رواية: "وإذا قَرَأ فأنصِتوا" (¬5) ". كما جعل الاستماع له مُغْنياً عن القراءة وراءه فقال: "من كان له إِمام فقراءة الإمام له قراءة" (¬6)، هذا في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 756 في "جزئه"، وأبو داود، وأحمد، وحسًنه الترمذي والدارقطنيّ. (¬2) مالي أنازَع القرانظ أي: أُجاذَب في قراءته، كأنهم جَهَروا بالقراءة خلفه فشغلوه. (¬3) أخرجه مالك والحميدي والبخاري في "جزئه" وأبو داود وأحمد والمحاملي، وحسّنه الترمذي، وصححه أبو حاتم الرازي وابن حبان وابن القيّم. (¬4) أخرجه البخاري: 378، ومسلم: 411 (¬5) أخرجه مسلم: 404 (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وابن ماجه والدارقطني والطحاوي، وفصّل شيخنا فيه، وتتبّع طرقه وحسنه في "الإِرواء" (500).

9 - التأمين جهرا:

الجهرية. انتهى. قلت: "وكأنّ المأموم حين يقرأ الفاتحة في الجهرية يقول: الإمام لا يقرأ لي، ولكنّه يقرأ لنفسه وكأنّه ليس في صلاة جماعة، ويتشوش بقراءة الإِمام فيرفع صوته فيشوّش على من يليه". أو يقول: "لا يجزئني إلاَّ أن أستمع للإمام وأقرأ"، فأين هو من قوله تعالى: {وإِذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}. ثمَّ ماذا يفعل الإمام حين ينتظر المأمومين أيقرأ الفاتحة سرّاً أم يسكت؟ والصلاة كلها ذكر، وما الدليل على هذا وذاك؟ أمّا من الناحية العملية، فلم أرَ إِماماً يترك مجالاً لقراءة المأموم ولكنّه يحيّره ويُربكه فإِذا قرأ المأموم زهاء آيتين بدأ الإمام يقرأ ما تيسّر من كتاب الله تعالى، فلا هو تركه يقرأ الفاتحة حتى يستكملها، ولا هو تركه يُنصت لقراءته. أمّا إِذا كنتَ إماماً فلا تنتظر لقراءة المأمومين. وأمّا إِذا كنتَ مأموماً فأنصِت حين يقرأ إِمامك، واقرأ حين يُنصت، وهذا من أجك متابعة الائتمام به، والكلام في هذا طويل أكتفي بما ذَكرتُ، ولشيخ الإِسلام مبحث طيّب في "مجموع الفتاوى" (23/ 309 - 330) فارجع إليه -إِن شئت-، وانظر كذلك "تمام المنّة" (ص 187). 9 - التأمين جهراً: فقد "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا انتهى من قراءة الفاتحة قال: "آمين"، يجهر ويمدّ بها

موافقة الإمام فيه:

صوته" (¬1). وعن أبي رافع قال: "إِنَّ أبا هريرة كان يؤذّن لمروان بن الحكَم، فاشترط أن لا يسبقه بـ (الضالّين) حتى يعلم أنَّه قد دخل الصف، فكان إِذا قال مروان: (ولا الضالّين) قال أبو هريرة: "آمين" يمدّ بها صوته، وقال: إِذا وافق تأمين أهل الأرض تأمين أهل السماء؛ غُفر لهم" (¬2). وقال عطاء: "أمّن ابن الزبير ومن وراءه حتى إِنَّ للمسجد للجّة" (¬3). ويجب تأمين المأموم إِذا أمَّن الإِمام لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أمَّن الإِمام فأمّنوا" (¬4). وبه يقول الشوكاني كما في "نيل الأوطار" (2/ 187). وبه يقول ابن حزم في "المحلّى" (2/ 262)، وانظر "تمام المنة" (ص 178). موافقة الإِمام فيه: فقد كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر المقتدين بالتأمين بُعيد تأمين الإِمام فيقول: "إذا قال الإِمام: {غيرِ المغضوب عليهم ولا الضالِّينَ} فقولوا: آمين، [فإِنَّ الملائكة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "جزء القراءة"، وأبو داود بسند صحيح كذا في "صفة الصلاة" (ص 101). (¬2) أخرجه البيهقي وإسناده صحيح. عن "الضعيفة" تحت الحديث (953). (¬3) رواه البخاري بصيغة الجزم (كتاب الأذان) (باب جهر الإمام بالتأمين)، وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 262): "وصله عبد الرزَاق عن ابن جريج عن عطاء". (¬4) أخرجه البخاري: 785، ومسلم: 410

معنى آمين:

تقول: آمين، وإنَّ الإِمام يقول: آمين] (وفي لفظ: إِذا أمَّن الإِمام فأمِّنوا)، فمن وافق تأمينُه تأمين الملائكة (وفي لفظ آخر: إِذا قال أحدكم في الصلاة: آمين، والملائكة في السماء: آمين، فوافق أحدُهما الآخر)؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه" (¬1). معنى آمين: آمين دعاء معناه: اللهمّ استجب، وهي من أسماء الأفعال، وهي مصدر أمَّن -بالتشديد- أي: قال: آمين وهي بالمدّ والتخفيف في جميع الروايات وعن جميع القُرّاء (¬2). وجوب القراءة في السريّة: قال شيخنا في "صفة الصلاة" (ص 100): "وأمّا في السريّة؛ فقد أقرَّهم على القراءة فيها، فقال جابر: "كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأُخريين بفاتحة الكتاب" (¬3). وإِنّما أنكَر التشويش عليه بها، وذلك حين "صلّى الظهر بأصحابه فقال: "أيّكم قَرَأ {سبِّح اسم ربِّك الأعلى}؟ "، فقال رجل: أنا، [ولم أُرِد بها إلاَّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 785، ومسلم: 410، والنسائي والدارمي وانظر "صفة الصلاة"، (101). (¬2) وانظر "الفتح" (2/ 262) للمزيد من الفائدة. (¬3) أخرجه ابن ماجه بسند صحيح، وهو مخرج في "الإِرواء" (506).

10 - قراءته - صلى الله عليه وسلم - بعد الفاتحة

الخير]. فقال: (قد عرفْتُ أنّ رجلاً خاَلجَنيها) " (¬1). وفى حديث آخر: "كانوا يقرؤون خلف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فيجهرون به]، فقال: (خلَطتُم عليَّ القرآن) " (¬2). وقال: "إِنَّ المصلي يناجي ربّه، فلينظر بما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن" (¬3). 10 - قراءته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الفاتحة (¬4) كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بعد الفاتحة سورة غيرها، وكان يطيلها أحياناً، ويقصرها أحياناً لعارض سفَر، أو سعال، أو مرض، أو بكاء صبيّ؛ كما قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "جوَّز (¬5) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم في الفجر" (وفي حديث آخر: صلّى الصبح فقرأ بأقصر سورتين في القرآن)، فقيل: يا رسول الله! لِم جوَّزت؟ قال: "سمعْتُ بكاء صبي، فظننْتُ أنَّ أمّه معنا تصلّي، فأردت أن أُفرِغ له أمّه" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم وأبو عوانة والسَّراج. و (الخلج): الجذب والنَّزع. (¬2) أخرجه البخاري في "جزئه" وأحمد والسراج بسند حسن. (¬3) أخرجه مالك والبخاري في "أفعال العباد" بسند صحيح. (¬4) عن "صفة الصلاة" (ص 102) بحذف وتصّرف. (¬5) أي: خفّف. (¬6) أخرجه أحمد بسند صحيح.

ما كان - صلى الله عليه وسلم - يقرؤه في الصلوات

وكان يقول: "إِني لأدخلُ في الصلاة وأنا أريد إِطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فاتجوَّز في صلاتي ممّا أعلم من شدة وجْد أمّه (¬1) من بكائه" (¬2). ويقول: "أعطوا كلّ سورة حظَّها من الركوع والسجود" (¬3). وكان تارة يقسمها في ركعتين (¬4). وكان أحياناً يجمع في الركعة الواحدة بين السورتين أو أكثر. قال شيخنا في "تلخيص صفة الصلاة" (ص 18): "ويسنّ أن يقرأ بعد الفاتحة سورة أخرى؛ حتى في صلاة الجنازة، أو بعض الآيات في الركعتين الأوليين". وقال (ص 19): "ويسنّ الزيادة عليها في الركعتين الأخيرتين أيضاً أحياناً". ما كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرؤُه في الصلوات (¬5) 1 - صلاة الفجر: وأمّا ما كان يقرؤه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الفجر: ¬

_ (¬1) وجْد أمّه: أي: حُزنها. (¬2) أخرجه البخاري: 709، ومسلم: 470 (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد، وعبد الغني المقدسي في "السنن" بسند صحيح. (¬4) أخرجه أحمد، وغيره. (¬5) عن "صفة الصلاة" (ص 109) بتصرّف، ورأيت أن أكتب ما يتعلّق بالفرائض للاختصار، ولمعرفة ذلك في السنن ينظر الكتاب المذكور.

كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ فيها بطوال (¬1) المفصّل (¬2) (¬3)، فـ "كان -أحياناً- يقرأ: {الواقعة} ونحوها من السور في الركعتين" (¬4). وقرأ من سورة {الطور} وذلك في حَجّة الوداع (¬5). و"كان -أحياناً- يقرأ: {ق والقرآن المجيد} ونحوها في [الركعة الأولى] " (¬6). و"كان -أحياناً- يقرأ بقصار المفصَّل كـ {إِذا الشمس كُوّرت} (¬7). و"قرأ مرَّة: {إِذا زُلزلت} في الركعتين كلتيهما؛ حتى قال الراوي: فلا ¬

_ (¬1) هي السبع الأخير من القرآن أوله {ق} على الأصح. (¬2) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 259): [هو] من {ق} إِلى آخر القرآن على الصحيح، وسمّي مُفصّلاً لكثرة الفصل بين سُورِه بالبسملة على الصحيح، ولقول هذا الرجل قرأت المفصَّل سبب بيّنه مسلم فى أول حديثه من رواية وكيع عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إِلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف (مِن ماء غير آسن) أو غير ياسن؟ فقال عبد الله: كلّ القرآن أحصيت غير هذا قال: إِنيّ لأقرأ المفصَّل فى ركعة. (¬3) أخرجه النسائي وأحمد بسند صحيح. (¬4) أخرجه أحمد وابن خزيمة والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. (¬5) أخرجه البخاري: 1619 (¬6) أخرجه مسلم: 457، والترمذي. (¬7) في "صحيح مسلم" (456) و"صحيح سنن أبي داود" (731) من حديث عمرو بن حُرَيث أنّه سمع النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الفجر: {والليل إِذا عَسْعَس}. [التكوير: 17].

أدري؛ أنسي رسول الله أم قرأ ذلك عمداً؟ " (¬1). و"قرأ -مرّة- في السفر {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} " (¬2). وقال لعقبة بن عامر -رضي الله عنه-: "اقرأ في صلاتك المعوذتين، [فما تعوّذ متعوِّذ بمثلِهما] " (¬3). وكان أحياناً يقرأ بأكثر من ذلك؛ فـ "كان يقرأ ستّين آية فأكثر" (¬4). قال بعض رواته: لا أدري في إِحدى الركعتين أو في كلتيهما؟ و"كان يقرأ بسورة {الروم} (¬5) وأحياناً- بسورة {يس} " (¬6). و"كان -أحياناً- يؤمّهم فيها بـ {الصافّات} " (¬7). و"كان يصلّيها يوم الجمعة بـ {ألم تنزيل} السجدة [في الركعة الأولى، وفي الثانية] بـ {هل أتى على الإِنسان} " (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والبيهقي بسند صحيح، والظاهر أنّه عليه السلام فعَل ذلك عمداً للتشريع. (¬2) أخرجه أبو داود وابن خزيمة وغيرهما وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. (¬3) أخرجه أبو داود وأحمد بسند صحيح. (¬4) أخرجه البخاري: 541، ومسلم: 461 (¬5) أخرجه النسائي وأحمد والبزار بسند جيد. (¬6) أخرجه أحمد بسند صحيح. (¬7) أخرجه أحمد وأبو يعلى في "مسنديهما" والمقدسي في "المختارة". (¬8) أخرجه البخاري: 891، ومسلم: 880

و"كان يطوّل في الركعة الأولى ويقصر في الثانية" (¬1). 2 - صلاة الظهر: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في كل من الركعتين الأوليين قدْر ثلاثين آية؛ قدْر قراءة {ألم تنزيل} السجدة وفي الأُخرين قدْر النصف من ذلك. فعن أبي سعيد الخدري قال: "كنّا نحزر قيام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدْر قراءة ألم تنزيل - السجدة، وحزرنا قيامه في الأخريين قدْر النصف من ذلك (¬2) وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدْر قيامه في الأخريين من الظهر، وفي الأُخريين من العصر على النصف من ذلك" (¬3). وأحياناً "كان يقرأ بـ {السماء والطارق}، و {السماء ذات البروج}، و {الليل إِذا يغشى}، ونحوها من السور" (¬4). وربما "قرأ {إذا السماء انشقت}، ونحوها" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 759، ومسلم: 451 (¬2) قال شيخنا -حفظه الله تعالى- وفي الحديث دليل على أنَّ الزيادة على {الفاتحة} في الركعتين الأخيرتين سنة، وعليه جمْع من الصحابة؛ منهم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وهو قول الإِمام الشافعي سواءٌ كان ذلك في الظهر أو غيرها، وأخذ به علمائنا المتأخرين أبو الحسنات اللكنوي في "التعليق الممجد على الموطأ محمد" (ص 102). (¬3) أخرجه مسلم: 452 (¬4) أخرجه أبو داود والترمذي وصححه وكذا ابن خزيمة. (¬5) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه".

وربما اقتصر فيهما على الفاتحة، انظر "صحيح البخاري" (759) و"صحيح مسلم" (451). 3 - صلاة العصر: وكان يقرأ في كلّ منهما قدْر خمسَ عشرةَ آية؛ قدْر نصف ما يقرأ في كلٍّ من الركعتين الأوليين في الظهر، وكان يجعل الركعتين الأخيرتين أقصر من الأوليين قدْر نصفهما كما تقدّم في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-. 4 - صلاة المغرب: و"كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ فيها -أحياناً- بقصار المفصَّل" (¬1). فعن مروان بن الحكم قال: "قال لي زيد بن ثابت: مالك تقرأ في المغرب بقصار، وقد سمعت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بطولى الطوليين" (¬2). و"قرأ في سفر بـ {التين والزيتون} في الركعة الثانية" (¬3). وكان أحياناً يقرأ بطوال المفصّل وأوساطِه، فـ "كان تارةً يقرأ بـ {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله} " (¬4). وتارة بـ {الطور} " (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 764 (¬2) أخرجه البخاري: 764، وأبو داود، والنسائي وأحمد. (¬3) أخرجه الطيالسي وأحمد بسند صحيح. (¬4) أخرجه ابن خزيمة والطبراني والمقدسي بسند صحيح. (¬5) أخرجه البخاري: 765، ومسلم: 463

وتارة بـ {المرسلات} قرأ بها في آخر صلاة صلاها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1). و"كان أحياناً يقرأ بطولى الطوليين (¬2): [{الأعراف}] [في الركعتين] " (¬3). وتارة بـ {الأنفال} في الركعتين (¬4). 5 - صلاة العشاء: كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الركعتين الأوليين من وسط المفصّل (¬5)، فـ "كان تارة يقرأ بـ {الشمس وضحاها} وأشباهِها من السور" (¬6). و"تارة بـ {إِذا السّماءُ انشقت}، وكان يسجد بها" (¬7). و"قرأ -مرة- في سفر بـ {التين والزيتون} [في الركعة الأولى] " (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 763، ومسلم: 462 (¬2) أي: بأطول السورتين الطويلتين، و"طولى": تأنيث "أطول"، و"الطوليين": تأنيث طولى، وهما {الأعراف} اتفاقاً، و {الأنعام} على الأرجح؛ كما في "فتح الباري". (¬3) أخرجه البخاري: 764، وأبو داود وابن خزيمة وأحمد والسرَّاج والمخلص. (¬4) أخرجه الطبراني في "الكبير" بسند صحيح. (¬5) أخرجه النسائي وأحمد بسند صحيح. (¬6) أخرجه أحمد والترمذي وحسنه. (¬7) أخرجه البخاري: 766، ومسلم: 578 (¬8) أخرجه البخاري: 767، ومسلم: 464، والنسائي.

جمعه - صلى الله عليه وسلم - بين النظائر وغيرها في الركعة

جمْعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين النظائر (¬1) وغيرها في الركعة (¬2) كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرن بين النظائر (¬3) من المُفَصَّل، فكان يقرأ سورة: {الرحمن} و {النجم} في ركعة، و {اقتربت} و {الحاقّة} في ركعة، و {الطور} و {الذريات} في ركعة، و {إِذا وقعت} و {ن} في ركعة، و {سأل سائل} و {النازعات} في ركعة، و {ويل للمطفّفين} و {عبس} في ركعة، و {المدثّر} و {المزمّل} في ركعة، و {هل أتى} و {لا أُقسِم بيوم القيامة} في ركعة، و {عمّ يتساءلون} و {المرسلات} في ركعة و {الدخان} و {إِذا الشمس كُوِّرت} في ركعة" (¬4). صفة قراءة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ القرآن آية آية كما تدّل عليه النصوص. جاء في "صفة الصلاة" (ص 96): "ثمَّ يقرأ الفاتحة ويُقطّعها آية آية: {بسم الله الرحمن الرحيم}، [ثمَّ يقف، ثمَّ يقول:] {الحمد لله ربِّ العالمين}، [ثمَّ يقف، ثمَّ يقول:] {الرحمن الرحيم}، [ثمَّ يقف: ثمَّ ¬

_ (¬1) وقد دلّتنا هذه القراءة على أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يراع في الجمع بين كثير من هذه النظائر ترتيب المصحف فدّل على جواز ذلك وإن كان الأفضل مراعاة الترتيب. (¬2) عن "صفة الصلاة" (ص 104) بتصرّف. (¬3) أي السور المتماثلة في المعاني؛ كالموعظة أو الحِكَم أو القَصَص. (¬4) انظر "صحيح البخاري" (4996)، و"صحيح مسلم" (722).

ترتيل القراءة وتحسين الصوت بها

يقول:] {مالك يوم الدين}، وهكذا إِلى آخر السورة، وكذلك كانت قراءته كلُّها، يقف على رؤوس الآي ولا يَصِلُها بما بعدها" (¬1). وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمدّ القراءة. فعن قتادة قال: "سألتُ أنسَ بن مالك عن قراءة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كان يمدُّ مدّاً" (¬2). قال الحافظ في "الفتح" (9/ 91): "المدّ عند القراءة على ضربين: أصلي وهو إِشباع الحرف الذي بعده ألف أو واو أو ياء، وغير أصلي وهو ما إِذا أعقب الحرف الذي هذه صفته همزة، وهو متصلّ ومنفصل، فالمتصل: ما كان من نفس الكلمة، والمنفصل: ما كان بكلمة أخرى، فالأوّل: يؤتى فيه بالألف والواو والياء، ممكنات من غير زيادة، والثاني: يزداد في تمكين الألف والواو والياء زيادة المدّ الذي يمكن النطق بها إلاَّ به من غير إِسراف، والمذهب الأعدل أنَّه يمد كل حرف منها ضعفي ما كان يمدّه أولا، وقد يُزاد على ذلك قليلاً، وما فرط فهو غير محمود". ترتيل القراءة وتحسين الصوت بها (¬3) كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما أمَره الله تعالى- يُرتّل القرآن ترتيلاً، لا هذّاً (¬4) ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو مخرج في "الإِرواء" (343). (¬2) أخرجه البخاري: 5046 (¬3) عن "صفة الصلاة" (124) بتصرّف. (¬4) الهذّ: سرعة القطع والقراءة. "المحيط". وقال الحافظ (2/ 259): =

ولا عجلة؛ بل قراءة "مفسرة (¬1) حرفاً (¬2) حرفاً" (¬3). حتى "كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطولَ منها" (¬4). وكان يقول: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ ورتّل كما كنت ترتّل في الدنيا، فإِنّ منزلك عند آخر آية تقرؤها" (¬5). و"كان يمدّ قراءته (عند حروف المد)، فيمدّ {بسم الله}، ويمدّ {الرحمن}، ويمدّ {الرحيم} " (¬6)، و {نضيد} (¬7) وأمثالها. ¬

_ = " أي سرداً وإفراطاً في السرعة"، والسّرد": المتابعة والاستعجال. "النهاية" ملتقطاً. (¬1) مُفسَّرة: من الفسر، وهو الإبانة والبيان وكشف الغطاء، وجاء في "تحفة الأحوذي" (8/ 241): حرفاً حرفاً: أي: كان يقرأ بحيث يمكن عدّ حروف ما يقرأ والمراد: حسن الترتيل والتلاوة على نعت التجويد. قال الطيبي: يحتمل وجهين الأول: أن تقول: كانت قراءته كيت وكيت، والثاني: أن تُقرَأ مرتلة كقراءة النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابن عباس: لأن أقرأ سورة أرتّلها أحب إليّ من أن أقرأ القرآن كله بغير ترتيل. (¬2) قال في "النهاية": الحرف في الأصل: الطرف والجانب، وبه سمّي الحرف من حروف الهجاء. (¬3) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" وأبو داود وأحمد بسند صحيح. (¬4) أخرجه مسلم: 733 (¬5) أخرجه أبو داود والترمذي وصححه. (¬6) انظر "صحيح البخاري" (5046). (¬7) أخرجه البخاري في "أفعال العباد" بسند صحيح.

وكان يقف عى رؤوس الآي (¬1) و"كان -أحياناً- يُرَجِّع (¬2) صوته؛ كما فعل يوم فتح مكة وهو على ناقته يقرأ سورة {الفتح}، وقد حكى عبد الله ابن المُغَفَّل ترجيعه هكذا (آآ آ) (¬3) وكان يأمر بتحسين الصوت بالقرآن فيقول: "زيِّنوا القرآن بأصواتكم؛ [فِإن الصوت الحسَن يزيد القرآن حُسناً] " (¬4). ويقول: "إِنّ من أحسن الناس صوتاً بالقرآن؛ الذي إِذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله" (¬5). ¬

_ (¬1) وتقدّم في صفة قراءته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬2) جاء في "النهاية": "الترجيع: ترديد القراءة، ومنه ترجيع الأذان، وقيل: هو تقارُب ضروب الحركات في الصوت ... ". قال الحافظ: "هو تقارُب ضروب الحركات في القراءة، وأصْله: الترديد، وترجيع الصوت: ترديده بالحلق". وقال المناوي: "وذلك ينشأ غالباً عن أريحية وانبساط، والمصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حصل له من ذلك حظ وافر يوم الفتح". قال ابن الأثير في "النهاية" -بحذف-: لأنه كان راكباً فجعَلت الناقة تحرّكه، فحدَث الترجيع في صوته". وقال بعض العلماء الترجيع: تحسين التلاوة، لا ترجيع الغناء. (¬3) قال الحافظ في شرح قوله (آآ آ): "بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة ثمَّ همزة أخرى" [آءآءآء] وكذا في "النهاية"، ونقل الشيخ علي القاري مثله عن غير الحافظ، ثمَّ قال: "والأظهر أنها ثلاث ألفات ممدودات". (¬4) أخرجه البخاري: تعليقاً "كتاب التوحيد" (باب-52) وأبو داود والدارمي والحاكم وتمام الرازي بسند ين صحيحين. وانظر "الصحيحة" (771). (¬5) حديث صحيح، رواه ابن المبارك في "الزهد"، والدارمي وابن نصر والطبراني =

وكان يأمر بالتغني بالقرآن فيقول: "تعلّموا كتاب الله، وتعاهدوه، واقتنوه، وتغنَّوا به (¬1)، فوالذي نفسي بيده؛ لهو أشد تفلّتاً (¬2) من النوق والحوامل المخاض (¬3) في العقل (¬4) ". ويقول: "ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن" (¬5). وقال لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيتَ مزماراً (¬6) من مزاميرآل داود"، [فقال أبو موسى: لو علمتُ مكانك؛ لحبّرت لك (¬7) تحبيراً (¬8). ¬

_ = وأبو نعيم في "أخبار أصبهان"، والضياء في "المختارة". وانظر "الصحيحة" (771). (¬1) جاء في "الفيض": "اي: اقرأوه بتحزين وترقيق وليس المراد قراءته بالألحان والنغمات". (¬2) أي: ذَهاباً. (¬3) النوق الحوامل. (¬4) جمْع عِقال، وعقلت البعير: حبسْتُه وخصَّ ضرْب المَثل بها؛ لأنها إِذا انفلتت لا تكاد تُلحق. "فيض القدير". (¬5) أخرجه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. (¬6) قال العلماء: "المراد بالمزمار هنا: الصوت الحسَن، وأصل الزمر: الغناء، وآل داود هو داود نفسه، وآل فلان قد يطلق على نفسه، وكان داود عليه السلام حسَن الصوت جداً". ذكره النووى في "شرح مسلم". (¬7) يريد: "تحسين الصوت وتحزينه". "النهاية". (¬8) أخرجه البخاري: 5048، ومسلم: 793

مواضع الجهر والإسرار بالقراءة:

ماذا يقول إِذا قرأ: {أليس ذلك بقادرٍ على أن يحيي الموتى}، و {سبح اسم ربّك الأعلى}: يستحبّ له أن يقول في الأولى: سبحانك فبلى، وفي الثانية: "سبّحان ربّي الأعلى"، وذلك لما رواه ابن عباس: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا قرأ: {سبّح اسم ربّك الأعلى} قال: "سبحان ربي الأعلى" (¬1). ولما رواه موسى ابن أبي عائشة قال: "كان رجل يُصلّي فوق بيته وكان إِذا قرأ: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} (¬2) قال: سبحانك، فبلى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (¬3). مواضع الجهر والإِسرار بالقراءة (¬4): والسُّنّة أن يجهر المصلّي في ركعتي الصبح والجمعة، والأوليين من المغرب والعشاء (¬5)، والعيدين والكسوف والاستسقاء، ويُسِرّ في الظهر والعصر، وثالثة المغرب الأخريين من العشاء. وأمّا بقية النوافل، فالنهارية لا جهر فيها، والليلية يخير فيها بين الجهر والإِسرار، والأفضل التوسط، لحديث أبي قتادة -رضي الله عنه-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج ليلة فإِذا هو بأبي بكر -رضي الله عنه- يصلّي يخفض من صوته، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح أبي داود" (785) وانظر "المشكاة" (859). (¬2) القيامة: 40 (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (786)، وانظر "صفة الصلاة" (105). (¬4) "فقه السنّة" (1/ 158) بتصرّف. (¬5) انظر "الإِرواء" (354).

11 - تكبيرات الانتقال:

قال: ومرّ بعمر بن الخطاب وهو يصلّي رافعاً صوته، قال: فلما اجتمعا عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلّي تخفض صوتك، قال: قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله. وقال لعمر: مررت بك وأنت تصلّي رافعاً صوتك، قال: فقال يا رسول الله! أوقظ الوسنان (¬1)، وأطرد الشيطان. زاد الحسن في حديثه: فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئاً، وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئاً" (¬2). 11 - تكبيرات الانتقال: عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قام إِلى الصلاة يُكبِّر حين يقوم، ثمَّ يُكبِّر حين يركع، ثمَّ يقول: سمع الله لمن حَمِده، حين يرفع صُلبه من الرَّكعة، ثمَّ يقول وهو قائم: ربّنا لك الحمد، ثمَّ يُكبّر حين يهوي، ثمَّ يكبّر حين يرفع رأسه، ثمَّ يُكبّر حين يسجد، ثمَّ يكبّر حين يرفع رأسه، ثمَّ يفعل ذلك في الصلاة كلِّها حتى يَقضِيَها، ويكبّر حين يقوم من الثّنتينِ بعد الجلوس" (¬3). وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلّوا كما رأيتموني أصلّي" (¬4). وقد أمر بذلك المسيء صلاته فقال: "إِنَّه لا تتمُّ صلاةٌ لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء -يعني مواضعه- ثمَّ يكبّر ويحمد الله جلّ وعزّ ¬

_ (¬1) أي: النعسان. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1180)، والحاكم وصححّه ووافقه الذهبي، وانظر "صفة الصلاة" (ص 109). (¬3) أخرجه البخاري: 789، ومسلم: 392 (¬4) أخرجه البخاري: 631، وتقدّم.

12 - الركوع وهو ركن والطمأنينة فيه -وهما ركنان-:

ويُثني عليه، ويقرأ بما تيسّر من القرآن ثمَّ يقول: الله أكبر، ثمَّ يركع حتى تطمئنّ مفاصلُه، ثمَّ يقول: سمع الله لمن حمده، حتى يستويَ قائماً، ثمَّ يقول: الله أكبر، ثمَّ يسجد حتى تطمئن مَفاصِلُه، ثمَّ يقول الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً، ثمَّ يقول: الله أكبر، ثمَّ يسجد حتى تطمئنّ مفاصله، ثمَّ يرفع رأسه فيكبرّ، فإِذا فعل ذلك فقد تمّت صلاته" (¬1). وبوجوب تكبيرات الانتقال يقول شيخنا -حفظه الله تعالى- ونقل ما قرّره الإِمام الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/ 222 - 224) ثمَّ في "السيل الجرار" أنّ الأصل في جميع الأمور الواردة في حديث المسيء صلاته الوجوب. وقال: وقد ذهب إِلى الوجوب الإِمام أحمد كما حكاه النووي في "المجموع" (3/ 397) عنه. 12 - الركوع وهو ركن والطمأنينة فيه -وهما ركنان-: لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم وافعلوا الخير لعلّكم تفلحون} (¬2). قال الألوسي في "روح المعاني": "أي: صلّوا، وعبَّر عن الصلاة بهما؛ لأنّهما أعظم أركانها وأفضلها". ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث "المسيء صلاته": "إِنّها لا تتمُّ صلاة أحدكم حتى يُسبغ الوضوء كما أمَره الله ... ثمَّ يكبر الله ويحمده ويمجّده، ويقرأ ما ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبو داود" (763) وغيره، وتقدّم بعضه. (¬2) الحج: 77

تيسر من القرآن مما علّمه الله وأَذِن له فيه، ثمَّ يكبر ويركع، [ويضع يديه على ركبتيه] حتى تطمئن مفاصله وتسترخي .. " (¬1). وذكر بعض الفقهاء أنَّ أدنى الطمأنينة قدر تسبيحة. وأمَر به عليه الصلاة والسلام المسيء صلاته فقال: "ثمَّ اركع حتى تطمئنّ راكعاً" (¬2). وكان يقول: "أتمّوا الركوع والسجود؛ فوالذي نفسي بيده، إِنّي لأراكم من بعد (¬3) ظهري إِذا ما ركعتم، وإِذا ما سجدتم" (¬4). و"رأى رجلاً لا يتِمّ ركوعه، وينقُر في سجوده وهو يصلّي، فقال: [لو مات هذا على حاله هذه؛ مات على غير مِلَّة محمّد؛ [ينقر صلاته كما ينقُر الغرابُ الدم]، مَثَل الذي لا يُتمّ ركوعه، وينقُر في سجوده، مَثَل الجائع الذي يأكل التمرة والتمرتين لا يُغنيان عنه شيئاً] " (¬5). وكان يقول: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته". قالوا: يا رسول الله! وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يُتمّ ركوعها وسجودها" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وانظر "صفة الصلاة" (ص 129). (¬2) أخرجه البخاري: 6251، ومسلم: 397 (¬3) أي: وراء؛ كما في حديث آخر. (¬4) أخرجه البخاري: 742، ومسلم: 425 (¬5) أخرجه أبو يعلى في "مسنده"، والبيهقي والطبراني وغيرهم بسند حسن، وصححه ابن خزيمة، وانظر "صفة الصلاة" (ص 131). (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر "صفة الصلاة" (ص 131).

صفة الركوع:

صفة الركوع: يتحقق الركوع بالانحناء؛ بحيث تصل اليدان إلى الركبتين، ولا بدّ من الطمأنينة فيه (¬1) لحديث المسيء صلاته المتقدّم: "ثمَّ اركع حتى تطمئن راكعاً". قال شيخنا في "تمام المنّة" (ص 189): " ... يجب أن يُعلم أنَّ الاطمئنان الواجب لا يحصل إلاَّ بتحقيق ما يأتي: 1 - وضْع اليدين على الركبتين. 2 - تفريج أصابع الكفّين. 3 - مدّ الظهر. 4 - التمكين للركوع والمكث فيه؛ حتى يأخذ كلّ عضو مأخذه. وهذا كلّه ثابت في روايات عديدة لحديث المسيء صلاته ... ". أذكار الركوع (¬2) كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في هذا الركن أنواعاً من الأذكار والأدعية، تارة بهذا، وتارة بهذا: 1 - "سبحان ربي العظيم (ثلاث مرات) " (¬3). ¬

_ (¬1) "فقه السنة" (ص 137). (¬2) عن "صفة الصلاة" (ص 132) بتصرّف. (¬3) أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وغيرهم، وفيه ردّ على من أنكر ورود =

وكان -أحياناً- يكررها أكثر من ذلك (¬1). وبالَغ مرة في تكرارها في صلاة الليل؛ حتى كان ركوعه قريباً من قيامه، وكان يقرأ فيه ثلاثَ سور من الطوال: {البقرةَ} و {النساءَ} و {آل عمران}، يتخللها دعاء واستغفار. 2 - "سبحان ربّي العظيم وبحمده (ثلاثاً) " (¬2). 3 - "سُبّوح قدّوس (¬3) رب الملائكة والروح" (¬4). 4 - "سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك، اللهم اغفِر لي. وكان يُكثر منه في ركوعه وسجوده؛ يتأوّل القرآن" (¬5). 5 - "اللهم لك ركعْت، وبك آمنْت، ولك أسلمْت، [أنت ربّي]، خشع ¬

_ = التقييد بثلاث تسبيحات. (¬1) يستفاد هذا من الأحاديث المصرحة بأنه عليه الصلاة والسلام كان يُسوّي بين قيامه وركوعه وسجوده. (¬2) قال شيخنا في "صفة الصلاة" (ص 133): صحيح رواه أبو داود، والدارقطنيّ، وأحمد، والطبراني والبيهقى. (¬3) سبُوح قدُّوس: على وزن فُعّول من أبنية المبالغة، والمراد بهما التنزيه، وسُبّوح: من التسبيح، وهو التنزيه والتقديس والتبرئة من النقائص. وقدُّوس: هو الطاهر المنزّه عن العيوب. "النهاية" ملتقطاً بتصرف. (¬4) أخرجه مسلم: 487، وأبو عوانة. (¬5) أخرجه البخاري: 817، ومسلم: 484، ومعنى قوله: "يتأول القرآن": يعمل بما، أمر فيه؛ أي: في قول الله عز وجل: {فسبح بحمد ربك واستغفره إِنّه كان توَّاباً}.

النهي عن قراءة القرآن في الركوع

لك سمعي وبصري، ومخّي وعظمي (وفي رواية: وعظامي) وعصبي، [وما استقلّت (¬1) به قدمي لله ربّ العالمين] " (¬2). 6 - "اللهمّ لك ركعْت، وبك آمنْت، ولك أسلمْت، وعليك توكلّت، أنت ربي، خشَع سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله ربّ العالمين" (¬3). 7 - "سبحان ذي الجبروت والملكوت (¬4) والكبرياء والعَظمة"، وهذا قاله في صلاة الليل (¬5). النهي عن قراءة القرآن في الرّكوع نهى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، فعن ابن عباس - رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ... ألا وإنِّي نُهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأمّا الركوع فعظّموا فيه الربّ عزّ وجلّ، وأمّا السجود ¬

_ (¬1) أى: ما حمَلَتْه، من الاستقلال: بمعنى الارتفاع. (¬2) أخرجه مسلم: 771، وأبو عوانة، والطحاوى والدارقطني. (¬3) أخرجه النسائي بسند صحيح. (¬4) الجبروت: اسم مبنيّ من الجبر، وهو قَهْر العباد على ما أراد من أمر ونهي. الملكوت: اسم مبني من المُلك، والمراد: صاحب القهر والتصرف البالغ كل منهما غايته. (¬5) أخرجه أبو داود، والنسائي بسند صحيح.

13 - الاعتدال من الركوع وهو ركن، والطمأنينه فيه -وهما ركنان-:

فاجتهدوا في الدعاء فقمِنٌ (¬1) أن يُستجاب لكم" (¬2). 13 - الاعتدال من الركوع وهو ركن، والطمأنينه فيه (¬3) -وهما رُكنان-: لأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسيء صلاته بقوله: "لا تتم صلاةٌ لأحدٍ من الناس حتى ... ثمَّ يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائماً" (¬4). وفي لفظ: "ثمَّ ارفع حتى تعتدل قائماً" (¬5). وفي حديث أبي حميد الساعدي: "فإِذا رفَع رأسه استوى قائماً حتى يعود كلّ فقار مكانه" (¬6). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ينظر الله إِلى صلاة عبدٍ لا يُقيم صلبه بين ركوعها وسجودها" (¬7). ¬

_ (¬1) أي: حقيق وجدير. (¬2) أخرجه مسلم: 479 (¬3) عن "صفة الصلاة" (ص 135) بتصرّف. (¬4) أخرجه أبو داود والحاكم وصححّه ووافقه الذهبي. (¬5) أخرجه البخاري: 793 (¬6) أخرجه البخاري: 828، "مختصر البخاري": 448. وجاء مُعلقاً في البخاري أيضاً: (1/ 202). والفَقار: هي العظام التي يُقال لها خرز الظهر، قاله القزاز وقال ابن سيده: هي من الكاهل إِلى العَجْب، "الفتح" (2/ 308) والكاهل مِن الإِنسان: ما بين كتفيه أو مَوصل العُنق في الصُّلب. والعجْب: أصل الذنب ومؤخر كل شيء. "المحيط". (¬7) أخرجه أحمد بإِسناد جيد، والطبراني في "الكبير" بإِسناد صحيح انظر "صحيح الترغيب والترهيب" (525).

وفي رواية: "كان يصلّي؛ فلمَح بمؤخّر عينيه إِلى رجل لا يقيم صُلبه في الركوع والسجود، فلما انصرف قال: (يا معشر المسلمين! إنَّه لا صلاة لمن لا يقيم صُلبه في الركوع والسجود) " (¬1). ثمَّ "كان يقول وهو قائم: ربّنا ولك الحمد" (¬2). وأمَر بذلك كل مُصَلٍّ مُؤْتَمّاً أو غيره فقال: "صلُّوا كما رأيتموني أصلّي" (¬3). وكان يقول: "إِنّما جُعل الإِمام ليؤتمّ به ... وإذا قال: سمع (¬4) الله لمن حَمِده؛ فقولوا: اللهمّ ربّنا ولك الحمد" (¬5). وعلّل الأمر بذلك في حديث آخر بقوله: "فإِنَّه من وافق قولُه قولَ الملائكة؛ غُفرَ له ما تقدّم من ذنبه" (¬6). وكان يرفع يديه عند هذا الاعتدال (¬7) على الوجوه المتقدمة في تكبيرة ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجه وأحمد بسند صحيح، وانظر "الصحيحة" (2536). (¬2) البخاري: 805 (¬3) أخرجه البخاري: 631، وتقدّم. (¬4) قال العلماء: معنى سمع هنا: أجاب، ومعناه أنّ من حَمِد الله تعالى متعرّضاً لثوابه، استجاب الله تعالى، وأعطاه ما تعرّض له فإنا نقول ذلك ربنا لك الحمد لتحصيل ذلك. (¬5) أخرجه البخاري: 805، ومسلم: 411، وأبو عوانة، وأحمد، وأبو داود. (¬6) أخرجه البخاري: 796، ومسلم: 409، وصححه الترمذي، وتقدّم. (¬7) أخرجه البخاري: 737 ومسلم: 390

الإِحرام، ويقول وهو قائم: 1 - "ربّنا ولك الحمد" (¬1) وتارة يضيف "اللهمّ" (¬2). وتارة يزيد: 2 - "ملءَ السماوات، و [ملء] الأرض، وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد" (¬3). وتارة تكون الإِضافة: 3 - "ملءَ السماوات، وملءَ الأرض، وملءَ ما شئت من شيء بعد، أهلَ (¬4) الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكُلّنا لك عبد، [اللهمّ] لا مانع لما أعطيت، [ولا مُعطي لما منعت]، ولا ينفعُ ذا الجَد منك الجَدُّ" (¬5). وتارة يقول في صلاة الليل: 4 - "لربّي الحمد، لربّي الحمد"، يكرّر ذلك؛ حتى كان قيامه نحواً من ركوعه الذي كان قريباً من قيامه الأوّل، وكان قرأ فيه سورة البقرة" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 805 ومسلم: 411 (¬2) أخرجه البخاري: 795، وأحمد. (¬3) أخرجه مسلم: 478، وأبو عوانة. (¬4) منصوب على النداء، هذا هو الأشهر، وجوّز بعضهم رفْعه على تقدير أنت أهل الثناء، والمختار النصب، قاله النووي. (¬5) أخرجه مسلم: 477، وأبو عوانة، وأبو داود. (¬6) أخرجه أبو داود، والنسائي بسند صحيح، وهو مخرّج في "الإرواء" (335).

التسميع على كل مصل سواء أكان إماما أو مأموما أو منفردا:

5 - "ربّنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيِّباً مبارَكاً فيه، [مباركاً عليه؛ كما يحبّ ربنا ويرضى] ". قاله رجل كان يصلّي وراءه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما رفع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأسه من الركعة وقال: "سمع الله لمن حمده"، فلما انصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من المتكلّم آنفاً؟ " فقال: أنا يا رسول الله! فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لقد رأيت بضعة وثلاثين مَلَكاً يبتدرونها (¬1) أيهم يكتبها أولاً" (¬2). التسميع على كلّ مصلٍّ سواءٌ أكان إِماماً أو مأموماً أو منفرداً: عن أنس بن مالك قال: "سقط النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن فرس فَجُحِش (¬3) شقُّه الأيمن، فدخَلنا عليه نَعُودُه، فحضرت الصلاة، فصلّى بنا قاعداً، فصلّينا وراءه قعوداً، فلمّا قضى الصلاة قال: إِنّما جُعل الإِمام ليؤتمّ به، فإِذا كبّر فكبِّروا، وإِذا سجد فاسجدوا، وإِذا رفع فارفعوا، وإِذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربّنا ولك الحمد، وإِذا صلّى قاعداً فصلّوا قعوداً أجمعُون" (¬4). قال شيخنا -حفظه الله- في "صفة الصلاة" (ص 135): "تنبيه: هذا الحديث لا يدل على أنَّ المؤتمّ لا يشارك الإِمام في قوله: "سمع الله لمن حمده"، كما لا يدلّ على أنَّ الإِمام لا يشارك المؤتمّ في قوله: "ربّنا ولك الحمد"؛ إِذ أنَّ الحديث لم يُسَق لبيان ما يقوله الإِمام والمؤتمّ في هذا ¬

_ (¬1) أي: يعجلون لرفعها ويستبقون إِلى ذلك. "المحيط". (¬2) أخرجه مالك، والبخاري: 799، وأبو داود. (¬3) أي: خُدش. (¬4) أخرجه البخاري: 805، ومسلم: 411، وتقدّم بدون ذِكر المناسبة.

الركن؛ بل لبيان أن تحميدَ المؤتم إِنّما يكون بعد تسميع الإِمام، ويؤيد هذا أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول التحميدَ وهو إِمام، وكذلك عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "صلّوا كما رأيتموني أصلّي"، يقتضي أن يقول المؤتمّ ما يقوله الإِمام كالتسميع وغيره. ومن شاء زيادة الاطلاع؛ فليراجع رسالة الحافظ السيوطي في هذه المسألة: "دفع التشنيع في حكم التسميع" ضِمن كتابه "الحاوي للفتاوى" (1/ 529) انتهى كلام شيخنا -حفظه الله تعالى-. وبتسميع المأموم يقول الإِمام النووي (¬1) كما في "شرح مسلم" (4/ 193): " ... وأنّه يُستحبّ لكلّ مصلٍّ من إِمام ومأموم ومنفرد؛ أن يقول: "سمع الله لمن حمِده؛ ربنا لك الحمد، ويجمع بينهما فيكون قوله: يسمع الله لمن حمده في حال ارتفاعه، وقوله: ربّنا ولك الحمد في حال اعتداله لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي". [وقد تقدّم]. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "سمع الله لمن حمِده؛ حين يرفع صلبه من الركعة، ثمَّ يقول وهو قائم: ربّنا ولك الحمد" (¬2). قال شيخنا في "تمام المنّة" (ص190): بعد أن ذكر الحديث السابق، وأشار إِلى تخريجه في "الإِرواء" بزيادات كثيرة: "من الواضح أنَّ في هذا الحديث ذِكْرين اثنين: أحدهما: قوله: "سمع الله لمن حمده" في اعتداله من الركوع. ¬

_ (¬1) وبه يقول الكرماني كذلك (5/ 105). (¬2) أخرجه أحمد والشيخان، وانظر "الإرواء" (331).

والآخر: قوله: "ربنّا ولك الحمد" إِذا استوى قائماً. فإِذا لم يقل المقتدي ذِكر الاعتدال، فسيقول مكانه ذِكر الاستواء، وهذا أمر مشاهَد من جماهير المصلين، فإِنّهم ما يكادون يسمعون منه: "سمع الله لمن حمده"؛ إلاَّ وسبقوه بقولهم: "ربّنا ولك الحمد"، وفي هذا مخالفة صريحة للحديث، فإِنْ حاول أحدهم تجنُّبها وقع في مخالفة أخرى، وهي إِخلاء الاعتدال من الذكر المشروع فيه بغير حُجّة. قال النووي -رحمه الله- (3/ 420): "ولأنَّ الصلاة مبنية على أن لا يفتر عن الذِّكر في شيء منها، فإِنْ لم يقل بالذِّكرين في الرفع والاعتدال؛ بقي أحد الحالين خالياً عن الذكر". بل إِنني أقول [الكلام لشيخنا -حفظه الله-]: إِن التسميع في الاعتدال واجب على كل مصلّ؛ لثبوت ذلك في حديث "المسيء صلاته" فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه: "إِنها لا تتمّ صلاة أحدكم حتى يُسبغ الوضوء كما أمَره الله ... ثمَّ يكبّر ... ويركع حتى تطمئن مفاصله وتسترخي، ثمَّ يقول: سمع الله لمن حمده، ثمَّ يستوي قائماً حتى يقيم صلبه ... " الحديث (¬1). فهل يجوز لأحد بعد هذا أن يقول بأن التسميع لا يجب على كلّ مصلٍّ؟! ". اهـ وانظر للمزيد من الفائدة "فتح الباري" تحت الحديث (796). هذا وقد ثبت أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول حين الاعتدال من الركوع: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والنسائي والسياق له، وغيرهما بسند صحيح. وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (804).

كيف يهوي إلى السجود

سمع الله لمن حمده ربّنا ولك الحمد، وانظر "صحيح البخاري" (735). كيف يهوي إِلى السجود كيفية الهوي إِلى السجود من المسائل الخلافية عند العلماء، فمِن قائل بوضْع الركبتين قبل اليدين، ومِن قائل بوضع اليدين قبل الركبتين. واستدلّ أهل العلم على الأوّل بحديث شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه. وقد بيَّن شيخنا في "تمام المِنّة" (ص 194) وجْه تضعيف الحديث من الناحية الحديثية والفقهية: أمّا الحديثية: فإِنَّ شريكاً وهو -ابن عبد الله القاضي- ضعيف سيء الحفظ فلا يُحتجّ به إِذا انفرد، فكيف إِذا خالف؟ وذكَر قول الحافظ في "بلوغ المرام": "إِنَّ حديث أبي هريرة [الذي ينص على وضْع اليدين قبل الركبتين] أقوى من حديث وائل وقال: وذَكر نحوه عبد الحقّ الإِشبيلي". ويرى ابن القيّم -رحمه الله- أنَّ الحديث انقلب على الراوي وأنَّ أصله "وليضع ركبتيه قبل يديه". قال شيخنا في "تمام المنة" (ص194 - 195): "وإنّما حمَله على هذا، زعْم آخر له، وهو قوله: "إِنَّ البعير يضع يديه قبل ركبتيه"، قال: "فمقتضى النهي عن البروك كبروك البعير؛ أن يضع المصلّي ركبتيه قبل

يديه! ". وسبب هذا كله أنَّه خفي عليه ما ذكَره علماء اللغة كالفيروزآبادي وغيره: "أنّ ركبتي البعير في يديه الأماميّتين". ولذلك قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 150): "إِنّ البعير ركبتاه في يديه، وكذلك في سائر البهائم، وبنو آدم ليسو كذلك، فقال: لا يبرك على ركبتيه اللتين في رجليه كما يبرك البعير على ركبتيه اللتين في يديه، ولكن يبدأ فيضع أولاً يديه اللتين ليس فيهما ركبتاه، ثمَّ يضع ركبتيه، فيكون ما يفعل في ذلك بخلاف ما يفعل البعير" (¬1). واستدلَّ أهل العلم على القول الثاني بما ثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه "كان يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه" (¬2). واستدلوا أيضاً بأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك وقوله: "إِذا سجَد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه" (¬3). وهذا قول أصحاب الحديث. وجاء في "صحيح البخاري" "كتاب الأذان" (باب يهوي بالتكبير حين ¬

_ (¬1) قلت: وهذا هو تحرير المقام وفصْل الخِطاب وبالله التوفيق. (¬2) أخرجه ابن خزيمة والدارقطني، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وما عارضه من الحديث لا يصح، وقد قال به مالك، وعن أحمد نحوه كما في "التحقيق" لابن الجوزي، وقد روى المروزي في "مسائله" بسند صحيح عن الإمام الأوزاعي قال: "أدركْتُ الناس يضعون أيديهم قبل رُكَبهم". (¬3) أخرجه البخاري في "التاريخ" وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (746)، وانظر "الإرواء" (2/ 78)، و"صفة الصلاة" (ص 140).

14 - السجود وهو ركن والطمأنينة فيه -وهما ركنان-:

يسجد) وقال نافع: كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه (¬1) ولشيخنا -عافاه الله وشفاه- كلام مفيد في "الضعيفة" تحت الحديث (929) فارجع إِليه -إِن شئت-. 14 - السجود وهو ركن والطمأنينة فيه -وهما رُكنان-: لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم وافعلوا الخير لعلّكم تُفلحون} (¬2). وأمَر عليه الصلاة والسلام بذلك المسيء صلاته فقال له: "لا تتمّ صلاةٌ لأحد من الناس حتى ... ثمَّ يسجد حتى تطمئنّ مفاصله" (¬3). وفي رواية: "إِذا أنت سجدت فأمكنْتَ وجهك ويديك حتى يطمئنّ كل عظم منك إِلى موضعه" (¬4). "وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمُر بإِتمام الركوع والسجود، ويضرب لمن لا يفعل ذلك مثَل الجائع؛ يأكل التمرة والتمرتين لا تُغنيان عنه شيئاً، وكان يقول فيه: "إِنَّه من أسوأ الناس سرقة". وكان يحكم ببطلان صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود؛ كما سبق تفصيله في "الركوع"، وأمَر "المسيء صلاته" بالاطمئنان في ¬

_ (¬1) قال شيخنا في "مختصر البخاري" (1/ 199): "وصله ابن خزيمة والطحاوي والحاكم وغيرهم بسند صحيح". (¬2) الحج: 77 (¬3) أخرجه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وانظر "صفة الصلاة" (141). (¬4) أخرجه ابن خزيمة بسند حسن، وانظر "الصِّفة" (142).

السجود" (¬1). السجود على سبعة أعضاء: وهي الجبهة والكفّان والركبتان والقدمان مع مراعاة تمكين الأنف. عن ابن عبّاس أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أُمرتُ أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة (¬2) (وأشار بيده على أنفه) واليدين، والرّجلين، وأطراف القدمين" (¬3). وعن العباس بن عبد المطلب أنَّه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إذا سجد العبد سَجد معه سبعة أطراف. وجهُه وكفّاه وركبتاه وقدماه" (¬4). وفي لفظ: "سجد معه سبعة آراب (¬5) " (¬6). وفي الحديث: "لا صلاة لمن لا يصيبُ أنفه من الأرض ما يصيب الجبين" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر "صفة الصلاة" (145). (¬2) وهذا يدل على أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل هذين العضوين كعضو واحد في السجود، وانظر "صفة الصلاة" (143). (¬3) أخرجه مسلم: 490 (¬4) أخرجه مسلم: 491 (¬5) أي: أعضاء، واحدها إرْب بالكسر والسكون. "النهاية". (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (790)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (223)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (723)، والنسائي "صحيح سنن النسائى" (1052)، وانظر "صفة الصلاة" (ص 143). (¬7) أخرج الدارقطني والطبراني وغيرهما، وانظر "صفة الصلاة" (ص 142).

وفي حديث أبي حُميد: "كان إِذا سجد أمكن جبهته وأنفه من الأرض" (¬1). وقال بعض أهل العلم فيمن سجد على جبهته دون أنفه: "يجزئه، وقال غيرهم: لا يجزئه حتى يسجد على الجبين والأنف". قال شيخنا: "وهذا هو الحقّ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صلاة لمن لا يمسّ أنفه الأرض ما يمسّ الجبين"، وهو حديث صحيح على شرط البخاري كما قال الحاكم والذهبي ... " (¬2). صفة السجود (¬3) و"كان [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يعتمد على كفيه [ويبسُطُها] " (¬4)، ويضم أصابعَهُما (¬5)، ويوجهها قِبَل القبلة (¬6). و"كان يجعلهما حذو مَنكِبيه" (¬7). وأحياناً "حذو أذنيه" (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره، وأصْله في البخاري وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإِرواء" (309). (¬2) انظر "تمام المنّة" (170). (¬3) عن "صفة الصلاة" (ص 141) بتصرف. (¬4) أخرجه أبو داود، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. (¬5) أخرجه ابن خزيمة، والبيهقي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. (¬6) أخرجه البيهقيّ بسند صحيح، وعند ابن أبي شيبة والسرَّاج توجيه الأصابع من طريق آخر. (¬7) أخرجه أبو داود، والترمذي وصححه، هو وابن الملقن، وهو مخرَّج في "الإرواء" (309). (¬8) أخرجه أبو داود، والنسائي بسند صحيح.

و"كان يُمكّن أنفه وجبهته من الأرض" (¬1). وقال للمسيء صلاتَه: "إِذا سجدت؛ فمكّن لسجودك" (¬2). وفي رواية: "إِذا أنت سجدتَ؛ فأمكنْتَ وجهَك ويديك؛ حتى يطمئن كلّ عظم منك إِلى موضعه" (¬3). و"كان يمكِّن أيضاً ركبتيه وأطراف قدميه" (¬4). و"يستقبل [بصدور قدميه و] بأطراف أصابعهما القبلة" (¬5)، و "يرصّ عقبيه" (¬6). و"ينصب رجليه" (¬7)، وكان يفتخ أصابعهما (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، والترمذي وصححه، هو وابن الملقن، وهو مخرَّج في "الإِرواء" (309). (¬2) أخرجه أبو داود، وأحمد بسند صحيح. (¬3) أخرجه ابن خزيمة بسند حسن. (¬4) أخرجه البيهقي بسند صحيح، وابن أبي شيبة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. (¬5) أخرجه البخاري: 808، وأبو داود، والزيادة لابن راهويه في "مسنده" وروى ابن سعد عن ابن عمر أنَه كان يحبّ أن يستقبل كل شيء منه القبلة إِذا صلّى، حتى كان يستقبل بإبهامه القبلة. (¬6) أخرجه الطحاوي، وابن خزيمة، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. (¬7) أخرجه البيهقيّ بسند صحيح. (¬8) أخرجه أبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه. ويفتخ: بالخاء المعجمة؛ أى: يغمز موضع المفاصل منها، ويثنيها إِلى باطن الرجل. "النهاية".

و"كان لا يفترش ذراعيه" (¬1)؛ بل "كان يرفعهما عن الأرض، ويباعدهما عن جنبيه حتى يبدو بياض إِبطيه من ورائه" (¬2)، و"حتى لو أن بَهمة (¬3) أرادت أن تمرّ تحت يديه؛ مرَّت" (¬4). وكان يبالغ في ذلك حتى قال بعض أصحابه: "إِنْ كنا لنأوي (¬5) لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ مما يجافي بيديه عن جنبيه إِذا سجد" (¬6). وكان يقول: "اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط (وفي لفظ: كما يبسط) الكلب" (¬7). مقدار السجود كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في السجود أنواعاً من الأذكار والأدعية، وأدنى ما يجزئ في السجود والركوع؛ مقدار تسبيحة واحدة، وللمصلّي منفرداً الزياده في التسبيح ما أراد، وكلّما زاد كان أولى، والأحاديث الصحيحة في تطويله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به بلفظ: "سجد النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووضَع يديه غير مفترش ولا قابِضهما"، وموصولاً (باب-141) برقم (828)، ومسلم: 498 بلفظ: "وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السَّبع". (¬2) أخرجه البخاري: 390، ومسلم: 497، وهر مخرّج في "الإِرواء" (359). (¬3) البَهمة: واحدة البهم، وهي أولاد الغنم. (¬4) أخرجه مسلم: 496، وأبو عوانة، وابن حبان. (¬5) أي: نرثي ونرِقّ. (¬6) أخرجه أبو داود، وابن ماجه بسند حسن. (¬7) أخرجه البخاري: 822، ومسلم: 493، وأبو داود، وأحمد.

ناطقة بهذا، وكذا الإِمام إذا كان المؤتمُّون لا يتأذّون بالتطويل. قاله الشوكاني وذكَره السيد سابق في "فقه السنّة". أذكار السجود (¬1) كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في هذا الركن أنواعاً من الأذكار والأدعية، تارة هذا، وتارة هذا: 1 - "سبحان ربي الأعلى (ثلاث مرات) " (¬2). و"كان -أحياناً- يكررها أكثر من ذلك" (¬3). وبالغ في تكرارها مرة في صلاة الليل حتى كان سجوده قريباً من قيامه، وكان قرأ فيه ثلاث سور من الطوال: {البقرة} و {النساء} و {آل عمران}، يتخللُها دعاءٌ واستغفار (¬4). 2 - "سبحان ربي الأعلى وبحمده" (¬5). 3 - "سبوح قدّوس رب الملائكة والروح" (¬6). ¬

_ (¬1) عن "صفة الصلاة" (145). (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (774)، وابن ماجه والدارقطني والطحاوى والبزار، والطبراني في "الكبير" عن سبعة من الصحابة. (¬3) وتقدّم. (¬4) وتقدّم. (¬5) أخرجه أبو داود والدارقطني وأحمد والطبراني والبيهقي، وصححه شيخنا في المصدر المذكور. (¬6) أخرجه مسلم: 487

4 - "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"، وكان يكثر منه في ركوعه وسجوده؛ يتأول القرآن (¬1). 5 - "اللهم لك سجْدتُ، وبك آمنت، ولك أسلمت، [وأنت ربي]، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره، [فأحسن صوره]، وشق سمعه وبصره، [فـ] تبارك الله أحسن الخالقين" (¬2). 6 - "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجلّه، وأوله وآخره، وعلانيته وسرَّه" (¬3). 7 - "سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، أبوء بنعمتك عليَّ، هذي يدي وما جنيْت على نفسي" (¬4). 8 - "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة (¬5) " (¬6)، وهذا وما بعده كان يقوله في صلاة الليل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 817، ومسلم: 484، وهذا النوع من أذكار الركوع أيضاً، وقد مضى أنّ معناه: يعمل بما أمره به في القرآن. (¬2) أخرجه مسلم: 771، وأبو عوانة والطحاوى والدارقطني. (¬3) أخرجه مسلم: 483 (¬4) أخرجه ابن نصر والبزار والحاكم، وصححه؛ ورده الذهبي، لكن له شواهد مذكورة في الأصل. (¬5) في "النهاية": العظمة والملك، وقيل: هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود ولا يوصف بهما إلاَّ الله تعالى. (¬6) أخرجه أبو داود والنسائي بسند صحيح.

النهي عن قراءة القرآن في السجود

9 - "سبحانك [اللهم] وبحمدك، لا إِله إلاَّ أنت" (¬1). 10 - "اللهم اغفر لي ما أسررت، وما أعلنت" (¬2). 11 - "اللهم اجعل في قلبي نوراً، [وفي لساني نوراً]، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من تحتي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، وعن يميني نوراً وعن يسارى نوراً، واجعل أمامي نوراً، واجعل خلفي نوراً، [واجعل في نفسي نوراً]، واعظم لي نوراً" (¬3). 12 - "اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (¬4). النهي عن قراءة القرآن في السجود عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النّبيّ قال: "ألا وإنّي نهيتُ أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً" (¬5). فضل السجود والحثّ عليه عن معدان بن أبي طلحة اليَعمَري قال: "لقيت ثوبان مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 485 بدون اللهمّ. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (62/ 112/1)، والنسائي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. (¬3) أخرجه مسلم: 763 (¬4) أخرجه مسلم: 486 (¬5) أخرجه مسلم: 479، وتقدّم.

فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلُني الله به الجنّة أو قال قلت: بأحبّ الأعمال إِلى الله فسكت. ثمَّ سألتُه فسكَت. ثمَّ سألتُه الثالثة فقال: سألتُ عن ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "عليك بكثرة السجود لله، فإِنّك لا تسجد لله سجدة إلاَّ رفَعك الله بها درجة وحطَّ عنك بها خطيئة"، قال معدان: ثمَّ لقيت أبا الدرداء فسألتُه فقال لي مِثل ما قال لي ثوبان" (¬1). عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: "كنتُ أبِيتُ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتيته بوَضوئه وحاجته فقال لي: "سَلْ" فقلت: أسألك مرافقتك في الجنّة. قال: "أوْ غيرَ ذلك؟ " قلت: هو ذاك. قال: "فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود" (¬2). وعن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء" (¬3). وفي الحديث: "ما من أمّتي من أحد إلاَّ وأنا أعرفه يوم القيامة"، قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق؛ قال: "أرأيتَ لو دخلتَ صِيرةً (¬4) فيها خيل دُهم (¬5) بُهم (¬6)، وفيها فرسٌ أغرُّ محجَّلٌ (¬7)؛ أما كنت تعرفه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 488 (¬2) أخرجه مسلم: 489 (¬3) أخرجه مسلم: 482 (¬4) الصِّيَرة: حظيرة من خشب وحجارة تبنى للغنم والبقر ... "لسان العرب". (¬5) أدهم وهو الأسود. "النهاية". (¬6) البُهم: هو في الأصل الذي لا يخالط لونه لون سواه. "شرح النووي". (¬7) تقدّمت في أول (باب الوضوء).

15 - الرفع من السجود وهو ركن والطمأنينة فيه -وهما ركنان-:

منها؟ ". قال: بلى. قال: "فإِنَّ أمّتي يومئذٍ غُرّ (¬1) من السجود، محجَّلون من الوضوء" (¬2). 15 - الرفع من السجود وهو ركن والطمأنينة فيه (¬3) -وهما رُكنان-: فقد أمَر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك المسيء صلاته فقال: "لا تتمّ صلاةٌ لأحدٍ من الناس حتى ... يسجد، حتى تطمئنّ مفاصله، ثمَّ يقول: "الله أكبر" ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً" (¬4). و"كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطمئنّ حتى يرجع كلّ عظم إِلى موضعه" (¬5). "كان يرفع يديه مع هذا التكبير" أحياناً (¬6). ¬

_ (¬1) تقدّمت في أول (باب الوضوء). (¬2) أخرجه أحمد بسند صحيح، والترمذي بعضه وصححه، وهو مخرج في "الصحيحة"، وانظر "صفة الصلاة" (ص 149). (¬3) انظر "صفة الصلاة" (ص 151). (¬4) أخرجه أبو داود والحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي. (¬5) أخرجه أبو داود والبيهقي بسند صحيح. (¬6) أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح، وبالرفع هاهنا، وعند كل تكبيرة قال أحمد، ففي "البدائع" لابن القيّم (4/ 89): "ونقل عنه الأثرم وقد سُئل عن رفع اليدين؟ فقال: في كل خفْض ورفْع، قال الأثرم: رأيت أبا عبد الله يرفع يديه في الصلاة في كل خفْض ورفْع". وبه قال ابن المنذر وأبو علي من الشافعية، وهو قول عن مالك والشافعي؛ كما في "طرح التثريب"، وصحّ الرفع هنا عن أنس وابن عمرَ ونافع وطاووس، والحسن البصرى وابن سيرين، وأيوب السختياني؛ كما في "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 106) بأسانيد =

الأذكار بين السجدتين

ثمَّ "يفرش رجله اليسرى فيقعد عليها مطمئناً" (¬1)، وأمر بذلك "المسيء صلاته" فقال له: "إِذا سجدت فمكِّن لسجودك، فإِذا رفعْت فاقعد على فَخِذِك اليسرى" (¬2)، و"كان ينصب (¬3) رجله اليمنى" (¬4)، و"يستقبل بأصابعها القبلة" (¬5). و"كان يطيلها (¬6) حتى تكون قريباً من سَجْدته" (¬7)، وأحياناً "يمكث حتى يقول القائل: قد نسي" (¬8). الأذكار بين السجدتين (¬9) كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في هذه الجلسة: ¬

_ = صحيحة عنهم. (¬1) أخرجه البخاري: 828، ومسلم: 498 وأبو داود بسند صحيح، وأبو عوانة. (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود بسند جيد. (¬3) النصب: إِقامة الشيء ورفْعُه. (¬4) أخرجه البخاري: 828 (¬5) أخرجه النسائي بسند صحيح. (¬6) أي: جلسته بين السجدتين. (¬7) أخرجه البخاري: 820، ومسلم: 471 نحوه. (¬8) أخرجه البخاري: 821، ومسلم: 472، قال ابن القيّم: "وهذه السنّة تركَها الناس من بعد انقراض عصر الصحابة، وأمّا من حَكَّم السنة، ولم يلتفت إِلى ما خالفها؛ فإِنّه لا يعبأ بما خالف هذا الهدي". (¬9) عن "صفة الصلاة" (ص 153) بتصرّف.

16 - الإقعاء بين السجدتين:

1 - "اللهم (وفي لفظ: ربّ)! اغفر لي، وارحمني، [واجبرني] (¬1)، [وارفعني]، واهدني، [وعافني]، وارزقني" (¬2)؛ وتارة يقول: 2 - "رب! اغفر لي، رب اغفر لي" (¬3). وكان يقولهما في "صلاة الليل" (¬4). 16 - الإِقعاء بين السجدتين: عن أبي الزبير أنّه سمع طاوُساً يقول: قُلنا لابن عباس في الإِقعاء على القدمين؟ فقال: هي السُّنة، فقُلنا له: إِنا لنراه جفاءً بالرجل، فقال ابن عباس: ¬

_ (¬1) أي: أغْنني، من جبَر الله مصيبته: أي: ردّ عليه ما ذهب منه وعوّضه، وأصْلُه من جبْر الكسر. "النهاية". (¬2) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. (¬3) أخرجه ابن ماجه بسند حسن، وانظر "صحيح سنن ابن ماجه" (731). وقد اختار الدعاء بهذا الإِمام أحمد. (¬4) ولا ينفي ذلك مشروعية هذه الأوراد في "الفرض"؛ لعدم وجود الفرق بينه وبين النفل، وبهذا يقول الشافعي وأحمد وإسحاق؛ يَرون أن هذا جائز في المكتوبة والتطوع؛ كما حكاه الترمذي. وذهب إِلى مشروعية ذلك الإمام الطحاوي أيضاً في "مشكل الآثار"، والنظر الصحيح يؤيد ذلك؛ لأنّه ليس في الصلاة مكان لا يشرع فيه ذِكر، فينبغي أن يكون كذلك الأمر هاهنا، وهذا بيّن لا يخفى.

بل هي سنّه نبيّك (¬1) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬2). وعن معاوية بن حديج قال: "رأيت طاوساً يقعي، فقلت: رأيتك تقعي! قال: ما رأيتني أقعي، ولكنها الصلاة، رأيت العبادلة الثلاثة يفعلون ذلك: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير؛ يفعلونه. قال أبو زهير: وقد رأيته يقعي" (¬3). قال شيخنا في "الصحيحة" تحت الحديث (383): ففي الحديث وهذه الآثار دليل على شرعية الإِقعاء المذكور، وأنه سُنّة يُتعبّد بها، وليست للعذر كما زعم بعض المتعصبة، وكيف يكون كذلك وهؤلاء العبادلة اتفقوا على الإِتيان به في صلاتهم، وتَبِعهم طاوس التابعي الفقيه الجليل، وقال الإِمام أحمد في "مسائل المروزي" (19): "وأهل مكة يفعلون ذلك". فكفى بهم سلفاً لمن أراد أن يعمل بهذه السُّنّة ويحييها. ولا منافاة بينها وبين السّنة الأخرى -وهي الافتراش- بل كلٌ سُنّة، فيفعل ¬

_ (¬1) قال النووي في "شرحه" (5/ 19): الإقعاء نوعان: أحدهما: أن يلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض كإِقعاء الكلب، هكذا فسّره أبو عبيدة معمر بن المثنى، وصاحبه أبو عبيد القاسم بن سلام، وآخرون من أهل اللغة، وهذا النوع هو المكروه الذي ورد فيه النهي، والنوع الثاني: أن يجعل أليتيه على عقبيه بين السجدتين، وهذا هو مراد ابن عبّاس [رضي الله عنهما] بقوله سنة نبيّكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد نصّ الشافعي -رضي الله عنه- في البويطي والإملاء على استحبابه في الجلوس بين السجدتين. (¬2) أخرجه مسلم: 536 (¬3) أخرجه أبو إِسحاق الحربي في غريب الحديث وقال شيخنا: إِسناده صحيح وانظر "الصحيحة" تحت الحديث (383).

17 - جلسة الاستراحة:

تارة هذه وتارة هذه؛ اقتداءً به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحتى لا يضيع عليه شيء من هديه عليه الصلاة والسلام. 17 - جِلسة الاستراحة: هي جلسة خفيفة يجلسها المصلّي بعد الفراغ من السجدة الثانية من الركعة الأولى؛ قبل النهوض إِلى الركعة الثانية، وبعد الفراغ من السجدة الثانية من الركعة الثالثة؛ قبل النهوض إلى الركعة الرابعة (¬1). عن أبي حميد الساعدي قال: سمعْته وهو في عشرة من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدهم أبو قتادة بن ربعي - يقول: أنا أعلمُكم بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكَر الحديث إِلى أن قال: ثمَّ أهوى إِلى الأرض ساجداً، ثمَّ قال: الله أكبر، ثمَّ جافى عضديه عن إِبطيه، وفتَح أصابع رجليه، ثمَّ ثنَى رجله اليسرى وقعد عليها، ثمَّ اعتدل حتى يرجع كلّ عظم في موضعه معتدلاً، ثمَّ أهوى ساجداً، ثمَّ قال: الله أكبر، ثمَّ ثنَى رجله وقعد، واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه، ثمَّ نهَض" (¬2). قال شيخنا في "صفة الصلاة" (154): "وهذا الجلوس يُعرف عند الفقهاء بجلسة الاستراحة وقد قال به الشافعي، وعن أحمد نحوه؛ كما في "التحقيق" (111/ 1) وهو الأحرى به؛ لما عُرف عنه من الحرص على اتباع السنّة التي لا معارض لها. ¬

_ (¬1) "فقه السنة" (ص169). (¬2) أخرجه البخاري في "جزء رفع اليدين" وأبو داود والترمذي وغيرهم، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (305).

بماذا يبدأ حين الرفع من السجود ليقوم إلى الركعة الثانية؟

وقد قال ابن هانئ في "مسائله عن الإِمام أحمد" (1/ 57): "رأيت أبا عبد الله (يعني: الإِمام أحمد) ربما يتوكأ على يديه إِذا قام في الركعة الأخيرة، وربما استوى جالساً، ثمَّ ينهض"، وهو اختيار الإِمام إِسحاق بن راهويه، فقد قال في "مسائل المروزي" (1/ 147/2): "مضت السنّة من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعتمد على يديه ويقوم؛ شيخاً كان أو شابًّا"، وانظر "الإِرواء" (2/ 82 - 83). ولشيخنا كلام مهمّ في "تمام المنّة" (ص210) فارجع إليه -إِن شئت-. بماذا يبدأ حين الرفع من السجود ليقوم إِلى الركعة الثانية؟ الراجح فيها أن يبدأ برفع ركبتيه قبل يديه، لحديث مالك بن الحويرث أنه كان يقول: "ألا أحدّثكم عن صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فيصلّي في غير وقت الصلاة، فإِذا رفع رأسه من السجدة الثانية في أول ركعة استوى قاعداً، ثمَّ قام، فاعتمد على الأرض". أخرجه البخاري، والشافعي في "الأم"، والسياق له (¬1). ¬

_ (¬1) قاله شيخنا في "تمام المنّة" (ص 196) -بحذف- ثم قال: "فهذا نصٌّ في أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتمد بيديه على الأرض، وبه قال الشافعي. قال البيهقي: "وروينا عن ابن عمر أنّه كان يعتمد على يديه إِذا نهض، وكذلك كان يفعل الحسن وغير واحد من التابعين". قلت: وحديث ابن عمر رواه البيهقي بسند جيد عنه وموقوفاً ومرفوعاً كما بينته في "الضعيفة" تحت الحديث (967)، وفي "صفة الصلاة" ... ورواه أبو إِسحاق الحربي بسند صالح مرفوعاً عنه، ويرويه الأزرق بن قيس: رأيت ابن عمر يعجن في الصلاة: يعتمد على يديه إِذا قام. فقلت له؟ فقال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله. =

18 - الجلوس للتشهد وصفته:

18 - الجلوس للتشهّد وصفته (¬1): ينبغي أن يراعي المصلّي في جلوس التشهّد ما يأتي: 1 - أن يجلس مفترشاً فَخِذه اليسرى إِذا كانت الصلاة ركعتين؛ كالفجر، وقد أَمَر به "المسيء صلاته" فقال له: "فإِذا جلستَ في وسط الصلاة، فاطمئنَّ وافترش فخِذك اليسرى ثمَّ تشهّد" (¬2). وأن يتورّك في التشهّد الأخير لحديث أبي حميد الساعدي: " ... فإِذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة؛ قدَّم رجله اليسرى، ونَصَب الأخرى وقعد على مقعدته" (¬3). 2 - وينبغي وضْع الكفّ اليمنى على الفخذِ اليمنى، والكفّ اليسرى على الفخذِ اليسرى. فإِنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان إِذا قعد في التشهد؛ وضع كفّه اليمنى على فخذه (وفي رواية: ركبته) اليمنى، ووضع كفّه اليسرى على فخذه (وفي رواية: ركبته) اليسرى؛ [باسطها عليها] " (¬4). ¬

_ = قلت: ولازم هذه السنّة الصحيحة أن يرفع ركبتيه قبل يديه. إِذ لا يمكن الاعتماد على الأرض عند القيام إلاَّ على هذه الصفة. وهذا هو المناسب للأحاديث الناهية عن التشبه بالحيوانات في الصلاة، وبخاصة حديث أبي هريرة في النهي عن البروك كبروك الجمل، فإِنه ينهض معتمداً على ركبتيه كما هو مشاهد، فينبغي للمصلّي أن ينهض معتمداً على يديه مخالفة له". (¬1) عن "صفة الصلاة" (ص 157) بتصرف. (¬2) أخرجه أبو داود والبيهقي بسند جيد. (¬3) أخرجه البخاري: 828، وغيره. (¬4) أخرجه مسلم: 580 وأبو عوانة.

19 - التشهد الأول:

3 - ولا يجافي مرفقه عن جنبه فقد "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضع حدّ (¬1) مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى". 4 - ولا يعتمد على اليد اليسرى، فإِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "نهى رجلاً وهو جالس معتمد على يده اليسرى في الصلاة فقال: "إِنها صلاة اليهود" (¬2). 5 - ويقبض أصابع الكف اليمنى كلّها، ويشير بإِصبعه التي تلي الإِبهام إِلى القبله ويرمي ببصره إِليها، ويضع إِبهامه على إِصبعه الوسطى. فقد "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبسط كفه اليسرى على ركبته اليسرى، ويقبض أصابع كفّه اليمنى كلها، ويشير بإِصبعه التي تلي الإِبهام إِلى القبلة، ويرمي ببصره إِليها" (¬3). 6 - ويرفع إِصبعه ويحركها ويدعو بها؛ لحديث وائل بن حجر وفيه: "ثمَّ رفع أصبعه، فرأيته يحرّكها يدعو بها" (¬4). قال شيخنا: ففيه دليل على أن السنّة أن يستمرّ في الإِشارة وفي تحريكها إِلى السلام. وسئل الإِمام أحمد: هل يشير الرجل بإِصبعه في الصلاة؛ قال: نعم شديداً. ذكره ابن هاني في "مسائله عن الإِمام أحمد" (ص 80). 19 - التشهد الأوّل: اختلف العلماء في حُكمه فمن قائل بسنّيته، ومن قائل بوجوبه. ¬

_ (¬1) أي: نهاية، وقال شيخنا: "وكأنّ المراد أنّه كان لا يجافي مرفقه عن جنبه، وقد صرّح بذلك ابن القيّم في "الزاد"". (¬2) أخرجه البيهقي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. (¬3) أخرجه مسلم: 580 وأبو عوانة وابن خزيمة. (¬4) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، وهو حديث صحيح خرجه شيخنا في "الإرواء" تحت الحديث (352).

ففي "صحيح البخاري" (¬1) تحت (باب من لم يرَ التشهّد الأوّل واجباً لأنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام من الركعتين ولم يرجع)، ثمَّ ذكر حديث عبد الله بن بُحيْنَةَ: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين لم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة وانتظَر الناس تسليمه كبَّر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يُسلِّم، ثمَّ سلّم". قال الحافظ: "ووجه الدلالة من حديث الباب، أنَّه لو كان واجباً لرجع إِليه لمّا سبّحوا به؛ بعد أن قام، ويُعرَف منه أنّ قول ناصر الدين بن المنيِّر في الحاشية: لو كان واجباً لسبّحوا به ولم يسارعوا إِلى الموافقة على الترك، غفلة عن الرواية المنصوص فيها على أنهم سبّحوا به. وقال ابن بطال: والدليل على أنَّ سجود السهو لا ينوب عن الواجب؛ أنَّه لو نسي تكبيرة الإِحرام لم تُجبَر فكذلك التشهد، ولأنَّه ذِكر لا يجهر به بحال، فلم يجب كدعاء الافتتاح، واحتجّ غيره بتقريره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس على متابعته بعد أن علم أنهم تعمدوا تركه، وفيه نظر. وممن قال بوجوبه الليث وإسحاق وأحمد في المشهور وهو قول للشافعي، وفي رواية عند الحنفية، واحتج الطبري لوجوبه بأن الصلاة فرضت أولاً ركعتين، وكان التشهد فيها واجباً، فلمّا زيدت لم تكن الزيادة مزيلة لذلك الواجب، وأجيب بأن الزيادة لم تتعيّن في الأخيرتين، بل يُحتمل أن يكونا هما الفرض الأول، والمزيد هما الركعتان الأولتان بتشهدها، ويؤيده استمرار السلام بعد التشهد الأخير كما كان، واحتج أيضاً بأنّ من تعمّد ترك ¬

_ (¬1) رقم (829).

الجلوس الأوّل بطلت صلاته، وهذا لا يرد لأنَّ من لا يوجبه لا يبطل الصلاة بتركه". وتقدّم قول النووي -بغير هذه المناسبة- "ولأنَّ الصلاة مبنيّة على أن لا يفتر عن الذكر في شيء منها ... ". قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" بعد أن ذكر جلسة التشهد: وفرْضٌ عليه أن يتشهّد في كلّ جلسة من الجلستين اللتين ذَكرنا. وقال تحت المسألة (372) رادّاً على من يقول: الجلوس مقدار التشهّد فرض وليس التشهّد فرضاً: " ... وكل هذه الأقوال خطأ، لأنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَر بالتشهد في القعود في الصلاة، فصار التشهد فرضاً، وصار القعود الذي لا يكون التشهد إلاَّ فيه فرضاً، إِذ لا يجوز أن يكون غير فرض ما لا يتم الفرض إِلا فيه أو به! ثمَّ روى بإِسناده إِلى عمر أنَّه قال: "لا صلاة إلاَّ بتشهد، وعن نافع مولى ابن عمر: من لم يتكلم بالتشهد فلا صلاة له؟ وهو قول الشافعي، وأبي سليمان! ". وقال رادّاً على من يقول: لو كان الجلوس الأوّل فرضاً لما أجزأت الصلاة بتركه إِذا نسيه المرء: "هذا ليس بشيء لأنَّ السنّة التي جاءت بوجوبه هي التي جاءت بأنَّ الصلاة تجزئ بنسيانه [وهذا قويّ وقياس المتعمّد على النّاسي لا يصحّ] وهم يقولون: إِنَّ الجلوس عمداً في موضع القيام في الصلاة حرام؛ تبطل الصلاة بتعمده، ولا تبطل بنسيانه، وكذلك السلام قبل تمام الصلاة ولا فرق".

20 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأول:

قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تلخيص صفة الصلاة" (ص 29): "والتشهّد واجب، إِذا نسيه سجدَ سجدتي السهو" انتهى. ويرجّح وجوبه أنَّه جاء في أفراد الأوامر التي أمرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "المسيء صلاته" ولفظه: "إِنها لا تتمّ صلاة أحدكم حتى يُسبغ الوضوء" ... وذكر الحديث إِلى أن قال: "فإِذا جلسْتَ في وسط الصلاة؛ فاطمئنّ وافترش فخذك اليسرى، ثمَّ تشهّد". وانظر "سنن أبي داود" (764)، و"صفة الصلاة" (157)، وقد تقدّم كلام الشوكاني في "نيل الأوطار" حول هذه القاعدة. وقال شيخنا في "تمام المنّة" (170) بعد الحديث السابق: "وفيه دليل على وجوب التشهّد في الجلوس الأوّل، ولازِمه وجوب الجلوس له، لأنَّه ما لا يقوم الواجب إلاَّ به فهو واجب". وفي الحديث: "إِذا قعدتم في كلّ ركعتين فقولوا: التحيات ... الخ" (¬1). وفي لفظ: "قولوا في كلّ جلسة التحيات" (¬2). 20 - الصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهّد الأوّل: فقد "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على نفسه في التشهّد الأوّل وغيره" (¬3). قال شيخنا -شفاه الله وعافاه-: "وسنّ ذلك لأمته؛ حيث أمَرهم بالصلاة عليه بعد السلام عليه، فقد قالوا: يا رسول الله! قد علِمنا كيف نُسلِّم عليك ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي وأحمد والطبراني في "الكبير" بسند صحيح. وانظر "صفة الصلاة" (160). (¬2) أخرجه النسائي بسند صحيح. وانظر "صفة الصلاة" (160). (¬3) أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" (2/ 324) والنسائي. عن "الصفة" (164).

(أي: في التشهّد)، فكيف نصلّي عليك؟ قال: قولوا: اللهمّ صل على محمّد ... الحديث، فلم يخصّ تشهّداً دون تشهّد، ففيه دليل على مشروعية الصلاة عليه في التشهّد الأوّل أيضاً، وهو مذهب الإِمام الشافعي، كما نص عليه في كتابه "الأمّ" (¬1)، وهو الصحيح عند أصحابه؛ كما صرّح به النووي في "المجموع" (3/ 460)، واستظهرَه في "الروضة" (1/ 263 - طبع المكتب الإِسلامي)، وهو اختيار الوزير ابن هبيرة الحنبلي في "الإِفصاح"؛ كما نقله ابنُ رجب في "ذيل الطبقات" (1/ 280) وأقرّه، وقد جاءت أحايثُ كثيرة في الصلاة عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهّد، وليس فيها أيضاً التخصيصُ المشارُ إِليه، بل هي عامّة تشملُ كل تشهُّد، وقد أوردْتها في الأصل تعليقاً، ولم أورِدْ شيئاً منها في المتن؛ لأنَّها ليست على شرطنا، وإن كانت من حيث المعنى يقوّي بعضها بعضاً، وليس للمانعين المخالفين أيُّ دليل يصحّ أنْ يُحتَجّ به، كما فصّلته في "الأصل"، كما أن القول بكراهة الزيادة في الصلاة عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأوّل على "اللهمّ صلّ على محمّد"، ممّا لا أصْل له في السنّة ولا برهان عليه، بل نرى أنّ من فعَل ذلك لم يُنفِّذْ أمْر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتقدّم: "قولوا: اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ... " إِلخ. وفي "تمام المنّة" (ص 224): "في الردّ على الشيخ السيد سابق ¬

_ (¬1) قال -رحمه الله تعالى- تحت رقم (1456): والتشهد والصلاة على النّبيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهّد الأول في كل ركعة غير الصبح تشهدان؛ تشهد أوّل، وتشهد آخر، إِن ترك التشهد الأول، والصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأول ساهياً، لا إِعادة عليه، وعليه سجدتا السهو لتركه.

-حفظه الله تعالى- في إِيراده قول ابن القيّم -رحمه الله-: لم يُنقَل أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى عليه وعلى آله في التشّهّد الأوّل ... ومن استحبَّ ذلك فإِنما فَهِمه من عمومات وإطلاقات؛ قد صحّ تبيين موضعها وتقييدها بالتشهّد الأخير. قال شيخنا -حفظه الله-: لا دليل تقوم به الحّجة يصلح لتقييد العمومات والمطلقات المشار إِليها بالتشهّد الأوّل، فهي على عمومها، وأقوى ما استدلّ به المخالفون حديث ابن مسعود المذكور في الكتاب (¬1)، وهو غير صحيح الإِسناد لانقطاعه كما ذكَر المؤلف (¬2)، وقد استوفى ابن القيّم -رحمه الله- أدلّة الفريقين، وبيَّن ما لها وما عليها في "جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام"، فراجِعه يظهر لك صواب ما رجّحناه. ثمَّ وقفْتُ على ما ينفي مطلق قول ابن القيّم: "لم يُنقل أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى عليه وعلى آله في التشهد الأوّل"، وهو قول عائشة -رضي الله عنها- في صفة صلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الليل: "كنا نعدّ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سواكه وطَهوره، فيبعثه الله فيما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضّأ، ثمَّ يصلّي تسع ركعات لا يجلس فيهنّ إِلا عند الثامنة، فيدعو ربه ويصلّي على نبيِّه، ثمَّ ينهض ولا يُسلّم، ثمَّ يصلّي التاسعة، فيقعد، ثمَّ يحمد ربه ويصلّي على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويدعو، ثمَّ يُسلّم تسليماً يُسمِعنا". ¬

_ (¬1) ولفظه: "كان النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا جلس في الركعتين الأوليين؛ كأنّه على الرَّضف". (¬2) فقد قال -حفظه الله تعالى-: "وقال الترمذي حسن إلاَّ أن عبيدة لم يسمع من أبيه".

أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" (2/ 324) وهو في "صحيح مسلم" (2/ 170)، لكنه لم يَسُقْ لفظه. ففيه دلالة صريحة على أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى على ذاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهّد الأوّل كما صلّى في التشهّد الآخر، وهذه فائدة عزيزة فاستفِدها، وعضَّ عليها بالنواجذ. ولا يقال: إنّ هذا في صلاة الليل، لأننا نقول: الأصل أنّ ما شُرع في صلاة شُرع في غيرها؛ دون تفريق بين فريضة أو نافلة، فمن ادَّعى الفرق فعليه الدليل". انتهى. قال ابن حزم في "المحلّى" تحت المسألة (458): "ويستحبّ إِذا أكمل التشهّد في كلتي الجلستين أن يصلّي على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول: اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على إِبراهيم ... ". قلت: ومن الأدلة على ذلك أيضاً حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "كنّا لا ندري ما نقول في كلّ ركعتين غير أنْ نسبّح، ونكبّر، ونحمد ربّنا، وأنّ محمّداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم فواتح الخير وخواتمه، فقال: "إِذا قعدتم في كل ركعتين، فقولوا: التحياتُ لله، والصلوات، والطيبات. السلام عليك أيها النّبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله. وليتخيّر أحدكم من الدعاء أعجبه إِليه، فليدْع الله عزّ وجلّ" (¬1). فهذا صريح بتخيُّر الدعاء في كلّ ركعتين والدعاء إِنما يكون بعد الصلاة ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1114) وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (878).

على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال شيخنا في "الصحيحة" (878) بعد أن ذكر الحديث السابق: "وفي الحديث فائدة هامّة؛ وهي مشروعية الدعاء في التشهد الأول، ولم أر من قال به من الأئمّة غير ابن حزم، والصواب معه، وإِنْ كان هو استدل بمُطْلَقات يمكن للمخالفين ردّها بنصوص أخرى مقيّدة، أمّا هذا الحديث فهو في نفسه نصّ واضح مفسّر لا يقبل التقييد، فرحم الله امرَأً أنصف واتبع السنة" (¬1) انتهى. ثمَّ وجدت في "صحيح سنن النسائي" (1115) حديثاً في غاية التصريح والتبيين عن عبد الله قال: "علَّمنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهّد في الصلاة، والتشهّد في الحاجة، فأمّا التشهّد في الصلاة: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبيّ (¬2) ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله ¬

_ (¬1) ثمَّ قال شيخنا -حفظه الله-: والحديث دليل من عشرات الأدلة على أنّ الكتب قد فاتها غير قليل من هدي خير البريّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهل في ذلك ما يحمل المتعصّبة على الاهتمام بدراسة السنّة، والاستنارة بنورها؟! لعلّ وعسى. تنبيه: وأمّا حديث: "كان لا يزيد في الركعتين على التشهد". فهو منكر كما حققته في "الضعيفة" (5816). (¬2) هذا في حياته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمّا بعد مماته فيقول: السلام على النّبيّ ورحمة الله وبركاته. قال الحافظ في "الفتح" (2/ 314) -بحذف-: وقد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود هذا ما يقتضي المغايرة بين زمانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقال بلفظ الخطاب، وأمّا بعده فيقال بلفظ الغَيبَة، ففي الاستئذان من "صحيح البخاري" من طريق أبي معمر عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التشهّد قال: "وهو بين ظَهرانَينا، فلما قُبض قلنا السلام" يعني على النّبيّ، كذا وقع في البخاري، وأخرجه أبو عوانة في صحيحه والسراج والجوزقي وأبو نعيم الأصبهاني =

21 - القيام إلى الركعة الثالثة ثم الرابعة

الصالحين، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله، إِلى آخر التشهّد". وكلمة إِلى آخر التشهّد؛ توضّح أنَّ الصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منه، لأنّه ذكَر التحيات كاملة، فلم يبق إلاَّ الصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وبالله التوفيق. 21 - القيام إِلى الركعة الثالثة ثمَّ الرابعة (¬1) ويراعى فيه ما يأتي: التكبير عند النهوض فقد "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهض إِلى الركعة الثالثة مكبّراً" (¬2). والسّنّة أن يكبّر وهو جالس. و"كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه" مع هذا التكبير أحياناً (¬3). "تمَّ يقوم معتمداً على الأرض" (¬4). و"كان يعجن -يعتمد على يديه- إِذا قام" (¬5). ¬

_ = والبيهقي من طرق متعددة إِلى أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: "فلما قبض قلنا السلام على النّبيّ" بحذف لفظ يعني، وقد وجدت له متابعاً قوياً: قال عبد الرزاق: "أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء أن الصحابة كانوا يقولون والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حي: السلام عليك أيها النّبيّ، فلما مات قالوا: السلام على النّبيّ، وهذا إِسناد صحيح. انتهى. وانظر ما قاله شيخنا -حفظه الله- في "صفة الصلاة" (ص 162). (¬1) ملتقطاً من "صفة الصلاة" (ص 177) و"تلخيصها" (ص30 - 31). (¬2) أخرجه البخاري: 825، ومسلم: 393 نحوه. (¬3) أخرجه البخاري: 739 نحوه، وأبو داود. (¬4) أخرجه البخاري: 824، وأبو داود. (¬5) أخرجه الحربي في "غريب الحديث" ومعناه عند البخاري وأبي داود.

22 - التشهد الأخير:

وكان يقرأ في كلٍّ من الركعتين الفاتحة، ويضيف إِليها آية أو أكثر أحياناً. 22 - التشهّد الأخير: وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر فيه بما أمَر به في الأوّل، ويصنع فيه ما كان يصنع في الأوّل، إلاَّ أنَّه كان يقعد فيه متورِّكاً (¬1). قال شيخنا في "تلخيص صفة الصلاة" (ص 33): "ثمَّ يقعد للتشهّد الأخير، وكلاهما واجب". 23 - الصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهّد الأخير، وهي واجبة: عن أبي مسعود الأنصاري؛ قال: أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في مجلس سعد بن عُبادة، فقال له بَشير بن سعد: أمَرنا الله تعالى أن نصلّيَ عليك يا رسول الله! فكيف نُصلّي عليك؟ قال فسكت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تمنَّينا أنَّه لم يسأله، ثمَّ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلَّيت على آل إِبراهيم، وبارِك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركت على آل إِبراهيم، في العالمين إِنَّك حميد مجيد. والسلام كما قد علِمتم" (¬2). وسمع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يدعو في صلاته؛ لم يُمجّد الله تعالى، ولم يُصلِّ على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "عجِّل هذا"، ثمَّ دعاه فقال له ولغيره: "إِذا صلّى أحدكم؛ ¬

_ (¬1) انظر "صفة الصلاة" (181)، والتورك: من وضع الورك عليها، والوَرِك: ما فوق الفخذ. وهو أن يُنحِّي رجليه في التشهد الأخير، ويلصق مقعدته بالأرض. وانظر "النهاية"، وتقدم بعضه. (¬2) أخرجه مسلم: 405، وغيره.

من صيغ التشهد

فليبدأ بتحميد ربه جلّ وعزّ، والثناء عليه، ثمَّ يصلّي (وفي رواية: ليصلّ) على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمَّ يدعو بما شاء" (¬1). قال الشوكاني: لم يثبت عندي ما يدلّ للقائلين بالوجوب غير هذا الحديث: " ... عجل هذا". من صِيَغ التَّشَهُّد (¬2) 1 - التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النّبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، [فإِنه إِذا قال ذلك؛ أصاب كُلّ عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض]، أشهد أن لا إِله إِلا الله، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله، [قال عبد الله:] [وهو بين ظهرانينا، فلما قُبض قلنا: السلام على النّبيّ] (¬3). 2 - التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، [الـ] سلام عليك أيها النّبيّ ورحمة الله وبركاته، [الـ] سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إِله إِلا الله، و [أشهد] أن محمّداً رسول الله، وفي رواية: عبده ورسوله (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وانظر "صفة الصلاة" (ص 182). قال شيخنا -شفاه الله تعالى-: "واعلم أنّ هذا الحديث يدل على وجوب الصلاة عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا التشهد للأمر بها، وقد ذهَب إِلى الوجوب الإِمام الشافعي وأحمد في آخر الروايتين عنه، وسبَقهما إِليه جماعة من الصحابة وغيرهم ... ". (¬2) "صفة الصلاة" (ص 161) -بحذف وتصرُّف-. (¬3) أخرجه البخاري: 6265، ومسلم: 402، وانظر "الإِرواء" (321). (¬4) أخرجه مسلم: 403، وأبو عوانة وغيرهما.

من صيغ الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد

3 - التحيات لله، [و] الصلوات [و] الطيبات، السلام عليك أيها النّبيّ ورحمة الله- قال ابن عمر: زدت (¬1) فيها: وبركاته -السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إِله إِلا الله- قال ابن عمر: وزدت (¬2) فيها: وحده لا شريك له- وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله (¬3). 4 - التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النّبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إِله إِلا الله [وحده لا شريك له]، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله (¬4). مِن صِيغ الصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهّد (¬5) 1 - "اللهمّ صلّ على محمّد، وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذريّته؛ كما صلّيتَ على آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد وبارِك على محمّد، وعلى آل بيته، وعلى أزواجه وذريّته؛ كما باركْتَ على آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد". وهذا كان يدعو به هو نفسه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬6). 2 - "اللهم صلِّ على محمّد، وعلى آل محمّد، كما صلّيت على [إِبراهيم، وعلى] آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد، اللهم بارِك على محمّد، وعلى آل ¬

_ (¬1) أي: زاد فيها من التشهُّد الذي سَمِعه من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لا مِن عنده. (¬2) أي: زاد فيها من التشهُّد الذي سَمِعه من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لا مِن عنده. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (971) والدارقطني وصحّحه. (¬4) أخرجه مسلم: 404، وأبو عوانة وغيرهما. (¬5) عن "صفة الصلاة" (ص 165) بتصرّف. (¬6) أخرجه أحمد والطحاوي بسند صحيح، والشيخان دون قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أهل بيته" وانظر البخاري: 3369، ومسلم: 407

محمّد؛ كما باركْتَ على [إِبراهيم، وعلى] آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد" (¬1) 3 - "اللهم صلّ على محمّد [النّبيّ الأمّي (¬2)]، وعلى آل محمّد؛ كما صلّيتَ على [آل] إِبراهيم، وبارِك على محمّد [النّبيّ الأمّي] وعلى آل محمّد؛ كما باركت على [آل] إِبراهيم في العالمين، إِنك حميد مجيد" (¬3). 4 - "اللهم صلّ على محمّد و [على] أزواجه وذريته، كما صلّيتَ على [آل] إِبراهيم، وبارِك على محمّد و [على] أزواجه وذريته، كما باركْتَ على [آل] إِبراهيم، إِنك حميد مجيد" (¬4). 5 - "اللهم صلّ على محمّد، وعلى آل محمّد، وبارِك على محمّد، وعلى آل محمّد، كما صلّيت وباركتَ على إِبراهيم وآل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3370، ومسلم: 406، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"، والحميدي وابن منده وقال: هذا حديث مُجمعٌ على صحَّته. (¬2) الأمّيّ: من كان على أصل ولادة أمّه؛ لم يتعلم الكتابة والحساب، فهو على جبلته الأولى، وانظر "النهاية". (¬3) أخرجه مسلم: 405، وأبو عوانة وابن أبي شيبة في "المصنف" وأبو داود والنسائي وصححه الحاكم. (¬4) أخرجه البخاري: 3369، ومسلم: 407، والنسائي. (¬5) أخرجه النسائي والطحاوي، وأبو سعيد ابن الأعرابي في "المعجم".

24 - الاستعاذة من أربع قبل الدعاء:

24 - الاستعاذة من أربع قبل الدعاء: ويجب الاستعاذة من أربع بعد الفراغ من التشهّد الآخر، لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا تشهّد أحدكم؛ فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهمّ إِنّي أعوذ بك من عذاب جهنّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرّ فتنة المسيح الدجال" (¬1). وفي رواية: "إِذا فرغ أحدكم من التشهد الآخِر فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرّ المسيح الدجال" (¬2). وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلّمه الصحابة -رضي الله عنهم- كما يعلمهم السورة من القرآن. فعن ابن عباس أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعلمهم هذا الدعاء؛ كما يعلّمهم السورة من القرآن يقول: قولوا: اللهم إِنا نعوذ بك من عذاب جهنّم ... " (¬3). 25 - الدعاء قبل السلام (¬4) وأنواعه (¬5): من السنّة أن يتخيّر المصلي من الأدعية الآتية ما شاء وينوّع، وهي: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 588 وأبو عوانة والنسائي وابن الجارود في "المنتقى"، وهو مخرج في "الإرواء" (350). (¬2) أخرجه مسلم: 588 (¬3) أخرجه مسلم: 590 (¬4) وهو مستحب وبهذا يقول شيخنا -شفاه الله تعالى-. (¬5) عن "صفة الصلاة" (ص 183) بتصرّف.

1 - اللهمّ إِنّي أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهمّ إِني أعوذ بك من المأثم والمغرم (¬1) " (¬2). 2 - "اللهم إِنّي أعوذ بك من شر ما عمِلتُ (¬3)، ومن شر ما لم أعمل (¬4) [بعد] " (¬5). 3 - "اللهم حاسِبني حساباً يسيراً" (¬6). 4 - وعلَّم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- أن يقول: "اللهمّ إِني ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إِلا أنت، فاغفر لي مغفرة من ¬

_ (¬1) هو الأمر الذي يأثم به الإِنسان، أو هو الإِثم نفسه؛ وضْعاً للمصدر موضع الاسم. "النهاية". وكذلك المغرم: ويريد به الدَّيْن؛ بدليل تمام الحديث: "قالت عائشة: فقال له القائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله! فقال: إِن الرجل إِذا غرم؛ حدّث فكذب، ووعد فأخلف". وجاء في "النهاية": المَغْرَم: كالغُرْم، وهو الدَّيْن ويريُد به ما استدين فيما يكرهه الله، أو فيما يجوز ثمَّ عَجَز عن أدائه، فأمّا دَيْن احتاج إِليه وهو قادر على أدائه فلا يُستعاذ منه". (¬2) أخرجه البخاري: 832، ومسلم: 589 (¬3) أي: من شر ما فعلْت من السيئات. (¬4) من الحسنات يعني: من شر تركي العمل بها. (¬5) أخرجه النسائي بسند صحيح، وابن أبي عاصم في كتاب "السُّنة" (370) والزيادة له. (¬6) أخرجه أحمد والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.

عندك، وارحمني، إِنك أنت الغفور الرحيم" (¬1). 5 - وأمرَ عائشة -رضي الله عنها- أن تقول: "اللهمّ إِنّي أسألك من الخير كلهّ؛ [عاجله وآجله]؛ ما علمتُ منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كلّه [عاجله وآجله] ما علمتُ منه وما لم أعلم، وأسألك (وفي رواية: اللهمّ إِني أسألك) الجنة وما قرّب إِليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إِليها من قول أو عمل، وأسألك (وفي رواية: اللهمّ إِني أسألك) من [الـ] خير ما سألَك عبدك ورسولك [محمّد، وأعوذ بك من شر ما استعاذ منه عبدك ورسولك محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]، [وأسألك] ما قضيتَ لي من أمْر أن تجعل عاقبته [لي] رشداً" (¬2). 6 - و"قال لرجل: "ما تقول في الصلاة؟ " قال: أتشهّد، ثمَّ أسأل الله الجنّة، وأعوذ به من النار، أما والله ما أحسِن دندنتك (¬3) ولا دندنة معاذ، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (حولها ندندن) " (¬4). 7 - وسمع رجلاً يقول في تشهُّده: "اللهمّ إِني أسألك يا الله (وفي رواية: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 834، ومسلم: 2705 (¬2) أخرجه أحمد والطيالسي والبخاري في "الأدب المفرد" وابن ماجه والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وانظر "الصحيحة" (1542). (¬3) أي: مسألتك الخفية أو كلامك الخفيّ، والدندنة: أنْ يتكلم الرجل بكلام تسمع نغمته ولا يُفهَم، وضمير الهاء في قوله: "حولها" يعود للمقالة؛ أي: كلامنا قريب من كلامك. (¬4) أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة بسند صحيح.

26 - التسليم، والتسليمة الأولى ركن والثانية مستحبة:

بالله) [الواحد] الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد أن تغفر لي ذنوبي، إِنك أنت الغفور الرحيم. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قد غفر له، قد غفر له) " (¬1). 8 - وسمع آخر يقول في تشهّده أيضاً: "اللهمّ إِني أسألك بأنّ لك الحمد، لا إِله إلاَّ أنت [وحدك لا شريك لك]، [المنان]، [يا] بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإِكرام يا حي يا قيوم [إِني أسألك] [الجنة، وأعوذ بك من النار] [فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: تدرون بما دعا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (والذي نفسي بيده]؛ لقد دعا الله باسمه العظيم (وفي رواية: الأعظم) الذي إِذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى) " (¬2). 9 - وكان من آخِر ما يقول بين التشهد والتسليم: "اللهم اغفِر لي ما قدّمتُ، وما أخّرتُ، وما أسرَرْت، وما أعلنتُ، وما أسرفتُ، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدّم وأنت المؤخّر، لا إِله إِلا أنت" (¬3). 26 - التسليم، والتسليمة الأولى ركن والثانية مستحبّة: لِما تقدّم من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مفتاح الصلاة الطَّهور وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والنسائي، وأحمد وابن خزيمة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. (¬2) أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والبخاري في "الأدب المفرد"، والطبراني، وابن منده في "التوحيد" بأسانيد صحيحة. (¬3) أخرجه مسلم: 771، وأبو عوانة.

و"كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله"، حتى يُرى بياض خدّه الأيمن، وعن يساره: "السلام عليكم ورحمة الله"، حتى يُرى بياض خده الأيسر" (¬1). وكان أحياناً يزيد في الأولى: "وبركاته" (¬2). وكان أحياناً إِذا قال عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله" اقتصر -أحياناً - على قوله عن يساره: "السلام عليكم" (¬3)، وأحياناً "كان يسلم تسليمة واحدة: "السلام عليكم"، تلقاء وجهه، يميل إِلى الشق الأيمن شيئاً [أو قليلاً] " (¬4). قال شيخنا في "تلخيص صفة الصلاة" (ص 31): "ثمَّ يُسلّم عن يمينه وهو رُكن حتى يُرى بياض خدّه الأيمن". وقد نقل ابن المنذر الإِجماع على أنَّ من اقتصر في صلاته على تسليمة واحدة فقد اجزأَت. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 582 بنحوه وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه. (¬2) أخرجه أبو داود وابن خزيمة (1/ 87/2) بسند صحيح، وغيرهما، وصححه عبد الحقّ في "أحكامه" (56/ 2) وكذا النووى والحافظ ابن حجر، وانظر "صفة الصلاة" (187). (¬3) أخرجه النسائي وأحمد والسراج بسند صحيح. عن "صفة الصلاة" (188). (¬4) أخرجه الترمذي وغيره، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وابن الملقن في "الخلاصة"، وانظر للمزيد "صفة الصلاة" (188)، و"الإِرواء" (2/ 33)، و"الصحيحة" (316).

ما ورد في صفة الصلاة يستوي فيها الرجال والنساء

ما ورد في صِفة الصلاة يستوي فيها الرجال والنساء قال شيخنا في "الصفة" -بحذف-: "كلّ ما تقدّم من صفة صلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستوي فيه الرجال والنساء، ولم يَرِد في السنّة ما يقتضي استثناءُ النساء من بعض ذلك، بل إِنّ عموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلّوا كما رأيتموني أصلي" يشملُهُنّ، وهو قول إِبراهيم النخعي قال: "تفعَلُ المرأةُ في الصلاة كما يفعَلُ الرجل". أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 75/2) بسند صحيح عنه (¬1). وروى البخاري في "التاريخ الصغير" (ص95) بسند صحيح عن أمّ الدرداء: "أنها كانت تجلس في صلاتها جلسة الرجل، وكانت فقيهة". الأذكار والأدعية بعد السلام 1 - عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا انصرف من صلاته، استغفَر ثلاثاً، وقال: "اللهمّ أنت السلام ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإِكرام". قال الوليد (¬2) فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله، أستغفر الله (¬3). ¬

_ (¬1) وحديث انضمام المرأة في السجود، وأنها ليست في ذلك كالرجل؛ مُرسَل لا حجة فيه. رواه أبو داود في "المراسيل" (117/ 87) عن يزيد بن أبي حبيب، وهو مخرّج في "الضعيفة" (2652). (¬2) هو شيخ البخاري. (¬3) أخرجه مسلم: 591

2 - وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا سلّم، لم يقعد إلاَّ مقدار ما يقول: اللهمّ أنت السلام ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإِكرام" (¬1). عن ورّاد كاتب المغيرة بن شعبة قال: "أَملى عليَّ المغيرة بن شعبة في كتاب إِلى معاوية؛ أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في دُبر كلِّ صلاة مكتوبة: لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير، اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطيَ لما منعْت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ، وقال شعبة عن عبد الملك بهذا عن الحكم عن القاسم بن مُخَيمِرة عن ورَّادٍ بهذا، وقال الحسن الجَدُّ: الغنى". (¬2) 3 - عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ بيده وقال: "يا معاذ! إِنِّي والله لأحبُّك، فلا تدعَنَّ في دُبُر كلِّ صلاة أن تقول: اللهمّ أعنِّي على ذكركَ وشُكرك، وحُسن عبادتك" (¬3). 4 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء الفقراء إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا ذهب أهل الدثور (¬4) من الأموال بالدرجات العُلا والنّعيم المقيم، يُصلّون كما نُصلّي ويصومون كما نصوم، ولهم فضلٌ من أموالٍ يحجّون بها ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 592 (¬2) أخرجه البخاري: 844، ومسلم: 593 (¬3) أخرجه أبو داود والنسائي، وقال شيخنا في "الكلم الطيب" (ص 70): وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات. (¬4) الدثور: جمع دَثْر، وهو المال الكثير.

ويعتمرون ويجاهدون ويتصدّقون قال: ألا أحدّ ثكم إِنْ أخذتم أدركتم مَن سبقكم ولم يدْركْكُم أحدٌ بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلاَّ من عمل مثله؟ تُسبِّحون وتحمَدون وتُكبّرون خلف كلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين، فاختلفنا بيننا فقال بعضُنا: نسبّح ثلاثاً وثلاثين، ونحمد ثلاثا وثلاثين، ونكبّر أربعاً وثلاثين، فرجعتُ إِليه، فقال: تقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر، حتى يكون منهنّ كلهِّن ثلاثٌ وثلاثون" (¬1). 5 - عن أبي الزبير؛ قال: كان ابن الزبير يقول في دُبُر كلّ صلاة حين يسلّم: "لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، لا إِله إلاَّ الله، ولا نعبد إلاَّ إِيّاه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إِله إلاَّ الله مُخلِصين له الدين ولو كَره الكافرون، وقال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهلّل بهنّ دُبُر كلِّ صلاة" (¬2). 6 - عن كعب بن عُجْرَة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مُعقّبات (¬3) لا يَخِيب قائلهنّ (أو فاعلهنّ) ثلاثٌ وثلاثون تسبيحة، وثلاثٌ وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة؛ في دُبر كلّ صلاة" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 843، ومسلم: 595 (¬2) أخرجه مسلم: 594 (¬3) سُميت معقّبات لأنها تُقال عَقيب الصلاة، كما في "النهاية". قال شيخنا في "الصحيحة" (102): (والحديث نصٌّ على أنّ هذا الذكر؛ إِنْما يُقال عقب الفريضة مباشرة ... ". (¬4) أخرجه مسلم: 596

7 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من سبّح الله في دُبُر كلّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين، وحَمِد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون. وقال تمام المائة: لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير -غُفِرت خطاياه وإن كانت مثلَ زبد البحر" (¬1). 8 - عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خَصلتان أو خلّتان، لا يحافظ عليهما عبدٌ مسلم إلاَّ دخل الجنّة. وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل: يُسبّح الله في دبر كلِّ صلاةٍ عشراً، ويحمَدهُ عشراً، ويكبرهُ عشراً، وذلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان. ويكبر أربعاً وثلاثين إِذا أخذ مضجعه، ويحمده ثلاثاً وثلاثين، ويسبح ثلاثاً وثلاثين، فذلك مائةٌ باللسان وألف في الميزان. قال: فلقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعقدها بيده، قالوا: يا رسول الله كيف هما يسير، ومن يعمل بهما قليل؟ قال: يأتي أحدكم -يعني الشيطان في منامه- فينوّمه قبل أن يقول، ويأتيه في صلاته، فيذكّره حاجته قبل أن يقولها" (¬2). 9 - وعن عقبة بن عامر قال: "أمرَني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقرأ المعوّذات دبرَ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 597 (¬2) أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وهو في "الكلم الطيب" (111)، وقد استوفيت شرحه في "شرح صحيح الأدب المفرد".

كلّ صلاة" (¬1). 10 - عن أبي أسامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قرأ آية الكُرسي في دُبُر كلّ صلاة، لم يَحُلْ بينه وبين دخول الجنّة إلاَّ الموت" (¬2). 11 - عن رجل من الأنصار قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في دُبُر الصلاة: "اللهم اغفِر لي، وتُب عليّ، إِنك أنت التوّاب الغفور" (¬3). 12 - عن أُمّ سلمة -رضي الله عنها- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول إِذا صلّى الصبِّح حين يُسلّم: "اللهمّ إِنّي أسألك عِلماً نافعاً ورِزقاً طيباً وعملاً متقبّلاً" (¬4). 13 - عن عبد الرحمن بن غَنْم عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "من قال قبل أن ينصرف ويَثنيَ (¬5) رجليه من صلاة المغرب والصبح: لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له المُلك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كلِّ شيءٍ قدير عشرَ مرات، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال شيخنا في "الكَلِم الطيب" (112): "وأخرجه أحمد وسنده صحيح، وصحّحه ابن حبّان". (¬2) أخرجه النسائي وغيره، وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الصحيحة" (972). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المسند"، وغيره وصححه شيخنا في "الصحيحة" (2603). (¬4) أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (753) وغيرهم، وانظر "تمام المنّة" (233). (¬5) "أي: لا يصرف رجله عن حالتها التي هي عليها في التشهّد". وانظر "النهاية".

كتَب الله له بكل واحدةٍ عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورَفع له عشرَ درجاتٍ، وكانت حرزاً من كل مكروه، وحرزاً من الشيطان الرجيم، ولم يَحِلَّ لذنبٍ أن يُدركه إلاَّ الشرك، وكان من أفضل الناس عملاً، إلاَّ رجلاً يَفضُله، يقول أفضل ممّا قال" (¬1). 14 - عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من قال دُبر صلاة الغداة: "لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، مائة مرة، قبل أن يَثني رجليه، كان يومئذ من أفضل أهل الأرض عملاً، إلاَّ من قال مثل ما قال، أو زاد على ما قال" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وغيره، وهو حسن لغيره، انظر "صحيح الترغيب والترهيب" (472)، وانظر "الصحيحة" (114 و2563) (¬2) أخرجه الطبري بإِسناد جيد وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (471)، و"الصحيحة" (2664).

صلاة التطوع

صلاة التطوّع فضلها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ أوّل ما يحاسَب به العبدُ يوم القيامة من عمله صلاته، فإِنْ صَلَحت فقد أفلح وأنجح، وإنْ فسدت خاب وخسر، وإن انتقص من فريضته قال الله تعالى: انظروا هل لعبدي من تطوُّع يُكمل به ما انتقص من الفريضة؟ ثمَّ يكون سائر عمله على ذلك" (¬1). استحبابها في البيت عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: " ... عليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإِنَّ خير صلاة المرء في بيته إلاَّ الصلاة المكتوبة" (¬2). عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده؛ فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإِنَّ الله جاعلٌ في بيته من صلاته خيراً" (¬3). عن ابن عمر عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (538)، و"صحيح سنن ابن ماجه" (1172). (¬2) أخرجه البخاري: 6113، ومسلم: 781 (¬3) أخرجه مسلم: 778 (¬4) أخرجه البخاري: 432، ومسلم: 777

فضل طول القيام

عن زيد بن ثابت أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا، إلاَّ المكتوبة" (¬1). وعن أنس وجابر قالا: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلّوا في بيوتكم، ولا تتركوا النوافل فيها" (¬2). فضل طول القيام (¬3) عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: إِنْ كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليقوم -أو ليصلِّي- حتى تَرمُ (¬4) -قدماه أو ساقاه- فقال له؟ فيقول: "أفلا أكون عبداً شكوراً؟ " (¬5). وعن عبد الله بن حُبشِي الخثعمي أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل: أي: الصلاة أفضل؟ قال: "طول القيام" قيل: فأيّ الصدقة أفضل؟ قال: "جهد المُقِلِّ" (¬6) قيل: فأيّ الهجرة أفضل؟ قال: "من هجر ما حرّم الله عليه" قيل: فأيّ الجهاد ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (22) والترمذي، وانظر "المشكاة" (1300). (¬2) أخرجه الدارقطني في "الأفراد"، وانظر "الصحيحة" (1910). (¬3) انظر "فقه السنّة" (ص 182). (¬4) هكذا بالرفع وجوّز القسطلاني فيه الوجهين، وهي من الورم أو الانتفاخ وقيل التشقّق، ولا تعارُض فإِنّه إِذا حصل الانتفاخ أو الورم حصل التشقق. انظر "الفتح" (3/ 15). (¬5) أخرجه البخاري: 1130 (¬6) المُقِلّ: ذو المال القليل، وجُهد المُقِلّ أي: قدْر ما يحتمله حال القليل المال، وانظر "النهاية".

القيام في النفل

أفضل؟ قال: "من جاهد المشركين بماله ونفسه" قيل: فأيّ القتل أشرف؛ قال: "من أهريق دمه وعُقِر (¬1) جواده" (¬2). القيام في النّفل تجوز الصلاة قاعداً مع القدرة على القيام، كما في حديث عمران بن حصين، وكان مَبْسوراً (¬3) قال: "سألتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الرجل قاعداً فقال: إِنْ صلّى قائماً فهو أفضل، ومن صلّى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلّى نائماً فله نصف أجر القاعد" (¬4). وعن عبد الله بن عمر قال: "حُدِّثت أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة"" (¬5). قال الخطابي: "المراد بحديث عمران المريض المفترض الذي يمكنه أن يتحامل فيقوم مع مشقة، فجعل أجر القاعد على النصف من أجر القائم؛ ترغيباً له في القيام مع جواز قعوده"، قال الحافظ في "الفتح" (2/ 468): "وهو حمْل متجه" (¬6). ¬

_ (¬1) أصل العقر: ضرب قوائم الحيوان بالسيف وهو قائم، والجواد هو الفرس السابق الجيّد. "عون المعبود" (4/ 227). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1286) وانظر "المشكاة" (3833). (¬3) أي: كانت به بواسير، وهو ورم في باطن المقعدة. (¬4) أخرجه البخاري: 1115 (¬5) أخرجه مسلم: 735 (¬6) ونقله شيخنا في "صفة الصلاة" (ص 78).

جواز فعل بعض الركعة قائما وبعضها قاعدا

جواز فِعل بعض الركعة قائماً وبعضها قاعداً عن عبد الله بن شقيق قال: سألتُ عائشةَ عن صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ عن تطوُّعه؟ فقالت: "كان يُصلّي في بيتي قبل الظهر أربعاً، ثمَّ يخرج فيصلّي بالناس ثمَّ يدخل فيصلّي ركعتين، وكان يصلّي بالناس المغرب، ثمَّ يدخل فيصلِّي ركعتين، ويصلّي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلّي ركعتين، وكان يصلّي من الليل تسع ركعاتٍ فيهنَّ الوتر، وكان يصلّي ليلاً طويلاً قائماً وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إِذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعداً، ركع وسجد وهو قاعد، وكان إِذا طلع الفجر صلّى ركعتين" (¬1). عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما رأيتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في شيء من صلاة الليل جالساً حتى إِذا كَبَّر قرأ جالساً، فإِذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية؛ قام فقرأهنّ، ثمَّ ركع" (¬2). أنواعها: تُقسَم صلاة التطوع إِلى قسمين: مطلقة ومقيّدة: والمقيدة: تسمّى بالسنن الراتبة، وهي قسمان: مؤكّدة وغير مؤكّدة. السنن المؤكّدة: أولاً: سنة الفجر: فضلها: عن عائشة -رضي الله عنها- "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن على شيءٍ من ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم:730 (¬2) أخرجه البخاري: 1148، ومسلم: 731

تخفيفها:

النوافل أشدّ معاهدة منه على الركعتين قبل الصبح" (¬1). وعنها -رضي الله عنها- قالت: "ما رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شيء من النوافل أَسرع منه إِلى الركعتين قبل الفجر" (¬2). وعنها -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها" (¬3). تخفيفها: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخفّف القراءة في ركعتي الفجر. فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخفّف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح؛ حتى إنّي لأقول: هل قرأ بأمّ الكتاب؟ " (¬4). ما يقرأ فيها: يستحب القراءة في ركعتي الفجر بما ورد في الأحاديث الآتية: 1 - عن أبي هريرة "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في ركعتي الفجر: {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} " (¬5). 2 - وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد "سمع رجلاً يقرأ السورة الأولى في الركعة الأولى فقال: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1169، ومسلم: 724 (¬2) أخرجه مسلم: 724 (¬3) أخرجه مسلم: 725 (¬4) أخرجه البخاري: 1171، ومسلم: 724 (¬5) أخرجه مسلم: 726

"هذا عبدٌ آمَن بربّه"، ثمَّ قرأ السورة الثانية في الركعة الأُخرى فقال: هذا عبد عَرف ربه" (¬1). وعن ابن عبّاس أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في ركعتي الفجر؛ في الأولى منهما: {قولوا آمنّا بالله وما أنُزِل إِلينا} (¬2)، الآية التي في البقرة، وفي الآخرة منهما: {آمنّا بالله واشهدْ بأنّا مسلمون} (¬3) " (¬4). وفي رواية: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في ركعتي الفجر: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إِلينا} والتي في آل عمران (¬5): {تعالَوا إِلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم} " (¬6). 3 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلِّي أربعاً قبل الظهر، وركعتين قبل الفجر لا يدَعُهما قالت: وكان يقول: نعمت السورتان يقرأ بهما في ركعتين قبل الفجر: {قل هو الله أحد} و {قل يا أيها الكافرون} " (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي وابن حبان في "صحيحه" وابن بشران، وحسّنه الحافظ في "الأحاديث العالية" (رقم 16) عن "صفة الصلاة" (ص 112). (¬2) البقرة: 136 (¬3) آل عمران: 52 (¬4) أخرجه مسلم: 727 (¬5) آية: 64 (¬6) أخرجه مسلم: 727 (¬7) أخرجه أحمد وابن خزيمة في "صحيحه"، وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (646).

الاضطجاع بعدها

الاضطجاع بعدها عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلّي ركعتين فإِنْ كنتُ مستيقظة حدّثني، وإلاَّ اضطجع" قلت لسفيان (¬1) فإِنّ بعضهم يرويه ركعتي الفجر، قال سفيان هو ذاك" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا صلّى ركعتي الفجر؛ اضطجع على شقّه الأيمن" (¬3). والذي يبدو أنَّ الاضطجاع لمن احتاج إِليه ليريح نفسه من دأب القيام ونحوه، لذلك كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحدّث عائشة حين تكون مستيقظة، ولا يضطجع حتى يؤذَّن بالصلاة كما تقدّم، لذلك بوب له البخاري -رحمه الله- بقوله: (باب من تحدّث بعد الركعتين ولم يضطجع) والله تعالى أعلم. قضاؤها بعد طلوع الشمس أو بعد صلاة الفريضة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يصلِّ ركعتي الفجر؛ فليصلّهما بعد ما تطلعُ الشمس" (¬4). وعن قيس بن عمرو قال: رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يصلّي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاة الصبح ركعتان" فقال الرجل: ¬

_ (¬1) القائل: علي بن عبد الله الراوي عنه. (¬2) أخرجه البخاري: 1168 (¬3) أخرجه البخاري: 1160 (¬4) أخرجه الترمذي وابن خزيمة وابن حبّان والحاكم والبيهقي وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وخرّجه شيخنا في "الصحيحة" (2361).

سنة الظهر

إِني لم أكُنْ صليتُ الركعتين اللتين قبلهما، فصلّيتهما الآن، فسكت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬1). عن أبي جحيفة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه "كان في سفره الذي ناموا فيه حتى طلعَت الشمس، فقال: إِنكم كنتم أمواتاً؛ فردَّ الله إِليكم أرواحكم، فمن نام عن صلاة؛ فليصلّها إِذا استيقظ، ومن نسي صلاة؛ فليصلِّ إِذا ذكر" (¬2). سنّة الظُّهر لقد وردَت عدة نصوص في عددها، منها أنّها أربع ومنها أنها ست ومنها أنها ثمان. ما وَرد أنها أربع ركعات: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: حفظتُ من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح، وكانت ساعةً لا يُدخَل على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها" (¬3). قال الحافظ في "الفتح" (¬4): "والأَولى أن يُحمَل على حالين: فكان تارة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1128). (¬2) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" والطبراني في "الكبير" وانظر "الصحيحة" (396). (¬3) أخرجه البخاري: 1180، مسلم: 729 (¬4) (3/ 58) بحذف.

ما ورد أنها ست ركعات:

يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعاً، وقيل: هو محمول على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته يصلّي أربعاً، ويُحتمَل أن يكون يصلّي إذا كان في بيته ركعتين، ثمَّ يخرج إِلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته، واطلعت عائشة على الأمرين، قال أبو جعفر الطبري: الأربع كانت في كثير من أحواله، والركعتان في قليلها". والراجح عندى الحال الأول الذي ذكره الحافظ -رحمه الله تعالى- أنَّه تارة يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعاً، وبهذا يتأسّى المرء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيفعل هذا بحسب نشاطه، والله تعالى أعلم. ما ورد أنها ستّ ركعات: 1 - عن عبد الله بن شقيق قال: "سألْتُ عائشة -رضي الله عنها- عن صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تطوّعه؟ فقالت: كان يصلّي في بيتي قبل الظهر أربعاً، ثمَّ يخرج فيصلّي بالناس، ثمّ يدخل فيصلي ركعتين ... " (¬1). 2 - عن أم حَبيبة رملة -رضي الله عنها- قالت: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى في كلّ يوم ثنتي عشْرة ركعة تطوعاً غير فريضة؛ إِلاَّ بنى الله تعالى له بيتاً في الجنّة، أو: إلاَّ بُني له بيتٌ في الجنّة" (¬2). ما ورَد أنها ثمان ركعات: عن أمّ حَبيبة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من صلّى قبل الظهر أربعاً، وبعدها ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 730، وتقدّم. (¬2) أخرجه مسلم: 728

فضل الأربع قبل الظهر:

أربعاً، حرّمه الله على النار" (¬1). فضل الأربع قبل الظهر: عن عبد الله بن السائب -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلّي أربعاً بعد أن تزول الشمس قبل الظهر (¬2)، وقال: "إِنها ساعةٌ تُفتح فيها أبواب السماء، فأُحِبّ أن يصعد لي فيها عملٌ صالح" (¬3). وعن عائشة -رضي الله عنها- " أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يدَع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة" (¬4). إِذا صلّى أربعاً قبل الظهر أو بعده فهل يسلّم بعد كلّ ركعتين؟ يجوز أن يصلّيها دون أن يفصل بينها بالتسليم، والأفضل أن يسلّم بعد كلّ ركعتين، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" (¬5). قال شيخنا في "تمام المنّة" (240): " ... ويؤيده صلاة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1130)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (352)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1708)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (951)، وانظر "المشكاة" (1167). (¬2) أي: قبل فريضة الظهر. (¬3) أخرجه أحمد وغيره، عن "صحيح الترغيب والترهيب" (583). (¬4) أخرجه البخاري: 1182 (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1151)، وابن خزيمة "صحيح ابن خزيمة" (1210)، وانظر "تمام المنّة" (239).

قضاء سنة الظهر القبلية:

فتح مكة صلاة الضحى ثماني ركعات يسلّم من كلّ ركعتين". وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود بإِسناد صحيح على شرطهما وهو في "الصحيحين" دون التسليم، وقال الحافظ في "الفتح" (3/ 41): "أخرجه ابن خزيمة وفيه ردٌّ على من تمسَّك به في صلاتها موصولة؛ سواء صلّى ثمان ركعات أو أقل. قلت: فهذا الحديث يستأنس به على أنّ الأفضل التسليم بعد كل ركعتين في الصلاة النهارية. والله أعلم". قضاء سنة الظهر القبلية: عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان إِذا لم يصلِّ أربعاً قبل الظهر؛ صلاَّهنّ بعدها" (¬1). قضاء سنّة الظهر البعدية: عن كُريب أنَّ ابن عباس والمِسور بن مَخرَمَة وعبد الرحمن بن أزهر -رضي الله عنهم- أرسلوه إِلى عائشة -رضي الله عنها- فقالوا اِقرَأ عليها السلام منَّا جميعاً وسلْها عن الركعتين بعد صلاة العصر، وقل لها: إِنّا أُخبرنا أنّكِ تُصلينهما، وقد بلغَنا أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنها، وقال ابن عباس: وكنتُ أضربُ الناس مع عمر بن الخطاب عنها قال كُريب فدخلتُ على عائشة -رضي الله عنها- فبلّغتُها ما أرسلوني فقالت: سل أمّ سلمة فخرَجْتُ إِليهم فأخبرتهم بقولها، فردُّوني إِلى أمّ سلمة بمِثل ما أرسلوني به إِلى عائشة، فقالت أمّ سلمة -رضي الله عنها- سمعْت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عنها، ثمَّ رأيته ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (350)، وإسناده صحيح كما في "تمام المنة" (ص 241).

سنة المغرب

يصليهما حين صلّى العصر، ثمَّ دخل عليَّ وعندي نسوةٌ من بني حرامٍ من الأنصار، فأرسلتُ إِليه الجارية فقلتُ: قُومِي بجنبه قُولِي لهُ: تقول لك أمُّ سلمة يا رسول الله سمعْتك تنهى عن هاتين وأراك تُصليهما، فإِنْ أشار بيده، فاستأخري عنه، ففعَلت الجارية فأشار بيده فاستأخَرت عنه، فلمّا انصرف قال: يا ابنة أبي أُمية سألتِ عن الركعتين بعد العصر، وإنَّه أتاني ناسٌ من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان" (¬1). سنّة المغرب قد ورد عدد من النصوص أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلّي ركعتين بعد المغرب ومن ذلك حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: حفظتُ من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشر ركعات ... وذكر منها ركعتين بعد المغرب" (¬2). استحباب أدائها في البيت: قد تقدّم استحباب صلاة التطوّع في البيوت، وقد وردَت نصوصٌ خاصّة في استحباب صلاة الركعتين بعد المغرب في البيوت كذلك. فعن كعب بن عُجْرة؛ "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى مسجد بني عبد الأشهل، فصلّى فيه المغرب، فلمّا قضوا صلاتهم رآهم يسبّحون (¬3) بعدها فقال: هذه صلاة البيوت" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1233، ومسلم: 835 (¬2) أخرجه البخاري: 1180 (¬3) أي: يصلّون السُّبحة، أي: النافلة. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح أبي داود" (1115) وغيره، وانظر "المشكاة" (1182).

سنة العشاء

وفي رواية من حديث رافع بن خَدِيج قال: أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بني عبد الأشهل، فصلى بنا المغرب في مسجدنا، ثمُّ قال: "اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم" (¬1). سنّة العشاء تقدّم عدد من الأحاديث في سنّة الركعتين بعد العشاء من ذلك حديث البخاري: (1180) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "حفظْت من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشر ركعات ... " وذكر منها ركعتين بعد العشاء. السُّنن غير المؤكّدة 1 - ركعتان قبل العصر: لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بين كلّ أذانين صلاة، بين كلّ أذانين صلاة، ثمَّ قال في الثالثة لمن شاء" (¬2). ويُستحب المحافظة على أربع قبل العصر، لما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رحم الله امرءاً صلّى قبل العصر أربعاً" (¬3). وعن عليّ -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي قبل العصر ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده وغيره، وانظر "صحيح ابن خزيمة" (1200)، و"صحيح سنن ابن ماجه" (956). (¬2) أخرجه البخاري: 627، ومسلم: 838 (¬3) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنّه، وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (584).

2 - ركعتان قبل المغرب:

أربع ركعات، يفصل بينهنّ بالتسليم على الملائكة المقربين، ومن تبِعهم من المسلمين والمؤمنين" (¬1). 2 - ركعتان قبل المغرب: للحديث السابق ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلّوا قبل صلاة المغرب -قال: في الثالثة- لمن شاء كراهية أن يتخذها الناسُ سنّة" (¬2). 3 - ركعتان قبل العشاء: للحديث المتقدّم: "بين كلّ أذانين صلاة ... ". ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من صلاة مفروضة، إلاَّ وبين يديها ركعتان" (¬3). الفصل بين الفريضة والنافلة عن عمر بن عطاء بن أبي الخُوار؛ "أنَّ نافع بن جبير أرسلَه إِلى السائب، ابن أخت نمِر، يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة، فقال: نعم، صلَّيت معه الجمعة في المقصورة (¬4)، فلما سلّم الإِمام قمت في مقامي فصلَّيت، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (353) والنسائي، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (95)، وانظر "الصحيحة" (237). (¬2) أخرجه البخاري: 1183 (¬3) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" والطبراني في "المعجم الكبير" وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الصحيحة" (232). (¬4) هي حجرة خاصّة مفصولة عن الغُرف المجاورة فوق الطابق الأرضي. "الوسيط". وفي "اللسان" المقصورة: "الدار المحصّنة الواسعة ومقام الإِمام". قال النووى (6/ 170): "فيه دليل على جواز اتخاذها في المسجد إِذا رآها وليّ الأمر مصلحة، قالوا: وأوّل من عملها معاوية بن أبي سفيان حين ضرَبه الخارجي. =

الوتر

فلما دخَل أرسل إِليّ فقال: لا تعُد لما فعلت، إِذا صلَّيت الجمعة فلا تَصِلْها بصلاة حتى تَكَلّم أو تخرُج. فإِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَرَنا بذلك. أن لا تُوصَل صلاة بصلاةٍ حتى نتكلَّم أو نخرج" (¬1). وهذا عامٌّ غير مخصوص بالجمعة لقول معاوية -رضي الله عنه-: "فإِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَرنا بذلك، أن لا تُوصَل صلاة بصلاة ... ". الوتر (¬2) حُكمه وفضله: الوتر سنّة مؤكّدة حضّ عليه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فعن عليّ -رضي الله عنه- قال: الوترُ ليس بحتْم كصلاة المكتوبة، ولكن سنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ الله وترٌ يحبّ الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن". (¬3) عن ابن محيريز: أنَّ رجلاً من كِنَانَة يدعى المُخدجي سمع رجلاً بالشام ¬

_ = قال القاضي: واختلفوا في المقصورة، فأجازها كثيرون من السلف ... وكرهها ابن عمر والشعبي وأحمد وإسحاق". (¬1) أخرجه مسلم: 883 (¬2) الوِتر بالكسر: الفرد وبالفتح الثأر "الفتح"، وفي النهاية: وتكسر واوه وتُفتَح. (¬3) أخرجه أبو داود والترمذي واللفظ له والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة في "صحيحه"، وقال الترمذي: حديث حسن، قاله المنذري في "الترغيب والترهيب"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (588).

يُدعى أبا محمّد يقول: إِنَّ الوتر واجب، قال المُخدجي: فرُحتُ إِلى عبادة بن الصامت فأخْبرته فقال عبادة: كذَب (¬1) أبو محمّد، سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "خمسُ صلوات كتبهنّ الله على العباد، فمن جاءَ بهنّ لم يُضيّع منهن شيئاً استخفافاً بحقّهنّ؛ كان له عند الله عهدٌ أن يُدخله الجنّة، ومن لم يأت بهنّ؛ فليس له عند الله عهد، إِن شاء عذَّبه، وإنْ شاء أدخله الجنّة" (¬2). قال شيخنا في "الصحيحة" (1/ 222) بعد أن ذكر حديث "إِن الله زادكم صلاة، وهي الوتر ... " (¬3): "يدل ظاهر الأمر في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فصلُّوها" على وجوب صلاة الوتر، وبذلك قال الحنفية؛ خلافاً للجماهير، ولولا أنّه ثبَت بالأدلة القاطعة حصْر الصلوات المفروضات في كلّ يوم وليلة بخمس صلوات؛ لكان قول الحنفية أقرب إِلى الصواب، ولذلك فلا بدَّ من القول بأنّ الأمر هنا ليس للوجوب، بل لتأكيد الاستحباب، وكم من أوامرَ كريمةٍ صُرفت من الوجوب بأدنى من تلك الأدلة القاطعة، وقد انفكّ الأحناف عنها بقولهم: إِنهم لا يقولون بأن الوتر واجب كوجوب الصلوات الخمس، بل هو واسطة بينها وبين السنن، أضعف من هذه ثبوتاً، وأقوى من تلك تأكيداً! فليعلم أنّ قول الحنفية هذا قائم على اصطلاح لهم خاص حادث، لا تعرفه الصحابة ولا السلف الصالح، وهو تفريقهم بين الفرض والواجب ثبوتاً وجزاء؛ ¬

_ (¬1) أي: أخطأ وفي "لسان العرب": وقد استعمَلت العرب الكذب في موضع الخطأ، وذكَر بيت الأخطل: "كَذَبتك عينك أم رأيت بواسط .... ". (¬2) أخرجه مالك وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1258) والنسائي وابن حبان في "صحيحه" وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (363)، وتقدّم. (¬3) سيأتي بتمامه وتخريجه إِن شاء الله في (وقت الوتر).

وقته

كما هو مفصَّل في كتبهم. وإِنّ قولهم بهذا معناه التسليم بأن تارك الوتر معذّب يوم القيامة عذاباً دون عذاب تارك الفرض؛ كما هو مذهبهم في اجتهادهم، وحينئذ يقال لهم: وكيف يصحّ ذلك مع قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن عزم على أن لا يصلي غير الصلوات الخمس: "أفلح الرجل"؟! وكيف يلتقي الفلاح مع العذاب؟! فلا شكَّ أن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا وحده كاف؛ لبيان أن صلاة الوتر ليست بواجبة، ولهذا اتفق جماهير العلماء على سنيَّته وعدم وجوبه، وهو الحقّ. نقول هذا مع التذكير والنصح بالاهتمام بالوتر، وعدم التهاون عنه؛ لهذا الحديث وغيره، والله أعلم". وقته يبدأ وقت الوتر من بعد صلاة العشاء حتى الفجر. عن أبي تميم الجيشاني أنَّ عمرو بن العاص خطب الناس يوم الجمعة فقال: إِنَّ أبا بصرة حدّثني أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ الله زادكم صلاةً، وهي الوتر، فصلّوها بين صلاة العشاء إِلى صلاة الفجر" (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "مِن كلِّ الليل قد أوتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مِن أوّل الليل وأوسطه وآخره. فانتهى وِتْرهُ إِلى السَّحَر" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وغيره وانظر "الصحيحة" (108)، و"الإِرواء" (423)، و"صحيح سنن ابن ماجه" (958). (¬2) أخرجه البخاري: 996، ومسلم: 745

من خاف أن لا يستيقظ من آخر الليل فليوتر أوله:

من خاف أن لا يستيقظ من آخر الليل فليوتر أوله: عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوّله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإِنَّ صلاة آخِر الليل مشهودة (¬1). وذلك أفضل". وقال أبو معاوية: "محضورة" (¬2). وفي رواية: "أيكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر ثمَّ ليرقد، ومن وثَقِ بقيامٍ من الليل فليوتر من آخره فإِنّ قراءة آخر الليل محضورة وذلك أفضل" (¬3). وعن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر: "أيَّ حينٍ توتر؟ قال: أوّل الليل بعد العتمة، قال: فأنت يا عمر؟ فقال: آخر الليل، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمَّا أنت يا أبا بكر فأخذت بالوُثقى، وأمَّا أنت يا عمر فأخذت بالقوة" (¬4). وعن سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الذي لا ينام حتى يوتر حازم (¬5) " (¬6). ¬

_ (¬1) أي: تشهدها الملائكة. (¬2) أخرجه مسلم: 755. (¬3) أخرجه مسلم: 755. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1271)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (988)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1084). (¬5) الحزم: ضَبْط الرجل أمرَه والحذر من فواته، من قولهم حزمْتُ الشيء: أي شددْته. "النهاية". (¬6) أخرجه أحمد وغيره وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الصحيحة" (2208).

عدد ركعات الوتر:

عدد ركعات الوتر: أقلّ الوتر ركعة، لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رجلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الليل، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإِذا خشي أحدكم الصبح؛ صلّى ركعةً واحدة، توتِر له ما قد صلّى" (¬1). وفي رواية "للبخاري" (993): "صلاة الليل مثنى مثنى، فإِذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر ما قد صلّيت". قال القاسم ورأينا أناساً منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإِنَّ كلاًّ لواسع؛ أرجو أن لا يكون بشيء منه بأس. وأعلاه إِحدى عشرة ركعة؛ كما في حديث عائشة عن أبي سلمة أنَّه سأَلَ عائشة -رضي الله عنها- كيف كانت صلاةُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان فقالت: ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزيد في رمضان ولا في غيره على إِحدى عشرة ركعة؛ يصلّي أربعاً فلا تسَلْ عن حُسنهنّ وطولهنّ، ثمَّ يُصلِّي أربعاً فلا تسَل عن حُسنهنّ وطولهنّ، ثمَّ يُصلِّي ثلاثاً" (¬2). بيْد أنَّه قد ثبت أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى ثلاث عشرة ركعة لحديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بثلاث عشرة، فلما كبُر وضعُف، أوتر بسبع" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 990، ومسلم: 749 (¬2) أخرجه البخاري: 1147، ومسلم: 738 (¬3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (379)، وفيه: " ... قال إسحاق بن إبراهيم: معنى ما روي أنَّ النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بثلاث عشرة ركعة قال: إِنَّما معناه إِنّه =

وفي "صحيح مسلم" (737): عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي من الليل ثلاث عشرة ركعة؛ يوتر من ذلك بخمس؛ لا يجلس في شيء إِلا في آخرها". وقد ورد في رواية أخرى لمسلم (737): "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلّي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر". وفي "صحيح البخاري": (992) من حديث ابن عباس أنَّه بات عند ميمونة، فذكر الحديث وفيه: "ثمَّ صلى ركعتين، ثمَّ ركعتين، ثمَّ ركعتين، ثمَّ ركعتين، ثمَّ ركعتين، ثمَّ ركعتين، ثمَّ أوتر، ثمَّ اضطجع حتى جاءه المؤذّن فقام فصلّى ركعتين، ثمَّ خَرج فصلّى الصبح". وفي "صحيح سنن ابن ماجه" (981): من حديث أمّ سلمة -رضي الله عنها- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلّي بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس". وفيه أيضاً برقم: (982): عن أبي سلمة؛ قال حدَّثتني عائشة قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بواحدة، ثمَّ يركع ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس. فإِذا أراد أن يركع، قام فركع". فهذه ثلاث عشرة ركعة خلا سنّة الصبح. ويجوز الوتر بثلاث وخمس وسبع؛ لحديث أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الوتر حقٌ، فمن شاء فليوتر بخمس، ومن ¬

_ = كان يصلي من الليل ثلاث عشرة مع الوتر، فنسبت صلاة الليل إِلى الوتر ... "، انظر -إِن شئت- للمزيد من الفائدة "تمام المنّة" (ص250).

صفته:

شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة" (¬1). ويجوز الوتر بتسع لحديث عائشة قالت: "كُنّا نُعِدّ له سواكه وطهوره، فيبعثه الله (¬2) ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضّأ ويصلّي تسع ركعات، لا يجدس فيها إلاَّ في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثمَّ ينهض ولا يُسلّم، ثمَّ يقوم فيصلّي التاسعة، ثمَّ يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثمَّ يسلّم تسليماً يُسمعنا، ثمَّ يصلّي ركعتين بعد ما يسلّم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، يا بُنيّ (¬3) فلما سنّ (¬4) نَبِيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأخذهُ اللحمُ (¬5) أوتر بسبعٍ. وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأوّل، فتلك تسع يا بُنيَّ ... " (¬6). صفته (¬7): 1 - يصلي ثلاث عشرة ركعة يفتتحها بركعتين خفيفتين، وفيه أحاديث: الأول: حديث زيد بن خالد الجهني أنه قال: "لأرمقنّ (¬8) صلاة رسول الله ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1260)، والنسائي، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (978)، وانظر "المشكاة" (1265). (¬2) أي: يوقظه. (¬3) المخاطب سعد بن هشام. (¬4) في بعض النُسخ أسنّ. (¬5) الظاهر أنَّ معناه كثُر لحمه كما ذكر بعض العلماء. (¬6) أخرجه مسلم: 746، وتقدّم بعضه. (¬7) عن "صلاة التراويح" (ص 86) بتصرّف. (¬8) أي لأنظرنّ نظراً طويلاً، قال بعض العلماء: "أي لأطيلنّ النظر إِلى صلاته حتى =

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الليلة، فصلّى ركعتين خفيفتين ثمَّ صلّى ركعتين طويلتين طويلتين، ثمَّ صلّى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثمَّ صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثمَّ صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثمَّ صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثمَّ أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة" (¬1). الثاني: حديث ابن عباس قال: "بتُّ عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة وهو عند ميمونة، فنام حتى ذهب ثلث الليل أو نصفه استيقظ فقام إِلى شن (¬2) فيه ماء فتوضّأ، وتوضّأتُ معه، ثمَّ قام فقمتُ إِلى جنبه على يساره، فجعلني على يمينه، ثمَّ وضع يده على رأسي كأنه يمسّ أذني كأنّه يوقظني، فصلّى ركعتين خفيفتين، قد قرأ فيها بأمّ القرآن في كل ركعة، ثمَّ سلّم، ثمَّ صلى حتى صلّى إِحدى عشرة ركعة بالوتر ثمَّ نام، فأتاه بلال، فقال: الصلاة يا رسول الله، فقام فركع ركعتين، ثمَّ صلّى بالناس" (¬3). الثالث: حديث عائشة قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قام من الليل، افتتح صلاته بركعتين خفيفتين (¬4)، ثمَّ صلّى ثمان ركعات، ثمَّ أوتر". وفي لفظ: "كان يصلّي العشاء، ثمَّ يتجوز بركعتين، وقد أعد سواكه وطَهوره، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه فيتسوك، ويتوضّأ، ثمّ يصلّي ركعتين، ثمَّ يقوم فيصلّي ثمان ¬

_ = أرى كم صلّى وكيف صلّى". (¬1) أخرجه مسلم: 765 (¬2) أي: قربة. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1215) وأصْله في الصحيحين وتقدّم. (¬4) رجّح شيخنا -حفظه الله تعالى- في أول كتاب "صلاة التراويح" أنَّ هاتين الركعتين هما سنّة العشاء.

ركعات، يسوي بينهنّ في القراءة ثمَّ يوتر بالتاسعة، فلمّا أسنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخَذه اللحم (¬1)، جعل تلك الثماني ستاً، ثمَّ يوتر بالسابعة، ثمَّ يصلي ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما بـ {قل يا أيها الكافرون} و {إِذا زُلزلت} (¬2) " (¬3). 2 - يصلي ثلاث عشرة ركعة، منها ثمانية يسلّم بين كل ركعتين، ثمَّ يوتر بخمس لا يجلس ولا يسلم إلاَّ في الخامسة، وفيه حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرقد، فإِذا استيقظ تسوّك، ثمَّ توضّأ، ثمَّ صلّى ثمان ركعات، يجلس في كل ركعتين فيسلم، ثمَّ يوتر بخمس ركعات لا يجلس إلاَّ في الخامسة، ولا يُسلّم إِلا في الخامسة [فإِذا أذَّن المؤذن قام فصلّى ركعتين خفيفتين] " (¬4). 3 - يصلّي إحدى عشرة ركعة ثمَّ يسلّم بين كلّ ركعتين، ثمَّ يوتر بواحدة، لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي فيما بين أن يفرُغ من صلاة العشاء -وهي التي يدعو الناس العَتَمة- إِلى الفجر إِحدى عشرة ¬

_ (¬1) أي: كثُر لحمه. (¬2) وانظر "صلاة الوتر". (¬3) أخرجه الطحاوي (1/ 165) باللفظين وإسنادهما صحيح، والشطر الأول من اللفظ الأول أخرجه مسلم: 767، وأبو عوانة (2/ 304)، وكلهم رووه من طريق الحسن البصري معنعناً، لكن أخرجه النسائي (1/ 250) وأحمد (6/ 168) من طريقه مصرّحاً بالتحديث باللفظ الثاني نحوه .... (¬4) رواه أحمد (6/ 123، 230) وسنده صحيح على شرط الشيخين، وقد أخرجه مسلم: 737، وأبو عوانة (2/ 325) وأبو داود (1/ 210) والترمذي (2/ 321) وصححه.

ركعة، يُسلّم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة، [ويمكث في سجوده قدْر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه] فإِذا سكَت المؤذن من صلاة الفجر وتبيّن له الفجر، وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين، ثمَّ اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيَه المؤذن للإِقامة" (¬1). 4 - يصلي إِحدى عشرة ركعة أربعاً بتسليمة واحدة، ثمَّ أربعاً مثلها، ثمَّ ثلاثاً (¬2). وظاهر الحديث أنه كان يقعد بين كلّ ركعتين من الأربع والثلاث، ولكنّه لا يُسلّم. 5 - يصلي إِحدى عشرة ركعة، منها ثمان ركعات، لا يقعد فيها إلاَّ في الثامنة يتشهد ويصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ يقوم ولا يُسلم، ثمَّ يوتر بركعة ثمَّ يسلم ثمَّ يصلي ركعتين وهو جالس، لحديث عائشة -رضي الله عنها- رواه سعد بن هشام بن عامر أنه أتى ابن عباس فسأله عن وتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال ابن عبّاس: ألا أدلّك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: من؟ قال: عائشة فأْتِها فسأَلْها، فانطلقْتُ إِليها قال: قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقالت: "كنا نعد له سواكه وطَهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضّأ ويصلّي تسع ركعات لا يجلس فيها إلاَّ في الثامنة، فيذكر الله ويحمده [ويصلّي على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ويدعوه، ثمَّ ينهض ولا يُسلّم، ثمَّ يقوم فيصلي التاسعة، ثمَّ يقعد فيذكر الله ويحمده ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 736، وأبو عوانة وأبو داود والطحاوي وأحمد، وأخرجه الأولان ن حديث ابن عمر أيضاً، وأبو عوانة من حديث ابن عبّاس. (¬2) أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث عائشة وتقدّم.

[ويصلّي على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ويدعوه، ثمَّ يُسلم تسليماً يُسمعنا، ثمَّ يصلي ركعتين بعد ما يُسلّم، وهو قاعد، فتلك إِحدى عشرة يا بنيّ، فلما أسنَّ نبي الله وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنَع في الركعتين مِثل صنيعه الأول، فتلك تسع يا بنيّ" (¬1). 6 - يصلي تسع ركعات منها ستّ ركعات؛ لا يقعد إلاَّ في السادسة منها، يتشهد ويصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ يقوم ولا يُسلم، ثمَّ يوتر بركعة، ثمّ يسلم ثمَّ يصلّي ركعتين وهو جالس؛ لحديث عائشة المتقدّم. هذه هي الكيفيات التي كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بها صلاة الليل والوتر، ويمكن أن يزاد عليها أنواع أخرى، وذلك بأن ينقص من كل نوع من الكيفيات المذكورة ما شاء من الركعات وحتى يجوز له أن يقتصر على ركعة واحدة فقط لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... فمن شاء فليوتر بخمس ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة" (¬2). فهذا الحديث نصٌّ في جواز الإِيتار بهذه الأنواع الثلاثة المذكورة فيه، وإِنْ كان لم يصحّ النقل بها عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل صحّ من حديث عائشة أنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يوتر بأقلّ من سبع كما سبق هناك. فهذه الخمس والثلاث إِنْ شاء صلاّها بقعود واحد وتسليمة واحدة؛ كما في النوع الثاني، وإن شاء صلاها بقعود بين كلّ ركعتين بدون سلام. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 764، وأبو عوانة (2/ 321 - 325)، وأحمد (6/ 53 - 54، 168) وأبو داود (1/ 210 - 211) والنسائي (1/ 244 - 250) وابن نصر (49) والبيهقي (3/ 30)، وتقدم. (¬2) تقدم.

هل يقعد بين الشفع والوتر ويسلم عند الإيتار بثلاث؟

هل يقعد بين الشفع والوتر ويسلّم عند الإِيتار بثلاث؟ قال ابن نصر المروزي في "قيام رمضان" (ص 125): "وقد روي في كراهة الوتر بثلاث أخبار بعضها عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعضها عن أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين، منها"، ثمَّ ذكَر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب، ولكن أوتروا بخمس ... "، قال شيخنا (ص 97): وسنده ضعيف لكن رواه الطحاوي وغيره من طريق آخر بسند صحيح، وهو بظاهره يعارض حديث أبي أيوب المخرَّج هناك بلفظ: " ... ومن شاء فليوتر بثلاث"، والجمع بينهما بأن يحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهّدين؛ لأنَّه في هذه الصورة يشبه صلاة المغرب وأما إِذا لم يقعد إلاَّ في آخرها فلا مشابهة. ذكر هذا المعنى الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 301) واستحسنه الصنعاني في "سبل السلام" (2/ 8)، وأبعد عن التشبه في الوتر بصلاة المغرب الفصل بالسلام بين الشفع والوتر كما لا يخفى. قال ابن القيم في "الزاد": قال مهنا سألتُ أبا عبد الله (يعني الإِمام أحمد) إِلى أيّ شيء تذهب في الوتر، تسلّم في الركعتين؟ قال: نعم، قلت: لأيّ شيء؟ قال: لأنَّ الأحاديث فيه أقوى وأكثر عن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم في الركعتين، وقال حرب: سئل أحمد عن الوتر؟ قال: يُسلّم في الركعتين، وإن لم يُسلّم رجوت ألا يضرَّه، إلاَّ أنّ التسليم أثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم". ويتلخّص من كلّ ما سبق؛ أن الإِيتار بأيّ نوع من هذه الأنواع المتقدّمة جائز حسن، وأنّ الإِيتار بثلاث بتشهدين كصلاة المغرب لم يأت فيه حديث

ماذا يقرأ فيه؟

صحيح صريح، بل هو لا يخلو من كراهة، ولذلك نختار أن لا يقعد بين الشفع والوتر وإذا قعد سلّم، وهذا هو الأفضل لما تقدّم. والله الموفق لا ربّ سواه. انتهى. وانظر -للمزيد إِن شئت- "زاد المعاد" (1/ 327) فصل في سياق صلاته بالليل ووتره وذِكر صلاة أوّل الليل. ماذا يقرأ فيه؟ "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الركعة الأولى {سبّح اسم ربّك الأعلى}، وفي الثانية: {قُل يا أيها الكافرون}، وفي الثالثة: {قل هو الله أحد} " (¬1). وكان يضيف إليها أحياناً: {قُلْ أعوذ بربِّ الفلَق} و {قل أعوُذ بربّ الناس} (¬2). ومرّة: "قرأ في ركعة الوتر بمائة آية من: {النساء} " (¬3). جاء في "صفة الصلاة" (ص 179): و"كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت في ركعة الوتر" (¬4)، أحياناً. قال شيخنا في التعليق: وإنما قلنا: "أحياناً"، لأنّ الصحابة الذين رووا الوتر لم يذكروا القنوت فيه، فلو كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله دائماً؛ لنقلوه جميعاً عنه، ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي والحاكم وصححه. (¬2) أخرجه الترمذي وأبو العباس الأصمّ في "حديثه" والحاكم وصححه الذهبي. (¬3) أخرجه النسائي وأحمد بسند صحيح. (¬4) أخرجه ابن نصر والدراقطني بسند صحيح.

دعاء القنوت:

نعم رواه عنه أبيُّ بن كعب وحده؛ فدلّ على أنَّه كان يفعله أحياناً، ففيه دليل على أنَّه غير واجب، وهو مذهب جمهور العلماء، ولهذا اعترف المحقّق ابن الهمام في "فتح القدير" (1/ 306 و359 و360) بأن القول بوجوبه ضعيف لا ينهض عليه دليل، وهذا من إِنصافه وعدم تعصُّبه، فإِنّ هذا الذي رجّحه هو على خلاف مذهبه! ". ويجعله قبل الركوع (¬1). دعاء القنوت: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت؛ وقني شرّ ما قضيت، [فـ] إِنك تقضي ولا يُقضى عليك، [و] إِنَّه لا يَذِل من واليت، [ولا يَعِزُّ من عاديت]، تباركت ربنا وتعاليت، [لا منجا منك إلاَّ إليك] " (¬2). ويشرع الصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في آخره لجريان عمل السلف بها، وثبوت ذلك عن الصحابة -رضي الله عنهم (¬3) -. ما يقول في آخر الوتر: جاء في قيام رمضان (ص 32) لشيخنا -حفظه الله تعالى-: "ومن السنة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإرواء" (426). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وغيرهم، وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإِرواء" (429). (¬3) انظر "تمام المنّة" (ص 243)، و"تلخيص صفة الصلاة" (ص 29).

لا وتران في ليلة

أن يقول في آخر وتره قبل السلام أو بعده: "اللهمّ إِنّي أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناءً عليك؛ أنت كما أثنيت على نفسك" (¬1). وإِذا سلم من الوتر قال: "سبحان الملِك القدّوس، سبحان المَلِك القدّوس، سبحان الملِك القدّوس، [ويمدّ بها صوته ويرفع في الثالثة] " (¬2). لا وتران في ليلة عن قيس بن طلق قال: "زارنا طلق بن عليّ في يوم من رمضان، وأمسى عندنا وأفطر، ثمَّ قام بنا تلك الليلة، وأوتر بنا، ثمَّ انحدر إِلى مسجده فصلّى بأصحابه، حتّى إِذا بقي الوتر، قدَّم رجلاً فقال: أوتِر بأصحابك، فإني سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لا وتران في ليلة" (¬3). قضاء الوتر عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نام عن وتره أو نسيه؛ فليصلّه إِذا ذَكره" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1265)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2824)، والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وانظر "الإرواء" (430). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1267)، والنسائي والزيادة له "صحيح سنن النسائي" (1606)، وانظر "المشكاة" (1275). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1276) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (391) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (981). (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1268) والترمذي "صحيح سنن =

فإِن لم يكن معذوراً فلا وتر له؛ كما في حديث أبي سعيد أيضاً أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أدرك الصبح ولم يوتر؛ فلا وتر له" (¬1). وعن أبي نهيك "أنَّ أبا الدرداء كان يخطب الناس فيقول: لا وتر لمن أدركه الصبح، قال: فانطلق رجالٌ إِلى عائشة فأخبروها فقالت: كذب (¬2) أبو الدرداء؛ كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصبح فيوتر" (¬3). قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: والظاهر أنَّ أبا الدرداء -رضي الله عنه- أراد بقوله "لا وتر لمن أدركه الصبح" من كان غير معذور وذكر بعض الآثار المؤيدة لذلك، ومنها ما رواه إبراهيم بن محمّد بن المنتشر عن أبيه أنَّه كان في مسجد عمرو بن شرحبيل، فأقيمت الصلاة، فجعلوا ينتظرونه، فجاء فقال: إِنّي كنت أوتر، قال: وسُئل عبد الله: هل بعد الأذان وتر؟ قال: نعم وبعد الإِقامة، وحدّث عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أنّه نام عن الصلاة حتى طلعت الشمس ثمَّ صلّى" (¬4). ¬

_ = الترمذي" (386) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (976)، وانظر "الإِرواء" (2/ 153). (¬1) أخرجه الحاكم وعنه البيهقي وابن حبان وابن خزيمة والبزار، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وانظر "الإِرواء" (2/ 153) التحقيق الثاني. (¬2) أي: أخطأ. (¬3) أخرجه أحمد وابن نصر بإِسناد صحيح، وانظر "الإرواء" (2/ 155). (¬4) أخرجه النسائي والبيهقي بسند صحيح، والشاهد منه تحديث ابن مسعود أنه - صلى الله عليه وآله وسلم- صلى بعد أنْ طلعت الشمس، فإِنّه إِنْ كان ما صلى صلاة الوتر فهو دليل واضح على أنه- صلى الله عليه وآله وسلم- إِنما أخّرها لعذر النوم، وإن كانت =

الركعتان بعده

وعن الأغر المزني أنّ رجلاً أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا نبي الله! إِنّي أصبحتُ ولم أوتر، فقال: إِنّما الوتر بالليل" (¬1). قال شيخنا -شفاه الله وعافاه الله- تحت الحديث السابق: "وهذا التوقيت للوتر، كالتوقيت للصلوات الخمس، إِنما هو لغير النائم وكذا الناسي، فإِنّه يصلّي الوتر إِذا لم يستيقظ له في الوقت، يُصلّيه متى استيقظ، ولو بعد الفجر، وعليه يحمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرجل في هذا لحديث: "فأوتر" بعد أن قال له: "إِنما الوتر بالليل". الركعتان بعده قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "قيام رمضان" (ص 33): "وله أن يصلي ركعتين، لثبوتهما عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلاً (¬2)، بل إِنّه أمَر بهما أمّته فقال: "إِنّ هذا السفر جهد وثِقَل، فإِذا أوتر أحدكم، فليركع ركعتين، فإِن استيقظ وإِلا كانتا له" (¬3). والسنّة أن يقرأ فيهما: " {إِذا زُلزلت الأرض} و {قل يا أيها ¬

_ = هي صلاة الصبح -كما هو ظاهر والمعروف عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة خيبر- فهو استدلال من ابن مسعود على جواز صلاة الوتر بعد وقتها؛ قياساً على صلاة الصبح بعد وقتها؛ بجامع الاشتراك في العلّة وهي النوم، والله أعلم". (¬1) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، وانظر "الصحيحة" (1712). (¬2) أخرجه مسلم: 738، وغيره. (¬3) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" والدارمي وغيرهما، وهو في "الصحيحة" (1993)، وفيه فوائد هامّة.

القنوت في الصلوات الخمس حين النوازل

الكافرون} " (¬1). القنوت في الصلوات الخمس حين النوازل (¬2) و"كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد؛ قنت (¬3) في الركعة الأخيرة بعد الركوع؛ إِذا قال: (سمع الله لمن حَمِده، اللهمّ ربّنا لك الحمد) " (¬4). و"كان يجهر بدعائه" (¬5)، و"يرفع يديه" (¬6)، و"يؤمِّن من خلفه" (¬7). و"كان يقنت في الصلوات الخمس كلِّها" (¬8)؛ لكنّه "كان لا يقنت فيها إِلا إِذا دعا لقوم؛ أو دعا على قوم" (¬9)، فربّما قال: "اللهم أنْج الوليد بن الوليد، وسلمةَ بن هشام، وعيّاشَ بن أبي ربيعة، اللهم اشدُد وطأتك على مُضَر، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وابن نصر والطحاوي وابن خزيمة وابن حبّان بسند حسن صحيح، وتقدم بعضه. (¬2) عن "صفة الصلاة" (ص 178) بحذف. (¬3) المراد هنا بالقنوت: الدعاء بعد الركوع من الركعة الأخيرة. (¬4) أخرجه البخاري: 4560، وأحمد. (¬5) أخرجه البخاري: 4560، وأحمد. (¬6) أخرجه أحمد والطبراني بسند صحيح، وهذا مذهب أحمد وإسحاق أنّه يرفع يديه في القنوت؛ كما في "المسائل" للمروزي (ص 23). (¬7) أخرجه أبو داود والسراج، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وغيره. (¬8) أخرجه أبو داود والسراج والدارقطني بسندين حسَنين. (¬9) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، والخطيب في "كتاب القنوت" بسند صحيح، وانظر "الصحيحة" (639).

القنوت في صلاة الفجر

واجعلها سنين كَسِني يوسف، [اللهم العن لِحيان ورِعلاً وذَكوان وعُصَيَّة عصت الله ورسوله] " (¬1). ثمَّ "كان يقول -إِذا فرغ من القنوت-: "الله أكبر"، فيسجد" (¬2). القنوت في صلاة الفجر لا يشرع تخصيص القنوت في صلاة الفجر البتّة، إلاَّ في النوازل، فيشرع القنوت فيه. فعن أبي مالك الأشجعي قال: قلت لأبي: يا أبت إِنّك صلّيت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي هاهنا بالكوفة نحو خمس سنين، أكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: "أي بنيّ مُحدَث" (¬3). فهذا الصحابي -رضي الله عنه- بيّن أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- لم يقنتوا في الفجر، وقد وصّى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يودّع أمّته بالتمسُّك بسنّته وسنّة الخلفاء الراشدين، وذلك عند الاختلاف الكثير. فعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: "وعَظنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موعظة بليغة وجِلَت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنّها موعظة مودع فأوصِنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإنْ تأمّر عليكم عبد [حبشي] وإنه من يعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والبخاري: 4560 والزيادة لمسلم: 675 (¬2) أخرجه النسائي وأحمد والسراج، وأبو يعلى في "مسنده" بسند جيد. (¬3) أخرجه أحمد والترمذي والنسائي، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1026) وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (435).

فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ وإِياكم ومُحدثات الأمور، فإِنَّ كلّ بدعة ضلالة" (¬1). ولم يقتصر الأمر على التمسك بسنّته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسنّة الخلفاء الراشدين، وهي واحدة، ولا ريب، لأنهم يعملون بها، لذلك قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عَضّوا عليها" ولم يقل عضوا عليهما أقول: ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إِنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نهى عن البدعة فقال: "وإِياكم ومحدَثات الأمور فإِنّ كل بدعة ضلالة". وها هو هذا الصحابي الجليل -رضي الله عنه- يُبيّن أنها بدعة. فهل من مُدّكر! وعن سعيد بن جبير أنّه قال: "إِنّ القنوت في صلاة الفجر بدعة" (¬2). وأمّا ما رواه محمّد بن سيرين أنّه "سئل أنس بن مالك: أقنَت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصبح؟ قال: نعم، فقيل: أوقنَت قبل الركوع [أو بعد الركوع]؟ قال: بعد الركوع يسيراً" (¬3). فهذا هو قنوت النوازل الذي لا يخصّ به صلاة دون صلاة، ويكون بعد الركوع، وكان لا يفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاَّ إِذا دعا على أحد أو دعا لأحد. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3851) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2157) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (40) وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (34)، و"كتاب السنّة" لابن أبي عاصم: (ص 54) بتحقيق شيخنا -حفظه الله تعالى-. (¬2) قال شيخنا في "الإِرواء" (436) التحقيق الثاني -بعد تضعيف نسبته إِلى ابن عباس رضي الله عنهما-: "والصحيح أنّه من قول سعيد بن جبير". (¬3) أخرجه البخاري: 1001، ومسلم: 677، وغيرهما.

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعوَ لأحد؛ قنَتَ بعد الركوع ... " (¬1). ومن ذلك ما رواه مسلم في "صحيحه" (679) (¬2) من حديث خُفاف بن إِيماء قال: "ركَع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ رفع رأسه فقال: غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله وعصيَّةُ عصَتِ الله ورسولَه اللهم العن بني لِحيان والعن رِعلاً وذَكوان". لذلك لمّا جاء عاصم وسأل أنسَ بن مالك عن القنوت، فقال: "قد كان القنوت قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله، قال: فإِنّ فلاناً أخبرني عنك أنّك قلت: بعد الركوع! فقال: كذَب؛ إِنّما قنَت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الركوع شهراً، أُراه كان بعَث قوماً يُقال لهم القُرّاء زُهاء (¬3) سبعين رجلاً إِلى قومٍ من المشركين دون أولئك، وكان بينهم وبين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد فقنَتَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً يدعو عليهم" (¬4). فقد نفى أنس بن مالك أن يكون القنوت بعد الركوع، فهذا يُفهِم أنَّ قنوت الوتر يُفعل قبل الركوع، أمّا بعد الركوع فإِنّما هو قنوت النازلة، حين الدعاء على أحد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4560 (¬2) ونحوه في البخاري: 1006، وتقدّم نحوه في (القنوت للصلوات الخمس للنازلة). (¬3) أي: ما يقرب من سبعين رجلاً. (¬4) أخرجه البخاري: 1002

وأمّا حديث: "ما زال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا" فإِنّه منكر فيه: أبو جعفر الرازي واسمه عيسى بن ماهان مُتكلَّم فيه. قال ابن التركماني: ... قال ابن حنبل والنسائي: ليس بالقوي، وقال أبو زرعة: يَهِمُ كثيراً، وقال الفلاس: سيئ الحفظ وقال ابن حبان يحدث بالمناكير عن المشاهير ... وانظر التفصيل في "الضعيفة" (1238). قال ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (1/ 271) -بحذف-: "ومن المحال أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في كلّ غداة بعد اعتداله من الركوع يقول: "اللهمّ اهدني فيمن هديت، وتولّني فيمن توليت ... ". إِلخ ويرفع بذلك صوته، ويؤمّن عليه أصحابه دائماً إِلى أن فارق الدنيا، ثمَّ لا يكون ذلك معلوماً عند الأمة، بل يضيّعه أكثر أمّته وجمهور أصحابه، بل كلّهم؛ حتى يقول من يقول منهم: إِنّه محدَث! ". وقال (ص 276) تعليقاً على الحديث السابق بعد بيان عدم صحته: " ... ولو صحّ لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المُعيّن البتة، فإِنّ القنوت يطلق على القيام والسكوت ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخشوع، كما قال تعالى: {وله مَن في السموات والأرضِ كلٌّ له قانتون} (¬1) {وكانت من القانتين} (¬2). وقال زيد بن أرقم: "لمّا نزل قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} (¬3) أُمِرنا ¬

_ (¬1) الروم: 26 (¬2) التحريم: 12 (¬3) البقرة: 238

بالسكوت ونُهينا عن الكلام" (¬1). فمِن أين لكم أنّ أنَسَاً إِنّما أراد هذا الدعاء المعيَّن دون سائر أقسام القنوت؟ ". وقال (ص283): ولمّا صار القنوت في لسان الفقهاء وأكثرِ الناس، هو هذا الدعاء المعروف: "اللهمّ اهدني فيمن هديت ... " إِلخ، وسمعوا أنّه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارَق الدنيا وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة؛ حمَلوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم. ونشأ من لا يعرف غير ذلك، فلم يشكّ أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا مداومين عليه كلّ غداة! وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهور العلماء وقالوا لم يكن هذا من فِعله الراتب، بل ولا يثبت عنه أنّه فعَله. انتهى. وبعد هذا نسأل: لماذا خصّصوا الفجر بالقنوت؟ فإِنْ قالوا قد صحّ في ذلك نصوص: قلنا: صحّ فيه -كما تقدّم- من غير تخصيص، ولكن في جميع الصلوات في النوازل. فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان القنوت في المغرب والفجر" (¬2). فلماذا لا تخصّصونه في المغرب! وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينما يصلّي العشاء إِذ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4534، ومسلم: 539 (¬2) أخرجه البخاري: 1004

قال: "سمع الله لمن حمده" ثمَّ قال: قبل أن يسجد: اللهمّ نجّ عيّاش بن أبي ربيعة ... " (¬1). وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنّه سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: "والله لأُقَرِّبنّ بكم صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان أبو هريرة يقنت في الظهر والعشاء الآخره وصلاة الصبح، ويدعو للمؤمنين ويلعن الكافرين" (¬2). وجاءت بعض النصوص من غير تسمية صلاة كما في حديث أنس قال: "قنت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً يدعو على رِعل وذَكوان" (¬3). لذلك أقول: لا أعلم نصّاً ورَد بتسمية صلاة العصر في القنوت، ولكنه يدخل في العموم كما لا يخفى، وقد وردَ تسمية الفجر، فلا يعني التخصيص. وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 675 (¬2) أخرجه مسلم: 676 (¬3) أخرجه البخاري: 1003، ومسلم: 677، وتقدّم.

قيام الليل

قيام الليل ما وردَ في الترغيب فيه: قيام الليل سُنّة مستحبّة، وقد ورد في الترغيب فيه العديد من النصوص من ذلك: 1 - قوله سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (¬1). 2 - وقوله سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (¬2). 3 - وقوله سبحانه في وصْف المؤمنين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬3). 4 - وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يعقِد الشيطان على قافية رأس أحدكم إِذا هو نام ثلاث عُقد، يضرب على كلّ ¬

_ (¬1) الذاريات: 15 - 19 (¬2) الفرقان: 63 - 66 (¬3) السجدة: 16 - 17

عُقدة؛ عليك ليلٌ طويل فارقد! فإِنِ استيقظ فذكَر الله تعالى انحلَّت عُقدة، فإِنْ توضّأ انحلّت عقدة، فإِنْ صلّى انحلّت عُقَدُه كلّها، فأصبح نشيطاً طيِّب النفس، وإِلاَّ صبح خبيث النفس كسلان" (¬1). 5 - وحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "في الجنّة غرفةٌ يُرى ظاهرها من باطِنها، وباطِنُها من ظاهرها، فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأطعَم الطعام، وبات قائماً والناس نيام" (¬2). 6 - وحديث جابر -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ في الليل لساعة؛ لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة؛ إلاَّ أعطاه إِيّاه، وذلك كلَّ ليلة" (¬3). 7 - وحديث أبي الدرداء عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاثةٌ يحبّهم الله، ويضحك إِليهم، ويستبشر بهم: الذي إِذا انكشفت فئةٌ قاتل وراءها بنفسه لله عزّ وجلّ، فإِمّا أن يُقتل، وإمّا أنْ ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إِلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه؟ والذي له امرأة حسنة وفراش ليِّن حسن، فيقوم من الليل، فيقول: يَذَرُ شهوته ويذكُرني، ولو شاء رقد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1142، ومسلم: 776 (¬2) أخرجه الطبراني في "الكبير" بإِسناد حسن والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (611). (¬3) أخرجه مسلم: 757

أجر من نوى قيام الليل وغلبته عينه حتى أصبح

والذي إِذا كان في سفر، وكان معه ركْب، فسهروا، ثمَّ هجعوا، فقام من السَّحر في ضرّاء وسرّاء" (¬1). أجْر من نوى قيام الليل وغَلَبته عينُه حتى أصبح عن أبي الدرداء أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلّي من الليل؛ فغلبته عينُه حتى أصبح؛ كُتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربّه" (¬2). الوصاة بإِيقاظ الأهل لقيام الليل 1 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلّى وأيقظ امرأته، فإِنْ أَبَت نضَح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلّت وأيقظت زوجها، فإِنْ أبى نضحت في وجهه الماء" (¬3). 2 - وعن أبي هريرة وأبي سعيد -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أيقظ الرجل أهله من الليل، فصلّيا أو صلّيا ركعتين جميعاً؛ كُتبا ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" بإِسناد حسن وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (623). (¬2) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1686)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1172) وغيرهما، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (19)، و"الإرواء" (454). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1287) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1519) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1099) وابن خزيمة "صحيح ابن خزيمة" (1148)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (619).

الرقود وترك الصلاة إذا غلبه النعاس

في الذاكرين والذاكرات" (¬1). 3 - وعن أمّ سلمة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: "استيقظ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة فَزِعاً يقول: سبحانه! ماذا أنزَلَ الله من الخزائن؟ وماذا أُنزِل من الفِتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات -يريد أزواجه- لكي يصلّين؟ رُبّ كاسية في الدنيا عاريةٍ في الآخرة" (¬2). الرقود وترْك الصلاة إِذا غلبه النعاس أن يترك الصلاة ويرقد إِذا غلبه النعاس حتى يذهب عنه النوم لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا قام أحدكم من الليل، فاستعجم (¬3) القرآن على لسانه، فلم يدرِ ما يقول؛ فليضطجع" (¬4). عن أنس -رضي الله عنه- قال: "دخَل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسجد وحبلٌ ممدود بين ساريتين فقال: "ما هذا؟ " قالوا: لزينب تُصلّى، فإِذا كسِلَت أو فترَت أمسكت به، فقال: "حُلُّوه ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإِذا كَسِل أو فتر قعد" وفي حديث زهير "فليقعد" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1288)، والنسائي، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1098)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (620). (¬2) أخرجه البخاري: 7069 (¬3) استعجم: أي استُغلق عليه فلم يقدر أن يقرأ؛ كأنّه صار به عُجْمة. "النهاية" -بتصرف-. (¬4) أخرجه مسلم: 787 وغيره. (¬5) أخرجه البخاري: 1150، ومسلم: 784

عدم المشقة على النفس في القيام والمواظبة عليه

عدم المشقة على النفس في القيام والمواظبة عليه فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخَل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعندي امرأة فقال: من هذه؟ فقلت: امرأة لا تنام، تصلّي، قال: عليكم من العمل ما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملّوا" وكان أحبَّ الدِّين إِليه ما داومَ عليه صاحبه" (¬1). وفي رواية عنها -رضي الله عنها- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل: "أيُّ العمل أحبُّ إِلى الله؟ قال: أدومُه وإنْ قلّ" (¬2). وعن علقمة قال: "قلت لعائشة -رضي الله عنها-: هل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يختصّ من الأيام شيئاً؟ قالت: لا، كان عمله ديمة (¬3)، وأيكم يُطيق ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطيق؟ " (¬4). وعن عائشة: "كان آل محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا عملوا عملاً أثبتوه" (¬5). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا عبد الله! لا تكن مِثل فلان؛ كان يقوم من الليل فترك قيام ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1970، ومسلم: 785 وهذا لفظه. (¬2) أخرجه مسلم: 782 (¬3) أي: دائماً، قال أهل اللغة: الديمة مطر يدوم أياماً، ثمَّ أُطلقت على كل شيء يستمرّ. (¬4) أخرجه البخاري: 1987، ومسلم: 783 (¬5) أي: لازموا فِعله وداوموا عليه ولم يتركوه.

وقته:

الليل" (¬1). وعن حفصة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "نِعم الرجل عبد الله لو كان يصلّي من الليل، قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلاَّ قليلاً" (¬2). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ذُكر عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح؛ ما قام إِلى الصلاة، فقال: بال الشيطان في أُذنه" (¬3). وقته: يبدأ قيام الليل من بعد صلاة العشاء ويستمرّ حتى الفجر. عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفطر من الشهر حتى نظنُّ ألاّ يصوم منه، ويصوم حتى نظنّ أن لا يُفطر منه شيئاً، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مُصلّياً (¬4) إلاَّ رأيته ولا نائماً إلاَّ رأيته" (¬5). وعن الأسود قال: سألتُ عائشة -رضي الله عنها-: "كيف صلاة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل؟ قالت: كان ينام أوّله، ويقوم آخره، فيصلّي ثمَّ يرجع إِلى فراشه، فإِذا أذّن المؤذّن وثب، فإِن كانت به حاجة اغتسل وإلاَّ توضّأ " (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1152، ومسلم: 1159 (¬2) أخرجه البخاري: 1157، ومسلم: 2479، وهذا لفظه. (¬3) أخرجه البخاري: 1144، 3270، ومسلم: 774 (¬4) أي: يقوم بحسب ما تيسّر له ذلك. (¬5) أخرجه أحمد والبخاري: 1141 (¬6) أخرجه البخاري: 1146

أفضل أوقاته

أفضل أوقاته يفضل تأخير صلاة الليل إلى ثلث الليل أو نصفه، ومن الأدلة على ذلك: 1 - حديت أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ينزل ربُّنا (¬1) تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا؛ حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعونْي فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيَه، من يستغفرني فأغفرَ له" (¬2). 2 - وعنه -رضي الله عنه- أيضاً عن النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرْتهم بالسواك مع الوضوء، ولأخّرت العشاء إِلى ثلث الليل أو نصف الليل، فإِذا مضى ثلث الليل أو نصف الليل؛ نزل إلى السماء الدنيا جلّ وعزّ فقال: فذكر الجمل الثلاث وزاد (¬3) هل من تائب فأتوب عليه (¬4). 3 - عن عبد الله بن عمرو قال: "قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أحَبُّ الصيام إِلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويُفطر يوماً، وأحبُّ الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه" (¬5). ¬

_ (¬1) نزولاً حقيقياً يليق بجلاله سبحانه؛ من غير تكييف ولا تمثيل ولا تأويل ولا تعطيل، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وانظر للمزيد من الفائدة -إِن شئت- كتاب "شرح حديث النزول" لشيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-. (¬2) أخرجه البخاري: 1145، ومسلم: 758 (¬3) من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له. (¬4) أخرجه أحمد وإسناده صحيح على شرط الشيخين، "الإرواء" (2/ 197). (¬5) أخرجه البخاري: 3420، ومسلم: 1159، قال عليّ: وهو قول عائشة: =

عدد ركعاته:

4 - عن عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- أنَّه سمع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أقرب ما يكون الربّ من العبد في جوف الليل الآخر، فإِنِ استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" (¬1). عدد ركعاته: عدد ركعاته إِحدى عشرة ركعة كما في حديث عائشة الآتي -إِن شاء الله- في صلاة التراويح "ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزيد في رمضان ولا في غيره على إِحدى عشرة ركعة ... ". تتحقق صلاة الليل ولو بركعة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ذَكَرتُ قيام الليل فقال بعضهم إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "نصفه، ثلثه، ربعه، فُواق (¬2) حلب ناقة، فواق حلب شاة" (¬3). ¬

_ = "ما ألفاه السحَر عندي إلاَّ نائماً". قال الحافظ (6/ 455): "ولم أره منسوباً [أي: اسم عليّ] وأظّنه علي بن المديني شيخ البخاري، وأراد بذلك بيان المراد بقوله: "وينام سدسه" أي: السدس الأخير، وكأنَّه قال: يوافق ذلك حديث عائشة: "ما ألفاه -بالفاء- أي وجده -والضمير للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والسَّحر الفاعل، أي لم يجىء السَّحَر والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاَّ وجده نائماً". (¬1) أخرجه الترمذي واللفظ له، وابن خزيمة في "صحيحه" وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (622). (¬2) الفُواق: ما بين الحَلْبتين من الراحه وتُضَمّ فاؤه وتُفتَح "النهاية". (¬3) أخرجه أبو يعلى ورجاله محتجّ بهم في الصحيح، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (621).

من فاته قيام الليل

من فاته قيام الليل عن عائشة -رضي الله عنها- "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا فاتته الصلاة من الليل من وَجَعِ أو غيره، صلّى من النّهار ثنتي عشرة ركعة" (¬1). وعنها -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا عَمِل عملاً أثبته، وكان إِذا نام من الليل أو مَرض؛ صلّى من النهار ثنتي عشرة ركعة قالت: وما رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام ليلةً حتى الصباح، وما صام شهراً متتابعاً إلاَّ رمضان" (¬2). ما يستحبّ أثناء القراءة: يُستحبّ لكل من قرأ في صلاة الليل إِذا مرَّ بآية رحمة؛ أن يسأل الله سبحانه من فضله، وإِذا مرَّ بآية عذاب أن يتعوّذ بالله من النار، وإذا مرَّ بآيةٍ فيها تسبيح سبّح، وإذا مَرَّ بسؤالٍ سأل. لما رواه مسلم (772) عن حذيفة قال: "صليت مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة، فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة، ثمَّ مضى، فقلت: يُصلّي بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها، ثمَّ افتتح النّساء فقرأها، ثمَّ افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسِّلاً (¬3)، إِذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤالٍ سأل، وإِذا مرَّ بتعوّذ تعوّذ، ثمَّ ركع فجعل يقول: سبحان ربِّيَ العظيم، فكان ركوعه نحواً ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 746، وغيره. (¬2) أخرجه مسلم: 746 (¬3) أي: متمهلاً متأنياً.

من قيامه، ثمَّ قال: سمع الله لمن حمده، ثمَّ قام طويلاً، قريباً ممّا ركع، ثمَّ سجد فقال: سبحان ربِّيَ الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه". قال شيخنا -حفظه الله- في الردّ على من يقول في استحباب ذلك في صلاة الفرض: "هذا إِنما ورد في صلاة الليل كما في حديث حذيفة ... ، فمقتضى الاتباع الصحيح الوقوف عند الوارد وعدم التوسع فيه بالقياس والرأي، فإِنّه لو كان ذلك مشروعاً في الفرائض أيضاً لفَعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو فعَله لنُقِل، بل لكان نقْله أولى من نقل ذلك في النوافل كما لا يخفى".

قيام رمضان

قيام رمضان قيام رمضان سنّة تؤدّى بعد صلاة العشاء قبل الوتر، والصلاة في آخر الليل أفضل كما تقدّم. قال شيخنا في "قيام رمضان" (ص 26) -بحذف-: وإِذا دار الأمر بين الصلاة أوّل الليل مع الجماعة، وبين الصلاة آخر الليل منفرداً، فالصلاة مع الجماعة أفضل، لأنّه يحسب له قيام ليلةٍ تامّة. وعلى ذلك جرى عمل الصحابة في عهد عمر -رضي الله عنه- فقال عبد الرحمن بن عَبْدٍ القارِيّ: "خرجتُ مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إِلى المسجد، فإِذا الناس أوزاعٌ (¬1) متفرّقون، يُصلّي الرجل لنفسه، ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرَّهطُ، فقال عمر: والله إِني لأرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحدٍ لكان أمثل، ثمَّ عزم، فجمَعهم على أُبَيِّ بن كعب، ثمَّ خرجتُ معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم (¬2) البدعةُ هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون -يريد آخر الليل- وكان الناس يقومون أوّله" (¬3). وقال زيد بن وهب: "كان عبد الله يصلي بنا في شهر رمضان، فينصرف ¬

_ (¬1) أي: متفرقون. (¬2) في بعض الروايات نعمت والمراد بالبدعة هنا اللغويه لا الشرعية، وانظر التفصيل في "صلاة التروايح" (ص 43). (¬3) أخرجه البخاري: 2010

الترغيب فيه

بليل" (¬1). الترغيب فيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرغّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة (¬2) فيقول: "من قام رمضان إِيماناً واحتساباً (¬3)؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه (¬4) " (¬5). وعن عمرو بن مرّة الجُهني -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إِلى النّبيّ ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق (7741) وإسناده صحيح، وقد أشار الإِمام أحمد إِلى هذا الأثر والذي قبله حين سُئل: يؤخّر القيام -يعني التراويح- إِلى آخر الليل؛ فقال: "لا، سُنّة المسلمين أحبُّ إِليّ". رواه أبو داود في "مسائله" (ص 62). (¬2) العزم: الجدّ والصبر، ويعزم المسألة، أي: يجدّ فيها ويقطعها والمقصود: لا يأمرهم أمر إِيجاب وتحتيم، بل أمر ندب وترغيب كما ذكر بعض العلماء. (¬3) طلباً لوجه الله وثوابه، فالاحتساب من الحسَب، وإنَّما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله احتسبه؛ لأنَّ له حينئذ أن يعتدّ عمله، والحِسبة اسمٌ من الاحتساب. "النهاية" -بحذف-. (¬4) قال شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (ص 487): "هذا الترغيب وأمثاله بيان لفضل هذه العبادات؛ بأنه لو كان على الإنسان ذنوب تُغفر له بسبب هذه العبادات، فلا يَرِد أن الأسباب المؤدية إِلى عموم المغفرة كثيرة، فعند اجتماعها؛ أىّ شيء يبقى للمتأخر منها حتى يغفر له؛ إِذ المقصود بيان هذه العبادات، بأنّ لها عند الله هذا القدر من الفضل، فإِنْ لم يكن على الإنسان ذنب، يظهر هذا الفضل في رفع الدرجات، كما في حق الأنبياء المعصومين من الذنوب، والله أعلم". (¬5) أخرجه البخاري: 37، ومسلم: 759

مشروعية الجماعة فيه

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أرأيتَ إِن شهدتُ أن لا إِله إلاَّ الله، وأنك رسول الله " وصلّيتُ الصلوات الخمس، وأدَّيتُ الزكاة، وصمتُ رمضان وقمتُه، فممّن أنا قال: من الصدِّيقين والشهداء" (¬1). مشروعية الجماعة فيه (¬2) وتشرع الجماعة في قيام رمضان، بل هي أفضل من الانفراد؛ لإِقامة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها بنفسه، وبيانه لفضلها بقوله؛ كما في حديث أبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قال: "صمنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمضان، فلم يَقُمْ بنا شيئاً من الشهر، حتى بقي سَبْعٌ، فقام بنا حتى ذهب ثُلُثُ الليل، فلمّا كانت السادسةُ لم يَقُم بنا، فلمّا كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطرُ الليل، فقلتُ: يا رسول الله! لو نفَّلتنا قيام هذه الليلة، فقال: إِنّ الرجل إِذا صلّى مع الإِمام حتى ينصرف حُسب له قيام ليلة". فلمّا كانت الرابعة لم يقم، فلمّا كانت الثالثة جمَع أهله ونساءه والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. قال: قلت: ما الفلاح؟ قال: السّحور، ثمَّ لم يقم بنا بقيّة الشهر" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البزار وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" واللفظ لابن حبان وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (989). (¬2) من هنا ولأوّل (لم يصل التراويح أكثر من إِحدى عشرة ركعة) عن "قيام رمضان" بتصرّف. (¬3) أخرجه أصحاب السنن وغيرهم، وهو مخرج في "صلاة التراويح" (ص 16 - 17)، و"الإِرواء" (447).

السبب في عدم استمرار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجماعة فيه

السبب في عدم استمرار النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجماعة فيه وإِنّما لم يقم بهم (عليه الصلاة والسلام) بقيّة الشهر خشية أن تُفرَض عليهم صلاةُ الليل في رمضان، فيعجَزوا عنها فعن عائشة أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى في المسجد ذات ليلة، فصلّى بصلاته ناس، ثمَّ صلّى من القابلة، فكثر الناس، ثمَّ اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إِليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلمّا أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إِليكم إلاَّ أنِّي خشيت أن تفرض عليكم، قال: وذلك في رمضان" (¬1). وقد زالت هذه الخشيةُ بوفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أنْ أكمل الله الشريعة، وبذلك زال المعلول، وهو ترْك الجماعة في قيام رمضان، وبقي الحُكم السابق وهو مشروعية الجماعة، ولذلك أحياها عمر -رضي الله عنه- كما في "صحيح البخاري" وغيره (¬2). مشروعية الجماعة للنساء قال شيخنا: "وهذا محلّه عندي إِذا كان المسجد واسعاً، لئلا يُشوِّش أحدهما على الآخر". عدد ركعاته وركعاتها إِحدى عشرة ركعةً، ونختار أن لا يزيد عليها اتّباعاً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإِنّه لم يزد عليها حتى فارق الدنيا، فقد سُئلت عائشة -رضي الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 924، ومسلم: 761 (¬2) انظر رقم (2010)، وتقدّم.

لم يصل التراويح أكثر من إحدى عشرة ركعة

عنها- عن صلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان؟ فقالت: "ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزيد في رمضان ولا في غيره على إِحدى عشرة ركعة، يصلّي أربعاً فلا تَسَلْ عن حُسْنهنّ وطولهنّ، ثمَّ يصلّي أربعاً فلا تَسَلْ عن حسنهنّ وطولهنّ، ثمَّ يصلّي ثلاثاً" (¬1). وله أن يُنْقِص منها، حتى لو اقتصر على ركعة الوتر فقط، بدليل فِعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقوله: أمّا الفعل، فقد سُئلت عائشة -رضي الله عنها-: بكم كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر؟ قالت: "كان يوتر بأربعٍ وثلاثٍ، وستٍّ وثلاثٍ، وعشرٍ وثلاثٍ، ولم يكن يوتر بأنقص من سبعٍ، ولا بأكثر من ثلاث عشرة" (¬2). وأمّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو: "الوتر حقٌّ، فمن شاء فليوتر بخمسٍ، ومن شاء فليوتر بثلاثٍ، ومن شاء فليوتر بواحدة" (¬3). لم يُصَلِّ التراويح أكثر من إِحدى عشرة ركعة (¬4) لم يثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه صلّى التراويح أكثر من إِحدى عشرة ركعة، وإِليك البيان: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1147، ومسلم: 738، وتقدّم. (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1233) وغيرهما وهو حديث جيد الإِسناد، وصحّحه العراقي، وهو مخرَّج في "صلاة التراويح" (ص 98 - 99). (¬3) تقدّم. (¬4) هذا العنون وما يحتويه من كتاب "صلاة التراويح" -بتصرف-.

1 - قد تقدّم حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن أنَّه سأل عائشة -رضي الله عنها- كيف كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان فقالت: ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزيد في رمضان ولا في غيره على إِحدى عشرة ركعة. 2 - وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال؛ صلّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شهر رمضان ثمان ركعات، وأوتر ... " (¬1). 3 - أمّا ما رواه ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي في رمضان عشرين ركعة والوتر" فإِسناده ضعيف وقد عارضه حديث عائشة هذا الذي في الصحيحين؛ مع كونها أعلم بحال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلاً من غيرها، قاله الحافظ في "الفتح". وسبَقه إِلى هذا المعنى الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 153). قال شيخنا: وحديث ابن عبّاس هذا ضعيف جدّاً كما قال السيوطي في "الحاوي للفتاوى" (2/ 73) وعِلّته أنّ فيه أبا شيبة إِبراهيم بن عثمان. قال الحافظ في "التقريب": "متروك الحديث" وقد تتبعْتُ مصادره فلم أجِده إِلا من طريقه ... وفصّل القول في ذلك. وقال البيهقي: تفرَّد به أبو شيبة وهو ضعيف، وكذلك قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 172) أنَّه ضعيف، والحقيقة أنَّه ضعيف جدّاً، كما يشير إِليه قول الحافظ المتقدّم: "متروك الحديث" وهذا هو الصواب فيه ..... وأورده الحافظ الذهبي من مناكيره، وقال الفقيه ابن حجر الهيتمي في ¬

_ (¬1) أخرجه ابن نصر والطبراني في المعجم الصغير وسنده حسن وأشار الحافظ في "الفتح" (3/ 10) و"التلخيص" (ص119) إِلى تقويته.

"الفتاوى الكبرى" (1/ 195) بعد أنْ ذكر الحديث: "شديد الضعف ... ". وقال السيوطي: "فالحاصل أنَّ العشرين ركعة لم تثبت مِن فِعله ... ومما يدلّ لذلك أيضاً (أي: عدم الزيادة) أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا عمل عملاً واظبَ عليه؛ كما واظب على الركعتين اللتين قضاهما بعد العصر؛ مع كون الصلاة في ذلك الوقت منهيّاً عنها، ولو فعَل العشرين ولو مرّة؛ لم يتركها أبداً، ولو وقع ذلك لم يَخْفَ على عائشة، حيث قالت ما تقدَّم". قلت: بل قد ثبت في "صحيح مسلم" (782) من حديث أبي سلمة عن عائشة -رضي الله عنها-: "وكان آل محمّد إذا عملوا عملاً أثبتوه"، وقد تقدّم. وفي "صحيح مسلم" (783) أيضاً: عن القاسم بن محمّد قال: "وكانت عائشة إِذا عملت العمل لزِمته". لهذا ولغيره نقول: لم يثبُت لنا عن أحدٍ من آل محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم صلّوا العشرين" والله تعالى أعلم. 4 - إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد التزم عدداً معيّناً في السنن الرواتب وغيرها؛ كصلاة الاستسقاء والكسوف ... وكان هذا الالتزام دليلاً مسلّماً عند العلماء أنَّه لا يجوز الزيادة عليها، فكذلك صلاة التراويح، ومن ادعى الفرق فعليه الدليل. وليست صلاة التراويح من النوافل المطلقة حتى يكون للمصلّي الخيار في أن يصلِّيها بأيّ عدد شاء، بل هي سُنّة مؤكّدة تشبه الفرائض من حيث أنّها تشرع مع الجماعة؛ كما قالت الشافعية فهي من هذه الحيثيّة أولى بأن لا يُزاد عليها من السنن الرواتب.

ردود على بعض التساؤلات والاعتراضات

ردود على بعض التساؤلات والاعتراضات 1 - قد يقول بعضهم: اختلاف العلماء دليل على عدم ثبوت النص المعيِّن للعدد. والجواب: إِنَّ الاختلاف في عدد ركعات التراويح لا يدلّ على عدم ورود نصٍّ ثابت فيه؛ لأنَّ الواقع أنَّ النصّ واردٌ ثابت فيه، فلا يجوز أن يُردّ النصّ بسبب الخلاف، بل الواجب أن يُزال الخلاف بالرجوع إِلى النصّ عملاً بقول الله تبارك وتعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شَجَر بينهم ثمَّ لا يَجِدوا في أنفُسِهِم حرَجاً ممّا قَضَيتَ ويُسَلّموا تَسلِيمًا} (¬1). وقوله سبحانه: {فإِنْ تَنَازعتُم في شيءٍ فردّوه إِلى الله والرسُول إِنْ كُنتُم تؤْمِنُون بالله واليَوم الآخِر ذلك خيْرٌ وأحْسَنُ تَأوِيلاً} (¬2). 2 - قد يقول قائل آخر: لا مانع من الزيادة على النصّ ما لم يُنْه عنها. وجوابه: الأصل في العبادات أنها لا تثبت إلاَّ بتوقيف من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولولا هذا الأصل لجاز لأيّ مسلم أن يزيد في عدد ركعات السُّنن بل والفرائض الثابت عددها بفِعْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستمراره عليه؛ بزعم أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يَنْهَ عن الزيادة عليها. 3 - وتمسّك بعضهم بالنصوص المطلقة والعامّة؛ في الحضّ على الإِكثار من الصلاة؛ بدون تحديد عدد؛ معيّن كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لربيعة بن كعب وقد سأله ¬

_ (¬1) النساء: 65 (¬2) النساء: 59

الأحوط اتباع السنة:

مرافقته في الجنَّة: "فأعنّي على نفسك بكثرة السجود". والجواب: إِنَّ هذا تمسُّكٌ واهٍ جداً، فإِنَّ العمل بالمطلقات على إِطلاقها إِنّما يسوغ فيما لم يقيّده الشارع من المطلقات، أمّا إِذا قيّد الشارع حُكماً مطلقاً بقيد؛ فإِنَّه يجب التقيُّد به وعدم الاكتفاء بالمطلق، فإِنَّ مسألتنا (صلاة التراويح) ليست من النوافل المطلقة، لأنها صلاة مقيّدة لا بنصّ عن رسول الله. وما مثَل من يفعل ذلك؛ إلاَّ كمن يصلي صلاة يخالف بها صلاة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنقولة عنه بالأسانيد الصحيحة؛ يخالفها كمًّا وكيفاً؛ متناسياً قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1) محتجًّا بمِثل تلك المطلقات! كمن يصلّي مثلاً الظهر خمساً وسنة الفجر أربعاً! الأحوط اتباع السنّة: واستطرد شيخنا -حفظه الله تعالى- قائلاً: "على أنَّه مهما قيل في جواز الزيادة أو عدمها، فما أظنّ أنّ مسلماً يتوقّف -بعد ما سلف بيانه- عن القول بأنّ العدد الذي ورَد عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل من الزيادة عليه لصريح قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وخير الهدي هدي محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -"، رواه مسلم (¬2)، فما الذي يمنع المسلمين اليوم أن يأخذوا بهذا الهدي المحمّدي ويدَعُوا ما زاد عليه من باب "دَعْ ما يَريبك إِلى ما لا يَريبك" ... وأنهم صلَّوها بالعدد الوارد في السُّنّة في مِثل المدّة التي يصلّون فيها العشرين؛ لكانت صلاتهم صحيحة مقبولة باتفاق العلماء، ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه. (¬2) برقم: 867

ويؤيّد ذلك حديث جابر قال: سئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيّ الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت (¬1) " (¬2). فعليكم أيها المسلمون بسنتَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ فإِنّ "خير الهدي هدي محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). 4 - وقد يقول قائل: إِنَّ عمر -رضي الله عنه- قد صلاّها عشرين ركعة. قال شيخنا: ولا يجوز أن يُعارَض هذه الرواية الصحيحة بما رواه عبد الرزاق من وجه آخر عن محمّد بن يوسف بلفظ: "إِحدى وعشرين" لظهور خطأ هذا اللفظ من وجهين: الأوّل: مخالفة لرواية الثقة بلفظ إِحدى عشرة (¬4). الثاني: أنَّ عبد الرزاق قد تفرَّد بروايته على هذا اللفظ ... (¬5). ¬

_ (¬1) قال النووي (6/ 35): "المراد بالقنوت هنا: القيام باتفاق العلماء -فيما علمت-". (¬2) أخرجه مسلم: 756 (¬3) صلاة التراويح: 39، 40 (¬4) يشير شيخنا -حفظه الله تعالى- إِلى ما رواه محمّد بن يوسف عن السائب بن يزيد قال: "أمَر عمر بن الخطاب أُبيّ بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإِحدى عشرة ركعة، قال: وقد كان يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصيّ من طول القيام، وما ننصرف إلاَّ في بزوغ الفجر". قال شيخنا- حفظه الله تعالى-: "وهذا سند صحيح جدّاً، فإِنّ محمّد بن يوسف شيخ مالك ثقة واحتجّ به اتفاقاً واحتجّ به الشيخان، والسائب بن يزيد صحابيّ ... ". (¬5) ارجع -إِن شئت- الكتاب المشار إِليه للمزيد من الاطلاع على التخريج والتحقيق.

الكيفيات التي تصلى بها صلاة التراويح

وقد أشار الترمذي في "سننه" إِلى عدم ثبوت عدد العشرين عن عمر وغيره من الصحابة فقال روي عن عليّ وعمر ... وكذلك قال الشافعي في العشرين عن عمر. انتهى كلام شيخنا -حفظه الله- بتصرف. 5 - وقد يقول قائل: قد قال رسول الله "صلاة الليل مثنى مثنى" (¬1). فجوابه: إِنَّ هذا لبيان الكيفية لا لبيان الكمّ، فعن عبد الله بن عمر؛ أنَّ رجلاً سأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنا بينه وبين السائل، فقال: يا رسول الله! كيف صلاة الليل؛ قال: مثنى مثنى ... " (¬2)، فإِنَّ هذا الصحابي لم يسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كم صلاة الليل؛ بل كيف صلاة الليل، فجواب: "مثنى مثنى"، عن كيف لا عن كم، وفي رواية (¬3): "فقيل لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: أن تُسلِّم في كلّ ركعتين". الكيفيّات التي تصلّى بها صلاة التراويح قد تقدّم تفصيل ذلك في صلاة الوتر وقيام الليل، والآن أذكر ما كتَبه شيخنا -حفظه الله- في "قيام رمضان" (ص27) تيسيراً وتذكيراً. الكيفيّة الأولى: ثلاث عشرة ركعة، يفتتحها بركعتين خفيفتين، وهما على الأرجح سُنّة العشاء البعدية، أو ركعتان مخصوصتان يفتتح بهما صلاة الليل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 909، ومسلم: 749، وتقدّم. (¬2) أخرجه البخاري: 990، ومسلم: 749 وتقدّم. (¬3) أخرجه مسلم: 749

كما تقدّم، ثمَّ يصلّي ركعتين طويلتين جداً، ثمَّ يصلّي ركعتين دونهما، ثمَّ يصلّي ركعتين دون اللتين قبلهما، ثمَّ يصلّي ركعتين دونهما، ثمَّ يصلّي ركعتين دونهما، ثمَّ يوتر بركعة. الثانية: يصلّي ثلاث عشرة ركعة، منها ثمان، يُسلِّم بين كل ركعتين، ثمَّ يوتر بخمس لا يجلس ولا يُسلّم إلاَّ في الخامسة. الثالثة: إِحدى عشرة ركعة، يُسلّم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة. الرابعة: إِحدى عشرة ركعة، يُصلّي منها أربعاً بتسليمة واحدة، ثمَّ أربعاً كذلك، ثمَّ ثلاثاً. وهل كان يجلس بين كل ركعتين من الأربع والثلاث؟ لم نَجِد جواباً شافياً في ذلك، لكنَّ الجلوس في الثلاث لا يُشرع! الخامسة: يصلّي إِحدى عشرة ركعة، منها ثمان ركعاتٍ لا يقعد فيها إلاَّ في الثامنة، يتشهد ويصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ يقوم ولا يسلّم، ثمَّ يوتر بركعةٍ، ثمَّ يسلم، فهذه تسع، ثمَّ يصلّي ركعتين، وهو جالس. السادسة: يصلّي تسع ركعاتٍ؛ منها ستٌّ لا يقعد إلاَّ في السادسة منها، ثمَّ يتشهّد ويصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ ... إِلخ ما ذُكر في الكيفيّة السابقة. هذه هي الكيفيّات (¬1) التي ثبتت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصّاً عنه، ويمكن أن يزاد عليها أنواع أخرى، وذلك بأن يُنقص من كل نوع منها ما شاء من الركعات حتى يقتصر على ركعة واحدة عملاً بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتقدّم: " ... فمن شاء ¬

_ (¬1) تقدّم من هنا ولأوّل القراءة في القيام.

القراءة في القيام

فليوتر بخمس، ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة". فهذه الخمس والثلاث، إِن شاء صلاّها بقعود واحد، وتسليمة واحدة كما في الصفة الثانية، وإِنْ شاء سلّم بين كلّ ركعتين كما في الصفة الثالثة وغيرها، وهو الأفضل. وأمّا صلاةُ الخمس والثلاث بقعود بين كّل ركعتين بدون تسليم فلم نجِده ثابتاً عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأصل الجواز، لكن لمّا كان النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نهى عن الإِيتار بثلاث، وعلّل ذلك بقوله: "ولا تشبّهوا بصلاة المغرب"، فحينئذٍ لا بُدَّ لمن صلّى الوتر ثلاثاً من الخروج عن هذه المشابهة، وذلك يكون بوجهين: أحدهما: التسليم بين الشفع والوتر، وهو الأقوى والأفضل. والآخر: أن لا يقعد بين الشفع والوتر، والله تعالى أعلم". القراءة في القيام (¬1) وأمّا القراءة في صلاة الليل في قيام رمضان أو غيره، فلم يَحُدَّ فيها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدّاً لا يتعدّاه بزيادة أو نقص، بل كانت قراءته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تختلف قِصَراً وطولاً، فكان تارةً يقرأُ في كلِّ ركعة قدر {يا أيها المُزَّمّل} (¬2)، وهي عشرون آية، وتارة قدْر خمسين آية (¬3)، وكان يقول: "من صلّى في ليلة بمائة آية لم يُكتَب ¬

_ (¬1) عن قيام رمضان (ص 23 - 25) -بتصرف-. (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح. (¬3) انظر "صحيح البخاري" (1123)، و"صحيح سنن أبي داود" (1216).

من الغافلين" (¬1). وفي حديث آخر: " ... بمائتي آية فإِنّه يُكتب من القانتين المُخلصين" (¬2). "وقرأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة وهو مريض السبع الطوال، وهي سورة {البقرة}، {آل عمران} و {النساء} و {المائدة} و {الأنعام} و {الأعراف} و {التوبة} " (¬3). وفي قصّة صلاة حذيفة بن اليمان وراء النّبيّ عليه الصلاة والسلام "أنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في ركعة واحدة {البقرة} ثمَّ {النساء} ثمَّ {آل عمران}، وكان يقرؤها مترسّلاً متمهلاً" (¬4). وثبت بأصحّ إِسناد أنّ عمر -رضي الله عنه- لمَّا أمر أُبيَّ بن كعب أن يصلّي للناس بإِحدى عشرة ركعة في رمضان، كان أُبيّ -رضي الله عنه- يقرأ بالمئين، حتى كان الذين خلفه يعتمدون على العصيِّ من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلاَّ في أوائل الفجر (¬5). وصحّ عن عمر أيضاً أنّه دعا القُرَّاء في رمضان، فأمَر أسرعهم قراءة أن يقرأ ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وانظر "صفة الصلاة" (ص 120) و"صحيح الترغيب والترهيب" (634). (¬2) أخرجه الدارمي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وانظر "صفة الصلاة" (ص 120) و"صحيح الترغيب والترهيب" (634). (¬3) أخرجه أبو يعلى والحاكم وصححّه ووافقه الذهبي وانظر "صفة الصلاة" (ص 118). (¬4) انظر "صحيح مسلم" (772). (¬5) أخرجه مالك بنحوه، وانظر "صلاة التراويح" (ص 52)، وتقدّم.

جواز جعل القنوت بعد الركوع في النصف الثاني من رمضان

ثلاثين آية، والوسط خمساً وعشرين آية، والبطيء عشرين آية (¬1). وعلى ذلك فإِنْ صلّى القائم لنفسه فليطوِّل ما شاء، وكذلك إِذا كان معه من يوافقه، وكلما أطال فهو أفضل، إلاَّ أنه لا يبالغ في الإِطالة حتى يُحيي الليل كلّه إلاَّ نادراً، اتّباعاً للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القائل: "وخير الهدي هدي محمّد" (¬2). وأمّا إِذا صلّى إِماماً، فعليه أن يطيل بما لا يشقُّ على مَن وراءه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا ما قام أحدكم للناس فليخفّف الصلاة، فإِنَّ فيهم [الصغير] والكبير وفيهم الضعيف، [والمريض]، [وذا الحاجة]، وإِذا قام وحده فليُطِل صلاته ما شاء" (¬3). جواز جعْل القنوت بعد الركوع في النصف الثاني من رمضان لقد سبق القول فيما يتعلّق بموضع دعاء القنوت وأنَّه قبل الركوع، ولكن: لا بأس من جعل القنوت بعد الركوع، ومن الزيادة عليه بلعن الكفَرة، والصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والدعاء للمسلمين في النصف الثاني من رمضان؛ لثبوت ذلك عن الأئمّة في عهد عمر- رضي الله عنه- فقد جاء في آخر حديث عبد الرحمن بن عبد القاري: "وكانوا يلعنون الكفَرة في النصف: اللهم قاتِل الكفَرة الذين يصدّون عن سبيلك، ويُكذّبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالِف بين كلمتهم، وألقِ في قلوبهم الرُّعب، وألقِ عليهم رِجزك وعذابك، إِله ¬

_ (¬1) قال شيخنا -حفظه الله تعالى- "انظر تخريجه في "صلاة التراويح" (ص 71) ورواه عبد الرزاق أيضاً في "المصّنف" والبيهقي". (¬2) أخرجه مسلم: 867 (¬3) أخرجه البخاري: 703، ومسلم: 467 والزيادات له.

صلاة الضحى

الحق"، ثمَّ يُصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير، ثمَّ يستغفر للمؤمنين. قال شيخنا -حفظه الله-: "وكان إِذا فرغ من لعْنِه الكفَرة وصلاته على النّبيّ واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات ومسألته: "اللهمّ إِيّاك نعبد، ولك نُصلّي ونسجد، وإِليك نسعى ونحفد (¬1)، ونرجو رحمتك ربّنا، ونخاف عذابك الجدَّ، إِنَّ عذابك لمن عاديت مُلحق"، ثمَّ يُكبر ويهوي ساجداً (¬2) " (¬3). صلاة الضّحى فضلها: 1 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أوصاني خليلي (¬4) بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد" (¬5). 2 - عن أبي ذر عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: يصبح على كلّ سُلامى (¬6) من ¬

_ (¬1) نُسرع في العمل والخِدمة. "النهاية". (¬2) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه". (¬3) انظر "قيام رمضان" (ص 32). (¬4) خليلي: الخُلَّة بالضم: الصداقة والمحبّة التي تخلّلت القلب فصارت خلاله أي: في باطنه، والخليل: الصديق، فعيل بمعنى مُفاعِل، وقد يكون بمعنى مفعول. "النهاية". (¬5) أخرجه البخاري: 1981، ومسلم: 721 (¬6) قال النووي: "أصْله عظام الأصابع وسائر الكفّ، ثمَّ استُعمل في جميع عظام البدن ومفاصله". وجاء في "النهاية": "السلامى: جمع سُلامية، وهي الأُنمُلة من أنامل =

أحدكم صدقة، فكلّ تسبيحة صدقة، وكلّ تحميدة صدقة، وكلّ تهليلة صدقة، وكلّ تكبيرة صدقة، وأمْر بالمعروف صدقة، ونهْي عن المنكر صدقة، ويُجزئ من ذلك؛ ركعتان يركعهما من الضحى" (¬1). 3 - عن بريدة -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "في الإِنسان ثلاثمائة وستون مَفصلاً، فعليه أن يتصدّق عن كلّ مفصل بصدقة، قالوا: ومن يطيق ذلك يا نبيّ الله؟ قال: النخاعة في المسجد تدفنها، والشيء تنحّيه عن الطريق، فإِنْ لم تجد فركعتا الضحى تجزئك" (¬2). 4 - عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: "بعَث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعْثاً فأعظَموا الغنيمة، وأسرعوا الكرَّة: فقال رجل: يا رسول الله ما رأينا بعْثاً قطّ أسرع كرَّة، ولا أعظم غنيمةً من هذا البعث فقال: "ألا أُخبركم بأسرع كرّة منهم، وأعظم غنيمة؟ رجل توضّأ فأحسن الوضوء، ثمَّ عمد إِلى المسجد فصلّى فيه الغداة، ثمَّ عقَّب بصلاة الضَّحوة، فقد أسرع الكرَّة، وأعظم الغنيمة" (¬3). ¬

_ = الأصابع، ويُجمع على سُلامَيات، وهي التي بين كلّ مَفصلين من أصابع الإِنسان، وقيل السُّلامى: كل عظم مجوّف من صغار العظام، والمعنى: على كلّ عظم من عظام ابن آدم صدقة". (¬1) أخرجه مسلم: 720 (¬2) أخرجه أبو داود وأحمد وغيرهما، وصحّحه شيخنا في "الإِرواء" (461)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (661). (¬3) أخرجه أبو يعلى، ورجال إِسناده رجال الصحيح، والبزار وابن حبان في "صحيحه"، وبيّن البزار في روايته أن الرجل أبو بكر -رضي الله عنه- وانظر =

5 - عن عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِن الله عزّ وجلّ يقول: يا ابن آدم! اكفني أوّل النهار بأربع ركعات، أكفِك بهنّ آخر يومك" (¬1). 6 - عن أبي أُمامة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من خرج من بيته متطهّراً إِلى صلاةٍ مكتوبة، فأجْره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إِلى تسبيح الضحى (¬2)، لا يُنصِبه (¬3) إلاَّ إِياه (¬4)، فأجْره كأجر المعتمر، وصلاة على أَثْر (¬5) صلاة لا لغو بينهما، كتاب في علّيّين" (¬6). 7 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يحافظ على صلاة الضحى إِلاَّ أوّاب، -قال-: وهي صلاة الأوّابين" (¬7). الأوّاب: صيغة مبالغة؛ كثير الرجوع إِلى الله تعالى بالتوبة والإِنابة. ¬

_ = "صحيح الترغيب والترهيب" (664). (¬1) أخرجه أحمد وأبو يعلى ورجال أحدهما رجال الصحيح، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (666). (¬2) تسبيح الضحى: أي صلاة الضحى، جاء في "النهاية": ويُقال أيضاً للذِّكر ولصلاة النافلة سُبحة ويُقال: قضيتُ سُبحتي، والسُّبحة من التسبيح. (¬3) من الإنصاب، وهو الإِتعاب. (¬4) لا يتعبه الخروج إلاَّ تسبيح الضحى. "عون" (2/ 185). (¬5) بكسر الهمزة، ثم سكون أو بفتحتين عقيبها. "عون". (¬6) أخرجه أبو داود وحسنه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (670). (¬7) خرجه الطبراني وابن خزيمة في "صحيحه" والحاكم، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (673)، و"الصحيحة" (703).

حكمها:

حُكمها: صلاة الضحى مستحبّة وجاء في تبويب "صحيح مسلم" (¬1) "باب استحباب صلاة الضحى". وقتها: يبدأ وقتها بارتفاع الشمس قدر رُمح (¬2) وينتهي بدخول وقت الكراهة، قبل الزوال بقليل. بيد أنَّ المستحبّ تأخيرها حتى ترتفع الشمس ويشتد الحرّ. عن القاسم الشيباني أنَّ زيد بن أرقم رأى قوماً يُصلون من الضحى، فقال: أمَا لقد علموا أنَّ الصلاة في غير هذه الساعة أفضل، إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة الأوابين حين تَرْمَض الفِصال (¬3) " (¬4). عدد ركعاتها: أقلّها ركعتان -لِما تقدّم- وأنَّ أقلها ركعتان وأكملها ثمان ركعات وأوسطها أربع ركعات أو ست (¬5). ¬

_ (¬1) انظر كتاب صلاة المسافرين وقصرها. (¬2) سألت شيخنا -حفظه الله - عن ذلك فقال: الرمح: (متران) بالقياس المعهود اليوم. (¬3) ترمَض الفصال: هي أن تَحمى الرمضاء -وهي الرمل- فتبرك الفصال -جمع فصيل- وهي الصغار من أولاد الإبل، من شدة حرّها وإحراقها أخفافها. "النهاية" بزيادة. (¬4) أخرجه مسلم: 748 (¬5) هذا عنوان من تبويب "صحيح مسلم" (كتاب صلاة المسافرين وقصرها).

صلاة الاستخارة

وأكثر ما ثبت من فِعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثماني ركعات كما في حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "ما أخبَرني أحدٌ أنَّه رأى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي الضّحى إلاَّ أمّ هانئ، فإِنَّها حدّثت أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل بيتها يوم فتح مكّة، فصلّى ثماني ركعات" (¬1). وأكثر ما ثبت من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اثنتا عشرة ركعة كما في حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صلّى الضحى ركعتين، لم يُكتب من الغافلين، ومن صلّى أربعاً كُتب من العابدين، ومن صلّى ستاً كُفي ذلك اليوم، ومن صلّى ثمانياً كتبه الله من القانتين، ومن صلّى ثنتى عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة، وما من يوم ولا ليلة إِلا لله من يَمُنُّ به على عباده صدقة، وما من الله على أحد من عباده أفضل من أن يُلهمه ذِكره" (¬2). صلاة الاستخارة يسنُّ لكلِّ من همَّ بأمرٍ ذي بال إِن لم يدرِ، إِنْ كان الخير في فِعله أو ترْكه؛ أن يستخير الله تعالى فيه، فيصلّي ركعتين من غير الفريضة؛ ثمَّ يدعو بعد السلام بالدعاء المبيَّن في حديث جابر -رضي الله عنه- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلّمنا الاستخارة (¬3) في الأمور كلّها؛ كالسورة من القرآن: إِذا همّ أحدكم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1176، ومسلم: 336 (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير ورواته ثقات وحسّنه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (671). (¬3) الخير: ضد الشرّ، تقول: من خِرْت يا رجل فأنت خائر وخَيِّر، وخارَ الله لك: أي أعطاك ما هو خيرٌ لك، والخِيره بسكون الياء: الاسم منه، فأمّا بالفتح: (الخِيَرة) فهي =

بالأمر فليركع ركعتين، من غير الفريضة، ثمَّ ليقل: "اللهمّ إِنِّي أستخيرك بعلمك واستقدرك (¬1) بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإِنَّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهمّ إِنْ كنت تعلم أنَّ هذا الأمر -وتسمّيه باسمه- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله، فاقدُره لي ويسِّرْه لي ثمَّ بارِك لي فيه، وإِن كنتَ تعلم أنَّ هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله، فاصرِفه عني واصرِفني عنه، واقدُر لي (¬2) الخير حيث كان ثمَّ رضِّني به وفي بعض الروايات: قال: ويسمِّي حاجته" (¬3). والدليل على أنَّ الدعاء بعد الصلاة لا قبلها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فليركع ركعتين من غير الفريضة ثمَّ ليقل" فإنّ "ثمَّ" تفيد الترتيب مع التراخي، فأفاد ذلك أنها بعد الصلاة. * وينبغي أن يفعل بعد الاستخاره ما ينشرح له، فلا ينبغي أن يعتمد على انشراحٍ كان فيه هوى قبل الاستخارة، بل ينبعي للمستخير ترْك اختياره رأساً، وإِلاَّ فلا يكون مستخيراً لله، بل يكون غير صادقٍ في طلب الخير، وفي التبرِّي ¬

_ = الاسم، من قولك: اختاره الله ... والاستخارة طلب الخِيَرة في الشيء، وهو استفعال منه "النهاية" بحذف. (¬1) أي: أطلب منك أن تجعل لي عليه قدره، قاله بعض العلماء. (¬2) أي: اقضِ لي به وهيِّئه. "النهاية". (¬3) أخرجه البخاري بنحوه: 6382، وهو من "صحيح الكَلِم" (115)، وخرّجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (679).

صلاة التسابيح

من العلم والقدرة وإِثباتهما لله تعالى، فإِذا صدق في ذلك؛ تبرّأ من الحول والقوّة ومن اختياره لنفسه. * (¬1) صلاة التسابيح عن عكرمة عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للعبّاس ابن عبد المطّلب: "يا عبّاس يا عمّاه! ألا أعطيك ألا أمنحك ألا أحبوك ألا أفعل لك عشرَ خصال؛ إِذا أنتَ فعلتَ ذلك غفَر الله ذَنبك أوّله وآخره، وقديمه وحديثه، وخطأه وعمدَه، وصغيره وكبيره، وسرَّه وعلانيته، عشرَ خصال (¬2)؟ أن تصلّي أربع ركعاتٍ، تقرأ في كلّ ركعةٍ (فاتحة الكتاب) وسورةً، فإِذا فرغْتَ من القراءة في أوّل ركعة فقُل وأنت قائم: "سبحان الله والحمد لله، ولا إِله إلاَّ الله، والله أكبر" خمس عشرة مرة، ثمَّ تركعُ فتقولها وأنت راكع عشراً، ثمَّ ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً، ثمَّ تهوي ساجداً فتقولها وأنت ساجد عشراً، ثمَّ ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، ثمَّ تسجد فتقولها عشراً، ثمَّ ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، فذلك خمسٌ وسبعون في كلّ ركعةٍ، تفعل ذلك في أربع ركعاتٍ، إِن استطعت أن تصلِّيَها في كل يوم مرّة فافعل، فإِن لم تستطع، ففي كل جمعة مرّةً، فإِنْ لم تفعل، ففي كل شهر مرّةً، فإِنْ لم تفعل ففي كل سنة مرّة، فإِنْ لم تفعل ففي ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين قاله النووي -رحمه الله- وذكره السيد سابق -حفظه الله- في "فقه السنّة" (1/ 211). (¬2) أي: عشرة أنواع ذنوبك. "مرقاة" (3/ 415).

صلاة التوبة

عُمُرك مرةً (¬1) " (¬2). صلاة التوبة عن أبي بكر -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما من رجلٍ يُذنب ذنباً، ثمَّ يقوم فيتطهّر ثمَّ يصلّي، ثمَّ يستغفر الله، إلاَّ غفَر الله له، ثمَّ قرأ هذه الآية: {والذين إِذا فعَلوا فاحشةً أو ظلموا أنفُسَهم ذكَروا الله} إِلى آخر الآية" (¬3). وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "مَن توضّأ فأحسَن الوضوء، ثمَّ قام فصلّى ركعتين أو أربعاً -يشكّ سهل- يُحسِن فيهنّ الذكر والخشوع، ثمَّ استغفر الله غفر له" (¬4). ¬

_ (¬1) قال الحافظ المنذري: "وقد روي هذا الحديت من طرق كثيرة، وعن جماعة من الصحابة، وأمثلُها حديث عكرمة هذا، وقد صححه جماعة منهم الحافظ أبو بكر الآجُري، وشيخنا أبو محمد عبد الرحيم المصري، وشيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي -رحمهم الله تعالى-. وقال أبو بكر بن أبي داود: سمعْت أبي يقول: "ليس في صلاة التسبيح حديث صحيح غير هذا". وقال مسلم بن الحجّاج -رحمه الله تعالى-: لا يُروى في هذا الحديث إِسناد أحسن من هذا يعني إِسناد حديث عكرمة عن ابن عباس". (¬2) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (674). (¬3) أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في "صحيحه" والبيهقي وقالا: "ثمَّ يصلّي ركعتين"، وصححه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (677). (¬4) أخرجه أحمد بإِسناد حسن، وحسّنه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (223).

صلاة الكسوف

صلاة الكسوف (¬1) اختلف العلماء في حُكم صلاة الكسوف ويرى الجمهور على أنَّها سنة مؤكّدة، وصَرَّح أبو عوانه في "صحيحه" بوجوبها، ونقل الزين ابن المنيّر عن أبي حنيفة أنَّه أوجبها، وكذا نقل بعض مصنّفي الحنفية أنَّها واجبة (¬2). وقال شيخنا -حفظه الله تعالى-: " ... وهو ظاهر صنيع ابن خزيمة في "صحيحه" فإِنَّه قال فيه (2/ 308) " باب الأمر بالصلاة عند كسوف الشمس والقمر ... ". وذكَر أيضاً بعض الأحاديث في الأمر بها، ومن المعلوم من أسلوب ابن خزيمة في "صحيحه" أنَّه حين يكون الأمر عنده لغير الوجوب؛ يبيّن ذلك في أبواب كتابه فالمسألة فيها خلاف". وقال -حفظه الله تعالى- في القول بالوجوب: "وهو الأرجح دليلاً لما يأتي: "إِن القول بالسنيّة فقط؛ فيه إِهدار للأوامر الكثيرة التي جاءت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه الصلاة؛ دون أيّ صارف لها عن دلالتها الأصليّة ألا وهو الوجوب، ومال إِلى هذا الشوكاني في "السيل الجرار" (1/ 323) وأقرّه صدّيق خان في "الروضة الندية" وهو الحقّ إِن شاء الله تعالى". انتهى. ويُنادى لها: "إِنّ الصلاة جامعة" لحديث عبد الله بن عمرو -رضي الله ¬

_ (¬1) الكسوف لغةً: التغيير إِلى سواد، ومنه: كسف وجهه وحاله، وكسفت الشمس: اسودّت وذهب شعاعها. "فتح" (2/ 526). (¬2) انظر "الفتح" (2/ 527).

عنهما- قال: "لمّا كسَفَت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نودي: إِنَّ الصلاة جامعة (¬1) " (¬2). ثمَّ يصلّي بهم الإِمام ركعتين؛ كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: خسَفَت الشمس في حياة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج إِلى المسجد فصفَّ الناس وراءهُ فكبَّر، فاقْترأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قراءةً طويلةً، ثمَّ كبَّر فركع ركوعاً طويلاً، ثمَّ قال سمع الله لمن حمده، فقام ولم يسجد، وقرأ قراءةً طويلة؛ هي أدنى من القراءة الأولى، ثمَّ كبَّر وركع ركوعاً طويلاً، وهو أدنى من الركوع الأوّل، ثمَّ قال سمع الله لمن حمده ربّنا ولك الحمد، ثمَّ سجد، ثمَّ قال في الركعة الآخرة مِثل ذلك، فاستكمل أربع ركعات في أربع سجداتٍ، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف، ثمَّ قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثمَّ قال: هما آيتان من آيات الله لا يَخْسِفان لموت أحدٍ ولا لحياته. فإِذا رأيتموها فافزعوا إِلى الصلاة" (¬3). ويكون ذلك جهراً كما تدّل على ذلك النصوص. قال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنّة" (263): "أنَّ صلاة ¬

_ (¬1) والمعنى: احضروا الصلاة في حال كونها جامعة، أو: إِنّ الصلاة جامعة فاحضروها وانظر "الفتح" (2/ 533). (¬2) أخرجه البخاري: 1045، ومسلم: 910 (¬3) أخرجه البخاري: 1046، ومسلم: 901

الكسوف؛ إِنّما صلاّها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرّة واحدة، وقد صحّ أنَّه جهر بها كما في "البخاري"، ولم يَثبُت ما يُعارضه ... ". قلت: وقد بوّب لذلك البخاري بقوله (باب الجهر بالقراءة في الكسوف) وقال الحافظ: استدلّ به على الجهر فيها بالنّهار. ويحسن إِطالة السجود والركوع في الصلاة، لحديث عائشة: "ما سجدْت سجوداً قطّ كان أطول منه" (¬1). وفي "مسلم" (910): "قالت عائشة: ما ركعتُ ركوعاً قطّ، ولا سجدت سجوداً قطّ؛ كان أطول منه". والركعة الأولى في الكسوف أطول؛ كما في حديث عائشة أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "صلّى بهم في كسوف الشمس أربع ركعات في سجدتين الأوّل الأوّل أطول" (¬2). وصرّح البخاري بذلك في تبويبه. وتصلّى جماعةً لِما دلّت عليه الأحاديث المتقدّمة، وبوّب لذلك أيضاً البخاري في "كتاب الكسوف" فقال: (باب صلاة الكسوف جماعة). قال الحافظ (2/ 540): "أي: وإن لم يحضروا الإِمام الراتب، فيؤمّ لهم بعضهم وبه قال الجمهور، وعن الثوري إِن لم يحضر الإِمام صلَّوا فرادى". انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1051، وانظر "الفتح" (2/ 539) -إِن شئت- للمزيد من الفوائد الحديثية. (¬2) أخرجه البخاري: 1064، وانظر "الفتح" (2/ 548) إِن شئت للمزيد من الفائدة.

صلاتها في المسجد

والأوّل أرجح ولا دليل على الثاني والله تعالى أعلم. ويسنّ للنساء مشاركة الرجال في الكسوف، وفيه أحاديثُ، من ذلك قول عائشة -رضي الله عنها- المتقدّم- تَصِفُ صلاة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ما سجدْت سجوداً قطّ كان أطول منه ... ". وبوّب لذلك البخاري -رحمه الله بقوله: (باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف). صلاتها في المسجد وتُصلّى في المسجد لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "فمرّ رسول الله بين ظَهْرانَي الحُجَر". وقد ذكره البخاري (1056) -تحت باب (صلاة الكسوف في المسجد) وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 544) لم يقع فيه التصريح (أي صلاة الكسوف في المسجد) بكونها في المسجد، لكنّه يؤخذ من قولها أي [عائشة -رضي الله عنها-] فيه: "فمرّ بين ظَهرانَي الحُجَر؛ لأنَّ الحُجرَ بيوت أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت لاصقة بالمسجد، وقد وقَع التصريح بذلك في رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن عمرة عند مسلم ولفظه: "فخرجت في نسوة بين ظهراني الحُجر في المسجد فأَتَى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مركبه حتى أتى إِلى مصلاه الذي كان يُصلّي فيه، الحديث". قال شيخنا -حفظه الله- في "الإِرواء" (3/ 127): "وقد اختلفت الأحاديث في عدد ركوعات صلاة الكسوف اختلافاً كثيراً، فأقلّ ما رُوي ركوع واحد في كلّ ركعة من ركعتين، وأكثر ما قيل خمسة ركوعات، والصواب أنَّه ركوعان في كل ركعة؛ كما في حديث أبي الزبير عن جابر، وهو الثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وغيرها من الصحابة

وقتها:

-رضي الله عنهم- وقد حقَّقتُ القول في ذلك، وجمعْتُ الأحاديث الواردة فيه وخرّجتُها ثمَّ لخّصتُ ما صحّ منها في جزء عندي". وقتها: وقت الصلاة من حين الكسوف أو الخسوف حتى ينجليا لحديث جابر ابن عبد الله: "إنّهما آيتان من آيات الله يريكموهما، فإِذا خَسَفا فصلُّوا حتى لينجلي (تَنجلي) " (¬1). الخطبة بعد الصلاة: يُسنّ للإِمام بعد الانتهاء من الصلاة أن يخطب الناس، فيُثني على الله تعالى بما هو أهله، ويُذّكرهم أنّ كسوف الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى؛ لا يخسِفان لموت أحدٍ ولا لحياته، ويأمر بالالتجاء إِلى الله، وكلّ ذلك مُبيّن في حديث عائشة -رضي الله عنها- المتقدّم. ويحثّهم على الدعاء والتكبير والصدقة، ويذكّرهم بالله سبحانه ويخوفهم؛ كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- أيضاً عند البخاري (1044) ومسلم (901) بلفظ: " ... إِنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإِذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّروا وصلّوا وتصدّقوا ... ". وأمرَ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعَتاقة في كسوف الشمس كما في حديث أسماء -رضي الله عنها- بلفظ: "لقد أمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعَتاقة في كسوف الشمس" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 904 (¬2) أخرجه البخاري: 1054

صلاة الاستسقاء

صلاة الاستسقاء الاستسقاء لغة: "طلب سَقْي الماء من الغير للنفس أو الغير، وشرعاً: طلبه من الله عند حضور الجدب على وجهٍ مخصوص" (¬1). وتُصلّى في أي وقت خلا وقت الكراهة. وتكون في المصلّى كما في "صحيح البخاري" (1012) و"مسلم" (894) من حديث عبد الله بن زيد "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إِلى المصلّى فاستسقى، فاستقبل القبلة وقلب رداءه". ويخرج المسلمون للاستسقاء متذلّلين متواضعين متخشّعين متضرّعين، كما في حديث ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: قال: "خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متذلّلاً متواضعاً متخشعاً متضرّعاً" (¬2). ويصلّي الإِمام ركعتين؛ يجهر فيهما بالقراءة؛ لحديث عبد الله بن زيد قال: "خرج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستسقي، فتوجّه إِلى القبلة يدعو، وحوّل رداءه، ثمَّ صلّى ركعتين جهرَ فيهما بالقراءة" (¬3). ¬

_ (¬1) "فتح" (2/ 492). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1032)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (459)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1416)، وابن خزيمة "صحيح ابن خزيمة" (1405)، وانظر "الإرواء" (669). (¬3) أخرجه البخاري: 1024، ومسلم دون الجهر بالقراءة وأشار شيخنا -حفظه الله تعالى- إِلى ذلك في "الإِرواء" تحت (664).

ويقرأ بما تيسّر من القرآن العظيم، وليس هناك سُور معينة كما أشار شيخنا - حفظه الله تعالى- في "تمام المنّة" (ص 264). ويكثر الإِمام من الدعاء لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: شكا الناس إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُحوط المطر، فأمَر بمنبر فوُضع له في المصلّى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، قالت عائشة: فخَرَج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلّم حين بدا حاجب الشمس (¬1). فقعد عى المنبر، فكبّر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحمد الله عزّ وجلّ ثمَّ قال: إِنّكم شكوتم جدْب دياركم واستئخار المطر عن إِبّان زمانه (¬2) عنكم، وقد أمَركم الله عزّ وجلَّ أن تدْعوه، ووعدَكم أن يستجيب لكم. ثمَّ قال: الحمد لله ربّ العالمين الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. لا إله إلاَّ الله يفعل ما يريد، اللهمّ أنت الله لا إِله إلاَّ أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيث، واجعل ما أنزلتَ لنا قوّة وبلاغاً (¬3) إِلى حين (¬4) ثمَّ رفع ¬

_ (¬1) أي: أوله أو بعضه، قال الطيبي: أي: أوّل طلوع شعاعها من الأفق، قال ميرك: الظاهر أنَّ المراد بالحاجب: ما طلع أوّلاً من جرم الشمس مستدقًّا مشبهاً بالحاجب. "مرقاة" (3/ 616). (¬2) بكسر الهمزة وتشديد الباء، أي: وقته، يعني: عن أوّل زمان المطر. "مرقاة" بحذف. (¬3) أي: زاداً يبلغنا. (¬4) أي: من أحيان آجالنا، قال الطيبي: البلاغ: ما يُتَبلَّغ به إِلى المطلوب، والمعنى اجعل الخير الذي أُنزل علينا؛ سبباً لقوتنا ومدداً لنا مدداً طوالاً.

يديه (¬1)، فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إِبطيه، ثمَّ حوَّل إِلى الناس ظهره، وقلب (¬2) أو حوّل رداءه وهو رافع يديه، ثمَّ أقبل على الناس، ونزَل، فصلّى ركعتين، فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت، ثمَّ أمطرت بإِذن الله فلم يأت مسجده، حتى سالت السيول، فلمّا رأى سرعتهم إِلى الكِنّ (¬3) ضحك رسول الله حتى بدت نواجذه (¬4) فقال: أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأنّي عبد الله ورسوله" (¬5). ويستغفر كما في النص الآتي إِن شاء الله تعالى عن زيد بن أرقم، ويرفع الإِمام يديه وكذا المأمومون، ويبالغ الإِمام في الرفع كما في "البخاري": (1031)، "ومسلم" (895): عن أنس يصف رفْع يديه: "وإنَّه يرفع حتى يُرى بياض إِبطيه". قال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المِنّة" (ص 265): " ... فأرى مشروعية المبالغة في الرفع للإِمام دون المؤتمّين". ويحوّل رداءه كما تقدّم، وقد ورد في ذلك حديث عبد الله بن زيد بلفظ: ¬

_ (¬1) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان إِذا دعا [رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاستسقاء] جعَلَ ظاهر كفّيه ممّا يلي وجهه". أخرجه أبو يعلى في "مسنده"، وانظر "الصحيحة" (2491). (¬2) بالتشديد وفي نسخة بالتخفيف. "مرقاة". (¬3) ما يردّ به الحرّ والبرد من المساكن. (¬4) أي: آخر أضراسه. (¬5) أخرجه أبو داود والسياق له والطحاوي والبيهقي والحاكم وحسّنه شيخنا في "الإِرواء" (668).

لا أذان ولا إقامة للاستسقاء

"وحوّل رداءه، فقلّبه ظهراً لبطن" (¬1). وفي "صحيح البخاري" (1027): قال سفيان: فأخبَرني المسعودي عن أبي بكر قال: جعَل اليمين على الشمال. ولا دليل لتحويل الناس أرديتهم (¬2). وقد ورد ما يدل على أنَّ الخطبة قبل الصلاة كما في حديث عائشة المتقدّم عندما "خرج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين بدا حاجب الشمس ... ". وجاء في "الفتح" (2/ 515): "قال ابن بطال: حديث أبي بكر يدلّ على أنَّ الصلاة قبل الخطبة، لأنَّه ذكر أنَّه صلّى قبل قلْب ردائه، قال: وهو أضبط للقصّة من ولده عبد الله بن أبي بكر؛ حيث ذكَر الخطبة قبل الصلاة". ولفظ الحديث المشار إِليه: "خرج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى المصلى يستسقي، واستقبل القِبلة فصلى ركعتين وقلب رداءه، قال سفيان فأخبَرني المسعودي عن أبي بكر قال جعل اليمين على الشمال" (¬3). لا أذان ولا إِقامة للاستسقاء عن أبي إِسحاق: "خرج عبد الله بن زيد الأنصاري وخرج معه البراء بن عازب وزيد بن أرقم -رضي الله عنهم- فاستسقى، فقام بهم على رجليه على غير منبر، فاستغفر ثمَّ صلّى ركعتين يجهر بالقراءة، ولم يؤذّن ولم يُقم، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد بسند قوي، وانظر "تمام المنّة" (ص 264). (¬2) وهناك حديث شاذّ في ذلك وانظر "تمام المنّة" (ص 264). (¬3) أخرجه البخاري: 1027، وتقدّم بعضه.

سجود التلاوة

قال أبو إِسحاق ورأى عبد الله بن يزيد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬1). "قال ابن بطال: أجمعوا على أنْ لا أذان ولا إِقامة للاستسقاء والله أعلم" (¬2). سجود التلاوة فضله: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا قرأَ ابن آدم السجدة فسجد؛ اعتَزَل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله (¬3) أُمِر ابن آدم بالسجود فسجدَ فله الجنّة، وأُمِرت بالسجود فأبَيْتُ فلي النار" (¬4). حُكمه: سجود التلاوة سُنّةٌ، وبوّب لذلك الإِمام البخاري -رحمه الله- بقوله: (باب من رأى أنَّ الله عزّ وجلّ لم يوجب السجود) ثمَّ روى تحته (¬5) أثر عمر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1022 (¬2) "فتح" (2/ 514) (¬3) هو من آداب الكلام، وهو أنَّه إِذا عَرَض في الحكاية من الغير ما فيه سوء، واقتضت الحكاية رجوع الضمير إِلى المتكلّم؛ صرَف الحاكي الضمير عن نفسه؛ تصاوناً عن صوره إِضافة السوء إِلى نفسه، قاله بعض العلماء، وقال لي شيخنا -حفظه الله تعالى- يفعل هذا إِذا كان السامع يفهم المراد. (¬4) أخرجه مسلم: 81 (¬5) برقم: 1077

-رضي الله عنه- أنَّه "قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النّحل، حتى إِذا جاء السجدة؛ نزل فسجَد وسجد الناس، حتى إِذا كانت الجمعة القابلة؛ قرأ بها حتى إِذا جاء السجدة قال: يا أيها الناسُ، إِنا نَمُرُّ بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إِثمَ عليه، ولم يسجد عمر -رضي الله عنه-. وزاد نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إِنَّ الله لم يفرض السجود إلاَّ أن نشاء". وعن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: "قرأتُ على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والنجم؛ فلم يسجد فيها" (¬1). وذكر الحافظ -رحمه الله تعالى- عدّة احتمالات، ورجّح أنَّه تركها لبيان الجواز وقال: "وبه جزم الشافعي؛ لأنَّه لو كان واجباً لأمره بالسجود بعد ذلك". قال ابن حزم -رحمه الله تعالى-: "وليس السجود فرضاً لكنّه فضل" (¬2). وجاء في "الفتح" (2/ 558): "ومن الأدلة على أنَّ سجود التلاوة ليس بواجب، ما أشار إِليه الطحاوي من أنّ الآيات التي في سجود التلاوة منها ما هو بصيغة الخبر ومنها ما هو بصيغة الأمر. وقد وقع الخلاف في التي بصيغة الأمر هل فيها سجود أو لا، وهي ثانية الحجّ وخاتمة النجم واقرأ، فلو كان سجود التلاوة واجباً؛ لكان ما ورَد بصيغة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1072، ومسلم: 577 (¬2) "المحلّى" (5/ 157).

مواضع السجود

الأمر أولى أن يُتفَق على السجود فيه ممّا ورد بصيغة الخبر". مواضع السجود قال ابن حزم -رحمه الله تعالى- في "المحلى" (5/ 156): "في القرآن أربع عشرة سجدة: 1 - في آخر خاتمة سورة الأعراف (7: 206). 2 - ثمَّ في الرعد (13: 15). 3 - ثمَّ في النحل (16: 49). 4 - ثمَّ في "سبحان" (17: 107). 5 - ثمَّ في "كهيعص" (19: 58). 6 - ثمَّ في الحجّ (22: 18) في الأولى -وليس في آخرها- سجدة. 7 - ثمَّ في الفرقان (25: 60). 8 - ثمَّ في النمل (27: 25، 26). 9 - ثمَّ في "ألم تنزيل" (32: 15). 10 - ثمَّ في "ص" (38: 24). 11 - ثمَّ في "حم" فُصّلت (41: 37). 12 - ثمَّ في "والنجم" (53: 62) في آخرها. 13 - ثمَّ في {إِذا السماء انشقّت} عند قوله تعالى: {لا يسجدون} (84: 21).

14 - ثمَّ في "اقرأ باسم ربك" (96: 19) في آخرها. وفي ذلك حديث غير ثابت بلفظ: "مواضع السجود في القرآن خمسة عشر موضعاً ... ". خرّجه شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنّة" (ص 269) قائلاً: " ... ليس بحسَن لأنَّ فيه مجهولين"، ثمَّ ذكر ما جاء في "التلخيص" للحافظ في ذلك وقال: (أي: شيخنا -حفظه الله-): ولذلك اختار الطحاوي أنْ ليس في الحج سجدة ثانية قرب آخرها، وهو مذهب ابن حزم في "المحلى"، قال: "لأنَّه لم يصحّ فيها سُنّة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أجمَع عليها، وصحّ عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبي الدرداء السجود فيها". ثمَّ ذهب ابن حزم إِلى مشروعية السجود في السجدات الأخرى المذكورة في الكتاب، وذكَر أن العشر الأولى متفق على مشروعية السجود فيها عند العلماء. وكذلك حكى الاتفاق عليها الطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 211)، إلاَّ أنَّه جعَل سجدة (فُصّلت) بدل سجدة (ص). ثمَّ أخرجا كلاهما بأسانيد صحيحة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه سجد في (ص) و (النجم) و (الانشقاق) و (اقرأ). وهذه الثلاث الأخيرة من المفصّل التي أشير إليها في حديث عمرو هذا. وبالجملة؛ فالحديث مع ضعف إِسناده قد شهد له اتفاق الأمّة على العمل بغالبه، ومجيء الأحاديث الصحيحة شاهدة لبقيّته، إلاَّ سجدة الحج الثانية فلم يوجد ما يشهد لها من السنّة والاتفاق، إلاَّ أن عمل بعض الصحابة على السجود فيها، قد يستأنس بذلك مشروعيتها، ولا سيما ولا يُعرَف لهم

هل يشترط له ما يشترط للصلاة؟

مخالِف. والله أعلم". هل يشترط له ما يشترط للصلاة؟ لا يشترط لسجود التلاوة ما يشترط للصلاة. ففي "صحيح البخاري" (¬1) مُعلّقاً مجزوماً به "وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يسجد على غير وضوء" (¬2). وإِلى هذا ذهب ابن حزم -رحمه الله تعالى- في "المحلّى" (5/ 157) فقد قال فيه: "ويسجد لها في الصلاة الفريضة والتطوّع، وفي غير الصلاة في كلّ وقت، وعند طلوع الشمس وغروبها واستوائها؛ إِلى القبلة، وإِلى غير القبلة وعلى طهارة وعلى غير طهارة". وقال (ص 165): "وأمّا سجودها على غير وضوء، وإِلى غير القبلة كيف ما يمكن؟ فلأنّها ليست صلاة، وقد قال عليه السلام: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" (¬3) فما كان أقلّ من ركعتين فليس صلاة، إلاَّ أن يأتيَ نصٌّ بأنَّه صلاة، كركعة الخوف، والوتر، وصلاة الجنازة، ولا نصّ في أنّ سجدة التلاوة صلاة. وجاء في "الاختيارات" (ص 60): "فليس هو صلاة، فلا يشترط له شروط ¬

_ (¬1) "كتاب سجود القرآن" (باب سجود المسلمين مع المشركين ... ) وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 553): "كذا للأكثر (أي: على غير وضوء) وفي رواية الأصيلي بحذف غير والأوّل أولى. (¬2) "كتاب سجود القرآن" (باب سجود المسلمين مع المشركين ... ) وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 553): "كذا للأكثر (أي: على غير وضوء) وفي رواية الأصيلي بحذف غير والأوّل أولى. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1151)، وانظر "تمام المنة" (ص 240)، وتقدّم.

هل ثبت فيه التكبير؟

الصلاة، بل يجوز على غير طهارة، كان ابن عمر يسجد على غير طهارة، واختارها البخاري، لكن السجود بشروط الصلاة أفضل، ولا ينبغي أن يُخلّ بذلك إلاَّ لعُذر، فالسجود بلا طهارة خير من الإِخلال به ... ". وقال الشوكاني -رحمه الله-: "ليس في أحاديث سجود التلاوة ما يدلّ على اعتبار أن يكون الساجد متوضّئاً، وقد كان يسجد معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حضَر تلاوته، ولم يُنقل أنَّه أمَر أحداً منهم بالوضوء، ويبعُد أن يكونوا جميعاً متوضئين .... " (¬1). هذا وقد وردت بعض الآثار في اشتراط الطهارة ذكَرها الحافظ في "الفتح" وغيره، والأرجح ما تقدّم بيانه من عدم اشتراط ذلك والله تعالى أعلم. هل ثبت فيه التكبير؟ أمَّا التكبير ففيه نصوص مرفوعة لا تصحّ وانظر لذلك "تمام المنّة" (ص 267): "وفيه يقول شيخنا -حفظه الله تعالى-: وقد روى جمْع من الصحابة سجوده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للتلاوة في كثير من الآيات؛ في مناسبات مختلفة؛ فلم يذكُرْ أحدٌ منهم تكبيره عليه السلام للسجود، ولذلك نميل إِلى عدم مشروعيّة هذا التكبير، وهو رواية عن الإِمام أبي حنيفة -رحمه الله-. وقال -حفظه الله- (ص 269): وأخرج (أي: ابن أبي شيبة) عن أبي قلابة وابن سيرين أنَّهما قالا: إِذا قرأ الرجل السجدة في غير الصلاة قال: الله أكبر، وإِسناده صحيح. وقال -حفظه الله تعالى-: ورواه عبد الرزاق في "المصنّف" ¬

_ (¬1) "نيل الأوطار" (3/ 127) وذكره السيد سابق في "فقه السنّة" (1/ 222).

الدعاء فيه:

(3/ 349/5930) بإِسناد آخر صحيح عنهما نحوه ثمَّ روى التكبير عند سجود التلاوة هو والبيهقي عن مسلم بن يسار، وإِسناده صحيح". انتهى. الدعاء فيه: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في سجود القرآن بالليل؛ يقول في السجدة مراراً: سجدَ وجهي للذي خلقه وشقَّ سمْعَه وبصرَه بحوله وقوّته" (¬1). عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "كنت عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتاه رجل فقال: إِنّي رأيت البارحة، فيما يرى النائم، كأني أُصلّي إِلى أصْل شجرة. فقرأْتُ السجدة، فسجدتُ، فسجدتِ الشجرة لسجودي. فسمعتُها تقول: اللهمّ احطُط عني بها وِزراً، واكتب لي بها أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً. قال ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: فرأيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ السجدة فسجد. فسمعتُه يقول في سجوده مِثل الذي أخبَره الرجل عن قول الشجرة" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1255)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (474)، وانظر "المشكاة" (1035). (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (865)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (473)، وانظر "المشكاة" (1036)، و"الصحيحة" (2710)، وهو في مسلم (771) بلفظ مقارب: "وإذا سجدَ قال: اللهمّ لك ... " دون ذِكر سجدة التلاوة، وذكَر بعض أهل العلم أنَّه ليس هناك ذكْر خاص لسجود التلاوة ولكن ينفي هذا تبويبُ أهل الحديث في معظم كتبهم لهذا؛ كقول كثيرٍ منهم: (باب ما يقول في سجود القرآن) ونحو ذلك، وحصْر أدعية معينة تحته والله تعالى أعلم.

السجود في الصلاة الجهرية:

السجود في الصلاة الجهرية: يشرع للإِمام والمنفرد أن يسجد حين يقرأ آية السجدة في الصلاة الجهرية. وبوّب لذلك الإِمام البخاري -رحمه الله تعالى- في "صحيحه" في "كتاب سجود القرآن" بقوله: (باب من قرأ السجدة في الصلاة فسجَد معها). ثمَّ ذكر حديث أبي رافع برقم (1078) (¬1) قال: "صلّيتُ مع أبي هريرة العَتَمَة، فقرأ: {إِذا السماء انشقّت} فسجد، فقلتُ: ما هذه؟ قال سجدْت بها خلف أبي القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا أزال أسجد حتى ألقاه". أمَّا الصلاة السرّية، فقد نُقل عن الإِمام مالك كراهية ذلك، وهو قول بعض الحنفية أيضاً وغيرهم. وانظر "الفتح" (2/ 559). وقال شيخنا في "تمام المِنّة" (ص 272): " ... فالحقّ ما ذهب إِليه أبو حنيفة من الكراهية، وهو ظاهر كلام الإِمام أحمد ... ". السجود لسجود القارئ: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد ونسجد؛ حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته" (¬2). ¬

_ (¬1) وهو في صحيح مسلم: 578 (¬2) أخرجه البخاري: 1075، ومسلم: 575

سجود الشكر

سجود الشكر "إِذا وَرَدت لله تعالى على المرء نعمة [أو صرف عنه نقمة]؛ فيستحبّ له السجود؛ لأنَّ السجود فِعْل خير، وقد قال الله تعالى: {وافعلوا الخير} (¬1) (¬2) ". انتهى. وعن أبي بكرة -رضي الله عنه-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا أتاه أمر يُسَرّ به؛ خرَّ ساجداً" (¬3). وعن أنس بن مالك، "أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُشّر بحاجة؛ فخرّ ساجداً" (¬4). "وخرّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساجداً لمّا جاءه كتاب عليّ بإِسلام همدان" (¬5). وعن طارق بن زياد: "أنَّ علياً سجد حين وجَد ذا الثديّة في الخوارج (¬6) " (¬7). ¬

_ (¬1) الحج: 77 (¬2) "المحلى" (5/ 166). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2412)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1282)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1143)، وانظر "الإِرواء" (474). (¬4) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1141)، وانظر "الإِرواء" (2/ 228). (¬5) انظر "الإرواء" (2/ 229) (¬6) أي: في قتلاهم. (¬7) أخرجه أحمد وغيره، وحسنّه شيخنا بطُرقه في "الإرواء" (476).

سجود السهو

عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك؛ عن أبيه قال: "لمّا تاب الله عليه خرَّ ساجداً" (¬1). قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الإِرواء" (2/ 230) -بعد تخريج عدد من الأحاديث في سجود الشكر-: " ... وبالجملة، فلا يشكّ عاقل في مشروعية سجود الشكر بعد الوقوف على هذه الأحاديث، لا سيّما وقد جرى العمل عليها من السلف الصالح -رضي الله عنهم-". انتهى. وحُكمه حُكم سجود التلاوة، ولا يشترط له ما يشترط للصلاة من الوضوء واستقبال القبلة والتكبير والتسليم ... الخ. جاء في "الاختيارات" (ص 60): "وسجود الشكر لا يفتقر إِلى طهارة، كسجود التلاوة". سجود السهو سنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين يسهو الإِنسان في صلاته؛ أن يسجد سجدتين جبراً لذلك. قال في "سفر السعادة" (¬2) (ص 49): "مِن جملة مِنَن الحقّ تعالى ونِعمَه على الأمّة المحمّدية أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسهو في الصلاة لتقتدي به في التشريع، وإذ ذاك يقول: "إِنّما أنا بشرٌ مِثلُكم؛ أنسى كما تنسَون، فإِذا نسيتُ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1142)، والقصة بتمامها أخرجها البخاري: 4418 ومسلم: 2769 (¬2) نقلاً عن "الروضة الندية" (1/ 327).

حكمه:

فذكّروني" (¬1) حُكمه: سجود السهو واجب لأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به، من ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا شكّ أحدكم في صلاته، فليتحرّ الصواب، فليتمّ عليه ثمَّ ليُسلِّم، ثمَّ يسجد سجدتين" (¬2). وهو قول جمهور العلماء (¬3) كيفيته (¬4): يسجد المصلّي سجدتين حين يسهو؛ قبل التسليم أو بعده، جاء في "الروضة النديّة" (1/ 327) -بحذف-: "ووجه التخيير أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صح عنه أنَّه سجَد قبل التسليم، وصحّ عنه أنَّه سجَد بعده، أمّا ما صحّ عنه مما يدلّ على أنَه قبل التسليم؛ فحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه - قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا شكَّ أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلّى؟ ثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشَّكَّ وليبنِ على ما استيقن، ثمَّ يسجد سجدتين قبل أن يُسلِّم، فإِنْ كان صلّى خمساً، شفَعْن له صلاته، وإِنْ كان صلّى إِتماماً ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 401، ومسلم: 572 (¬2) أخرجه البخاري: 401، ومسلم: 572، وفي لفظ عند مسلم: 572، "إِذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين". (¬3) انظر "الفتاوى" (23/ 28). (¬4) هناك مبحث مُفصّل لشيخ الإِسلام في ذلك في "الفتاوى" (23/ 17) فارجع إِليه -إِن شئت-.

لأربع؛ كانتا ترغيماً للشيطان (¬1) "" (¬2). وأمّا ما صحّ عنه مما يدلّ على أنَه بعد التسليم؛ فكحديث ذي اليدين الثابت في "الصحيحين"، فإِنّ فيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلّم سجد بعد ما سلّم". انتهى. ولفظ الحديث الذي أشار إِليه في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: "صلّى بنا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر أو العصر، فسلَّم فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول الله أنقصَت؟ فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه أحقٌ ما يقول، قالوا: نعم فصلّى ركعتين أُخريين ثمَّ سجد سجدتين، قال سعدٌ ورأيت عُروة ابن الزبير صلّى من المغرب ركعتين، فسلّم وتكلّم ثمَّ صلّى ما بقيَ وسجد سجدتين، وقال هكذا فعَل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). ثمَّ قال بعد أن ذكَر عدداً من النصوص: "فهذه الأحاديث المصرِّحة بالسجود تارة قبل التسليم وتارة بعده، تدّل على أنَّه يجوز جميع ذلك. ولكنّه ينبغي في موارد النصوص أن يفعل كما أرشد إِليه الشارع، فيسجد قبل ¬

_ (¬1) قال في النهاية: "يقال: ... أرغم الله أنفه أي: ألصقه بالرَّغام وهو التراب، هذا هو الأصل، ثمَّ استعمل في الذّل والعَجز عن الانتصاف والانقياد على كُره". قال النووي: "أي إِغاظة له وإِذلالاً. مأخوذ من الرَّغام وهو التراب، والمعنى أنَّ الشيطان لبَّس عليه صلاته، وتعرَّض لإِفسادها ونقْصها، فجعل الله تعالى للمصلّي طريقاً إلى جبر صلاته وتدارُكِ ما لبّسه عليه، وإرغامِ الشيطان وردِّه خاسئا مبعَدا عن مراده، وكملت صلاة ابن آدم". (¬2) أخرجه مسلم: 571 (¬3) أخرجه البخاري: 1227، ومسلم: 573

التسليم فيما أرشد إِلى السجود فيه قبل التسليم، ويسجد بعد التسليم فيما أرشد فيه إِلى السجود بعد التسليم، وما عدا ذلك فهو بالخِيار والكلّ سنّة. وقال بعد أن ذكر أقوال الأئمّة الأربعة - رحمهم الله تعالى- ولا يشكّ مُنصِف، أنَّ الأحاديث الصحيحة مصرِّحة بأنَّه كان يسجد في بعض الصلوات قبل السلام، وفي بعضها بعد السلام، فالجزم بأنّ محلّهما بعد السلام فقط طرْح لبعض الأحاديث الصحيحة، لا لموجب؛ إِلا لمجرّد مخالفتها لما قاله فلان أو فلان؛ كما أنَّ الجزم بأنّ محلّهما قبل التسليم فقط؛ طرح لبعض الأحاديث الصحيحة لمِثل ذلك ..... والحقّ عندي أنَّ الكل جائز وسنّة ثابتة، والمصلّي مُخيَّر بين أن يسجد قبل أن يسلّم، أو بعد أن يسلم، وهذا فيما كان من السهو غير موافق للسهو الذي سجد له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل السلام أو بعده. وأمَّا في السهو الذي سجد له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فينبغي الاقتداء به في ذلك، وإيقاع السجود؛ في المواضع الذي أوقعه فيه صلّى الله تعالى عليه وسلّم مع الموافقة في السهو، وهي مواضع محصورة مشهورة؛ يعرفها من له اشتغال بعلم السنّة المطهّرة". انتهى. قلت: أمَّا من لم يكن له اشتغال بالسنّة المطهرة، فله أن يسجد قبل التسليم أو بعده، وذلك من باب التيسير الذي هو سِمة هذا الدين. وقد أفادني شيخنا -حفظه الله- جواز ذلك سواءٌ أكان ذلك قبل التسليم أو بعده. انتهى. جاء في "شرح النووي" (5/ 56): "قال القاضي عياض -رحمه الله- وجماعة من أصحابنا: ولا خلاف بين هؤلاء المختلفين وغيرهم من العلماء

الأحوال التي يشرع فيها.

(بعد أن ذكر أقوالهم) أنَّه لو سجد قبل السلام أو بعده للزيادة أو النقص أنَّه يجزئه، ولا تفسد صلاته، وإِنّما اختلافهم في الأفضل". ونقل الماوردي الإِجماع على الجواز وإِنّما الخلاف في الأفضل (¬1). كما في "الفتح" (3/ 94). الأحوال التي يشرع فيها (¬2). 1 - إِذا سلّم قبل إِتمام الصلاة لحديث ابن سيرين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "صلّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِحدى صلاتَي العَشيِّ (¬3)، إِمَّا الظهر وإِمَّا العصر، فسلَّمَ في ركعتين ثمَّ أتى جِذعاً (¬4) في قبلة المسجد فاستند إِليها مُغضَباً، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يتكلَّما وخرج سَرَعانُ النّاس (¬5) قُصِرت الصلاة، فقام ذو اليدين (¬6) فقال: يا رسول الله! أقُصِرت الصلاة أم نَسيت؟ فنظر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يميناً وشمالاً، فقال: "ما يقول ذو اليدين؟ " قالوا: صدق، لم تُصلِّ إلاَّ ركعتين، فصلّى ركعتين وسلّم ثمَّ كبَّر ثمَّ سجد، ثمَّ كبّر ¬

_ (¬1) وخالف ذلك شيخ الإِسلام -رحمه الله- كما في "الفتاوى" (23/ 36) فارجع إِليه -إِن شئت-. (¬2) عن "فقه السنّة" -بتصرف وزيادة- من "الفتارى" و"الروضة الندية" و"تمام المنّة". (¬3) العَشيّ: ما بعد الزوال إِلى المغرب، وانظر "النهاية". (¬4) في رواية للبخاري: "ثمَّ قام إِلى خشبة في مُقدَّم المسجد فوضع يده عليها". (¬5) قال الحافظ في "الفتح" (3/ 100): "كأنّه جمع سريع، والمراد بهم: أوائل الناس خروجاً من المسجد، وهم أصحاب الحاجات غالباً". (¬6) سمّي بذلك لطولٍ كان في يديه.

فرفع، ثمَّ كبَّر وسجد، ثمَّ كبّر ورفع (¬1) قال: وأخبرْتُ عن عمران بن حصين أنَّه قال: وسلّم". 2 - عند الزيادة على الصلاة؛ لحديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى الظهر خمساً، فلمّا سلّم قيل له: أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صلَّيت خمساً، فسجد سجدتين (¬2). 3 - عند نسيان مسنون؛ لحديث ثوبان -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لكلِّ سهوٍ سجدتان بعد ما يسلِّم" (¬3). وبيّن الشوكاني -رحمه الله- في "السيل الجرار" (1/ 275): أنَّ السجود لترك مسنون لا يكون واجباً، لئلا يزيد الفرع على أصله، فغايته أن يكون مسنوناً كأصله. ولم يَرِد في ترْك المسنون ما يدلّ على وجوب سجود السهو له ... بل يختصّ الوجوب بما ورد الأمر به؛ كالأحاديث التي فيها "ليسجد سجدتين" وليس ذلك في ترك المسنون. انتهى. وأشار إِلى ذلك شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تمام المنّة" (ص 273). 4 - عند نسيان التشهّد الأوسط؛ لحديث عبد الله بن بحينة -رضي الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1229، ومسلم: 573، وهذا لفظه وتقدّم. (¬2) انظر صحيح البخاري: 1226، وصحيح مسلم: 572، و"صحيح سنن أبي داود" (895)، و"صحيح سنن الترمذي" (321)، و"صحيح سنن ابن ماجه" (991). (¬3) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وهو حديث حسن كما أشار شيخنا -حفظه الله- إلى ذلك في "تمام المنّة" (ص 273) و"الإِرواء" (2/ 47).

عنه- أنَّه قال: "إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام من اثنتين من الظهر لم يجلس بينهما، فلمّا قضى صلاته؛ سجد سجدتين، ثمَّ سلّم بعد ذلك" (¬1). وعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا قام الإِمام في الركعتين؛ فإِنْ ذكر قبل أن يستويَ قائماً فليجلس، فإِن استوى قائماً فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو" (¬2). قال شيخنا -حفظه الله- في "الصحيحة": "وهو يدلّ على أنَّ الذي يمنع القائم من العودة إِلى التشهُّد، إِنّما هو إِذا استتمّ قائماً، فأمّا إِذا لم يستتمَّ قائماً؛ فعليه الجلوس، ففيه إِبطال القول الوارد في بعض المذاهب: إِنه إِذا كان أقرب إِلى القيام لم يرجع، وإذا كان أقرب إِلى القعود قعد؛ فإِنَّ هذا التفصيل؛ مع كونه ممَّا لا أصل له في السنَّة؛ فهو مخالف للحديث، فتشبَّثْ به، وعضَّ عليه بالنواجذ، ودع عنك آراء الرجال ... ". وانظر للمزيد -إِن شئت- الحديث (2457) من "الصحيحة" وما ذكر شيخنا -شفاه الله وعافاه- من الفوائد. 5 - عند الشكّ في عدد الركعات أو السجدات. عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعْت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِذا سها أحدكم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1225، ومسلم: 570، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (907)، و"صحيح سنن الترمذي" (320)، و"صحيح سنن ابن ماجه" (992)، و"صحيح سنن النسائي" (1196). (¬2) أخرجه أحمد والدارقطني وأبو داود وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (321) و"الإِرواء" (408).

في صلاته، فلم يدْر واحدة صلّى أو اثنتين، فليبْنِ على واحدة، فإِن لم يدر ثنتين صلّى أو ثلاثاً؟ فليبْن على ثنتين، وإِن لم يدر ثلاثاً صلّى أو أربعاً؟ فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يُسلّم" (¬1). وعن أنس عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدر اثنتين صلّى أو ثلاثاً، فليُلْقِ الشكّ، وليبن على اليقين" (¬2). فإِذا شكّ المصلي أسجد سجدة واحدة أم سجدتين، بنى على الأقلّ، ثمَّ سجد سجدتي السهو. وقد تقدّم حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا شكَّ أحدكم في صلاته فلم يدْر كم صلّى؟ ثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشكّ، وليَبْنِ على ما استيقن، ثمَّ يسجدُ سجدتين قبل أن يسلّم. فإِن كان صلّى خمساً؛ شَفعن له صلاته، وإِنْ كان صلّى إِتماماً لأربع؛ كانتا ترغيماً للشيطان". قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تمام المنّة" (ص 273) - بتصرّف-: " ... قد جاء عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يدلّ على أنَّ الحديثين المشار إِليهما ليسا على إِطلاقهما، بل هما مقيّدان بمن لم يغلب على رأيه شيء، فهذا هو الذي يبني على الأقلّ، وأمّا من ظهر له الصواب، ولو كان الأكثر، فإِنَّه يأخذ به ويبني عليه، وذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا شَكّ أحدكم في صلاته فليتحرّ الصواب ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم وانظر "الصحيحة" (1356). (¬2) أخرجه البيهقي وسنده صحيح وانظر "الصحيحة" تحت الحديث رقم (1356).

(في رواية: فلينظر أحرى ذلك إِلى الصواب. وفي أخرى: فلينظر الذي يرى أنَّه الصواب. وفي أخرى: فليتحرّ أقرب ذلك من الصواب)، فليتمّ عليه، ثمَّ ليسلّم، ثمَّ يسجد سجدتين". أخرجه الشيخان وأبو عوانة في "صحاحهم"، والرواية الثانية والثالثة لهم إلاَّ البخاري، والرابعة للنسائي، وهو عندهم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-. وإِنَّ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فلينظر الذي يرى أنَّه الصواب"؛ كالصريح في الأخذ بما يغلب على رأيه، ويؤيّده قوله في حديث أبي سعيد: "فلم يَدْرِ كمْ صلّى"، فإِنَّ مفهومه أنَّ من تحرّى الصواب بعد الشكّ حتى درى كم صلّى - أنه ليس له أن يبنيَ على الأقلّ، بل حُكم هذه المسألة مسكوت عنه في هذا الحديث، وقد تولّى بيانه حديث ابن مسعود، حيث أمرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه بالأخذ بما يظنّ أنَّه أقرب إِلى الصواب، سواءٌ كان الأقلّ أو الأكثر، ثمَّ يسجد بعد التسليم سجدتين. وأمّا في حالة الحيرة وعدم الدراية، فإِنَّه يبني على الأقلّ، ويسجد قبل التسليم، وفي هذا إِشارة إِلى اختلاف ما في الحديثين من الفقه، فتأمّل. وبعد: فإِن هذه المسألة تحتاج كثيراً من البسط والشرح والتحقيق، ولعل ما ذكرتُه هاهنا؛ يكفي في بيان ما أردْته من إِثبات وجوب الأخذ بالظنّ الغالب إِذا وجد، وهو خلاصة رسالة كنت ألّفْتها في هذه المسألة؛ رددتُ فيها على النووي بتفصيل، وبيَّنتُ فيها معنى الشكّ المذكور في حديث أبي سعيد، ومعنى التحري الوارد في حديث ابن مسعود ... ".

صور التحري:

صُوَر التحرّي: وصور التحرّي كثيرة؛ منها: "أن يستدلّ على ذلك بموافقة المأمومين، إِذا كان إِمامًا، وقد يتذكّر ما قرأ به في الصلاة، فيذكُر أنَّه قرأ بسورتين في ركعتين، فيعلم أنَه صلّى ركعتين لا ركعة، وقد يذكر أنَّه تشهّد التشهّد الأوّل، فيعلم أنَّه صلّى ثنتين لا واحدة، وأنَّه صلّى ثلاثاً لا اثنتين، وقد يذكُر أنَّه قرأ الفاتحة وحدها في ركعة، فيعلم أنَّه صلّى أربعاً لا ثلاثاً، وقد يذكُر أنَّه صلّى بعد التشهد الأوّل ركعتين، فيعلم أنَّه صلّى أربعًا لا ثلاثًا، واثنتين لا واحدة، وقد يذكُر أنَّه تشهَّد التشهُّد الأوّل، والشك بعده في ركعة، فيعلم أنَّه صلّى ثلاثاً لا اثنتين. ومنها: أنَّه قد يعرض له في بعض الركعات: إِمّا من دعاء وخشوع وإمّا من سعال ونحوه، وإِمّا من غير ذلك، ما يعرف به تلك الركعة، ويعلم أنَّه قد صلّى قبلها واحدة أو اثنتين، أو ثلاثاً، فيزول الشكّ" (¬1). السهو في سجود السهو: ذكر ابن المنذر في "الأوسط" (3/ 327) عن إِسحاق إِجماع أهل العلم من التابعين أنه ليس على من سها في سجود السهو سجود سهو. ¬

_ (¬1) من "الفتاوى" (23/ 13) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ونقل بعضها الشيخ عبد العظيم بدوي -حفظه الله- في كتاب "الوجيز" (ص 121).

صلاة الجماعة

صلاة الجماعة حُكمها: صلاة الجماعة واجبة على الأعيان على كلِّ مُصلٍّ، إلاَّ من عُذر، ودليل ذلك: 1 - قوله تعالى: {وإِذا كُنتَ فيهم فأقمْتَ لهم الصلاة فلتقُم طائفةٌ منهم معك} (¬1). وفيه دليلان: أحدهما: أنَّه أمَرهم بصلاة الجماعة معه في صلاة الخوف، وذلك دليل على وجوبها حال الخوف، وهو يدلّ بطريق الأولى على وجوبها حال الأمن. الثاني: أنَّه سنّ صلاة الخوف جماعة، وسوَّغ فيها ما لا يجوز لغير عذر، كاستدبار القبلة، والعمل الكثير، فإِنَّه لا يجوز لغير عُذر بالاتفاق، وكذلك مفارقة الإِمام قبل السلام عند الجمهور، وكذلك التخلف عن متابعة الإِمام، كما يتأخّر الصف المؤخّر بعد ركوعه مع الإِمام، إذا كان العدوّ أمامهم. قالوا: وهذه الأمور تبطل الصلاة لو فُعلت لغير عذر، فلو لم تكن الجماعة واجبة بل مستحبّة؛ لكان قد التزم فعل محظور مبطلٍ للصلاة، وتُركت المتابعة الواجبة في الصلاة لأجل فِعْل مستحبّ، مع أنَّه قد كان من الممكن أن يصلّوا وِحدانا صلاة تامّة فعُلم أنها واجبة (¬2). ¬

_ (¬1) النساء: 102 (¬2) قاله شيخ الإِسلام في "الفتاوى" (23/ 227).

2 - وقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتو الزكاة واركعوا مع الراكعين} (¬1). قال ابن كثير في "تفسيره": وقد استدلّ كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة. قال القرطبي في "تفسيره" -بحذف-: "قوله تعالى: {مع الراكعين} مع: تقتضي المعيّة والجمعيّة، ولهذا قال جماعة من أهل التأويل بالقرآن: إِنَّ الأمر بالصلاة أوّلاً؛ لم يقتضِ شهود الجماعة، فأمَرهم بقوله: "مع" شهود الجماعة. وقد اختلف العلماء في شهود الجماعة على قولين: فالذي عليه الجمهور أنَّ ذلك من السُّنن المؤكدة. وقد أوجبها بعض أهل العلم فرضاً على الكفاية. وقال داود: الصلاة في الجماعة فرضٌ على كلّ أحد في خاصّته كالجمعة، وهو قول عطاء بن أبي رباح وأحمد بن حنبل وأبي ثور وغيرهم. وقال الشافعي: "لا أرخّص لمن قدر على الجماعة؛ في ترْك إِتيانها إلاَّ مِن عُذر حكاه ابن المنذر ... ". ثمَّ ذكر العديد من الأدلة وقال: "هذا ما احتَجّ به من أوجب الصلاة في الجماعة فرضاً، وهي ظاهرة في الوجوب ... ". 3 - وما جاء في "صحيح مسلم" (653) تحت (باب يجب إِتيان المسجد على من سمع النداء) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ¬

_ (¬1) البقرة: 43

"أتى النّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلٌ أعمى، فقال: يا رسول الله! إِنَّه ليس لي قائد يقودُني إِلى المسجد، فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُرخِّص له فيصلّي في بيته، فرخَّص له، فلمّا ولَّى دعاه فقال: "هل تسمع النداء بالصلاة؟ " فقال: نعم. قال: فأجِب". 4 - وعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من سمع النداء فلم يأته، فلا صلاة له إلاَّ من عُذر" (¬1). 5 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "والذي نفسي بيده، لقد هممتُ أن آمر بحطبٍ فيُحطب، ثمَّ آمرُ بالصلاة فيؤذَّنُ لها، ثمَّ آمرُ رجلا فيؤمَّ الناس، ثمَّ أُخالفُ إِلى رجالٍ فأحرِّقُ عليهم بيوتهم. والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنَّه يجد عَِرَقاً (¬2) سميناً أو مِرماتين (¬3) حسنتين ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (645) والطبراني في "المعجم الكبير" وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (2/ 337). (¬2) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 129): عَرْقاً: بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف؛ قال الخليل: العراق العظم بلا لحم، وإن كان عليه لحم فهو عرق، وفي المحكم عن الأصمعي: العرْق بسكون الراء قطعة لحم. وقال الأزهري: العرق واحد العراق، وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم، ويبقى عليها لحم رقيق؛ فيكسر ويطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم دقيق، ... ، يقال عرقت اللحم واعترقته وتعرقته إِذا أخذت اللحم منه نهشاً. وفي المحكم: جمع العرق على عُراق بالضم عزيز، وقول الأصمعي هو اللائق هنا. وقال (ص 130): "وإِنّما وَصف العرق بالسِّمَن والمرماة بالحسن ليكون ثمَّ باعث نفساني على تحصيلهما. وفيه الإِشارة إِلى ذمّ المتخلّفين عن الصلاة بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به، مع التفريط فيما يحصل رفيع الدرجات ومنازل الكرامة". (¬3) بكسر الميم وحُكي بالفتح، ما بين ظلفي الشاة.

لشهد العشاء" (¬1). 6 - وعن عبد الله بن مسعود قال: "من سرَّه أن يلقى الله غداً مُسلماً؛ فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهنَّ، فإِنَّ الله شرع لنبيِّكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنن الهدى (¬2)، وإِنَّهنَّ من سنن الهدى ولو أنّكم صليتم في بيوتكم؛ كما يصلّي هذا المتخلِّف في بيته لتركْتم سُنّة نبيِّكم، ولو تركتم سُنَّة نبيِّكم لضللتم، وما من رجلٍ يتطهَّر فيحسن الطُّهور، ثمَّ يعمد إِلى مسجد من هذه المساجد، إلاَّ كتَب الله له بكل خطوة يخطوها حسنةً، ويرفعه بها درجةً، ويحطّ عنه بها سيِّئةً، ولقد رأيتُنا وما يتخلَّف عنها إلاَّ منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يقامَ في الصَّفِّ" (¬3). قال القرطبي -رحمه الله تعالى- عقب هذا الحديث: "فبيَّن -رضي الله عنه- في حديثه أنَّ الإِجماع سُنَّة من سُنن الهدى وترْكه ضلال، ولهذا قال القاضي أبو الفضل عياض: اختُلف في التمالؤ على ترْك ظاهر السُّنن؛ هل يقاتَل عليها أو لا؛ والصحيح قتالهم؛ لأنَّ في التمالؤ عليها إِماتتها" انتهى. 7 - وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "ما من ثلاثةٍ في قرية ولا بدو، لا تقام فيهم الصلاة، إِلا قد استحوذَ (¬4) عليهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 644، ومسلم: 651 (¬2) بضم السين وفتحها وهما بمعنى متقارب، أي: طرائق الهدى والصواب، قاله بعض العلماء. (¬3) أخرجه مسلم: 654 (¬4) استحوذ: أي استولى عليهم وحواهم إِليه. "النهاية".

الشيطان، فعليكم بالجماعة؛ فإِنَّما يأكل الذئب من الغنم القاصية" (¬1). قال شيخنا في "تمام المنّة" (ص 275): " ... فهو من الأدلّة على وجوبها، إِذ أنَّ مَن تَرَك سنّة، بل السّنن كلّها -مع المحافظة على الواجبات- لا يُقال فيه: "استحوذ عليه الشيطان ... ". 8 - وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا كانوا ثلاثة، فليؤمّهم أحدهم، وأحقّهم بالإِمامة أقرؤهم" (¬2). ففي كلمة (فليؤمّهم) لام الأمر، والأمر يفيد الوجوب إلاَّ لقرينة تصرفه، والقرائن مؤكّدة؛ لا صارفة. 9 - وجاء في صحيح البخاري: (باب وجوب صلاة الجماعة) ثمَّ قال: وقال الحسن: إِنْ منَعته أمّه عن العشاء في الجماعة شفقةً لم يُطعها. قال الحافظ (2/ 125): "هكذا بتَّ الحُكم في هذه المسألة، وكأنَّ ذلك لقوة دليلها عنده ... ". وقال -رحمه الله-: "وقد وجدْته بمعناه وأتمّ منه وأصرح؛ في كتاب "الصيام" للحسن بن الحسن المروزي بإِسناد صحيح عن الحسن في رجل يصوم -يعني تطوّعاً- فتأمره أمّه أن يفطر، قال: فليفطر ولا قضاء عليه، وله ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (511)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (817)، وغيرهم، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (422)، و"رياض الصالحين" (1077) بتحقيق شيخنا -حفظه الله تعالى-. (¬2) أخرجه مسلم: 672

أجر الصوم وأجر البرّ. قيل: فتنهاه أن يصلّيَ العشاء في جماعة، قال: ليس ذلك لها، هذه فريضة". وقد استدلّ بعض العلماء على عدم وجوب الصلاة، ببعض الأحاديث التي تفيد صحة صلاة المنفرد (¬1) وأنَّ له درجة واحدة [و] هذا لا يُنافي الوجوب الذي من طبيعته أن يكون أجره مضاعفاً على أجر ما ليس بواجب؛ كما هو واضح. أفاده شيخنا في "تمام المنّة" (ص 277). فائدة: ينبغي الحرص على الجماعة حيث كانت في المسجد أو غيره، في السفر أو الحضر. جاء في "الأوسط" (4/ 138): "قال الشافعي: ذكر الله الأذان بالصلاة فقال: {وإِذا ناديتم إِلى الصلاة ... } (¬2) الآية، وقال: {إِذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إِلى ذكر الله ... } الآية (¬3)، وسنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأذان للصلوات المكتوبات، فأشبه ما وصفْتُ أن لا يحلّ ترك أن يصلّي كلّ مكتوبة في جماعة، حتى لا يخلّي جماعة مقيمون ولا مسافرون من أن يصلّي فيهم صلاة جماعة، فلا أرخص لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إِتيانها إِلا من عذر". ¬

_ (¬1) انظر -إِن شئت- ما أجاب به شيخ الإِسلام -رحمه الله- عن هذا في "الفتاوى" (23/ 232). (¬2) تتمّتها: { ... اتَّخَذوها هُزُواً ولعباً ذلك بأنّهم قومٌ لا يعقلون}. [المائدة: 58]. (¬3) الجمعة: 9

فضلها:

فضلها: 1 - عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة الجماعة تفضُل صلاة الفَذ بسبع وعشرين درجة" (¬1). 2 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاة الرجل في الجماعة تُضَعَّفُ على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنَّه إِذا توضّأ فأحسَن الوضوء، ثمَّ خرج إِلى المسجد لا يُخرجه إلاَّ الصلاة، لم يَخْطُ خُطوة إلاَّ رُفعتْ له بها درجةٌ وحُطَّ عنه بها خطيئةٌ، فإِذا صلّى لم تَزَل الملائكة تُصلّي عليه ما دام في مصلاّه: اللهمّ صَلِّ عليه، اللهمَّ ارحمه، ولا يزالُ أحدُكم في صلاةٍ ما انتظر الصلاة" (¬2). 3 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من غدا إلى المسجد وراح أعدّ (¬3) الله له نزُله (¬4) من الجنّة كلما غدا أو راح" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 645، ومسلم: 650 (¬2) أخرجه البخاري: 647 (¬3) أعدّ: هيأ. (¬4) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 148): "النّزل بضم النون والزاي المكان الذي يُهيأ للنزول فيه، وبسكون الزاي ما يهيأ للقادم من الضيافة ونحوها، فعلى هذا "من" في قوله من الجنّة للتبعيض على الأوّل وللتبيين على الثاني، ورواه مسلم وابن خزيمة وأحمد بلفظ: "نزلا في الجنة" وهو محتمل المعنيين". (¬5) أخرجه البخاري: 662، ومسلم: 669، قال الحافظ في "الفتح" (2/ 148): "المراد بالغدو: الذَّهاب وبالرواح: الرجوع، والأصل في الغدو المضي من بكرة النهار والرواح بعد الزوال، ثمَّ قد يستعملان في كل ذَهاب ورجوع توسّعاً".

حضور النساء الجماعة في المساجد وفضل صلاتهن في بيوتهن

وانظر للمزيد كتاب "صحيح الترغيب والترهيب" (الترغيب في صلاة لجماعة). حضور النساء الجماعة في المساجد وفضل صلاتهنّ في بيوتهنّ (¬1) يجوز للنساء الخروج إِلى المسجد وشهود الجماعة، بشرط اجتناب ما ثير الشهوة، ويدعو إِلى الفتنة من الزينة والطيب. فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تمنعوا نساءَكم المساجد، وبيوتهنّ خيرٌ لهنّ" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تمنعوا إِماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهنّ تَفِلات (¬3) " (¬4). وعنه -رضي الله عنه- أيضاً قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيُّما امرأةٍ أصابت بَخُورا (¬5)، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة" (¬6). والأفضل لهنّ الصلاة في بيوتهنّ، لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- المتقدّم: "وبيوتهنّ خيرٌ لهنّ". ¬

_ (¬1) هذا العنوان وما يتضمّنه بتصرف؛ من كتاب "فقه السنّة" للشيخ السيد سابق -حفظه الله تعالى-. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (530) وغيره وانظر "الإِرواء" (515). (¬3) تَفلات: أي تاركات للطيب. "النهاية". (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (529) وغيره وانظر "الإِرواء" (515). (¬5) أصابت بَخوراً: أي ريحه. (¬6) أخرجه مسلم: 444، وغيره.

ولحديث أمّ حميد امرأة أبي حميد الساعدي -رضي الله عنهما-: "أنّها جاءت إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله! إِنّي أُحبُّ الصلاة معك؟ قال: قد علمتُ أنّكِ تُحبّين الصلاة معي، وصلاتك في بيتكِ (¬1) خيرٌ من صلاتكِ في حُجرتِك (¬2)، وصلاتكِ في حُجرتكِ خير من صلاتكِ في داركِ، وصلاتك في داركِ خيرٌ من صلاتكِ في مسجد قومكِ، وصلاتكِ في مسجد قومكِ خيرٌ من صلاتكِ في مسجدي. قال فأَمَرَتْ فبُني لها مسجدٌ في أقصى شيء من بيتها وأظلمِه، وكانت تصلّي فيه، حتى لقيَت الله عزّ وجلّ" (¬3). وعن عبد الله بن مسعود عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة المرأة في بيتها؛ أفضل من صلاتها في حُجرتها، وصلاتها في مخدعها (¬4)؛ أفضل من صلاتها في بيتها" (¬5). وانظر للمزيد إن شئت في "صحيح الترغيب والترهيب" (ترغيب النساء في الصلاة في بيوتهنّ ولزومها، وترهيبهنّ من الخروج منها). ¬

_ (¬1) في بيتك: الموضع المهيأ للنوم. "فيض". (¬2) كل محلّ حُجر عليه بالحجارة. "فيض"، وفي "الوسيط": الغرفة في أسفل البيت، وفي "عون المعبود": أي صحن الدار، قال ابن الملك: أراد بالحجرة ما تكون أبواب البيوت إِليها، وهي أدنى حالاً من البيت. (¬3) أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (335). (¬4) مخدعها: الميم ثلاثية وهي خزانتها التي في أقصى بيتها. "فيض". (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (533)، وصححه الحاكم والذهبي، وانظر "المشكاة" (1063)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (340).

الترغيب في المشي إلى المسجد الأبعد والأكثر جمعا

الترغيب في المشي إِلى المسجد الأبعد والأكثر جمعاً عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إِسباغ الوضوء على المكاره. وكثرة الخُطا إِلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط (¬1) " (¬2). وعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إِذا تطهَّر الرجل ثمَّ أتى المسجد يَرعى الصلاة، كتب له كاتباه أو كاتبه بكلِّ خطوةٍ يخطوها إلى المسجد عشر حسناتٍ، والقاعدُ يرعى الصلاة كالقانت، ويُكتبُ من المصلّين، من حين يَخرُجُ من بيته حتى يرجع إِليه" (¬3). وعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ¬

_ (¬1) الرّباط في الأصل: الإِقامة على جهاد العدّو بالحرب، وارتباط الخيل وإعدادها، فشبَّه به ما ذُكر من الأفعال الصالحة والعبادة. قال القُتَيبي: أصل المُرابطة أن يربط الفريقان خيولهم في ثغر، كلٌّ منهما مُعدٌّ لصاحبه فسمّى المُقام في الثغور رباطاً. ومنه قوله [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]: "فذلكم الرباط" أي أنَّ المواظبة على الطهارة والصلاة والعبادة، كالجهاد في سبيل الله، فيكون الرِّباط مصدر رَابَطت: أي لازَمت. وقيل الرِّباط هاهنا اسم لِما يُربَط به الشيء: أي يُشدّ، يعني أن هذه الخلال تربط صاحبها عن المعاصي وتكُفّه عن المحارم. "النهاية". (¬2) أخرجه مسلم: 251 (¬3) أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وبعض طرقه صحيح، وابن خزيمة في "صحيحه" وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" مفرّقاً في موضعين، عن "صحيح الترغيب والترهيب" (294).

استحباب تخفيف الإمام:

"لِيُبَشّرِ المشّاؤون في الظُلَّم إِلى المساجد بالنور التامّ يوم القيامة" (¬1). وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من خرج من بيته متطهراً إِلى صلاة مكتوبةٍ؛ فأجْره كأجر الحاج المحْرم، ومن خرج إِلى تسبيح الضحى (¬2) لا يُنْصبه (¬3) إلاَّ إِياه، فأجره كأجر المعتمر، وصلاةٌ على إِثر (¬4) صلاةٍ، لا لغوَ بينهما كتاب في عليين" (¬5). وانظر للمزيد -إِن شئت- "كتاب صحيح الترغيب والترهيب" (باب الترغيب في المشي إِلى المساجد ... ). استحباب تخفيف الإِمام: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا صلى أحدكم للنّاس فليخفّف، فإِنَّ منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلّى أحدكم لنفسه فليطوِّل ما شاء" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة في "صحيحه" واللفظ له والحاكم وقال: "صحيح على شرط الشيخين". وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (314). (¬2) أي: صلاة الضحى. (¬3) بضمّ الياء من الإِنصاب وهو الإِتعاب، ويروى بفتح الياء [يَنصبه]: من نصبَه أي: أقامه. "عون المعبود" (2/ 185)، وتقدّم. (¬4) بكسر الهمزة ثمَّ السكون، أو بفتحتين، أي: عقيبها. (¬5) أخرجه أبو داود من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (315)، وتقدّم. (¬6) أخرجه البخاري: 703، ومسلم: 467

وعن أبي مسعود -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا أيها النّاس إِنَّ منكم منفّرين فمن أمّ النّاس فليتجوّز (¬1)، فإِنَّ خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة" (¬2). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّي لأدخُل الصلاة أريد إِطالتها، فأسمع بكاء الصبيّ، فأخفّف مِن شدّة وجْد (¬3) أمِّه به" (¬4). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أيضاً قال: "ما صليتُ وراء إِمام قطّ أخفّ صلاة ولا أتمّ من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬5). وعنه أيضاً: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوجز الصلاة ويُكْمِلها" (¬6). قال الحافظ في "الفتح" (2/ 201): "المراد بالايجاز مع الإِكمال: الإِتيان بأقلّ ما يمكن من الأركان والأبعاض". وانظر للمزيد -إِن شئت- "صحيح مسلم" "كتاب الصلاة" (باب أمر الأئمّة بتخفيف الصلاة في تمام). ¬

_ (¬1) أي: يخفف. (¬2) أخرجه البخاري: 704 (¬3) الوجد: يُطلق على الحزن وعلى الحب أيضاً، وكلاها سائغ هنا، والحُزن أظهر، أي من حُزنها واشتغال قلبها به. قاله النووي. (¬4) أخرجه البخاري: 710، ومسلم: 470، وتقدّم. (¬5) أخرجه البخاري: 708، ومسلم: 469 (¬6) أخرجه البخاري: 706

إطالة الإمام الركعة الأولى:

وروى البيهقي في "الشعب" بإِسناد صحيح عن عمر قال: "لا تبغضوا إِلى الله عباده يكون أحدكم إِماماً فيطوّل على القوم الصلاة؛ حتى يبغض إِليهم ما هم فيه" (¬1). إِطالة الإِمام الركعة الأولى: عن أبي قتادة "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطوّل في الركعة الأولى (¬2) من صلاة الظهر، ويقصر في الثانية، ويفعل ذلك في صلاة الصبح" (¬3). وعن أبي قتادة -رضي الله عنه- أيضاً عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... ويطوّل في الركعة الأولى؛ ما لا يطوّل في الركعة الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح" (¬4). وعنه كذلك قال: "فظنَنّا أنَّه يريد بذلك أن يدرك النّاس الركعة الأولى" (¬5). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "لقد كانت صلاة الظهر تُقام فيذهب الذاهب إِلى البقيع، فيقضي حاجته [ثمَّ يأتي أهله فيتوضّأ]، ثمَّ ¬

_ (¬1) انظر "الفتح" (2/ 195). (¬2) قال الحافظ: أي في جميع الصلوات، وهو ظاهر الحديث المذكور في الباب. قلت: يشير إِلى تبويب البخاري -رحمه الله- بعنوان: باب يطوّل في الركعة الأولى. (¬3) أخرجه البخاري: 779، ومسلم: 451 (¬4) أخرجه البخاري: 776 (¬5) أخرجه أبو داود بسند صحيح "صحيح سنن أبي داود" (718)، وابن خزيمة، وانظر "صفة الصلاة" (112).

وجوب متابعة الإمام وتحريم مسابقته:

يأتي ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الركعة الأولى ممّا يطوّلها (¬1). وجوب متابعة الإِمام وتحريم مسابقته: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "إنَّما جُعل الإمام ليؤتمّ به، فلا تختلفوا عليه، فإِذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربّنا لك الحمد، وإِذا سجد فاسجدوا، وإِذا صلى جالساً فصلّوا جلوساً أجمعون، وأقيموا الصفّ في الصلاة، فإِنَّ إقامة الصفّ من حُسن الصلاة" (¬2). وعنه -رضي الله عنه- أيضاً عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أمَا (¬3) يخشى أحدكم -أو لا يخشى أحدُكم- إِذا رفع رأسه قبل الإِمام؛ أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار" (¬4). عن أنس -رضي الله عنه- قال: "صلّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم، فلمّا قضى الصلاة؛ أقبل علينا بوجهه فقال: "أيها النّاس! إِنّي إِمامكم؛ فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، ولا بالقيام ولا بالانصراف (¬5) " (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 454، وتقدّم. (¬2) أخرجه البخاري: 722، ومسلم: 417 (¬3) أما: حرف استفتاح مِثل ألا، وهو هنا استفهام توبيخ، (فتح) (2/ 183)، وفي رواية لمسلم: 427: "ما يأمن الذي يرفع رأسه في صلاته قبل الإمام؛ أن يُحوّل الله صورته في صورة حمار". (¬4) أخرجه البخاري: 691، ومسلم: 427 (¬5) أي: بالسلام. (¬6) أخرجه مسلم: 426

انعقاد الجماعة بواحد مع الإمام:

وعن البراء بن عازب قال: "كنّا نصلّي خلف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإِذا قال: سمع الله لمن حمده؛ لم يحْنِ أحدٌ منّا ظهره؛ حتى يضع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبهته على الأرض" (¬1). انعقاد الجماعة بواحد مع الإِمام: عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "بتُّ عند ميمونة، فقام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتى حاجته فغسل وجهه ويديه، ثمَّ نام، ثمَّ قام فأتى القربة فأطلق شناقها (¬2)؛ ثمَّ توضّأ وضوءاً بين وضوءين لم يكثر وقد أبلغ، فصلّى فقمتُ فتمطّيتُ كراهية أن يرى أنّي كنتُ أتقيه، فتوضّأتُ، فقام يُصلّي فقمتُ عن يساره، فأخذ بأذُني فأدارني عن يمينه" (¬3). وروى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "أنَّ رجلاً دخل المسجد، وقد صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحابه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يتصدّق على ذا، فيصلّي معه" فقام رجل من القوم فصلّى معه" (¬4). وفي رواية عن الحسن بلفظ: " ... أنَّ رجلاً دخل المسجد وقد صلّى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال ألا رجل يقوم إِلى هذا فيصلّي معه، فقام أبو بكر فصلّى معه، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 811، ومسلم: 474 (¬2) الشناق: هو رباط القربة يشدّ عنقها، فشبّه بما يُشنَق به، وقيل هو ما تُعلَّق به ورجّح أبو عبيد الأوّل. "فتح" (11/ 166). (¬3) أخرجه البخاري: 6316، ومسلم: 763 (¬4) أخرجه أحمد وأبو داود نحوه، وغيرهما وصححه شيخنا في "الإِرواء" (535).

إدراك الإمام:

وقد كان صلّى تلك الصلاة" (¬1). إِدراك الإِمام: ينبغي متابعة الإِمام على أيّ حالٍ كان؛ إِذا لم يُدرك معه تكبيرة الإِحرام. عن عليّ ومعاذ بن جبل قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أتى أحدكم الصلاة والإِمام على حال، فليصنع كما يصنع الإِمام" (¬2). وعن ابن مُغفَّل المزني قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا وجدتم الإِمام ساجداً فاسجدوا، أو راكعاً فاركعوا، أو قائماً فقوموا، ولا تعتدّوا بالسجود إِذا لم تدركوا الركعة". أخرجه إِسحاق بن منصور المروزي في "مسائل أحمد وإسحاق" (¬3). والمسبوق يصنع مِثل ما يصنع الإِمام فيجلس معه التشهد الأخير ولا يقوم حتى يسلّم، ثمَّ يكبّر ويتمّ ما فاته. ¬

_ (¬1) قال شيخنا في "الإرواء" (2/ 317): أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي وإسناده إِلى الحسن صحيح. (¬2) قال أبو عيسى: "هذا حديث غريب، لا نعلم أحداً أسنده، إلاَّ ما روي من هذا الوجه. والعمل على هذا عند أهل العلم، قالوا: إِذا جاء الرجل والإِمام ساجد فليسجد، ولا تجزئه تلك الركعة، إِذا فاته الركوع مع الإمام. واختار عبد الله بن المبارك: أن يسجد مع الإِمام، وذكر عن بعضهم فقال: لعله لا يَرفع رأسه من تلك السجدة حتى يغفر له". انظر "صحيح سنن الترمذي" (484)، و"المشكاة" (1142). (¬3) قال شيخنا: وهذا إِسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين، وانظر "الصحيحة" (1188).

من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة:

من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا جئتم إِلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدّوها شيئاً، ومن أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة" (¬1). وعن ابن مُغفّل المزني قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا وجدتم الإِمام ساجداً فاسجدوا، أو راكعاً فاركعوا، أو قائماً فقوموا، ولا تعتدُّوا بالسجود إِذا لم تدركوا الركعة" (¬2). وعن زيد بن وهب قال: "خرجْتُ مع عبد الله من داره إِلى المسجد، فلمّا توسَّطنا المسجد ركَع الإِمام، فكبّر عبد الله ثمَّ ركَع، وركعتُ معه، ثمَّ مشينا راكعين حتى انتهينا إِلى الصفّ حتى رفع القوم رؤوسهم، قال: فلمّا قضى الإِمام الصلاة قمتُ وأنا أرى أنّي لم أدرِك، فأخذ بيدي عبد الله، فأجلَسني وقال: إِنّك قد أدركتَ"، قال شيخنا: وسنده صحيح، وله في الطبراني طرق أخرى (¬3). وعن عبد الله بن عمر قال: "إِذا جئتَ والإِمام راكع، فوضعت يديك على ركبتيك قبل أن يرفع؛ فقد أدركت". قال شيخنا -حفظه الله- أخرجه ابن أبي شيبة: (1/ 94/1) من طريق ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره، وفي لفظ له: "من أدرك الركوع أدرك الركعة"، وانظر "الإِرواء" (496). (¬2) انظر "الصحيحة" (1188). (¬3) انظر "الإرواء" (2/ 263).

أعذار التخلف عن الجماعة:

ابن جريج عن نافع عنه، ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي إلاَّ أنَّه قرن مع ابن جريج مالكاً ولفظه: "من أدرك الإِمام راكعاً، فركع قبل أن يرفع الإِمام رأسه، فقد أدرك تلك الركعة". ثمَّ قال شيخنا -حفظه الله-: "وإِسناده صحيح، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنّفه" (2/ 279/3361) عن ابن جريج قال أخبَرني به نافع" (¬1). أعذار التخلف عن الجماعة: 1 - البرد أو المطر: عن نافع: "أنَّ ابن عمر أذَّن بالصلاة في ليلةٍ ذاتِ بردٍ وريح ثمَّ قال: ألا صلّوا في الرحال، ثمَّ قال: إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلةٌ ذاتُ بردٍ ومطر يقول: ألا صلُّوا في الرحال (¬2) " (¬3). وعن عبد الله بن الحارث ابن عمِّ محمّد بن سيرين قال: قال ابنُ عبّاس لمؤذّنه في يومٍ مطير: إِذا قلتَ أشهد أنَّ محمداً رسول الله فلا تقُل: حيَّ على الصلاة، قل: صلّوا في بيوتكم فكأنَّ النّاس استنكروا، قال: فعَله من هو خيرٌ منّي، إِنَّ الجُمعة عَزمةٌ (¬4)، وإنِّي كرهتُ أن أحرجكم فتمشون في الطين ¬

_ (¬1) انظر "الإِرواء" (2/ 263). التحقيق الثاني. (¬2) الرحال: يعني الدور والمساكن والمنازل، وهي جمْع رَحْل، يُقال لمنزل الإنسان ومسكنه رحله، وانتهينا إِلى رحالنا: أي: منازلنا، "النهاية". (¬3) أخرجه البخاري: 666، ومسلم: 697 (¬4) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 384): "استشكله الإسماعيلي فقال: لا إِخاله صحيحاً، فإِنَّ أكثر الرويات بلفظ: "أنَّها عزمة" أي: كلمة المؤذن وهي: "حي على =

2 - العلة:

والدَّحْض (¬1) " (¬2) 2 - العلّة: عن محمود بن الربيع الأنصاري: "أنَّ عتبان بن مالك كان يؤمّ قومه وهو أعمى، وأنَّه قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله، إِنَّها تكون الضلمة والسّيل، وأنا رجلٌ ضرير البصر، فصلِّ يا رسول الله في بيتي مكاناً أتخذه مُصلّى، فجاءه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أين تحبُّ أنْ أصلّي؟ فأشار إِلى مكان من البيت، فصلّى فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). وذكَره الإِمام البخاري في "كتاب الأذان" تحت (باب الرخصة في المطر والعلّة أن يصلّي في رَحله). 3 - حضور الطعام الذي يريد أكْله في الحال (¬4): عن عائشة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "إِذا وُضع العَشاء وأُقيمت الصلاة ¬

_ = الصلاة" لأنَّها دعاء إِلى الصلاة تقتضي لسامعه الإِجابة، ولو كان معنى الجمعة عزمة لكانت العزيمة لا تزول بترك بقية الأذان انتهى. والذي يظهر أنَّه لم يترك بقية الأذان، وإنَّما أبدل قوله: "حي على الصلاة" بقوله: "صلّوا في بيوتكم"، والمراد بقوله: "إِن الجمعة عزمة" أى فلو تركْت المؤذّن يقول: "حي على الصلاة" لبادر من سمعه إِلى المجيء في المطر فيشقّ عليهم فأمرته أن يقول: "صلوا في بيوتكم لتعلموا أنَّ المطر من الأعذار التي تُصيّر العزيمة رخصة". (¬1) الدَّحْض: الزلق. (¬2) أخرجه البخاري: 901 (¬3) أخرجه البخاري: 667 (¬4) اقتباساً ممّا جاء في تبويب "صحيح مسلم".

4 - مدافعة الأخبثين:

فابدأوا بالعَشاء" (¬1). وعن أنس بن مالك أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا قُدِّم العَشاء فابدأوا به قبل أن تصلُّوا صلاة المغرب، ولا تعجَلوا عن عَشائكم" (¬2). وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا وُضع عَشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعَشاء، ولا يعجل حتى يفرُغ منه" (¬3). "وكان ابن عمر يوضَع له الطعام وتقام الصلاة، فلا يأتيها حض يفرُغ، وإِنَّه ليسمع قراءة الإِمام" (¬4). وعن ابن عمر قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضيَ حاجته منه، وإِنْ أقيمت الصلاة" (¬5). وعن أبي الدرداء قال: "من فقه المرء؛ إِقباله على حاجته حتى يُقبِل على صلاته وقلبه فارغ" (¬6). 4 - مدافعة الأخبثين: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صلاة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 671، ومسلم: 558 (¬2) أخرجه البخاري: 672، ومسلم: 557 (¬3) أخرجه البخاري: 673، ومسلم: 559 (¬4) أخرجه البخاري: 673 (¬5) أخرجه البخاري: 674 (¬6) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به ووصله ابن المبارك في "الزهد" وانظر "مختصر صحيح البخاري" (1/ 172) لشيخنا -حفظه الله تعالى-.

من هو الأحق بالإمامة:

بحضرة الطعام، ولا هو يدافِعُه الأخبثان (¬1) " (¬2). من هو الأحقّ بالإِمامة: عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يؤمُّ القوم أقرؤهم (¬3) لكتاب الله فإِنْ كانوا في القراءة سواءً فأعلمُهم بالسنّة، فإِنْ كانوا في السنّة سواءً، فأقدمهم هجرة، فإِنْ كانوا في الهجرة سواءً، فأقدمهم سِلْماً (¬4)، ولا يَؤُمَّنَّ الرجل الرّجل في سلطانه، ولا يقعدْ في بيته على تَكرِمَته (¬5) إلاَّ بإِذنه" ¬

_ (¬1) الأخبثان: البول والغائط. (¬2) أخرجه مسلم: 560 (¬3) أقرؤهم: أي: أكثرهم قرآناً وحفظاً وجمعاً له؛ كما في حديث عمرو بن سلمة قال: لمّا كانت وقعة أهل الفتح بادر [بادر: أي: سابق وعجل بذلك.] كلُّ قوم بإِسلامهم، وبدر أبي قومي بإِسلامهم، فلمّا قدم قال: جئتكم والله من عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقّاً، فقال: صلّوا صلاة كذا في حين كذا، وصلّوا صلاة كذا في حين كذا، فإِذا حضرت الصلاة فليؤذّن أحدكم، وليؤمّكم أكثركم قرآناً، فنَظروا، فلم يكن أحدٌ أكثر قرآناً منّي، لِما كنتُ أتلَّقى من الرُّكبان [الركبان: جمع راكب: وجمع الراكب: رُكّاب ورُكوب ورُكبان، والراكب في الأصل: هو راكب الإِبل خاصّة، ثمَّ اتُّسع فيه، فأطلق على كلّ من ركب دابّة، ذكره بعض العلماء.]، فقدَّموني بين أيديهم وأنا ابنُ ستّ أو سبع سنين، وكانت عليَّ بُردةٌ كنتُ إِذا سجدتُ تقلصّت [أي ارتفعت وتكشّفت] عنّي، فقالت امرأةٌ من الحي: ألا تُغطّون عنّا إِست قارئكم، فاشتروا، فقطعوا لي قميصاً، فما فَرِحت بشيء فَرحي بذلك القميص". أخرجه البخاري: 4302 (¬4) سلماً: أي إِسلاماً. (¬5) تكرمته: هو الموضع الخاص لجلوس الرجل، من فراشٍ وسرير؛ ممّا يعدُّ لإكرامه، وهي تفعلة من الكرامة. "النهاية". في رواية لمسلم (673): لا يؤمُّ القوم =

قال الأشجُّ في روايته: مكان سِلماً سِنّاً" (¬1). ولفظه كما في "صحيح سنن أبي داود" (546): "وكنتُ غلاماً حافظاً، فحفظت من ذلك قرآناً كثيراً، فانطلق أبي وافداً إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفرٍ من قومه، فعلّمهم الصلاة فقال: "يؤمُّكم أقرؤكم"، وكنتُ أقرأَهم، لما كنت أحفظ، فقدّموني فكنت أؤمّهم وعليّ بردة لي صغيرة صفراء، فكنت إِذا سجدت تكشَّفت عنّي". وفي لفظ آخر في "صحيح سنن أبي داود" (548) أيضاً: "فلمّا أرادوا أن ينصرفوا قالوا: يا رسول الله، من يؤمّنا؟ قال: "أكثركم جمعاً للقرآن" أو "أخذاً للقرآن" قال: فلم يكن أحد من القوم جمَع ما جمْعته". هذا وقد أفاد هذا الحديث أنَّ صاحب الدار والإِمام الراتب ونحوهما أحقّ بالإِمامة وأولى إلاَّ أن يأذنا، وعن نافع قال: "أقيمت الصلاة في مسجد بطائفة من المدينة، ولابن عمر قريباً من ذلك المسجد أرض يعملها، وإمام ذلك المسجد مولى له، ومسكن المولى وأصحابه ثمّة، قال: فلمّا سمعهم عبد الله جاء ليشهَد معهم الصلاة، فقال له المولى صاحب المسجد: تقدّم فصلِّ، فقال عبد الله: أنت أحقّ أن تصلي في مسجدك مني، فصلّى المولى"، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي (3/ 126) وسنده حسن. انظر "الإِرواء": (522). ¬

_ = أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءةً، فإِن كانت قراءتهم سواءً فليؤمّهم أقدمهم هجرةً، فإِنْ كانوا في الهجرة سواءً فليؤمّهم أكبرهم سنّاً، ولا تؤُمَّنَّ الرّجل في أهله ولا في سلطانه، ولا تجلس على تكرمته في بيته، إلاَّ أن يأذن لك أو بإِذنه". (¬1) أخرجه مسلم: 673

متى تصح إمامتهم:

متى تصحّ إِمامتهم (¬1): كلّ من صحَّت صلاته لنفسه؛ صحت صلاته لغيره، وهذا ثابتٌ بالاستقراء وفي العناوين الآتية زيادة بيانٍ بإِذن الله تعالى: إِمامة الصبي: تصحّ إِمامة الصبيّ المميّز، بل هو الأولى في الإِمامة إِذا كان أقرأ القوم، وقد تقدّم حديث عمرو بن سلِمة وأنَّه كان يؤمّ قومه وهو ابن ست أو سبع سنين. إِمامة الأعمى: عن أنس "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استخلف ابن أمّ مكتوم يؤم الناس وهو أعمى" (¬2). إِمامة المعذور بالصحيح: لا بأس بإِمامة المعذور بالصحيح، إِذا توفّرت فيه شروط الأحقّ بالإِمامة. قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تمام المنّة" (ص 285) ردّاً على من يقول بكراهة إِمامة المعذور بصحيح أو عدم صحتها: "لا وجه للكراهة به عدم الصحة إِذا توفرت فيه شروط الأحَقّ بالإِمامة، ولا نرى فرقاً بينه وبين الأعمى الذي لا يمكنه الاحتراز من البول احتراز البصير، والقاعد العاجز عن القيام، وهو ركن، لأنّ كلاًّ منهما قد فعَل ما يستطيع، و {لا يُكلِّف الله نَفْساً ¬

_ (¬1) سألت شيخنا -شفاه الله تعالى- "هل أنتم مع من يقول: كلّ من صحّت صلاته لنفسه؛ صحّت صلاته لغيره، مع كراهة الصلاة خلف الفاسق والمبتدع فقال: نعم". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (555) والبيهقي وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (530).

إمامة الجالس بالقادر على القيام وجلوسه معه:

إلاَّ وُسْعَها} (¬1). وللإِمام الشوكاني بحث هامّ في صحّة الصلاة وراء المسلم الفاسق، والصبي غير البالغ، وناقص الصلاة والطهارة وغيرهم، فراجِعه في كتابه "السيل الجرّار" (1/ 247 - 255)، فإِنَّه نفيس جداً". انتهى. قلت: قال الشوكاني في المصدر المذكور آنفاً: وأمّا ناقص الطهارة؛ فلا دليلَ يدلّ على المنع أصلاً، فيصحّ أن يؤمّ المتيمّمُ متوضِّئاً، ومَن ترك غُسل بعض أعضاء وضوئه لعذرٍ بغيره ونحوهما، ولا يحتاج إِلى الاستدلال بحديث عمرو بن العاص في صلاته بأصحابه بالتيمم وهو جنب، فإِنَّ الدليل على المانع كما عرفْت والأصل الصحّة". إِمامة الجالس بالقادر على القيام وجلوسه معه: عن أنس بن مالك: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركِب فرساً فصُرع عنه فجُحش (¬2) شقه الأيمن فصلّى صلاةً من الصلوات وهو قاعد فصلّينا وراءه قعوداً، فلمّا انصرف قال: إِنَّما جُعل الإِمام ليؤتمَّ به، فإِذا صلّى قائماً فصلّوا قياماً، فإِذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإِذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربَّنا ولك الحمد، وإذا صلّى قائماً فصلّوا قياماً، وإذا صلّى جالساً فصلُّوا جُلُوساً أجمعون" (¬3) " (¬4). ¬

_ (¬1) البقرة: 286 (¬2) فجُحش: أي: انخدش جلده وانقشر. (¬3) أخرجه البخاري: 689، ومسلم: 412 (¬4) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 180) -بتصرف-: "كذا في جميع الطرق في "الصحيحين" بالواو إلاَّ أنَّ الرواة اختلفوا في رواية همام عن أبي هريرة، فقال بعضهم: =

إمامة المتنفل بالمفترض:

إِمامة المتنفّل بالمفترض: عن جابر بن عبد الله: "أنَّ معاذ بن جبل كان يصلّي مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمَّ يرجع فيؤم قومه" (¬1). فكانت صلاته مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فريضة، وصلاته بقومه تطوّعاً وتنفّلاً، ولهم فريضة. إِمامة المفترض بالمتنفّل: وعن محجن بن الأذرع قال: "أتيتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد، فحضرت الصلاة فصلّى، فقال لي: ألا صليتَ؟ قال: قلت: يا رسول الله قد صليت في الرحل، ثمَّ أتيتك، قال: فإِذا فعلْتَ، فصلِّ معهم واجعلها نافلة" (¬2). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبصر رجُلاً يُصلي وحده فقال: "ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلِّي معه" (¬3). وعن يزيد بن الأسود: "أنَّه صلّى مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو غلام شابٌّ، فلمّا صلّى إِذا رجلان لم يصلّيا في ناحية المسجد، فدعا بهما فجيء بهما ترعد ¬

_ = أجمعين -بالياء- والأول: (أجمعون) تأكيد لضمير الفاعل في قوله صلّوا، والثاني: (أجمعين): نصب على الحال أي: جلوساً مجتمعين ... ". (¬1) أخرجه البخاري: 700، ومسلم: 465 (¬2) أخرجه أحمد وغيره وصححه شيخنا بشواهد تقوّيه كما في "الإِرواء" (534). (¬3) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (537) وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (535).

إمامة المتوضئ بالمتيمم والمتيمم بالمتوضئ:

فرائصهما (¬1) فقال: ما منعكما أن تصليّا معنا؟ قالا: قد صلّينا في رحالنا، فقال: لا تفعلوا، إِذا صلّى أحدكم في رَحله ثمَّ أدرك الإِمام ولم يُصلِّ فليصلِّ معه، فإِنَّها له نافلة" (¬2). إِمامة المتوضّئ بالمتيمّم والمتيمّم بالمتوضّئ: يُقدّم الأقرأ لكتاب الله تعالى في الإِمامة سواءٌ أكان متيمّماً أو متوضئاً لعموم النصّ المتقدّم: "يؤمّ القوم اقرؤهم لكتاب الله ... ". وكذا المقيم بالمسافر والمسافر بالمقيم ... الخ. وقد أمّ عمرو بن العاص أصحابه -رضي الله عنهم- وهو جنُب، وكان قد احتلم وأشفق على نفسه أن يهلك إِذا اغتسل، فعنه قال: "احتلمْتُ في ليلة باردة، في غزوة ذات السلاسل، فأشفقْتُ إِن اغتسلت أن أهْلِكَ، فتيمّمت، ثمَّ صلّيت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جُنبٌ؟ فأخبرتُه بالذي منَعني من الاغتسال، وقلت: إِني سمعْت الله يقول: {ولا تَقْتُلوا أنْفُسَكُم إِنَّ الله كان بِكُم رحيماً} (¬3)، فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقُل شيئاً" (¬4). ¬

_ (¬1) الفرائص: جمع فريصة وهي اللحمة التي بين جنب الدابة وكتفها أي: ترجف من الخوف. "النهاية". وسبب ارتعاد فرائصهما؛ ما اجتمع في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الهيبة العظيمة والحرمة الجسيمة؛ لكلّ من رآه مع كثرة تواضعه. "عون" (2/ 199). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (538) وغيره، وانظر "الإِرواء" (534). (¬3) النساء: 29 (¬4) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (323) وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (154)، وأخرجه البخاري معلَّقاً.

إمامة المسافر بالمقيم:

إِمامة المسافر بالمقيم: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "صلّى عمر بأهل مكة الظهر، فسلّم في ركعتين، ثمَّ قال: أتمّوا صلاتكم يا أهل مكة فإِنا قوم سَفْر" (¬1). إِذا اقتدى المسافر بالمقيم أتمّ: عن موسى بن سلمة الهُذليّ قال: "سألتُ ابن عباس كيف أصلّي إِذا كنتُ بمكة، إِذا لم أصلِّ مع الإِمام؟ فقال: ركعتين سنّة أبي القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬2). قال شيخنا في "الإِرواء" (3/ 22): "وروى البيهقي بسند صحيح عن أبي مجلز قال: قلتُ لابن عمر: المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم - يعني المقيمين- أتجزيه الركعتان أو يصلّي بصلاتهم؟ قال: فضحك وقال: يصلّي بصلاتهم". وسئل ابن عبّاس: "ما بال المسافر يصلّي ركعتين حال الانفراد وأربعاً إِذا ائتمّ بمقيم، فقال: تلك السنّة". صححه شيخنا في "الإِرواء" (571). ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" وعبد الرزاق في "مصنفه" (4369) وغيرهما، وقال لي شيخنا -شفاه الله تعالى وعافاه-: هذا في حُكم المرفوع؛ لأنّ عمر -رضي الله عنه- فعَل ذلك في عدد كبير من الصحابة، ولا سيّما أنّه رُوي مرفوعاً وفيه ضعف. ثمَّ قال شيخنا -شفاه الله تعالى- "فعلى الإِمام أن يُسلم عن يمينه سرّاً ويسمعهم قوله: "أتمّوا صلاتكم فإِنا قوم سَفر" لأن ما رُوي عن عمر؛ يفهم أنّه لم يُسمع سلامه والحكمة ظاهرة، فإِنّه إِذا سلّم سلّم الناس معه". (¬2) أخرجه مسلم: 688

إمامة الرجل بالنساء:

إِمامة الرجل بالنّساء: وفيه أحاديث منها الحديث المتقدّم: " ... وخير صفوف النساء آخرها، وشرّها أوّلها". المرأة تؤمّ أهل دارها: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزور أمّ ورقة بنت عبد الله بن الحارث في بيتها، وجعَل لها مؤذناً يؤذّن لها، وأمَرَها أن تؤمّ أهل دارها" (¬1). إِمامة المرأة بالنّساء: عن رائطة الحنفية "أنّ عائشة -رضي الله عنها- أمّت نسوةً في المكتوبة؛ فأمّتهنّ بينهنّ وسطاً" (¬2). وفي رواية: "أمّتهنّ وقامت بينهنّ في صلاةٍ مكتوبة" (¬3). وله شاهد من رواية حجيرة بنت حصين قالت: "أمّتنا أم سلمة في صلاة العصر قامت بيننا" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (553) وغيره وانظر "الإِرواء" (493). (¬2) أخرجه عبد الرزاق (3/ 141)، والدارقطني (1/ 404)، والبيهقي (3/ 131)، وانظر "تمام المنّة" (ص 154). (¬3) انظر "مصنف عبد الرزاق" (5086). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" وغيره. قال شيخنا -شفاه الله تعالى- في "تمام المنة" (ص154): وبالجملة فهذه الآثار صالحة للعمل بها ولا سيما وهي مؤيَّدة بعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما النساء شقائق الرجال". [أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (216)، التحقيق الثاني والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (98)، وانظر "المشكاة" (441)]، وانظر للمزيد مصنف عبد الرزاق (باب المرأة تؤمّ النساء) وفيه آثار كثيرة =

الصلاة خلف الفاسق والمبتدع والإمام الجائر ومن يكرهه المأمومون:

الصلاة خلف الفاسق والمبتدع والإِمام الجائر ومن يكرهه المأمومون: عن ابن عمر "أنَّه كان يصلّي خلف الحجّاج" (¬1). وقال البخاري في "صحيحه": "باب إِمامة المفتون والمبتدع، وقال الحسن: صلِّ وعليه بدعته" (¬2). وروى البخاري (695) أيضاً عن عبيد الله بن عدي بن خيار: "أنَّه دخل ¬

_ = عن السلف، ومصنف ابن أبي شيبة (1/ 430). (¬1) صححه شيخنا في "الإِرواء" (525) وقال: "قال الحافظ في "التلخيص" (128): رواه البخاري في حديث، قلت: -أي: شيخنا حفظه الله- ولم أجده عنده حتى الآن، وقد أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (2/ 84/2): نا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن عمير بن هانئ قال: "شهدتُ ابن عمر والحجّاج محاصِر ابن الزبير، فكان منزل ابن عمر بينهما فكان ربما حضر الصلاة مع هؤلاء، وربما حضَر الصلاة مع هؤلاء". قلت [أي: شيخنا -حفظه الله-]: وهذا سند صحيح على شرط الستة". ثمَّ أخرج عن زيد بن أسلم أن ابن عمر كان في زمان الفتنة؛ لا يأتي أمير إلاَّ صلى خلفه، وأدّى إِليه زكاة ماله وسنده صحيح". انتهى. وعن مسلم قال: كنّا مع عبد الله بن الزبير والحجّاج يُحاصر عبد الله بن الزبير، وكان عبد الله بن عمر يصلّي مع ابن الزبير فإِذا فاتته الصلاة مع عبد الله سمع أذان مؤذن الحجاج انطلق فصلّى مع الحجاج فقيل: يا أبا عبد الرحمن: تصلي مع عبد الله بن الزبير، والحجاج؟ فقال: إِذا دعونا إِلى الله أجبناهم وإذا دعونا إِلى الشيطان تركناهم، فقلت: يا أبتاه: وما تعني الشيطان؟ قال: القتال". انظر "الأوسط" (4/ 115) لابن المنذر. (¬2) كذا رواه البخاري معلقاً مجزوماً به، وانظر "كتاب الأذان" (باب: 56). قال شيخنا -حفظه الله -: وقد وصَله سعيد بن منصور عن ابن المبارك عن هشام بن =

على عثمان بن عفّان وهو محصور فقال: إِنّك إِمام عامّة ونزل بك ما ترى، ويصلّي لنا إِمام فتنة ونتحرّج، فقال: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإِذا أحسَن الناس فأحسِنْ معهم، وإِذا أساؤوا فاجتنب إِساءتهم". قال الشوكاني: في "السيل الجرار" (1/ 247): الفاسق من المسلمين المتعبّدين بالتكاليف الشرعية من الصلاة وغيرها، فمن زعم أنَّه قد حصَل فيه مانع من صلاحيته لإِمامة الصلاة مع كونه قارئاً عارفاً؛ بما يحتاج إِليه في صلاته، فعليه تقرير ذلك المانع بالدليل المقبول الذي تقوم به الحُجّة، وليس في المقام شيءٌ من ذلك أصلاً؛ لا من كتاب ولا من سنَّة ولا قياس صحيح، فعلى المنصِف أن يقوم في مقام المنع؛ عند كلّ دعوى يأتي بها بعض أهل العلم في المسائل الشرعية. وما استُدلّ به على المنع من تلك الأحاديث الباطلة المكذوبة، فليس ذلك من دأب أهل الإِنصاف، بل هو صُنع أرباب التعصّب والتعنّت. وإِذا عرفتَ هذا فلا تحتاج إِلى الاستدلال على جواز إِمامة الفاسق في الصلاة، ولا إِلى معارضة ما يسَتَدِلّ به المانعون، فليس هنا ما يصلح للمعارضة وإيراد الحجج، وبيان ما كان عليه السلف الصالح من الصلاة خلف الأُمراء المشتهرين بظلم العباد والإِفساد في البلاد. نَعم يحسُن أن يجعل المصلّون إِمامَهم من خيارهم، ولكن ليس محلُّ النزاع إِلا كونه لا يصلح أن يكون الفاسق ومن في حُكمه إِماماً، لا في كون ¬

_ = حسان أنَّ الحسن سئل عن الصلاة خلف صاحب البدعة؟ فقال الحسن: صلِّ خلفه، وعليه بدعته. كما في "فتح الباري" (2/ 158) والسند صحيح.

تنبيه:

الأولى أن يكون الإِمام من الخيار، فإِنّ ذلك لا خلاف فيه". وأمّا مَن أمّ قوماً يكرهونه، فقد أخبر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ صلاته غير مقبولة. فعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإِمام قوم وهم له كارهون" (¬1). أي: كارهون لبدعته أو فسقه أو جهله لا كراهة لأمر دنيوي. وانظر "التحفة" (2/ 344). تنبيه: استدلّ بعض العلماء على أنَّ القرشيّ مقدّم في إِمامة الصلاة على غيره، كما هو مقدّم في الإِمامة الكبرى لحديث: "الأئمة من قريش" (¬2). قال شيخنا -حفظه الله تعالى وعافاه- في "الإِرواء" تحت الحديث السابق: وفي هذا الاستدلال نظر عندي، لأنَّ الحديث بمجموع ألفاظه ورواياته لا يدلّ إِلا على الإِمامة الكبرى، فإِنّ في حديث أنس وغيره: "ما عملوا فيكم بثلاث: ما رحموا إِذا استرحموا، وأقسطوا، إِذا قسموا، وعدلوا إِذا حكموا". فهذا نصٌّ في الإِمامة الكبرى، فلا تدخل فيه الإِمامة الصغرى، لا سيما وقد ورد في البخاري وغيره؛ أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدَّم سالماً مولى أبي حذيفة في إِمامة الصلاة ووراءه جماعة من قريش". ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (295)، وانظر "المشكاة" (1122)، و"غاية المرام" (248). (¬2) حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإِرواء" (520) وقد أخرجه جمع من الأئمّة.

الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال:

الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال (¬1): عن هلب [والد قبيصة] أنّه صلّى مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان ينصرف عن شقّيه" (¬2). وعن الأسود قال: قال عبد الله: "لا يجعل أحدكم للشيطان شيئاً من صلاته، يرى أنَّ حقّاً عليه أن لا ينصرف إلاَّ عن يمينه، لقد رأيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيراً ينصرف عن يساره" (¬3). وكان أنس ينفتِل عن يمينه وعن يَساره ويعيب على من يتوخّى -أو من يَعمِد- الانفتال عن يمينه (¬4). قال النووي -رحمه الله في "شرحه" (5/ 220): "في حديث أنس "أكثر ما رأيت رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينصرف عن يمينه"، وفي رواية: "كان ينصرف عن يمينه" وجه الجمع بينهما أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل تارة هذا وتارة هذا، فأخبر كلّ واحد بما اعتقد أنه الأكثر فيما يعلمه، فدلَّ على جوازهما، ولا كراهة في واحد منهما، وأمّا الكراهة التي اقتضاها كلام ابن مسعود، فليست ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "صحيح البخاري". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (919)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (246)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (757). (¬3) أخرجه البخاري: 852، ومسلم: 707 (¬4) أخرجه البخاري معلّقاً مجزوماً به (كتاب الأذان) "باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال". وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 338): "وصله مسدّد في "مسنده الكبير".

مكث الإمام في مصلاه بعد السلام:

بسبب أصل الانصراف عن اليمين أو الشمال، وإنّما هي في حقّ من يرى أنّ ذلك لا بد منه فإِنّ من اعتقد وجوب واحد من الأمرين مخطئ، ولهذا قال: يرى أنّ حقّا عليه فإِنما ذمّ من رآه حقّا عليه. ومذهبنا أنه لا كراهة في واحد من الأمرين، لكن يستحبّ أن ينصرف في جهة حاجته؛ سواء كانت عن يمينه أو شماله، فإِن استوى الجهتان في الحاجة وعدمها؛ فاليمين أفضل لعموم الأحاديث المصرحة بفضل اليمين في باب المكارم ونحوها، هذا صواب الكلام في هذين الحديثين وقد يقال فيهما خلاف الصواب والله أعلم". وللحافظ تفصيلٌ طيب في "الفتح" (2/ 338) فارجع إِليه -إِن شئت-. مُكث الإِمام (¬1) في مصلاّه بعد السلام (¬2): عن أمّ سلمة أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمكُث في مكانه يسيراً. قال ابن شهاب: "فنُرى والله أعلم؛ لكي ينفُذ من ينصرف من النساء" (¬3). وعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإِكرام". قال الوليد: فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله، أستغفر الله". ¬

_ (¬1) قال العيني في "عمدة القاري" (6/ 138): "أي: تأخّره في مصلاّه أي: موضعه الذي صلّى فيه الفرض بعد السلام، أي: بعد فراغه من الصلاة بالسلام". (¬2) هذا العنوان من "صحيح البخاري". (¬3) أخرجه البخاري: 849

علو الإمام أو المأموم:

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا سلّم لم يقعد إلاَّ مقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإِكرام"، وفي رواية ابن نمير: "يا ذا الجلال والإِكرام". علوّ الإِمام أو المأموم: عن أبي مسعود الأنصاري قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقوم الإِمام فوق شيء والناس خلفه -يعني: أسفل منه-" (¬1). وعن همام أنَّ حذيفة أمَّ الناس بالمدائن على دكان (¬2)، فأخذَ أبو مسعود بقميصه فجبَذه، فلمّا فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنّهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى، قد ذكرت حين مدَدْتني (¬3) (¬4) فإِذا كان للإِمام مصلحة من ارتفاعه على المأموم؛ لتعليمٍ ونحوه فجائز كما في حديث أبي حازم بن دينار: "أنَّ رجالاً أتوا سهل بن سعد الساعديّ، وقد امتروا (¬5) في المنبر مِمَّ ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني وسكت عنه الحافظ في "التلخيص" وقال شيخنا في "تمام المنّة": وإسناده حسن. (¬2) في رواية لأبي داود "صحيح سنن أبي داود" (558): "والناس أسفل منه". (¬3) أي: اتبعتك حين أخذْت على يدي وجذَبتني. (¬4) أخرجه الشافعي في "الأم" وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (557) والحاكم وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (2/ 331). (¬5) قال الحافظ (2/ 397): "امتروا: من المماراة وهي المجادلة، وقال الكرماني: من الامتراء وهو الشك، ويؤيد الأوّل قوله في رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عند مسلم: "أن تماروا، فإِنّ معناه تجادلوا، قال الراغب: الامتراء والمماراة: المجادلة، ومنه {فلا تُمارِ فيهم إلاَّ مراءً ظاهرًا}، وقال أيضاً: المِرية: التردد في الشيء ... ".

عُودُه؟ فسألوه عن ذلك فقال: والله إِنّي لأعرف ممّا هو، ولقد رأيته أوّل يوم وُضِعَ، وأوّل يوم جلس عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى فُلانة -امرأة قد سمّاها سهل- مُرِي غُلامك النّجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهنّ إِذا كلّمتُ الناس، فأَمَرَتْه فعمِلها طرْفاء (¬1) الغابة، ثمَّ جاء بها فأرسلت إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر بها فوضعت ها هنا. ثمَّ رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى عليها، وكبّر وهو عليها، ثمَّ ركع وهو عليها، ثمَّ نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ثمَّ عاد، فلمّا فرغ أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إنّما صنعتُ هذا لتأتموا، ولتعلموا صلاتي" (¬2). وينبغي على المأموم ألأَ يصلّي على ظهر المسجد أو خارجه مقتدياً بالإِمام إلاَّ مِن عُذر؛ كامتلاء المسجد. قال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنّة" (282) رداً على من يطلق الجواز مستدلاً ببعض الآثار: "يقابل هذه الآثار آثار أخرى عن عمر والشعبي وإبراهيم، عند ابن أبي شيبة (2/ 223)، وعبد الرزاق (3/ 81 - 82): أنَّه ليس له ذلك إِذا كان بينه وبين الإمام طريق ونحوه. ولعلّ ما في الآثار الأولى محمول على العذر، كامتلاء المسجد كما قال هشام بن عروة: "جئت أنا وأبي مرة، فوجدنا المسجد قد امتلأ، فصلّينا بصلاة الإِمام في دارٍ عند المسجد بينهما طريق". رواه عبد الرزاق (3/ 82) بسند صحيح عنه. وليس بخافٍ على الفقيه أنّ إِطلاق القول بالجواز ينافي الأحاديث الآمرة بوصل الصفوف وسدّ الفرج، فلا بد من التزامها والعمل بها إلاَّ لعذر، ولهذا ¬

_ (¬1) أي: من شجرها. قاله الكرماني. (¬2) أخرجه البخاري: 917، ومسلم: 544

اقتداء المأموم بالإمام مع الحائل لعذر:

قال شيخ الإِسلام في "مجموع الفتاوى" (23/ 410): "ولا يصفّ في الطرقات والحوانيت مع خلوّ المسجد، ومن فَعل ذلك استحق التأديب، ولمن جاء بعده تخطّيه، ويدخل لتكميل الصفوف المتقدمة؛ فإِن هذا لا حرمة له. قال: فإِن امتلأ المسجد بالصفوف صفّوا خارج المسجد، فإِذا اتصلت الصفوف حينئذ في الطرقات والأسواق صحّت صلاتهم. وأمّا إِذا صفّوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي الناس فيه؛ لم تصحّ صلاتهم في أظهر قولي العلماء. وكذلك إِذا كان بينهم وبين الصفوف حائط، بحيث لا يرون الصفوف، ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة، فإِنّه لا تصحّ صلاتهم في الأظهر، وكذلك من صلّى في حانوته والطريق خال لم تصحّ صلاته، وليس له أن يقعد في الحانوت وينتظر اتصال الصفوف به، بل عليه أن يذهب إِلى المسجد، فيسد الأوّل فالأول فالأول"". اقتداء المأموم بالإِمام مع الحائل لعُذر: قال الإِمام البخاري في (كتاب الأذان) (باب إِذا كان بين الإِمام وبين القوم حائط أو سترة): وقال الحسَن: لا بأس أن تصلّي وبينك وبينه نهر (¬1). وقال أبو مِجلَز: "يأتمّ بالإِمام، وإنْ كان بينهما طريق أو جدار إِذا سمع تكبير الإِمام" (¬2). ويُحمل ذلك كله على وجود العذر لوجوب تسوية الصفوف وتراصّها ¬

_ (¬1) قال الحافظ: لم أره موصولاً. (¬2) وصله ابن أبي شيبة وعبد الزراق بإِسنادين عنه - انظر "الفتح" (2/ 214)، و"مختصر البخاري": (1/ 184).

حكم الائتمام بمن ترك شرطا أو ركنا:

-والله تعالى أعلم-. حُكم الائتمام بمن ترك شرطاً أو رُكناً: إِذا ترَك الإِمام شرطاً أو رُكناً بطَلت صلاته وصلاة من ائتمّ به، أمّا إِذا لم يعلم المأمومون ذلك، فإِنَّ صلاتهم صحيحة، لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يصلّون لكم (¬1)، فإِنْ أصابوا فلكم (¬2)، وإِن أخطأوا (¬3) فلكم وعليهم (¬4) " (¬5). ¬

_ (¬1) أي: الأئمّة. (¬2) أي: لكم ثواب صلاتكم. (¬3) وإن أخطأوا: أي: ارتكبوا الخطيئة، ولم يُرِد به الخطأ المقابل للعمد لأنّه لا إِثم فيه. "الفتح". (¬4) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 188) بحذف: "قال المهلب: فيه جواز الصلاة خلف البر والفاجر إِذا خيف منه. ووجَّه غيره قوله إِذا خيف منه، بأن الفاجر إِنّما يؤمّ إِذا كان صاحب شوكة. وقال البغوي في "شرح السنّة": فيه دليل على أنه إِذا صلى بقوم مُحدِثاً أنّه تصح صلاة المأمومين وعليه الإِعادة. واستدل به غيره على أعمّ من ذلك وهو صحة الاَئتمام بمن يخلّ بشيء من الصلاة، ركناً كان أو غيره إِذا أتمّ المأموم، وهو وجه عند الشافعية بشرط أن يكون الإِمام هو الخليفة أو نائبه، والأصح عندهم صحة الاقتداء إلاَّ بمن علم أنّه ترك واجباً، ومنهم من استدلّ به على الجواز مطلقاً بناء على أنّ المراد بالخطأ ما يقابل العمل، قال: ومحل الخلاف في الأمور الاجتهادية كمن يصلّي خلف من لا يرى قراءة البسملة، ولا أنّها من أركان القراءة، ولا أنها آية من الفاتحة، بل يرى أنّ الفاتحة تجزئ بدونها قال: فإن صلاة المأموم تصح إِذا قرأ هو البسملة لأن غاية حال الإِمام في هذه الحالة أن يكون أخطأ. وقد دل الحديث على أنَّ خطأ الإِمام لا يؤثّر في صحة صلاة المأموم إِذا أصاب". (¬5) أخرجه البخاري: 694

الاستخلاف:

وعن عمر أنّه صلى بالنّاس الصبح ثمّ خرج إِلى الجُرُف، فأهراق الماء، فوجد في ثوبه احتلاماً، فأعاد الصلاة، ولم يُعدِ الناس". قال شيخنا في "الإِرواء" (533): وروى الأثرم نحو هذا عن عثمان وعلي. الاستخلاف: للإمام أن يستخلف غيره ليستكمل المأمومون الصلاة، إِذا عَرض له عُذر أو طرأ له طارئ، لمرض مفاجئ ألمَّ به ونحوه. ففي "صحيح البخاري" (3700): في قصة مقتل عمر -رضي الله عنه- قال: عمرو بن ميمون بعد أن طُعن -رضي الله عنه-: " ... وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى وأمّا نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون سبحان الله سبحان الله، فصلّى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة". وإذا لم يخشَ الإِمام الفتنة وذكر أنه على غير وضوء، أو على جنابة، والمتوضّأ قريب؛ فإِنه يشير للمأمومين أن مكانكم، ثمَّ يتوضّأ ويأمهم. فعن أبي بكرة -رضي الله عنه- "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخَل في صلاة الفجر، فأومأ بيده أنْ مكانكم، ثمَّ جاء ورأسه يقطر، فصلى بهم" (¬1). وفي رواية: قال في أوّله: فكبّر، وقال في آخره: فلما قضى الصلاة، قال: "إِنّما أنا بشر، وإني كنتُ جنباً". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (213).

موقف الإمام والمأموم:

وهذا بعد أن كبّر وقد ورد في الصحيحين. حالة أخرى غير هذه (¬1)، وهي تذكُّرُه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه على جنابة قبل أن يكبّر. فعن أبي هريرة "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج وقد أقيمت الصلاة وعدّلت الصفوف، حتى إِذا قام في مُصلاه انتظرنا أن يكبّر، انصرف قال: على مكانكم، فمكثنا على هيئتنا، حتى خرج إِلينا ينطُف (¬2) رأسه ماءً وقد اغتسل" (¬3). أمّا إِذا وجد الإِمام في ثوبه احتلاماً بعد الانتهاء من الصلاة أو تذكّر أنّه على غير وضوء، فعليه أن يعيد وليس على الناس إِعادة، فقد رُوي عن عمر أنه صلّى بالناس الصبح ثمَّ خرج إِلى الجُرُف فأهراق الماء، فوجَد في ثوبه احتلاماً، فأعاد الصلاة ولم يُعدِ الناس، وروى الأثرم نحو هذا عن عثمان وعليّ (¬4). موقف الإِمام والمأموم: أين يقف المأموم الواحد من الإِمام؟ يقف عن يمين الإِمام لحديث ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: صلّيتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة، فقُمت عن يساره، فأخَذَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) انظر "مختصر البخاري" (ص 78) رقم (158). (¬2) أي: يقطر. (¬3) أخرجه البخاري: 639، ومسلم: 605 (¬4) انظر "الإِرواء" (533)، و"الأوسط" (4/ 213)، وفي "مصنف عبد الرزاق" (2/ 348). عدد من الآثار في هذا.

أين تقف المرأة من الإمام؟

برأسي من ورائي، فجعلني عن يمينه" (¬1). وفي المسند من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أتيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر الليل فصلّيتُ خلفه، فأخَذ بيدي فجرّني فجعلني حذاءه" (¬2). "ووقف رجل وراء عمر، فقرَّبه حتى جعلَه حذاءه عن يمينه" (¬3). قال شيخنا في "الصحيحة" تحت رقم (606): "وفي الحديث من الفقه أنَّ الرجل الواحد إِذا اقتدى بالإِمام وقَف حذاءه عن يمينه، لا يتقدّم عنه ولا يتأخر، وهو مذهب الحنابلة كما في "منار السبيل" (1/ 128)، وإليه جنح البخاري؛ فقال في "صحيحه": "باب يقوم عن يمين الإِمام بحذائه سواءً إِذا كانا اثنين". وذكَر الحافظ في "الفتح" أثراً من طريق ابن جريج قال: "قلت لعطاء: الرجل يُصلّي مع الرجل، أين يكون منه؟ قال: إِلى شقّه الأيمن. قلت: أيحاذي به حتى يصفّ معه، لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم، قلت: أتحبّ أن يساويه، حتى لا تكون بينهما فُرجة؛ قال: نعم". أين تقف المرأة من الإِمام؟ تقف خلف الرجال وفيه أحاديث صحيحة من ذلك؛ حديث أبي هريرة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 726، ومسلم: 763، بلفظ: "فأخَذَ بيدي فأدارني عن يمينه". (¬2) إِسناده صحيح على شرط الشيخين عن "الصحيحة" (606). (¬3) أخرجه مالك وانظر "الصحيحة" (606).

من ركع دون الصف:

-رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خير صفوف الرّجال أوّلها، وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرُّها أوّلها" (¬1). والمراد بالحديث: صفوف النساء اللواتي يصليّن مع الرجال، أمّا إِذا صلّين متميّزات، لا مع الرجال، فهنّ كالرجال، خير صفوفهن أولها وشرّها آخرها، قاله النووي -رحمه الله-. فائدة: لا بأس من وقوف الصبيان مع الرجال إِذا كان في الصفّ متسع، وصلاة اليتيم مع أنس وراءه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّة في ذلك. قاله شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنّة" (ص 284). من ركع دون الصف: إِذا كبّر المأموم خلف الصف، ثمَّ دخله وأدرك فيه الركوع مع الإِمام، فقد أدرك تلك الركعة وصحَّت صلاته لحديث أبي بكرة -رضي الله عنه-: "أنَّه انتهى إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو راكع فرَكع قبل أن يصل إِلى الصف، فذكر ذلك للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: زادك الله حرصاً ولا تعُد (¬2) " (¬3). والذي يبدو أنَّ النهي عن إِسراعه في المشي؛ كما في رواية لأحمد (5/ 42) من طريق أخرى عن أبي بكرة أنّه جاء والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكع، فسمع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صوت نعل أبي بكرة وهو يحضر (أي: يعدو) يريد أن يدرك ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 439، وتقدّم. (¬2) ولا تعُد: قال الحافظ في "الفتح" (2/ 268): "ضبطناه في جميع الروايات بفتح أوّله وضم العين من العَود". (¬3) أخرجه البخاري: 783، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (634، 635).

الركعة، فلما انصرف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: من الساعي؟ قال أبو بكرة: أنا. قال: "زادك الله حِرصاً ولا تعُدْ"، وإِسناده حسن في المتابعات، وقد رواه ابن السكن في "صحيحه" نحوه، وفيه قوله: "انطلقتُ أسعى ... "، وأنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من الساعي ... "، ويشهد لهذه الرواية رواية الطحاوي من الطريق الأولى بلفظ: "جئت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكع، وقد حفزني النفس، فركعت دون الصف ... " الحديث وإِسناده صحيح، فإِنّ قوله: "حفَزَني النفَس، معناه: اشتدّ من الحفز وهو الحثّ والإِعجال وذلك كنايةً عن العدو. انظر "الصحيحة" تحت الحديث (230). وقال شيخنا في الاستدراكات: "ثمَّ وجدتُ ما يؤيدُ هذه الترجمة من قول راوي الحديث نفسه؛ أبي بكرة الثقفيّ -رضي الله عنه- كما يؤكّد أنَّ النّهي فيه: "لا تعُدْ" لا يعني الركوع دون الصفّ، والمشي إليه، ولا يشملُ الاعتداد بالركعةِ؛ فقد روى علي بن حجر في "حديثه" (1/ 17/1): حدّثنا إِسماعيل بن جعفر المدني: حدّثنا حميد، عن القاسم بن ربيعة، عن أبي بكرة -رجل كانت له صحبة- أنَّه كان يخرج من بيته فيجد الناس قد ركعوا، فيركع معهم، ثمَّ يدرج راكعاً حتّى يدخل في الصفّ، ثمَّ يعتدُّ بها. قلت: وهذا إِسنادٌ صحيح، ورجاله كلُهم ثقات، وفيه حجّةٌ قويّة أنَّ المقصود بالنهي إِنّما هو الإِسراع في المشي، لأنَّ راوي الحديث أدرى بمرويّه من غيره، ولا سيّما إِذا كان هو المخاطب بالنهي، فخُذها؛ فإِنّها عزيزةٌ، قد لا تجدها في المطوّلات من كتب الحديث والتخريج، وبالله التوفيق".

عن عطاء أنَّه سمع ابن الزبير على المنبر يقول: "إِذا دَخَل أحدكم المسجد والناسُ ركوع، فليركع حين يدخل، ثمَّ يدبّ راكعاً حتى يدخل في الصف، فإِنَّ ذلك السُّنّة" (¬1). قال شيخنا: وممّا يشهد لصحّته عمل الصحابة به من بعد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم أبو بكر الصدّيق وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير. ثمَّ ذكر بعض الآثار في ذلك: 1 - منها ما رواه أبو أمامة بن سهل بن حُنيف؛ أنّه رأى زيد بن ثابت دخل المسجد والإِمام راكع، فمشى حتّى أمكنه أن يصل الصف وهو راكع، كبّر فركع، ثمَّ دبّ وهو راكع حتى وصَل الصف. رواه البيهقي، وسنده صحيح. 2 - وما رواه زيد بن وهب قال: "خرجتُ مع عبد الله -يعني: ابن مسعود- من داره إِلى المسجد، فلمّا توسَّطنا المسجد، ركع الإِمام، فكبّر عبد الله وركع وركعت معه، ثمَّ مشينا راكعين حتى انتهينا إِلى الصف حين رفع القوم رؤوسهم، فلمّا قضى الإِمام الصلاة؛ قمتُ وأنا أرى أنّي لم أُدرِك، فأخذ عبد الله بيدي وأجلسني، ثمَّ قال: إِنك قد أدركْت" (¬2). 3 - ومنها ما رواه عثمان بن الأسود قال: "دخلتُ أنا وعبد الله بن تميم المسجد، فركع الإِمام، فركعتُ أنا وهو، ومَشينا راكعين حتى دخلْنا الصفّ، ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" والطبراني في "الأوسط" وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (229). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف"، وكذا عبد الرزاق، والطحاوي في "شرح المعاني"، والطبراني في "المعجم الكبير"، والبيهقي في "سننه" بسند صحيح، وله عند الطبراني طرق أخرى.

صلاة المنفرد خلف الصف:

فلمّا قضينا الصلاة؟ قال لي عمرو: الذي صنعتَ آنفاً ممّن سمعتَه؟ قلتُ: من مجاهد. قال: قد رأيتُ ابن الزّبير فعَله. أخرجه ابن أبي شيبة أيضاً، وسنده صحيح". والخلاصة أنَّ ركوع المأموم قبل رفْع الإِمام رأسه ثمَّ دخوله في الصف من السنّة لعمل كبار الصحابة وخطبة ابن الزبير بحديثه على المنبر في أكبر جمْع يخطب عليهم في المسجد الحرام، وإعلانه أنَّ ذلك من السنّة؛ دون أن يعارضه أحد (¬1)، وأنَّ النهي في الحديث السابق إِنّما يتضمّن الإِسراع، وبه يقول الإِمام أحمد -رحمه الله- فقد قال أبو داود في "مسائله" (ص 35): "سمعت أحمد سئل عن رجل ركع دون الصف، ثمَّ مشى حتى دخل الصف، وقد رفع الإِمام قبل أن ينتهي إِلى الصف؟ قال: تجزئه ركعة، وإنْ صلّى خلف الصف وحده أعاد الصلاة" (¬2). وبه يقول ابن خزيمة فقد قال في "صحيحه": (باب الرخصة في ركوع المأموم قبل اتصاله بالصف، ودبيبه راكعاً حتى يتصل بالصفّ في ركوعه). والله تعالى أعلم. صلاة المنفرد خلف الصف: وما تقدّم من دبيب المأموم راكعاً، ثمَّ دخوله في الصف؛ أمرٌ غير صلاة المنفرد خلف الصف، فقد نهى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلّي الرجل خلف الصفّ وحده. ¬

_ (¬1) انظر "الصحيحة" (1/ 459) -إِن شئت للمزيد من التفصيل-. (¬2) عن "تمام المنّة" (ص 285).

فعن وابصة " أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلاً يصلّي خلف الصفّ وحده، فأمَره أن يعيد الصلاة" (¬1). وعن علي بن شيبان -وكان من الوفد- قال: "خرجنا حتى قدمنا على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبايعناه. وصلّينا خلفه. ثمَّ صلينا وراءه صلاة أخرى، فقضى الصلاة، فرأى رجلاً فرداً يصلّي خلف الصف، قال: فوقف عليه نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين انصرف قال: "اسْتَقْبِلْ صلاتك؛ لا صلاة للذي خلف الصفّ"" (¬2). قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الإِرواء" (2/ 329): "وجملة القول أن أمْره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل بإِعادة الصلاة، وأنَه لا صلاة لمن يصلّي خلف الصف وحده، صحيح ثابت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طُرُق. وأمّا أمْره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل بأن يجرّ رجلاً من الصف لينضمّ إِليه؛ فلا يصحّ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... ". وقال شيخنا -حفظه الله-: "إِذا لم يستطع الرجل أن ينضمّ إِلى الصفّ، فصلّى وحده، فهل تصحّ صلاته، الأرجح الصحة، والأمر بالإِعادة محمول على من لم يستطع القيام بواجب الانضمام. وبهذا قال شيخ الإِسلام ابن تيمية كما بيّنته في "الأحاديث الضعيفة" المائة العاشرة". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (633) والترمذي والطحاوي وغيرهم، وانظر "الإرواء" (541). (¬2) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (822) والطحاوى وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم، وانظر "الإِرواء" تحت الحديث (541).

تسوية الصفوف:

تسوية الصفوف (¬1): أمَر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتسوية الصفوف في عديد من الأحاديث منها: 1 - حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "خرَج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها؟ فقلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يُتمّون الصفوف الأُوَل، ويتراصّون في الصف" (¬2). 2 - عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "استووا ولا تختلفوا؛ فتختلفَ قلوبكم" (¬3). 3 - عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: "لتسوّن صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم" (¬4). 4 - عن أنس -رضي الله عنه- قال: "أُقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوجهه، فقال: أقيموا صفوفكم وتراصّوا، فإِنّي أراكم من وراء ظهري" (¬5). 5 - عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سوُّوا ¬

_ (¬1) انظر للمزيد كتابي "تسوية الصفوف وأثرها في حياة الأمّة". (¬2) أخرجه مسلم: 430 (¬3) أخرجه مسلم: 432 (¬4) أخرجه البخاري: 717، ومسلم: 436 (¬5) أخرجه البخاري: 719

الترغيب في وصل الصفوف والتخويف من قطعها:

صفوفكم، فإِنّ تسوية الصفِّ من تمام الصلاة" (¬1). وفي رواية لأنس أيضاً -رضي الله عنه- قال: "سوُّوا صفوفكم، فإِن تسوية الصفوف من إِقامة الصلاة" (¬2). وفي رواية: "فإِنّ إِقامة الصفِّ من حُسن الصلاة" (¬3). الترغيب في وصل الصفوف والتخويف من قطعها: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أقيموا الصفوف، فإِنّما تصفّون بصفوف الملائكة، وحاذوا بين المناكب، وسدّوا الخلل، ولينوا بأيدي إِخوانكم (¬4)، ولا تذروا فُرجات للشيطان ومن وصل صفاً؛ وصَله الله، ومن قطع صفاً؟ قطَعه الله عزّ وجلّ" (¬5). عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سدّ فرجة؛ رفعه الله بها درجة، وبنى له بيتاً في الجنّة" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 433 (¬2) أخرجه البخاري: 723 (¬3) أخرجه البخاري: 722، ومسلم: 435 (¬4) قال أبو داود تحت الحديث (666): "ومعنى ولينوا بأيدي إِخوانكم": إِذا جاء رجل إِلى الصفّ فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين له كلّ رجل منكبه حتى يدخل في الصف". (¬5) أخرجه أحمد، وأبو داود والنسائي وغيرهم وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الصحيحة" (743)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (492). (¬6) أخرجه أبو داود، وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (502).

كيف نسوي صفوفنا؟

وفي الحديث: "خِياركم ألينكم مناكب في الصلاة، وما من خطوة أعظم أجراً؛ مِن خطوة مشاها رجل إِلى فرجة في الصف فسدّها" (¬1). كيف نسوِّي صفوفنا؟ يبيّن لنا أنس -رضي الله عنه- كيف كانت تسوية الصفوف في عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول: "وكان أحدنا يلزق مَنكِبه بمَنكِب صاحبه، وقدمه بقدمه" (¬2). وفي قول للنعمان بن بشير -رضي الله عنه-: "فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه" (¬3). ولا بد أن نحاذي بين المناكب والأعناق لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وحاذوا بالأعناق" (¬4). وقوله عليه السلام: "وحاذوا بين المناكب" (¬5). يُفهم مما سبق؛ أن ¬

_ (¬1) أخرجه البزار بإِسناد حسن، وابن حبان في "صحيحه" كلاهما بالشطر الأول، ورواه بتمامه الطبراني في "الأوسط" قاله المنذري في "الترغيب والترهيب"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (501)، و"الصحيحة" (2533). (¬2) أخرجه البخاري: نحوه (725). (¬3) أخرجه أبو داود وابن حبان وأحمد وقال شيخنا: وسنده صحيح، وانظر تفصيله في "الصحيحة" تحت الحديث (32). (¬4) جزء من حديث رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (491). (¬5) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (492).

التوكيل في تسوية الصفوف:

تسوية الصفوف وتراصها تعني: 1 - لصق مَنكِب المصلي بمَنكِب صاحبه، وقدمه بقدمه، وركبته بركبته، وكعبه بكعبه. 2 - مراعاة المحاذاة بين المناكب والأعناق والصدور، بحيث لا يتقدم عنق على عنق، ولا مَنكِب على مَنكِب، ولا صدر على صدر، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تختلف صدوركم، فتختلف قلوبكم" (¬1). التوكيل في تسوية الصفوف: وجاء في "الموطأ" (1/ 158): حدّثني مالك عن عمّه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه أنّه قال: كنت مع عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فقامت الصلاة، وأنا أكلّمه في أن يفرض لي، فلم أزل أكلّمه، وهو يسوّي الحصباء بنعله، حتى جاءه رجال، قد كان وكَّلَهم بتسوية الصفوف، فأخبروه أنَّ الصفوف قد استوت، فقال لي: استو في الصف، ثمَّ كبّر (¬2). الترغيب في الصف الأول وميامن الصفوف والترهيب من تأخُّر الرجال إِلى أواخر صفوفهم: عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خير صفوف الرجال أوّلها، وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أوّلها" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (510). (¬2) وهو صحيح كما أخبَرني بذلك شيخنا الألباني -حفظه الله-. (¬3) أخرجه مسلم: 440، وتقدّم.

التبليغ خلف الإمام:

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول؛ ثمّ لم يجدوا إلاَّ أن يستَهِموا (¬1) عليه لاستَهموا ... " (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يزال قوم يتأخّرون عن الصف الأول حتى يؤخّرهم الله في النار" (¬3). وفي رواية (¬4): حتى يخلفهم الله في النار. وعن البراء بن عازب قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إِنَّ الله وملائكته يصلّون على الصفوف الأُوَل" (¬5). وعنه -رضي الله عنه- قال: "كُنّا إِذا صلّينا خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحبَبنا أن نكون عن يمينه" (¬6). التبليغ خلف الإِمام: يحسن التبليغ خلف الإِمام إِذا دعت الحاجة إِليه، وقد يجب إِذا تعذّر متابعة الإِمام في ركوعه وسجوده، لضعف الصوت؛ إِذ ما لا يتمّ الواجب إلاَّ به ¬

_ (¬1) يستهموا: أي: يقترعوا. (¬2) أخرجه البخاري: 615، ومسلم: 437 (¬3) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (507). (¬4) لابن خزيمة وابن حبان، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (507). (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (618) وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (510). (¬6) أخرجه مسلم: 709

متى يقوم الناس للإمام؟

فهو واجب. متى يقوم الناس للإِمام؟ إِذا كان الإِمام مع المصلين في المسجد قاموا إِذا قام، وإن كانوا ينتظرون خروجه ومجيئه قاموا إِذا رأوه ولا يقوموا حتى يروه لحديث أبي قتادة أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت" (¬1). هل يشرع تكرار الجماعة في المسجد الواحد؟ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطبُّ، ثمَّ آمرُ بالصلاة فيؤذن لها، ثمَّ آمرُ رجلاً فيؤم النّاس، ثمَّ أخالف إِلى رجال فأحرِّق عليهم بيوتهم" (¬2). ولو جاز تداركُها في جماعة أخرى؛ لما كان لتحريق النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معنى. وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- "أنّ رسول الله أقبَل من نواحي المدينة يريد الصلاة، فوجَد الناس قد صلَّوا، فمال إِلى منزله، فجمع أهله فصلّى بهم" (¬3). * ووجه الدلالة منه: أنّه لو كانت الجماعة الثانية جائزة بلا كراهه؛ لما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 637، ومسلم: 604، وانظر ما جاء في "الأوسط" (4/ 168). (¬2) أخرجه البخاري: 644، ومسلم: 651 (¬3) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وحسنّه شيخنا في "تمام المنّة" (ص 155).

ترَك النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضل المسجد النبوي * (¬1). قال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنّة" (ص 156): "وأحسن ما وقفْتُ عليه من كلام الأئمّة في هذه المسألة هو كلام الإِمام الشافعي -رضي الله عنه- ولا بأس مِن نقْله مع شيء من الاختصار، ولو طال به التعليق، نظراً لأهميته، وغفلة أكثر الناس عنه، قال -رضي الله عنه- في "الأم" (1/ 136): "وإِنْ كان لرجلٍ مسجد يجمع فيه، ففاتته الصلاة، فإِنْ أتى مسجد جماعة غيره كان أحبّ إِليّ، وإِنْ لم يأته وصلّى في مسجده منفرداً، فحسن، وإذا كان للمسجد إِمامٌ راتب، ففاتت رجلاً أو رجالاً فيه الصلاة، صلّوا فرادى، ولا أحب أن يصلوا فيه جماعة، فإِن فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه، وإِنما كرهت ذلك لهم لأنّه ليس مما فعل السلف قبلنا، بل قد عابه بعضهم، وأحسب كراهية من كره ذلك منهم إِنما كان لتفرقة الكلمة، وأن يرغب رجل عن الصلاة خلف إِمام الجماعة، فيتخلّف هو ومن أراد عن المسجد في وقت الصلاة، فإِذا قُضيت دخلوا فجمّعوا، فيكون بهذا اختلاف وتفرُّق الكلمة، وفيهما المكروه، وإِنما أكره هذا في كلّ مسجد له إِمام ومؤذن، فأمّا مسجد بُني على ظهر الطريق أو ناحية لا يؤذن فيه مؤذّن راتب، ولا يكون له إِمام راتب ويصلّي فيه المارّة، ويستظلّون، فلا أكره ذلك، لأنّه ليس فيه المعنى الذي وصفتُ مِن تفرُّق الكلمة، وأن يرغب رجالٌ عن إِمامة رجل فيتخذون إِماماً غيره، قال: وإنّما معني أن أقول: صلاة الرجل لا ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين أفدته من "إِعلام العابد بحكم تكرار الجماعة في المسجد الواحد" للشيخ مشهور حسن -حفظه الله تعالى-.

تجوز وحده وهو يقدر على الجماعة بحال تفضيل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الجماعة على صلاة المنفرد، ولم يقل: لا تجزي المنفرد صلاته، وأنَّا قد حفظنا أن قد فاتت رجالاً معه الصلاة، فصلّوا بعلمه منفردين، وقد كانوا قادرين على أن يجمعوا، وأن قد فاتت الصلاة في الجماعة قوماً فجاؤوا المسجد فصلّى كل واحد منفرداً، وقد كانوا قادرين على أن يجمعوا في المسجد، فصلّى كل واحد منهم منفرداً، وإِنما كرهوا لئلا يجمعوا في مسجد مرتين". وما علقه الشافعي عن الصحابة قد جاء موصولاً عن الحسن البصري قال: "كان أصحاب محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا دخلوا المسجد وقد صُلِّي فيه صلَّوا فرادى". رواه ابن أبي شيبة (2/ 223). وقال أبو حنيفة: "لا يجوز إِعادة الجماعة في مسجد له إِمام راتب". ونحوه في "المدوّنة" عن الإِمام مالك. وبالجملة؛ فالجمهور على كراهة إِعادة الجماعة في المسجد بالشرط السابق، وهو الحقّ، ولا يعارض هذا الحديث المشهور: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلّي معه"، وسيأتي في الكتاب (ص 277)، فإِنّ غاية ما فيه حضُّ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحد الذين كانوا صلّوا معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجماعة الأولى أن يصلّي وراءه تطوعاً، فهي صلاة متنفِّل وراء مفترض، وبحْثُنا إِنما هو في صلاة مفترض وراء المفترض، فاتتهم الجماعة الأولى، ولا يجوز قياس هذه على تلك لأنه قياس مع الفارق من وجوه: الأول: أن الصورة الأولى المختلف فيها لم تنقل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا إِذناً ولا تقريراً مع وجود المقتضى في عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما أفادته رواية الحسن البصري.

الثاني: أن هذه الصورة تؤدي إِلى تفريق الجماعة الأولى المشروعة، لأن الناس إِذا علموا أنهم تفوتهم الجماعة يستعجلون فتكثر الجماعة، وإذا علموا أنها لا تفوتهم، يتأخّرون، فتقلّ الجماعة، وتقليل الجماعة مكروه، وليس شيء من هذا المحذور في الصورة التي أقرّها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فثبت الفرق، فلا يجوز الاستدلال بالحديث على خلاف المتقرر من هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". انتهى. وقد فصّل أخي الشيخ مشهور حسن -حفظه الله- المسألة تفصيلاً دقيقاً في كتابه النفيس السابق الذّكر فارجع إِليه- إن شئت-.

المساجد

المساجد إِنّ ممّا اختصّ الله تعالى به أمّة محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن جعلَ لها الأرض مسجداً وطَهوراً. عن أبي ذر قال: "قلت يا رسول الله! أيّ مسجدٍ وُضِع في الأرض أوّل؟ قال: "المسجد الحرام، قلت: ثمَّ أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنةً، وأينما أدركتكَ الصلاة فَصَلِّ فهو مسجد" (¬1). فضل بنائها: عن عثمان -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من بنى مسجداً لله تعالى بنى الله له بيتاً في الجنّة" (¬2). وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من بنى لله مسجداً قدر مفحص قطاة؛ بنى الله له بيتاً في الجنّة" (¬3). عن أنس -رضي الله عنه- قال: "من بنى لله مسجداً صغيراً كان أو كبيراً؛ بنى الله له بيتاً في الجنّة" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3366، ومسلم: 520 (¬2) أخرجه البخاري: 450، ومسلم: 533 (¬3) أخرجه البزار واللفظ له، والطبراني في "الصغير" وابن حبان في "صحيحه" وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (263). والمفحص الموضع الذي تبيض فيه القطاة، وهي نوع من اليمام يُؤثِر الحياة في الصحراء. (¬4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (263)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (267).

فضل الصلاة في المسجد الأكثر عددا:

فضل الصلاة في المسجد الأكثر عدداً: عن أُبيّ بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثُر؛ فهو أحبّ إِلى الله تعالى" (¬1). وعن قباث بن أشيم الليثي عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة رجلين يؤمُّ أحدهما صاحبه؛ أزكى عند الله من صلاة ثمانية تترى (¬2)، وصلاة أربعة يؤمّهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مائة تترى" (¬3). ما يقول الرجل إذا خرج من بيته إِلى المسجد: عن أنس بن مالك أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكّلتُ على الله، لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، قال: يُقال حينئذ: هُديت وكُفيت ووقيت، فتتنحّى له الشياطين، فيقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي؟ " (¬4). وعن أمّ سلمة -رضي الله عنها- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا خرجَ من بيته قال: "اللهمّ إِنّي أعوذ بك أن أضِلَّ أو أُضَلَّ أو أزِلَّ أو أُزلَّ أو أظلِمَ أو أُظلَمَ أو أجهَلَ أو يُجهَلَ عليّ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (518) وانظر "المشكاة" (1066). (¬2) تترى: متفرّقين. (¬3) أخرجه البخاري في "التاريخ" والبزار وغيرهما وانظر "الصحيحة" (1912). (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (4249)، وانظر "المشكاة" (2443). (¬5) أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح =

دخول المسجد بالرجل اليمنى والخروج باليسرى:

وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفرعاً: " ... فأذّنَ المؤذّن فخرج إِلى الصلاة، وهو يقول: اللهمّ اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهمّ أعطني نوراً" (¬1). والظاهر أنّه كان يقول هذا الدعاء حين الذَّهاب إِلى صلاة الفجر، كما يدّل عليه تمام سياق الحديث. دخول المسجد بالرِّجل اليمنى والخروج باليسرى: عن أنس أنّه كان يقول: "من السُّنّة إِذا دخَلْت المسجد أن تبدأ رجلك اليمنى، وإذا خرَجْت أن تبدأ برجلك اليسرى" (¬2). أذكار دخول المسجد والخروج منه: عن أبي حُميد أو أبي أُسيد -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا دخل أحدكم المسجد فليُسلّم على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ ليقل: اللهمّ افتح لي أبواب رحمتك، فإِذا خرج فليقل: اللهمّ إِنّي أسألك من فضلك" (¬3). ¬

_ = وقال شيخنا إِسناده صحيح، انظر "المشكاة" (2442)، و"صحيح سنن أبي داود" (4248). (¬1) أخرجه البخاري: 6316، ومسلم: 763 (¬2) أخرجه الحاكم (1/ 218) في المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وانظر "الإرواء" (93). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (440) وغيره، وهو في "صحيح مسلم" (713)، من غير ذِكر السلام على النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

فضل المشي إلى المساجد:

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه كان إِذا دخل المسجد قال: "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم" (¬1). عن فاطمة الكبرى قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا دخل المسجد صلّى على محمد وسلّم وقال: ربِّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإِذا خرج صلّى على محمّد وسلّم وقال: ربّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك" (¬2). فضل المشي إِلى المساجد: عن أبي هريرة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من غدا إِلى المسجد وراح أعدّ (¬3) الله له نزُله (¬4) من الجنّة؛ كلمّا غدا أو راح (¬5) " (¬6). استحباب المشي إِلى المساجد بالسكينة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إِذا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (441)، وانظر "الكلم الطيب" (65). (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (259) وانظر "تمام المنّة" (ص 290). (¬3) أعدّ: هيّأ. (¬4) نزله: بضم النون والزاى: المكان الذي يهيأ للنزول فيه وبسكون الزاي: ما يهيأ للقادم من الضيافة ونحوها. "فتح" (2/ 148). (¬5) غدا أو راح: الأصل في الغدوّ: المضي من بكرة النهار والرواح: بعد الزوال، ثمَّ قد يستعملان في كلّ ذهاب ورجوعٍ توسُّعًا. (¬6) أخرجه البخاري: 662، ومسلم: 669، وتقدّم.

تحية المسجد:

أقيمت الصلاة فلا تأتُوها تسعَون، وأتوها تمشون عليكم السكينة، فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم فأتمّوا" (¬1). وعنه أيضاً قال: "إِذا سمعتم الإِقامة فامشوا إِلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتمّوا" (¬2). تحية المسجد: عن أبي قتادة أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا دخل أحدُكُم المسجد، فليركع ركعتين قبل أن يجلس" (¬3). ما جاء في الصلاة في المساجد الثلاثة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تشدُّ الرحال (¬4) إلاَّ إِلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومسجد الأقصى" (¬5). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة في مسجدي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 908، ومسلم: 602 (¬2) أخرجه البخاري: 636، ومسلم: 602 (¬3) أخرجه البخاري: 444، ومسلم: 714 (¬4) قال القرطبي: هو أبلغ من صريح النهي؛ كأنّه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلاَّ هذه البقاع؛ لاختصاصها بما اختصّت. والرحال: جمْع رحل وهو للسفر كالسرج للفرس، وكنّى بشدّ الرحال عن السفر لأنّه لازِمه. "فتح": (3/ 64). (¬5) أخرجه البخاري: 1189، ومسلم: 1397

تواضع بنائها والنهي عن زخرفتها:

هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاَّ المسجد الحرام" (¬1). وعن جابر -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلاَّ المسجد الحرام؛ وصلاة في المسجد الحرام؛ أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" (¬2). وعن عبد الله بن عمرو عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لمّا فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثاً: حُكماً يُصادف حُكمه، ومُلْكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وألاَّ يأتي هذا المسجد أحدٌ، لا يريد إلاَّ الصلاة فيه، إلاَّ خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمّه، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمّا اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة" (¬3). وعن أُسيد بن ظُهير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاة في مسجد قُباء كعمرة" (¬4). تواضع بنائها والنهي عن زخرفتها: عن أنس أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تقوم الساعة؛ حتى يتباهى الناسُ في المساجد" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1190، ومسلم: 1394 (¬2) أخرجه أحمد وغيره بإِسناد صحيح وصححه جمْع ذكَرهم شيخنا في "الإرواء" (1129)، وانظر "صحيح سنن ابن ماجه" (1155). (¬3) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1156) وغيرهما. (¬4) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1159)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (267) وغيرهم. (¬5) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (432)، والنسائي =

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أُمرت بتشييد المساجد، قال ابن عباس: لتزخرفنّها كما زخرَفَت اليهود والنصارى" (¬1). وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا زخرفتم مساجدكم وحلّيتم مصاحفكم فالدمار عليكم" (¬2). وعن نافع أنّ عبد الله أخبره "أنَّ المسجد كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مبنيّاً باللِّبن وسقفه الجريدُ (¬3) وعمدُه (¬4) النخيل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً" (¬5). وفى "صحيح البخاري" معلّقاً بصيغة الجزم (¬6): "وأمر عمر ببناء المسجد وقال: أَكِنَّ (¬7) الناس من المطر، وإيّاك أن تُحمرَ أو تُصَفرَ فتفتن الناس وقال ¬

_ = "صحيح سنن النسائي" (665)، وابن ماجه، وانظر "المشكاة" (719). (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (431)، وانظر "المشكاة" (718). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" وعبد الله ابن المبارك في "الزهد"، وانظر "الصحيحة" (1351). (¬3) الجريد: الذي يُجرد ويُزال عنه الخوص [أي: الورق] ولا يسمّى جريداً ما دام عليه الخوص، وانظر "مختار الصحاح". (¬4) وعَمَده: بفتح أوله وثانيه ويجوز ضمهما، قال الحافظ في "الفتح": (1/ 540): أي: أقامه بعماد ودعمه". والعماد: خشبة تقوم عليها الخيمة. "الوسيط". (¬5) أخرجه البخاري: 446 (¬6) انظر "الفتح" (1/ 539). (¬7) من الكِنّ: وهو ما يرُدّ الحرّ والبرد من الأبنية والمساكن، ومعنى أكن النّاس من المطر: أي: صُنهم واحفظهم. "النهاية".

الترغيب في تنظيفها وتطهيرها وتجنيبها الأقذار والروائح الكريهة وما جاء في تجميرها:

أنس: يتباهون بها ثمَّ لا يعْمُرونها إلاَّ قليلا". الترغيب في تنظيفها وتطهيرها وتجنيبها الأقذار والروائح الكريهة وما جاء في تجميرها (¬1): عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ امرأة سوداء كانت تقُمُّ (¬2) المسجد، ففقدها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسأل عنها بعد أيامٍ، فقيل له: إِنّها ماتت. فقال: فهلا آذنتموني؟ فأتى قبرها، فصلى عليها" (¬3). وفي رواية: "إِنّ امرأة كانت تلقط الخِرَق والعِيدان من المسجد" (¬4). وعن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: "أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نتَّخذ المساجد في ديارنا، وأمرنا أن نُنظّفها" (¬5). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببناء المساجد في الدُّور، وأن تُنظّف وتُطيّب" (¬6). وعن أنس بن مالك قال: "بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذ ¬

_ (¬1) أي: تبخيرها، والعنوان من "كتاب الترغيب والترهيب" للمنذري. (¬2) تقمّ: أي: تكنّس. (¬3) أخرجه البخاري: 460، ومسلم: 956، وابن ماجه بإِسناد صحيح واللفظ له، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (272). (¬4) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (272). (¬5) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (274). (¬6) أخرجه أحمد وغيره، وصحّحه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (275).

جاء أعرابيّ، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَهْ مَهْ (¬1)، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تُزرموه (¬2) دعوه، فتركوه حتّى بال، ثمَّ إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعاه فقال له: إِنَّ هذه المساجد لا تَصْلُح لشيء من هذا البول ولا القَذَر، إِنّما هي لذِكر الله عزّ وجلّ، والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال فأمَر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماءٍ فشنّه (¬3) عليه" (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا قام أحدُكم إِلى الصلاة فلا يبصُق أمامه، فإِنّما يُناجي الله ما دام في مصلاّه، ولا عن يمينه؛ فإِنَّ عن يمينه مَلَكاً، وليبصُق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنُها" (¬5). وعن جابر بن عبد الله أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أكلَ ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا -أو قال: فليعتزل مسجدنا- وليقعد في بيتها، أنَّ (¬6) النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتي بقدرٍ فيه خَضِرات (¬7) من بقولٍ فوجد لها ريحاً، فسأل فأُخبر بما فيها من البُقول فقال: قرّبوها -إِلى بعض أصحابه كان معه- فلمّا رآه كره أكلها قال: ¬

_ (¬1) اسم فعل أمر مبني على السكون معناه: اكفُف. (¬2) أي: لا تقطعوا عليه بوله. (¬3) فشنّه: أي: صبّه. (¬4) أخرجه البخاري: 220، 6128، ومسلم: 284 وهذا لفظه. (¬5) أخرجه البخاري: 416، ومسلم: 552 (¬6) يجوز فيها الكسر والفتح. (¬7) أي: بقول واحد ها خَضِرة. "النهاية".

كراهة نشد الضالة والبيع والشراء في المسجد:

كُلْ، فإِني أُناجي من لا تُناجى" (¬1). وفي رواية: "من أكل البصل والثوم والكرّاث (¬2) فلا يقربنَّ مسجدنا فإِنّ الملائكة تتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم" (¬3). وخطب عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة، فقال: " ... ثمَّ إِنّكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلاَّ خبيثتين: هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا وجد ريحمها من الرجل في المسجد أمَرَ به فأُخرج إِلى البقيع، فمن أكلهما فليُمتْهما طبخاً" (¬4). أمّا ما لم يكن للمرء فيه كسب ولا هو يملك إِزالته كالبخر، فإِنَّه لا يلحق بالروائح الكريهة، والشارع الحكيم إِنّما منع أكل الثوم وغيره من حضور المساجد والحصول على فضيلة الجماعة؛ عقوبةً له على عدم مبالاته بإِيذاء المؤمنين والملائكة المقرّبين، فلا يجوز أن يحرم من هذه الفضيلة صاحب الأبْخَرُ ونحوه لما ذكرناه من الفارق. عن "تمام المنّة": (ص 295) ملخّصاً. كراهة نشْد الضالة والبيع والشراء في المسجد: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سمع رجلاً ينشد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 855، ومسلم: 564 (¬2) الكُرّاث: عشب ذو بصلة أرضية له رائحة قوية. الوسيط -بحذف-. (¬3) أخرجه مسلم: 564 (¬4) أخرجه أحمد، ومسلم: 567 وغيرهما.

عدم رفع الصوت فيها:

ضالَّةً (¬1) في المسجد، فليقل: لا ردَّها الله عليك. فإِنَّ المساجد لم تُبْنَ لهذا" (¬2). وعن سليمان بن بريدة عن أبيه أنَّ رجلاً نشد في المسجد فقال: من دعا إِلى الجمل الأحمر. فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا وجدْتَ إِنّما بُنيت المساجد لما ُبُنِيَت له" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك" (¬4). وفي رواية: "وإِذا رأيتم من ينشد فيه ضالّة فقولوا: لا ردّ الله عليك" (¬5). عدم رفع الصوت فيها: عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أنَّه اطلع من بيته والناس يصلّون يجهرون بالقراءة، فقال لهم: إِنَّ المصلّي يُناجي ربّه، فلينظر بما يُناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن" (¬6). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) يطلب ما ضاع له. (¬2) أخرجه مسلم: 568 (¬3) أخرجه مسلم: 569 (¬4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1066) والدارمي وابن خزيمة في "صحيحه" (1305) وغيرهم، وصححه شيخنا في "الإرواء" (1295). (¬5) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1066) والدارمي وابن خزيمة في "صحيحه" (1305) وغيرهم، وصححه شيخنا في "الإرواء" (1295). (¬6) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وغيره، وانظر "الصحيحة" (1603).

في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، وهو في قُبّةٍ له، فكشف الستور وقال: ألا إِنّ كلكم مناجٍ ربّه، فلا يؤذينَّ بعضكم بعضاً، ولا يرفعنَّ بعضكم على بعض بالقراءة. أو قال: في الصلاة" (¬1). ويجوز التحدّث بما هو مباح في المسجد، حتى لو صاحبه تبسّم وضَحك؛ لحديث سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سَمُرهّ: أكنتَ تجالس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم، كثيراً. كان لا يقوم من مُصلاه الذي يُصلّي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإِذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون. فيأخذون في أمر الجاهلية. فيضحكون ويتبسَّم" (¬2). ويشرع إِنشاد الشعر المشتمل المعاني الحسنة، المتضمّن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك، فعن عبد الله بن عمرو أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الشعر بمنزلة الكلام، حسنُه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام" (¬3). وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تقول: "الشِّعر حسَن ومنه قبيح، فخُذ بالحسن، ودع القبيح، ولقد رُوّيت من شعر كعب بن مالك أشعاراً؛ منها القصيدة فيها أربعون بيتاً ودون ذلك" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وإسناده صحيح على شرط الشيخين وانظر "صحيح سنن أبي داود" (1183)، و"الصحيحة" (1603). (¬2) أخرجه مسلم: 670 (¬3) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وغيره، وهو صحيح لغيره كما في "الصحيحة" (447). (¬4) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وانظر "الصحيحة" (447).

هل يباح الأكل والشرب والنوم فيها؟

وعن أبي هريرة "أنَّ عمر مرّ بحسّان وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحَظَ إِليه فقال: قد كنتُ أنشِدُ؛ وفيه مَن هو خيرٌ منك، ثمَّ التفت إِلى أبي هريرة فقال: أنشدك الله أسمعْتَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: أجِبْ عنّي اللهمّ أيِّده بروح القُدُس؟ قال: اللهمّ نعم" (¬1). هل يُباح الأكل والشرب والنوم فيها؟ عن عبد الله بن الحارث قال: "كنّا نأكل على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد الخبز واللحم" (¬2). وعن سهل بن سعد قال: "ما كان لعليّ اسم أحبّ إِليه من أبي تراب، وإنْ كان لفرح به إِذا دُعي بها، جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيتَ فاطمة فلم يَجِد عليّاً في البيت، فقال: أين ابن عمّك؟ فقالت: كان بيني وبينه شيء، فغاضبني فخرج، فلم يَقِلْ عندي. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإِنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله، هو في المسجد راقدٌ، فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مضطجعٌ؛ قد سقط رداؤه عن شقِّه فأصابه تراب، فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسحه عنه وهو يقول: قم أبا تُراب، قم أبا تراب" (¬3). قال البخاري: "وقال أبو قلابة عن أنس: قدم رهط من عُكْل على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكانوا في الصُّفَّة (¬4)، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: كان أصحاب الصُّفَّة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 453، ومسلم: 2485 (¬2) أخرجه ابن ماجه وصحح شيخنا إِسناده في "تمام المنّة" (ص 295). (¬3) أخرجه البخاري: 6280، ومسلم: 2409 (¬4) الصُّفّة: موضع مظلل في المسجد النبوي، كانت تأوي إِليه المساكين. =

عدم اتخاذ المساجد طرقا:

الفقراء" (¬1). وعن نافع قال: "أخبرني عبد الله بن عمر أنَّه كان ينام وهو شاب أعزب، لا أهل له في مسجد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬2). عدم اتخاذ المساجد طُرُقاً: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تتخذوا المساجد طُرُقاً إلاَّ لذِكر أو صلاة" (¬3). النهي عن تشبيك الأصابع عند الخروج إلى الصلاة: عن كعب بن عُجْرة أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا توضّأ أحدُكم فأحسَن وضوءه، ثمَّ خرجَ عامداً إِلى المسجد؛ فلا يشبكنّ بين أصابعه، فإِنَّه في صلاة" (¬4). الصلاة بين السواري: عن معاوية بن قرّة عن أبيه قال: "كُنّا نُنهى أن نصفَّ بين السواري على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونُطرد عنها طرداً" (¬5). ¬

_ = "فتح" (1/ 535). (¬1) تقدّم موصولاً من هذا الكتاب (1/ 50). (¬2) أخرجه البخاري: 440 (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وغيره، وانظر "الصحيحة" (1001). (¬4) أخرجه أحمد والترمذي. وانظر "الإِرواء" (2/ 100)، و"الصحيحة" (3/ 284). (¬5) أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة وغيرهم، وقال الحاكم صحيح الإِسناد ووافقه الذهبي وانظر "الصحيحة" (335).

قال شيخنا في "الصحيحة" (335) بحذف وتصرف: "وله شاهد من حديث أنس بن مالك يتقوّى به، ويرويه عبد الحميد بن محمود قال: "صلّيت مع أنس بن مالك يوم الجمعة، فدُفِعنا إِلى السواري، فتقدّمنا وتأخّرنا، فقال أنس: كنّا نتّقي هذا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (¬1). وهذا الحديث نصٌّ صريح في ترك الصف بين السواري، وأنّ الواجب أن يتقدّم أو يتأخّر؛ إلاَّ عند الاضطرار؛ كما وقع لهم. وعن ابن مسعود أنَّه قال: "لا تصفُّوا بين السواري". وقال البيهقي: "وهذا -والله أعلم- لأنّ الأسطوانة تحول بينهم وبين وصل الصف" (¬2). وقال مالك: "لا بأس بالصفوف بين الأساطين إِذا ضاق المسجد". انتهى. ويستدلّ بعضهم على جواز الصلاة بين السواري بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "دخل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البيت وأسامة بن زيد وعثمان ابن طلحة وبلال فأطال، ثمَّ خرج، كنت أول الناس دخل على أَثَره، فسألت بلالاً: أين صلّى؟ قال: بين العمودين المقدّمين" (¬3). وبما رواه أيضاً أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل الكعبة وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحَجَبِيُّ، فأغلقها عليه ومكث فيها. فسألتُ بلالا حين خرج: ما صنَع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: ¬

_ (¬1) قال شيخنا -حفظه الله- أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم بسند صحيح؛ كما بيّنته في "صحيح أبي داود" (677). (¬2) أخرجه ابن القاسم في "المدونة" (1/ 106)، والبيهقي (3/ 104) من طريق أبي إِسحاق عن معدي كرب. (¬3) أخرجه البخاري: 504، ومسلم: 1329

النهي عن التزام مكان خاص من المسجد:

جعل عموداً عن يساره وعموداً عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه. وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثمَّ صلّى. وقال لنا إِسماعيل: حدَّثني مالك وقال: عمودين عن يمينه" (¬1). وهذا بعيد جدّاً، وإِنما يستدلّ به للإِمام والمنفرد، لذلك بوّب له البخاري -رحمه الله- بقوله: (باب الصلاة بين السواري في غير جماعة). النهي عن التزام مكان خاص من المسجد: عن عبد الرحمن بن شبل قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نَقْرة الغراب (¬2) وافتراش السبُع (¬3) وأن يوطن الرجل المكان في المسجد، كما يُوطِن البعير (¬4) " (¬5). وسألت شيخنا -شفاه الله- هل ترون هذا للتحريم، فقال: نعم. قال ابن المنذر في "الأوسط" (5/ 130): من سبق إلى مكان من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 505، ومسلم: 1329 (¬2) نَقْرة الغراب: يريد تخفيف السجود، وأنه لا يمكُث فيه إلاَّ قَدْر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكْله، "النهاية". (¬3) افتراش السبُع: هو أن يبسُط ذراعيه في السجود ولا يرفعهما عن الأرض؛ كما يبسُط الكلب والذئب ذراعيه، والافتراش: افتعال؛ من الفرش والفراش. "النهاية". (¬4) يوطن البعير: قيل: معناه أن يألف الرجل مكاناً معلوماً من المسجد مخصوصاً به؛ يصلّي فيه كالبعير لا يأوي إِلى مَبْرَك قد أوطنه واتخذَه مُناخاً. "النهاية" بحذف. (¬5) أخرجه أحمد وابن خزيمة وأبو داود والنسائي وغيرهم، وحسنه شيخنا لغيره في "الصحيحة" (1168).

المواضع المنهي عن الصلاة فيها:

المسجد فهو أحق به ما دام ثابتاً فيه، فإِذا زال عنه زال حقه، إِذ ليس أحد أحق به من أحد، قال الله عزّ وجلّ: {وأن المساجد لله} (¬1) الآية. وقال: {إِنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر} (¬2). المواضع المنهي عن الصلاة فيها: 1 - الصلاة في المقبرة: عن أبي سعيد عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الأرض كلّها مسجد إلاَّ الحمّام والمقبرة" (¬3). وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى اتَّخذوا قبور أنبيائهم مسجداً، قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنّي أخشى (¬4) أن يُتَّخذ مسجداً" (¬5). وعنها أيضاً أنَّ أمّ سلمة ذَكَرت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كنيسة رأتها بأرض الحبشة يُقال لها: مارية، فذكَرت له ما رأت فيها من الصّور، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أولئك قومٌ إِذا مات فيهم العبد الصالح -أو الرجل الصالح- بنوا على قبره ¬

_ (¬1) الجنّ: 18 (¬2) التوبة: 18 (¬3) أخرجه أبو داود والترمذي والدارمي وغيرهم وقال شيخنا: وهذا إِسناد صحيح على شرط الشيخين، وانظر "الإِرواء" تحت الحديث (287). (¬4) قال الحافظ ابن حجر: "وكأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه مرتحِل من ذلك المرض، فخاف أن يُعظَّم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إِشارة إِلى ذمّ من يفعل فِعلهم". (¬5) أخرجه البخاري: 1330، ومسلم: 531

مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصُّور، أولئك شرار الخلق عند الله" (¬1). قال شيخنا -حفظه الله-: "الذي يمكن أن يُفهَم من هذا الاتخاذ [أي: اتخاذ القبور مساجد]، إِنما هو ثلاث معان: الأول: الصلاة على القبور، بمعنى السجود عليها. الثاني: السجود إِليها واستقبالها بالصلاة والدعاء. الثالث: بناء المساجد عليها، وقصْد الصلاة فيها" (¬2). ولا فرق فيما قلنا بين المقبرة فيها قبر أو أكثر. قال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنّة" (ص 298): قال: [أي: شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-] في "الاختيارات العلمية": "ولا تصحّ الصلاة في المقبرة ولا إِليها، والنهي عن ذلك إِنّما هو سدّ لذريعة الشرك، وذكر طائفة من أصحابنا أن القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة، لأنه لا يتناوله اسم المقبرة، وإنّما المقبرة ثلاثة قبور فصاعداً (¬3)، وليس في كلام أحمد وعامّة أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور، وهو الصواب، والمقبرة كل ما قُبر فيه، لا أنه جمْع قبر، وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة ممّا حول القبور لا يصلى فيه، فهذا يعين أنّ المنع يكون متناولاً لحرمة القبر المنفرد وفنائه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 434، ومسلم: 528 (¬2) انظر للمزيد والتفصيل "تحذير الساجد" (ص 21). (¬3) ويردّ على هذا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصلوا إِلى قبر ولا تصلوا على قبر" أخرجه الطبراني في "الكبير" وغيره، وانظر "الصحيحة" (1016).

2 - الحمام:

المضاف إليه، وذكر الآمدي وغيره أنه لا تجوز الصلاة فيه، أي: المسجد الذي قبلته إِلى القبر حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر، وذكر بعضهم: هذا منصوص أحمد". 2 - الحمّام: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الأرض كلّها مسجد إلاَّ الحمام والمقبرة" (¬1). فائدة: وقد ورد في بعض النصوص النهيُ عن الصلاة في مواطن معيّنة، كالصلاة في المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق وأعطان الإِبل وفوق ظهر بيت الله، وقد بيّن شيخنا ضعف هذا الحديث في "تمام المنّة" (ص 299) -بحذف- وقال رادّاً على الشيخ السيد سابق -حفظهما الله تعالى-. " ... قلت: فذَكَر المواضع المذكورة، ثمَّ نقل عن الترمذي تضعيفه الحديث، وأقرّه على ذلك، وهو الصواب كما هو مُبيّن في "الإرواء" (287)، فعادت الدعوى بدون دليل صحيح، فكان على المؤلّف أن يورد أحاديث أخرى صحيحة تشهد للحديث، ولو في بعض مفرداته: فمنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الأرض كلها مسجد؛ إلاَّ المقبرة والحمام". ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا حضرت الصلاة فلم تجدوا إلاَّ مرابض الغنم وأعطان الإِبل فصلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإِبل" (¬2). ¬

_ (¬1) تقدّم. (¬2) أخرجه أحمد والدارمي وابن ماجه وغيرهم بسند صحيح على شرط الشيخين من حديث أبي هريرة.

ما جاء في الصلاة في البيع (معابد النصارى) ونحوها:

ولا أعلم حديثاً صحيحاً في النهي عن الصلاة في المواطن الأخرى، ولا يجوز القول ببطلانها فيها إلاَّ بنص عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فليعلم". ما جاء في الصلاة في البِيَع (معابد النصارى) ونحوها: جاء في "صحيح البخاري" تحت (باب الصلاة في البِيعة) وقال عمر - رضي الله عنه-: "إِنا لا ندخلُ كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصُّور، وكان ابن عباس يصلّي في البيعة إِلاَّ بيعةً فيها تماثيل" (¬1). والذي قد بدا لي أنَّ الأصل جواز الصلاة في مِثل هذه المعابد إِذا أُمنت الفتنة وخلت من التماثيل وأرى في زماننا هذا المنع للعامّة من باب سدّ الذريعة -والله تعالى أعلم-. ما جاء في الصلاة في مواضع الخسف (¬2) والعذاب: قال البخاري تحت (باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب): ويذكر أنَّ علياً -رضي الله عنه- كره الصلاة بخسف بابل (¬3). ¬

_ (¬1) كذا أورده معلّقاً بصيغة الجزم وقال الحافظ: "وهذا الأثر وصَله عبد الرزاق من طريق أسلم مولى عمر قال: لمّا قدم عمر الشام صنع له رجل من النصارى طعاماً، وكان من عظمائهم وقال: أحبّ أن تجيئني وتُكرمني. فقال له عمر: إِنّا لا ندخُل كنائسكم من أجل الصُّور التي فيها، يعني: التماثيل. (¬2) قال الحافظ: "المراد بالخسف هنا ما ذكر الله تعالى في قوله: {فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرَّ عليهم السَّقْفُ من فوقهم} ". النحل: 26 (¬3) أخرجه البخاري معلّقاً غير مجزوم به، وقال الحافظ: "وهذا الأثر رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله ابن أبي المُحِلّ قال: "كنّا مع عليّ؛ فمرَرْنا على الخسف الذى ببابل؛ فلم يصلِّ حتى أجازه" أي تعدّاه".

الصلاة في الكعبة:

ثمَّ ذكر حديث عبد الله بن عمر (¬1) (برقم: 433) أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين؛ إلاَّ أن تكونوا باكين، فإِن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم؛ لا يصيبكم ما أصابهم" (¬2). الصلاة في الكعبة: عن ابن عمر قال: دخل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البيت وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال فأطال، ثمّ خرج، كنت أوّل الناس دخل على أَثرِه، فسألتُ بلالاً: أين صلّى؟ قال: بين العمودين المقدّمين" (¬3). وفي رواية لابن عمر أيضاً أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل الكعبة وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحَجَبيّ، فأغلقها عليه ومكث فيها. فسألت بلالا حين خرج: ما صنع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: جعل عموداً عن يساره وعموداً عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه. وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثمَّ صلّى، وقال لنا إِسماعيل: حدثني مالك وقال: عمودين عن يمينه" (¬4). وعن نافع أنَّ عبد الله كان إِذا دخل الكعبة مشى قِبلَ وجهه حين يدخل، وجعل الباب قِبل ظهره، فمشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قِبل وجهه قريباً من ثلاثة أذرع صلّى يتوخّى المكان الذي أخبره به بلال أنَّ النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى فيه. قال: وليس على أحدنا بأس إِن صلّى في أي نواحي البيت شاء" (¬5). ¬

_ (¬1) هو في مسلم: 2980 (¬2) أخرجه مسلم: 2980 (¬3) أخرجه البخاري: 504، ومسلم: 1329، وتقدّم. (¬4) أخرجه البخاري: 505، ومسلم: 1329، وتقدّم. (¬5) أخرجه البخاري: 506

السترة

السترة حُكمها: السترة واجبة على الإمام والمنفرد وذلك لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تُصلِّ إلاَّ إِلى سُترة، ولا تَدع أحداً يمرُّ بين يديك، فإِنْ أبى فلتقاتِله؛ فإِنَّ معه القرين (¬1) " (¬2). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا صلّى أحدكم إِلى سترة؛ فليدْنُ منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته" (¬3). ولا يعني قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا صلّى أحدكم إِلى سترة" جواز الصلاة إِلى غير سترة؛ إِذ مفهوم الحديث: أنَّ من صلّى إِلى سترة ولم يدْنُ منها فهو مُعرّضٌ لقطع صلاته من قِبَل الشيطان، فكيف بمن لم يصلِّ إِلى سترة! قال شيخنا في "تمام المِنّة" (ص 300): وإنَّ ممّا يؤكدّ وجوبها أنها سبب شرعي لعدم بطلان الصلاة بمرور المرأة البالغة والحمار والكلب الأسود، كما صحّ ذلك في الحديث، ولمنع المار من المرور بين يديه، وغير ذلك من الأحكام المرتبطة بالسترة، وقد ذهب إِلى القول بوجوبها الشوكاني في "نيل الأوطار" (3/ 2)، و"السيل الجرار" (1/ 176)، وهو الظاهر من ¬

_ (¬1) في الحديث: "ما منكم من أحد إلاَّ وقد وكلّ به قرينه من الجن". أخرجه مسلم: 2814، وغيره. (¬2) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" بسند جيد. وانظر "صفة الصلاة" (ص 82). (¬3) أخرجه أبو داود والبزار والحاكم وصحّحه، ووافقه الذهبي والنووي. وانظر "صفة الصلاة" (ص 82).

السترة في الكعبة والمسجد الحرام:

كلام ابن حزم في "المحلى" (4/ 8 - 15). السُّترة في الكعبة والمسجد الحرام: عن صالح بن كيسان قال: رأيت ابن عمر يصلّي في الكعبة، ولا يدع أحداً يمر بين يديه (¬1). وعن يحيى بن أبي كثير قال: رأيت أنس بن مالك دخل المسجد الحرام، فركز شيئاً، أو هيأ شيئاً يصلّي إليه (¬2). بمَ تتحقّق؟ تتحقق السترة بالأُسطوانة: فعن يزيد بن أبي عبد قال: "كان سلمة بن الأكوع يتحرّى الصلاة عند الأسطوانة التي عِند المصحف (¬3). فقلت له: يا أبا مسلم! أراك تتحرّى الصلاة عند هذه الأُسطوانة، قال: رأيتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحرّى الصلاة عندها" (¬4). والعصا المغروزة، فإِن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان إِذا صلّى [في فضاء ليس فيه شيء يستتر به] غرَز بين يديه حربة فصلّى إِليها والناس وراءه" (¬5). وتتحقق السترة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو زرعة في "تاريخ دمشق" وابن عساكر بسند صحيح وانظر "الضعيفة" تحت الحديث (928). (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" بسند صحيح، وانظر "الضعيفة" تحت الحديث (928). (¬3) وفي رواية لمسلم: "مكان المصحف". (¬4) أخرجه مسلم: 509 (¬5) أخرجه البخاري: 494، ومسلم: 501 وانظر "صفة الصلاة" لأجل الزيادة (ص83).

سترة الإمام سترة من خلفه:

كذلك بالراحلة يعرّضها (¬1) فيصلّي إليها، فإِنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يعرّض راحلته فيصلّي إِليها" (¬2). وبالشجرة " فإِنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى مرّة إِلى شجرة" (¬3). وبالجدار (¬4) وبالسرير (¬5) وما هو مثل مؤخرة الرحل -وهو أقلّ ما يجزئ- لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا وضع أحدكم بين يديه مثلُ مؤخِرة الرحل فليصلِّ ولا يبالِ من مرَّ وراء ذلك" (¬6). سترة الإِمام سترة من خلفه: قال البخاري (باب سترة الإِمام سترة مَن خَلفه) وذكر تحته حديث ابن عباس برقم (493): "أقبلتُ راكباً على حمارٍ أتانٍ (¬7) وأنا يومئذ قد ناهزْتُ الاحتلام ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي بالناس بمنى إِلى غير جدار (¬8)، فمررتُ بين ¬

_ (¬1) يعرِّض: بتشديد الراء: أي: يجعلها عَرضاً. (¬2) أخرجه البخاري: 507 (¬3) أخرجه النسائي وأحمد بسند صحيح. وانظر "صفة الصلاة" (ص 83). (¬4) لحديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- الآتي قريباً -إِن شاء الله- بلفظ: "كان بين مصلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين الجدار ممرّ شاة". (¬5) لحديث عائشة -رضي الله عنها-: " ... والله لقد رأيتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي وإنّي على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة". أخرجه البخاري: 514، ومسلم: 512 (¬6) أخرجه مسلم: 499 (¬7) الحمارة الأنثى. "النهاية". (¬8) لا يستلزم أن يكون إِلى غير سُترة، إِذ كل جدار سُترة، وليس كل سترة جداراً، وتبويب البخاري -رحمه الله- يدلّ عليه بالتأمّل، إِذ كيف يتحدّث عن سترة الإِمام =

دنو المصلي من السترة واقترابه منها:

يدي بعض الصفّ، فنزلتُ وأرسلتُ الأتانَ تَرتَع ودخلتُ في الصفّ، فلم ينكر ذلك عليَّ أحد" (¬1). ثمَّ أورد البخاري (¬2) -رحمه الله- حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلّي إِليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر، فمِن ثَمَّ اتخذها الأمراء". وذكر بعده (¬3) حديث عون بن أبي جحيفة قال: "سمعت أبي أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى بهم بالبطحاء -وبين يديه عَنَزَة (¬4) - الظهر ركعتين والعصر ركعتين تَمُرُّ بين يديه (¬5) المرأة والحمار". دنوّ المصلي من السترة واقترابه منها: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتقدّم: "إِذا صلّى أحدكم إِلى سترةٍ فليدْنُ منها". وعن سهل بن سعد الساعدي قال: "كان بين مصلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين ¬

_ = أنها سترة من خلفه، ويوردُ حديثاً ليس للإِمام فيه سُترة! ونقل الحافظ في "الفتح" (1/ 572) قول النووي في "شرح مسلم" -في كلامه على فوائد هذا الحديث-: فيه أنّ سترة الإمام سترة لمن خلفه. (¬1) أخرجه مسلم: 504 (¬2) وأخرجه مسلم: 501 (¬3) وأخرجه مسلم: 503 (¬4) العَنَزة: مثل نصف الرمح أو أكبر شيئاً. "النهاية". (¬5) أي: بين العَنَزَة والقبلة، لا بينه وبين العَنَزَة، كما ذكر الحافظ في "الفتح".

تحريم المرور بين يدي المصلي ودفع المار ومقاتلته ومنع بهيمة الأنعام ونحوها من ذلك:

الجدار ممرّ الشاة" (¬1). "وكان بينه وبين الجدار الذي قِبَل وجهه قريباً من ثلاثة أذرع" (¬2). تحريم المرور بين يدي المصلِّي ودفْع المارّ ومقاتلته ومنع بهيمة الأنعام ونحوها من ذلك: جاء في "صفة الصلاة" (ص 83، 84): " ... وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يدَع شيئاً يمرّ بينه وبين السترة، فقد "كان يصلّي، إِذ جاءت شاة تسعى بين يديه؛ فساعاها (¬3) حتى ألزق بطنه بالحائط، [ومرَّت من ورائه] " (¬4). و"صلّى صلاة مكتوبة فضمَّ يده، فلما صلّى قالوا: يا رسول الله! أحدَث في الصلاة شيء؟ قال: (لا؛ إلاَّ أنَّ الشيطان أراد أن يمرَّ بين يدي، فخنقتُه حتى وجدْت برد (¬5) لسانه على يدي، وأيم الله لولا ما سبقني إِليه أخي سليمان؛ لارتُبط إِلى سارية من سواري المسجد، حتى يطيف به ولدان أهل المدينة، [فمن استطاع أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد؛ فليفعل] " (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 496، ومسلم: 508 وتقدّم. (¬2) أخرجه البخاري: 506 (¬3) أي: سابقَها. (¬4) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، والطبراني والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. (¬5) أي: ريق. "المحيط". (¬6) أخرجه أحمد والدارقطني والطبراني بسند صحيح، قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: وهذا الحديث قد ورد معناه في "الصحيحين" وغيرهما عن جمْع من الصحابة.

ما يقطع الصلاة:

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِذا صلّى أحدكم إِلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه؛ فليدفع في نحره، [وليدرأ ما استطاع] (وفي رواية: فليمنعه، مرّتين)، فإِنْ أبى فليقاتله، فإِنّما هو شيطان" (¬1). وكان يقول: "لو يعلم المارّ بين يدي المصلّي ماذا عليه؛ لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمرّ بين يديه" (¬2). ما يقطع الصلاة: إِذا لم يتخذ المصلي سترة؛ فإِنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود لحديث أبي ذرّ -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قام أحدكم يصلّي، فإِنَّه يستره إِذا كان بين يديه مثل آخِرةِ الرَّحْل. فإِذا لم يكن بين يديه مِثلُ آخِرةِ الرَّحْل، فإِنَّه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود". قلت: يا أبا ذرّ ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي! سألتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان" (¬3). قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تمام المِنّة" (ص 307): " ... ووجَبَ القول بأن الصلاة يقطعها الأشياء المذكورة عند عدم السترة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 509، ومسلم: 507، والرواية الأخرى لابن خزيمة (1/ 94/1). (¬2) أخرجه البخاري: 510، ومسلم: 507 (¬3) أخرجه مسلم: 510

لا يجزئ الخط في السترة

وهو مذهب إِمام السنّة أحمد بن حنبل -رحمه الله- وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية". لا يجزئ الخطّ في السترة لا يجزئ الخطّ في السُّترة، ولا أعلم فيه حديثاً ثابتاً، وما رُوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال أبو القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا صلّى أحدكم؛ فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإِنْ لم يَجد شيئاً؛ فلينصب عصاً، فإِن لم يكن من عصاً؛ فليخُطّ خطاًّ، ولا يضرّه ما مرّ بين يديه". وممّا قاله شيخنا في "تمام المنّة" (ص 300): "الحديث ضعيف الإِسناد لا يصحّ وإِن صحّحه مَن ذكرهم المؤلف، فقد ضعّفه غيرهم، وهم أكثر عدداً، وأقوى حُجة، ولا سيّما وأحمد قد اختلف في الرواية عنه فيه، فقد نقَل الحافظ في "التهذيب" عنه أنه قال: "الخطّ ضعيف". وذكر في "التلخيص" تصحيح أحمد له نقلاً عن "الاستذكار" لابن عبد البرّ، ثم عقَّب على ذلك بقوله: "وأشار إِلى ضعفه سفيان بن عيينة والشافعي والبغوي وغيرهم". وقال مالك في "المدوّنة": "الخط باطل". ما يُباح فِعله في الصلاة (¬1): 1 - غلبة البكاء والتأوّه والأنين، سواءٌ أكان ذلك من خشية الله أم كان لغير ذلك كالتأوه من المصائب والأوجاع ما دام عن غلبة؛ بحيث لا يمكن دفْعه: ¬

_ (¬1) عن فقه السنّة -بتصرف-.

لقول الله تعالى: {إِذا تتلى عليهم آيات الرَّحمن خَرُّوا سُجداً وبكيّاً} (¬1). والآية تشمل المصلّي وغيره. وعن عبد الله بن الشِّخّير قال: "رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي وفي صدره أزيز كأزيز المرْجل (¬2) من البكاء" (¬3). وعن علي -رضي الله عنه- قال: "ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ابن الأسود؛ ولقد رأيتُنا وما فينا إلاَّ نائم إلاَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحت شجرة، يصلّي ويبكي حتى أصبح" (¬4). وقال عبد الله بن شداد: "سمعت نشيجَ عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ: {إِنّما أشكو بثّي وحُزني إلى الله} (¬5) " (¬6). ¬

_ (¬1) مريم: 58 (¬2) صوت القِدر إِذا غلت. (¬3) أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" وغيرهم وقوّى الحافظ إِسناده في "الفتح" (2/ 206)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (542). (¬4) أخرجه أحمد وابن خزيمة في "صحيحه" تحت (باب الدليل على أن البكاء في الصلاة لا يقطع الصلاة مع إباحة البكاء في الصلاة) وغيرهما وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (543). (¬5) يوسف: 86 (¬6) أخرجه البخاري معلّقاً بصيغة الجزم (كتاب الأذان) (باب وإذا بكى الإمام في الصلاة) وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 206): وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن إسماعيل بن محمد بن سعد سمع عبد الله بن شداد بهذا وزاد "في صلاة الصبح" وأخرجه بن المنذر من طريق عبيد بن عمير عن عمر نحوه.

2 - الالتفات والإشارة المفهمة عند الحاجة.

وعن عائشة أمّ المؤمنين " أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مرضه: مُروا أبا بكر يُصلّي بالناس قالت عائشة: قلت إِنَّ أبا بكر إِذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمُرْ عمر فليصلِّ. فقال: مُروا أبا بكر فليصلِّ للناس. قالت عائشة لِحفصة: قولي له إنَّ أبا بكر إذا قام في مقامك لم يُسمِع الناس من البكاء. فمرْ عمر فليُصلّ للناس. ففعلت حفصة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مه، إِنكنّ لأنتنّ صواحبُ يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ للناس. قالت حفصة لعائشة: ما كنتُ لأُصيب منك خيراً" (¬1). وفي تصميم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على صلاة أبي بكر بالناس على هذا الحال دليل على جواز البكاء في الصلاة إِذا غلَبه ذلك. 2 - الالتفات والإِشارة المُفهمة عند الحاجة (¬2). عن جابر قال: "اشتكى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلّينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناسَ تكبيره، فالتفَت إِلينا فرآنا قياماً، فأشار إِلينا فقعَدنا، فصلّينا بصلاته قعوداً" (¬3). وعن سهل ابن الحَنْظَليَّة، قال: ثُوِّبَ بالصلاة -يعني: صلاة الصبح- فجعَل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي، وهو يلتفت إِلى الشِّعْب (¬4). قال أبو داود: وكان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 716 (¬2) هذا العنوان من كتاب "الوجيز" (ص 101). (¬3) أخرجه مسلم: 413 (¬4) الشِّعْب: الطريق في الجبل.

أرسل فارساً إِلى الشعب من الليل يحرس" (¬1). ولا ينبغي الالتفات في الصلاة لغير حاجة لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: سألْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الالتفات في الصلاة فقال: "هو اختلاسٌ (¬2) يختلسه الشيطان من صلاة العبد" (¬3). وعن الحارث الأشعري -رضي الله عنه- أنَّ النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ... وفيه وإِنَّ الله أمرَكم بالصلاة، فإِذا صليتم فلا تلتفتوا، فإِنّ الله يَنْصبُ (¬4) وجهه لوجه عبده في صلاته، ما لم يلتفت" (¬5). وانظر للمزيد من الأحاديث كتاب "صحيح الترغيب والترهيب" (باب الترهيب من رفْع البصر إِلى السماء في الصلاة). وهذا كلّه في الالتفات بالوجه أمّا الالتفات بجميع البدن والتحوّل به عن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (810) وغيره وانظر "الإِرواء" (371). (¬2) في "النهاية": خَلَست الشيء واختلسته إِذا سلبته، والخُلسة: ما يؤخذ سلباً ومكابرة، وجاء في "الفتح" (2/ 235): "الاختلاس: الاختطاف بسرعة، والمختلس الذي يخطف من غير غلبة ويهرب؛ ولو مع معاينة المالك له، والناهب يأخذ بقوّة، والسارق يأخذ في خفية". (¬3) أخرجه البخاري: 751 (¬4) النَّصْب: هو إِقامة الشيء ورفعه، وانظر "النهاية". (¬5) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح "صحيح سنن الترمذي" (2298)، وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" والحاكم وقال: "صحيح على شرط البخاري ومسلم"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (550).

3 - قتل الحية والعقرب والزنابير ونحو ذلك من كل ما يضر.

القبلة؛ فهو مبطل للصلاة اتفاقاً؛ للإِخلال بواجب الاستقبال. 3 - قتْل الحيّة والعقرب والزنابير ونحو ذلك من كلّ ما يضرّ. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اقتلوا الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب" (¬1). 4 - المشي اليسير لحاجة. عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي والباب عليه مُغلق، فجئت فاستفتَحْتُ، فمشى ففتحَ لي، ثمَّ رجع إِلى مصلاّه" (¬2) وذكر (¬3) أن الباب كان في القبلة. وقال شيخنا في "الصحيحة" (6/ 485): جواز العمل اليسير الهادف في الصلاة وذكر تحته حديث رقم (2716): "كانَ يصلّي قائماً تطوعاً، والباب في القبلة مغلق عليه، فاستفتحتُ الباب، فمشى على يمينه أو شماله، ففتح الباب ثمَّ رجع إِلى مكانه". وعن الأزرق بن قيس قال: "كنّا بالأهواز نقاتل الحروريّة، فبينا أنا على جُرُف نهر إِذا رجل يُصلي، وإذا لجامُ دابَّته بيده، فجعلتِ الدابَّة تُنازِعه، وجعل يتبعها -قال شعبة: هو أبو بَرْزَة الأسلمي- فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهمّ افعل بهذا الشيخ فلمّا انصرف الشيخ قال: إِنّي سمعتُ قولكم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (814)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1147)، وانظر "المشكاة" (1004). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (815) وغيره وانظر "الإِرواء" (386). (¬3) أي: الإِمام أحمد كما في "سنن أبي داود" (922) وفي "الإِرواء" (386) و"صحيح سنن الترمذي" (491) تصريح عائشة -رضي الله عنها- بذلك.

5 - حمل الصبي وتعلقه بالمصلي.

وإِنّي غزوتُ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ستَّ غزوات أو سبع غزوات وثمانيًا، وشهدت تيسيره، وإِنّي إِنْ كنتُ أن أرجع مع دابّتي أحبُّ إِليَّ من أن أدَعَها ترجع إِلى مأْلَفها (¬1) فيشقُّ عليّ" (¬2). 5 - حمْل الصبيّ وتعلّقه بالمصلّي. عن أبي قتادة الأنصاري "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يصلّي وهو حامل أُمامة بنت زينب بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأبي العاص بن ربيعةَ بن عبدِ شمس، فإِذا سجدَ وضعها، وإِذا قام حملَها" (¬3). وعن عبد الله بن شدّاد عن أبيه قال: "خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إِحدى صلاتي العَشِيِّ -الظهر أو العصر (¬4) - وهو حامل حسَناً أو حُسَيناً، فتقدّم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضَعه عند قدمه اليمنى، ثمَّ كبّر للصلاة فصلّى، فسجد بين ظهرانيْ (¬5) صلاتِه سجدة أطالها، قال: فرفعتُ رأسي من بين الناس، فإِذا الصبي على ظهر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ساجد، فرجعتُ إِلى سجودي، فلمّا قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة، قال الناس: يا رسول الله! إِنّك سجدتَ بين ظهرانَي صلاتك هذه سجدة أطلْتهَا؛ حتى ظننَّا أنّه حدَث أمر، أو أنَّه يوحى إِليك! قال: كلُّ ¬

_ (¬1) أي: مَعْلفها. قاله الكرماني. (¬2) أخرجه البخاري: 1211 (¬3) أخرجه البخاري: 516، ومسلم: 543 (¬4) العشي: ما بعد الزوال إِلى المغرب، وقيل: العشيَّ من زوال الشمس إِلى الصباح، وقيل لصلاة المغرب والعشاء العشاءان، ولِما بين المغرب والعَتَمة؛ عشاء. "النهاية". (¬5) أقام بين ظهْرَيهِم وظَهْرانَيْهِم، وأظهُرِهم: بينهم. "الوسيط"، قال في "النهاية": زيدت فيه ألف ونون مفتوحة تأكيداً.

6 - إلقاء السلام على المصلي ومخاطبته وجواز الرد بالإشارة على من سلم عليه.

ذلك لم يكن؛ ولكن ابني ارتحلني (¬1)، فكرهتُ أن أعجله حتى يقضيَ حاجتَه" (¬2). وعن عبد الله بن مسعود قال: "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي؛ فإِذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإِذا منعوهما؛ أشار إِليهم (¬3) أن دعُوْهُما، فلمّا قضى الصلاة وضَعَهما في حِجْره وقال: من أحبّني فليُحبَّ هذين" (¬4). 6 - إِلقاء السلام على المصلّي ومخاطبته وجواز الردّ بالإِشارة على مَن سلّم عليه. فعن جابر أنَّه قال: "إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثَني لحاجة، ثمَّ أدركتُه وهو يسير (قال قتيبة: يصلّي) فسلّمتُ عليه فأشار إِليّ، فلمّا فرَغَ دعاني فقال: إِنّك سلّمت آنفاً وأنا أصلّي، وهو موجِّهٌ حينئذٍ قِبلَ المشرِق" (¬5). وعن صهيب أنَّه قال: "مررت برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلّي، فسلَّمتُ عليه، فرد إِشارةً. قال: ولا أعلمه إِلا قال: إِشارة بأصبعه" (¬6). ¬

_ (¬1) أي: جعلني كالراحلة فركب ظهري. "النهاية". (¬2) أخرجه النسائي وابن عساكر (4/ 257/ 1 - 2) والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وانظر "الصفة" (ص 148). (¬3) وهذا من جملة الأدلّة على جواز الإِشارة المفهمة في الصلاة. (¬4) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" بإِسناد حسن وغيره، وانظر "الصفة" (148). (¬5) أخرجه مسلم: 540 (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (818) والنسائي وغيرهما، وانظر "المشكاة" (991).

7 - التسبيح والتصفيق:

وعن أنس بن مالك: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشير في الصلاة" (¬1). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى قباء يصلّي فيه، فجاءته الأنصار، فسلّموا عليه وهو يصلّي؟ قال: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرد عليهم حين كانوا يسلّمون عليه وهو يصلّي؟ قال: يقول هكذا، وبسط كفّه وبسط جعفر بن عون كفّه، وجعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إِلى فوق" (¬2). قال ابن المنذر في "الأوسط" (3/ 249): "الكلام في الصلاة لا يجوز، وقد سنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ المصلّي يردّ السلام بالإِشارة". وذكر عدداً من الأحاديث والآثار في ذلك. وقد فهمت من شيخنا -حفظه الله تعالى- أنَّ ردّ السلام بالرأس أو باليد بحسب حال المسلِّم، كأنْ يأتي من الخلف ولا يرى حركة اليد؛ فيومئ له بالرأس، أو يأتي من جهة يرى فيها حركة اليد فيرد عليه باليد -والله تعالى أعلم-. 7 - التسبيح والتصفيق: يجوز التسبيح للرجال والتصفيق للنساء إِذا عرَض أمْر من الأمور؛ كتنبيه الإِمام إذا أخطأ وكالإِذن للداخل، أو الإِرشاد للأعمى ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (832)، وابن خزيمة في "صحيحه" (885). (¬2) أخرجه أبو داود بسند جيد، وبقية أصحاب السنن، وانظر "الصحيحة" (185).

8 - الفتح على الإمام:

فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا أيها الناس، إِذا نابكم (¬1) شيء في صلاتكم أخذتم بالتصفيح (¬2)، إنّما التصفيح للنساء، من نابه شيءٌ في صلاته فليقل سبحان الله، فإِنّه لا يسمعه أحدٌ إلاَّ التفت" (¬3). وفي رواية: " ... يا أيها الناس، ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيق؟ إِنّما التصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله، فإِنّه لا يسمعه أحدٌ حين يقول سبحان الله إلاَّ التفت ... " (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" (¬5). 8 - الفتح على الإِمام: إِذا نسي الإِمام آية يفتح عليه المؤتمّ فيذكّره. فعن عبد الله بن عمر: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاةً فقرأ فيها، فلُبِس عليه، ¬

_ (¬1) نابه: أي: أصابه شيء يحتاج فيه إِلى إِعلام الغير. ونابكم شيء: أي: أصابكم. "عون". وفي "اللسان": ما ينوب الإِنسان أي: ما ينزل به من المهمّات والحوادث. (¬2) التصفيح: التصفيح والتصفيق واحد، وهو من ضرب صفحة الكفّ على صفحة الكفّ الآخر يعني إِذا سها الإمام نبّه المأموم، إِن كان رجلاً قال: سبحان الله، وإن كانت امرأةً ضربت كفّها عوضاً عن الكلام. "النهاية". (¬3) أخرجه البخاري: 2690، ومسلم: 421 (¬4) أخرجه البخاري: 1234، ومسلم: 421 (¬5) أخرجه البخاري: 1204، ومسلم: 422

أعمال أخرى مباحة في الصلاة:

فلمّا انصرف قال لأبيَّ: أصلّيت معنا؟ قال: نعم قال: فما منعَك (¬1)؟ " (¬2). وعن المسوَّر بن يزيد المالكي: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الصلاة، فترك شيئاً لم يقرأهُ، فقال له رجل: يا رسول الله، تركْتَ آية كذا وكذا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هلاَّ أذكرتَنِيها" (¬3). أعمال أخرى مباحة في الصلاة: ومن الأعمال المباحة في الصلاة: 1 - رجوع الإِمام القهقرى في صلاته، أو تقدُّمه بأمرٍ ينزل به (¬4). فعن أنس بن مالك " أنَّ المسلمين بينا هم في الفجر يوم الاثنين، وأبو بكر -رضي الله عنه- يُصلّي بهم، ففجَأَهم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد كشف سِتر حجرة عائشة -رضي الله عنها- فنظر إِليهم وهم صفوف، فتبسَّم يضحك، فنكص أبو بكر -رضي الله عنه- على عقِبيه، وظنّ أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريد أن يخرج إِلى الصلاة، وهمّ المسلمون أن يفتَتِنوا في صلاتهم فَرَحاً بالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين رأوه فأشار بيده أن أتمّوا، ثمَّ دخل الحُجرة وأرخى السِّتر، وتوفِّي ذلك اليوم" (¬5). 2 - مسْح الحصى مرة واحدة عند الحاجة لحديث معيقيب "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الرجل يسوِّي التراب حيث يسجد قال: إِنْ كنتَ فاعلاً ¬

_ (¬1) أي: أن تفتح عليّ. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (803)، والطبراني في "الكبير". (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (803). (¬4) مقتبس من تبويب البخاري -رحمه الله-. (¬5) أخرجه البخاري: 1205

فواحدة" (¬1). 3 - بسط الثوب في الصلاة لسجود لحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كنّا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شدّة الحرّ، فإِذا لم يستطع أحدنا أن يُمكّن وجهه في الأرض، بسط ثوبه فسجد عليه" (¬2). 4 - متابعة السارق: قال قتادة: "إِنْ أُخِذ ثوبه يتبع السارق ويدَع الصلاة" (¬3). 5 - غمزْ رِجل النائم ونحوه. فعن عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: "كنتُ أنام بين يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجلاي في قِبلته، فإذا سجد غمَزني (¬4)، فقبضتُ رجليّ، فإِذا قام بسطتُهما، قالت: والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح" (¬5). 6 - مقاتلة من أراد المرور بين يدي المصلّي وتقدَّم. 7 - شُغل القلب بغير أعمال الصلاة، ممّا لا يملك دفْعه: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا نُودي بالصلاة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1207، ومسلم: 546 (¬2) أخرجه البخاري: 1208 (¬3) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ووصله عبد الرزاق في مصنّفه بسند صحيح عنه، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 286). (¬4) الغمز: الكبس باليد. (¬5) أخرجه البخاري: 513، ومسلم: 512

تنبيه

أدبر الشيطان وله ضراط، فإِذا قُضي أقبل، فإِذا ثُوِّبَ بها أدبر، فإِذا قُضي أقبل حتى يخطُِرَ (¬1) بين الإِنسان وقلبه فيقول: اذكر كذا وكذا، حتى لا يدري أثلاثاً صلّى أم أربعاً، فإِذا لم يدرِ ثلاثاً صلّى أو أربعاً؛ سجد سجدتي السهو" (¬2). وعن عمر -رضي الله عنه- قال: "إِنّي لأجهّز جيشي وأنا في الصلاة" (¬3). تنبيه: ينبغي للمصلّي أن يُقبل بقلبه على ربه ويصرف عنه الشواغل بالتفكير في معنى الآيات والأذكار والأدعية واستحضار الموت، ويحمل جواز العمل في الصلاة على الحاجة والضرورة، وما لا يمكن دفْعه. فعن عمّار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنَّ الرجل لينصرف وما كُتبَ له إلاَّ عُشرُ صلاته، تُسعُها، ثُمنها، سُبعها، سُدسها، خُمسها، رُبعها، ثُلثها، نصفها" (¬4). وعن أبي اليَسَر -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "منكم من يصلّي الصلاة كاملة، ومنكم من يصلّي النصف، والثلث، والربع، والخمس، حتى بلغ العُشر" (¬5). ¬

_ (¬1) هو بضم الطاء وكسرها، وبالكسر معناها: يوسوس، وأما بالضمّ: من السلوك والمرور أي: يدنو منه فيمر بينه وبين قلبه فيشغله عمّا هو فيه. "النووي" (4/ 92). (¬2) أخرجه البخاري: 3285، ومسلم: 389 (¬3) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم ووصله ابن أبي شيبة بإِسناد صحيح عنه وانظر "مختصر البخاري" (1/ 288). (¬4) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (535)، وابن حبان في "صحيحه" بنحوه. (¬5) أخرجه النسائي بإِسناد حسن، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (536).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصلاة ثلاثةُ أثلاث، الطُّهور ثلث، والركوع ثُلث، والسجود ثُلث، فمن أدّاها بحقِّها قُبلت منه، وقُبل منه سائر عمله، ومن رُدّت عليه صلاته، رُدَّ عليه سائر عمله" (¬1). وعن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ صلّى ركعتين، لا يسهو فيهما غُفر له ما تقدّم من ذنبه" (¬2). وعن عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه- أنَّه أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إِنَّ الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يَلْبِسُها عليّ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذاك شيطان يُقال له خِنْزَب فإِذا أحْسَسْتهُ فتعوّذ بالله منه، واتفُِل على يسارك ثلاثاً قال: ففعَلْت ذلك فأذهبه الله عنّي" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإِذا قال العبد: الحمد لله ربّ العالمين، قال الله تعالى: حَمِدَني عبدى، وإِذا قال: ¬

_ (¬1) أخرجه البزار، وحسّنه المنذري في "الترغيب والترهيب"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (537). (¬2) أخرجه أبو داود في "سننه" والحاكم في "مستدركه" وغيرهما وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وشيخنا، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (221). (¬3) أخرجه مسلم: 2203

الرحمن الرحيم قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين قال: مجَّدني عبدي (وقال مرّة: فوَّضَ إِليَّ عبدي) فإِذا قال: إِيَّاك نعبد وإيّاك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإِذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضَّالين قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 395، وتقدّم.

ما ينهى عن فعله في الصلاة

ما يُنهى عن فِعله في الصلاة 1 - العبث بالثوب أو البدن إلاَّ لحاجة. فعن مُعَيقيب "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الرجل يسوّي التراب حيث يسجد قال: إِنْ كنتَ فاعلاً فَوَاحِدَةً" (¬1). 2 - التخصّر في الصلاة: فعن أبي هريرة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أنَّه نهى أن يصلّي الرجل مختصراً" (¬2). 3 - رفع البصر إِلى السماء: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لينتهينّ أقوامٌ عن رفعهم أبصارَهم عند الدعاء في الصلاة إِلى السماء؛ أو لتخطَفَنّ أبصارُهم" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1207، ومسلم: 546، وتقدّم في أعمال أخرى مباحة في الصلاة. سألت شيخنا -شفاه الله- عن العبث بالثوب أو الحصى فقلت: يقول بعض العلماء بكراهة ذلك، أو ليس النهي هنا يفيد التحريم؟ فأجاب إِن الكراهة قد تقوى إِذا كثُرت الحركات حكى تبلغ إِلى إِبطال الصلاة وهو يشير -شفاه الله تعالى- إِلى ما قاله بعض العلماء فيما لو رآه من كان في خارج الصلاة ظنّ أنه لا يصلّي لكثرة حركاته، فهنا يُحكم ببُطلان صلاته. (¬2) أخرجه البخاري: 1220، ومسلم: 545، والنهي يفيد التحريم إلاَّ لقرينة، فدلّ على التحريم، وبتحريم الاختصار يقول شيخنا -حفظه الله تعالى-. (¬3) أخرجه مسلم: 429

4 - الالتفات لغير حاجة:

وقوله لتُخطَفَنّ أبصارُهم يدل على التحريم، وبه يقول شيخنا -حفظه الله تعالى-. 4 - الالتفات لغير حاجة (¬1): عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الالتفات في الصلاة، فقال: "هو اختلاسٌ (¬2) يختلسه الشيطان من صلاة العبد" (¬3). 5 - النظر إِلى ما يلهي ويشغل: عن عائشة "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى في خميصةٍ (¬4) لها أعلام فنظر إِلى أعلامها نظرةً، فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إِلى أبي جهم واْئتوني بأنبِجانية (¬5) أبي جهم، فإِنّها ألهتني آنفاً عن صلاتي" (¬6). 6 - تغميض العينين: ويفعله بعض المصلّين استجلاباً للخشوع، وليس هذا بصواب، وسألت شيخنا -حفظه الله- عمّن يُغمض عينيه في الصلاة فقال: "هو مكروه؛ ¬

_ (¬1) استفدته من " الوجيز". (¬2) اختلاس: أي: اختطاف بسرعة. "فتح" (2/ 335). (¬3) أخرجه البخاري: 751، وتقدّم. (¬4) الخميصة: ثوب يُنسج من صوف مُعْلم ونحوه، وقيل: لا تسمّى خميصة إلاَّ أن تكون سوداء مُعلمة، وكانت من لباس الناس قديماً. "النهاية" بتصرف يسير. (¬5) الأنْبِجانية: كساء غليظ لا علم له، يُقال: كبش أنبجاني: إِذا كان مُلْتفًّا، كثير الصوف وكساء أنبِجاني كذلك. "فتح". (¬6) أخرجه البخاري: 373، ومسلم: 556

7 - السدل وتغطية الفم:

خلاف السنّة". 7 - السدل (¬1) وتغطية الفم: عن أبي هريرة "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى السّدل في الصلاة، وأن يغطّي الرجل فاه" (¬2). 8 - الكلام في الصلاة: عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "نُهينا عن الكلام في الصلاة، إلاَّ بالقرآن، والذكر" (¬3). 9 - الصلاة بحضرة الطعام ومدافعة الأخبثين ونحو ذلك: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "سمعْت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لا ¬

_ (¬1) قال الخطابي: السدل إِرسال الثوب حتى يصيب الأرض. وقال في "النيل": قال أبو عبيد في "غريبه": السدل إِسبال الرجل ثوبه من غير أن يضمّ جانبيه بين يديه، فإِنْ ضمّه فليس بسدل. قال صاحب "النهاية": هو أن يلتحف بثوبه ويُدخِل يديه من داخل، فيركع ويسجد وهو كذلك، قال: وهذا مطّرد في القميص وغيره من الثياب. قال: وقيل: هو أن يضع وسط الإِزار على رأسه، ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه. وقال الجوهرى: سَدَل ثوبه يسدله بالضم سدلاً أي: أرخاه، ولا مانع من حمل الحديث على جميع هذه المعاني إِنْ كان السدل مشتركاً بينها، وحمْل المشترك على جميع معانيه هو المذهب القويّ. عن "عون المعبود" (2/ 244) وذكره الشيخ عبد العظيم -حفظه الله تعالى- في "الوجيز". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (597) بإِسناد حسن، وانظر "المشكاة" (764). (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير"، وانظر "الصحيحة" (2380).

10 - الصلاة عند النعاس:

صلاة بحضرة الطعام، ولا هو يدافعه الأخبثان (¬1) " (¬2). وهذا الحديث قد أفاد التحريم وبه يقول شيخنا -حفظه الله تعالى- وسألته هل ترون أنّ هذا الحديث قد أفاد التحريم، فأجاب: "نعم" وقال: "وهذا إِنْ كان تائقاً للطعام، وإِلا قدّم الصلاة على الطعام": وقال: ... وابن حزم يرى البُطلان. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا وُضع عَشاء أحدكم وأقيمت الصلاة؛ فابدَؤا بالعَشاء ولا يعجل حتى يفرغ منه، وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرُغ وإنّه ليسمع قراءة الإِمام" (¬3). 10 - الصلاة عند النعاس: عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا نَعَس أحدكم في الصلاة، فليرقد حتى يذهب عنه النوم. فإِنّ أحدكم إِذا صلّى وهو ناعسٌ، لعلّه يذهب يستغفر فيسُبُّ نفسه" (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا قام أحدكم ¬

_ (¬1) الأخبثان: هما الغائط والبول. "النهاية". (¬2) أخرجه مسلم: 560 (¬3) أخرجه البخاري: 673، والمرفوع عنه في مسلم: 559، وتقدّم. (¬4) أخرجه البخاري: 212، ومسلم: 786

11 - البصاق

من الليل فاستعجم القرآنُ على لسانه (¬1) فلم يدْرِ ما يقول فليضطجع" (¬2). 11 - البُصاق جهة القبلة، أو عن يمينه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ أحدكم إِذا قام يصلّي؛ فإِن الله -تبارك وتعالى- قِبَل وجهه، فلا يبصقنّ قِبَل وجهه، ولا عن يمينه" (¬3). 12 - التثاؤب لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا تثاوب أحدكم في الصلاة، فليكظم ما استطاع؛ فإِنَّ الشيطان يدخل" (¬4). 13 - كفْت (¬5) الشعر والثوب، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُمِرتُ أن أسجد على سبعة أعظُم: على الجبهة -وأشار بيده على أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين، ولا نكفتَ الثياب والشَّعَر" (¬6). 14 - الاعتماد على اليد في الصلاة وتشبيك اليدين: عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده" (¬7). ¬

_ (¬1) استعجم القرآن على لسانه: " لم يُفصِح به، وأُرتِج عليه فلم يقدر أن يقرأ، كأنّه صار به عُجمة". "النهاية". (¬2) أخرجه مسلم: 787، وتقدّم. (¬3) أخرجه مسلم: 3008 (¬4) أخرجه مسلم: 2995 (¬5) الكفْت: الجمع والضّم. (¬6) أخرجه البخاري: 812، ومسلم: 490 (¬7) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (875) والحاكم وغيرهما، وانظر =

وعن إِسماعيل بن أمية قال: "سألت نافعاً عن الرجل يصلّي وهو مشبك يديه، قال: قال ابن عمر: تلك صلاة المغضوب عليهم" (¬1). وعن ابن عمر " أنّه رأى رجلاً يتّكي على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة -وقال هارون بن زيد-: ساقطاً على شقه الأيسر، فقال له: لا تجلس هكذا؛ فإِن هكذا يجلس الذين يعذبون" (¬2). ¬

_ = "الإِرواء" (380). (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (876) وغيره، وانظر "الإِرواء" (380). (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (877) والبيهقي، وانظر "الإِرواء" (380).

مبطلات الصلاة

مبطلات الصلاة 1 - الأكل والشرب عمداً: قال ابن المنذر في "الأوسط" (3/ 248): "أجمع أهل العلم على أنَّ المصلّي ممنوع من الأكل والشرب، وأجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم أنَّ على من أَكل أو شرب في الصلاة عامداً الإِعادة". 2 - الكلام عمداً في غير مصلحة الصلاة (¬1): قال ابن المنذر في "الأوسط" (3/ 234): "أجمع أهل العلِم على أنَّ من تكلّم في صلاته عامداً لكلامه، وهو لا يريد إِصلاح شيء من أمرها أنّ صلاته فاسدة". عن زيد بن الأرقم قال: "كنّا نتكلّم في الصلاة يُكلِّم الرجل صاحبه وهو إِلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: {وقوموا لله قانتين (¬2)} (¬3) فأُمِرْنا بالسكوت ونُهِينا عن الكلام" (¬4). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كنّا نُسلِّم على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "فقه السنة". (¬2) قانتين: أى مطيعين: هو تفسير ابن مسعود أخرجه ابن أبي حاتم بإِسناد صحيح. "فتح" (8/ 198). وقال ابن كثير في "تفسيره": أي: "خاشعين: ذليلين مستكينين بين يديه، وهذا الأمر مستلزِمٌ ترْك الكلام في الصلاة؛ لمنافاته إِياها". (¬3) البقرة: 238 (¬4) أخرجه البخاري: 1200، ومسلم: 539 وهذا لفظه.

وهو في الصلاة فيردُّ علينا، فلمّا رجعْنا من عند النجاشيِّ سلّمْنا عليه فلم يردّ علينا وقال: إِنّ في الصلاة شُغُلاً" (¬1). أمّا من تكلّم ناسياً أو جاهلاً بالحُكم فصلاته صحيحة، كما في حديث معاوية بن الحكم السُّلميّ قال: "بَيْنا أنا أُصلّي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم (¬2) فقلت: واثكْلَ أُمِّياهْ (¬3)! ما شأنكم (¬4) تنظرون إليَّ؛ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمّا رأيتهم يُصَمِّتُونني (¬5) لكنِّي سكتُّ. فلما صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبأبي هو وأمِّي! ما رأيتُ معلّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه. فوالله! ما كَهَرني (¬6) ولا ضربني ولا شتمني. فال: إِنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إِنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" (¬7). جاء في "المرقاة" (3/ 62): "قال القاضي: أضاف الكلام إِلى الناس ليخرج منه الدعاء والتسبيح والذكر، فإِنّه لا يراد بها خطاب الناس وإِفهامهم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1199، ومسلم: 538 (¬2) أي: نظروا إِليّ نظْر زجْر؛ كيلا أتكلمّ في الصلاة. قاله الطيبي كما في "المرقاة" (3/ 61). (¬3) بكسر الميم والثُّكْل بضمٍّ وسكون وبفتحهما: فقدان المرأة ولدها، والمعنى: وافقدها لي فإِني هلكْت. "المرقاة". (¬4) أي: ما حالكم وأمركم؟ (¬5) أي: يسكّتونني. (¬6) أي: ما قهرَني وزجَرني وما استقبَلني بوجه عبوس. "مرقاة" بتصرف. (¬7) أخرجه مسلم: 537

3 - الاشتغال الكثير بما ليس من الصلاة:

قال النووي: وفيه أنّ من حلف أن لا يتكلّم فسبّح أو كبّر أو قرأ القرآن لا يحنث، وفي "شرح السنّة"، لا يجوز تشميت العاطس في الصلاة، فمن فعل بطلت صلاته، وفيه أنّ كلام الجاهل بالحكم لا يبطلها إِذ لم يأمره [رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] بإِعادة الصلاة، وعليه أكثر العلماء من التابعين، وبه قال الشافعي، وزاد الأوزاعي وقال: إِذا تكلم عامداً بشيء من مصلحة الصلاة مِثل: إِنْ قام الإِمام في محل القعود فقال: اقعد، أو جهَر في موضع السرّ فأخبَره لم تبطل صلاته (¬1) اهـ. وقال ابن حجر: أجمعوا على بطلانها بالكلام العمد لغير مصلحة الصلاة، واعترض الإِجماع بأنّ ابن الزبير قال: من قال وقد مطروا في الصلاة: يا هذا خفف فقد مُطِرنا لا تبطل صلاته". 3 - الاشتغال الكثير بما ليس من الصلاة: قال الشوكاني في "الدرر البهية" (1/ 284): "وذلك مُقيَّد بأن يخرج به المصلّي عن هيئة الصلاة؛ كمن يشتغل مثَلاً بخياطة أو نجارة، أو مشْيٍ كثيرٍ، أو التفاتٍ طويل، أو نحو ذلك، وسبب بطلانها بذلك أنّ الهيئة المطلوبة من المصلّي قد صارت بذلك الفعل متغيرة عمّا كانت عليه، حتى صار الناظر لصاحبها لا يعدّه مصلياً". وقال محمد صدّيق البخاري في "الروضة الندية" (1/ 285) -بحذف-: "اختلف أنظار أهل العلم في تعريف الفعل الكثير المفسد للصلاة والمبطل لها والذي أراه طريقاً إِلى معرفة الفعل الكثير، أن ينظر المتكلّم في ذلك إِلى ¬

_ (¬1) قلت: "وهذا إِذا لم يعقل الإِمام مراده من التسبيح فيتكلّم".

ما صدر منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأفعال (¬1)، مثل حمْله لأُمامة بنت أبي العاص، ونحو ذلك مما وقع منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا لإِصلاح الصلاة، فيحكم بأنّه غير كثير، وكذلك ما وقع لقصد إصلاح الصلاة مثل خلْعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للنعل، وإِذنه بمقاتلة الحيّة وما أشبه ذلك (¬2). ولكنه إِذا صدر من المصلي من الأفعال التي لمجرّد العبث ما يخرج به عن هيئة من يؤدي هذه العبادة؛ مِثل أن يشتغل بعملٍ من الأعمال التي لا مدخل لها في الصلاة ولا في إِصلاحها نحو: حمل الأثقال والخياطة، والنسج ونحو ذلك فهذا غير مُصلٍّ". ثمَّ ذكر ما جاء في "الحجة البالغة" (2/ 13 - 14): "إِنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فعل أشياءَ في الصلاة بيانا للمشروعية، وقرر على أشياءَ، فذلك وما دونه لا يُبطِل الصلاة. والحاصل من الاستقراء؛ أنّ القول اليسير مِثل: ألعنك بلعنه الله، ويرحمك الله وياثكل أمّاه، وما شأنكم تنظرون إِليَّ [بغير عمد]، والبطش اليسير مثل: وضع صبية من العاتق ورفعها، وغمز الرجل، ومثل فتح الباب (¬3) والمشي اليسير كالنزول من درج المنبر إِلى مكان ليتأتى منه السجود في أصل المنبر، والتأخر من موضع الإِمام إِلى الصف، والتقدّم إِلى الباب المقابل ليفتح، والبكاء خوفاً من الله تعالى، والإِشارة المُفهِمة، وقتل الحية والعقرب، ¬

_ (¬1) انظر ما يباح فِعله في الصلاة. (¬2) لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اقتلوا الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب". وتقدّم. (¬3) إِن كان في جهة القبلة.

4 - ترك شرط أو ركن عمدا بلا عذر:

واللحظ يميناً وشمالاً من غير ليِّ العنق لا يفسد، وإنْ تعلّق القذر بجسده أو ثوبه إِذا لم يكن بفعله، أو كان لا يعلمه لا يفسد" (¬1). 4 - ترْك شرط أو رُكن عمداً بلا عُذر: وذلك لما تقدّم في قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسيء صلاته: "ارجع فصلِّ فإِنّك لم تُصلِّ". وقد أمَر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رأى لمعة في ظهر قدمه لم يُصبها الماء؛ أن يعيد الوضوء والصلاة (¬2). جاء في "الروضة النديّة" (1/ 288): "وإذا ترك الركن فما فوقه سهواً فعَله، وإن كان قد خرج عن الصلاة، كما وقع منه -صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم- في حديث ذي اليدين (¬3)، فإِنّه سلم عن ركعتين ثمَّ أخبر بذلك، فكبّر وفعل الركعتين المتروكتين، وأمّا ترْك ما لم يكن شرطاً ولا ركناً من الواجبات فلا تبطل به الصلاة؛ لأنّه لا يؤثر عدمه في عدمها، بل حقيقة الواجب ما يمدح فاعله ويذمّ تاركه، وكونه يذمّ لا يستلزم أنّ صلاته باطلة". 5 - الضحك في الصلاة: نقل ابن المنذر الإِجماع على بُطلان الصلاة بالضحك (¬4). ¬

_ (¬1) وفي كل هذا أو ما يشبهه أحاديثُ ثابتة. (¬2) تقدم في الترهيب من النقص في غَسل الرجلين. (¬3) تقدّم. (¬4) الإِجماع: 40

قضاء الصلاة

قضاء الصّلاة إِنَّ الكلام في هذا الموضوع يطول، فأختصر منه ما يناسب المقام، فأقول وبالله أستعين: أوّلاً: عن أنس -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من نسي صلاة فليصلِّها إِذا ذكَرها، لا كفّارة لها إلاَّ ذلك {وأقمِ الصلاة لذِكري} (¬1) " (¬2) وفي رواية: "من نسي صلاة أو نام عنها، فكفارتها أن يُصليها إِذا ذَكرها" (¬3). وفي رواية: "إِنّه لا تفريط في النوم، إِنّما التفريط في اليقظة ... " (¬4). وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس في النوم تفريط (¬5)، إِنما التفريط في اليقظة أن تؤخَّر صلاة حتى يدخل وقت أخرى" (¬6). وقال إِبراهيم النخعي: من ترك صلاةً واحدةً عشرين سنة، لم يُعِد إلاَّ تلك الصلاة الواحدة (¬7). ¬

_ (¬1) طه: 14 (¬2) أخرجه البخاري: 597، ومسلم: 684، وتقدّم. (¬3) أخرجه مسلم: 684 (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (422). (¬5) أي تقصير. (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (425) وغيره، وتقدّم. (¬7) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، وقال شيخنا: "وصلَه الثوري في "جامعه" عن منصور وغيره كما في "الفتح" فهو صحيح الإِسناد".

بعد هذه النصوص المتقدمة أقول: 1 - ينبغي أن نعقل ما يترتّب على قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّه ليس في النّوم تفريط"، ويُعيننا على ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ (وفي رواية: وعن المجنون، وفي لفظ المعتوه حتى يعقل أو يُفيق)، وعن الصبي حتى يكبر (وفي رواية: حتى يحتلم) " (¬1). فنفي التفريط عن النوم وإِثباته في اليقظة له شأن عظيم، ولا ينبغي التسوية بين النائم والمستيقظ، ولا نجعل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس في النّوم تفريط" كقول الغافل: "ليس في اليقظة تفريط"! ولا سيما أنَّ ذلك جاء مُؤكَّداً في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّما التفريط في اليقظة". فهذا يفيد التعيين. جاء في "مختار الصحاح": "وإِن زِدْتَ على إِنّ (ما) صارت للتعيين، كقوله تعالى: {إِنّما الصّدقات للفقراء} الآية، لأنّه يوجب إِثبات الحُكم للمذكور ونفيه عمّا عَداه". وفسّر عليه الصلاة والسلام معنى التفريط في اليقظة فقال: " ... إِنّما التفريط في اليقظة؛ أن تؤخّر صلاةً حتى يدخُل وقْت أُخرى". والمراد من مقدّمات التفريط وعدمه؛ بيان من يجوز له أن يصلّي بعد الوقت المُقرَّر، فمن أخّر صلاة حتى يدخل وقت أخرى فقط فرّط، فضلاً عمّن أخّرها حتى تدخل صلوات كثيرة. 2 - بيان جواز قضاء الفائتة لصنفٍ مُعيَّن ومحدّد وذلك في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... من نسي صلاة أو نام عنها". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (297).

فبعد المقدّمات التي أشَرْت إليها؛ بيَّن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يسوغ له أن يصلّي الفائتة بقوله: "من نسي صلاةً أو نام عنها". فالعُذر: نسيان أو نوم، فإِذا سويّنا بين المتعمّد، أو النّاسي والنائم والمعذور وغير المعذور، فما قيمة الحديث؟ 3 - ولا شكّ أن (مَن) شَرْطيَّة، فِعْلها (نسي) و (نام) معطوفة على (نَسي)، وجواب الشرط (ليُصلّها إِذا ذكَرها). واللام هنا لام الأمر، وهي ممّا يُؤكّد ما نحن فيه مِن قول. فهذه الصلاة فقط لمن نام أو نسي، ولكن هل هذه الرخصة مطلقة؟ كلاّ لأنها جاءت مشروطةً موقوتة. فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فليصلّها إِذا ذكَرها" يدّل على تقييد ذلك حين التذكر لا يتجاوزه، ولم يقُلِ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فليصلها متى شاء". وهذا للمعذور فكيف بغير المعذور! ثمَّ يأتي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا كفّارة لها إلاَّ ذلك". فهذه اللام نافية للجنس، أي: تنفي جنس الكفّارات، والمعنى: لا كفّارة إلاَّ أن يُصلّيها حين يذكرها، وماذا إِذا أجَّلها مرَّة أُخرى وأخَّرها، أنقول إِنَّ له كفارة؟! وهل يليق بنا أن نُثبت ما نفاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ والخلاصة المتقدمة من هذه النّصوص: من أضاع صلاةً حتى خرَج وقتها وهو مستيقظ لغير عُذر نصّ عليه الشرع فهو مفرّط؛ ومن نام عن صلاة أو نسيها فليس بمفرِّط أو مقصِّر، فله أن يصلّي ما فات، إِذ هو معذورٌ بذلك، ولكن عليه أن يصلّي ما فاته حين يذكر الصلاة،

ولا كفّارة لما وقَع فيه من ترْك الصلاة سوى ذلك: أي: الصلاة حين يذكرها. ولا بدّ من مراعاة معرفة المفرّط من غير المفرّط، لأنّه بها يتحدّد من يجوز له الصلاة بعد فوات وقتها (¬1) ممّن لا يجوز له ذلك. ثانياً: وممّا يحسُن بنا أن نعلم أنّ أمر الكفَّارات توقيفيّ، فهناك أمور كفّارتها إِقامة الحدّ مِن جَلْد أو رجم أو إِطعام ... وأمور كفّارتها الصيام، وأمور لا كفّارة لها سوى التوبة والإِنابة، فاليمين الغموس لا كفّارة لها مِن صيام ونحوه، ككفّارة مَن حلف وهو غير قادر على الإطعام، ولا يُقال للقاتل عمداً: لك أن تكفِّر كمن قتل خطأً ... ، بل إِنّه قد خطئ الحقّ من قال: إِنَّ مَن قتَل عمداً لهو أولى بصيام شهرين متتابعين ممّن قتَل خطأً. فهذا أبلغ في الزجر والتعنيف، وبيان ما لهذه الأمور من حُرمة، وكذلك ليس مَن ترك الصلاة عمداً حتى يخرج وقتها؛ كمن نام عنها أو نَسيها. ولو أنَّ رجلاً حلف فقال: والله لأطعمنّ زيداً قبل العصر، فإِنّه لا يجزئه أن يُطعم زيداً نفسه بعد العشاء، ولكن عليه أن يطعم عشرة أشخاص. ولو أنَّ رجلاً جامع في نهار رمضان عامداً؛ فإِنّه لا يجزئه أن يصوم يوماً بعد رمضان، بل يجب عليه صيام شهرين متتابعين. فليس لنا أن نقول لمن ضيّع صلاة وفرّط فيها: عليك أن تصلّي صلاةً واحدةً تكفِّر ما فَعَلْت! ثالثاً: وفي الحديث: "أوّل ما يُحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإِنْ ¬

_ (¬1) بل هو وقتها بالنسبة للمعذور، فالوقت وقتان: وقت اختيار ووقت عُذر، وسيأتي قريباً كلام ابن القيّم -رحمه الله- في ذلك.

كان أكملها كُتبت له كاملة، وإِن لم يكن أكمَلها، قال للملائكة: انظروا هل تجِدون لعبدي مِن تطوُّع؛ فأكمَلوا بها ما ضَيّع مِن فريضة، ثمَّ الزكاة، ثمَّ تُؤخذ الأعمال على حسب ذلك" (¬1). ولم يقُل: " .. انظروا هل تجدون لعبدي من قضاء" فلنا من هذا الحديث أنْ نأمر من فاتته صلوات بغير ما سبق من أعذار، أن يكثر من التطوّع والتنفّل، وهو غير قضاء الفريضة، وخير الهدي هدي محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رابعاً: قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الصحيحة" -بحذف يسير- تحت الحديث (66) بلفظ: "إِذا أدرك أحدكم أوّل سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فليتمّ صلاته، وإذا أدرك أوّل سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس؛ فليتمّ صلاته". "ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فليتمّ صلاته"؛ أي: لأنّه أدركها في وقتها وصلاّها صحيحة، وبذلك برئت ذمّته، وأنّه إِذا لم يدرك الركعة؛ فلا يتمّها؛ لأنها ليست صحيحة بسبب خروج وقتها؛ فليست مبرئة للذمّة. ولا يخفى أنّ مثله -وأولى منه- من لم يدرك من صلاته شيئاً قبل خروج الوقت؛ فإِنّه لا صلاة له، ولا هي مبرئة لذمّته؛ أي: أنّه إِذا كان الذي لم يدرك الركعة لا يؤمر بإِتمام الصلاة؛ فالذي لم يدركها إِطلاقاً أولى أن لا يؤمر بها، وليس ذلك إلاَّ من باب الزجر والردع له عن إِضاعة الصلاة، فلم يجعل الشارع الحكيم لمثله كفّارة كي لا يعود إِلى إِضاعتها مرّة أخرى؛ متعلّلاً بأنّه يمكنه ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه وأحمد بسند صحيح، وانظر "تخريج الإِيمان" لابن أبي شيبة رقم (112).

أنْ يقضيها بعد وقتها، كلاّ فلا قضاء للمتعمّد؛ كما أفاد هذا الحديث الشريف وحديث أنس: "لا كفّارة لها إلاَّ ذلك". ومن ذلك يتبيّن لكلّ من أوتي شيئاً من العلم والفقه في الدين؛ أنّ قول بعض المتأخّرين: "وإِذا كان النائم والناسي للصلاة -وهما معذوران- يقضيانها بعد خروج وقتها؛ كان المتعمد لتركها أولى"؛ أنه قياس خاطئ؛ بل لعله من أفسد قياس على وجه الأرض؛ لأنَّه من باب قياس النقيض على نقيضه، وهو فاسد بداهة، إِذ كيف يصحّ قياس غير المعذور على المعذور والمتعمد على الساهي؟! ومن لم يجعل الله له كفّارة على من جعل الله له كفّارة؟! وما سبب ذلك إلاَّ من الغفلة عن المعنى المراد من هذا الحديث الشريف، وقد وفّقنا الله تعالى لبيانه، والحمد لله تعالى على توفيقه. وللعلامة ابن القيّم -رحمه الله تعالى- بحث هام مفصّل في هذه المسألة، أظنّ أنَّه لم يُسبَق إِلى مثله في الإِفادة والتحقيق، وأرى من تمام هذا البحث أن أنقل منه فصلين: أحدهما في إِبطال هذا القياس، والآخر في الردّ على من استدل بهذا الحديث على نقيض ما بيَّنَّا، قال -رحمه الله- بعد أن ذكر القول المتقدّم-: "فجوابه من وجوه: أحدها: المعارضة بما هو أصحّ منه أو مِثله، وهو أن يقال: لا يلزم من صحة القضاء بعد الوقت من المعذور -المطيع لله ورسوله الذي لم يكن منه تفريط في فِعل ما أمر به وقبوله منه- صحته وقبوله من متعدٍّ لحدود الله، مضيِّع لأمره، تارك لحقّه عمداً وعدواناً؛ فقياس هذا في صحّة العبادة وقَبولها منه وبراءة الذمة بها من أفسد القياس.

الوجه الثاني: أن المعذور بنوم أو نسيان لم يصل الصلاة في غير وقتها، بل في نفس وقتهَا الذي وقّته الله له؛ فإِنّ الوقت في حقّ هذا حين يستيقظ ويذكر؛ فالوقت وقتان: وقت اختيار، ووقت عذر، فوقت المعذور بنوم أو سهو هو وقت ذِكْره واستيقاظه؛ فهذا لم يصلّ الصلاة إلاَّ في وقتها، فكيف يقاس عليه من صلاّها في غير وقتها عمداً وعدواناً؟! الثالث: أن الشريعة قد فرَّقت في مواردها ومصادرها بين العامد والناسي، وبين المعذور وغيره، وهذا ممّا لا خفاء به؛ فإِلحاق أحد النوعين بالآخر غير جائز. الرابع: أنّا لم نُسقِطها عن العامد المفرط ونأمر بها المعذور حتى يكون ما ذكرتم حجَّة علينا، بل ألزمْنا بها المفرِّط المتعدّي على وجه لا سبيل له إِلى استدراكها تغليظاً عليه، وجوزنا للمعذور غير المفرط. وأمّا استدلالكم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدرك"؛ فما أصحّه من حديث! وما أراه على مقتضى قولكم! فإِنكم تقولون: هو مُدرِكٌ للعصر، ولو لم يدرك من وقتها شيئاً البتة؛ بمعنى: أنّه مُدرِك لفعلها صحيحة منه مبرئة لذمته، فلو كانت تصح بعد خروج وقتها وُتقبل منه؛ لم يتعلّق إِدراكها بركعة، ومعلوم أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُرِد أن من أدرك ركعة من العصر صحت صلاته بلا إِثم، بل هو آثم بتعمّد ذلك اتفاقاً؛ فإِنّه أُمِر أنّ يوقع جميعها في وقتها، فعُلم أن هذا الإِدراك لا يرفع الإِثم، بل هو مُدرِك آثم، فلو كانت تصح بعد الغروب؛ لم يكن فرق بين أن يدرك ركعة من الوقت؛ أو لا يدرك منها شيئاً". انتهى.

هذا وقد استدل القائلون بالقضاء بحديث الخثعمية إِذ قال لها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدَين الله أحقّ أن يُقضى وهو من حديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "كان الفضل رديف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إِليها وتنظر إِليه، وجعل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصرف وجه الفضل إِلى الشقِّ الآخر فقالت: يا رسول الله إِن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة؛ أفأحُجُّ عنه، قال: نعم، وذلك في حَجَّة الوداع" (¬1). وفي رواية: "فإِنّ الله أحق بالوفاء" (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضاً أنَّ امرأة أتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إِنَّ أمّي ماتت وعليها صوم شهرٍ. فقال: "أرأيتِ لو كان عليها دين، أكنتِ تقضينه؟ " قالت: نعم. قال: "فدين الله أحقّ بالقضاء" (¬3). وردّ على ذلك بعض أهل العلم بقولهم: إِنّ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فدين الله أحقّ أن يقضى"، فهذا إِنّما قاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حقِّ المعذور لا المفرّط، وقد قاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النذر المطلق الذي ليس له وقت محدود الطَّرَفين [وتقدّم في حديث المرأة التي جاءت إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: ... إِنَّ أمّي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ ... قال: فدين الله أحقّ أن يُقضى] ومثله الحجّ، ونحن نقول في مثل هذا الدين القابل للأداء: دين الله أحقّ أن يُقضى، فالقضاء المذكور ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1513، ومسلم: 1334 (¬2) انظر "الإِرواء" (790). (¬3) أخرجه البخاري: 1953، ومسلم: 1148، وغيرهما.

في هذه الأحاديث ليس بقضاء عبادة مؤقتة محدودة الطرفين وبالله التوفيق. قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (2/ 319) مسألة (279): "وأمّا من تعمّد ترْك الصلاة حتى خرَج وقتها، فهذا لا يقدر على قضائها أبداً، فليكثر مِن فِعل الخير وصلاة التطوع؛ ليثقل ميزانه يوم القيامة وليستغفر الله عزّ وجلّ". وردّ على من يقول بالقضاء ردّاً قوياً فارجع إِليه -إِن شئت-. وكذلك لابن القيّم كلام بديع جدير بالاهتمام في "مدارج السالكين"، ولشيخنا -شفاه الله- تعليق طيّب على الحديث (1257) من " الضعيفة"، والله تعالى أعلم. إِذا صلاّها في غير وقتها لعُذر، فهل يُسمى قضاءً أو أداءً؟ قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (22/ 37) -بحذف يسير-: فإِن قيل: هذا يسمّى قضاء أو أداء؟ قيل: الفرق بين اللفظين هو فرق اصطلاحي؛ لا أصل له في كلام الله ورسوله؛ فإِن الله تعالى سمّى فِعل العبادة في وقتها قضاءً، كما قال في الجمعة: {فإِذا قُضِيت الصلاةُ فانتشِروا في الأرض}، وقال تعالى: {فإِذا قضيتم مناسِكَكم فاذكروا الله}، مع أنّ هذين يُفعلان في الوقت. و"القضاء" في لغة العرب: هو إِكمال الشيء وإتمامه، كما قال تعالى: {فقضاهنّ سبعَ سموات}، أي: أكملهنّ وأتمّهن. فمَن فعَل العبادة كاملة فقد قضاها، وإنْ فعلها في وقتها. وقد اتفق العلماء -فيما أعلم- على أنّه لو اعتقد بقاء وقت الصلاة فنواه أداء. ثمّ تبيّن أنّه صلّى بعد خروج الوقت صحت صلاته، ولو اعتقد خروجه

فنواها قضاء ثمَّ تبين له بقاء الوقت أجزأته صلاته. وكل من فعل العبادة في الوقت الذي أُمِر به أجزأته صلاته، سواءٌ نواها أداءً أو قضاءً، والنائم والناسي إِذا صلّيا وقت الذكر والانتباه فقد صلّيا في الوقت الذي أُمِرا بالصلاة فيه، وإِنْ كانا قد صليا بعد خروج الوقت المشروع لغيرهما. فمن سمّى ذلك قضاءً باعتبار هذا المعنى، وكان في لغته أنّ القضاء فِعل العبادة بعد خروج الوقت المقدر شرعاً للعموم، فهذه التسمية لا تضرّ ولا تنفع.

صلاة المريض

صلاة المريض من لم يستطع الصلاة قائماً مِن مرض صلّى قاعداً، ومن لم يستطع الصلاة قاعداً صلّى على جنب: قال الله تعالى: {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} (¬1). قال ابن كثير في "تفسيره " -بتصرّف يسير-: " ... ثمَّ وصف تعالى أولي الألباب فقال: {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} كما في حديث عمران بن حصين: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلِّ قائماً، فإِن لم تستطع فقاعداً، فإِن لم تستطع فعلى جنب" (¬2) "أي: لا يقطعون ذِكْره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم". وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: عاد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً من أصحابه مريضاً وأنا معه، فدخل عليه وهو يصلّي على عود، فوضع جبهته على العود فأومأ إِليه، فطرح العود، وأخذ وسادة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعها عنك إِن استطعت أن تسجد على الأرض، وإِلا فأوْمِ إِيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك" (¬3). ¬

_ (¬1) آل عمران: 191 (¬2) أخرجه البخاري: 1117، وغيره من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: كانت بي بواسير، فسألت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة فقال: ... فذكره، وتقدّم في القيام في الفرض. (¬3) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" وغيره وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات وانظر التفصيل في "الصحيحة" (323).

والمُعتبَر في عدم الاستطاعة هو المشقّة أو الخوف من زيادة المرض أو تأخير الشفاء، وسألت شيخنا عن المريض يصلّي مع مشقّة، فأجاب - حفظه الله تعالى-: "من المشقة ما يُطاق، ومنه ما هو فوق الطاقة، فإِن كان ممّا يُطاق؛ صلى صلاة السليم، وما لا؛ يصلّي صلاة المريض". انتهى. جاء في "الروضة الندية" (1/ 291): "وإذا تعذّر على المصلّي صفة من صفات صلاة العليل الواردة، أتى بالصلاة على صفة أخرى ممّا ورد، ثمَّ يفعل ما قدر عليه ودخل تحت استطاعته {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬1)، و"إِذا أمِرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2). وسألت شيخنا -حفظه الله تعالى- فقلت: هناك من يفضّل التربع لمن يصلّي جالساً، فهل ترون هذا التفضيل أم يجلس المريض حسبما يتيسّر (¬3)؟ فقال شيخنا -حفظه الله تعالى-: أولاً: نختار هيئة من الهيئات الواردة في السنة؛ مثلاً الصلاة افتراشية، فإِن كان يسهل عليه التورّك تورّك، أو كانت الصلاة توركيّه لكنّه يستطيع الافتراش؛ فيُؤثِر الافتراش، فإِن كان لا يستطيع هذا ولا ذاك؛ حينئذٍ يأتي بالتربّع، فإِن كان لا يستطيع التربّع، قلنا له: اجلس على راحتك. ثمَّ سألته قائلاً: وهل يُحمل حديث عائشة -رضي الله عنها-: "رأيت ¬

_ (¬1) التغابن: 16 (¬2) أخرجه مسلم: 1337 (¬3) سألته في مثل هذا فقال في موطن آخر: "لو قلت حسبما تقتضيه الحاجة لكان أفضل".

جواز اتخاذ المريض أو المسن شيئا يعتمد عليه حين يصلي

النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي متربّعاً" (¬1) على هذا؟ فأجاب -حفظه الله تعالى-: "نعم". ومن أهل العلم من يقول: إذا تعذّر الإِيماء من المستلقي لم يجب عليه شيء بعد ذلك، وهذا لا يتفق مع قوله سبحانه: {لا يكلف الله نفساً إِلا وسعها} (¬2)، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتقدّم عند مسلم: (1337): "إِذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". وسألت شيخنا عن مثل هذا فقلت: هناك من يقول: إِذا عجزَ الإِيماء برأسه، سقطت عنه الصلاة، ولا يلزمه الإِيماء بطرفه، فهل تخالفون هذا من باب: {فاتقوا الله ما استطعتم}؟ فقال -حفظه الله تعالى-: "نعم". جواز اتخاذ المريض أو المسنّ شيئاً يعتمد عليه حين يصلّي عن أم قيس بنت محصن "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أسنّ وأخذَه اللحم؛ اتخذَ عموداً في مصلاه يعتمد عليه" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1567)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1238) وغيرهما. (¬2) البقرة: 286 (¬3) أخرجه أبو داود والبيهقي والحاكم وقال شيخنا: صحيح على شرط مسلم، وانظر "الإِرواء" (383).

صلاة الخوف

صلاة الخوف ْقال الله تعالى: {وإِذا كنتَ فيهم فأقمتَ لهم الصلاة فلتقُم طائفةٌ منهم معك وليأخُذوا أسلحتَهم فإِذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يُصلّوا فليصلّوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتَهم ... } (¬1). قال الحافظ في "الفتح" (2/ 431) -بحذف-: " ... عن أحمد قال: ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة، أيها فعل المرء جاز، ومال إِلى ترجيح حديث سهل بن أبي حثمة الآتي في "المغازي" (¬2)، وكذا رجّحه الشافعي، ولم يختر إِساحق شيئاً على شيء، وبه قال الطبري وغير واحد منهم ابن المنذر وسرد ثمانية أوجه، وكذا ابن حبان في "صحيحه" وزاد تاسعاً. وقال ابن حزم: صحّ فيها أربعة عشر وجها، وبيّنها في جزء مُفرد. قال صاحب الهدى: أصولها ست صفات، وبلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك من فعل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإِنما هو من اختلاف الرواة. ¬

_ (¬1) النساء: 102 (¬2) عن سهل بن أبي حثمة قال: "يقوم الإِمام مستقبل القبلة، وطائفة منهم معه وطائفة من قِبل العدوَ، وجوههم إِلى العدوّ فيصلّي بالذين معه ركعة، ثمَّ يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة، ويسجدون سجدتين في مكانهم، ثمَّ يذهب هؤلاء إِلى مقام أولئك فيجيء أولئك فيركع بهم ركعة فله ثنتان، ثمَّ يركعون ويسجدون سجدتين". أخرجه البخاري: 4131، ومسلم: 841 وفيه التصريح بالرّفع.

وقال الخطابي: صلاّها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أيام مختلفة بأشكال متباينة يتحرى فيها ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ للحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. انتهى. وقال في "الدراري": "وكلّها مجزئة؛ لأنّها ورَدت على أنحاء كثيرة، وكل نحوٍ رُوي عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهو جائز، يفعل الإِنسان ما هو أخفّ عليه وأوفق بالمصلحة حالتئذٍ، كذا في "الحجّة". وقال في "الروضة الندية" -بحذف- أقول: من زعم من أهل العلم أنَّ المشروع من صلاة الخوف ليس إلاَّ صفة من الصفات الثابتة دون ما عداها، فقد أهدر شريعة ثابتة وأبطل سنّة قائمة بلا حجة نيّرة، وغالب ما يدعو إلى ذلك ويوقع فيه، قصور الباع، وعدم الاعتناء بكتب السنّة المطهرة، فالحقّ الحقيق بالقبول جواز جميع ما ثبت من الصفات. فإِنْ قلت: ما الحكمة في وقوع هذه الصلاة على أنواع مختلفة؟ قلت: أمران: الأول: اقتضاء الحادثة لذلك والمقتضيات مختلفة، ففي بعض المواطن تكون بعض الصفات أنسب من بعض؛ لما يكون فيها من أخْذ الحذر، والعمل بالحزم ما يناسب الخوف العارض، فقد يكون الخوف في بعض المواطن شديداً، والعدو متصلاً أو قريباً، وفي بعض المواطن قد يكون الخوف خفيفاً والعدو بعيداً، فتكون هذه الصفة أولى بهذا الموطن، وهذه أولى بهذا الموطن. الأمر الثاني: أنّه -صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم- فعَلَها متنوّعة إِلى تلك الأنواع؛ لقصد التشريع وإِرادة البيان للناس.

وأمّا صلاة المغرب فقد وقع الإِجماع على أنّه لا يدخلها القصر، ووقع الخلاف، هل الأولى أن يصلّي الإِمام بالطائفة الأولى ركعتين والثانية ركعة أو العكس؟ ولم يثبت في ذلك شيء عن النّبيّ -صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم- والظاهر أنَّ الكل جائز، وإنْ صلّى لكل طائفة ثلاث ركعات، فيكون له ستّ ركعات، وللقوم ثلاث ركعات، فهو صواب قياساً على فِعله في غيرها، وقد تقرر صحّة إِمامة المتنفّل بالمفترض كما سبق"، [والله تعالى أعلم]. جاء في "الروضة الندية" (1/ 368): وقد صحّ منها أنواع: 1 - فمنها أنّه صلّى بكل طائفة ركعتين، فكان للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع وللقوم ركعتان وهذه الصفة ثابتة في الصحيحين من حديث جابر. [قلت: وحديث جابر المشار إِليه في الصحيحين عنه بلفظ: "كنّا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذات الرِّقاع، فإِذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجاء رجل من المشركين وسَيف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معلّق بالشجرة، فاخترطه (¬1) فقال له: تخافني؟ فقال له: لا، قال: فمن يمنعك منّي؟ قال: الله، فتهدّده أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأُقيمت الصلاة فصلّى بطائفة ركعتين، ثمَّ تأخّروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع وللقوم ركعتان" (¬2)]. 2 - ومنها أنّه صلّى بكل طائفة ركعة، فكان له ركعتان وللقوم ركعة، وهذه الصفة أخرجها النسائي بإِسنادٍ رجاله ثقات: [قلت: ولفظ الحديث "عن ثعلبة بن زَهْدَم، قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان، ومعنا حُذيفة ¬

_ (¬1) قال النووي: أي: سلّه. (¬2) أخرجه البخاري: 4136، ومسلم: 843

بن اليمان، فقال: أيكم صلّى مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فوصف فقال: صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، صلاة الخوف بطائفة ركعة، صفٍّ خلفه، وطائفة أخرى بينه وبين العدو، فصلّى بالطائفة التي تليه ركعة، ثمَّ نكص هؤلاء إِلى مصافّ أولئك، وجاء أولئك فصلّى بهم ركعة" (¬1)]. وعن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة" (¬2). 3 - ومنها: "أنّه صلى بهم جميعاً، فكبّر وكبّروا، وركع وركعوا، ورفع ورفعوا، ثمَّ سجد وسجد معه الصف الذي يليه، وقام الصف المؤخَّر في نحر العدو، فلمّا قضى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثمَّ تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدّم وفَعلوا كالركعة الأولى، ولكنه قد صار الصف المؤخر مقدّماً والمقدم مؤخراً، ثمَّ سلم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلّموا جميعاً، وهذه الصفة ثابتة في "صحيح مسلم" وغيره؛ من حديث جابر ومن حديث أبي عياش الزرقي عند أحمد وأبي داود والنسائي. [قلت: ولفظه في "مسلم" (840): "من حديث جابر بن عبد الله قال: شهدتُ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف، فصفَّنا صفّين: صفٌّ خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والعدو بيننا وبين القبلة، فكبّر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكبّرنا جميعاً، ثمَّ ركع ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1438) وغيره، وانظر "الإِرواء" (3/ 44). (¬2) أخرجه مسلم: 687، وغيره.

وركعنا جميعاً، ثمَّ رفع رأسه من الركوع ورفعْنا جميعاً، تمَّ انحدر بالسجود والصفّ الذي يليه، وقام الصفّ المؤخر في نحر العدو، فلمّا قضى النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصفّ الذي يليه، انحدر الصف المؤخّر بالسجود وقاموا، ثمَّ تقدّم الصف المؤخّر، وتأخّر الصفّ المُقدّم، ثمَّ ركع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعنا جميعاً، ثمَّ رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثمَّ انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى، وقام الصفّ المؤخر في نحور العدو، فلمّا قضى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود والصفّ الذي يليه؛ انحدر الصفّ المؤخّر بالسجود، فسجدوا، ثمَّ سلّم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلّمنا جميعاً؛ قال جابر: كما يصنع حرسُكم هؤلاء بأمرائهم"]. 4 - ومنها: أنّه -صلّى الله عليه وآله وسلّم- صلّى بإِحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثمَّ انصرفوا (¬1) وقاموا في مقام أصحابهم مُقبلين على العدو، وجاء أولئك (¬2)، ثمَّ صلّى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعة ثمَّ سلّم (¬3)، ثمَّ قضى هؤلاء ركعة [وهؤلاء ركعة] (¬4) وهذه الصفة ثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر. [قلت: ولفظه عنه قال: "غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبل نجد، فوازينا ¬

_ (¬1) أي: الطائفة المصلية. (¬2) الذين كانوا مقبلين على العدوّ. (¬3) فيكون قد صلّى -عليه الصلاة والسلام- ركعتين. (¬4) أضيف من الأصل وهي "الدراري المضية" قاله الشيخ محمد صبحي حسن حلاّق في التعليق على "الروضة".

العدوّ فصاففنا لهم، فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلّي لنا، فقامت طائفة معه تصلّي، وأقبلت طائفة على العدوّ، وركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمن معه وسجد سجدتين، ثمَّ انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصلِّ، فجاؤوا فركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهم ركعة، وسجد سجدتين ثمَّ سلّم، فقام كلُّ واحدٍ منهم؛ فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين" (¬1)]. 5 - ومنها: أنها قامت مع النّبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - طائفة، وطائفة أخرى مقابل العدو، وظهورهم إِلى القبلة، فكبّر فكبروا جميعاً الذين معه، والذين مقابل العدو، ثمَّ ركع ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه، ثمَّ سجد فسجدت التي تليه والآخرون قيام مقابل العدو، ثمَّ قام وقامت الطائفة التي معه، فذهبوا إِلى العدو فقابلوهم، وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو، فركعوا وسجدوا، ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -[قائم] كما هو، ثمَّ قاموا فركع [رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ركعة أخرى، وركعوا معه وسجد وسجدوا معه، ثمَّ أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو، فركعوا وسجدوا ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قاعد ومن معه، ثم كان السلام فسلم وسلموا جميعاً، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ركعتان، وللقوم لكل طائفة ركعتان، وهذه الصفة أخرجها أحمد والنسائي وأبو داود". [قلت: ولفظه كما في "صحيح سنن أبي داود" (1105): من حديث مروان بن الحكم: أنه سأل أبا هريرة: هل صلّيت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 942، ومسلم: 839

الخوف؟ قال أبو هريرة: نعم، قال مروان: متى؟ فقال أبو هريرة: عام غزوة نجد، قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِلى صلاة العصر، فقامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابل العدو، ظهورهم إِلى القبلة، فكبّر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكبّروا جميعاً الذين معه والذين مقابلي العدو، ثمَّ ركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعة واحدة، وركعت الطائفة التي معه، ثمَّ سجد فسجدَت الطائفة التي تليه، والآخرون قيام مقابلي العدو، ثمَّ قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقامت الطائفة التي معه، فذهبوا إِلى العدو فقابلوهم، وأقبلَت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم كما هو، ثمَّ قاموا فركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعة أخرى وركعوا معه، وسجد سجدوا معه، ثمَّ أقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو، فركعوا وسجدوا، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعد ومن معه، ثمَّ كان السلام، فسلّم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلّموا جميعاً، فكان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولكلّ رجل من الطائفتين ركعة ركعة"]. 6 - ومنها: أنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى بطائفة ركعة وطائفة وُِجاه العدو، ثمَّ ثبت قائماً فأتمّوا لأنفسهم ثمَّ انصرفوا وُِجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، فأتمّوا لأنفسهم فسلّم بهم، وهذه الصفة ثابتة في "الصحيحين"؛ من حديث سهل بن أبي حثمة، وإنّما اختلفت صلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخوف، لأنّه كان في موطن يتحرّى ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة. [قلت: ولفظه في "البخاري" (4129) و"مسلم" (842): "عن صالح ابن خَوَّاتٍ عمن شهد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم ذات الرّقاع صلاة الخوف، أنّ طائفة صفّت معه، وطائفة وُجَاه العدوّ، فصلّى بالتي معه ركعة ثمَّ ثبت قائماً

الصلاة في شدة الخوف وما يباح فيها من كلام وإيماء

وأتمّوا لأنفسهم، ثمَّ انصرفوا فصفُّوا وُِجاه العدوّ وجاءت الطائفة الأخرى، فصلّى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثمَّ ثبت جالساً وأتمّوا لأنفسهم، ثمَّ سلّم بهم". وانظر مقدّمة صلاة الخوف. وفي رواية البخاري (4131) ومسلم (841): عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حَثْمَة قال: "يقوم الإِمام مستقبل القبلة وطائفة منهم معه، وطائفة من قِبَلِ العدوّ وجوهُهم إِلى العدوّ، فيُصلّي بالذين معه ركعه ثمَّ يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة، ويسجدون سجدتين في مكانهم، ثمَّ يذهب هؤلاء إِلى مقام أولئك، فيجيء أولئك فيركع بهم ركعة فله ثنتان، ثمَّ يركعون ويسجدون سجدتين". الصلاة في شدة الخوف وما يباح فيها من كلام وإِيماء وإذا اشتدّ الخوف والتحم القتال صلاها الرَّاجلُ والرّاكب، ولو إِلى غير القبلة ولو بالإِيماء، ويقال لصلاة الخوف عند التحام القتال: صلاة المسايف (¬1). وتقدّم حديث البخاري (¬2) عن ابن عمر في تفسير سورة البقرة بلفظ: "فإِن كان خوف هو أشَدّ من ذلك صلَّوا رجالاً قياماً على أقدامهم، أو رُكبانا مستقبلي القبلة أو غيرَ مستقبليها"، قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذَكَر ذلك إلاَّ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ¬

_ (¬1) أي: المُضارب بالسيوف. (¬2) برقم: 4535

وهو في "مسلم" (¬1) من قول ابن عمر بنحو ذلك. وقد رواه ابن ماجه (¬2) عن ابن عمر، أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصف الخوف وقال [أي: النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]: "فإِن كان خوف أشد من ذلك فرجالاً أو رُكباناً". ¬

_ (¬1) برقم: 839 (¬2) انظر "صحيح سنن ابن ماجه" (1040).

صلاة السفر

صلاة السفر وجوب القصر في السفر: قال الله تعالى: {وإِذا ضرَبْتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصُروا من الصلاة إنْ خفتُم أن يفتنَكم الذين كفروا} (¬1). ولولا ورود ما يأتي من النصوص لقال العلماء بتقييد القصر بالخوف. فعن ابن سيرين عن ابن عبّاس: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سافر من المدينة لا يخاف إلاَّ الله عزّ وجلّ، فصلّى ركعتين حتى رجع" (¬2). وعن يعلى بن أميّة قال: "قلت لعمر بن الخطاب: {ليس عليكم جناح أن تقصُروا من الصلاة إِنْ خفتم أن يفتنَكم الذين كفروا} فقد أمِنَ النّاس! فقال: عجبتُ ممّا عجبتَ منه. فسألتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: "صدقةٌ تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" (¬3). وعن عائشة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: "فرض الله الصلاة، حين فرضها ركعتين ثمَّ أتمّها في الحضر، فأُقرّت صلاة السفر على الفريضة الأولى" (¬4). ¬

_ (¬1) النساء: 101 (¬2) أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وانظر "الإِرواء" (3/ 6). (¬3) أخرجه مسلم: 686، وهذا قد أفاد الوجوب عند أبي حنيفة وكثيرين، ويرى الشافعي ومالك أفضلية القصر وجواز الإِتمام وانظر "شرح النووي" (5/ 694). (¬4) أخرجه البخاري: 3935، ومسلم: 685

وعنها -رضي الله عنها- قالت: "أولُ ما فُرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلمّا قدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة صلى إِلى كلِّ صلاةٍ مثلها غير المغرب؛ فإِنّها وتر النهار، وصلاة الصبح لطول قراءتها، وكان إِذا سافر عادَ إِلى صلاته الأولى" (¬1). وعن عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه قال: "صحبْتُ ابن عمر في طريق مكّة، قال: فصلّى لنا الظهر ركعتين، ثمَّ أقبل وأقبَلنا معه حتّى جاء رحله (¬2)، وجلَس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحوَ حيث صلّى فرأى ناساً قياماً. فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يُسبّحون (¬3) قال: لو كنت مُسبّحاً لأتممتُ صلاتي، يا ابن أخي! إِنّي صحبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبتُ أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثمَّ صحبتُ عثمان (¬4) فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وقد قال الله: {لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسَنة} (¬5) " (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في "معاني الآثار" وغيره وانظر تفصيله في "الصحيحة": (2814). (¬2) أي: منزله. (¬3) أي: يصلّون السبحة، وهي النافلة. (¬4) قال الحافظ: و"في ذِكر عثمان إِشكال؛ لأنّه كان في آخر أمرهُ يتمّ الصلاة ... فيُحمل على الغالب أو المراد به أنّه كان لا يتنفل في أول أمره ولا في آخره، وأنَّه إِنّما كان يتم إِذا كان نازلاً، وأمَّا إِذا كان سائراً فيقصر، فلذلك قيده في هذه الرواية بالسفر". (¬5) الأحزاب: 21 (¬6) أخرجه البخاري: 1101 و1102، ومسلم: 689 وهذا لفظه.

مسافة القصر

قال شيخنا -حفظه الله- بعد أن ذكَر عدداً من الأحاديث في الموضوع: " ... دلّت الأحاديث المتقدّمة على أنَّ صلاة السفر أصلٌ بنفسها وأنّها ليست مقصورة من الرباعية كما يقول بعضهم، فهي في ذلك كصلاة العيدين ونحوها؛ كما قال عمر -رضي الله عنه-: "صلاة السفر وصلاة الفطر وصلاة الأضحى؛ وصلاة الجمعة؛ ركعتان تمامٌ غير قصر على لسان نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬1) وذلك هو الذي رجّحه الحافظ في "فتح الباري" بعد أن حكى الاختلاف في حكم القصر في السفر، ودليل كلٍّ فقال (1/ 464): "والذي يظهر لي -وبه تجتمع الأدلّة السابقة- أنَّ الصلوات فُرضت ليلة الإِسراء ركعتين ركعتين إلاَّ المغرب، ثمَّ زيدت بعد الهجرة عقب الهجرة إلاَّ الصبح، ... ثمَّ بعد أن استقر فرْض الرباعية؛ خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة وهي قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصُروا من الصلاة}، ويؤيد ذلك ما ذكره ابن الأثير في "شرح المسند": أنّ قصر الصلاة كان في السَّنَة الرابعة من الهجرة ... ". مسافة القصر لقد كثُرت أقوال العلماء في تحديد المسافة التي تقصر فيها الصلاة والراجح "أنّه لا حدّ لذلك أصلاً، إلاَّ ما سُمّي سفراً في لغة العرب التي بها خاطبهم عليه السلام، إِذ لو كان لمقدار السفر حدّ غير ما ذكَرنا لما أغفل عليه السلام بيانه البته، ولا أغفلوا هم سؤاله عليه السلام عنه، ولا اتفقوا على ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، وهو مخرّج في "الإِرواء" (638).

تَرْك نقْل تحديده في ذلك إِلينا" (¬1). قال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" (24/ 12): "وقد تنازع العلماء: هل يختص بسفر دون سفر؟ أم يجوز في كلّ سفر؟ وأظهر القولين أنّه يجوز في كل سفر قصيراً كان أو طويلاً، كما قصر أهل مكة خلف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة ومنى، وبين مكة وعرفة نحو بريد: أربع فراسخ. وأيضاً فليس الكتاب والسنّة يخصّان بسفر دون سفر، لا بقصر ولا بفطر، ولا تيمُّم، ولم يحدّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسافة القصر بحدّ، لا زمانيّ، ولا مكانيّ، والأقوال المذكورة في ذلك متعارضة، ليس على شيء منها حجّة، وهي متناقضة، ولا يمكن أن يَحُدّ ذلك بحد صحيح. فإِنَّ الأرض لا تُذرَع بذَرع مضبوط في عامّة الأسفار، وحركة المسافر تختلف، والواجب أن يُطلَق ما أطلقه صاحب الشرع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويُقَيّد ما قيَّده، فيقصُر المسافر الصلاة في كل سفر، وكذلك جميع الأحكام المتعلقة بالسفر، من القصر والصلاة على الراحلة، والمسح على الخفّين. ومن قسَّم الأسفار إِلى قصير وطويل، وخصّ بعض الأحكام بهذا وبعضها بهذا، وجعلها متعلقة بالسفر الطويل، فليس معه حُجّة يجب الرجوع إِليها، والله سبحانه وتعالى أعلم". ونقل شيخنا -حفظه الله- كلاماً طيّباً له من "مجموعة الرسائل والمسائل" بعد أن بيّن وضْع حال الحديث (439) من "السلسة الضعيفة" وأنّه موضوع ولفظه: "يا أهل مكّة! لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة بُرُد ¬

_ (¬1) "المحلى" (5/ 21)، وذكره الشيخ عبد العظيم في "الوجيز" (ص 138).

من مكة إِلى عُسفان" وفيه: "وممّا يدل على وضع هذا الحديث، وخطأ نسبته إِليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ما قاله شيخ الإِسلام ابن تيمية في رسالته في أحكام السفر (2/ 6 - 7 من مجموعة الرسائل والمسائل): "هذا الحديث إِنّما هو من قول ابن عباس، ورواية ابن خزيمة وغيره له مرفوعاً إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باطلة بلا شك عند أئمّة الحديث، وكيف يخاطِب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل مكة بالتحديد، وإِنّما قام بعد الهجرة زمناً يسيراً وهو بالمدينة، لا يحدّ لأهلها حدّاً كما حدّه لأهل مكة، وما بال التحديد يكون لأهل مكة دون غيرهم من المسلمين؟! وأيضاً، فالتحديد بالأميال والفراسخ يحتاج إِلى معرفة مقدار مساحة الأرض، وهذا أمر لا يعلمه إلاَّ خاصة الناس، ومَن ذكره؛ فإِنّما يخبر به عن غيره تقليداً، وليس هو ممّا يقطع به، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقدِّر الأرض بمساحة أصلاً، فكيف يُقدّر الشارع لأمّته حدّاً لم يجْرِ به له ذِكْر في كلامه، وهو مبعوث إلى جميع الناس؟! فلا بد أن يكون مقدار السفر معلوماً علماً عاماً". ومن ذلك أيضاً أنَّه ثبت بالنقل الصحيح المتفق عليه بين علماء الحديث؛ أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حَجّة الوداع كان يقصر الصلاة بعرفة، ومزدلفة، وفي أيام منى، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، وكان يصلّي خلفهم أهل مكة، ولم يأمروهم بإِتمام الصلاة، فدلّ هذا على أن ذلك سفر، وبين مكة وعرفة بريد، وهو نصف يوم بسير الإِبل والأقدام. والحق أنَّ السفر ليس له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع، فالمرجع فيه إِلى العُرف، فما كان سفراً في عُرف الناس؛ فهو السفر الذي علّق به الشارع

الحكم. وتحقيق هذا البحث الهامّ تجده في رسالة ابن تيمية المشار إِليها آنفاً، فراجِعها، فإِنَّ فيها فوائد هامّة لا تجدها عند غيره". انتهى. جاء في "الدراري المضية" (1/ 204) (¬1) -بحذف-: وإيجاب القصر على من خرج من بلده قاصداً للسفر وإن كان دون بريد (¬2) وجْهُه أن الله تعالى ¬

_ (¬1) انظر "الروضة" (1/ 376). (¬2) البريد = 4 فراسخ، الفرسخ = 3 أميال، الميل = 4000 ذراع مرسلة، الذراع المرسلة = 6 قبضات، القبضة = 24 أصبعاً، الأصبع = 1.925 سم، إِذاً طول الذراع المرسلة = 24×1.925 = 46.2 سم، الميل = 4000×46.2 = 1848 م = 1.848 كم. الفرسخ = 3×1848 = 5544 م = 5.544 كم. البريد = 4×5544 = 22176 م = 22.176 كم. من كتاب "الأموال في دولة الخلافة" لعبد القديم زلوم (ص 60) وذكره الشيخ محمد صبحي حسن حلاّق في التعليق على "الروضة". قلت: وذَكر ما جاء عن مقدار البريد والفرسخ والميل وقد ذكره ابن الأثير في "النهاية" وفيه: "والبريد كلمة فارسية يُراد بها في الأصل: البغل، وأصلها بريده دم، أي: محذوف الذنب، لأًنَّ بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، فأُعربت وخُفّفت، ثمَّ سمّى الرسول الذي يركبه بريدا، والمسافة التي بين السِّكَّتين بريداً، والسكة موضع كان يسكنه الفُيوج المرتّبُون من بيت أو قبّة أو رِباط، وكان يُرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان وقيل: أربعة". جاء في "الفتح" (2/ 567): ذكر الفراء أن الفرسخ فارسي معرب، وهو ثلاثة أميال، والميل من الأرض منتهى مد البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إِدراكه، وبذلك جزم الجوهري. وقيل حدّه أن ينظر إِلى الشخص في أرض مسطّحة، فلا يدرى أهو رجل أم امرأة أو هو ذاهب أو آت، قال النووي: الميل: ستة آلاف ذراع والذراع: أربعة وعشرون =

قال: {وإِذا ضربْتُم في الأرض فليس عليكم جُناحٌ أن تقصُروا من الصلاة} (¬1)، والضرب في الأرض يصدق على كل ضرْب، لكنه خرج الضرب - أي: المشي لغير السفر- لِما كان يقع من - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخروج إِلى بقيع الغرقد ونحوه، ولا يقصر، ولم يأتِ في تعيين قدْر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء، فوجب الرجوع إِلى ما يسمى سَفَراً لغة وشرعاً، ومن خرج من بلده قاصداً إِلى محلّ يعد في مسيره إِليه مسافراً قصر الصلاة، وإنْ كان ذلك المحل دون البريد، ولم يأت من اعتبر البريد واليوم واليومين والثلاثة وما زاد على ذلك بحجة نيّرة. وغاية ما جاءوا به حديث: "لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم"، وفي رواية: "يوماً وليلة" (¬2). وليس في هذا الحديث ذِكر القصر ولا هو في سياقه، والاحتجاج به مجرد تخمين. وأحسن ما ورد في التقدير ما رواه شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: "سألت أنساً عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين" والشك من شعبة، أخرجه مسلم (¬3) ¬

_ = إِصبعاً معترضة معتدلة والإِصبع؛ ست شعيرات معترضة معتدلة اهـ. وهذا الذي قاله هو الأشهر، ومنهم من عبر عن ذلك باثنى عشر ألف قدم بقدم الإِنسان، وقيل: هو أربعة آلاف ذراع، وقيل: بل ثلاثة آلاف ذراع نقله صاحب البيان، وقيل: وخمسمائة صححه ابن عبد البر، وقيل: هو ألفا ذراع. (¬1) النساء: 101 (¬2) أخرجه البخاري: 1088 (¬3) برقم: 691

وغيره. فإِنْ قلت: محلّ الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون مَحرَم هو كونه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمّى ذلك سفراً، قلت: تسميته سفراً لا تنافي تسمية ما دونه سفراً ... ". وفي "الروضة" (1/ 378) -بحذف-: "أقول: مسألة أقلّ السفر قد اضطربت فيها الأقوال، وطال فيها النزاع، وتشعّبت فيها المذاهب، وليس في ذلك شيء يستند إِليه، إلاَّ مجرد قول الرواة قصر رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- في كذا من دون بيانٍ لمقدار يرجع إِليه، وأصرح ما في ذلك ما قاله بعض الرواة: أنَّه -صلّى الله عليه وآله وسلّم- كان يقصر إِذا سافر ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ هكذا على الشك، مع أنّه لم يُبيِّن مقدار المسافة التي هي انتهاء سَفَره، وغاية ما وقع التعويل عليه أحاديث: "لا يحل لامرأة" كما تقدّمت، والمعمول عليه هاهنا رواية البريد، لأنَّ ما فوقها يعتبر فيه ذلك بفحوى الخطاب. لكن لا ملازمة بين اعتبار المحرم للمرأة وبين وجوب القصر على غيرها من المسافرين؛ لأنَّ علّة مشروعية المحرم غير علّة مشروعية القصر، فلم يبق في المسألة ما يصلح للاستناد إِليه، فوجب الرجوع إِلى ما يصدق عليه مسمّى الضرب في الأرض على وجهٍ يُخالف ما يفعله المقيم من ذلك. فالحاصل: أنَّ الواجب الرجوع إِلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعاً أو لغة أو عرفاً لأهل الشرع، فما كان ضرباً في الأرض يصدق عليه أنَّه سفر وجب فيه القصر".

وجاء في "الإِرواء" (3/ 15): "فالعمدة على حديث أنس (¬1)، وقد قال الحافظ في "الفتح" (2/ 567): "وهو أصح حديث ورَد في بيان ذلك وأصرحه، وقد حمَله من خالفه على أنَّ المراد به المسافة التي يُبتَدأ منها القصر، لا غاية السفر، ولا يخفى بُعد هذا الحمل مع أنَّ البيهقي (قلت: وكذا أحمد) ذكر في روايته من هذا الوجه أنَّ يحيى بن يزيد راويه عن أنس قال: سألت أنساً عن قصر الصلاة، وكنت أخرج إِلى الكوفة -يعني من البصرة- فأصلّي ركعتين حتى أرجع، فقال أنس: فذكَر الحديث. فظهر أنّه سأله عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضع الذي يُبتَدأ القصر منه. ثمَّ إِنَّ الصحيح في ذلك أنّه لا يتقيد بمسافة، بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها. وردّه القرطبي بأنّه مشكوك فيه فلا يحتجّ به، فإِن كان المراد به أنّه لا يحتجّ به في التحديد بثلاثة أميال فمسلّم، لكن لا يمتنع أن يحتج به في التحديد بثلاثة فراسخ، فإِنّ الثلاثة أميال مندرجة فيه، فيؤخذ بالأكثر احتياطاً. وقد روى ابن أبي شيبة عن حاتم بن إِسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة قال: قلت لسعيد ابن المسيب: أَقصرُ الصلاة وأُفطِر في بريد من المدينة؟ قال: نعم. قلت: وقد صحّ عن ابن عمر -رضي الله عنه- جواز القصر في ثلاثة أميال، كما سيأتي بعد حديثين، وهي فرسخ، فالأخذ بحديث أنس أولى من حديث ابن عباس لصحته، ورَفعه وعمل بعض الصحابة به، والله أعلم. ¬

_ (¬1) وهو في "صحيح مسلم" (691) بلفظ: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ (شعبة الشاك) صلّى ركعتين"، [وتقدّم].

على أنَّ قصره في المدة المذكورة لا ينفي جواز القصر في أقل منها؛ إِذا كانت في مسمّى السفر، ولذلك قال ابن القيّم في "الزاد": "ولم يحدّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمُّم في كلّ سفر. وأمّا ما يُروى من التحديد باليوم واليومين أو الثلاثة فلم يصح عنه منها شيء البتة، والله أعلم". ثمَّ قال شيخنا -حفظه الله تعالى- (ص 18 - 19): "وقد صح عن ابن عمر القصر في أقل من البريد، فأخرج ابن أبي شيبة (2/ 108/1) عن محمّد بن زيد بن خليدة عن ابن عمر قال: "تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال" (¬1). ثمَّ روى (2/ 109/1) عن محارب بن دثار قال: سمعت ابن عمر يقول: "إِنّي لأسافر الساعة من النهار وأقصر". وإِسناده صحيح كما قال الحافظ في "الفتح" (2/ 567). ثمَّ روى (2/ 111/1) عن نافع عن ابن عمر: "أنّه كان يقيم بمكة فإِذا خرج إِلى منى قصر". وإِسناده صحيح أيضاً. وقال الثوري: سمعت جبلة بن سحيم سمعت ابن عمر يقول: "لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة". ذكره الحافظ وصححه. قلت [أي: شيخنا -حفظه الله-]: وهذه الآثار عن ابن عمر أقرب إِلى ¬

_ (¬1) وقال في التخريج: وإسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير ابن خليدة، هذا وقد روى عنه جماعة من الثقات كما في "الجرح والتعديل" (3/ 2/256) وقد ذكره ابن حبان في "الثقات" (1/ 206/2).

الموضع الذي يقصر منه:

السنّة على ما سبق بيانه قبل حديثين، والله أعلم. قلت: والذي قبل الحديثين: حديث ابن عباس وابن عمر: "كانا لا يقصران في أقل من أربعة بُرُد" وعلّقه البخاري. والخلاصة: أنَّه لا حدّ للمسافة التي تقصر فيها الصلاة، فيجب الرجوع إِلى ما يسمّى سفَراً لُغةً وعُرفاً وما كان ضرباً في الأرض؛ يصدق عليه أنّه سفر وما وردَ من نصوص متعلّقةٍ بالسّفر؛ إِما أن تكون سفراً طويلاً؛ أو سفراً قصيراً؛ وهي نماذج للسفر، وأمثلة عليه، لا تفيد الحصر، فقصْره فيما ذُكر لا ينفي جواز القصر في أقل منها؛ إذا كانت في مسمّى السَّفر، والله تعالى أعلم". ولشيخنا -شفاه الله تعالى- كلام نفيس في "الصحيحة" تحت الحديث (163) فارجع إِليه -إِن شئت-. الموضع الذي يقصر منه: ذهب جمهور العلماء إِلى أنَّ قصر الصلاة يشرع بمفارقة الحضر، والخروج من البلد، وأنّ ذلك شرط ولا يتِمّ حتى يدخل أول بيوتها. قال ابن المنذر: ولا نعلم أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر في شيء من أسفاره إلاَّ بعد خروجه عن المدينة (¬1). وقال أنس: "صليت الظهر مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة ركعتين" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "الأوسط" (4/ 354) وذكَره السيد سابق -حفظه الله- في "فقه السنة" (1/ 285). (¬2) أخرجه البخاري في مواضع: 1039، 1471، 1472، 1473، وغيرها ومسلم: 690، 691، وغيرهما.

* المسافر إذا أقام لقضاء حاجة ولم يجمع إقامة يقصر حتى يخرج:

* المسافر إِذا أقام لقضاء حاجة ولم يُجمع إقامة يقصر حتى يخرج (¬1): عن جابر قال: أقام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة" (¬2). قال ابن القيّم: "ولم يقُل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأمّة لا يقصر الرجل الصلاة إِذا قام أكثر من ذلك؛ ولكن اتفق إِقامته هذه المدّة". وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أقام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسعة عشر يوماً يقصر، فنحن إِذا سافَرنا تسعة عشر قصرنا وإِنْ زدنا أتمَمنا" (¬3) *. وأخرجه البيهقي وغيره بلفظ: سبعة عشر يوماً، وجمَع البيهقي وغيره بأنّ من روى الأولى عدّ يوم الدخول ويوم الخروج، ومن روى الأخرى لم يعدّهما وقال الحافظ: وهو جمعٌ متين والله أعلم (¬4). قلت: والذي يبدو أنَّ هذا الذي اتّفق لهم، فقد ذَكرنا حديث جابر "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة". وثبت أنَّ ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة وقد حال الثلج بينه وبين الدخول. فعن ابن عمر أنَّه قال: "أريح علينا الثلج (¬5)، ونحن بأذربيجان ستة أشهر ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من كتاب "الوجيز" (ص 139) بتصرّف. (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1094) وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (574). (¬3) أخرجه البخاري: 1080 وغيره. (¬4) وانظر "الإِرواء" (3/ 27). (¬5) أي: اشتدّ علينا.

في غزاة، وكنّا نصلي ركعتين". قال شيخنا في "الإِرواء" (3/ 28): "وإِسناده صحيح، كما قال الحافظ في "الدراية" (129)، وهو على شرط الشيخين كما نقله الزيلعي (2/ 185) عن النووي وأقره. وله طريق أخرى، فقال ثمامة بن شراحيل: "خرجت إِلى ابن عمر فقلت: ما صلاة المسافر؟ فقال: ركعتين ركعتين، إلاَّ صلاة المغرب ثلاثاً، قلت: أرأيت إِنْ كنا بـ (ذي المجاز)؟ قال: وما (ذو المجاز)؟ قال: قلت: مكان نجتمع فيه، ونبيع فيه، ونمكث عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة، فقال: يا أيها الرجل! كنت بأذربيجان -لا أدري قال- أربعة أشهر أو شهرين، فرأيتهم يصلّونها ركعتين ركعتين، ورأيت نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصر عيني يصلّيها ركعتين ثمَّ نزع إِلي بهذه الآية: {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسَنة} (¬1) " (¬2). وفي "الروضة الندية" (1/ 383): "وقول أكثر أهل العلم: إِنَّه يقصر أبداً ما لم يُجمع إِقامة". انتهى. والأئمة الأربعة متفقون على أنَّه إِذا أقام لحاجةٍ ينتظر قضاءَها يقول: اليوم أخرج؛ فإِنّه يقصر أبداً إلاَّ الشافعي في أحد قوليه فإِنّه يقصر عنده إِلى سبعة عشر أو ثمانية عشر يوماً ولا يقصر بعدها، وقد قال ابن المنذر في ¬

_ (¬1) الأحزاب: 21. (¬2) رجاله كلهم ثقات غير ثمامة هذا فقال الدارقطني: "لا بأس به شيخ مقل" وذكره ابن حبان في "الثقات" (1/ 7).

صلاة التطوع في السفر:

"إِشرافه" (¬1): أجمع أهل العلم أنَّ للمسافر أن يقصر ما لم يُجمع إِقامة إِن أتى عليه سنون (¬2). وفهمت من شيخنا أنَّ مدار الأمر؛ فيما إِذا أجمع المرء الإِقامة وحدّد مدّتها، أو عدم ذلك، فإِنْ لم يحدّد مضت عليه أحكام المسافر، وإنْ حدّد مضت عليه أحكام المقيم، إلاَّ إِذا بقيت عنده أحوال المسافر، والله تعالى أعلم. قال ابن المنذر في "الأوسط" (4/ 342): "ذِكر إِباحة قصر الصلاة للمسافر في المدن يقْدُمُها إِذا لم ينوِ مقاماً يجب عليه له إِتمام الصلاة". ثمَّ قال: في قدوم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه مكة عام حجة الوداع مقيمين بها أياماً يصلون ركعتين، دليل على أن للمسافر أن يقصر الصلاة في المدن إِذا قدمها، ولم يعزم على أن يقيم بعد قدومه مدة يجب عليه بمقام تلك المدة إِتمام الصلاة. ثمَّ ساق بإِسناده إِلى موسى بن سلمة قال: سألت ابن عباس قلت: "إِني مقيم هنا يعني بمكة فكيف أصلّي؟ قال: ركعتين، سنّة أبي القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). صلاة التطوع في السفر: قال البخاري: (باب من تطوّع في السفر في غير دُبُر الصلوات وقبلها وركع ¬

_ (¬1) يشير بذلك إلى كتاب "الإِشراف على مذهب الأشراف". (¬2) انظر "فقه السنة" (1/ 287). (¬3) أخرجه مسلم: 688

النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتي الفجر في السفر) (¬1) وذكر تحته أحاديث: 1 - حديث رقم: (1103) من حديث ابن أبي ليلى بلفظ: "ما أنبأ أحدٌ أنه رأى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى الضحى غيرُ أمّ هانئ: ذكَرت أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة اغتسل في بيتها، فصلّى ثمان ركعات، فما رأيته صلّى صلاة أخفّ منها، غير أنّه يُتمّ الركوع والسجود". 2 - وحديث رقم (1104): من حديث عبد الله بن عامر: "أنَّ أباه أخبره أنّه رأى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى السُّبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته؛ حيث توجَّهت به" (¬2). 3 - وحديث رقم: (1105): من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسبّحُ على ظهر راحلته حيث كان وجهُه، يُومئ برأسه وكان ابن عمر يفعله" (¬3). قال الحافظ في "الفتح" (2/ 578): "قوله (باب من تطوع في السفر في غير دبر الصلاة) هذا مُشعِر بأنَّ نفي التطوع في السفر محمول على ما بعد الصلاة خاصة، فلا يتناول ما قبلها، ولا ما لا تعلّق له بها من النوافل المطلقة؛ كالتهجد والوتر والضحى وغير ذلك، والفرق بين ما قبلها وما بعدها أنَّ التطوع قبلها لا يظن أنّه منها، لأنّه ينفصل عنها بالإِقامة وانتظار الإِمام غالباً ونحو ¬

_ (¬1) وصَله مسلم في قصّة النوم عن صلاة الصبح من حديث قتادة كما في "الفتح" (2/ 578)، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 266). (¬2) وأخرجه مسلم: 700 (¬3) وانظر "صحيح مسلم": تحت رقم (700).

السفر يوم الجمعة:

ذلك، بخلاف ما بعدها فإِنّه في الغالب يتصل بها فقد يظنُّ أنّه منها". انتهى. وقال النووي في "شرحه" (5/ 210) بعد أن ذكر الأحاديث المتقدّمة وما في معناها خلا حديث أم هانئ: وفي هذه الأحاديث جواز التنفّل على الراحلة في السفر حيث توجّهت، وهذا جائز بإِجماع المسلمين، وشرطه أن لا يكون سفر معصية ... ". السفر يوم الجمعة: يجوز السفر يوم الجمعة ما لم يسمع النداء، فإِذا سمعه وجب عليه الحضور (¬1)، وليس في السنّة -فيما علمتُ- ما يمنع من السفر يوم الجمعة، بل إِنَّ فيها ما يشعر بالجواز. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليس على مسافر جمعة" (¬2). ولا يستلزم من ذلك أن يكون هذا مقتصراً، على من كان مسافراً من قبل جادّاً في سيره؛ ماضياً فيه. قال شيخنا في "الضعيفة" (1/ 386) -بحذف بعد أن ذكَر حديثاً موضوعاً في منع السفر يوم الجمعة-: "وليس في السنّة ما يمنع السفر يوم الجمعة مطلقاً ... ". وقد روى البيهقي (3/ 187) عن الأسود بن قيس عن أبيه قال: "أبصر ¬

_ (¬1) انظر "تمام المنّة" (ص320). (¬2) صحيح بكثرة الطُّرُق والشواهد، انظر "الإرواء" (592، 594).

هل يشرع الجمع لسفر المعصية؟

عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رجلاً عليه هيئة السفر، فسمعه يقول: لولا أنّ اليوم يوم جمعة لخرجْتُ، قال عمر -رضي الله عنه-: اخرُجْ فإِنَّ الجمعة لا تحبس عن سفر. ورواه ابن أبي شيبة (2/ 205/2) مختصراً. وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات، وقيس والد الأسود؛ وثّقه النسائي وابن حبان. فهذا الأثر مما يُضعّف هذا الحديث ... ، إِذ الأصل أنّه لا يخفى على أمير المؤمنين عمر لو كان صحيحاً. هل يشرع الجمع لسفر المعصية؟ سألت شيخنا -عافاه الله وشفاه- فقال: فيه عندي تفصيل: إِنْ أنشأ السفر للمعصية؛ أرى ما يقوله أهل العلم أنَّه ليس له الترخّص ولكن إِن كان أصل المعصية لم ينشأ ابتداءً ولكن وقع في المعصية وهو في سفره؛ فالحُكم يبقى على عمومه.

الجمع بين الصلاتين

الجمع بين الصلاتين الحالات التي يجوز فيها الجمع بين الصلاتين: يجوز للمصلّي الجمع بين الظهر والعصر، سواءٌ أكان ذلك تقديماً أم تأخيراً (¬1)، وبين المغرب والعشاء كذلك، وليس هنالك جمع غيره؛ وذلك في الحالات الآتية: 1 - الجمع بعرفة والمزدلفة: فعن أبي أيوب الأنصاري: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمَع في حجَّة الوَداع المغرب والعشاء بالمزدلفة" (¬2). وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- "إِذا فاتته الصلاة مع الإِمام جمَع بينهما" (¬3). وعن ابن شهاب قال: "أخبرني سالم أنَّ الحجاج بن يوسف -عام نزَل بابن الزبير -رضي الله عنهما- سأل عبد الله -رضي الله عنه-: كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إِن كنت تُريد السنّة فهجِّر بالصلاة يوم عرفة. فقال عبد الله بن عمر: صدق، إِنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في ¬

_ (¬1) هناك فوائد نفيسة لشيخنا -شفاه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (164) فارجع إِليها -إِن شئت-. (¬2) أخرجه البخاري: 1674. (¬3) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به "كتاب الحج" (باب الجمع بين الصلاتين بعرفة).

2 - السفر:

السنَة. فقلت لسالم: أفَعَل ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال سالم: وهل يتَّبعون بذلك إلاَّ سنّته"؟ (¬1). قال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" (26/ 168): "ومن سُنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه جمَع بالمسلمين جميعهم بعرفة بين الظهر والعصر، وبمزدلفة بين المغرب والعشاء وكان معه خلق كثير ممّن منزله دون مسافة القصر من أهل مكة وما حولها، ولم يأمر حاضري المسجد الحرام بتفريق كلّ صلاة في وقتها، ولا أن يعتزل المكيون ونحوهم فلم يصلّوا معه العصر، وأن ينفردوا فيصلّوها في أثناء الوقت دون سائر المسلمين ... ". 2 - السفر: عن معاذ بن جبل أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في غزوة تبوك إِذا ارتحل قبل زيغ الشمس (¬2) أخّر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصلّيها جميعاً، وإِذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلّى الظهر والعصر جميعاً ثمَّ سار، وكان إِذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصلّيها مع العشاء، وإذا ارتحل (¬3) بعد المغرب عجّل (¬4) العشاء، فصلاّها مع المغرب" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1662 (¬2) أي: ميلها، وذلك إِذا قام الفيء. (¬3) أي: إِذا أراد أن يرتحل بعد المغرب. (¬4) قبل أن يمضي في سفره. (¬5) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، وصححه شيخنا في "الإرواء" (578) و"الصحيحة" (164)، وانظر ما ذكره شيخنا -عافاه الله وشفاه- من الفوائد =

وفي "صحيح سنن أبي داود" (1067): " ... وفي المغرب مِثل ذلك إِن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمَع بين المغرب والعشاء، وإنْ يرتحِل قبل أن تغيب الشمس؛ أخّر المغرب حتى ينزل للعشاء، ثمَّ جمَع بينهما". عن عامر بن واثلة أنَّ معاذ بن جبل أخبره " أنّهم خرجوا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام تبوك فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال: فأخّر الصلاة يوماً، ثمَّ خرج فصلّى الظهر والعصر جميعاً ثمَّ دخل، ثمَّ خرج فصلّى المغرب والعشاء جميعا" (¬1). وعن ابن عباس قال: "ألا أحدّثكم عن صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر قال قلنا بلى قال: كان إِذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإِذا لم تزغ له في منزله سار حتى إِذا حانت العصر نزل، فجمع بين الظهر والعصر، وإذا حانت المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء، وإِذا لم تَحِن في منزله ركب حتى إِذا حانت العشاء نزل فجمع بينهما" (¬2). وفي روايةٍ عند مسلم (705) وغيره: "قال سعيد (هو ابن جبير) فقلت لابن عبّاس: ما حمَله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يُحرج أمّته". ¬

_ = تحت هذا الحديث، في الكتاب الأخير (1/ 314) وذكر كلاماً هاماً لشيخ الإِسلام -رحمه الله- في درجات الجمع. (¬1) أخرجه مسلم: 706، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1065)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (512)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (877)، والدارمي، ومالك في "الموطأ"، وهذا لفظه، وانظر "الإِرواء" (3/ 30). (¬2) أخرجه الشافعي وأحمد وغيرهما، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (3/ 31)، وانظر "صحيح سنن الترمذي" (455).

3 - المطر:

وعن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا ارتحل قبل أن تَزيغ الشمس؛ أخّر الظهر إِلى وقت العصر، ثمَّ نزل فجمع بينهما، فإِن زاغت الشمسُ قبل أن يرتحل؛ صلّى الظهر ثمَّ ركب" (¬1). 3 - المطر: عن ابن عباس "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى بالمدينة سبعاً وثمانيا؛ الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة؟ قال (¬2): عسى" (¬3). وعنه أيضاً قال: "جمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة؛ في غير خوفٍ ولا مطر" (¬4). وعن نافع مولى ابن عمر: "أنَّ عبد الله بن عمر كان إِذا جمَع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر؛ جمَع معهم" (¬5). قال شيخنا في "الإِرواء" (3/ 40) -بتصرف يسير-: "ثمَّ روى [أي: الإِمام مالك في "الموطّأ"] عن هشام بن عروة أن أباه عروة وسعيد بن المسيب وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة؛ إِذا جمعوا بين ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1112، ومسلم: 704 (¬2) القائل: جابر. (¬3) البخاري: 543، ومسلم: 705 (¬4) أخرجه مسلم: 705 (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح وغيره وانظر "الصحيحة" (6/ 816)، و"الإِرواء" (583).

الصلاتين ولا يُنكِرون ذلك. وعن موسى بن عقبة أنّ عمر بن عبد العزيز؛ كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إِذا كان المطر، وأنَّ سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن ومشيخة ذلك الزمان؛ كانوا يصلّون معهم ولا ينكِرون ذلك. وإِسنادهما صحيح. وذلك يدلّ على أنَّ الجمع للمطر كان معهوداً لديهم، ويؤيده حديث ابن عباس: "من غير خوف ولا مطر" فإِنّه يُشعِر أنّ الجمع للمطر كان معروفاً في عهده صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولو لم يكن كذلك؛ لما كان ثمّة فائدة من نفي المطر لتسويغ الجمع فتأمّل". انتهى. وجاء في "الفتاوى" (24/ 29): "وسئل -رحمه الله- عن صلاة الجمع في المطر بين العشائين، هل يجوز من البرد الشديد؟ أو الريح الشديد؟ أم لا يجوز إلاَّ من المطر خاصة؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين. يجوز الجمع بين العشائين للمطر والريح الشديد الباردة، والوحل الشديد. وهذا أصح قولي العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد ومالك وغيرهما، والله أعلم. وسئل -رحمه الله- عن رجل يؤم قوماً وقد وقع المطر والثلج، فأراد أن يصلّي بهم المغرب، فقالوا له: يجمع، فقال: لا أفعل، فهل للمأمومين أن يصلّوا في بيوتهم؟ أم لا؟ فأجاب: الحمد لله. نعم يجوز الجمع للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة في الليلة الظلماء ونحو ذلك، وإِن لم يكن المطر نازلا في أصحّ قولي

4 - المرض:

العلماء، وذلك أولى من أن يصلّوا في بيوتهم، بل ترك الجمع مع الصلاة في البيوت بدعة مخالفة للسنّة، إِذ السُّنّة أن تصلّى الصلوات الخمس في المساجد جماعة، وذلك أولى من الصلاة في البيوت باتفاق المسلمين. والصلاة جمعاً في المساجد أولى من الصلاة في البيوت مفرّقة باتفاق الأئمّة الذين يُجوِّزون الجمع: كمالك، والشافعي، وأحمد، والله تعالى أعلم". انتهى. وانظر للمزيد من الفائدة ما قاله ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 430 - 434). 4 - المرض: قال الله تعالى: {ما جَعَل عليكم في الدين مِن حَرَج} (¬1) فإِذا بلغ المرض حدّاً أوقع على صاحبه الحرج فله أن يجمع، وقال سبحانه: {ولا على المريض حرج} (¬2)، وقد يكون حاجة المريض للجمع أشدّ من حاجة من يجمع في السفر أو المطر ونحوه. قال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" (24/ 28) -رحمه الله-: "ويجوز عنده [أي: الإِمام أحمد] وعند مالك وطائفة من أصحاب الشافعي الجمع للمرض". انتهى. وفي "المغني": " ... والمرض المبيح للجمع هو ما يلحقه به بتأدية كلّ صلاة في وقتها مشقّة وضعفاً" (¬3). ¬

_ (¬1) الحج: 78 (¬2) النور: 61، الفتح: 17 (¬3) ذكره السيد سابق -حفظه الله- في "فقه السنّة" (1/ 291).

5 - الحاجة العارضة:

وسألتُ شيخنا -شفاه الله وعافاه-: ما تقولون في جمْع المريض؟ فقال: "حسبما تقتضيه الحاجة، إِذا احتاج إِلى ذلك جمَع وإِلاَّ فلا". وقال الإِمام النووي -رحمه الله-: "وذهب جماعة من الأئمّة إِلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة، وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال والشاشي الكبير من أصحاب الشافعي، عن أبي إِسحاق المروزي، عن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر، ويؤيده ظاهر قول ابن عباس "أراد أن لا يحرج أمّته" (¬1)، فلم يعلّله بمرض ولا غيره، والله أعلم. وعن عبد الله بن شقيق قال: "خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاةَ الصلاةَ، قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني (¬2): الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلّمني بالسنّة؟ لا أمّ لك، ثمَّ قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألْته فصدّق مقالته" (¬3). 5 - الحاجة العارضة: ¬

_ (¬1) انظر "شرح النووي" (5/ 219) ونقله الشيخ عبد العظيم في "الوجيز" (ص 141)، والشيخ السيد سابق في "فقه السنّة" (1/ 291) -حفظهما الله-. (¬2) أي: لا يضعف ولا ينصرف عن ذلك. (¬3) أخرجه مسلم: 705

عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا حضَر أحدكم الأمر يخشى فوته؛ فليصلّ هذه الصلاة [يعني: الجمع بين الصلاتين] " (¬1). وتقدّم حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر والعصر جميعاً بالمدينة، في غير خوف ولا سفر، "وفي رواية له "في غير خوف ولا مطر". قال أبو الزبير: فسألت سعيداً: لمَ فعَل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألني فقال: "أراد أن لا يُحرِج أحداً من أمّته". قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {هو اجتباكم وما جعلَ عليكم في الدين مِن حرَج} (¬2) أي: ما كلّفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشقّ عليكم؛ إلاَّ جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً، فالصلاة التي هي أكبر أركان الإِسلام بعد الشهادتين؛ تجب في الحضر أربعاً وفي السفر تقصر إِلى ثنتين، وفي الخوف يصلّيها بعض الأئمّة ركعة، كما ورد به الحديث وتصلّى رجالاً ورُكباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها وكذا في النافلة في السفر إِلى القبلة وغيرها والقيام فيها يسقط لعذر المرض، فيصلّيها المريض جالساً، فإِن لم يستطع فعلى جنبه، إِلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات ... قال ابن عبّاس في قوله: {ما جعل عليكم في الدين من ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (581) وغيره، وهو حديث حسن خرّجه شيخنا -حفظه الله- في "الصحيحة" برقم (1370). (¬2) الحج: 78

حرج} أي: من ضيق بل وسّعَه عليكم ... ". وسألت شيخنا -عافاه الله وشفاه-: "هل للطبّاخ والخبّاز أن يجمعا إِذا خشيا فساد مالهما"؟ فأجاب: "إِذا فوجئ أحدهما بذلك فلا مانع، فينبغي أن يأخذ الاستعداد اللازم له، كيلا يقع مِثل هذا الفساد؛ حتى لا يضطر للجمع". فائدة: قال الحافظ في "الفتح" (2/ 583): "وفي حديث أنس (¬1) استحباب التفرقة في حال الجمع؛ بين ما إِذا كان سائراً أو نازلا، وقد استدل به على اختصاص الجمع بمن جدّ به السير، لكن وقع التصريح في حديث معاذ بن جبل في "الموطأ" ولفظه: "أنَّ النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخَّر الصلاة في غزوة تبوك، ثمَّ خرج فصلّى الظهر والعصر جميعا، ثمَّ دخل ثمَّ خرج فصلّى المغرب والعشاء جميعا (¬2) "، قال الشافعي في "الأمّ": قوله دخل ثمَّ خرج لا يكون إِلا وهو نازل، فلِلمسافر أن يجمع نازلا وسائراً. وقال ابن عبد البر: في هذا أوضح دليل على الرد على من قال لا يجمع إلاَّ من جدّ به السير، وهو قاطع للالتباس، انتهى". وجاء في "عون المعبود" (3/ 51): "قال الشافعي وأكثرون: يجوز الجمع بين الظهر والعصر في وقت أيتهما شاء، وبين المغرب والعشاء فى وقت أيتهما شاء ... قاله النووي". ¬

_ (¬1) المتقدّم: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس". (¬2) وهو صحيح كما في "الإِرواء" (3/ 31)، وتقدّم قبل أحاديث ومعناه في مسلم: 704

هل يشترط النية والموالاة في الجمع والقصر؟

وسألت شيخنا -عافاه الله وشفاه-: "هل يجمع تقديماً أو تأخيراً على ما يتيسّر له؟ فقال: قولنا على ما تقتضيه الحاجة أفضل". هل يشترط النية والموالاة في الجمع والقصر؟ لا دليل على ذلك من باب التيسيرِ ومراعاةِ عدم إِسقاط مقصود الرخصة. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬1) عن عدم اشتراط النية في الجمع والقصر: "وهو قول الجمهور من العلماء، وقال: والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمّا كان يصلّي بأصحابه جمعاً وقصراً لم يكن يأمر أحداً منهم بنية الجمع والقصر، بل خرج من المدينة إِلى مكة يصلّي ركعتين من غير جمع، ثمَّ صلّى بهم الظهر بعرفة، ولم يُعلِمْهم أنّه يريد أن يصلّي العصر بعدها، ثمَّ صلّى بهم العصر ولم يكونوا نووا الجمع، وهذا جمع تقديم، وكذلك لمّا خرج من المدينة صلّى بهم بذي الحليفة العصر ركعتين ولم يأمرهم بنية قصر. وأمّا الموالاة بين الصلاتين فقد قال: والصحيح أنّه لا تشترط الموالاة بحال؛ لا في وقت الأولى ولا في وقت الثانية، فإِنّه ليس لذلك حدٌّ في الشرع، ولأنّ مراعاة ذلك يُسقِط مقصود الرخصة". ¬

_ (¬1) في "الفتاوى" (24/ 50 - 54) ملتقطاً وذكره السيد سابق -حفظه الله- في "فقه السنّة" (1/ 290).

الصلاة في السفينة والطائرة:

الصلاة في السفينة والطائرة: عن ابن عمر قال: "سُئل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في السفينة، فقال: صلِّ فيها قائماً؛ إِلا أن تخاف الغرق" (¬1). وينبغي الالتفات إِلى أولوية إِتمام الركوع والسجود فيهما، فإِذا خشي فوات الوقت، صلّى فيهما. وعن عبد الله بن أبي عتبة قال: صحبتُ جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة في سفينة، فصلَّوا قياماً في جماعة أمَّهم بعضهم، وهم يقدرون على الجِدّ (¬2) الشاطئ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البزار والدارقطني وغيرهما، وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبي، وانظر "الصفة" (79). (¬2) الجِدّ: وجه الأرض أو شاطئ النهر، "الوسيط". (¬3) أخرجه سعيد بن منصور، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، و"البيهقي" (3/ 155)، وإسناده صحيح، وانظر "تمام المنّة" (ص 322).

الجمعة

الجمعة فضل يوم الجمعة: 1 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم وفيه أُدخل الجنّة، وفيه أُخرِج منها، ولا تقوم الساعة إلاَّ في يوم الجمعة" (¬1). 2 - وعن أبي لبابة بن عبد المنذر قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إِنَّ يوم الجمعة سيّد الأيام، وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال (¬2): خلق الله فيه آدم وأهبط الله فيه آدم إِلى الأرض، وفيه توفَّى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئاً إلاَّ أعطاه؛ ما لم يسأل حراماً، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرَّب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر؛ إلاَّ وهن يُشفِقن من يوم الجمعة" (¬3). وعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ هذا يومُ عيد، جعَله الله للمسلمين، فمن جاء الجمعة فليغتسل، وإن كان طيبٌ فليمَسَّ منه، وعليكم بالسواك" (¬4). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "عُرضت الجمعة على ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 854 (¬2) مفردها: خَلَّة: وهي الخَصلة، يُقال: فيه خَلَّه حسنة وخَلةٌ سيئة. "الوسيط" (¬3) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح ابن ماجه" (888)، وحسنه شيخنا في "المشكاة" (1363). (¬4) أخرجه ابن ماجه بإِسناد حسن، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (706).

الدعاء فيه:

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ جاءه بها جبرائيل عليه السلام في كفّه كالمرآة البيضاء، في وسطها كالنكتةِ السوداء، فقال: ما هذه يا جبرائيل؟ قال: هذه الجمعة، يعرضها عليك ربُّك؛ لتكون لك عيداً، ولقومك من بعدك، ولكم فيها خير، تكون أنت الأوّل، وتكون اليهود والنصارى من بعدك، وفيها ساعةٌ لا يدعو أحدٌ ربَّه فيها بخير هو له قُسِمَ، إلاَّ أعطاه، أو يتعوّذ من شرّ؛ إلاَّ دفع عنه ما هو أعظم منه، ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد ... " (¬1). وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ الله يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها، ويبعث يوم الجمعة زهراء منيرة، أهلها يحفُّون بها كالعروس تُهْدَى إِلى كَريمها، تُضيءُ لهم، يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج بياضاً، وريحهم تسطع كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إِليهم الثقلان، ما يطرقون تعجُّباً حتى يدخلوا الجنّة، لا يخالطهم أحد إلاَّ المؤذنون المحتسبون" (¬2). الدعاء فيه: 1 - عن عبد الله بن سلام قال: "قلت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس؛ إِنّا لنجد في كتاب الله في يوم الجمعة؛ ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلّي يسأل الله فيها شيئاً؛ إلاَّ قضى له حاجته. قال عبد الله: فأشار إِلىّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بعض ساعة، فقلت: صدقت، أو بعض ساعة، قلت: أي ساعة هي؟ قال هي آخر ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" بإِسناد جيد، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (691). (¬2) أخرجه ابن خزيمة والحاكم وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (706).

استحباب كثرة الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجمعة ويومها:

ساعات النهار، قلت: إِنّها ليست ساعة صلاة، قال: بلى إِنّ العبد المؤمن إِذا صلى ثمَّ جلس؛ لا يحبسه إلاَّ الصلاة فهو في الصلاة" (¬1). 2 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ في الجُمُعة لساعة؛ لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيراً، إلاَّ أعطاه إياه" (¬2). 3 - عن جابر بن عبد الله عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة؛ لا يوجد فيها عبد مسلم يسأل الله عزّ وجلّ شيئاً؛ إلاَّ آتاه إِيّاها، فالتمسوها آخر ساعة بعد صلاة العصر" (¬3). استحباب كثرة الصلاة والسلام على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجمعة ويومها: عن أوس بن أوس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إِنَّ من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قُبِض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثِروا عليّ من الصلاة فيه؛ فإِنَّ صلاتكم معروضة عليّ، قالوا: يا رسول الله! وكيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرمت (¬4) يقولون: بليت، فقال: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (934)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (701). (¬2) أخرجه مسلم: 852 (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (926) وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (702). (¬4) جاء في "النهاية" (وقد أَرَمَّتَ): قال الحربي: هكذا يرويه المحدِّثون ولا أعرف وجهه، والصواب أَرَمَّتْ ... أو رَمِمْتَ: أي: صرْتَ رميماً وقال غيره: إِنّما هو أرَمْتَ بوزن ضربْتَ وأصله أرمَمْتَ: أي: بَليِتَ .... قال ابن الأثير بعد تفصيل: فإِن صحت الرواية =

استحباب قراءة سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلته:

إِنَّ الله عزّ وجلّ حرّم على الأرض أجساد الأنبياء" (¬1). عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن صلّى عليّ صلاة؛ صلّى الله عليه وسلّم عشرا" (¬2). استحباب قراءة سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلته: عن أبي سعيد -رضي الله تعالى عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمُعتين" (¬3). وفي رواية: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له النور ما بينه وبين البيت العتيق" (¬4). وفي رواية لأبي سعيد موقوفاً: "من قرأ سورة الكهف؛ ليلة الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق" (¬5). ¬

_ = ولم تكن محرّفة؛ فلا يمكن تخريجه إلاَّ على لغة بعض العرب ... فيكون لفظ الحديث: أَرَمَّتَ بتشديد الميم وفتح التاء والله أعلم. (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (925)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (889)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1301)، وانظر "الإِرواء" (4)، و"الصحيحة" (1527)، و"صحيح الترغيب رالترهيب" (695). (¬2) أخرجه البيهقي وغيره، وانظر "الصحيحة" (1407). (¬3) أخرجه النسائي والبيهقي وغيرهما وانظر "الإِرواء" (626)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (735). (¬4) أخرجه البيهقي في "شعب الإِيمان" وغيره، وانظر "الصحيحة" (2651)، و"الإرواء" (3/ 94)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (735). (¬5) أخرجه الدارمي في "سننه" وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (735).

الغسل والتجمل والسواك والتطيب:

الغسل والتجمّل والسواك والتطيّب: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ هذا يوم عيد، جَعَله الله للمسلمين، فمن جاء الجمعة فليغتسل، وإِن كان طيبٌ فليمسّ منه، وعليكم بالسواك" (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا كان يوم الجمعة، فاغتسل الرجل، وغسل رأسه، تمَّ تطيّب من أطيب طيبه، ولَبِس من صالح ثيابه، ثمَّ خرج إِلى الصلاة، ولم يُفرّق بين اثنين، ثمَّ استمع للإِمام، غُفر له من الجمعة إِلى الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام" (¬2). وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم (¬3)، وسواك، ويمسّ من الطيب قَدَرَ عليه" (¬4). وعن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن شيخ من الأنصار قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثٌ حقٌّ على كلّ مسلم: الغسل يوم الجمعة والسواك ويمسّ من طيبٍ إِنْ وجد" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه بإِسناد حسن، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (706)، وتقدّم غير بعيد. (¬2) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (704). (¬3) أي: بلغ سنّ الاحتلام. (¬4) أخرجه مسلم: 848 (¬5) أخرجه أحمد وغيره، وصححه شيخنا في "الصحيحة" (1796).

التبكير إلى الجمعة:

وعن عبد الله بن سلام أنَّه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر في يوم الجمعة: "ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة؛ سوى ثوب مهنته" (¬1). وعن سلمان الفارسي قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثمَّ يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثمَّ يصلّي ما كتب له، ثمَّ ينصت إِذا تكلّم الإِمام؛ إلاَّ غفر له ما بينه وبين الجمُعة الأخرى" (¬2). التبكير إِلى الجمعة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة، ثمَّ راح فكأنما قرّب (¬3) بدنة (¬4)، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة، فإِذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يستمعون ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (954)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (898) وغيرهما، وانظر "غاية المرام" (76). (¬2) أخرجه البخاري: 883، 910، وفي رواية: "وزيادة ثلاثة أيام" وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (704). (¬3) أي: تصدّق بها متقرباً إِلى الله تعالى، "فتح" (2/ 367). (¬4) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 367): "والمراد بالبدنة هنا الناقة بلا خلاف، وانظر -إِن شئت- الكتاب المشار إليه للمزيد من الفوائد".

الدنو من الإمام:

الذكر" (¬1). وعن أوس بن أوس الثقفي -رضي الله عنه- قال: سمعْت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من غسَّل يوم الجمعة واغتسل، وبكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإِمام فاستمع ولم يلْغُ، كان له بكلّ خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها" (¬2). وأوّل ساعة تبدأ من طلوع الشمس في الغالب كما أفادني شيخنا -شفاه الله-، ولكن قد يتفق أهل حيٍّ أو قرية على الصلاة في وقتٍ ما قبل الزوال؛ فعندئذ تكون الساعة الخامسة قبل صعود الإِمام المنبر، وترتيب الساعات الباقية معروفة. والله أعلم. وسألت شيخنا -شفاه الله تعالى- عن أول تبكير صلاة الجمعة فقال: متى يصلّي العيد؟ قلت: بعد ارتفاع وقت الكراهة، فقال: هذا هو. الدنو من الإِمام: عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "احضروا الذِّكر وادنوا من الإِمام، فإِنّ الرجل لا يزال يتباعد؛ حتى يُؤخَّر في الجنّة وإنْ دخلها" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 881، 929، ومسلم: 850 (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسّنه النسائي وابن ماجه وغيرهم، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (687). (¬3) أخرجه أبو داود والحاكم وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (36)، وتقدّم حديث أوس بن أوس الثقفي: " ... ودنا من الإمام".

عدم تخطي الرقاب:

عدم تخطّي الرقاب: عن عبد الله بن بُسر قال: "جاء رجل يتخطى رقاب النّاس يوم الجمعة والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجلس فقد آذيت وآنيت (¬1) " (¬2). تخطي الرقاب لحاجة: عن عقبة بن الحارث قال: "صلّيت وراء النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة العصر، فسلّم ثمَّ قام مسرعاً، فتخطى رقاب الناس إِلى بعض حُجَر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنّهم عجبوا من سرعته فقال: ذكرت شيئاً من تبْرٍ (¬3) عندنا، فكرهت أن يحبسني فأُمرت بقِسمته" (¬4). مشروعية التنفّل قبلها: 1 - عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلّي بعدها ركعتين في بيته، ويُحدّث أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك" (¬5). 2 - وعن أبي هريرة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من اغتسل ثمَّ أتى الجمعة فصلّى ما قُدِّرَ له ثمَّ أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثمَّ يصلّيَ معه غُفر له ما بينه وبين ¬

_ (¬1) آنيت: أي: آذيت بتخطّي الرقاب وأخّرت المجيء وأبطأت. "مجمع". (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (989) وغيرهما، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (713). (¬3) ما كان من الذهب غير مضروب. قاله الكرماني (5/ 198). (¬4) أخرجه البخاري: 851 (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (998)، وانظر "تمام المنّة" (326).

إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين.

الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام" (¬1). إِذا رأى الإِمام رجلاً جاء وهو يخطب أمره أن يصلّي ركعتين (¬2). عن جابر بن عبد الله قال: "جاء رجل والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس يوم الجمعة فقال: أصلّيت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم فاركع" (¬3). وفي رواية: "إِذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإِمام يخطب؛ فليركع ركعتين وليتجوّز (¬4) فيهما" (¬5). تحوُّل مَن غلبه النعاس عن مكانه: عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِذا نعس أحدكم وهو في المسجد؛ فليتحوّل من مجلسه ذلك إِلى غيره" (¬6). وجوب صلاة الجمعة: قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذا نُودي للصلاة (¬7) من يوم الجُمُعة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 857 (¬2) هذا العنوان من البخاري. (¬3) أخرجه البخاري: 930، ومسلم: 875 (¬4) فليخفّفها ويسرع بها وهو من الجَوْز: القطع والسَّير. وانظر "النهاية". (¬5) أخرجه مسلم: 875 (¬6) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (990) وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (468). (¬7) قال شيخنا -شفاه الله- تعليقاً على الحديث (2206) من "الضعيفة": "وقد اختلفوا في الأذان المحرِّم للعمل: أهو الأول أم الآخر؟ والصواب أنه الذي يكون =

فاسعَوا إِلى ذِكر الله وذَرُوا البيعَ ذلكم خيرٌ لكم إِنْ كنتم تعلَمون} (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة، بَيْد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثمَّ هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبَعٌ، اليهود غداً (¬2) والنصارى بعد غد (¬3) " (¬4). وعن عبد الله بن مسعود أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقوم يتخلّفون عن الجمعة: "لقد هممْتُ أن آمر رجلا يصلّي بالناس، ثمَّ أُحَرِّقَ على رجال يتخلّفون عن الجمعة بيوتهم" (¬5). وعن عبد الله بن عمر وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على أعواد منبره: "لَينتَهينّ أقوام عن ودْعِهم (¬6) الجمعات، أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثمَّ ليكونُنّ من الغافلين" (¬7). ¬

_ = والإمام على المنبر، لأنه لم يكن غيره في زمن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف يصحّ حمل الآية على الأذان الذي لم يكن ولم يوجد إلاَّ بعد وفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". (¬1) الجمعة: 9 (¬2) أي: السبت. (¬3) أي: الأحد. (¬4) أخرجه البخاري: 876، ومسلم: 855، وفي رواية له برقم (856): "فكان لليهود يومُ السبت، وكان للنصارى يومُ الأحد". (¬5) أخرجه مسلم: 652 (¬6) أي: ترْكهم. (¬7) أخرجه مسلم: 865

وعن أبي الجعد الضَّمْري وكانت له صحبة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها؛ طبع الله على قلبه" (¬1). وعن أسامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من ترك ثلاث جمعات من غير عُذر؛ كُتب من المنافقين" (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "من ترك الجمعة ثلاث جُمَع متواليات، فقد نبذَ الإِسلام وراء ظهره" (¬3). ولما تقدّم من النصوص أقول: يجب شهود الجمُعة على كلّ مسلم، ويُستثنى من ذلك: العبد المملوك (¬4)، والمرأة والصبي والمريض الذي يشقّ عليه حضورها، أو يخاف زيادة المرض أو تأخّر البرء. فعن طارق بن شهاب عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الجمعة حقٌّ واجب على كل ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (928) والنسائي والترمذي وابن ماجه، وانظر "المشكاة" (1371)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (726). (¬2) أخرجه الطبراني في "الكبير" وحسنه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (728). (¬3) أخرجه أبو يعلى موقوفاً بإِسناد صحيح، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (732). (¬4) وسألت شيخنا -حفظه الله تعالى-: "هل تسقط عنه الجمعة إِذا منعَه سيده، فقال: في الأصل تسقط الجمعة عنه".

مسلم في جماعة إلاَّ أربعةً: عبدٌ مملوك أو امرأةٌ أو صبيٌّ أو مريضٌ" (¬1). ويلحق بالمريض من يقوم على عنايته إِذا دعَت الحاجة إِلى ذلك، فعن إِسماعيل بن عبد الرحمن "أنَّ ابن عمر -رضي الله عنهما- دُعي يوم الجمعة وهو يتجهّز للجمعة إِلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو يموت، فأتاه وترَك الجمعة". وفي رواية ... : "مرض في يوم الجمعة فركب إِليه بعد أن تعالى النهار واقتربت الجمعة وترك الجمعة" (¬2) ويستثنى من ذلك أيضاً المسافر لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليس على مسافر جمعة" (¬3)، ولقول عمر لأحدهم: "اخرُج؛ فإِنَّ الجمعة لا تحبس عن سفر" (¬4). "وقد دلّ الاستقراء على أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سافر هو وأصحابه في الحج وغيره، فلم يصلِّ أحدٌ منهم الجمعة مع اجتماع الخلق الكثير" (¬5). ويستثنى من ذلك أيضاً كلّ معذور أُذن له أن يترك الجماعة لعُذر المطر أو الوحل أو البرد ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (942) وغيره وانظر"الإِرواء" (592). (¬2) كذا في "الإِرواء" (552)، وقال شيخنا فيه: أخرجه البخاري والبيهقي، وأخرجه الحاكم ... بلفظ: "أنَّه استصرخ في جنازة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو خارج من المدينة يوم الجمعة، فخرج إِليه ولم يشهد الجمعة". (¬3) تقدّما في باب السفر يوم الجمعة. (¬4) تقدّما في باب السفر يوم الجمعة. (¬5) انظر "الإِرواء" (594).

أداء الجمعة في المسجد الجامع:

فعن عبد الله بن عبّاس -رضي الله عنهما- أنَّه قال لمؤذِّنه في يوم مطير: إِذا قلت: "أشهد أن لا إِله إلاَّ الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلّوا في بيوتكم، قال: فكانّ الناس استنكروا ذاك فقال: أتعجبون من ذا؟ قد فعل ذا مَن هو خير منّي؛ إِنَّ الجمعة عَزْمَة (¬1) وإني كرهتُ أن أُخرجكم فتمشوا في الطين والدَّحْضِ (¬2) " (¬3). وعن أبي المليح عن أبيه أنّه شهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمن الحديبية في يوم جمعة وأصابهم مطر؛ لم تبتلّ أسفل نعالهم فأَمَرهم أن يصلّوا في رحالهم" (¬4). أداء الجمعة في المسجد الجامع: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان الناسُ ينتابون يومَ الجُمعة (¬5) من منازلهم العوالي (¬6) ... " (¬7). وقال عطاء (¬8) إِذا كنت في قرية جامعة؛ فنُوديَ بالصلاة من يوم الجمعة ¬

_ (¬1) أي: واجبة متحتمة ضد الرخصة. (¬2) قال النووي: الدحض والزلل والزلق ... كله بمعنى واحد. (¬3) أخرجه البخاري: 616، ومسلم 699 وهذا لفظه، وتقدّم. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (932)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (764)، وانظر "الإرواء" (2/ 341). (¬5) أي: أتونها ويقصدونها، وفي "الفتح" أي: يحضرونها نوباً، وفي رواية: يتناوبون. (¬6) هي القرى التي حول المدينة على أربعة أميال فصاعداً منها. (¬7) أخرجه البخاري: 902، ومسلم: 847 (¬8) قال عطاء: وصَله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه.

فحقٌّ عليك أن تشهدها، سمعْتَ النداء أو لم تسمعه (¬1)، وكان أنس (¬2) -رضي الله عنه- في قصره أحياناً يُجمِّعُ، وأحياناً لا يُجمِّع، وهو بالزاوية (¬3) على فرسخين". وجاء في "الإِرواء" (3/ 81) برقم (625) -بحذف-: "حديث أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاءه لم يقيموا إلاَّ جمعة واحدة"، صحيح متواتر كذا قال ابن الملقن في "البدر المنير" (ق 52/ 1) ويعني: التواتر المعنوي، وإلاَّ فإِنّي لا أعرف حديثاً واحداً بهذا اللفظ، وما أظن المؤلّف أراد أنَّ هذا اللفظ وارد، بل هو مأخوذ بالاستقراء كما قال الحافظ في "التلخيص" (ص 132) قال: فلم يكن بالمدينة مكان يجمع فيه إِلا مسجد المدينة، وبهذا صرّح الشافعي فقال: "ولا يُجمع في مصر وإن عظُم، ولا في مساجد إِلا في مسجد واحد، وذلك لأنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والخلفاء بعده لم يفعلوا إلاَّ كذلك". وروى ابن المنذر عن ابن عمر أنّه كان يقول: لا جمعة إلاَّ في المسجد الأكبر الذي يُصلّي فيه الإِمام، وروى أبو داود في "المراسيل" عن بكير بن الأشج أنَّه كان بالمدينة تسعة مساجد مع مسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يسمع أهلها تأذين بلال، فيصلّون في مساجدهم، زاد يحيى بن يحيى في روايته: "ولم يكونوا يصلّون في شيء من تلك المساجد إلاَّ في مسجد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". أخرجه البيهقي في "المعرفة". ¬

_ (¬1) يُفهم جواز عدم تلبية نداء الصلوات المكتوبة إِذا لم يسمعها. (¬2) وكان أنس -إِلى قوله- لا يُجمّع: وصله مسدد في مسنده الكبير عن أبي عوانة عن حميد بهذا. "فتح" (2/ 385). (¬3) الزاوية: موضع ظاهر البصرة معروف، كانت فيه وقعه كبيرة بين الحجاج وابن الأشعث. "فتح" (2/ 385).

وقتها:

ويشهد له صلاة أهل العوالي مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمعة كما في "الصحيح" ... ". وقتها: قال شيخنا في "الأجوبة النافعة" (ص20 - 25) -بتصرف-: للأذان المحمدي وقتان: الأول: بعد الزوال مباشرة، وعند صعود الخطيب. والآخر: قبل الزوال عند صعود الخطيب أيضاً، وهذا مذهب أحمد بن حنبل -رحمه الله- وغيره. أما الأوّل فدليله حديث السائب بن يزيد: "أنّ الأذان كان أوله حين يجلس على المنبر" (¬1). فهذا صريح في أنّ الأذان كان حين قيام سبب الصلاة، وهو زوال الشمس عن وسط السماء، مع جلوس الإِمام على المنبر في ذلك الوقت، ويشهد لهذا [ما ثبت] عن سعد القَرَظ مؤذّن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أنَّه كان يؤذّن يوم الجمعة على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إِذا كان الفيء مثل الشراك (¬2) " (¬3). أخرجه ابن ماجه (1/ 342)، والحاكم: (3/ 607). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 912، وخرّجه شيخنا وجمع ألفاظه وطرقه وزياداته في "الكتاب المشار إِليه" (ص 8). (¬2) الشراك: أحد سُيور النعل التي تكون على وجهها، وقدْره ها هنا ليس على معنى التحديد، ولكن زوال الشمس لا يبين إلاَّ بأقلّ ما يُرى من الظلّ ... والظلّ يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. "النهاية". (¬3) وذلك يكون أول ما يظهر زوال الشمس وهو المراد. قاله أبو الحسن السندي على ابن ماجه.

الأحاديث في الوقت الآخر (قبل الزوال):

وقال الحافظ ابن حجر: في النسائي: أن خروج الإِمام بعد الساعة السادسة وهو أول الزوال (¬1). الأحاديث في الوقت الآخر (قبل الزوال): وأمّا الوقت الآخر ففيه أحاديث: 1 - عن سلمة بن الأكوع قال: "كنّا نُجمِّع (¬2) مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا زالت الشمس، ثمَّ نرجع نتتبع الفيء" (¬3). 2 - عن أنس "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلّي الجمعة حين تميل الشمس" (¬4). ¬

_ (¬1) قال شيخنا في التعليق: في "تلخيص الحبير" (4/ 580) وهو يشير بذلك إِلى حديث أبي هريرة مرفوعاً: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرّب بدنة ... " الحديث، وفيه: "ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة، فإِذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر"، وهو في "الصحيحين" أيضاً .... وقد ناقش السندي ما ذكره الحافظ أن خروج الإِمام بعد الساعة السادسة فقال: "ولا يخفى أن زوال الشمس في آخر الساعة السادسة وأول الساعة السابعة، ومقتضى الحديث أن الإِمام يخرج عند أول الساعة السادسة، ويلزم منه أن يكون خروج الإِمام قبل الزوال فليتأمل"، وقد أجاب عن هذا الحافظ بما تراه مشروحاً في كتابه "فتح الباري" (2/ 294) فليراجعه من يشاء .. (¬2) أي: نصلّي الجمعة. (¬3) أخرجه البخاري: 4168، ومسلم: 860 (¬4) أخرجه البخاري: 904. جاء في "عون المعبود" (3/ 300) -بحذف يسير-: إِذا مالت الشمس أي: زالت الشمس، قال الطيبي: أي يزيد على الزوال مزيداً يُحسّ ميلانها. وفي "المرقاة": أي: مالت إِلى الغروب وتزول عن استوائها بعد تحقق الزوال.

3 - عن جابر -رضي الله عنه-: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذ زالت الشمس صلّى الجمعة" (¬1). وهذه الأحاديث ظاهرة الدلالة على ما ذكَرنا، وذلك أنّه من المعلوم أنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قبل الصلاة خطبتين؛ يقرأ فيهما القرآن ويذكّر الناس؛ حتى كان أحياناً يقرأ فيها {ق والقرآن المجيد}. ففي "صحيح مسلم" (3/ 13) عن أمّ هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: "ما أخذْتُ {ق والقران المجيد} إلاَّ عن لسان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأها كلّ يوم جمعة على المنبر إِذا خطب الناس" [وتقدّم]. وصحّ عنه أنَّه قرأ فيها سورة براءة. رواه ابن خزيمة في "صحيحه" والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وغيره. فإِذا تذكَّرنا هذا علِمْنا أنّ الأذان كان قبل الزوال حتماً، وكذا الخطبة طالما أن الصلاة كانت حين الزوال، وهذا بيِّنٌ لا يخفى والحمد لله. وأصرح من هذه الأحاديث في الدلالة على المطلوب حديث جابر الآخر وهو: 4 - وعنه قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي الجمعة ثمَّ نذهب إِلى جِمالنا فنريحها حين تزول الشمس، يعني: النواضح" (¬2). فهذا صريح في أنَّ الصلاة كانت قبل الزوال، فكيف بالخطبة والأذان؟ ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن. (¬2) أخرجه مسلم: 858، وغيره. والنواضح: الإبل التي يُستقى عليها، واحدها ناضِح. "النهاية".

الآثار في الوقت الآخر (قبل الزوال):

الآثار في الوقت الآخر (قبل الزوال): ويشهد لذلك آثار من عمل الصحابة نذكر بعضها للاستشهاد بها. 1 - عن عبد الله بن سيدان السلمي قال: "شهدتُ الجمعة مع أبي بكر الصديق، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثمَّ شهِدنا مع عمر فكانت خطبته وصلاته إِلى أن أقول: انتصف النهار، ثمَّ شهدنا مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إِلى أن أقول: زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكَره" (¬1). 2 - وعن عبد الله بن سلمة قال: "صلّى بنا عبد الله الجمعة ضحى، وقال: خشيت عليكم الحرّ" (¬2). 3 - وعن سعيد بن سويد قال: "صلّى بنا معاوية الجمعة ضحى" (¬3). 4 - وعن بلال العبسي: "أن عمّاراً صلّى بالناس الجمعة، والناس فريقان: بعضهم يقول: زالت الشمس، وبعضهم يقول: لم تزُل" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 206/2)، والدارقطني (169)، قال شيخنا -حفظه الله-: وإسناده محتمل للتحسين، بل هو حسن على طريقة بعض العلماء كابن رجب وغيره. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، ورجاله ثقات غير عبد الله بن سلمة، ورجّح شيخنا حِفْظه لِما شاهد وقال: فالأرجح أن هذا الأثر صحيح، ولعله من أجل ما ذكَرنا احتجّ به الإمام أحمد ... (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة عن عمرو بن مرة عنه، قال شيخنا -حفظه الله -: وسعيد هذا لم يذكروا له راوياً غير عمرو هذا، ومع ذلك ذكره ابن حبان في "الثقات" (1/ 62). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح.

العدد الذي تنعقد به الجمعة:

5 - وعن أبي رزين قال: "كنا نصلّي مع عليّ الجمعة، فأحيانا نجد فيئاً، وأحياناً لا نجده" (¬1). العدد الذي تنعقد به الجمعة: قال الإِمام الشوكاني (¬2) -رحمه الله- في الرد على من يقول في عددها "وثلاثة مع مقيمها": هذا الاشتراط لهذا العدد لا دليل عليه قط، وهكذا اشتراط ما فوقه من الأعداد. وأمّا الاستدلال بأنّ الجمعة أقيمت في وقت كذا وعدد من حضَرها كذا؛ فهذا استدلال باطل لا يتمسّك به من يعرف كيفية الاستدلال، ولو كان هذا صحيحا لكان اجتماع المسلمين معه صلّى الله عليه وآله وسلّم في سائر الصلوات دليلا على اشتراط العدد. والحاصل أنّ صلاة الجماعة قد صحّت بواحد مع الإِمام، وصلاة الجمعة هي صلاة من الصلوات، فمن اشترط فيها زيادة على ما تنعقد به الجماعة فعليه الدليل، ولا دليل ... [و] الشروط إِنّما تثبت بأدلّة خاصّة، تدلّ على انعدام المشروط عند انعدام شرطه، فإِثبات مِثل هذه الشروط بما ليس بدليل أصلاً؛ فضلا عن أن يكون دليلاً على الشرطية؛ مجازفةٌ بالغة وجرأة على التّقوّل على الله وعلى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى شريعته. والعجب من كثرة الأقوال في تقدير العدد، حتى بلغت إِلى خمسة عشر ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة وإسناده صحيح على شرط مسلم، قال شيخنا: وهذا يدل لمشروعية الأمرين، الصلاة قبل الزوال، والصلاة بعده، كما هو ظاهر. ولهذه الأحاديث والآثار كان الإِمام أحمد -رحمه الله- يذهب إِلى جواز صلاة الجمعة قبل الزوال، وهو الحقّ كما قال الشوكاني وغيره. (¬2) "السيل الجرار" (1/ 297).

مكان الجمعة:

قولا، وليس على شيء منها دليل يستدل به قطّ؛ إلاَّ قول من قال: إِنّها تنعقد جماعة الجمعة بما تنعقد به سائر الجماعات. قال شيخنا -شفاه الله-: وهذا هو الصواب إِن شاء الله تعالى وانظر التعليق على الحديث (1204) من "الضعيفة". مكان الجمعة: يصحّ أداء الجمعة حيثما كان المرء سواءٌ أكان من أهل المدُن أو القرى أو المياه. فعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "أوّل جمعة جمّعت بعد جمعةٍ جمّعت في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجد عبد القيس؛ بجُواثى يعني من البحرين" (¬1). وروى ابن أبي شيبة في "باب من كان يرى الجمعة في القرى وغيرها" من طريق أبي رافع؛ عن أبي هريرة أنهم كتبوا إِلى عمر يسألونه عن الجمعة فكتب: "جمّعوا حيثما كنتم" (¬2). وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن مالك قال: "كان أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه المياه بين مكة والمدينة يجمّعون" (¬3). قال شيخنا في "السلسلة الضعيفة" تحت الحديث (917): وترجم له ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4371 (¬2) قال شيخنا -حفظه الله- في "الضعيفة" تحت الحديث (917)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬3) انظر "الضعيفة" تحت الحديث (917) و"تمام المنّة" (ص 332).

البخاري (أي: لحديث ابن عباس أول جمعة جمّعت ... " وأبو داود بـ "باب الجمعة في القرى". قال الحافظ: "ووجه الدلالة منه أنّ الظاهر أن عبد القيس لم يجمّعوا إلاَّ بأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي، ولأنّه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن، كما استدلّ جابر وأبو سعيد على جواز العزل بأنّهم فعلوه والقرآن ينزل، فلم يُنهَوا عنه". قلت [أي: شيخنا]-حفظه الله-: وفي هذه الآثار السلفية عن عمر ومالك وأحمد من الاهتمام العظيم اللائق بهذه الشعيرة الإِسلامية الخالدة: صلاة الجمعة، حيث أُمِروا بأدائها والمحافظة عليها حتى في القرى وما دونها من أماكن التجمع، وهذا ....... هو الذي يتفق مع عمومات النصوص الشرعية وإطلاقاتها، وبالغ التحذير من تركها -وهي معروفة- وحسبي الآن أن أذكِّر بآية من القرآن: {يا أيها الذين آمنوا إِذا نودي للصلاة من يوم الجمُعة فاسعَوا إِلى ذِكر الله وذروا البيع}، وصلاة الظهر بعدها ينافي تمامها: {فإِذا قُضيت الصلاة فانتشِروا في الأرض وابتغوا من فضْل الله}. وقال الشوكاني -رحمه الله- في "السيل الجرار" (1/ 298) -ردّاً على من يقول مشترطاً "ومسجد في مستوطن"-: "وهذا الشرط ... لم يدل عليه دليل يصلح للتمسك به لمجرد الاستحباب فضلاً عن الشرطية، ولقد كثر التلاعب بهذه العبادة وبلغ إِلى حد تَقْضِى منه العجب. والحق أنَّ هذه الجمعة فريضة من فرائض الله سبحانه وشعار من شعارات

الجمعة لا تخالف الصلوات إلا في مشروعية الخطبة قبلها:

الإِسلام وصلاة من الصلوات فمن زعم أنّه يعتبر فيها ما لا يعتبر في غيرها من الصلوات لم يسمع منه ذلك إلاَّ بدليل وقد تخصصت بالخطبة وليست الخطبة إلاَّ مجرد موعظة يتواعظ بها عباد الله فإِذا لم يكن في المكان إلاَّ رجلان قام أحدهما يخطب واستمع له الآخر ثمَّ قاما فصليا صلاة الجمعة". الجمعة لا تخالف الصلوات إِلاَّ في مشروعيّة الخطبة قبلها (¬1): وهي كسائر الصلوات لا تُخالفُها؛ لكونه لم يأت ما يدلّ على أنها تخالفها في غير ذلك، وفي هذا الكلام إِشارة إِلى ردّ ما قيل: إِنّه يُشترط في وجوبها الإِمام الأعظم، والمصر الجامع، والعدد المخصوص، فإِنّ هذه الشروط لم يدلّ عليها دليل يفيد استحبابها؛ فضلاً عن وجوبها، فضلاً عن كونها شروطاً، بل إِذا صلّى رجلان الجمعة في مكان لم يكن فيه غيرهما جماعةً، فقد فعلا ما يجب عليهما، ولولا حديث طارق بن شهاب المذكور (¬2) من تقييد الوجوب على كلّ مسلم بكونه في جماعة، ومن عدم إِقامتها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمنه في غير جماعة، لكان فعْلها فرادى مجزئاً كغيرها من الصلوات. ومن تأمَّل فيما وقع في هذه العبادة الفاضلة التي افترضها الله تعالى عليهم في الأسبوع، وجعَلها شعاراً من شعائر الإِسلام، وهي صلاة الجمعة من الأقوال الساقطة والمذاهب الزائغة والاجتهادات الداحضة، قضى من ذلك العجب، فقائل يقول: الخطبة كركعتين وإِنّ من فاتته لم تصحّ جمعته، وكأنّه لم يبلغه ما ورد عن رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلم- من طرق متعددة يقوّي ¬

_ (¬1) هذا العنوان وما يتضمنه من "الروضة الندية" (1/ 342 - 345) بحذف. (¬2) وتقدّم.

بعضها بعضاً، ويشدّ بعضها من عضد بعض أنّ: "من فاتته ركعة من ركعتي الجمعة فليضف إِليها أخرى وقد تمّت صلاته" (¬1). ولا بلَغه غير هذا الحديث من الأدلّة، وقائل يقول: لا تنعقد الجمعة إلاَّ بثلاثة مع الإِمام. وقائل يقول: بأربعة. وقائل يقول: بسبعة. وقائل يقول: بتسعة. وقائل يقول: باثني عشر. وقائل يقول: بعشرين. وقائل يقول: بثلاثين، وقائل يقول: لا تنعقد إلاَّ بأربعين. وقائل يقول: بخمسين. وقائل يقول: لا تنعقد إلاَّ بسبعين. وقائل يقول: فيما بين ذلك. وقائل يقول: بجمع كثيرٍ من غير تقييد. وقائل يقول: إِن الجمعة لا تصح إلاَّ في مصر جامع، وحده بعضهم بأن يكون الساكنون فيه كذا وكذا من آلاف، وآخر قال أن يكون فيه جامع وحمّام. وآخر قال: أنْ يكون فيه كذا وكذا، وآخر قال: إِنّها لا تجب إِلا مع الإِمام الأعظم. فإِنْ لم يوجد أو كان مختلّ العدالة بوجه من الوجوه لم تجب الجمعة ولم تشرع. ونحو هذه الأقوال التي ليس عليها أثارة من عِلم، ولا يوجد في كتاب الله تعالى ولا في سُنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرف واحد يدلّ على ما ادّعوه، من كون هذه الأمور المذكورة شروطاً لصحة الجمعة، أو فرضاً من فرائضها، أو ركناً من أركانها؛ فيالله العجب، ما يفعل الرأي بأهله، ومن يخرج من رؤوسهم من الخزعبلات الشبيهة بما يتحدّث الناس به في مجامعهم، وما يُخبرونه في أسمارهم من القصص والأحاديث الملفقة، وهي عن الشريعة المطهّرة بمعزل، والحكم بين العباد هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلّى الله عليه وآله وسلم- كما قال سبحانه: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردُّوه إلى الله ¬

_ (¬1) تقدّم، وانظر "صحيح سنن النسائي" (543).

الخطبة

والرسول} (¬1) [فالمرجع] مع الاختلاف إِلى حُكم الله ورسوله، وحُكم الله هو كتابه، وحُكم رسوله، بعد أن قبضه الله تعالى هو سنّته ليس غير ذلك، ولم يجعل الله تعالى لأحد من العباد، وإنْ بلغ في العِلم أعلى مبلغ، وجمع منه ما لا يجمع غيره، أن يقول في هذه الشريعة بشيء لا دليل عليه من كتاب ولا سنّة، والمجتهد وإنْ جاءت الرخصة له بالعمل برأيه عند عدم الدليل، فلا رخصة لغيره أن يأخذ بذلك الرأي كائنا من كان، وإني -كما علم الله- لا أزال أُكثِر التعجب من وقوع مِثل هذا للمصنّفين، وتصديره في كتب الهداية، وأمر العوامّ والمقصّرين باعتقاده والعمل به، وهو على شفا جرفٍ هار، ولم يختصّ هذا بمذهب من المذاهب ولا بقطر من الأقطار، ولا بعصر من العصور، بل تبع فيه الآخر الأول؛ كأنّه أخَذه من أمّ الكتاب، وهو حديث خرافة، وقد كثرت التعيينات في هذه العبادة كما سبقت الإِشارة إِليها بلا برهان ولا قرآن ولا شرع ولا عقل، والبحث في هذا يطول جدّاً". الخطبة تجب خطبة الجمعة لمواظبة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها وعدم ترْكه لها أبداً. قال محمّد صديق البخاري في كتابه "الموعظة الحسنة" (¬2): قد ثبت ثبوتاً يفيد القطع أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ترك الخطبة في صلاة الجمعة التي شرعها الله سبحانه وتعالى. وقد أمَر الله سبحانه في كتابه العزيز بالسعي إِلى ذِكر الله عزّ وجلّ؛ والخُطبة من ذِكر الله. ¬

_ (¬1) النساء: 59 (¬2) انظر "الأجوبة النافعة" (ص52).

تسليم الإمام إذا رقى المنبر:

قال شيخنا -حفظه الله- في "الأجوبة النافعة" (ص53) وثبوت الأمر بالسعي إِليها؛ يتضمّن الأمر بها من باب أولى، لأنّ السعي وسيلة إِليها؛ فإِذا وجبت الوسيلة، وجب المتوسَّل إِليه بالأحرى. قال محمّد صدّيق البخاري في "الموعظة الحسنة": وظاهر محافظته على ما ذكر في الخطبة وجوب ذلك، لأنَّ فعله بيان لما أجمل في آية الجمعة، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلّوا كما رأيتموني أصلي" (¬1). وقد ذهب إِلى هذا الشافعي. وقال بعضهم: مواظبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دليل الوجوب. قال في "البدر التمام": "وهو الأظهر". والقول بالوجوب هو الذي ذهب إِليه جمهور أهل العلم مستدلّين بما تقدّم، والله تعالى أعلم. تسليم الإِمام إِذا رقى المنبر: عن جابر -رضي الله عنه-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا صعَد المنبر سلَّم" (¬2). قال شيخنا -حفظه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (2076): وممّا يشهد للحديث ويقوّيه أيضاً؛ جريان عمل الخلفاء عليه، فأخرج ابن أبي شيبة عن أبي نضرة قال: "كان عثمان قد كبر، فإِذا صعَد المنبر سلّم، فأطال قدْر ما يقرأ إِنسان أمّ الكتاب". وإسناده صحيح. ثمَّ روى عن عمرو بن مهاجر: "أنَّ عمر بن عبد العزيز كان إِذا استوى على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 631، وتقدّم. (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح ابن ماجه" (910) وغيره، وانظر "الصحيحة" (2076).

استقبال المأمومين للخطيب:

المنبر سلّم على الناس وردّوا عليه". وسنده صحيح أيضاً. استقبال المأمومين للخطيب: قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الصحيحة": استقبال الخطيب من السنن المتروكة وذكَر تحته حديث رقم (2080): "كان إذا صعد المنبر؛ أَقْبَلْنا بوجوهنا إِليه". ثمَّ ذكر بعض الآثار في ذلك منها: أثر نافع من حديث ابن المبارك: "أنَّ ابن عمر كان يفرغ من سبحته يوم الجمعة قبل خروج الإِمام، فإِذا خرَج لم يقعد الإِمام حتى يستقبله"، وقال شيخنا: وهذا إِسناد جيد ... وقال شيخنا كذلك -بحذف-: وهناك آثار أخرى كثيرة، أخرجها ابن أبي شيبة في "المصنف"، وكذا عبد الرزاق في "مصنفه" (3/ 217 - 218) من ذلك عند ابن أبي شيبة عن المستمر بن الريان قال: رأيت أنساً عند الباب الأول يوم الجمعة قد استقبل المنبر، قلت [أي: شيخنا]: وإِسناده صحيح على شرط مسلم. وإنّ ممّا لا شك فيه أنّ جريان العمل بهذا الحديث من الصحابة ومن بعدهم؛ لَدليل قويّ على أنّ له أصلاً أصيلاً عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا سيما أنَّه يشهد له قول أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "جلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر وجلسنا حوله ... ". أخرجه البخاري: (921 و1465 و2842 و6427) ومسلم: (3/ 101 - 102) [وغيرهما] ". هذا وقد أورد البخاري الحديث في "باب يستقبل الإِمام القوم، واستقبال الناس الإِمام إِذا خطب، واستقبل ابن عمر وأنس -رضي الله عنهم- الإِمام".

التأذين إذا جلس الخطيب على المنبر والمؤذن الواحد يوم الجمعة.

ثمَّ أسند تحته حديث أبي سعيد. قال الحافظ في "الفتح" (2/ 402): "وقد استنبط المصنف من الحديث مقصود الترجمة، ووجه الدلالة منه أن جلوسهم حوله لسماع كلامه يقتضي نظرهم إِليه غالباً". قال: "من حكمة استقبالهم للإِمام التهيّؤ لسماع كلامه، وسلوك الأدب معه في استماع كلامه، فإِذا استقبله بوجهه وأقبل عليه بجسده وبقلبه وحضور ذهنه؛ كان أدعى لتفهُّم موعظته، وموافقته فيما شُرع له القيام لأجله". التأذين إِذا جلس الخطيب على المنبر والمؤذّن الواحد يوم الجمعة. عن السائب بن يزيد قال: "كان النداء يوم الجمعة أوّله إِذا جلس الإِمام على المنبر؛ على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فلمّا كان عثمان -رضي الله عنه- وكثُر الناس، زاد النداءَ الثالثَ على الزوراء (¬1) " (¬2). وعنه قال: "كان بلال يؤذّن إِذا جلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر يوم الجمعة، فإِذا نزَل أقام" (¬3). وعنه أيضاً: "أنَّ الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حين كثر أهل المدينة -ولم يكن للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذِّن غير ¬

_ (¬1) الزوراء: موضع بالسوق بالمدينة. (¬2) أخرجه البخاري: 912 (¬3) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1321).

خطبة الحاجة:

واحدٍ، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإِمام على المنبر" (¬1) خطبة الحاجة: من السنّة أن يستفتح الخطيب يوم الجمعة خطبته بخطبة الحاجة، وهذا نصّها: إِنَّ الحمْدَ لله، نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أَنْفسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه الله فَلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلل فلا هاديَ له، وأَشهَدُ أنْ لا إِله إلاَّ الله، وحدَه لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ مُحمَّداً عَبدهُ ورَسولهُ. {يا أيّهَا الَذينَ آمَنُواْ اتَّقُوا الله حقَّ تُقَاته ولاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسْلِموُن} (¬2). {يا أَيّهَا النَّاسُ اتَّقُوَا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِنْ نَّفْسٍ وَاحدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبثَّ مِنهُمَا رِجَالاً كَثِيراً ونساءً واتَّقُوا الله الَذِي تساءَلُونَ به والأَرْحَام إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُم رَقِيباً} (¬3). {يا أيّهَا الَذينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلحْ لَكُم أَعْمَالكُمْ ويَغْفِرْ لَكُم ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِع الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (¬4). أمَّا بعد: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 913 (¬2) آل عمران: 102 (¬3) النساء: 1 (¬4) الأحزاب: 70، 71

صفة الخطبة وما يعلم فيها:

فإِنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدْي هدْي محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وشرّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النَّار" (¬1). قال شيخنا في "تمام المنّة" (ص 335): "وكان أحياناً لا يذكر هذه الآيات الثلاث". صفة الخطبة وما يُعلّم فيها (¬2): اعلم أنَّ الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ترغيب الناس وترهيبهم، فهذا في الحقيقة هو روح الخطبة الذي لأجله شُرِعت. وأما اشتراط الحمد لله، أو الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو قراءة شيء من القرآن فجميعه خارج عن معظم المقصود، من شرعية الخطبة، واتفاق مِثل ذلك في خُطبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا يدلّ على أنّه مقصود متحتم، وشرط لازم، ولا يشكّ منصف أنّ معظم المقصود هو الوعظ دون ما يقع قبله من الحمد والصلاة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 867، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1331)، وانظر "تمام المنّة" (ص 335)، و"خطبة الحاجة" لشيخنا (ص 10)، وقال شيخنا تعليقاً عليها في "الصحيحة" في مقدّمته النافعة: وهذه الخطبة تُسمّى عند العلماء بخطبة الحاجة، وهي تشرع بين يدي كل خطبة، سواء كانت خطبة جمعة أو عيد أو نكاح أو درس أو محاضرة، ولي رسالة خاصة جمعتُ فيها الأحاديث الواردة فيها وطرقها". (¬2) هذا الموضوع وما يتضمّنه من كتاب "الموعظة الحسنة". ذكَره شيخنا -حفظه الله- مع تعليقاته الطيبة في كتاب "الأجوبة النافعة" (ص 53) وما بعدها -بتصرف يسير-.

عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد كان عرف العرب المستمر أنّ أحدهم إِذا أراد أن يقوم مقاماً ويقول مقالاً، شرع بالثناء على الله والصلاة على رسوله، وما أحسن هذا وأولاه! ولكن ليس هو المقصود، بل المقصود ما بعده. والوعظ في خطبة الجمعة هو الذي إِليه يُساق الحديث، فإِذا فَعَله الخطيب فقد فَعل الفِعل المشروع، إِلا أنّه إِذا قدّم الثناء على الله، [والصلاة] على رسوله، أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية كان أتمّ وأحسن، وأمّا قصر الوجوب بل الشرطية على الحمد والصلاة، وجعْل الوعظ من الأمور المندوبة فقط، فمِن قلْب الكلام، وإِخراجِه عن الأسلوب الذي تقبّله الأعلام. والحاصل: أن روح الخطبة هو الموعظة الحسنة، من قرآن أو غيره، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتي في خطبته بالحمد لله تعالى (¬1)، وبالشهادتين، وبسورة كاملة، فعن أمّ هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: "ما أخذْتُ {ق والقرآن المجيد} إلاَّ عن لسان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ يقرؤها كلّ يوم جمعة على المنبر إِذا خطب الناس" (¬2). والمقصود الموعظة بالقرآن، وإيراد ما يمكن من زواجره؛ وذلك لا يختصّ بسورةٍ كاملة. فعن يعلى بن أميّة -رضي الله عنه- قال: "سمعت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ على ¬

_ (¬1) قال شيخنا -حفظه الله- في التعليق: "المعروف أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يذكر اسمه الشريف في الشهادة في الخطبة، وأما أنَه كان يأتي بالصلاة عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمما لا أعرفه في حديث". (¬2) أخرجه مسلم: 872، 873. وتقدّم.

المنبر {ونادوا يا مالك} " (¬1). عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنّه منذر جيش يقول: صبّحكم ومسّاكم، ويقول: أمّا بعد، فإِنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي (¬2) هدي محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة" (¬3). وفي رواية له: "كانت خطبة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه، ثمَّ يقول على إِثر ذلك وقد علا صوته". وفيه دليل على أنّه يستحب للخطيب أن يرفع بالخطبة صوته، ويجزل كلامه، ويأتي بجوامع الكلم من الترغيب والترهيب. ويأتي بقول: (أمّا بعد). وظاهره أنَّه كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلازمها في جميع خُطَبه. وذلك بعد الحمد والثناء والتشهد ... ". وثبت أنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كل خطبة ليس فيها تشهُّد (¬4) فهي كاليد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3230، ومسلم: 871 (¬2) بضمّ الهاء وفتح الدال فيهما، وبفتح الهاء وإسكان الدال أيضاً ... قاله النووي (6/ 154). (¬3) أخرجه مسلم: 867 (¬4) هي خطبة الحاجة، انظر للمزيد من الفائدة تفصيل شيخنا -عافاه الله وشفاه- في "الصحيحة" (169).

للجمعة خطبتان:

الجذماء (¬1) " (¬2). وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلّم أصحابه في خطبته قواعد الإِسلام وشرائعه، ويأمرهم وينهاهم في خطبته إِذا عرض أمر أو نهي، كما أمر الداخل وهو يخطب أن يصلّي ركعتين؛ ويذكر معالم الشرائع في الخطبة؛ والجنّة والنار والمعاد، فيأمر بتقوى الله، ويحذّر من غضبه، ويرغّب في موجبات رضاه، وقد ورد قراءة آية، ففي حديث مسلم (862): "كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن، ويذكّر الناس". للجمعة خطبتان: عن نافع عن عبد الله قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب خطبتين يقعد بينهما" (¬3). وعن جابر بن سمرة قال: كانت للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبتان؛ يجلس بينهما، يقرأ ¬

_ (¬1) أي: كاليد المقطوعة، من الجَذْم: القطع. "النهاية". يعني: أنّ كلّ خطبة لم يُؤتَ فيها بالحمد والثناء على الله؛ فهي كاليد المقطوعة التي لا فائدة بها. قاله المناوي. قال شيخنا في "الصحيحة" (1/ 327): "ولعل هذا هو السبب أو على الأقلّ من أسباب عدم حصول الفائدة من كثير من الدروس والمحاضرات التي تُلقى على الطلاب؛ أنها لا تفتتح بالتشهد المذكور، مع حرص النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البالغ على تعليمه أصحابه إياه ... فلعلَّ هذا الحديث يذكِّر الخطباء بتدارك ما فاتهم من إِهمالهم لهذه السنّة، التي طالما نبَّهنا عليها في مقدمة هذه السلسلة وغيرها". (¬2) أخرجه أحمد والبخاري في "التاريخ" وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (4052) وابن حبان وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (169). (¬3) أخرجه البخاري: 928

قراءة القرآن في خطبته - صلى الله عليه وسلم - وتذكير الناس:

القرآن ويذكّر الناس" (¬1). قراءة القرآن في خطبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتذكير الناس: للحديث السابق. قيام الخطيب وعدم قعوده: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة قائماً ثمَّ يجلس" (¬2). وعن سماك قال: أنبأني جابر بن سمرة؛ "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قائماً، ثمَّ يجلس، ثمَّ يقوم فيخطب قائماً، فمن نبّأك أنَّه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد والله! صلّيت معه أكثر من ألفي صلاة" (¬3). عن كعب بن عُجْرَة قال: "دخل المسجد وعبد الرحمن بن أمّ الحكم يخطب قاعداً. فقال: انظروا إِلى هذا الخبيث يخطب قاعداً. وقال الله تعالى: {وإِذا رأوا تِجَارَةً أو لَهْواً انْفَضُّوا إلَيْها وتَرَكُوك قَائماً} " (¬4). رفع الصوت بالخطبة واشتداد غضب الخطيب: عن جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتدّ غضبه حتى كأنّه منذر جيش، يقول: صبّحكم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 862، وتقدّم. (¬2) أخرجه البخاري: 920، ومسلم: 861 (¬3) أخرجه مسلم: 862 (¬4) أخرجه مسلم: 864

قطع الإمام الخطبة للأمر الطارئ يحدث:

ومسّاكم (¬1)، .. ويقول: بُعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: أمّا بعد: فإِنَّ خْير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمّد وشرّ الأمور محدثاتها وكلّ بدعة ضلالة، ثمَّ يقول: أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله ومن ترك ديناً أو ضَياعاً فإِليّ وعليّ" (¬2). قطع الإِمام الخطبة للأمر الطارئ يحدث: عن بريدة -رضي الله عنه- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب فجاء الحسن والحسين -رضي الله عنهما- وعليهما قميصان أحمران يعثُران فيهما، فنزل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقطع كلامه، فحملهما ثمَّ عاد إِلى المنبر ثمَّ قال: صدق الله {إِنّما أموالُكم وأولادُكم فتنة} (¬3) رأيت هذين يعثُران في قميصيهما، فلم أصبر حتى قطعْتُ كلامي فحملْتُهما" (¬4). وعن أبي رفِاعة قال: "انتهيت إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يخطب قال: فقلت يا رسول الله رجل غريب؛ جاء يسأل عن دينه لا يدرى ما دينه، قال: فأقبَل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وترك خطبته حتى انتهى إِليّ، فأُُتي بكرسي حَسِبتُ قوائمه حديداً قال: فقعد عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجعل يعلّمني ممّا علّمه الله، ثمَّ أتى ¬

_ (¬1) بعض حديث رواه مسلم (867)، وتقدّم. (¬2) أخرجه مسلم: 867 (¬3) التغابن: 15 (¬4) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (981)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1340)، وانظر "تمام المنّة" (336).

حرمة الكلام أثناء الخطبة:

خطبته فأتمّ آخرها" (¬1). حُرمة الكلام أثناء الخطبة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصِت والإِمام يخطب فقد لغوت" (¬2). عن عبد الله بن عمرو عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يحضر الجمعة ثلاثة نفر: رجل حضَرها يلغو وهو حظّه منها، ورجل حضَرها يدعو فهو رجل دعا الله عزّ وجلّ، إِنْ شاء أعطاه وإِنْ شاء منَعه، ورجل حضَرها بإِنصات وسكوت، ولم يتخطّ رقبة مسلم، ولم يؤذ أحداً، فهي كفّارة إِلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأنّ الله عزّ وجلّ يقول: {من جاء بالحسنة فله عشرُ أمثالها} (¬3) " (¬4). وعن أبي ذر أنه قال: "دخلتُ المسجد يوم الجمعة والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فجلست قريباً من أُبيِّ بن كعب، فقرأ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سورة (براءة)، فقلت لأُبيٍّ: متى نزلت هذه السورة؟ قال: فتجهّمني (¬5)، ولم يكلّمني، ثمَّ مكثتُ ساعةً، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 876 (¬2) أخرجه البخاري: 934، ومسلم: 851 (¬3) الأنعام: 160 (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (984)، وابن خزيمة في "صحيحه"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (722). (¬5) أي: قطب وجهه وعبس، ونظر إِليَّ نظر المغضب المنكر، قاله المنذري في "الترغيب والترهيب".

جواز كلام المصلين إذا لم يخطب الإمام وإن جلس على المنبر:

ثمَّ سألته؟ فتجهّمني، ولم يكلّمني. ثمَّ مكثتُ ساعة، ثمَّ سألته؟ فتجهّمني، ولم يكلّمني. فلمّا صلّى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلت لأُبيّ: سألتك فتجهّمتني، ولم تكلّمني؟ قال أُبيّ: مالك من صلاتك إلاَّ ما لغوت! فذهبتُ إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا نبيّ الله كنتُ بجنب أُبيّ وأنت تقرأ (براءة)، فسألته: متى نزلت هذه السورة؟ فتجهّمني، ولم يكلّمني، ثمَّ قال: مالك من صلاتك إلاَّ ما لغوت! قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدق أُبيُّ" (¬1). ورجّح النووي -رحمه الله- في "المجموع" (4/ 524) تحريم تشميت العاطس كردّ السلام والإِمام يخطب. قال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنّة" (ص 339): "وهذا هو الأقرب لما ذكرْتُه في "الضعيفة" تحت الحديث (5665). ثمَّ وجدت لابن المنذر في "الأوسط" (4/ 73) قولاً في ذلك: "ثبتَ أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا قلت لصاحبك: أنصت والإِمام يخطب فقد لغوت"، فالإِنصات يجب على ظاهر السنّة، وإباحة رد السلام وتشميت العاطس غير موجود بحجة، والذي أرى أن يرد السلام إِشارة، ويشمت العاطس إِذا فرغ الإِمام من خطبته". جواز كلام المصلّين إِذا لم يخطب الإِمام وإِن جلسَ على المنبر: عن ثعلبة بن أبي مالك: "إِنّهم كانوا يتحدثون حين يجلس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على المنبر، حتى يسكت المؤذن، فإِذا قام عمر ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (717، 718).

الأمر بالتحية في خطبة الجمعة:

على المنبر، لم يتكلم أحد حتى يقضي خطبتيه كلتيهما" (¬1). الأمر بالتحية في خطبة الجمعة: عن جابر بن عبد الله قال: "دخل سليك الغطفاني المسجد يوم الجمعة ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اركع ركعتين، ولا تعودنَّ لمثل هذا. يعني: الإِبطاء عن الخطبة، قاله لسليك الغطفاني" (¬2). عدم إِطالة الموعظة يوم الجمعة: عن جابر بن سمرة السوائي قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إِنما هنّ كلمات يسيرات" (¬3). عن أبي وائل قال: "خطبنا عمّار فأوجز وأبلغ، فلمّا نزل قلنا يا أبا اليقظان! لقد أبلغتَ وأوجزتَ فلو كنت تنفّست (¬4) فقال: إِنّي سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إِنَّ طول صلاة الرجل وقِصَر خطبته مئنّة (¬5) مِن فقهه، فأطيلوا الصلاة ¬

_ (¬1) قال شيخنا في "السلسلة الضعيفة" تحت الحديث (87): أخرجه مالك في "موطئه" (1/ 126)، والطحاوي (1/ 217) والسياق له، وابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 201)، وإسناد الأولين صحيح. فثبت بهذا أن كلام الإِمام هو الذي يقطع الكلام، لا مجرد صعوده على المنبر، وأنّ خروجه عليه لا يمنع من تحية المسجد". (¬2) أخرجه ابن حبان، والدارقطني، وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (466). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (979) وغيره. (¬4) أي: أَطَلْت. "النهاية". (¬5) أي: علامة يتحقّق فيها من فقهه.

هل يصلي الظهر إذا لم يصل الجمعة؟

واقصُروا الخطبة، وإنَّ من البيان سحرا" (¬1). وعن جابر بن سمرة قال: كنت أصلّي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكانت صلاته قصداً (¬2) وخطبته قصداً" (¬3). وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكثر الذكر ويُقلّ اللغو، ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة، ولا يأنف أن يمشيَ مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة" (¬4). هل يصلّي الظهر إِذا لم يصلِّ الجمعة؟ إِذا كان المرء ممّن تجب عليهم صلاة الجمعة، ولم يصلِّها، وليس له عُذرٌ في ذلك، فلا يجوز له أن يصلّي الظهر بدلاً منها، وإنّما ذلك للمعذور. ماذا إِذا فاتته ركعة من الجمعة؟ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أدرك من الجُمُعة ركعة؛ فليَصِلْ إِليها أُخرى" (¬5). وعنه -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أدرك ركعة من الصلاة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 869 (¬2) وهو الوسط بين الطرفين الذي لا يميل إِلى أحد طرفي الإفراط والتفريط. "النهاية". (¬3) أخرجه مسلم: 866 (¬4) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1341) والدارمي وغيرهما، وانظر "المشكاة" (5833). (¬5) أخرجه ابن ماجه "صحيح ابن ماجه" (920) والنسائي وغيرهما، وانظر "الإرواء" (622).

الصلاة في الزحام:

فقد أدرك الصلاة" (¬1). وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أو غيرها فقد أدرك الصلاة" (¬2). وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "من أدرك من الجمعة ركعة فليُضف إِليها أخرى، ومن فاتته الركعتان؛ فليُصلِّ أربعاً" (¬3). وقال ابن عمر: "إِذا أدركت من الجمعة ركعة، فأضِف إِليها أُخرى، وإِن أدركتهم جلوساً فصلِّ أربعاً" (¬4). الصلاة في الزحام: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: " ... إِذا اشتدّ الزحام، فليسجد الرجل منكم عى ظهر أخيه" (¬5). قال ابن المنذر في "الأوسط" (4/ 105): "وبقول عمر بن الخطاب نقول: لأنه سجود في حال ضرورة على قدْر طاقة الساجد، ولم يكلّف المصلّي إِلا قدر طاقته". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 580، 579، 556، ومسلم: 607 (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح ابن ماجه" (922) وغيره، وانظر "الإِرواء" (622). (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" وغيره بسند صحيح، وانظر "تمام المنّة" (ص340). (¬4) أخرجه البيهقي (3/ 204)، وقال شيخنا في "الإِرواء" (3/ 83) سنده صحيح على شرط الشيخين. (¬5) صحّحه شيخنا في "تمام المنّة" (ص341).

التطوع قبل الجمعة وبعدها:

التطوع قبل الجمعة وبعدها: عن أبي هريرة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من اغتسل، ثمَّ أتى الجمعة، فصلّى ما قُدِّر له، ثمَّ أنصت حتى يفرغ من خطبته. ثمَّ يُصلّي معه، غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام" (¬1). فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فصلّى ما قُدِّر له" يُفهم جواز التنفّل من غير حصر، حتى يحضر الإِمام. أمّا ما يسمّى بسنّة الجمعة القبلية فلا أصل له ألبته. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "أمّا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإِنَّه لم يكن يصلّي قبل الجمعة بعد الأذان شيئاً، ولا نقَل هذا عنه أحد، فإِنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يُؤذَّن على عهده إلاَّ إِذا قعد على المنبر، ويؤذِّن بلال، ثمَّ يخطب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخطبتين، ثمَّ يقيم بلال فيصلّي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناس، فما كان يمكن أن يصلّي بعد الأذان، لا هو ولا أحد من المسلمين الذين يصلّون معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا نقَل عنه أحد أنَّه صلى في بيته قبل الخروج يوم الجمعة، ولا وقَّتَ بقوله: صلاة مقدّرة قبل الجمعة، بل ألفاظه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها الترغيب في الصلاة إِذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة؛ من غير توقيت. كقوله: "من بكّر وابتكر ومشى ولم يركب، وصلّى ما كُتب له" (¬2). وهذا هو المأثور عن الصحابة، كانوا إِذا أتوا المسجد يوم الجمعة، يُصلّون من حين يدخلون ما تيسر، فمنهم من يصلّي عشر ركعات، ومنهم من يصلّي اثنتي عشر ركعة، ومنهم من يصلّي ثمان ركعات، ومنهم من يصلّي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 857، وتقدّم. (¬2) انظر "صحيح الترغيب والترهيب" (687 و685)، بلفظ: "فيركع ما بدا له".

أقل من ذلك. ولهذا كان جماهير الأئمة متّفقين على أنّه ليس قبل الجمعة سنّة مؤقتة بوقت، مقدرة بعدد، لأنَّ ذلك إِنّما يثبت بقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو فِعله. وهو لم يسنّ في ذلك شيئاً لا بقوله ولا فعله، وهذا مذهب مالك، ومذهب الشافعي وأكثر أصحابه، وهو المشهور في مذهب أحمد. وذهب طائفة من العلماء إِلى أنّ قبلها سنّة، فمنهم من جعلها ركعتين، كما قاله طائفة من أصحاب الشافعي، وأحمد ومنهم من جعلها أربعاً، كما نقل عن أصحاب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب أحمد وقد نُقِل عن الإمام أحمد ما استدلّ به على ذلك، وهؤلاء منهم من يحتجّ بحديث ضعيف ... ثمَّ أجاب على ذلك ... " (¬1). وقال ابن القيّم في "زاد المعاد" (1/ 432): " ... فإِنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج من بيته، فإِذا رَقِي المنبر، أخذ بلال في أذان الجمعة، فإِذا أكمله، أخذ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخطبة من غير فصل، وهذا كان رأي عين، فمتى كانوا يُصلّون السُّنّة؟! ومن ظن أنهم كانوا إِذا فرغ بلال -رضي الله عنه- من الأذان، قاموا كلُّهم، فركعوا ركعتين، فهو أجهلُ الناس بالسنّة". وأمّا بعدها فله أن يصلّي أربعاً أو اثنتين؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كان منكم مصليّاً بعد الجمعة فليصلِّ ¬

_ (¬1) "الفتاوى" (24/ 188) ونقلَه السيد سابق في "فقه السنّة" (1/ 315 - 316).

اجتماع الجمعة والعيد في يوم واحد

أربعاً " (¬1). ولحديث ابن عمر أنَّه وصفَ تطوُّع صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فكان لا يصلّي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلّي ركعتين في بيته" (¬2). وعن ابن عمر قال: "كان إذا كان بمكة فصلّى الجمعة، تقدّم فصلّى ركعتين، ثمَّ تقدم فصلّى أربعاً، وإِذا كان بالمدينة صلّى الجمعة، ثمَّ رجع إلى بيته فصلى ركعتين، ولم يصلّ في المسجد، فقيل له فقال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل ذلك" (¬3). اجتماع الجمعة والعيد في يوم واحد عن إِياس بن أبي رملة الشامي قال: "شهدْتُ معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم قال: أشهدتَ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلّى العيد، ثمَّ رخّص في الجمعة فقال: من شاء أن يصليَ فليصلّ" (¬4). وعن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنِّه قال: "قد اجتمع في يومكم هذا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 881 (¬2) أخرجه مسلم: 882، وهو في البخاري: 937، 1165، 1172، 1185 دون قوله: في بيته. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1000) والبيهقي، وانظر "تمام المنّة" (ص 342). (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (945)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1082)، وانظر "تمام المنّة" (ص 343 - 344).

عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنّا مجمِّعون (¬1) " (¬2). وعن عطاء بن أبي رباح قال: "صلّى بنا ابن الزبير في يوم عيد، في يوم جمعة أوّل النهار، ثمَّ رُحْنا إِلى الجمعة، فلم يخرج إِلينا، فصلينا وُحْدَاناً. وكان ابن عباس بالطائف، فلمّا قدم ذكَرنا ذلك له، فقال: أصاب السنّة" (¬3). وعن عطاء أيضاً: اجتمع يوم جمعة ويوم فطر، على عهد ابن الزبير فقال: "عيدان اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما جميعاً، فصلاّهما ركعتين بُكْرة، لم يزد عليهما حتى صلّى العصر" (¬4). وهذا يدل على أنَّه لم يُصلّ الظهر. ¬

_ (¬1) أي: مصلّو الجمعة. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (948)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1083) وغيرهما. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (946)، وانظر "الأجوبة النافعة" (ص 50). (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (947).

صلاة العيدين

صلاة العيدين حكمها: صلاة العيدين واجبةٌ لمواظبة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها وأمْره الرجال والنساء أن يخرجوا لها. فعن أمّ عطيّة قالت: "أمَرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نُخرجهنّ في الفطر والأضحى: العواتق (¬1) والحُيّض وذواتِ الخدور (¬2) فأمّا الحُيَّض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت يا رسول الله: إِحدانا لا يكون لها جلباب، قال: لتُلبِسْها أختها من جلبابها" (¬3). وجاء في "الروضة الندية" (1/ 357) -بحذف-: "قد اختلف أهل العلم هل صلاة العيد واجبة أم لا؟ والحقّ الوجوب، لأنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع ملازمته لها قد أمَرنا بالخروج إِليها كما في حديث أمرِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للناس أن يغدوا إِلى مصلاهم، بعد أن أخبره الركب برؤية الهلال (¬4) وثبت في الصحيحين من ¬

_ (¬1) العواتق: جمع عاتق أي: شابّة أول ما أدركت فخدرت في بيت أهلها ولم تفارق أهلها إلى زوج ... وفي "الموعب" قال أبو زيد: العاتق من النساء التي بين التي قد أدركت وبين التي عنست، والعاتق التي لم تتزوج ... "عمدة القارئ" (4/ 303). (¬2) وذوات الخدور: جمع خِدْر: وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه، وقال ابن سيرين: الخِدْر: ستر يُمدّ للجارية في ناحية البيت، ثمَّ صار كلّ ما واراك من بيت ونحوه خِدْراً ... "عمدة". (¬3) أخرجه البخاري: 324، 351، 971، ومسلم: 890 (¬4) يشير بذلك إِلى حديث أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قالوا: =

حديث أم عطية [المتقدّم] قالت: ... وذكره. قال: فالأمر بالخروج يقتضي الأمر بالصلاة لمن لا عذر لها بفحوى الخطاب، والرجال أولى من النساء بذلك. بل ثبت الأمر القرآني بصلاة العيد كما ذكره أئمّة التفسير في قوله تعالى: {فَصَل لِرَبِّكَ وانْحر} (¬1) فإِنّهم قالوا: المراد صلاة العيد. ومن الأدلّة على وجوبها أنها مسقطة للجمعة إِذا اتفقتا في يوم واحد، وما ليس بواجب لا يُسقِط ما كان واجباً". وفيه (1/ 358): " ... وعند أبي حنيفة تجب صلاة العيد على كل من تجب عليه صلاة الجمعة ويشترط لِصلاة العيد ما يشترط للجمعة، كذا في "المسوى" (1/ 222 - 223) وغيره". انتهى. قال شيخنا (¬2) -حفظه الله- في "الصحيحة": (وجوب خروج النساء إِلى مصلّى العيد)، وذلك تحت حديث رقم (2408) عن أخت عبد الله بن رواحة الأنصاري عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: وجب الخروج على كل ذات ¬

_ = "غمّ علينا هلال شوّال فأصبحنا صياماً، فجاء ركْبٌ من آخر النهار، فشهدوا عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمَر النّاس أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد". أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2051)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1466)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1340)، وأحمد، وغيرهم وصحّحه شيخنا -حفظه الله- في "الإِرواء" (634). (¬1) الكوثر: 2 (¬2) وانظر ما قاله في "تمام المنّة" (ص 344)، وفيه إشارة إِلى "السيل الجرار" (1/ 315).

آداب يوم العيدين

نطاق. يعني في العيدين (¬1). آداب يوم العيدين لُبْس الثياب الجميلة: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبس يوم العيد بردة حمراء" (¬2). الأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى: عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات [ويأكلهن وترا] " (¬3). ¬

_ (¬1) قال شيخنا حفظه الله -بحذف-: "ورجاله ثقات، رجال الشيخين، غير المرأة القيسية، فلم أعرفها. لكن يشهد للحديث حديث أم عطية مرفوعاً: "لتخرج العواتق وذوات الخدور والحيض، فيشهدن الخير ودعوة المؤمنين، ويعتزلن الحيَّض المصلّى". أخرجه البخاري، والبيهقي وروى ابن أبي شيبة (2/ 182) عن طلحة اليامي أيضاً قال: قال أبو بكر: "حقٌّ على كل ذات نطاق الخروج إِلى العيدين". ورجاله ثقات رجال الشيخين". (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" وقال شيخنا: " ... وهذا إِسناد جيد"، وانظر "الصحيحة" (1279). (¬3) أخرجه البخاري: 953، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (447)، وابن ماجه "صحيح ابن ماجه" (1421)، والزيادة عند البخاري معلّقة وصَلها ابن خزيمة والإِسماعيلي وغيرهما، وانظر "الفتح" (2/ 447)، و"مختصر البخاري" (1/ 233).

تأخير الأكل يوم الأضحى ليأكل من أضحيته:

تأخير الأكل يوم الأضحى ليأكل من أضحيته: عن بريدة قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل، وكان لا يأكل يوم النحر حتى يرجع" (¬1). الخروج إلى المصلّى: تُؤدَّى صلاة العيد في المصلّى لما تقدّم من الأحاديث. خروج النساء والصبيان: لحديث أم عطيّة المتقدّم: "أمَرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نخرجهنّ في الفطر والأضحى: العواتق والحُيَّض وذوات الخدور ... ". وعن ابن عبّاس قال: "خرجتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فِطرٍ أو أضحى، فصلّى ثمَّ خطب، ثمَّ أتى النساء فوعظهنّ وذكَرهنّ وأمرهنّ بالصدقة" (¬2). مخالفة الطريق: يُستحَبّ مخالفة الطريق يوم العيد، فيذهب في طريق ويرجع في آخر. فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا كان يوم عيد خالف الطريق" (¬3). وعن أبي هريرة قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خرج إِلى العيدين رجع في غير ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1422)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (447)، وانظر "المشكاة" (1440). (¬2) أخرجه البخاري: 975، ومسلم: 884، 886 (¬3) أخرجه البخاري: 986

وقت صلاة العيد:

الطريق الذي خرج فيه" (¬1) وقت صلاة العيد: يدخل وقت صلاة عيد الفطر عند ارتفاع الشمس (¬2) ويكون ذلك حين تكون الشمس على قيد رمحين، والأضحى على قيد رُمح (¬3). عن عبد الله بن بسر؛ أنَّه خرج مع الناس في يوم عيد فطر أو أضحى، فأنكر إِبطاء الإِمام (¬4)، وقال: "إِنّا كنّا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فرغنا (¬5) ساعتنا هذه (¬6)، وذلك حين التسبيح (¬7) " (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1301)، والترمذي، وانظر "الإِرواء" (3/ 104 - 105). (¬2) انظر "الإرواء" (3/ 100). (¬3) وقد وَرَد في هذا حديث مرفوع، وقال الشوكاني: هذا الحديث أحسن ما ورَد في تعيين وقت صلاة العيد، قال شيخنا -حفظه الله-: "وأقول نعم لولا أنّه لا يصحّ". وانظر "تمام المنّة" (ص 347). (¬4) أي: تأخير الإِمام في الخروج إِلى المصلّى. (¬5) أي: من صلاة العيد. (¬6) أي: في مثل هذه الساعة زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬7) قال السيوطي: أي: حين يصلّي صلاة الضحى. "عون" (3/ 342). (¬8) أخرجه أبو داود وغيره، وعلقه البخاري بصيغة الجزم، وصححه الحاكم والنووي والذهبي، وهو مخرج في "الإِرواء" (3/ 101)، و"صحيح أبي داود" (1005).

هل يؤذن للعيدين أو يقام؟

هل يؤذّن للعيدين أو يُقام؟ عن عطاء عن ابن عبّاس وجابر بن عبد الله الأنصاري قالا: لم يكن يُؤذَّن يوم الفطر ولا يوم الأضحى، ثمَّ سألته بعد حين عن ذلك، فأخبرني قال: أخبرني جابر بن عبد الله الأنصاري أنْ لا أذان للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإِمام ولا بعد ما يخرج ولا إِقامة ولا نداء ولا شيء ولا نداء يومئذ ولا إِقامة" (¬1). وعنه أنَّ ابن عباس أرسل إِلى ابن الزبير أوّل ما بُويع له؛ أنه لم يكن يؤذَّن للصلاة يوم الفطر. فلا تؤذِّن لها، قال: فلم يؤذِّن لها ابن الزبير يومه. وأرسل إِليه مع ذلك: إِنّما الخطبة بعد الصلاة. وإِنَّ ذلك قد كان يُفعل. قال: فصلّى ابن الزبير قبل الخطبة" (¬2). وعن جابر بن سَمُرة؛ قال: "صلّيتُ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيدين غير مرّة ولا مرّتين؛ بغير أذانٍ ولا إِقامة" (¬3). ولا يجوز الأذان أو الإِقامة للعيدين بحالٍ من الأحوال، وليس لأحدٍ أن يزعم ضرورة ذلك؛ لبيان وقتٍ وتنبيه ساهٍ ونحو ذلك فهذا يقتضيه حال الصحابة -رضي الله عنهم- ومع ذلك لم يفعلوه، ولم يأمُرهم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فدلّ على أنّه بدعة، وبالله التوفيق. صِفة الصلاة: صَلاة العيد ركعتان، يكبّر فيها بعد تكبيرة الإِحرام، وقبل القراءة سبعاً، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 960، ومسلم: 886 وهذا لفظه، وتقدّم. (¬2) أخرجه مسلم: 886 (¬3) أخرجه مسلم: 887

وفي الثانية قبل القراءة خمساً. عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "التكبير في الفطر سبعٌ في الأولى، وخمسٌ في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما" (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنها- "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبّر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمساً" (¬2). وورد التكبير أربعاً، فعن القاسم أبي عبد الرحمن قال: حدّثني بعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عيد، فكبّر أربعاً أربعاً، ثمَّ أقبل علينا بوجهه حين انصرف قال: لا تنسوا، كتكبير الجنائز، وأشار بأصبعه، وقبض إِبهامه يعني في صلاة العيد" (¬3). وعن سعيد بن العاص: "أنه سأل أبا موسى الأشعري، وحذيفة بن اليمان: كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: كان يكبر أربعاً تكبيره على الجنائز، فقال حذيفة: صدق، فقال أبو موسى: كذلك كنت أكبِّر في البصرة حيث كنت عليهم" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني والبيهقي وغيرهما، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (1020)، و"صحيح سنن ابن ماجه" (1056)، و"الإِرواء" (3/ 108). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1018) والحاكم وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (639). (¬3) أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني" من طريقين، وحسّنه شيخنا في "الصحيحة" (2997). (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1022) وانظر "الصحيحة" (6/ 1260).

قال شيخنا في "الصحيحة" (6/ 1263): والحقّ أنّ الأمر واسعٌ في تكبيرات العيدين، فمن شاء كبّر أربعاً أربعاً بناءً على هذا الحديث والآثار التي معه (¬1)، ومن شاء كبر سبعاً في الأولى، وخمساً في الثانية بناء على الحديث المسند الذي أشار إِليه البيهقي، وقد جاء عن جمع من الصحابة، يرتقي بمجموعها إِلى درجة الصحة، كما حققته في "إِرواء الغليل" (رقم (639). والحقّ أنّ كلّ ذلك جائز، فبأيهما فعَل فقد أدّى السُّنة، ولا داعي للتعصب والفرقة، وإِن كان السبع والخمس أحب إِليّ لأنه أكثر". انتهى. وانظر "المحلّى" تحت المسألة (543) للمزيد من الاطلاع -إِن شئت- و"مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 493) (في التكبير في العيدين واختلافهم فيه)، و"مصنف عبد الرزاق" (3/ 291) (باب التكبير في الصلاة يوم العيد). والتكبير سنة لا تبطل الصلاة بتركه عمداً ولا سهواً (¬2)، قال ابن قدامة: "ولا أعلم فيه خلافاً"، ورجّح الشوكاني أنّه إِذا تركه سهواً لا يسجد للسهو (¬3). وعن حماد بن سلمة عن إِبراهيم: "أنَّ الوليد بن عقبة دخل المسجد، ¬

_ (¬1) انظرها في "الصحيحة" تحت الرقم المشار إِليه. (¬2) وسألت شيخنا -شفاه الله - عن ذلك فقال: نعم لا تبطل لأنه لا دليل أنها من الشروط أو الأركان، وإذا سها سجد وإن تعمّد أثِم. (¬3) انظر "الدراري المضية" (1/ 196)، وذكر السيد سابق -حفظه الله- بعضه في "فقه السنّة" (1/ 320).

وابن مسعود وحذيفة وأبو موسى في عرصة المسجد (¬1)، فقال الوليد: إِنّ العيد قد حضر فكيف أصنع؟ فقال ابن مسعود: يقول: الله أكبر، ويحمد الله ويثني عليه ويُصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويدعو الله، ثمَّ يكبِّر ويحمد الله ويُثني عليه، ويُصلي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويدعو الله، ثمَّ يكبِّر ويحمد الله ويُثني عليه، ويُصلّي على النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويدعو، ثمَّ يكبِّر ويحمد الله ويُثني عليه، ويُصلّي على النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ كَبِّر، واقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، ثمَّ كَبِّر واركع واسجد، ثمَّ قم فاقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، ثمَّ كَبِّر واحمد الله وأثْنِ عليه، وصلِّ على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وادْعُ، ثمَّ كَبِّر واحمد الله، وأثْنِ عليه، وصلِّ على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واركع واسجد، قال: فقال حذيفة وأبو موسى: أصاب" (¬2). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال في صلاة العيد: "بين كلّ تكبيرتين حمْدٌ لله عزّ وجلّ وثناءٌ على الله" (¬3). ¬

_ (¬1) عرصة المسجد: ساحته. (¬2) جاء في "الإرواء" (3/ 115): قال الهيثمي (2/ 205): "وإبراهيم لم يدرك واحداً من هؤلاء الصحابة وهو مرسل، ورجاله ثقات". قلت (أي: شيخنا -حفظه الله-): وقد وصله الطبراني (3/ 38/1) من طريق ابن جريج: أخبرني عبد الكريم عن إِبراهيم النخعي عن علقمه والأسود عن ابن مسعود قال: "إِنَّ بين كلّ تكبيرتين قدر كلمة". ووصله أيضاً المحاملي في "صلاة العيدين" (2/ 121) من طريق هشام عن حماد عن إِبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال في صلاة العيد: "بين كلّ تكبيرتين حمْدٌ لله عزّ وجلّ، وثناءٌ على الله". وهذا إِسناد جيد (¬3) أخرجه البيهقي وغيره وإسناده جيد، وانظر "الإرواء" (3/ 115).

القراءة فيها:

هل يرفع يديه مع كلّ تكبيرة؟ لم يثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه رفَع يديه، وقد رُوي عن عمر رفع اليدين وليس بثابت كذلك (¬1). وجاء في "المحلّى" تحت المسألة (543): "ولا يرفع يديه في شيء منها إلاَّ حيث يرفع في سائر الصلوات فقط". القراءة فيها: يقرأ الإِمام في صلاة العيد بـ {سبح اسم ربك الأعلى}، و {هل أتاك حديث الغاشية}، أو بـ {اقتربت الساعة} و {ق والقرآن المجيد}. فعن النعمان بن بشير، قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في العيدين وفي الجمعة، بـ {سبح اسم ربك الأعلى}، و {هل أتاك حديث الغاشية}. قال: وإِذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد؛ يقرأ بهما أيضاً في الصلاتين" (¬2). وعن سمُرة قال: كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في العيدين: {سبّح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك حديث الغاشية} " (¬3). وعن أبي واقد الليثي؛ قال: "سألني عمر بن الخطاب عمّا قرأ به رسول الله ¬

_ (¬1) انظر "تمام المنّة" (ص348)، و"الإرواء" (640). (¬2) مسلم: 878 (¬3) أخرجه أحمد وغيره، وإسناده صحيح، وانظر "الإِرواء" (644).

هل يصلي قبلها أو بعدها؟

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم العيد؟ فقلت: بـ {اقتربت الساعة}، و {ق والقرآن المجيد} (¬4). هل يصلّي قبلها أو بعدها؟ عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوم الفطر، فصلّى ركعتين؛ لم يُصلِّ قبلها ولا بعدها، ومعه بلال" (¬1). وقال أبو المعلّى: "سمعتُ سعيداً عن ابن عبّاس كره الصلاة قبل العيد" (¬2). وذكر الحافظ في "الفتح" (2/ 476): أقوال العديد من العلماء في هذه المسألة، وبيّن من يرى ذلك ممن لا يراه، ومن فرّق فيه بين الإِمام والمأموم. وفيه: "ونقل بعض المالكية الإِجماع على أنَّ الإِمام لا يتنفّل في المصلى، وقال ابن العربي: التنفّل في المصلّى لو فُعِل لنُقل، ومن أجازه رأى أنّه وقت مطلق للصلاة، ومن تركه رأى أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعله، ومن اقتدى فقد اهتدى". انتهى. خطبة العيد بعدها: عن ابن عباس قال: "شهدت العيد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- فكلّهم كانوا يصلّون قبل الخطبة" (¬3). ¬

_ (¬4) مسلم: 891. (¬1) أخرجه البخاري: 989، ومسلم: 884 (¬2) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به وقال الحافظ (2/ 477) ولم أقِف على أثره هذا موصولاً. (¬3) أخرجه البخاري: 962، ومسلم: 884

هل يفتتح الخطبة بالتكبير؟

وعن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج يوم الفطر والأضحى إِلى المصلّى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثمَّ ينصرف فيقوم مقابل الناس والنّاس جلوس على صفوفهم، فيعِظُهم ويوصيهم ويأمرهم، فإِنْ كان يريد أن يقطع بعْثا قطَعه أو يأمر بشيء أمر به ثمَّ ينصرف. قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك، حتى خرجْتُ مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فِطر، فلمّا أتينا المصلّى إِذا منبرٌ بناه كَثِيرُ بن الصَّلْت، فإِذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلّي، فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيَّرتم والله فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير ممّا لا أعلم فقال: إِنَّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعَلْتها قبل الصلاة" (¬1). وعن عبد الله بن السائب قال: "شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد، فلمّا قضى الصلاة قال: إِنّا نخطب؛ فمن أحبّ أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحبّ أن يذهب فليذهب" (¬2). وعن ابن عبّاس -رضي الله عنه- قال: "إِنَّ الخطبة بعد الصلاة" (¬3). هل يفتتح الخطبة بالتكبير؟ يفتتح الخطيب خطبته يوم العيد بخطبة الحاجة على الأصل، ولم يثبُت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 956، ومسلم: 889 (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1024)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1066)، وانظر "الإرواء" (629)، و"تمام المنّة" (350). (¬3) أخرجه مسلم: 886

قضاء صلاة العيد:

أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفتتح خطبتي العيد بالتكبير، وأشار ابن القيم إِلى هذا في "زاد المعاد" (¬1). قضاء صلاة العيد: عن أبي عمير بن أنس بن مالك قال: "حدّثني عمومتي من الأنصار من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: أغمي علينا هلال شوال، فأصبحنا صياماً، فجاء ركْب من آخر النهار، فشهدوا عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول الله أن يفطروا، وأن يخرجوا إِلى عيدهم من الغد" (¬2). إِذا فاتته الصلاة مع الجماعة: قال البخاري في "صحيحه": (باب إِذا فاته العيد يصلّي ركعتين)، وكذلك النساء ومن كان في البيوت والقرى، لقول النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا عيدُنا أهل الإِسلام". وأمَر أنسُ بنُ مالك مولاهم ابن أبي عُتبة بالزاوية؛ فجمع أهله وبنيه وصلّى كصلاة أهل المصر وتكبيرهم، وقال عكرمة: أهل السواد يجتمعون في العيد، يصلّون ركعتين كما يصنع الإِمام، وقال عطاء: إِذا فاته العيد صلّى ركعتين (¬3). ¬

_ (¬1) وفي "سنن ابن ماجه" وإسناده ضعيف أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبّر بين أضعاف الخطبة، قال شيخنا في "تمام المنّة" (ص351): "ومع أنّه لا يدل على مشروعية افتتاح خطبة العيد بالتكبير؛ فإِنَّ إِسناده ضعيف ... ". (¬2) انظر "صحيح سنن ابن ماجه" (1340)، و"صحيح سنن أبي داود" (1026)، و"الإرواء" (634)، وتقدّم. (¬3) وانظر "الفتح" (2/ 475) للمزيد من الفوائد الحديثية.

الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه:

الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه (¬1): عن أنس قال: "قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنّا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر" (¬2). وعن عائشة قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تُغنِّيان؛ بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث (¬3)، قالت: وليستا بمغنِّيتَين. فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا أبا بكر، إِن لكل قوم عيداً، وهذا عيدُنا" (¬4). في رواية لمسلم (892): فاقدُروا (¬5) قدْر الجارية الحديثة السنّ حريصةً على اللهو. وفي رواية قالت عائشة: دخل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعندي جاريتان تُغنيان بغناء بُعاث، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مِزمارةُ الشيطان عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! فأقبَل عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ¬

_ (¬1) هذا العنوان من تبويب النووي "لصحيح مسلم". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1004)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1465)، وانظر "الصحيحة" (2021). (¬3) أي: بالتغنّي بالأشعار التي قيلت في تلك الحرب. (¬4) أخرجه البخاري: 952، ومسلم: 892 (¬5) قال بعض العلماء: "أي قدروا رغبتها في ذلك وقيسوا قياس أمرها في حداثتها وحرصها على اللهو".

فضل العمل الصالح في أيام العشر من ذي الحجة:

دعهما فلمّا غفل غمزتُهما (¬1) فخرجتا" (¬2). وفي رواية لمسلم (892): "جاء حبشٌ يزفنون (¬3) في يوم عيدٍ في المسجد، فدعاني النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضعْت رأسي على مَنكِبه فجعلتُ أنظرُ إِلى لعبهم ... ". وعن نُبَيشْة الهُذَلي قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيّام التشريق أيّام أكل وشرب وفي رواية: وزاد فيه وذِكرٍ لله" (¬4). فضل العمل الصالح في أيّام العشر من ذي الحجّة: عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما من أيّام العمل الصالح فيها أحبّ إِلى الله من هذه الأيّام يعني أيّام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلاَّ رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" (¬5). وجاء في "الإِرواء" (3/ 398): "وفي رواية للدارمي (2/ 26) بلفظ: ما من عمل أزكى عند الله عزّ وجلّ ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر ¬

_ (¬1) الغمز: الإِشارة، كالرّمز بالعين أو الحاجب أو اليد. "النهاية". (¬2) أخرجه البخاري: 949 (¬3) حمله العلماء على التوثّب بسلاحهم ولعبهم بحرابهم على قريب من هيئة الرقص. (¬4) أخرجه مسلم: 1141 (¬5) أخرجه البخاري: 969، وأبو داود وهذا لفظه "صحيح سنن أبي داود" (2438).

استحباب التهنئة بالعيد:

الأضحى .... "، والباقي مثله، وزاد: "قال: وكان سعيد بن جبير إِذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه" (¬1). وقال ابن عبّاس: "ويذكروا اسم الله في أيّام معلومات": أيّام العشر، والأيّام المعدودات: أيّام التشريق. رواه البخاري معلّقاً مجزوماً به، وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 458) "لم أره موصولاً عنهما". وقال البخاري: (باب فضل العمل في أيام التشريق)، وقال ابن عبّاس: {واذكروا الله في أيّام معلومات}، أيّام العشر، والأيّام المعدودات أيّام التشريق. استحباب التهنئة بالعيد: عن جبير بن نفير قال: "كان أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبّل الله منا ومنكم" (¬2). التكبير في أيام العيدين: قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي في "سننه" وإسناده حسن، وانظر "الإرواء " (3/ 398). (¬2) أخرجه المحاملي في كتاب "صلاة العيدين"، وغيره وانظر "تمام المِنّة" (ص 354 - 356).

تَشْكُرُونَ} (¬1). جاء في "تفسير ابن كثير": " ... ولهذا أخَذَ كثير من العلماء مشروعيّة التكبير في عيد الفِطر من هذه الآية: {ولِتُكْمِلُوا العِدَّة ولِتُكبّروا الله على ما هَدَاكُم}، حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إِلى وجوبه؛ في عيد الفطر لظاهر الأمر في قوله: {ولِتكبّرُوا الله عَلى ما هَدَاكُم}، وفي مقابلته مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- أنّه لا يشرع التكبير في عيد الفطر، والباقون على استحبابه". وهذا في عيد الفطر، والتكبير فيه من وقت الخروج إِلى الصلاة، إِلى ابتداء الخطبة. أمّا الأضحى ففيه قوله سبحانه: {واذكروا الله في أيّام معدودات} (¬2). جاء في "الإِرواء" (3/ 121): "روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الزهري قال: كان الناس يكبّرون في العيد حين يخرجون من منازلهم؛ حتى يأتوا المصلّى وحتى يخرج الإِمام، فإذا خرج الإِمام سكتوا، فإِذا كبّر كبّروا". وفيه (ص122): " ... ثمَّ روى [أي: الفريابي] بسند صحيح عن الوليد (وهو ابن مسلم) قال: سألت الأوزاعي ومالك بن أنس عن إِظهار التكبير في العيدين؟ قالا: نعم، كان عبد الله بن عمر يظهره في يوم الفطر حتى يخرج الإِمام". وفيه (ص 123): "وقد صحّ عن الزهري مرسلاً مرفوعاً، فقال ابن أبي شيبة ¬

_ (¬1) البقرة: 185 (¬2) البقرة: 203

(2/ 1/2): حدثنا يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب عن الزهري: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج يوم الفطر فيكبّر حتى يأتي المصلّى، وحتى يقضيَ الصلاة، فإِذا قضى الصلاة قطع التكبير (¬1). وهذا سند صحيح مرسلاً، ومن هذا الوجه أخرجه المحاملي (142/ 2). وقد روي من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعاً. أخرجه البيهقي (3/ 279) من طريق عبد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله ابن عمر: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج في العيدين مع الفضل بن عباس وعبد الله والعباس وعلي وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن بن أم أيمن -رضي الله عنهم- رافعاً صوته بالتهليل والتكبير، فيأخذ طريق الحذائين حتى يأتي المصلّى، وإِذا فرغ رجع على الحذائين حتى يأتي منزله. وقال شيخنا -حفظه الله- في آخر التخريج: "فالحديث صحيح عندي موقوفاً ومرفوعاً والله أعلم". انتهى. وانظر ما جاء في "الأوسط" (4/ 249) من آثار في ذلك. ووقته في عيد الأضحى من صبح يوم عرفة إِلى عصر آخر أيام التشريق. قال شيخنا: صحّ هذا عن عليّ وابن عبّاس، وقد خرّجْتهما في "الإِرواء" (3/ 125)، ورواه الحاكم عن ابن مسعود. انتهى. والذي جاء في "الإِرواء" تحت الحديث (653): "وقد صحّ عن علي -رضي الله عنه- أنَّه كان يكبّر بعد صلاة الفجر يوم عرفة؛ إِلى صلاة العصر ¬

_ (¬1) وانظر "الصحيحة" (171).

من آخر أيّام التشريق، ويكبّر بعد العصر". وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إِلى السوق في أيّام العشر يُكبّران، ويكبّر الناس بتكبيرهما (¬1). فائدة: قال شيخنا في "الصحيحة" (1/ 331): "وفي الحديث دليل على مشروعية ما جرى عليه عمل المسلمين من التكبير جهراً في الطريق إِلى المصلّى، وإِن كان كثير منهم بدؤوا يتساهلون بهذه السنّة، حتى كادت أن تصبح في خبر كان، وذلك لضعف الوازع الديني منهم، وخجلهم من الصّدع بالسُّنة والجهر بها، ومن المؤسف أن فيهم من يتولّى إِرشاد الناس وتعليمهم، فكأن الإِرشاد عندهم محصور بتعليم الناس ما يعلمون! وأمّا ما هم بأمسّ الحاجة إِلى معرفته؛ فذلك مما لا يلتفتون إِليه، بل يعتبرون البحث فيه والتذكير به قولاً وعملاً من الأمور التافهة التي لا يحسن العناية بها عملاً وتعليماً؛ فإِنا لله وإِنا إِليه راجعون. ومما يحسن التذكير به بهذه المناسبة: أنّ الجهر بالتكبير هنا لا يُشرع فيه الاجتماع عليه بصوت واحد كما يفعله البعض، وكذلك كل ذكر يُشرع فيه رفع الصوت أو لا يُشرع؛ فلا يشرع فيه الاجتماع المذكور، ومثله الأذان من الجماعة المعروف في دمشق بـ (أذان الجوق)، وكثيراً ما يكون هذا الاجتماع سبباً لقطع الكلمة أو الجملة في مكان لا يجوز الوقوف عنده؛ مثل: "لا إِله"! في تهليل فرض الصبح والمغرب؛ كما سمعنا ذلك مراراً". ¬

_ (¬1) رواه البخاري معلّقاً بصيغة الجزم وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 458): لم أره موصولاً عنهما ...

صيغة التكبير:

فلنكن في حذر من ذلك، ولتذكر دائماً قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: "وخير الهدي هدي محمّد". صيغة التكبير: جاء في "الروضة الندية" (1/ 367): "وأمَّا صفة التكبير فأصحّ ما ورد فيه أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان قال: كبّروا، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً، قال في شرح "المنتقى" [3/ 116] نقلاً عن "الفتح" (3/ 116): وقد أُحدِث في هذا الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها. انتهى. قال الشوكاني: "والظاهر أن تكبير التشريق لا يختصّ استحبابه بعقب الصلوات، بل هو مستحبٌّ في كلّ وقت من تلك الأيام، كما تدلّ على ذلك الآثار". وجاء قبله (1/ 366): " ... ولم يثبت تعيين لفظ مخصوص ولا وقت مخصوص ولا عدد مخصوص، بل المشروع الاستكثار منه دبر الصلوات وسائر الأوقات، فما جرت عليه عادة الناس اليوم استناداً إِلى بعض الكتب الفقهية مِن جعله عقب كل صلاة فريضة ثلاث مرات، وعقب كل صلاة نافلة مرة واحدة، وقصر المشروعية على ذلك فحسب، ليس عليه أثارة من علم فيما أعلم، وأصحّ ما ورد فيه عن الصحابة أنّه من صبح يوم عرفة إِلى آخر أيام منى".

الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الجزء الثالث كتاب الزكاة والصيام والاعتكاف بقلم حسين بن عودة العوايشة المكتبة الإسلامية دار ابن حزم

بسم الله الرحمن الرحيم

الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1423 هـ -2002 م المكتبة الإسلامية ص ب (113) الجبيهة، هاتف 5342887 عمَّان - الأردن دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص ب: 6366/ 14 - تليفون: 701974

-[مقدّمة المؤلف]- إِنّ الحمد لله، نحمَدُه ونستعينهُ ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شرور أَنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه الله فَلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلل فلا هاديَ لهُ. وأَشهَد أنْ لا إله إِلاَّ الله، وحدَه لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمداً عَبدهُ ورَسولهُ. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3). أمَّا بعد: فإِنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدْي محمّد، وشرّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النَّار. فهذا هو المجلد الثالث من "الموسوعة الفقهيّة الميسَّرة في ضوء الكتاب والسُّنَّة المطهَّرة" أقدمه للقُراء الكرام، سائلاً الله -سبحانه وتعالى- أن ينفع ¬

_ (¬1) آل عمران: 102. (¬2) النساء: 1. (¬3) الأحزاب: 70، 71.

به ويتقبّله منّي، وهو متضمِّنٌ كتاب الزكاة والصيام والاعتكاف. وكنتُ قد استفدتُ من عددٍ من الإِجابات من شيخنا العلاّمة محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- من خلال مجالساته. وقد حرصتُ على الدليل الثّابت في ضوء منهج السلف الصالح، مع الإِفادة من أقوال علماء الأمّة، ورثة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد تكون المسألة خلافيّة، ولكلٍّ فيما ذهبَ إِليه دليله وفهْمه، فالأمر لا يدعو إِلى التباغُض والتنافر والاختلاف والتفرُّق والشقاق والنّزاع. فَخذ ما ترجّح لك وما تراه صواباً، دون ولاءٍ أو براءٍ أو تحزُّب أو تعصُّب، قال الله تعالى: {والذين كفروا بعضُهم أولياءُ بعض إلاَّ تفعلوهُ تكنْ فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير} (¬1). فإِذا كان هذا شأن الكفار؛ بعضهم أولياء بعض، فالفساد والفتنة جاءا مِن أمور: الأوّل: أنّ الكُفّار قد حقّقوا من التآلف؛ ما لم يبْلغه أهل الإِسلام -مع الأسف-. الثاني: أنّ اتخاذ الكُفّار بعضهم بعضاً أولياء فيه خطورةٌ على المسلمين - وهم في مرحلة التربية والمجاهدة- إِذا لم يكونوا متفرّقين، فكيف إِذا كانوا متناحِرين متنازعين! الثالث: أنّنا قد أُمِرنا أصلاً بمخالفتهم، وعدم التشبُّه بهم، فكيف إِذا لم ¬

_ (¬1) الأنفال: 73.

نبلغ ما بلغوه في شأن الولاية! فإِذا كان كذلك؛ أفلا يكون بعضنا أولياء بعض؛ ولو بتقدير الآراء وكفّ اللسان عن إِيقاع الأذى بالعلماء، أو بمن تَلقّى عنهم المسائل، وأن نُعذر مَن قد يكون له أجر واحد في فتواه، ومن أفاد منه كذلك؟! فكيف ونحن لا نعلم؟ فربّما يكون له أجران! فالأمر يدعو إِذاً إِلى المزيد من الإِعذار والتآلف والتوادّ. أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يتقبّل مني ويجعل هذا العمل في ميزاني يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلاَّ مَن أَتى الله بقلبٍ سليم. وكَتَب: حسين بن عودة العوايشة عمّان 4/ربيع الثاني/ 1421هـ

الزكاة

الزكاة الزكاة: لغةً: هي النّماء والزيادة، يقال: زَكَى الزرع يزكو، أي: نما وهي الطهارة أيضاً، وسميت الزكاة زكاةً؛ لأنه يزكو بها المال بالبركة ويطهُر بها المرء بالمغفرة (¬1). وفي الاصطلاح الشرعي: هي عبارة عن إِيجاب طائفة من المال في مالٍ مخصوص لمالك مخصوص (¬2). الزكاة رُكن من أركان الإِسلام عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ معاذاً قال: بعَثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: "إِنّك تأتي قوماً من أهل الكتاب. فادْعُهم إِلى شهادة أن لا إِله إلاَّ الله وأنِّي رسول الله، فإِنْ هُم أطاعوا لذلك، فأعلِمهم أنّ الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كلِّ يومٍ وليلة، فإِنْ هم أطاعوا لذلك، فأعلِمهم أن الله افترض عليهم صدقة؛ تُؤْخَذ من أغنيائهم فتردُّ في فقرائهم" (¬3). وقد قُرنت بالصلاة (¬4) في مواطنَ كثيرة كقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وارْكعوا مع الراكعين} (¬5). ¬

_ (¬1) طِلبة الطّلبة: ص 91. (¬2) التعريفات للشريف الجُرجاني (ص 83). (¬3) أخرجه البخاري: 1458، ومسلم: 19. (¬4) انظر ما قاله شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 6). (¬5) البقرة: 43.

الحض على أدائها والترغيب فيها

وكقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرِضوا الله قرضاً حَسَناً} (¬1). الحضّ على أدائها والترغيب فيها 1 - قال الله تعالى: {خُذ من أموالهم صدقةً تُطهّرهم وتزكّيهم بها} (¬2). 2 - وقال الله تعالى: {إِنّ المتقين في جنّات وعيون * آخذين ما آتاهم ربّهم إِنّهم كانوا قبل ذلك مُحسنين* كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون* وبالأسحار هم يستغفرون* وفي أموالهم حقّ للسائل والمحروم} (¬3). 3 - وقال تعالى: {وما آتيتم من زكاةٍ تريدون وجه الله فأولئك هم المُضْعِفُون} (¬4). المُضْعفُون: أي: يُضاعَف لهم الثواب والجزاء، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الآتي إِن شاء الله. 4 - وعن أبي كبشة الأنماري -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ثلاثٌ أُقسِم عليهنّ وأحدّثكم حديثاً فاحفظوه. قال: ما نقَص مالُ عبدٍ من صدقة، ولا ظُلم عبدٌ مظلمةً صبر عليها إلاَّ زاده الله عزّاً، ولا فَتَح عبدٌ باب مسألة إلاَّ فَتَح الله عليه باب فقر، أو كلمة ¬

_ (¬1) المزمل: 20. (¬2) التوبة: 103. (¬3) الذاريات: 15 - 19. (¬4) الروم: 39.

نحوها ... " (¬1). 5 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من تصدَّق بعَدْل (¬2) تمرة مِن كسْبٍ طيّب -ولا يقبل الله إلاَّ الطيّب- فإِن الله يتقبلها بيمينه ثم يربّيها لصاحبه كما يُربّي أحدكم فَلوَّه (¬3) حتّى تكون مثل الجبل" (¬4). وفي رواية: "إلاَّ أخَذها الرحمن بيمينه، وإنْ كانت تمرة، فتربو في كفّ الرحمن؛ حتّى تكون أعظم من الجبل" (¬5). 6 - وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله؟ أرأيتَ إِنْ أدى الرجل زكاة ماله؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أدّى زكاة ماله فقد ذهب عنه شرُّه" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والترمذي واللفظ له وقال: حديث حسن صحيح، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (14). (¬2) بعَدْل: أي: بقيمتها لأنه بالفتح: المِثل، وبالكسر -[العِدل]: الحِمل هذا قول الجمهور. "الفتح" (3/ 279). وللمزيد من الفوائد الحديثية انظر "الإِرواء" (3/ 393). (¬3) فلُوّه: الفَلُوّ: المُهر الصغير وقيل: هو العظيم من أولاد ذوات الحافر. (¬4) أخرجه البخاري: 1410، ومسلم: 1014. (¬5) أخرجه مسلم: 1014. (¬6) أخرجه الطبراني في "الأوسط" -واللفظ له- وغيره، وحسّنه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (740).

الترهيب من منعها

7 - وعن عمرو بن مُرّة الجهني -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل من قُضاعة إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إِني شهدت أنْ لا إِله إِلا الله وأنك رسول الله، وصليّتُ الصلوات الخَمْس، وصُمتُ رمضان وقمتُه، وآتيتُ الزكاة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات على هذا كان من الصدِّيقين والشهداء" (¬1). 8 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "سبعةٌ يُظلُّهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلاَّ ظلّه: إِمامٌ عدْل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلَّقٌ في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعَته امرأة ذات مَنْصِب وجمال فقال: إِنِّي أخاف الله، ورجل تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه، ورجل ذكَر الله خالياً ففاضت عيناه" (¬2). وانظر للمزيد من الأحاديث "صحيح الترغيب والترهيب" (كتاب الصدقات) "الترغيب في أداء الزكاة وتأكيد وجوبها". الترهيب من منْعها 1 - قال الله تعالى: {ولا يحسبنَّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرٌّ لهم سيُطوّقون ما بَخِلُوا به يوم القيامة} (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البزار بإِسناد حسن وابن خزيمة في "صحيحه" وابن حبان، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (745). (¬2) أخرجه البخاري: 423، ومسلم: 031 1. (¬3) آل عمران: 180.

2 - وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (¬1). 3 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من صاحب ذهب ولا فضة؛ لا يؤدّي منها حقّها إِلا إِذا كان يوم القيامة صُفِّحَت (¬2) له صفائح من نار فأُحْمي عليها في نار جهنم، فيُكوى بها جَنْبُه وجبينه وظهره. كلما بَرَدَت أُعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيَرى سبيله إِمّا إِلى الجنة وإمّا إِلى النار. قيل: يا رسول الله! فالإِبِل؟ قال: ولا صاحب إِبِل لا يؤدي منها حقّها ومِنْ حقها حَلَبها (¬3) يوم وِردها، إِلا إِذا كان يوم القيامة، بُطِحَ لها بِقَاعِ قرْقرٍ (¬4) أوفر ما كانت؛ لا يفقد منها فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها (¬5) وتعَضُّهُ بأفواهها، ¬

_ (¬1) التوبة: 34 - 35. (¬2) صُفحت: الصفيحة: كلّ عريض من حجارة أو لوح ونحوهما، ووجه كل شيء عريض. الوسيط". (¬3) حَلَبها: بفتح اللام على الراجح كما ذكر النووي رحمه الله. والمراد: يحلبها على الماء ليصب للناس من لبنها كما في "النهاية". (¬4) قرقر: القاع المستوي الواسع من الأرض تعلوه ماء السماء فيمسكه. "النووي" (7/ 64). (¬5) بأخفافها: قال النووي: الخفّ للبعير، والظلف للبقر والغنم والظُّباء، والقدم للآدمي.

كلما مرَّ عليه أُولاها ردّ عليه أُخراها؛ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيَرى سبيله إِمّا إِلى الجنة وإمّا إِلى النار. قيل: يا رسول الله! فالبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقرٍ ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلاَّ إِذا كان يوم القيامة بُطِحَ لها بقاع قرْقرٍ، لا يفقد منها شيئاً، ليس فيها عقْصَاء (¬1) ولا جَلْحَاء (¬2) ولا عَضْبَاء (¬3)، تنطِحُهُ بقرونها وتطؤه بأظْلاَفِها (¬4)، كلّما مر عليه أولاها رُدّ عليه أُخْراها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ؛ حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إِمّا إِلى الجنة وإمّا إِلى النار" (¬5). 4 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته؛ مُثّل له يوم القيامة شجاعاً (¬6) أَقْرع (¬7) لهَ زِبيبتَان (¬8) يُطوّقُه ¬

_ (¬1) عَقْصَاء: أي: ملتوية القرنين. "النهاية". (¬2) جَلْحَاء: التي لا قَرْن لها. "النهاية". (¬3) عَضْبَاء: التي انكسر قَرنْها. "شرح النووي" (7/ 65). (¬4) بأظلافها: الظلف للبقر والغنم والظباء، وهو المنشقّ من القوائم، والخفّ للبعير، والقدم للآدمي، والحافر للفرس والبغل والحمار. "شرح النووي". (¬5) أخرجه مسلم: 987، وللمزيد من الفوائد الحديثية انظر كلام شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (ص 388 - 389). (¬6) الشُّجاع: الحيّة الذَّكَر، وقيل: الذي يقوم على ذنبه ويواثب الفارس. (¬7) الأقرع: الذي تقرَّع رأسه، أي: تمعَّطَ لكثرة سمّه كذا في "الفتح" (3/ 270). وفيه: "وفي "تهذيب الأزهري": سُمّي الأقرع لأنه يُقْري السّمّ ويَجْمَعه في رأسه حتى تتمعّط فَرْوة رأسه". (¬8) قال الحافظ: تثنية زبيبة، وهما الزبَدَتَان على اللسان في الشّدقين، يُقال: =

يوم القيامة ثم يأخذ بِلِهزِمتيه (¬1) -يعني: شدقيه- ثم يقول: أنا مالُك أنا كنزُك، ثم تلا: {ولا يحسبَنّ الذين يبخلون ... } (¬2) الآية " (¬3). 5 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا معشر المهاجرين! خمسٌ إِذا ابتُليتم بهنّ، وأعوذ بالله أن تدركوهُنّ! لم تظهر الفاحشة في قومٍ قطُّ حتى يُعلنوا بها، إلاَّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع؛ التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلاَّ أُخِذوا بالسنين وشدّة المؤنَة وجَوْرِ السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاةَ أموالهم، إِلا مُنِعُوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطَروا. ولم ينقضوا عهدَ الله وعهد رسوله؛ إلاَّ سلّط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأَخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيّروا ممّا أنزل الله؛ إِلا جَعَل الله ¬

_ = تكلّم حتى زبد شدقاه، أي: خرج الزّبد منهما، وقيل: هما النكتتان السوداوان فوق عَيْنَيْه، وقيل: نقطتان يكتنفان فاه، وأورد أقوالاً غيرها. (¬1) بلِهزِمَيته: فُسّر في الحديث بالشدقين، وفي "الصحاح": هما العظمان الناتئان في اللحيين تحت الأذنين، وفي "الجامع" هما لحم الخدّين الذي يتحرّك إِذا أَكل الإِنسان. "الفتح". (¬2) آل عمران: 180. (¬3) أخرجه البخاري: 1403.

حكم مانعها

بأسهم بينهم" (¬1). حُكم مانعها من امتنع عن أداء الزكاة غير منكر وجوبها، فإِنّ للحاكم أنْ يأخذ الزكاة منه قهراً، وشطر ماله عقوبة. فعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه (¬2) قال: "لا يفرق إِبل عن حسابها (¬3)، من أعطاها مؤتجراً (¬4) فله أجرها، ومن أبى فإِنّا آخِذوها وشطر ماله، عَزْمةً (¬5) من عَزَمات ربّنا، لا يحلّ لآل محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها شيئاً" (¬6). قتال من يمنعها ولو امتنع قوم عن أدائها مع اعتقادهم وجوبها وكانت لهم قوّة ومنَعة؛ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه وأبو نعيم في "الحلية" وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (106)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (759). وانظر للمزيد من النصوص "صحيح الترغيب والترهيب" (الترهيب من منع الزكاة). (¬2) هو معاوية بن حيدة صحابي -رضي الله عنه-. (¬3) معناه: أنّ المالك لا يفرّق مُلكه عن ملك غيره؛ حيث كانا خليطين، أو المعنى: تحاسب الكلّ في الأربعين، ولا يُترَك هزال ولا سمين ولا صغير ولا كبير، نعم العامل لا يأخذ إِلا الوسط. "عون" (4/ 317). (¬4) قاصداً للأجر بإِعطائها. (¬5) العَزْمة في اللغة: الجدّ والحق في الأمر يعني: أُخذ ذلك بجدّ لأنّه واجب مفروض. قاله بعض العلماء. (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (393) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2292) وغيرهما وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (791).

فإِنّهم يقاتَلون عليها حتى يعطوها (¬1) قال الله تعالى: {فإِن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلَهم} (¬2). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إِله إلاَّ الله، وأنَّ محمّداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإِذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقِّ الإِسلام، وحسابهم على الله" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لمّا توفّي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- وكفَر من كفَر من العرب، فقال عمر -رضي الله عنه-: كيف تقاتل الناس؛ وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إِله إِلا الله، فمن قالها فقد عصَم منّي ماله ونفسه إلاَّ بحقِّه، وحسابه على الله؟! فقال: والله لأقاتلنَّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإِنَّ الزكاة حق المال، والله لو منعنوني عَناقاً (¬4) كانوا يؤدّونها إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتهم على منْعها. قال عمر -رضي الله عنه-: فوالله ما هو إلاَّ أنْ قد شَرح الله صدر أبي بكر -رضي الله عنه- فعرفتُ أنّه الحقُّ" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "فقه السنة" (1/ 333). (¬2) التوبة: 5. (¬3) أخرجه البخاري: 25، ومسلم: 22. (¬4) عَناقاً: هي الأنثى من أولاد المعز ما لم يَتِمّ له سنة. "النهاية". (¬5) أخرجه البخاري: 1399، ومسلم: 20.

على من تجب؟

وفي بعض روايات البخاري ومسلم: عِقالاً (¬1). جاء في "الروضة النديّة" (1/ 460): "قال مالك: الأمر عندنا أنّ كلّ من منَع فريضة من فرائض الله تعالى، فلم يستطع المسلمون أخذها كان حقاً عليهم جهاده حتّى يأخذوها منه، وبلغه أنّ أبا بكر الصِّدّيق -رضي الله عنه- قال: "لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه" كذا في "المسوّى"". وسألت شيخنا -رحمه الله- هل يجب على الحاكم قتال مانعي الزكاة؟ فأجاب: إِذا غلب على ظنّه الانتصار عليهم فَعل. على من تَجِب؟ تجب على كلّ مسلم (¬2) حرّ مالك النصاب. ولا تجب على غير المؤمنين لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "على المؤمنين في صدقة الثمار -أو مال العقار- عُشر ما سقتِ العينُ وما سقتِ السماء، وعلى ما يُسقى بالغَرْب (¬3) نصفُ العُشْر" (¬4). ¬

_ (¬1) واختلف العلماء في تفسير العقال فمنهم من قال: زكاة عام ومنهم من قال: الحبل الذي يُعقل به البعير، وانظر "شرح النووي" (1/ 208) للمزيد من التفصيل. (¬2) جاء في "الروضة" (1/ 462): وأمّا اشتراط الإِسلام؛ فالراجح أنّ الكفّار مخاطَبون بجميع الشرعيات، لكنّه منَع صحّتها منهم مانع الكفر، فليس الإِسلام شرطاً في الوجوب بل الكفر مانع عن الصحة ... ". (¬3) الغَرْب: الدلو العظيمة التي تُتَّخذ من جلد ثور. "النهاية". (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (142).

قال البيهقي: "وفيه كالدّلالة على أنها لا تُؤخَذ من أهل الذِّمّة". "قلت [أي: شيخنا -رحمه الله تعالى-]: وكيف تُؤخَذ منهم وهم على شِركهم وضلالهم؟! فالزكاة لا تزكيهم وإنما تُزكّي المؤمن المزكَّى من دَرَن الشرك؛ كما قال الله تعالى: {خُذ من أموالهم صدقةً تُطهِّرهم وتزكيهمْ بها وصلِّ عليهم إِنَّ صلاتك سَكَنٌ لهم} (¬1). فهذه الآية تدلّ دلالة ظاهرة، على أنّ الزكاة إِنّما تُؤخَذ من المؤمنين، لكن الحديث أصرح منها دلالة على ذلك. وإنّ من يدرس السيرة النبوية، وتاريخ الخلفاء الراشدين، وغيرهم من خلفاء المسلمين وملوكهم؛ يعلم يقيناً أنّهم لم يكونوا يأخذون الزكاة من غير المسلمين المواطنين، وإنّما كانوا يأخذون منهم الجزية؛ كما ينصّ عليها الكتاب والسنّة". انتهى. جاء في "المحلّى" (5/ 307): "ولا يجوز أخذ الزكاة من كافر. قال أبو محمّد: هي واجبة عليه، وهو معذَّب على منْعها، إِلا أنها لا تجزئ عنه إِلا أنْ يُسلِم. وكذلك الصلاة ولا فرْق، فإِذا أسلم فقد تفضّل -عزّ وجلّ- بإِسقاط ما سلف عنه من كلّ ذلك! قال الله تعالى: {إِلاّ أصحاب اليمين * في جنّات يتساءلون * عن المجرمين * ما سَلَكَكُم في سقر * قالوا لم نك من المصلّين * ولم نك ¬

_ (¬1) التوبة: 103.

ماذا يشترط في النصاب؟

نُطعِم المسكين * وكنّا نخوض مع الخائضين * وكنّا نُكذِّب بيوم الدِّين * حتّى أتانا اليقين} (¬1). وقال الله -عزّ وجلّ-: {وويلٌ للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون} (¬2). ماذا يُشتَرط في النصاب؟ 1 - أن يكون فاضلاً عن الحاجات الضرورية؛ التي لا يَستغني المرء عنها؛ كالمطعم والملبس، والمسكن والمركب، وآلات الحرفة. 2 - أن يحول عليه الحول الهجريّ، وابتداؤه من يوم مُلْك النصاب. لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول" (¬3). وهذا الشرط لا يمضي في زكاة الزروع والثمار، لأنّها تجب يوم الحصاد، قال الله تعالى: {وءاتوا حقّه يوم حصاده} (¬4). كيف يُزكّي إِذا تعدّدت الأنصبة؟ الأصل عدم إِخراج زكاة النصاب إِلا إِذا حال عليه الحول، فإِذا كانت ¬

_ (¬1) المدثر: 39 - 47. (¬2) فصلت: 6 - 7. (¬3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1449) وغيره، وانظر "الإِرواء" (787). (¬4) الأنعام: 141.

هل في مال الصغير والمجنون زكاة؟

الأنصبة قليلة؛ وتمكّن من ذلك فعَل، وإلا أَخْرَج من مجموع المال؛ تيسيراً على نفسه. سُئل شيخنا -رحمه الله- عن رجل عنده أموال أثناء السنة الأولى؛ ثمّ جاءته أرباح، فلمّا دخلت السنة الثانية؛ وجد عدّة أنصبة، وليس نصاباً واحداً، فكيف يُخرِج زكاته؟ فأجاب -رحمه الله-: "اختلف العلماء في كيفية إِخراج الزكاة؛ فمنهم من قال: يُخرِج عن مجموع ما عنده من الأنصبة التي وجب عليها الزكاة، وعلى الأنصبة الأخرى التي لم يحُلْ عليها الحول كذلك. ومنهم من قال: كلما توفّر عنده نصابٌ سجَّله، وانتظر أن يحُول عليه الحَوْل. والنظر إِلى قاعدة التيسير يجعلني أُرجِّح القول الأول، إِذ متابعة الأنصبة مُرهِق لعقل (الكمبيوتر)؛ فضلاً عن عقل الإِنسان فيُخرج عن الأرباح، شريطة أن يكون هناك أصل؛ وهو النصاب الذي حال عليه الحول". انتهى. قلت: "ولا شكّ أنّ في هذا زيادةً على الزكاة الواجبة، فيُؤجَر عليها ويريح نفسه من بَلْبَلَة تعدّد الأنصبة. والله -تعالى- أعلم". هل في مال الصغير والمجنون زكاة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، فمنهم من رأى وجوب ذلك. وقالوا: إِنّ النصوص في إِيجاب الزكاة تفيد العموم، ومن ذلك الصغير والمجنون، والزكاة حقُّ الفقراء؛ أكان مِن صغير أو كبير أو مجنون أو عاقل.

قال ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (5/ 302) -بحذف-: "وأمّا مال الصغير والمجنون؛ فإِنّ مالكاً والشافعي قالا بقولنا؟ وهو قول عمر ابن الخطاب، وابنه عبد الله، وأمّ المؤمنين عائشة، وجابر وابن مسعود، وعطاء وغيره. وقال أبو حنيفة: لا زكاة في أموالهما من الناضّ (¬1) والماشية خاصة، والزكاة واجبة في ثمارهما وزروعهما. ولا نعلم أحداً تقدّمه إِلى هذا التقسيم! وقال الحسن البصري، وابن شبرمة: لا زكاة في ذهبه وفضّته خاصّة -وأمّا الثمار والزروع والمواشي ففيها زكاة. وأمّا إِبراهيم النخعي، وشريح، فقالا: لا زكاة في ماله جملة! قال أبو محمّد: إِنْ موّه مُمَوِّه منهم بأنّه لا صلاة عليهما؟ قيل له: قد تسقط الزكاة عمن لا مال له ولا تسقُط عنه الصلاة! وإِنّما تجب الصلاة والزكاة على العاقل والبالغ؛ ذي المال الذي فيه الزكاة، فإِنْ سقط المال: سقَطت الزكاة، ولم تسقُط الصلاة؛ وإِنْ سقَط العقل، أو البلوغ: سقَطَت الصلاة ولم تسقُط الزكاة؛ لأنه لا يسقط فرض أوجبه الله تعالى، أو رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِلا حيث أسقطه الله تعالى أو رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ¬

_ (¬1) قال في "مختار الصحاح": أهل الحجاز يسمّون الدراهم والدنانير (النَّضَّ) و (النَّاضَّ) إِذا تحوّل عيناً بعد أن كان متاعاً، ويقال: خُذ ما (نضَّ) لك من دينٍ أي: ما تيسّر. وهو (يستنضّ) حقّه من فلان أي: يستنجزه ويأخذ منه الشيء بعد الشيء.

ولا يسقُط فرض من أجل سقوط فرض آخر بالرأي الفاسد، بلا نصّ قرآن ولا سُنّة. وأيضاً: فإِنْ أسقطوا الزكاة عن مال الصغير والمجنون لسقوط الصلاة عنهما، ولأنهما لا يحتاجان إِلى طهارة؛ فليُسقطاها بهذه العلّة نفسها من زرعهما وثمارهما ولا فرق؛ وليُسقطا أيضاً عنهما زكاة الفطر بهذه الحُجّة! فإِنْ قالوا: النصّ جاء بزكاة الفطر على الصغير؟ قلنا: والنص جاء بها على العبد، فأسقطتموها عن رقيق التجارة بآرائكم، وهذا ممّا تركوا فيه القياس، إِذ لم يقيسوا زكاة الماشية والناضّ، على زكاة الزرع، والفِطر، أو فليوجبوها على المكاتب؛ لوجوب الصلاة عليه، ولا فرق. وقد قال بعضهم: زكاة الزرع والثمرة حقٌّ واجب في الأرض، يجب بأوّل خروجهما. قال أبو محمّد: ولا فرق بين وجوب حقّ الله تعالى في الزكاة في الذهب والفضة والمواشي؛ من حين اكتسابها إِلى تمام الحول، وبين وجوبه في الزرع والثمار؛ من حين ظهورها إِلى حلول وقت الزكاة فيها، والزكاة ساقطة بخروج كلّ ذلك عن يد مالكه قبل الحول، وقبل حلول وقت الزكاة في الزرع والثمار. وإِنّما الحقّ على صاحب الأرض لا على الأرض، ولا شريعة على أرض أصلاً، إِنما هي على صاحب الأرض! قال الله تعالى: {إِنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبَيْن أن يحمِلنها وأشفَقْن منها وحمَلَها الإِنسان إِنّه كان ظلوماً

جهولاً} (¬1). فظهر كذب هذا القائل وفساد قوله. وأيضاً فلو كانت الزكاة على الأرض لا على صاحب الأرض؛ لوجب أخْذها في مال الكافر مِن زرعه وثماره، فظهر فساد قولهم وبالله التوفيق. ولا خلاف في وجوب الزكاة على النساء كهي على الرجال؛ وهم مُقرّون بأنها قد تكون أَرْضُون كثيرة؛ لا حقّ فيها من زكاة، ولا من خَراج، كأرض مسلم؛ جعَلها قصباً وهي تغلّ المال الكثير، أو ترَكَها لم يجعل فيها شيئاً، وكأرض ذمّي صالَح على جزية رأسه فقط. وقد قال سفيان الثوري والحسن البصري وأشهب والشافعي: إِنّ الخراجي الكافر إِذا ابتاع أرض عشر من مسلم؛ فلا خراج فيها ولا عشر. وقد صحّ أنّ اليهود والنصارى والمجوس بالحجاز واليمن والبحرين؛ كانت لهم أرضون في حياة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا خلاف بين أحد من الأُمة؛ فى أنّه لم يجعل -عليه السلام- فيها عُشراً ولا خراجاً. فإِن ذكروا قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفع القلم عن ثلاث". فذكر "الصبي حتى يبلُغ والمجنون حتى يُفيق" (¬2). قلنا: فأسقطوا عنهما بهذه الحُجّة زكاة الزرع والثمار، وأرُوش (¬3) الجنايات ¬

_ (¬1) الأحزاب: 72. (¬2) أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (297). (¬3) جمع أرْش وهي دِيَة الجراحات. وانظر "مختار الصحاح".

التي هي ساقطة بها لا شكّ، وليس في سقوط القلم سقوط حقوق الأموال، وإنّما فيه سقوط المَلاَمة، وسقوط فرائض الأبدان فقط. وبالله -تعالى- التوفيق. فإِنْ قالوا: لا نيّة لمجنون، ولا لمن لم يبلغ؛ والفرائض لا تجزئ إِلا بنيّة! قلنا: نعم، وإنّما أمر بأخذها الإِمام والمسلمون، بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (¬1)، فإِذا أخَذَها من أُمِر بأخذها بنية أنها الصدقة أجزأت عن الغائب، والمُغْمَى عليه، والمجنون، والصغير، ومن لا نيّة له. والعجب أنّ المحفوظ عن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- إِيجاب الزكاة في مال اليتيم". ثمَّ ذكر -رحمه الله- بعض الآثار في ذلك. وقال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في التعليق على "المحلّى" (5/ 304): "وكان الأصحّ أنّ الزكاة تجب في المال، كما تجب الدِّيَة، وكما يجب العِوَض، وكما يجب الثمن مثَلاً، وأنّ وليّ الصبيّ أو المجنون مُكلَّف بإِخراجها من مال مَحْجُورِه، وأنّ وليّ الأمر يجب عليه استيفاؤها من المال". قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 17): "وتجب الزكاة في مال اليتامى؛ عند مالك والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور، وهو مرويّ عن عمر وعائشة وعليّ وابن عمر وجابر -رضي الله عنهم- ... ". وجاء في "الروضة النديّة" (1/ 460) -ردّاً على من يقول بإِيجابها تحت شرط: "إِذا كان المالك مُكلَّفاً"-: "اعلم أنّ هذه المقالة قد يَنْبُو ¬

_ (¬1) التوبة: 103.

عنها ذِهن من يسمعها، فإِذا راجع الإِنصاف، ووقف حيث أوقفه الحقّ، عَلِم أنّ هذا هو الحقّ، وبيانه أنّ الزكاة هي أحد أركان الإِسلام، ودعائمه وقوائمه، ولا خلاف أنّه لا يجب شيء من الأربعة الأركان؛ التي الزكاة خامستها على غير مكلّف، فإِيجاب الزكاة عليه، إِنْ كان بدليل فما هو؟ فما جاء عن الشارع في هذا شيء ممّا تقوم به الحُجّة. كما يُروَى عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بالاتّجار في أموال الأيتام؛ لئلاّ تأكلها الزكاة، فلم يصحّ ذلك في شيء مرفوعاً إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1)، فليس ممّا تقوم به الحُجّة. وأمّا ما رُوي عن بعض الصحابة فلا حُجّة فيه أيضاً، وقد عُورِض بمِثله. وإِنْ قال قائل: إِنّ الخطاب في الزكاة عامّ كقوله: {خُذْ مِن أموالهم} (¬2) ونحوه، فذلك ممنوع. وليس الخطاب في ذلك إِلا لمن يصلُح له الخطاب، وهم المكلّفون، وأيضاً بقيّة الأركان، بل وسائر التكاليف التي وقع الاتفاق على عدم وجوبها على من ليس بمُكلّف، الخطابات بها عامّة للناس، والصبيّ مِن جُمْلة الناس. فلو كان عموم الخطاب في الزكاة مسوغاً لإِيجابها على غير المكلّفين؛ لكان العموم في غيرها كذلك، وأنّه باطل بالإِجماع، وما استلزم الباطل باطل، مع أنّ تمام الآية -أعني قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} - يدلّ على عدم وجوبها على الصبيّ، وهو قوله: {تُطهّرهم وتزكّيهم بها} فإِنّه لا ¬

_ (¬1) انظر "الإِرواء" (788). (¬2) التوبة: 103.

معنى لتطهير الصبيّ، والمجنون، ولا لتزكيته، فما جعلوه مُخصّصاً لغير المكلفين في سائر الأركان الأربعة؛ لزمهم أن يجعلوه مُخصّصاً في الركن الخامس وهو الزكاة. وبالجملة: فأموال العباد محرَّمة بنصوص الكتاب والسنَّة، لا يُحلّلها إلاَّ التّراضي، وطِيبة النّفْس. أمّا ورود الشرع كالزكاة، والدِّيَة، والأرْش، والشُّفعة (¬1)، ونحو ذلك، فمن زعم أنه يحل مال أحد من عباد الله، سيّما مَن كان قلمُ التكليف عنه مرفوعاً؛ فعليه البرهان، والواجب على المُنْصِف أن يقف موقف المنع حتى يزحزحه عنه الدليل. ولم يوجب الله تعالى على وليّ اليتيم، والمجنون أن يخرج الزكاة من مالهما، ولا أمَره بذلك، ولا سوّغه له، بل ورَدت في أموال اليتامى تلك القوارع التي تتصدّع لها القلوب، وترجُف لها الأفئدة (¬2) ". وفيها (ص 462): " .. فمن أوجَب على الصبيّ زكاة في ماله تمسُّكاً بالعمومات، فليوجب عليه بقيّة الأركان تمسُّكاً بالعمومات. ¬

_ (¬1) هي استحقاق الشريك انتزاع حصّة شريكه المنتقلة عنه، مِن يد مَن انتقلت إِليه. "المغني" (5/ 459). (¬2) منها قوله تعالى: {إِنَّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} [النساء: 10]. ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اجتبوا السبع الموبقات ... "، فذكَر منها أكْل مال اليتيم. [أخرجه البخاري: 6857، ومسلم: 89].

وبالجملة: فالأصل في أموال العباد الحرمة {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (¬1)، "لا يحلّ مالُ امرئٍ مُسلم إلاَّ بطيبةٍ من نفسه" (¬2)، ولا سيما أموال اليتامى، فإِنّ القوارع القرآنية، والزواجر الحديثية فيها؛ أظهر من أن تُذكَر وأكثر من أن تُحصَر، فلا يأمن وليّ اليتيم إِذا أخذ الزكاة من ماله من التَّبعة، لأنه أخَذ شيئاً لم يُوجِبه الله على المالك، ولا على الوليّ ولا على المال. أما الأوّل: فلأنّ المفروض أنه صبيٌّ لم يحصُل له ما هو مناط التكاليف الشرعية؛ وهو البلوغ. وأمّا الثاني: فلأنه غير مالك للمال، والزكاة لا تجب على غير مالك. وأمّا الثالث: فلأنّ التكاليف الشرعية مختصة بهذا النوع الإِنساني؛ لا تجب على دابّة ولا جماد، والله أعلم". وسألت شيخنا -رحمه الله- عن زكاة أموال اليتامى فقال: "لا زكاة على مال من لم يبلغ سنّ الاحتلام على الراجح". وفي "تبيين المسالك" (2/ 67) للشيخ عبد العزيز الإِحسائي -بعد أن نقل أدلّة الموجب وغير الموجب- "وقال أبو حنيفة: لا تجب في مال صبي ولا مجنون واحتجّ بحديث: "رُفع القلم عن ثلاث". وله عدة ألفاظ منها: ¬

_ (¬1) البقرة: 188. (¬2) انظر "الصحيحة" (1459) وله عِدّة ألفاظ منها: "لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاَّ عن طيب نفس".

المالك المدين:

"رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ (وفي رواية: وعن المجنون (وفي لفظ: المعتوه) حتى يعقل أو يُفيق) وعن الصبى حتى يكبَر. (وفي رواية: حتى يحتلم) " (¬1). المالك المَدِين: من كان في يده مالٌ تجب الزكاة فيه، وهو مدين؛ أخرج منه ما يفي بدينه وزكّى الباقي؛ إِن بلَغ نصاباً، وإن لم يبلغ النصاب فلا زكاة فيه، لأنّه في هذه الحالة فقير (¬2). ومن الأدلّة على ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه-: " ... فأخبِرهم أنَّ الله قد فرَض عليهم صدقة؛ تُؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم" (¬3). وسألْتُ شيخنا -رحمه الله-: مَن ملك النصاب، وعليه ديونٌ تستغرق النصاب؛ فهل يجب عليه الزكاة أم لا؟ فأجاب -رحمه الله-: "ما دام المال في حَوْزَته، وحال عليه الحول فلا بُدّ من إِخراج الزكاة، ولو كان عليه من الدَّين ما يستغرق النصاب كلّه، فإِذا كان ينوي عدم إِخراج الزكاة؛ فعليه أن يفيَ الناس حقوقهم وديونهم". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (297)، وتقدّم. (¬2) "فقه السنة" (1/ 336) بتصرف. (¬3) أخرجه البخاري: 1496، ومسلم: 19، وتقدّم.

من مات وعليه الزكاة

من مات وعليه الزكاة من مات وعليه زكاة سنة أو سنتين أو أكثر؛ فإِنّها تجب في ماله، وتقدَّم على الدائنين والوصية والورثة؛ لقول الله تعالى في شأن المواريث: {مِن بعْد وصيةٍ يُوصِي بها أو دين} (¬1)، والزكاة دَينٌ قائم لله تعالى (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إِنّ أُمّي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: نعم؛ فدَين الله أحقُّ أن يُقضى" (¬3). قال الإِمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "ومن مات وعليه زكاة أُخِذَت من تَرِكته ولو لم يوص بها ... لأنها حقٌّ واجب تصحّ به الوصيّة، فلم يسقُط بالموت، كدَين الآدمي" (¬4). وذكَر الحديث. قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (6/ 113): "فلو مات الذي وجَبَتْ عليه الزكاة سنة أو سنتين؛ فإِنها من رأس ماله، أقرَّ بها أو قامت عليه بيّنة، ورثه ولده أو كَلاَلهَ (¬5)، لا حقّ للغرماء ولا للوصية ولا للورثة حتى تُسْتَوْفى كلها؛ سواء في ذلك العين والماشية والزرع. ¬

_ (¬1) النساء: 11. (¬2) عن "فقه السنة" (1/ 336) بتصرف يسير. (¬3) أخرجه البخاري: 1953، ومسلم: 1148. (¬4) الواضح في فقه الإمام أحمد (ص 158) للدكتور علي أبي الخير. (¬5) الكَلاَلة: وهو أن يموت الرجل؛ ولا يدع والداً ولا ولداً يرثانه، وأصله: من تكلَّله النسب: إِذا أحاط به. وقيل: الكلالة: الوارثون الذين ليس فيهم ولدٌ ولا والد، فهو واقعٌ =

أداؤها وقت الوجوب

وهو قول الشافعي وأبي سليمان وأصحابهما". وقال -رحمه الله- (ص 114): "والعجب كلّه من إيجابهم الصلاة بعد خروج وقتها على العامِد لتركها، وإِسقاطهم الزكاة ووقتها قائم عن المتعمّد لتركها". وقال -رحمه الله- (ص 116): "ويُسألون عن الزكاة، أفي الذّمّة هي أم في عين المال؟ ولا سبيل إِلى قسم ثالث! فإِنْ قالوا: في عين المال، فقد صحّ أنّ أهل الصدقات شركاء في ذلك المال، فمن أين وجب أن يبطل حقّهم؛ وتبقى ديون اليهود والنصارى؟ وإنْ قالوا: في الذِّمّة، فمن أين أسقطوها بموته؟! ". أداؤُها وقت الوجوب (¬1) يجب إِخراج الزكاة فوراً عند وجوبها، ويحرُم تأخير أدائها عن وقت الوجوب. فعن عُقبة بن الحارث -رضي الله عنه- قال: "صلّيتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر، فلّما سلّم؛ قام سريعاً حتى دخَل على بعض نسائه، ثمَّ خرج ورأى ما ¬

_ = على الميت وعلى الوارث بهذا الشرط. [وقال القُتيبي]: الأب والابن طرفان للرجل، فإذا مات ولم يُخَلِّفهما فقد مات عن ذَهاب طرفيه، فسمّى ذَهاب الطرفين كلالة. وقيل: كلُّ ما احْتَفّ بالشيء من جوانبه فهو إِكليل، وبه سُمّيت؛ لأن الوُرَّاثَ يُحيِطون به من جوانبه. (¬1) "فقه السنة" (1/ 337) بتصرف.

التعجيل بأدائها قبل الحول

في وجوه القوم مِن تعجُّبهم لسرعته، فقال: ذكرتُ وأنا في الصلاة تِبراً (¬1) عندنا؛ فكرهتُ أن يمسي أو يبيت عندنا، فأمرتُ بقسمته" (¬2). التعجيل بأدائها قبل الحول يجوز تعجيل الزكاة قبل الحول؛ لما ثبت عن علىّ -رضي الله عنه- "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعجَّل من العبّاس صدقته سنتين" (¬3). قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 85): "وأمّا تعجيل الزكاة قبل وجوبها بعد سبب الوجوب؛ فيجوز عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد ... ". مَن أحَبَّ تعجيل الزكاة من يومها (¬4) عن عقبة بن الحارث -رضي الله عنه- قال: صلّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر فأسرَع، ثمّ دَخل البيت فلم يلبث أنْ خرج، فقلت أو قيل له، فقال: "كنت خَلَّفْتُ في البيت تِبراً من الصدقة فكرهت أن أبيِّته، فقسَمْته" (¬5). ¬

_ (¬1) قال في "النهاية": "التِّبر: هو الذهب والفضة قبل أن يُضربا دنانير ودراهم، فإِذا ضُربا كانا عيناً، وقد يطلق التِّبر على غيرهما من المعدنيّات؛ كالنحاس والحديد والرصاص وأكثر اختصاصه الذهب ... ". (¬2) أخرجه البخاري: 1221. (¬3) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1452)، وحسنه شيخنا في "الإرواء" (857). (¬4) هذا العنوان من "صحيح البخاري". (¬5) أخرجه البخاري: 1430، وتقدّم.

عدم ذهاب السعاة لجمع الأموال الباطنة ويتولى الرجل تفرقة أمواله الباطنة بنفسه

عدم ذهاب السُّعَاة لجمع الأموال الباطنة ويتولّى الرجل تَفْرِقة أمواله الباطنة بنفسه لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتقدّم وفيه: " ... ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه". واعلم -رحمك الله- أنّه قد ورَد عدد من النصوص؛ فى ذَهاب السعاة لتحصيل زكاة الأموال الظاهرة من الحيوان: الإِبل والبقر والغنم، ومن الحبوب: البرُّ والشعير، ومن الثمار: النخل والعنب. أمّا الأموال الباطنة؛ كالذهب والفضة والركاز، فالناس مؤتمنون عليها ولم يثبت إِرسال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المصدّقين لتحصيلها. قال شيخنا في "تمام المِنّة" (ص 383) في مناقشة السيد سابق -رحمهما الله تعالى (¬1) -: "لم أجِدْ في السُّنّة أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث من يجمع الصدقات من الأموال الباطنة -وهي عروض التجارة والذهب والفضة والركاز كما ذكر المؤلف نفسه- ولا وجدْتُ أحداً من المحدّثين ذكَر ذلك. بل صرَّح ابن القيّم بنفي ذلك، بل إِنّه نفى أن يكون البعث المذكور؛ في ¬

_ (¬1) وذلك في قوله: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبعث نُوّابه ليجمعوا الصدقات ويوزعها على المستحقّين، وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك، لا فرق بين الأموال الظاهرة والباطنة، فلمّا جاء عثمان سار على هذا النهج زمناً، إِلا أنه لمّا رأى كثرة الأموال الباطنة، ووجَد أنّ في تتبعها حرجاً على الأمّة، وفي تفتيشها ضرراً بأربابها؛ فوَّض أداء زكاتها إِلى أصحاب الأموال".

الكتاب في الأموال الظاهرة على عمومه، حيث قال في "الزاد": "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبعث سعاته إِلى البوادي، ولم يكن يبعثهم إِلى القرى، ولم يكن من هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبعث سعاته إلاَّ إِلى أهل الأموال الظاهرة؛ من المواشي والزروع والثمار". ولو صحّ ما ذكَره المؤلف؛ لكان دليلاً من السّنّة على وجوب الزكاة على عروض التجارة. فتأمّل. وقال أبو عبيد (رقم 1644): "سُنّة الصامت (¬1) خاصّة أن يكون الناس فيه مؤتمنين عليه". لم أجده كذلك عن الخلفاء الثلاثة، بل روى أبو عبيد (رقم 1805)، والبيهقي (4/ 114) عن أبي سعيد المقبري، قال: "أتيتُ عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين! هذه زكاة مالي -قال: وأتيته بمائتي درهم- فقال: أعَتَقْت يا كيسان؟ فقلت: نعم، فقال: فاذهب بها أنت فاقسمها". إِسناده جيد. فهذا عمر -رضي الله عنه- قد أولى تفريق الزكاة إِلى صاحبها خلافاً لما نقَله المؤلف عنه، وقد ترجم البيهقي لهذا الأثر بـ "باب الرجل يتولّى تفريق زكاة ماله الباطنة بنفسه". ما نقله عن عثمان أنّه سار على ذلك النّهج ... إِلخ. لم أجد له أصلاً في شيء من كتب الآثار، ولا ذَكَره أحد من أئمّة الحديث -فيما علمت-. ¬

_ (¬1) الذهب والفضَّة؛ خلاف الناطق وهو الحيوان. "النهاية".

الأموال التي تجب فيها الزكاة

والظاهر أنّ المؤلف نقَله -وكذا ما قبله- من بعض كتب الفقه أو غيرها؛ التي لا تتحرّى الثابت مما يُروى". والله أعلم. الأموال التي تجب فيها الزكاة تجب الزكاة في النقدين الذهب والفضة، والزروع، والثمار والمواشي والركاز (¬1). زكاة النقدين الذَّهب والفضّة ما جاء في الترهيب من كنز الذّهب أو الفضّة وعدم إِخراج زكاتها: قال الله تعالى: {والذّين يكنزون الذّهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشِّرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنَّم فتُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كَنَزْتُم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنِزون} (¬2). نصاب الذهب ومقدار الواجب فيه؟ نصاب الذهب عشرون ديناراً (¬3). وفيه ربع العشر. ¬

_ (¬1) الركاز لغة: المعدن والمال المدفون، وشرعاً: دفين الجاهلية وسيأتي تفصيله بإِذن الله -تعالى-. (¬2) التوبة: 34 - 35. (¬3) الدينار = 4.25 غراماً كما تقدّم. عشرون ديناراً = 4.25×20 = 85 غراماً، وانظر "فقه الزكاة" (1/ 260) للدكتور يوسف القرضاوي.

عن عليّ -رضي الله عنه- قال: " ... فإِذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول؛ فعليها خمسة دراهم، وليس على شيء -يعني في الذهب- حتى يكون لك عشرون ديناراً، فإِذا كان لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول؛ ففيها نصف دينار" (¬1). وعن ابن عمر وعائشة: "أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأخذ من كل عشرين ديناراَّ فصاعداً، نصف دينار، ومن الأربعين ديناراً، ديناراً" (¬2). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: "ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب، ولا في أقلّ من مائتي درهم صدقة" (¬3). قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 12): "وأمّا نصاب الذهب؛ فقد قال مالك في "الموطأ": السُّنّة التي لا اختلاف فيها عندنا: أنَّ الزكاة تجب في عشرين ديناراً؛ كما تجب في مائتي درهم. فقد حكى مالك إِجماع أهل المدينة، وما حُكي خلافٌ؛ إِلا عن الحسن أنه قال: لا شيء في الذهب حتى يبلغ أربعين مثقالاً. نقَله ابن المنذر". فائدة: سُئل شيخنا -رحمه الله- هل يخرج زكاة ذهبه نقداً أم منه نفسه؟ فأجاب -رحمه الله-: "الأصل إِخراج الذهب منه، وإخراج النقود لما لا ¬

_ (¬1) "صحيح سنن أبي داود" (1391). (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1448)، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (813). (¬3) رواه أبو عبيد وهو صحيح بشواهده، وانظر "الإرواء" (815).

نصاب الفضة ومقدار الواجب

ينفكّ عنه. وتُراعى المصلحة في الأمر (¬1)، كأمر نقْل الزكاة (¬2) ". وسألت شيخنا -رحمه الله-: ماذا تفعل إِذا كان عندها ذهب ولا مال معها لإِخراج الزكاة؟ فقال: تبيع منه". نصاب الفضة ومقدار الواجب نصاب الفضة مائتا درهم وفيها ربع العُشر (¬3). عن عليّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قد عفوتُ عن الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرِّقَة (¬4) من كلّ أربعين درهماً درهماً، وليس في تسعين ومائة شيء، فإِذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم" (¬5). وعن أنس "أنّ أبا بكر -رضي الله عنهما- كَتَب له هذا الكتاب لمّا وجّهه إِلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم. هذه فريضة الصدقة التي فرَض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المسلمين؛ والتي أمَر الله بها رسوله ... " وفيه: "وفي الرّقَة ¬

_ (¬1) يعني: إِخراجه من الذهب أم من النقود. (¬2) يعني: كما تراعى المصلحة في نقل الزكاة وعدمها. (¬3) وربع العشر = 1×40 = 2.5%. (¬4) قال الخطابي: هي الدراهم المضروبة أصْلها الوَرِق حُذفت الواو وعُوِّض عنها الهاء كعِدَة وزِنَة. "عون" (4/ 316). وجاء في "الفتح" (3/ 321): "الرّقَة: -بكسر الراء وتخفيف القاف- الفضّة الخالصة، سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة". (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1392)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (506).

زكاة العملات الورقية والمعدنية

رُبْع العُشر" (¬1). زكاة العملات الورقيّة والمعدنية "والعملات الورقيّة والمعدنية المتعامل بها اليوم؛ حُكمها حُكم النقدين: الذهب والفضة، فينظر إِلى ما يقابلها من النقدين، فإِن بلغت قيمتها عشرين مثقالاً، أو مائتي درهم، وحال عليها الحول، زُكّيت" (¬2). زكاة الدَّيْن الدَّيْن دَيْنَان: 1 - دَيْن يرجى رجوعه، والراجح أنّه يلزمه إِخراج الزكاة في الحال؛ لأنّه قادر على أَخْذِه والتصرُّف فيه. 2 - دين لا يُرجى رجوعه، لعُسرٍ ألمَّ بصاحبه، أو جحودٍ أو مماطلة، فهذا لا تجب فيه الزكاة. وإذا قبضَه يزكّي عن كلّ ما مضى؛ لأنه حقٌّ متعلّق بالعباد. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ليس في الدَّيْن زكاة" (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1454. (¬2) عن "تبيين المسالك" (2/ 74). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (784).

زكاة الحلي

وعنها قالت: "ليس فيه زكاة حتى يقبضه" (¬1). وعن علي -رضي الله عنه- في الدين الظَّنون (¬2) "إِنْ كان صادقاً فليزكّه إِذا قَبضه، لِما مضى" (¬3). زكاة الحُليّ اختلف العلماء في هذه المسألة وهناك آثار تفيد إِخراج الزكاة عنها، وأخرى تفيد عدم الإِخراج؛ ذكَرها ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (¬4). زكاة الحُلي واجبة لعموم الآيات والأحاديث الآمرة بالزكاة، ولا دليل على الاستثناء. قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (6/ 100): " ... صحّ عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيجاب الزكاة في الذهب عموماً؛ ولم يخصّ الحُلي من سقوط الزكاة فيه؛ لا بنصّ ولا بإِجماع، فوجبت الزكاة بالنّصّ في كلّ ذهب وفضّة. وخصّ الإِجماع المتيقّن بعض الأعداد منهما وبعض الأزمان، فلم تجب الزكاة فيهما؛ إلاَّ في عدد أوجبه نصٌّ أو إِجماع، وفي زمان أوجبه نصٌّ أو إِجماع، ولم يُجز تخصيص شيء منها؛ إِذ قد عمَّهما النصّ؛ فوجَب أنْ لا يُفرَّق بين أحوال الذهب بغير نصّ ولا إِجماع. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (784). (¬2) هو الذي لا يدري صاحبه أيصِل إِليه أم لا. "النهاية". (¬3) رواه أبو عبيد وعنه البيهقي، وصحّحه شيخنا في "الإِرواء" (785). (¬4) انظر (6/ 93) منه وما بعدها، وانظر أيضاً "الإِرواء" تحت (817).

وصحّ يقيناً -بلا خلاف- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوجب الزكاة في الذهب والفضة كلّ عام، والحُليّ فضّة أو ذهب، فلا يجوز أنْ يقال: "إلاَّ الحُلي" بغير نصّ في ذلك ولا إِجماع- وبالله تعالى التوفيق". عن أمّ سلمة -رضي الله عنها- قالت: "كنت ألبس أَوْضَاحاً (¬1) من ذهب، فقلتُ: يا رسول الله! أكنزٌ هو؟ فقال: ما بلغَ أن تؤدّى زكاته فليس بكنز" (¬2). وعن عبد الله بن شداد بن الهاد؛ أنه قال: دخَلْنا على عائشة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: دخَل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرأى في يدي فَتَخَات (¬3) من وَرِق فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهنّ أتزيّن لك يا رسول الله، قال: أتؤدّين زكاتهن؟ قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: هو حسبُك من النار" (¬4). ¬

_ (¬1) الأوْضَاح: نوع من الحُليّ يُعمل من الفضة؛ سُمّيت بها لبياضها، والوَضح: البياض من كلّ شيء. "النهاية". ملتقطاً. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1383). وقال: حسن -المرفوع منه فقط- فيُفهم عدم ثبوت المناسبة من حيث السّنَد وقد بيّن ذلك شيخنا -رحمه الله تعالى- في "الصحيحة" (559)، وفيه: وقد روى مالك عن عبد الله بن دينار أنه قال: سمعْتُ عبد الله بن عمر يُسأل عن الكنز ما هو؟ فقال: "هو المال الذي لا تُؤدَّى منه الزكاة" وإسناده صحيح غاية". (¬3) فَتَخَات: جمع فَتْخة وهي خواتيم كبار؛ تُلبس في الأيدي، وقيل: هي خواتيم لا فصوص لها. "النهاية" بحذف، والفُص ما يركَّب في الخاتم من الحجارة الكريمة وغيرها. "الوسيط". (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1384) وغيره، وانظر "الإِرواء" (3/ 296).

وتقدّم الحديث "في الرّقة العُشر" والحُليّ وَرِق يجب فيه حقّ الزكاة كما قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (6/ 100). وفي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: " ... ليس فيما دون خمس أواق صدقة" (¬1). وتقدّم حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من صاحب ذهب ولا فضّة لا يؤدّي منها حقّها؛ إلاَّ إِذا كان يومُ القيامة؛ صُفّحت له صفائح من نار فأحمي بها جَنْبُه وجبينُه وظهره، كلما بردت؛ أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ... " ومعنى الكنز متحقِّق في حُلي الذهب والفضّة كما لا يخفى. قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (6/ 100) -بعد أن ذكر هذا الحديث-: "فوجبَت الزكاة في كلّ ذهب بهذا النص، وإنما تسقط الزكاة من الذهب؛ عمّن لا بيان في هذا النصّ بإِيجابها فيه؛ وهو العدد والوقت، لإِجماع الأمّة كلّها -بلا خلاف منها أصلاً- على أنّه -عليه الصلاة والسلام- لم يوجب الزكاة في كُلّ عددٍ من الذهب، ولا في كُلّ وقتٍ من الزمان، فلمّا صحّ ذلك، ولم يأت نصٌّ في العدد والوقت؛ وجَب أنْ لا يُضاف إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلا ما صحّ عنه؛ بنقل آحاد أو بنقل إِجماع، ولم يأت إِجماعٌ قطّ بأنه - عليه الصلاة والسلام- لم يُرْد إِلا بعض أحوال الذهب وصفاته، فلم يجُز تخصيص شيء من ذلك بغير نصٍّ ولا إِجماع". وقال الخطابي -رحمه الله تعالى-: "الظاهر من الكتاب يشهد لقول من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1447، ومسلم: 979.

أوجبَها، والأثر يؤيّده، ومن أسقطها ذهَب إِلى النظر، ومعه طرَف من الأثر، والاحتياط أداؤها" (¬1). "وعن فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- قالت: أتيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطوق فيه سبعون مثقالاً من ذهب، فقلت: يا رسول الله! خُذ منه الفريضة التي جعل الله فيه. قالت: فأخذ رسول الله مثقالاً وثلاثة أرباع مثقال، فوجَّهه. قالت: فقلت: يا رسول الله! خذ منه الذي جعل الله فيه. قالت: فقسَم رسول الله على هذه الأصناف الستة، وعلى غيرهم، فقال: فذكَره. [قالت:] قلت: يا رسول الله! رضيت لنفسي ما رضي الله -عزّ وجلّ- به ورسوله" (¬2). قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (6/ 1185): "وفي الحديث دلالة صريحة؛ على أنّه كان معروفاً في عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجوب الزكاة على حُليّ النساء، وذلك بعد أنْ أمَر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها في غير ما حديث صحيح؛ كنت ذكرتُ بعضها في "آداب الزفاف" [ص 264]. ولذلك جاءت فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- بطوقها إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليأخذ زكاتها منه؛ فليُضَمّ هذا الحديث إِلى تلك، لعلّ في ذلك ما يُقنِع الذين لا يزالون يُفتون بعدم وجوب الزكاة على الحُليّ، فيَحرِمون بذلك ¬

_ (¬1) "عون المعبود" (4/ 301). (¬2) انظر "الصحيحة" (2978).

هل على الحلي المحرمة زكاة؟

الفقراء من بعض حقّهم في أموال زكاة الأغنياء! ". هل على الحُليّ المحرَّمة زكاة؟ جاء في "تبيين المسالك" (2/ 73): "أمّا الحُليّ الحرام وهو الذي يَتخِذُه الرجل للُّبْس، كخواتم الذهب وأسورته، فتجب فيه الزكاة إِذا بلَغ نصاباً، وحال عليه الحول. كما تجب الزكاة في الأواني الفضية والذهبية، والمجامر والملاعق ونحو ذلك. وتقدّم أنّ اقتناءها مُحرَّم على النساء والرجال. وبه قال أحمد والشافعي في أصحّ قوليه، ثمّ أشار إِلى "الروض المربع" (1/ 114)، و"المجموع" (6/ 37). وسألت شيخنا -رحمه الله تعالى-: "هل تجب الزكاة في أواني الذهب؟ فأجاب: تجب ولو كانت محرّمة، وهي أولى بالزكاة". زكاة صداق المرأة ليس هناك نصٌّ -فيما علمت- في صَدَاق المرأة، وبهذا فلا زكاة عليه إِلا إِذا قبضته وحال عليه الحول، هذا إِذا بلغ النصاب؛ فإِذا لم يبلغ النصاب فلا زكاة عليه. وكذا المهر المؤجّل إِذا لم تمتلِكه؛ فإِنّه لا يجب عليه الزّكاة، وشأنه شأن الدَّين الذي يُرجى سداده، أو لا يُرجى. والله تعالى أعلم.

وسألْتُ شيخنا -رحمه الله- عن ذلك. فأجاب -رحمه الله-: "إِذا امتلكَتْه؛ وجَب بشروط الحول والنصاب، وإذا لم تمتلكه وكان في ذمّة الزوج؛ فلا زكاة عليه. وإِذا كانت ترى أنّ هذا المهر كالدَّين الحيّ؛ أي: يمكنها الحصول عليه متى أرادت، أو حسب اتفاقها مع زوجها، فيجب عليها إِخراج الزكاة في هذه الحالة. أمّا إِذا كانت تعدّ هذا المهر كالدَّين الميِّت الذي لا يرجو صاحبه قبْضه، فإِنّه لا تجب عليها الزكاة في هذه الحالة". فائدة هامّة: ما لم يرد فيه نصّ في زكاته كالدّور المؤجرة والخَضْراوات (¬1) والمرتّبات ونحو ذلك؛ فإِن الزكاة لا تجب فيها إلاَّ إِذا جلَبَت مالاً بلغ النصاب، وحال عليها الحول. قال الإِمام الشوكاني -رحمه الله- في "السّيل الجرار" (2/ 27) -في الردّ على من يقول بالزكاة على المستغلاّت كالدور التي يكريها مالكها وكذلك الدّوابّ ونحو ذلك-: "هذه مسألة لم تطن على أذن الزمن، ولا سمع بها أهل القرن الأول -الذين هم خير القرون- ولا القرن الذي يليه، ثم الذي يليه، وإِنما هي من الحوادث اليَمنِيّة، والمسائل التي لم يسمع بها أهل المذاهب الإِسلامية -على اختلاف أقوالهم وتباعد أقطارهم- ولا توجد عليها أثارة من علم؛ لا من كتاب ولا من سُنّة ولا قياس، [وأموال] المسلمين معصومة بعصمة ¬

_ (¬1) وسيأتي التفصيل إِن شاء الله -تعالى-.

هل في عروض التجارة زكاة؟

الإِسلام؛ لا يحلّ أخْذها إلاَّ بحقّها، وإلا كان ذلك من أكْل أموال الناس بالباطل". وجاء في "الروضة النديّة" (1/ 479): "هذه المسألة من غرائب العلماء التي ينبغي أن تكون مغفورة؛ باعتبار ما لهم من المناقب؛ فإِنّ إِيجاب الزكاة فيما ليس من الأموال التي تجب فيها الزكاة بالاتفاق -كالدّور، والعَقار، والدّوابّ، ونحوها- بمجرّد تأجيرها بأجرة من دون تجارة في أعيانها - ممّا لم يُسمَع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون، ثمّ الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم -فضلاً أن يُسمَع فيه بدليل من كتاب أو سُنّة- وقد كانوا يستأجرون، ويؤجِّرون، ويقبضون الأجرة من دورهم وضياعهم ودوابّهم، ولم يخطر ببال أحدهم؛ أنه يُخْرج في رأس الحول ربع عشر قيمة داره، أو عقاره، أو دوابّه! وانقرضوا وهم في راحة من هذا التكليف الشاقّ، حتى كان آخر القرن الثالث، من أهل المئة الثالتة، فقال بذلك من قال بدون دليل؛ إِلا مجرّد القياس على أموال التجارة، وقد عرَفْتَ الكلام في الأصل؛ فكيف يقوم الظلّ والعود أعوج؟! مع أنّ هذا القياس في نفسه مختلٌّ بوجوه ... ". هل في عروض التجارة زكاة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، واستشهد من رأى ذلك بعددٍ من النصوص والآثار، ولكنّها غير ثابتة، منها حديث سمرة بن جندب قال: "أَمَرنا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تُخرَج الصدقة ممّا نعدّه للبيع".

وحديث بلال بن الحارث المزني "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخَذَ من معادن القَبليّة (¬1) الصدقة". وقول عمر لحماس: "أدِّ زكاة مالك، فقال: مالي إلاَّ جِعاب (¬2) وأُدُم (¬3)، فقال: قوِّمها وأدِّ زكاتها". وقد خرَّجها شيخنا -رحمه الله تعالى- في "الإِرواء" (3/ 310). وهناك آثار صحيحة فصَّل فيها ابن حزم -رحمه الله تعالى- (¬4) وبيّن أنّه ليس فيها إِيجابٌ لزكاة العروض. وإِذا كان كذلك: "فالحقّ أنّ القول بوجوب الزكاة على عروض التجارة؛ ممّا لا دليل عليه في الكتاب والسُّنّة الصحيحة، مع منافاته لقاعدة البراءة الأصليّة التي يؤيّدها هنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبة حَجّة الوداع: فإِنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم ... عليكم حرام؛ كحُرمة يومكم هذا؛ في شهركم هذا؛ في بلدكم هذا، ألا هل بلّغت (¬5)؟! " (¬6). وعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يحلُّ ¬

_ (¬1) جاء في "النهاية": "القَبَلية: منسوبة إِلى قَبَل -بفتح القاف والباء- وهي ناحية من ساحل البحر، بينها وبين المدينة خمسة أيام. وقيل: هي ناحية الفُرْع، وهو موضع بين نَخْلة والمدينة ... ". (¬2) مفردها جَعبة وهي الكِنانة [الوعاء] التي تُجعل فيها السهام. "النهاية". (¬3) الأُدُم: الجلود. (¬4) انظر "المُحلّى" (5/ 347 - 352). (¬5) انظر "صحيح البخاري" (1739)، و"صحيح مسلم" (1679). (¬6) قاله شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 363).

مال امرئٍ مسلم؛ إلاَّ عن طيب نفس" (¬1). قلت: وقد ورَدَت كلمتا (تجارة) و (زكاة) في الكتاب والسُّنّة، ولم تُجمع هاتان الكلمتان (زكاة التجارة)، في الكتاب أو السُّنّة مع شيوع التجارة وكثرتها، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوحى إِليه والقرآن يتنزَّل! * وقد صحّ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يدلّ على أنَّه لا زكاة في عروض التجارة، وهو أنّه قد صحّ (¬2) عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس فيما دون خمس ذود (¬3) صدقةً من الإِبل، وليس فيما دون خمس أواق (¬4) صدقة" (¬5). وأنّه أسقط الزكاة عمّا دون الأربعين من الغنم، وعمّا دون خمسة أوسق من التمر والحبّ، فمن أوجَب زكاةً في عروض التجارة؛ فإِنه يوجبها في كلّ ما نفى عنه- عليه الصلاة والسلام- الزكاة ممّا ذكرنا. وصحّ عنه -عليه السلام-: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وغيره، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1459)، وتقدّم. (¬2) كذا الأصل. (¬3) قال الحافظ في "الفتح" (3/ 323): "الأكثر على أنَّ الذود من الثلاثة إِلى العشرة ... وقال أبو عبيد: من الثنتين إِلى العشرة، قال؛ وهو يختصّ بالإناث وقال القرطبي: أصله ذاد يذود: إِذا دفَع شيئاً فهو مصدر، وكأن من كان عنده؛ دفع عن نفسه مَعَرّة الفقر وشدّة الفاقة والحاجة". (¬4) قال الحافظ في "الفتح" (3/ 310): "مقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهماً بالاتفاق والمراد بالدرهم: الخالص من الفضة". (¬5) أخرجه البخاري: 1447، ومسلم: 979.

صدقة، إلاَّ صدقة الفطر" (¬1). وأنّه -عليه السلام- ذكَر حقّ الله تعالى في الإِبل والبقر والغنم والكنز ... فسُئِل عن الحُمُر فقال: "ما أنزل عليّ فيها شيء إِلا هذه الآية الفاذّة (¬2) الجامعة: {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره} (¬3) " (¬4). فمن أوجَب الزكاة في عروض التجارة؛ فإِنه يوجبها في الخيل والحُمُر والعبيد، وقد قطع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بأنه لا زكاة في شيء منها؛ إِلا صدقة الفطر في الرقيق. فلو كانت في عروض التجارة، أو في شيء ممّا ذَكَر -عليه السلام- زكاة إِذا كان لتجارة -لبيّن ذلك بلا شكّ، فإِذْ لم يُبيِّنه -عليه السلام- فلا زكاة فيها أصلاً "* (¬5). وقد يحتجّ بعض العلماء بحديث قيس بن أبي غَرَزَة -رضي الله عنه- قال: "مرّ بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا معشر التّجار، إِنّ البيع يحضره اللغو والحلف؛ فَشُوبُوه بالصدقة" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 982. (¬2) أي: المنفردة في معناها. (¬3) الزلزلة: 7. (¬4) أخرجه البخاري: 2860، ومسلم: 987. (¬5) ما بين نجمتين من كلام ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (5/ 353)، خلا الأحاديث؛ فإِنها خُرّجت من مصادرها المذكورة. (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2845) والترمذي والنسائي وابن ماجه وصحّح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "المشكاة" (2798).

قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 349): "فهذه صدقةٌ مفروضة غير محدودة؛ لكن ما طابت به أنفسهم، وتكون كفّارة لما يشوب البيع مما لا يصحّ؛ من لغو وحَلِف". وربما احتجّ بعض العلماء بقول ابن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "ليس في العروض زكاة؛ إِلا ما كان للتجارة" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنَّة" (ص 364) بعد أن ذَكر ما ذكرْته في بداية المبحث من عدم ورود دليل على زكاة العروض من الكتاب والسّنّة، ومنافاة ذلك البراءة الأصلية مُدعماً بالحديث المتقدّم: "فإِنّ دماءَكم وأموالكم ... " قال -رحمه الله-: "ومِثل هذه القاعدة ليس من السهل نقضها، أو على الأقلّ تخصيصها ببعض الآثار ولو صحّت" وذكَر هذا الأثر". ثم قال -رحمه الله-: "ومع كونه موقوفاً غير مرفوع إلى النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإِنّه ليس فيه بيان نصاب زكاتها ولا ما يجب إِخراجه منها، فيُمكِن حمْله على زكاة مطلقة، غير مقيّدة بزمن أو كمّية، وإنما بما تطيب به نفس صاحبها، فيدخل حينئذ في عموم النصوص الآمرة بالإِنفاق، كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفِقوا ممّا رزقناكم ... }، وقوله -جلّ وعلا-: {وآتوا حقّه يوم حَصاده}، وكقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلاَّ ملكان يَنزِلان، فيقول أحدهما: اللهمّ أَعْطِ مُنفِقاً خَلَفَاً، ويقول الآخر: اللهمّ أعط ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام الشافعي في "الأمّ" بسند صحيح، وانظر "تمام المِنّة" (ص 364).

مُمْسِكاً تَلَفَاً". رواه الشيخان (¬1) وغيرهما، وهو مُخرَج في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" برقم (920). وقد صحّ شيء مما ذكرْتُه عن بعض السلف، فقال ابن جريج: قال لي عطاء: "لا صدقة في اللؤلؤ، ولا زبرجد، ولا ياقوت، ولا فصوص، ولا عَرْض (¬2)، ولا شيء لا يدار (أي: لا يتاجَر به)، وإن كان شيئاً من ذلك يدار؛ ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع". أخرجه عبد الرزاق (4/ 84/7061)، وابن أبي شيبة (3/ 144)، وسنده صحيح جداً. والشاهد منه قوله: "ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع". فإِنه لم يَذكُر تقويماً، ولا نصاباً، ولا حولاً، ففيه إِبطال لادِّعاء البغوي في "شرح السنة" (6/ 53) الإِجماع على وجوب الزكاة في قيمة عروض التجارة؛ إِذا كانت نصاباً عند تمام الحول! كما زعم أنه لم يخالِف في ذلك إِلا داود الظاهري! وإنّ ممّا يبطل هذا الزعم أنّ أبا عبيد -رحمه الله- قد حكى في كتابه "الأموال" (427/ 1193) عن بعض الفقهاء؛ أنّه لا زكاة في أموال التجارة. ومن المستبعَد جداً؛ أنْ يكون عنى بهذا البعض داود نفسه؛ لأنّ عمره ¬

_ (¬1) انظر "صحيح البخاري" (1442)، و"صحيح مسلم" (1010). (¬2) المتاع.

كان عند وفاة الإِمام أبي عبيد أربعاً وعشرين سنة أو أقلّ؛ ومن كان في هذا السنّ؛ يبعد عادة أن يكون له شُهْرة علمية؛ بحيث يحكي مثل الإِمام أبي عبيد خلافه، وقد تُوفّي سنة (224)، وولد داود سنة (200) أو (202)، فتأمّل. ولعلّ أبا عبيد أراد بذاك البعض؛ عطاء بن أبي رباح، فقد قال إِبراهيم الصائغ: "سُئل عطاء: تاجر له مال كثير في أصناف شتّى، حضَر زكاته، أعليه أنْ يقوِّم متاعه على نحو ما يعلم أنه ثمنه، فيُخرِج زكاته؟ قال: لا، ولكن ما كان من ذهبٍ أو فضةٍ أخرج منه زكاته، وما كان من بيع أخرج منه إِذا باعه". أخرجه ابن زنجويه في كتابه "الأموال" (3/ 946/ 1703) بسند حسن كما قال المعلّق عليه الدكتور شاكر ذيب فياض، وهو شاهد قوي لرواية ابن جريج المتقدمة. وجملة القول؛ أنّ المسألة لا يصح ادّعاء الإِجماع فيها، لهذه الآثار وغيرها ممّا ذكَره ابن حزم في "المحلّى"، الأمر الذي يُذكّرنا بقول الإِمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "من ادّعى الإِجماع، فهو كاذب، وما يدريه لعلّهم اختلفوا". وصدَق -جزاه الله خيراً- فكم من مسألة ادُّعي فيها الإِجماع، ثمّ تبيّن أنّها من مسائل الخلاف، وقد ذكَرنا أمثلة منها في بعض مؤلفاتنا، مِثل "أحكام الجنائز" و"آداب الزفاف"، وغيرهما". وقال -رحمه الله- (ص 367): "قد يَدّعي بعضهم أنّ القول بعدم

وجوب زكاة عروض التجارة فيه إِضاعة لحق الفقراء والمساكين في أموال الأغنياء والمُثرين، والجواب من وجهين: الأول: أنّ الأمر كله بيد الله تعالى، فليس لأحد أنْ يشرع شيئاً من عنده بغير إِذنٍ من الله -عزّ وجلّ- {وربُّك يخلُق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخِيرَة سبحانه وتعالى عمَّا يشركون} (¬1). ألا ترى أنّهم أجمَعوا على أنّه لا زكاة على الخَضْراوات؛ على اختلافٍ كثيرٍ بينهم؛ مذكورٍ عند المصنّف (¬2) وغيره، واتفقوا على أنه لا زكاة على القصب والحشيش والحطب؛ مهما بلغَت قيمتها، فما كان جوابهم عن هذا كان الجواب عن تلك الدعوى! على أنّ المؤلف قد جزَم أنّه لم تكن تُؤخَذ الزكاة من الخَضْراوات ولا من غيرها من الفواكه إلاَّ العنب والرّطب. فأقول: فهذا هو الحقّ، وبه تبطُل الدعوى من أصلها. والآخر: أنّ تلك الدعوى قائمة على قصر النظر في حكمة فرض الزكاة؛ أنها لفائدة الفقراء فقط، والأمر على خلافه كما في قوله تعالى: {إِنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ... } (¬3) الآية. فإِذا كان الأمر كذلك، ووسَّعْنا النظر في الحكمة قليلاً، وجدنا أنّ الدعوى المذكورة باطلة؛ لأنّ طرْح الأغنياء أموالهم ومتاجرتهم بها أنفع ¬

_ (¬1) القصص: 68. (¬2) أي: الشيخ السيد سابق -رحمه الله تعالى-. (¬3) التوبة: 60.

للمجتمع -وفيه الفقراء- مِنْ كَنْزِها، ولو أخرجوا زكاته. ولعلّ هذا يُدركه المتخصصون في علم الاقتصاد أكثر من غيرهم، والله ولي التوفيق". وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 16): "وأمّا مالك فمذهبه أنّ التجّار على قسمين: متربّص، ومدير. فالمتربّص (¬1): وهو الذي يشتري السلع، وينتظر بها الأسواق، فربَّما أقامت السلع عنده سنين، فهذا عنده لا زكاة عليه، إِلا أنْ يبيع السلعة فيزكّيها لعام واحد. وحُجّته أنّ الزكاة شُرعت في الأموال النامية، فإِذا زَكّى السلعة كلّ عام - وقد تكون كاسدة- نقصت عن شرائها فيتضرر، فإِذا زُكّيت عند البيع؛ فإِنْ كانت ربحت فالربح كان كامناً فيها، فيُخرج زكاته، ولا يُزكّي حتى يبيع بنصاب؛ ثم يُزكّي بعد ذلك ما يبيعه من كثير وقليل. وأمّا المدير: وهو الذي يبيع السلع في أثناء الحول، فلا يستقر بيده سلعة، فهذا يُزكّي في السَّنة الجميع، يجعل لنفسه شهراً معلوماً، يحسب ما بيده من السِّلَع والعين، والدّين الذي على المليء الثقة، ويزكي الجميع، هذا إِذا كان ينضُّ (¬2) في يده في أثناء السَّنة، ولو درهم، فإِن لم يكن يبيع بعين ¬

_ (¬1) وقال (ص 45) في تعريف المتربص: "وهو الذى يشترى التجارة وقت رُخصها ويدّخرها إِلى وقت ارتفاع السعر". (¬2) نضّ الشيء: حصَل وتيسّر. "الوسيط".

أصلاً، فلا زكاة عليه عنده" (¬1). وقال الشوكاني -رحمه الله- في "السّيل الجرار" (2/ 27) -بعد تحقيق وتخريج النصوص المتعلقة بالموضوع-: "والحاصل أنّه ليس في المقام ما تقوم به الحُجّة، وإِنْ كان مذهب الجمهور كما حكاه البيهقي في "سننه" فإِنه قال: إِنه قول عامّة أهل العلم والدّين". انتهى. وهناك أمر هامّ؛ وهو أنّ من أوجَب الزكاة على عروض التجارة بنسبة 2.5% فماذا إِذا ربح التاجر وحال الحول على مبلغٍ ما عنده؛ أفلا يكون قد أوجب الزكاة عليه مرّتين؟ فمن أين هذا الإيجاب؟ وما الدليل عليه؟ والخلاصة: "إِنّه لا يحل مال امرئ مسلم إلاَّ عن طيب نفس"، وأنّه لم يرد نصٌ في الكتاب أو السُّنَة الصحيحة يوجب زكاة العروض مع كثرة متاجرات الصحابة -رضي الله عنهم- وأنّه قد ورَدت بعض الآثار التي تفيد ورود ذلك. بيْد أنّها لم تبلغ مبلغاً ينقض ما اتفق من القواعد، أو يجعلنا نطمئنّ بإِيجاب هذه الزكاة، مع مناقشة أهل العلم لأفراد هذه الآثار. وكذلك قد ورَد في نصوص عديدة بيان زكوات أشياء عديدة، كزكاة النقدين، وما يؤخَذ من الزروع والثمار؛ كالحنطه والشعير والتمر والزبيب، وزكاة المواشي: الإِبل والبقر والغنم، وفيها بيان النصاب ومقدار الواجب في كلّ ذلك، وورد في نصوص عديدة ما لا يُؤخَذ فيه زكاة؛ كالخَضْراوات، ¬

_ (¬1) ويميل شيخ الإِسلام -رحمه الله- إِلى وجوب الزكاة في عروض التجارة، وانظر -إِن شئت- "مجموع الفتاوى" (25/ 15).

والخيل، والرقيق إلاَّ زكاة الفطر، ودون خمسة أوسق من التمر ... " ودون الأربعين من سائمة الغنم. وسكت الشرع عن أشياء غير نسيان (¬1)، وقد قال الله تعالى: {وما كان ربُّك نَسِيّا} (¬2). ودلّ هذا على عدم إِيجاب الزكاة -يعني المقنّنة التي يشترط فيها الحول والنصاب- وإنما تُدفع صدقة من الصدقات والله -تعالى- أعلم". وسألْت شيخنا -رحمه الله- مَنْ مِنْ السّلف قال بهذا القول؟ فكان من إِجابته: " ... إنّ بعض التُّجار قد جاءوا من الشام إلى عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- ومعهم خيل للبيع للتجارة، فقالوا له: يا أمير المؤمنين! خُذ منّا زكاتها. فقال -رضي الله عنه-: إِنّه لم يفعل ذلك صاحباي من قبلي. فألحّوا مُصرِّين وألحّ هو كذلك، وكان في المجلس علي بن أبي طالب ¬

_ (¬1) وفي الحديث: "ما أحلَّ الله في كتابه فهو حلال، وما حَرَّم فهو حرام، وما سكَت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإِن الله لم يكن لينسى شيئاً، وتلا: {وما كان ربك نسيًّا} ". أخرجه الحاكم في "المستدرك" وغيره، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "غاية المرام" (2). وثبث عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: "الحلال ما أحلّ الله في كتابه، والحرام ما حرّم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو عفو". "غاية المرام" (3). (¬2) مريم: 64.

-رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين! خُذها منهم على أنّها صدقة من الصدقات، فأخَذَها فطابت قلوبهم. والحديث في "مسند الإِمام أحمد"، ففيه بيان وتوضيح أنّ الخيل التي كانت تُربَّى وتشرى من أجل المتاجرة بها؛ لا زكاة عليها؛ كالذي فرَض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاته على الحيوانات الأخرى؛ كالغنم والبقر والإِبل، وبيّن شيخنا -رحمه الله- أن ابن حزم ذكَر ذلك". انتهى. قلت: والذي ذكَره ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 339) وقد ذكر أنه لا زكاة في الخيل-: "وقد صحّ أنّ عمر إِنّما أخَذها على أنها صدقة تطوُّع منهم؛ لا واجبة. ... عن شبيل بن عوف -وكان قد أدرك الجاهلية- قال: أمَر عمر بن الخطاب الناس بالصدقة؛ فقال الناس: يا أمير المؤمنين، خيل لنا، ورقيق، افرِضْ علينا عشرة عشرة! فقال عمر: أمّا أنا فلا أفرض ذلك عليكم. ثمّ قال: ... عن حارثة -هو ابن مضرب- قال: "حَججتُ مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأتاه أشراف أهل الشام فقالوا: يا أمير المؤمنين، إِنّا أصبنا رقيقاً ودوابّ؛ فخُذ مِن أموالنا صدقةً تُطهّرنا، وتكون لنا زكاة! فقال: هذا شيء لم يفعله اللذان كانا قبلي" (¬1). ¬

_ (¬1) وقال شيخنا -رحمه الله- في بعض إِجابات السائلين: "فيه رجل يكنّى بأبي إِسحاق السبيعي، وهو ثقة حُجّة من رجال الشيخين، ولكنه متَّهم بأمرين؛ الأول: التدليس، والثاني: الاختلاط، وبعضهم يغضّ النظر عن مِثل هذه العِلّة فيَحكُم على الإِسناد بالصحة، ولكن لا بأس من إِيراد هذا الأثر مع بيان حقيقته ... ".

زكاة الزروع والثمار

ثم قال: ... هذه أسانيد في غاية الصحّة والإِسناد، فيه أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأخذ من الخيل صدقة، ولا أبو بكر بعده؛ وأنّ عمر لم يفرض ذلك، وأنّ علياً بعده لم يأخذها". زكاة الزروع والثمار وجوبها قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مِن طيّبات ما كسبتُم وممّا أَخرجْنا لكم من الأرض} (¬1). وقال تعالى: {وهو الذي أنشَأ جنّاتٍ (¬2) معروشات وغيرَ معروشات (¬3) والنخل والزرع مختلفاً أُكُله (¬4) والزيتون والرُّمان متشابهاً (¬5) وغير ¬

_ (¬1) البقرة: 267. (¬2) الجنات: هي البساتين. (¬3) معروشات وغير معروشات: أي: مسموكات مرفوعات، وغير مرفوعات، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: معروشات: ما انبسط على وجه الأرض فانتشر ممّا يعرش؛ مِثل الكرم والقرع والبطيخ وغيرها. وغير معروشات: ما قام على ساق ونسَق [ما كان على نظام واحد] مِثل النخل والزرع وسائر الأشجار، وقال الضحاك: كلاهما من الكرم خاصَّة؛ منها ما عُرش ومنها ما لم يُعرش"، "تفسير البغوي". (¬4) مختلفاً أُكُله: أي: ثمره وطعمه منها الحلو والحامض ... (¬5) متشابهاً: أي: في النظر.

الأصناف التي تؤخذ منها

متشابه (¬1) كلوا من ثمره إذا أثمَر وآتوا حقّه يوم حَصادِه} (¬2). عن ابن عباس -رضي الله عنهما- {وآتوا حقّه يوم حصادِه}: "الزكاة المفروضة يوم يُكال ويُعلم كيلُه" (¬3). الأصناف التي تُؤخَذ منها تُؤخَذ زكاة الزروع والثمار من الحنطة والشعير والتمر والزبيب فقط. عن أبي موسى ومعاذ -رضي الله عنهما- حين بعَثهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى اليمن يُعلّمان النّاس أمر دينهم: "لا تأخذوا الصدقة إِلا من هذه الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر" (¬4). جاء في "تمام المِنّة" (ص 372): "قال أبو عبيد وابن زنجويه في "كتابيهما": "والذي نختاره في ذلك الاتباع لسُنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتمسّك بها، أنّه لا صدقة في شيء من الحبوب إِلا في البُرّ والشعير، ولا صدقة في شيء من الثمار إِلا في النخل والكرم. لأنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسمِّ إلاَّ إِيّاها، مع قول من قال به من الصحابة والتابعين، ثم اختيار ابن أبي ليلى وسفيان إِياه، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين خصّ ¬

_ (¬1) وغير متشابه: أي: في الطعم مثل الرمّانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف. "تفسير البغوي". (¬2) الأنعام: 141. (¬3) تفسير ابن كثير. (¬4) أخرجه الدارقطني والحاكم وغيرهما، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (801) و"الصحيحة" (879).

هل في العنب زكاة؟

هذه الأصناف الأربعة للصدقة، وأعرض عمّا سِواها، قد كان يعلم أنّ للناس أموالاً وأقواتاً، ممّا تخرج سواها، فكان ترْكه ذلك وإعراضه عنه؛ عفواً منه كعفوه عن صدقة الخيل والرقيق". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله تعالى-] وهذه الحُجّة الأخيرة؛ تنسحب أيضاً على عروض التجارة (¬1)، فإِنها كانت معروفة في عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذُكِرت في القرآن والأحاديث مراراً كثيرة، وبمناسبات شتّى، فسكوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها، وعدم تحدُّثه عنها بما يجب عليها من الزكاة التي ذهب إِليها بعضهم؛ فهو عفو منه أيضاً لحكمة بالغة، سبق لفت النظر إِلى شيء منها ممّا ظهر لنا، والله -سبحانه وتعالى- أعلم". وسألتُ شيخنا -رحمه الله- عن أخْذِ الأصناف التي تشبه المذكورات "الحنطة والشعير والتمر والزبيب" وما اشتق منها، كالخوخ ونحوه. فقال: ما قيل في عروض التجارة؛ أي: الزكاة غير المقنّنة. هل في العنب زكاة؟ عن موسى بن طلحة قال: "أمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذ بن جبل حين بعثه إِلى اليمن؛ أن يأخذ الصدقة من الحنطة والشعير والنخل والعنب". * وهذا سند صحيح مرسل، وهو صريح في الرفع، ولا يضر إِرساله لأمرين: الأول: أنّه صحَّ موصولاً عن معاذ كما تقدّم (¬2) من رواية ابن مهدي عن سفيان عن عمرو بن عثمان. ¬

_ (¬1) وتقدّم الكلام عنها. (¬2) تحت رقم (801) من "الإرواء".

لا تؤخذ الزكاة من الخضراوات.

الثاني: أن عبد الله بن الوليد العدني -وهو ثقة- رواه عن سفيان به وزاد فيه: "قال: بَعث الحجّاج بموسى بن المغيرة على الخضر والسواد، فأراد أن يأخذ من الخضر الرطاب والبقول، فقال موسى بن طلحة عندنا كتاب معاذ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه أمرَه أن يأخذ من الحنطة والشعير والتمر والزبيب. قال: فكتَب إِلى الحجّاج في ذلك، فقال: صدَق ... "* (¬1). وسألتُ شيخنا -رحمه الله-: هل تجب الزكاة في العنب؟ فأجاب: تجب الزكاة فيه إِذا أراد بيعه قبل أن يصبح زبيباً؛ كما تجب فيه الزكاة وهو زبيب. لا تُؤخذ الزكاة من الخَضْراوات. عن معاذ أنه كتب إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأله عن الخَضْراوات -وهي البقول- فقال: "ليس فيها شيء" (¬2). قال أبو عيسى: "والعمل على هذا عند أهل العلم؛ أنه ليس في الخَضْراوات صدقة". وروى موسى بن طلحة أنّ معاذاً لم يأخذ من الخَضْراوات صدقة" (¬3). هل في السُّلت زكاة؟ نعم فيه زكاة؛ وهو ضرب من الشعير أبيض لا قشر له (¬4) لأنه صنف من ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "الإِرواء" (3/ 278). (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (519) وغيره. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (801). (¬4) انظر "النهاية".

هل في الزيتون زكاة؟

الأصناف الأربعة المذكورة في الحديث (¬1). هل في الزيتون زكاة؟ وسألت شيخنا -رحمه الله- عن الزيتون، هل يرى عدم إِخراج الزكاة عنه؟ فأجاب -رحمه الله-: لا تجب فيه الزكاة المقنّنة، أمّا الزكاة العامّة فتجب لقوله تعالى: {وآتوا حقّه يوم حصاده} (¬2). النّصاب يُشترط لإِيجاب الزكاة في الثمار والزروع المنصوص عليها؛ أن تبلغ خمسة أوسُق (¬3). عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقة من الإِبل، وليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقة" (¬4). المقدار الواجب: ْيختلف المقدار الواجب إِخراجه باختلاف وسيلة السقي؛ فإِنْ كان يُسقَى بماء السماء والعيون والأنهار؛ فزكاته العُشر. ¬

_ (¬1) انظر -إِن شئت- للمزيد من الفائدة "تمام المِنّة" (ص 370). (¬2) الأنعام: 141. (¬3) الوَسْق: ستون صاعاً والأصل في الوَسْق: الحِمل، وكلّ شيء وسَقْته فقد حَمَلْته، ْوالوَسق أيضاً: ضمّ الشيء إِلى الشيء. "النهاية". (¬4) أخرجه البخاري: 1447، ومسلم: 979.

وإن كان يُسقَى بالدلاء والنواضح الارتوازية ونحوها؛ فزكاته نصف العُشر (¬1). فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فيما سقَت السماء والعيون أو كان عَثَريّاً (¬2) العُشر، وما سُقي بالنَّضح (¬3) نصف العُشر" (¬4). وعن جابر -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فيما سقَت الأنهار والغيم (¬5) العُشور (¬6) وفيما سُقي بالسانية (¬7) نصف العُشر" (¬8). وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: بعَثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى اليمن، وأمَرني أن آخذ ممّا سقت السماء وممّا سُقي بعلاً العُشر، وما سُقي ¬

_ (¬1) انظر ما قاله شيخنا في "الصحيحة" تحت الحديث (142). (¬2) قال الخطابي: "هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي" زاد ابن قدامة عن القاضي أبي يعلى: وهو المستنقع في بركة ونحوها؛ يصبّ إِليه من ماء المطر في سواق تشقّ له قال: واشتقاقه من العاثور، وهي الساقية التي يجرى فيها الماء لأن الماشي يعثر فيها. قال: ومنه الذي يشرب من الأنهار بغير مؤنة أو يشرب بعروقه؛ كأن يغرس في أرض؛ يكون الماء قريباً من وجهها، فيَصل إِليه عروق الشجر فيستغني عن السقي". قاله الحافظ في "الفتح" (3/ 349). (¬3) الإِبل التي يُستقى عليها. (¬4) أخرجه البخاري: 1483. (¬5) أي: المطر. (¬6) العُشور: جمْع عُشر. (¬7) السانية: البعير الذي يستقى به الماء من البئر، ويقال له النّاضح. "عون" (4/ 340). (¬8) أخرجه مسلم: 981.

الأكل من الزرع قبل إخراج الزكاة

بالدوالي (¬1) نصف العُشر" (¬2). الأكل من الزرع قبل إِخراج الزكاة قال ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (5/ 385): "مسألة: ولا يجوز أن يُعَدّ على صاحب الزرع في الزكاة ما أَكل هو وأهله فريكاً أو سويقاً -قلّ أو كثُر- ولا السنبل الذي يسقط فيأكله الطير أو الماشية، أو يأخذه الضعفاء، ولا ما تصدَّق به حين الحصاد؛ لكن ما صُفّي فزكاته عليه. برهان ذلك: ... أن الزكاة لا تجب إِلا حين إِمكان الكيل، فما خرَج عن يده قبل ذلك؛ فقد خرج قبل وجوب الصدقة فيه. وقال الشافعي والليث كذلك. وقال مالك وأبو حنيفة: يُعَدّ عليه كل ذلك. قال أبو محمّد: هذا تكليف ما لا يطاق، وقد يسقط من السنبل ما لو بقي لأتمّ خمسة أوسق، وهذا لا يُمكن ضبطه، ولا المنع منه أصلاً. والله تعالى يقول: {لا يكلِّف الله نفساً إِلا وُسعَها} (¬3) ". ¬

_ (¬1) الدوالي: جمع دالية وهي الساقية أو الناعورة وهي دولاب ذو دلاء أو نحوها يدور بدفع الماء أو جرّ الماشية؛ فيخرج الماء من البئر أو النهر إِلى الحقل، وانظر "الوسيط". (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1472) وانظر "الإرواء" تحت الحديث (799). (¬3) البقرة: 286.

خرص النخيل والأعناب

خَرْص (¬1) النخيل والأعناب إِذا بدا صلاح النخيل والأعناب وظهر بعينها الحلاوة، فإِنّ تقدير النصاب فيها بالخرص لا الكيل. فعن أبي حُميد الساعدي -رضي الله عنه- قال: غَزونا مع النّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غزوة تبوك، فلمّا جاء وادي القُرى؛ إِذا امرأة في حديقةٍ لها، فقال النبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه: اخرُصوا، وخَرَص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشرةَ أَوْسُق، فقال لها: أحْصِي (¬2) ما يخرج منها ... فلما أتى وادي القُرى قال للمرأة: كم جاء حديقتُك؟ قالت: عشرةَ أوسُق خَرْصَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين افتتح خيبر اشترط عليهم أنّ له الأرض، وكلّ صفراء وبيضاء، يعني -الذهب والفضة- ¬

_ (¬1) الخَرص: حَزْر ما على النخيل من الرطب تمراً، قال الحافظ بعد التعريف السابق: "حكى الترمذي عن بعض أهل العلم؛ أنّ تفسيره أنّ الثمار إِذا أدركت من الرطب والعنب؛ ممّا تجب فيه الزكاة؛ بعَث السلطان خارصاً ينظر فيقول: يخرج من هذا كذا وكذا زبيباً، وكذا وكذا تمراً فيُحصيه، وينظر مبلغ العُشر فيُثبته عليهم ويخلي بينهم وبين الثمار، فإِذا جاء وقت الجذاذ؛ أخَذ منهم العشر انتهى، وفائدة الخرص التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها والبيع من زهوها وإيثار الأهل والجيران والفقراء؛ لأن في منعهم منها تَضْييقاً لا يخفى". (¬2) أي: احفظي عدد كيلها، وأصل الإِحصاء: العدد بالحصى؛ لأنهم كانوا لا يُحسنون الكتابة؛ فكانوا يضبطون العدد بالحصى. (¬3) أخرجه البخاري: 1481، ومسلم: 1392.

وقال له أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض، فأعطِناها على أن نعملها، ويكون لنا نصف الثمرة، ولكم نصفها، فزعم أنّه أعطاهم على ذلك. فلمّا كان حين يصرم النخيل؛ بعَث إِليهم ابن رواحة، فحزر النخيل -وهو الذي يدعونه أهل المدينة، الخرص- فقال: في ذا: كذا وكذا. فقالوا: هذا الحقّ، وبه تقوم السماء والأرض فقالوا: قد رضينا أن نأخذ بالذي قُلت" (¬1). قال الخطابي: " ... والخرص عُمِل به في حياة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى مات، ثم أبو بكر وعمر فمَن بعدهم، ولم يُنقل عن أحدٍ منهم ولا من التابعين ترْكه؛ إلاَّ عن الشعبي" (¬2). وسألت شيخنا -رحمه الله- أيضاً: "ما رأيكم فيمن يرى أنّ الزيتون يُزكّى بالخرص؛ فتؤخذ زكاته زيتاً"؟ فأجاب -رحمه الله-: "لا، ليس عليه زكاة، ونحن حينما نقول: ليس عليه زكاة؛ نعني الزكاة التي تجب على الأصناف المنصوص عليها في الأحاديث، بمعنى لا نصاب، وتزكّى في كلّ عام، فهذا حينما نُثبته نعنيه، وكذلك حينما ننفيه نعنيه. وأقصد بهذا لفْت النظر إِلى أنّ هناك زكاةً مطلقة؛ ليس لها هذه القيود، إِعمالاً لقوله تعالى: {وآتوا حقّه يوم حصاده} ". ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه وإسناده جيد كما في "الإِرواء" (3/ 282). (¬2) انظر "الفتح" (3/ 344).

متى تجب الزكاة في الزروع والثمار؟

متى تجب الزكاة في الزروع والثمار؟ تجب الزكاة في الزروع إِذا اشتدّ الحبّ وصار فريكاً؛ وتجب في الثمار إِذا بدا صلاحها، ويعرف ذلك باحمرار البلح وجريان الحلاوة في العنب (¬1). عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "نهى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحُها، وكان إِذا سئل عن صلاحها قال: حتى تذهب عاهته (¬2) " (¬3). وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها" (¬4). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تُزهيَ. قال: حتى تحمارّ (¬5) " (¬6). قال ابن المنيّر -رحمه الله- في كتابه "المتواري على تراجم أبواب البخاري" (ص 127) بعد ذكر حديث ابن عمر وأنس -رضي الله عنهم-: "ووجه الاستدلال؛ إِجازته للبيع بعد بدوّ الصلاح؛ وهو وقت الزكاة ... ". ¬

_ (¬1) عن "فقه السنة" (1/ 361). (¬2) أي: الآفة التي تصيبها فتفسدها. "النهاية". (¬3) أخرجه البخاري: 1486. (¬4) أخرجه البخاري: 1487. (¬5) قال الكرماني (8/ 34): "تفسيره بلفظ "تحمارّ" على سبيل التمثيل إِذ حُكم الاصفرار والاسوداد أيضاً كذلك قال ابن الأعرابي: يقال: زها النخل: إِذا ظهرت ثمرته وأزهى إِذا احمرّ أو اصفرّ". (¬6) أخرجه البخاري: 1488.

إخراج الطيب في الزكاة:

وسألت شيخنا -رحمه الله- متى يعتبر النصاب في الزرع والثمار؟ أبعد جفاف الثمار أم قبل ذلك؟ فأجاب -رحمه الله-: يعتبر النصاب بعد الحصاد وإدخالها في الأكياس. إِخراج الطيّب في الزكاة: قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيّبَات ما كسبتُم وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تُنفِقون ولستم بآخذيه إِلاَّ أن تُغمضوا فيه واعلموا أنَّ الله غني حميد} (¬1). قال ابن كثير: {ولا تيمّموا الخبيث} أي: تقصدوا الخبيث {منه تنفقون ولستم بآخذيه}: أي: لو أُعطيتموه ما أخذتموه إلاَّ أن تتغاضوا فيه، فالله أغنى عنه منكم. وقيل: معناه: أي: لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إِلى الحرام؛ فتجعلوا نفقتكم منه". قلت: ويمكن الجمع بين القولين. وعن البراء بن عازب في قوله سبحانه: {وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفِقون}. قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار تخرِج، إِذا كان جَداد (¬2) النخل، من حيطانها، أقناء البُسر (¬3)، فيعلقونه على ¬

_ (¬1) البقرة: 267. (¬2) الجداد: أوان قطع ثمر النخل. "الوسيط". (¬3) البُسر: تمر النخل قبل أن يُرطب.

حبل بين أسطوانتين في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيأكل منه فقراء المهاجرين، فيعمِد أحدهم فيُدخِل قِنواً (¬1) فيه الحشَف (¬2)، يظن أنه جائز في كثرة ما يوضع من الأقناء، فنزل فيمن فعل ذلك {ولا تيمّموا الخبيث منه تُنفِقون} يقول: لا تعمدوا للحشف منه تُنفِقون {ولستم بآخذيه إِلا أن تُغمِضوا فيه} يقول: لو أُهدي لكم ما قبلتموه إِلا على استحياءٍ من صاحبه، غيظاً أنه بعث إِليكم ما لم يكن لكم فيه حاجة، واعلموا أنّ الله غني عن صدقاتكم" (¬3). وعن سهل بن حُنيف -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الجُعرور (¬4)، ولون الحُبَيق (¬5)؛ أن يؤخذا في الصدقة". قال الزُّهري: "لونين من تمر المدينة" (¬6). ¬

_ (¬1) القِنو: العِذق [الغصن] بما فيه من الرطب. "النهاية". (¬2) الحشَف: اليابس الفاسد من التمر. "النهاية". (¬3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1475)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2389). (¬4) الجُعرور: ضَرْب من الدّقل [رديء التمر] يحمل رُطباً صغاراً لا خير فيه. "النهاية". (¬5) الحُبَيق: هو نوع من أنواع التمر الرديء، منسوب إِلى ابن حُبيق، وهو اسم رجل. "النهاية". (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1418)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2312) وغيرهما.

زكاة العسل

وترجم له ابن خزيمة في "صحيحه" (4/ 39) بقوله: "باب الزجر عن إِخراج الحبوب والتمور الرديئة في الصدقة؛ قال الله عز وجل: {ولا تيمّموا الخبيث منه تُنفِقون ولستم بآخذيه إِلا أن تُغمِضوا فيه}. وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: "دخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسجد وبيده عصاً، وقد علّق رجُلٌ منّا حَشَفاً، فطعَن بالعصا في ذلك القِنو وقال: لو شاء ربّ هذه الصدقة؛ تصدَّق بأطيبَ منها". وقال: "إِنَّ رَبّ هذه الصدقة يأكل الحَشَفَ يوم القيامة" (¬1). زكاة العسل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤخذ في زمانه من قرب العسَل؛ من كل عشر قِرب قِرْبة؛ من أوسطها" (¬2). وعن أبي سيارة المتّقي -رضي الله عنه- قال: قلتُ يا رسول الله! إِنَّ لي نحلاً، قال: أدِّ العُشر، قلت: يا رسول الله! احمِها (¬3) لي فحماها له" (¬4). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "في العسل ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1419). (¬2) أخرجه أبو عبيد في "الأموال" وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1477) وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (810). (¬3) احمها: أي: احفظها حتى لا يطمع فيه أحد. حاشية "السندي على سنن ابن ماجه" (1/ 559). (¬4) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1476).

في كلّ عشرة أزُقّ زِقّ" (¬1). وجاء في "تمام المِنّة" (ص 374) لشيخنا في الردّ على السيد سابق -رحمهما الله- في ذِكْره قول البخاري "ليس في زكاة العسل شيء يصحّ": "أقول [أي: شيخنا -رحمه الله تعالى-]: ليس هذا على إِطلاقه، فقد روي فيه أحاديث؛ أحسنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأصحّ طُرقه إِليه طريق عمرو بن الحارث المصري عن عمرو بن شعيب ... بلفظ: "جاء هلال أحد بني مُتعان إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعشور نحل له، وكان سأله أن يحمي له وادياً يقال له: (سَلَبَة)، فحمى له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك الوادي. فلمّا وَلِيَ عمر بن الخطاب، كتب سفيان بن وَهْب إِلى عمر يسأله عن ذلك، فكتب عمر: إِنْ أدّى إِليك ما كان يؤدّي إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عشور (¬2) نحله، فاحْمِ له (سَلَبته)، وإِلا فإِنما هو ذباب غيث (¬3) يأكله من يشاء". قلت: وهذا إِسناد جيد، وهو مخرج في "الإِرواء" (810)، وقواه الحافظ في "الفتح"، فإِنّه قال عقبه (3/ 348): "وإسناده صحيح إِلى عمرو، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (514). (¬2) جمع عشر والمراد من كل عشر قِرَب قربة. (¬3) أي: وإنْ لم يؤدّوا عشور النحل، فالعسل مأخوذ من ذباب النحل [فلا يلزم عليك حِفْظه، لأن الذباب غير مملوك، فيحلّ لِمن يأخذه]، وأضاف الذباب إِلى الغيث؛ لأنَّ النحل يقصد مواضع القطر؛ لما فيها من العشب والخصب. "عون" (4/ 342) وما بين معقوفين قاله السندي -رحمه الله-.

وترجمة عمرو قوية على المختار، لكن حيث لا تعارض ... إلاَّ أنّه محمول على أنه في مقابلة الحمى كما يدل عليه كتاب عمر بن الخطاب". وسبقه إِلى هذا الحمل ابن زنجويه في "الأموال" (1095 - 1096)، ثمّ الخطابي في "معالم السنن" (1/ 208)، وهو الظاهر، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. ولدقة المسألة حديثياً وفقهياً، اضطرب فيه رأي الشوكاني، فذهب في "نيل الأوطار" (4/ 125) إِلى عدم وجوب الزكاة على العسل، وأعلّ أحاديثه كلها، وأما في "الدرر البهية " فصرَّح بالوجوب، وتبعه شارحه صديق خان في "الروضة الندية" (1/ 200)، وأيَّد ذلك الشوكاني في "السيل الجرار" (2/ 46 - 48)، وقال: "وأحاديث الباب يُقوّي بعضها بعضاً". فلم ينتبه إِلى الفَرق، واختلاف دلالة بعضها عن بعض، فهذه الطريق الصحيحة دلالتها مقيّدة بالحَمي -كما رأيت- والأخرى مطلقة، ولكنها ضعيفة لا تنهض للاحتجاج بها، كما قال هو نفسه في "النيل"، ثم تبنى العمل بها في المصدرين المشار إِليهما، ونسي قاعدة "حمل المطلق على المقيد" التي يُكرّرها في كثير من المسائل التي تتعارض فيها الأدلة، فيجمع بينها بها. إِذا تبين هذا؛ فنستطيع أن نستنبط مما سبق؛ أنّ المناحل التي تتخذ اليوم في بعض المزارع والبساتين لا زكاة عليها، اللهمّ إلاَّ الزكاة المطلقة؛ بما تجود به نفسه، على النحو الذي سبَق ذِكره في عروض التجارة. والله أعلم". انتهى. قال السندي: " .. وعُلِم أنَّ الزكاة فيه غير واجبة على وجه يجبر صاحبه

زكاة الحيوان

على الدفع؛ لكن لا يلزم الإِمام حمايته إلاَّ بأداء الزكاة" (¬1). زكاة الحيوان لقد وردَت نصوص في إِيجاب الزكاة في الإِبل والبقر والغنم (¬2). ويشترط لإِيجاب الزكاة فيها: 1 - أن تبلغ النصاب. 2 - أن يحول عليها الحول، وهذان الشرطان بُيِّنا في الأحاديث السابقة. 3 - أن تكون سائمة، أي: تُرسل للرعي في الكلأ ولا تُعلَف. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... وفي صدقة الغنم في سائمتها؛ إِذا كانت أربعين إِلى عشرين ومائة؛ شاة ... " (¬3). زكاة الإِبل والمقدار الواجب ولا تجب الزكاة في الإِبل؛ حتى تبلغ خمساً؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كتَب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتاب الصدقة، فلم يُخرجه إلى عمّاله حتى قُبض، فقَرن بسيفه، فَعمِل به أبو بكر حتى قُبض، ثمَّ عمل به عمر حتى قُبض، فكان فيه: "في خمس عن الإِبل شاة ... " (¬4). ¬

_ (¬1) "عون" (4/ 342). (¬2) وتقدّم بعضها في (الترهيب من منعها). (¬3) جزء من حديث أخرجه البخاري: 1454. (¬4) أخرجه أحمد وأصحاب السنن والدارمي وابن أبي شيبة، وانظر "الإِرواء" =

ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس فيما دون خمسٍ من الإِبل صدقة" (¬1). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ومن لم يكن معه إِلا أربع من الإِبل فليس فيها صدقة؛ إلاَّ أن يشاء ربُّها، فإِذا بلغت خمساً من الإِبل؛ ففيها شاة" (¬2). وتجب الزكاة في الإِبل؛ على نحو ما جاء في الحديث الآتي: "عن أنس أنّ أبا بكر -رضي الله عنهما- كتب له هذا الكتاب لمَّا وجَّهه إِلى البحرين: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرَض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المسلمين، والتى أمَر الله بها رسوله، فمن سُئِلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سُئّل فوقها فلا يُعطِ. في أربع وعشرين من الإِبل فما دونها من الغنم من كل خمس شاة. فإِذا بلغَت خمساً وعشرين إِلى خمس وثلاثين؛ ففيها بنت مخاض (¬3) أنثى. فإِذا بلغَت ستّاً وثلاثين إِلى خمس وأربعين؛ ففيها بنت لَبون (¬4) أنثى، فإِذا ¬

_ = (3/ 266)، و"صحيح سنن أبي داود" (1386). (¬1) أخرجه ابن ماجه وغيره، وانظر "الصحيحة" (2192). (¬2) أخرجه البخاري: 1454، وهو جزء من الحديث الآتي. (¬3) بنت مخاض: هي التي أتى عليها الحول، ودخَلَت في الثاني، وحمَلت أمها، والماخض الحامل، أي: دخل وقت حمْلها وإن لم تحمِل. "فتح". (¬4) بنت لَبون: هي التي دخلت في ثالث سنة؛ فصارت أمّها لبوناً بوضع الحمل. وانظر "الفتح".

بلغَت ستاً وأربعين إِلى ستين ففيها حقَّة (¬1) طَروقة (¬2) الجمل. فإِذا بلغت واحدةً وستين إِلى خمس وسبعين ففيها جَذَعة (¬3). فإِذا بلغت -يعني ستاً وسبعين- إِلى تسعين ففيها بنتا لبونٍ فإِذا بلغت إِحدى وتسعين إِلى عشرين ومائة؛ ففيها حِقَّتان طروقتا الجمل. فإِذا زادت على عشرين ومائة؛ ففي كلّ أربعين بنت لبون، وفي كلّ خمسين حِقّة. ومن لم يكن معه إِلا أربع من الإِبل؛ فليس فيها صدقة؛ إِلا أن يشاء ربّها (¬4)، فإِذا بلغت خمساً من الإِبل ففيها شاة". وبهذا فإِنّ: بنت المخاض: ما دخَلت في السنة الثانية وحمَلت أمّها. بنت اللبون: ما دخَلت في السنة الثالثة فصارت أُمها لَبوناً. والحقّة: ما دخَلت في السنة الرابعة واستحقّت الركوب والتحميل. ¬

_ (¬1) حقِّة: هو من الإِبل ما دخَل في السنة الرابعة إِلى آخرها، وسُمّي بذلك؛ لأنه استحقّ الركوب والتحميل. "النهاية". (¬2) طروقة: أي مطروقة، والمراد؛ أنها بلغَت أن يطرقها الفحل، وهي التي أتت عليها ثلاث سنين ودخلَت في الرابعة. "فتح". (¬3) جَذَعة: هي التي أتت عليها أربع ودخلت في الخامسة، وسُمّيت بها؛ لأنهّا جُذعت أي: سقط مقدّم أسنانها، وقيل: لأنها خَرَج جميعها. (¬4) أي: إلاَّ أن يتطوع صاحبها.

زكاة البقر والمقدار الواجب

والجَذَعة: ما دخَلت في السنة الخامسة وجذعت [أي: سقطت] مقدّم أسنانها أو كلّها. والخلاصة في المقدار الواجب أنّه: 1 - لا شيء في الإِبل حتى تبلغ خمساً. 2 - من (5 - 24) من الإِبل تجب في كلّ خمس شاة. 3 - من (25 - 35) من الإِبل تجب فيها بنت مخاض أنثى. 4 - من (36 - 45) من الإِبل تجب فيها بنت لبون. 5 - من (46 - 60) من الإِبل تجب فيها حقّة طروقة الجمل. 6 - من (61 - 75) من الإِبل تجب فيها جذعة. 7 - من (76 - 90) من الإِبل تجب فيها بنتا لبون. 8 - من (91 - 120) من الإِبل، تجب فيها حقّتان طروقتا الجمل. 9 - من 120 فأكثر يجب في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقَّة. زكاة البقر والمقدار الواجب تجب زكاة البقر في الثلاثين منها تبيع أو تبيعة، والتبيع ذو الحول ذكَراً كان أم أنثى (¬1)، فإِذا بلغت أربعْين ففيها مسُنّة؛ وهي ذات الحولين. عن معاذ -رضي الله عنه- "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمّا وجّهه إِلى اليمن؛ أمَره أن ¬

_ (¬1) طِلبة الطّلَبة.

هل في الجاموس زكاة؟

يأخذ من البقر؛ من كل ثلاثين تبيعاً أو تبيعة، ومن كلّ أربعين مُسنَّة" (¬1). قال ابن عبد البَرّ في "الاستذكار": "لا خلاف بين العلماء أنَّ السُّنّة في زكاة البقر؛ على ما في حديث معاذ -رضي الله عنه- وأنّه النصاب المُجمَع عليه" (¬2). قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 37): "والتبيع: الذي له سنة، ودخَل في الثانية، والبقرة المُسنّة: ما لها سنتان". "قال أبو بكر [ابن خزيمة]: قال أبو عبيد: تبيع ليس بسِنّ إِنّما هو صفة، وإنما سُمّي تبيعاً؛ إِذا قَوِي على اتباع أمّه في الرعي، وقال: إِنه لا يقوى على اتّباع أمّه في الرعي؛ إلاَّ أن يكون حولياً أي: قد تمّ له حول" (¬3). هل في الجاموس زكاة؟ نعم في الجاموس زكاة لأنه من صنف البقر. جاء في "اللسان": الجاموس: نوع من البقر. وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 37): "والجواميس بمنزلة البقر؛ حكى ابن المنذر فيه الإِجماع". وسئل شيخنا -رحمه الله-: هل في الجاموس زكاة؟ فأجاب: نعم في الجاموس زكاة؛ لأنه نوع من أنواع البقر. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (795)، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (1394). (¬2) انظر "الروضة النديّة" (1/ 467). (¬3) انظر "صحيح ابن خزيمة" (4/ 20).

زكاة الغنم والمقدار الواجب

فائدة: إِذا كان يشتري لجماله المرعى أيّام الرعي، هل فيها زكاة؟ أجاب عن هذا شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (25/ 48) قائلاً: "إِذا كانت راعيةً أكثر العام؛ مِثل أن يشتري لها ثلاثة أشهر أو أربعة، فإِنه يُزكّيها، هذا أظهر قولي العلماء". عن معاوية بن حيدة -رضي الله عنه- قال: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "في كلّ إِبلٍ سائمة؛ في كلّ أربعين ابنة لبون (¬1)." (¬2). زكاة الغنم والمقدار الواجب لا تجب الزكاة في الغنم حتى تبلغ أربعين، والمقدار الواجب فيها على نحو ما جاء في الحديث الآتي: "وفي صدقة الغنم في سائمتها؛ إِذا كانت أربعين إِلى عشرين ومائة شاة، فإِذا زادت على عشرين ومائة إِلى مائتين؛ شاتان، فإِذا زادت على مائتين إِلى ثلاثمائة، ففيها ثلاث، فإِذا زادت على ثلاثمائة؛ في كلّ مائة شاة. فإِذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة؛ فليس فيها صدقة؛ إِلا أن يشاء ربّها" (¬3). ¬

_ (¬1) هي التي أتى عليها حولان وصارت أُمّها لَبوناً بوضع الحمل. "عون" (4/ 303). وسنُفَصِّل القول في ذلك عمّا قريب -إِن شاء الله تعالى-. (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (791). (¬3) أخرجه البخاري: 1454، وهذا هو تتمّة حديث أبي بكر حين كتَب كتاباً لأنس؛ لمّا وجّهه إِلى البحرين، وتقدّم شطره غير بعيد.

حكم الأوقاص:

والخلاصة: 1 - لا شيء في الغنم حتى تبلغ أربعين. 2 - من (40 - 120) شاة، تجب فيها شاة واحدة. 3 - من (121 - 200) شاة، تجب فيها شاتان. 4 - من (201 - 300) شاة، تجب فيها ثلاث. 5 - ما زاد عن الثلاثمائة في كل مائة شاة. قال الحافظ في "الفتح" (3/ 330): "مقتضاه أنه لا تجب الشاة الرابعة حتى توفّى أربعمائة وهو قول الجمهور". فائدة: قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 36): "واختلفوا فيما إِذا كان بعض الجنس أرفع من بعض، فقيل: يأخذ من أيها شاء، وقيل: من الوسط". حُكْم الأوقاص: الأوقاص: جمع وَقَص -بالتحريك-: ما بين الفريضتين؛ كالزيادة على الخمس في الإِبل إِلى التسع، وعلى العَشر إِلى أربع عشرة (¬1)، وقيل غير ذلك. ولا شيء في الأوقاص، وقد صحّ الدليل لذلك؛ كما في كتاب أبي بكر إِلى أنس المتقدِّم: "فإِذا كانت سائمة الرجل ناقصةً من أربعين شاة واحدة؛ فليس فيها صدقة إلاَّ أن يشاء ربُّها". وهذا في الغنم. ¬

_ (¬1) انظر "النهاية".

ما لا يؤخذ في الزكاة

ما لا يُؤخذ في الزكاة ينبغي عدم الإِجحاف بأموال الأغنياء ومراعاة حقوقهم، فلا يؤخذ من أنْفَسها إلاَّ برضاهم، ويجب كذلك مراعاة الفقير فلا يؤخذ الحيوان المعيب، وإنّما من وسط المال. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ بن جبل -حين بعَثه إِلى اليمن- ... فأخبِرْهم أنّ الله قد فرَض عليهم صدقة؛ تُؤخذ من أغنيائهم؛ فتردّ على فقرائهم، فإِنْ هم أطاعوا لك بذلك؛ فإِيّاك وكرائم (¬1) أموالهم" (¬2). ومن الأدلة على ذلك: 1 - ما رواه أنس أنّ أبا بكر -رضي الله عنه- كتَبَ له التي أمر الله رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ولا يخرَج في الصدقة هرِمة (¬3)، ولا ذاتُ عوار (¬4) ولا تيس (¬5)، إلاَّ ما شاء ¬

_ (¬1) الكرائم: قال الحافظ في "الفتح" (3/ 360): "جمع كريمة أي: نفيسة، ففيه ترْك أخْذ خيار المال، والنكتة فيه؛ أنّ الزكاة لمواساة الفقراء، فلا يناسب ذلك الإِجحاف بمال الأغنياء إِلا إِن رضوا بذلك". وجاء قبله (3/ 322): يُقال: ناقة كريمة أي: غزيرة اللبن، والمراد الأموال من أيّ صِنفٍ كان، وقيل: له نفيس؛ لأن نفس صاحبه تتعلّق به .. ". (¬2) أخرجه البخاري: 1496، ومسلم: 19، وتقدم نحوه. (¬3) هَرِمة: الكبيرة التي سقطَت أسنانها. (¬4) قال الحافظ: "بفتح العين المهملة وبضمّها أي: المعيبة، وقيل: بالفتح العيب وبالضمّ العَوَر". (¬5) التيس: هو فحل الغنم، والنهي لكونه يُحتاج إليه، ففي أخْذه بغير اختيار صاحبه إِضرارٌ به. والله أعلم، "فتح" (3/ 321) بتصرُّف.

إباحة دعاء الإمام على مخرج مسن ماشيته في الصدقة؛ بأن لا يبارك له في ماشيته، ودعائه لمخرج أفضل ماشيته في الصدقة؛ بأن يبارك له في ماله.

المصدِّق" (¬1). 2 - وكذلك ما رواه عبد الله بن معاوية الغاضري عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاث من فعلهنّ فقد طَعِم طعْم الإِيمان: مَن عبدَ الله وحده، وأنّه لا إِله إِلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبةً بها نفسُه، رافدةً عليه كلّ عام، ولم يُعطِ الهَرِمة، ولا الدّرِنة (¬2)، ولا المريضة، ولا الشَّرَط (¬3) اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإِنّ الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرّه" (¬4). إِباحة دعاء الإِمام على مُخْرِج مُسِنّ ماشيته في الصدقة؛ بأن لا يبارَك له في ماشيته، ودعائه لمُخرج أفضل ماشيته في الصدقة؛ بأن يبارَك له في ماله (¬5). عن وائل بن حجر: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعَث ساعياً، فأتى رجلاً، فأتاه فَصِيلاً مخلولاً فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بعَثْنا مُصدِّق الله ورسوله، وأنَّ فلاناً أعطاه فصيلاً مخلولاً (¬6)، اللهمّ لا تبارِك فيه، ولا في إِبلِه. فبلغ ذلك الرجل فجاء بناقة حسناء، فقال: أتوب إِلى الله -عزّ وجلّ- ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1455. (¬2) الدَّرنة: أي: الجرباء وأصله من الوسخ. "النهاية". (¬3) الشَّرَط: أي: رُذال المال، وقيل: صغاره وشراره. "النهاية". (¬4) أخرجه أبو داود وغيره، وصحّحه شيخنا في "الصحيحة" (1046) و"صحيح الترغيب والترهيب" (746). (¬5) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 22). (¬6) أي: مهزولاً، وهو الذي جُعل على أنفه خلال؛ لئلا يرضع أمّه فتُهزل. "النهاية".

زكاة غير الأنعام

وإِلى نبيّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهمّ بارك فيه وفي إِبِله" (¬1). زكاة غير الأنعام قد تقدّمت النصوص فيما تجب فيه الزكاة من الحيوان، ولم يأت نصٌّ يوجب زكاةً في الخيل أو البغال أو الحمير، بل جاء ما يبيّن العفو عن ذلك. فعن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قد عفوت عن الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرِّقة؛ من كل أربعين درهماً درهماً، وليس في تسعين ومائة شيء، فإِذا بلغَت مائتين ففيها خمسة دراهم" (¬2). وتقدّم حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: وفيه: " ... فالحُمُر؟ قال: ما أُنزل عليّ في الحُمُر شيء، إلاَّ هذه الآية الفاذّة (¬3) الجامعة {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يَرَه ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يَرَه} " (¬4). قال ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (5/ 339): "وذهَب جمهور الناس إِلى أن لا زكاة في الخيل أصلاً". ثمّ ساق بعض الآثار بأسانيده، ومن ذلك: 1 - "عن شبيل بن عوف قال: أَمَر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2306) وابن خزيمة في "صحيحه" (2274). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1392)، والترمذي، وانظر "المشكاة" (1799)، وتقدّم. (¬3) أي: المنفردة في معناها كما تقدّم. (¬4) الزلزلة: 7 - 8.

في الجمع والتفريق:

الناس بالصدقة، فقال الناس: يا أمير المؤمنين! خيلٌ لنا ورقيق، افرِض علينا عشرة عشرة! فقال عمر: أمّا أنا فلا أفرض ذلك عليكم" (¬1). 2 - وعن حارثة بن معزب قال: "حجَجْت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأتاه أشراف أهل الشام فقالوا؛ يا أمير المؤمنين، إِنّا أصبنا رقيقاً ودوابَّ؛ فخُذ من أموالنا صدقةً؛ تطهرنا وتكون لنا زكاة! فقال: هذا شيء لم يفعله اللذان كانا قبلي". ثمّ قال -رحمه الله تعالى-: هذه أسانيد في غاية الصحة والإِسناد فيه أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأخذ من الخيل صدقة؛ ولا أبو بكر بعده؛ وأنّ عمر لم يفرض ذلك، وأنّ علياً بعده لم يأخذها" (¬2). في الجمع والتفريق: عن أنس -رضي الله عنه- أنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- كتَب له التي فرَض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولا يجمع بين مُتفرِّق، ولا يُفرَّق بين مُجتَمعٍ خشية الصدقة" (¬3). قال الحافظ في "الفتح" (3/ 314): "قال مالك في "الموطَّأ": معنى هذا الحديث أن يكون النفر الثلاثة؛ لكلّ واحد منهم أربعون شاة؛ وجَبت فيها الزكاة، فيجمعونها حتى لا تجب عليهم كلّهم فيها إِلا شاة واحدة، أو ¬

_ (¬1) تقدّم. (¬2) تقدّم، والحديث في "المسند" وفي آخره: "ولكن انتظروا حتى أسأل المسلمين"، وانظر تعليق الشيخ العلاّمة أحمد شاكر -رحمه الله- عليه. (¬3) أخرجه البخاري: 1450.

يكون للخليطين مائتا شاة وشاتان؛ فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فيُفرِّقونها حتى لا يكون على كلّ واحد إِلا شاة واحدة. وقال الشافعي: هو خطاب لرب المال من جهة وللساعي من جهة، فأمّر كلّ واحد منهم؛ أن لا يُحدِث شيئاً من الجمع والتفريق خشية الصدقة، فرَبُّ المال يخشى أن تكثُر الصدقة؛ فيجمَع أو يُفرِّق لتقلّ، والساعي يخشى أن تقلّ الصدقة؛ فيجمع أو يفرّق لتكثُر. فمعنى قوله خشية الصدقة: أي: خشية أن تكثُر الصدقة، أو خشية أنْ تقلّ الصدقة ... " (¬1). وفي رواية: "وما كان من خليطين (¬2)؛ فإِنهما يتراجعان (¬3) بينهما في ¬

_ (¬1) وجاء في "النهاية": "أمّا الجمع بين المتفرِّق فهو الخلاط ... ثم ذكَر الأمثلة السابقة". (¬2) جاء في "النهاية": الخليط: المخالط، ويريد به الشريك الذي يخلط ماله بمال شريكه، والتراجع بينهما هو أن يكون لأحدهما مثلا أربعون بقرة، وللآخر ثلاثون بقرة، وما لها مختلط فيأخذ الساعي عن الأربعين مُسنَّة، وعن الثلاثين تبيعاً؛ فيرجع باذِلُ المسنَّة بثلاثة أسباعها على شريكه، وباذِلُ التبيع بأربعة أسباعه على شريكه؛ لأنّ كل واحد من السِّنَّين واجب على الشيوع، كأنّ المال مُلْك واحد. وفي قوله: "بالسَّويَّة" دليل على أنّ الساعي إِذا ظلَم أحدَهما؛ فأخَذ منه زيادةً على فرضه؛ فإِنه لا يرجع بها على شريكه، وإنما يغرم له قيمة ما يخصّه من الواجب دون الزيادة. (¬3) وقال الخطابي: معناه أن يكون بينهما أربعون شاة مثلاً؛ لكل واحدٍ منهما عشرون؛ قد عرف كل منهما عين ماله، فيأخذ المصدِّق من أحدهما شاة، فيُرجع المأخوذ من ماله على خليطه؛ بقيمة نصف شاة، وهذه تسمّى خلطة الجوار". "فتح" (3/ 315).

من أين تؤخذ الصدقات؟

السوية" (¬1). وعن سويد بن غفلة -رضي الله عنه- قال: سِرْتُ -أو قال: أخبَرني من سار- مع مُصدِّق (¬2) النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإِذا في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أن لا تأخذ من راضع لبن (¬3)، ولا تجمعَ بين مُفتَرِق ولا تُفَرِّق بين مجتَمع" (¬4). من أين تُؤخَذ الصدقات؟ عن ابن عمرو -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا جَلَب (¬5) ولا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1451. (¬2) أي: آخِذ الصدقة. (¬3) جاء في "النهاية": "أراد بالرّاضع ذات الدَّرِّ واللبّن، وفي الكلام مضاف محذوف تقديره ذات راضع. فأمّا مِن غير حذْف؛ فالراضع الصغير الذي هو بعْدُ يرضع، ونهيه عن أخذها لأنها خيار المال، ومن زائدة، كما نقول: لا تأكل من الحرام: أي: لا تأكل الحرام، وقيل: هو أن يكون عند الرَّجل الشاة الواحدة أو اللقحة؛ قد اتخذها للدَّرِّ؛ فلا يؤخذ منها شيء". (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1397) وغيره. (¬5) لا جَلَب: -بفتحتين- أي: لا يُقرّب العامل أموال الناس إِليه؛ لما فيه من المشقّة عليهم، بأن ينزِل الساعي مَحِلاًّ بعيداً عن الماشية ثم يُحصرها، وإنما ينبغي له أن ينزل على مياههم، أو أمكنة مواشيهم؛ لسهولة الأخذ حينئذ، ويطلق الجَلَب أيضاً؛ على حثّ فرس السباق على قُوّة الجري، بمزيد الصياح عليه لما يترتّب عليه من إِضرار الفرس.

إرضاء العاملين على الصدقات

جَنَب (¬1)، ولا تؤخذ صدقاتهم إلاَّ في دورهم (¬2) ". وعن محمّد بن إِسحاق في قوله: "لا جَلَب ولا جَنَب": قال: أن تُصّدَّق الماشية في مواضعها، ولا تجلب إِلى المصدِّق، والجَنَب عن (غيره) هذه الفريضة أيضاً؛ لا تجنب أصحابها. يقول: ولا يكون الرجل بأقصى مواضع أصحاب الصدقة؛ فتجنب إِليه، ولكن تؤخذ في موضعه" (¬3). وعن ابن عمرو -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تؤخَذ صدقات المسلمين على مياههم" (¬4). يعني مواشيهم. وفي رواية: " ... ولا تؤخَذ صدقاتهم إلاَّ في ديارهم" (¬5). إِرضاء العاملين على الصدقات عن جرير بن عبد الله قال: "جاء ناسٌ من الأعراب إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ¬

_ (¬1) ولا جَنَب: -بفتحتين- أي؛ لا يُبعِد صاحب المال المال؛ بحيث تكون مشقّة على العامل. (¬2) أي: منازلهم وأماكنهم ومياههم وقبائلهم على سبيل الحصر، لأنه كنَّى بها عنه، فإِنّ أخْذَ الصدقة في دورهم لازم؛ لعدم بُعْد الساعي عنها، فيجلب إِليه، ولعدم بُعد المزكّي؛ فإِنه إِذا بَعَدَ عنها لم يؤخَذ فيها اهـ. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1407)، قال شيخنا -رحمه الله- صحيح مقطوع. (¬4) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "الصحيحة" (1779). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده"، وابن خزيمة في "صحيحه" (2280).

سمة غنم الصدقة إذا قبضت

فقالوا: إِنَّ ناساً من المصدقّين يأتوننا فيظلموننا. قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرضوا مُصدِّقيكم. قال جرير: ما صدر عنِّي مُصدِّق، منذُ سمعتُ هذا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلاَّ وهو عنِّي راضٍ" (¬1). سمة غنم الصدقة إِذا قُبِضت (¬2) عن أنس قال: "دخلْتُ على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأخ لي يُحنِّكه (¬3) وهو في مِربدٍ (¬4) له فرأيته يَسم (¬5) شاة، حسبته (¬6) قال: في آذانها" (¬7). وفي رواية لمسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أيضاً قال: "رأيت في يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المِيْسَم (¬8)، وهو يسِمُ أبلِ الصدقة". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 989. (¬2) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 28). (¬3) أي: مضَغ تمرات ودلَك به حنكه. وانظر "النهاية". (¬4) مِرْبَد: بكسر الميم وسكون الراء وفتح الباء: مكان الإِبل، وكأنّ الغنم أُدخلت فيه مع الإِبل. "فتح". (¬5) يَسم: من الوسم وهو: أن يُعلّم الشيء بشيء، يؤثر فيه تأثيراً بالغاً، وأصْله أن يجعل في البهيمة علامةً يميزها عن غيرها. "فتح". (¬6) القائل: شعبة والضمير لهشام بن زيد وهو راوي الحديث عن أنس. "الفتح" (9/ 672). (¬7) أخرجه البخاري: 5542، ومسلم: 2119. (¬8) الميسم: الحديدة التي يُكوى بها.

استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل

استعمال إِبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل (¬1) عن أنس -رضي الله عنه-: "أنَّ أناساً من عُرَينة اجتووُا المدينة، فرخَّص لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتوا إِبل الصدقة؛ فيشربوا من ألبانها وأبوالها" (¬2). زكاة الرّكاز الرّكاز لغة: مأخوذ من الرَّكز وهو الدَّفن، وهو المعدن والمال المدفون كلاهما. وشرعاً: هو دفين الجاهلية (¬3). جاء في "الروضة الندية" (1/ 524): "قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، والذي سمِعْت أهل العلم يقولون: إِنّ الرّكاز إِنما هو دَفْنٌ يوجد من دفن الجاهلية، ما لم يُطلَب بمال، ولم يُتكلَّف فيه نفقة، ولا كبير عمل، ولا مؤنة. فأمّا ما طُلِب بمال وتُكلِّف فيه كبير عمل فأُصيب مرّة وأخُطِئ مرّة؛ فليس بركاز". قال البخاري: قال مالك وابن إِدريس (¬4) الركاز دِفْن الجاهلية؛ في قليله ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "صحيح البخاري". (¬2) أخرجه البخاري: 1501، ومسلم: 1671، وتقدّم. (¬3) عن "تمام المِنة" (ص 376) بزيادة. وانظر "النهاية" للمزيد من الفائدة. (¬4) أمَّا قول مالك؛ فقد وصَله أبو عبيد في "الأموال" بسند صحيح وأمَّا قول ابن إِدريس -هو الإمام الشافعي على الأرجح- فوصله البيهقي بسند صحيح عنه؛ دون الزيادة المذكورة، وانظر "الفتح" (3/ 364) و"مختصر البخاري" (1/ 357) لشيخنا -رحمه الله تعالى-.

وكثيره الخُمس وليس المعدن بركاز، وقد قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المعدن جُبار (¬1)، وفي الركاز الخمس" (¬2). وقد ردّ شيخنا -رحمه الله- في "تمام المنّة" (ص 377) على من يقول: إِنَّ الركاز الذي يجب فيه الخُمس: هو كلَّ ما كان مالاً؛ كالذهب والفضّة ... إِلخ. فقال: "وهذا خطأٌ مخالِف للغة، فإِنّ الركاز فيها: المال المدفون في الأرض ... والمال لغةً: ما ملكتْه من شيء. فيُستنتَج من هاتين المقدمتين أنّ الرّكاز كل ما دُفن من المال؛ فلا يختصّ بالنقدين؛ وهو مذهب الجمهور، واختاره ابن حزم، ومال إِليه ابن دقيق العيد، وكان مالك يتردّد في ذلك، ثمّ استقر رأيه آخر الأمر على هذا القول المختار، كما في "المدوّنة" ... ". قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 8): "وجعل [الشرع] المال المأخوذ على حساب التعب، فما وُجِد من الأموال الجاهلية هو أقلّه تعباً ففيه الخُمس، ثمّ ما فيه التعب من طرف واحد، فيه نصف الخمس -وهو العشر- فيما سقَته السماء، وما فيه التعب من طرفين فيه ربع الخمس -وهو نصف العشر- فيما سقي بالنضح، وما فيه التعب في طول السنة كالعين؛ ففيه ثُمن ذلك -وهو ربع ¬

_ (¬1) أي: هدْر، وليس المراد أنه لا زكاة فيه، وإنّما المعنى أنَّ من استأجر رجُلاً للعمل في معدن مثَلاً فهلَك؛ فهو هدْر، ولا شيء على من استأجَره. "فتح" (3/ 365). (¬2) وصله البخاري: 1499.

هل يشترط الحول والنصاب في الركاز؟

العشر-". هل يشترط الحَوْل والنصاب في الركاز؟ لا اعتبار للنصاب والحول في الركاز؛ بل تجب فيه الزكاة على الفور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وفي الركاز الخُمس" (¬1). قال الحافظ في "الفتح" (3/ 365): "واتفقوا [أي: الجمهور] على أنّه لا يشترط فيه الحول، بل يجب إِخراج الخمس في الحال". قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 377): "والظاهر من إِطلاق الحديث: "وفي الركاز الخمس"، عدم اشتراط النصاب، وهو مذهب الجمهور، واختاره ابن المنذر والصنعاني والشوكاني وغيرهم". مصرفه: قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 378): " ... مصرفه يرجع إِلى رأي إِمام المسلمين؛ يضعه فيما تقتضيه مصلحة الدولة، وهو الذي اختاره أبو عبيد في "الأموال". وكأنّ هذا هو مذهب الحنابلة، حيث قالوا في مصرف الركاز. يُصرف مصرف الفيء المطلق للمصالح كلّها". هل في المعادن زكاة؟ لم يَرِدْ نصٌّ في إِيجاب الزكاة في المعادن، إِلا ما سبق القول في الصدقة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1499، ومسلم: 1710، وتقدّم.

المطلقة غير المقنّنة. هذا وقد ذكر عبد الرحمن بن قدامة المقدسي -رحمه الله تعالى- جمعاً من العلماء يَرْون الزكاة على المعادن قال: "قال الشافعي ومالك: لا تتعلّق الزكاة إلاَّ بالذهب والفضة ... ولأنّه مال مُقوَّم مستفاد من الأرض؛ أشبه الطين الأحمر" (¬1). وروى مالك (1/ 248/8) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية -وهي من ناحية الفرع- فتلك المعادن لا يُؤخَذ منها إِلى اليوم إلاَّ الزكاة". ورواه عن مالك أبو داود (3061) وأبو عبيد (338/ 863) والبيهقي (4/ 152) وقال: "قال الشافعي (¬2): ليس هذا مما يُثبِته أهل الحديث روايةً، ولو أثبتوه لم يكن فيه رواية عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلا إِقطاعه، فأمّا الزكاة في المعادن دون الخمس؛ فليست مرويّة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه". قال البيهقي: "هو كما قال الشافعي في رواية مالك، وقد روي عن عبد العزيز الدراوردي عن ربيعة موصولاً". وضعّفه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" تحت رقم (830). وجاء في كتاب "الأمّ" (4/ 153) للإِمام الشافعي -رحمه الله-: "وإذا عمل في المعادن؛ فلا زكاة في شيء مما يخرج منها؛ إِلا ذهب أو وَرِق، فأمّا الكحل والرَّصاص والنّحاس والحديد والكبريت وغيره؛ فلا زكاة فيه. ¬

_ (¬1) انظر "الشرح الكبير" (2/ 580). (¬2) انظر كتاب "الأمّ" (4/ 154).

وإذا خرج منها ذهب أو وَرِق ويميز؛ فكان غير متميز؛ حتى يُعالج بالنار أو الطّحْن أو التحصيل؛ فلا زكاة فيه حتى يصير ذهباً أو وَرِقاً، ما اختلط به من غيره. فإِن سأل رب المعدن المصدِّق؛ أن يأخذ زكاته مُكايلَةً أو موازنة أو مُجَازَفَة؛ لم يكن له ذلك، وإِنْ فعل فذلك مردود، وعلى صاحب المعدن إِصلاحه حتى يصير ذهباً أو ورقاً، ثمّ تؤخذ منه الزكاة. ولا يجوز بيع تُراب المعادن بحال؛ لأنه فضَّة أو ذهب مُختلط بغيره غير متميز منه. وقد ذهب بعض أصحابنا، إِلى أن المعادن ليس بركاز، وأنَّ فيها الزكاة". ثمّ ذكر الحديث السابق وضعّفه. وقال ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (5/ 333): "وأمّا المعادن: فإِنّ الأمّة مجمِعةٌ بلا خلاف من أحد منها؛ على أنّ الصُّفر والحديد والرصاص والقزدير؛ لا زكاة في أعيانها، وإنْ كثُرت! ثم اختلفوا إِذا مُزج شيء منها في الدنانير والدراهم والحُليّ. فقالت طائفة: تُزكّى تلك الدنانير والدراهم بوزنها. قال أبو محمّد: وهذا خطأ فاحش، لأنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسقط الزكاة نصّاً فيما دون خمس أواقي من الوَرِق، وفيما دون مقدارها من الذهب، ولم يوجب -بلا خلاف- زكاةً في شيء من أعيان المعادن المذكورة. فمن أوجب الزكاة في الدنانير، والدراهم الممزوجة بالنحاس أو الحديد

أو الرصاص أو القزدير؛ فقد خالف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرّتين-: إِحداهما: في إِيجابه الزكاة؛ في أقلّ من خمس أواقي من الرِّقة. والثانية: في إِيجابه الزكاة في أعيان المعادن المذكورة؟ وأيضاً: فإِنّهم تناقضوا إِذ أوجبوا الزكاة في الصفر والرصاص والقزدير والحديد؛ إِذا مزج شيء منها بفضة أو ذهب، وأسقطوا الزكاة عنها إِذا كانت صرفاً؛ وهذا تحكُّم لا يحلّ! وأيضاً؛ فنسألهم عن شيء من هذه المعادن، مُزج بفضّة أو ذهب؛ فكان الممزوج منها أكثر من الذهب ومن الفضة؟ ثم لا نزال نزيدهم، إِلى أن نسألهم عن مائتي درهم، في كل درهم فلس فضة فقط، وسائرها نحاس. فإِن جعلوا فيها الزكاة أفحشوا جداً، وإن أسقطوها؛ سألناهم عن الحد الذي يوجبون فيه الزكاة والذي يُسقِطونها فيه". وجاء في "الروضة الندية" (1/ 475): "ولا زكاة في غيرها من الجواهر؛ كالدر والياقوت والزمرد والماس واللؤلؤ والمرجان ونحوها؛ لعدم وجود دليل يدل على ذلك، والبراءة الأصلية مستصحبة. أقول -الكلام لصاحب الروضة-: ليس من الورع ولا من الفقه، أن يوجب الإِنسان على العباد؛ ما لم يوجِبه الله عليهم؛ بل ذلك من الغلو المحض، والاستدلالُ بمِثل {خُذ من أموالهم صدقة} (¬1) يستلزم وجوب ¬

_ (¬1) التوبة: 103.

الزكاة في كل جنس من أجناس ما يصدُق عليه اسم المال، ومنه الحديد والنحاس والرصاص، والثياب والفراش والحجر والمدر (¬1)، وكل ما يقال له مال -على فرض أنه ليس من أموال التجارة-. ولم يقُل بذلك أحد من المسلمين، وليس ذلك لورود أدلة؛ تخصّص الأموال المذكورة من عموم {خُذ من أموالهم} حتى يقول قائل: إِنّها تجب زكاة ما لم يخصه دليل؛ لبقائه تحت العموم. بل الذي شرع الله فيه الزكاة من أموال عباده، هو أموال مخصوصة، وأجناس معلومة، ولم يوجب عليهم الزكاة في غيرها. فالواجب حمل الإِضافة في الآية الكريمة على العهد، لِما تقرَّر في عِلم الأصول، والنحو والبيان، أنّ الإِضافة تنقسم إِلى الأقسام التي تنقسم إِليها اللام، ومن جملة أقسام اللام العهد، بل قال المحقق الرضي: إِنه الأصل في اللام. إِذا تقرر هذا فالجواهر واللآلئ والدر والياقوت والزمرد والعقيق واليسر، وسائر ما له نفاسة وارتفاع قيمة؛ لا وجه لإيجاب الزكاة فيه، والتعليل للوجوب بمجرد النفاسة؛ ليس عليه أثارة من عِلم. ولو كان ذلك صحيحاً، لكان في المصنوعات من الحديد، كالسيوف والبنادق ونحوها، ما هو أنفس وأعلى ثمناً، ويلحق بذلك الصين، والبلور واليشم (¬2)، وما يتعسر الإِحاطة به؛ من الأشياء التي فيها نفاسة، وللناس إِليها ¬

_ (¬1) هو الطين اللزِج المتماسك. (¬2) مجموعة من المعادن الصّلْدَة التي تتدرّج ألوانها من الأبيض تقريباً إِلى الأخضر الأدْكن. "الوسيط".

ما يستخرج من البحر

رغبة. فما أحسن الإِنصاف والوقوف على الحد الذي رسمه الشارع، وإراحة الناس من هذه التكاليف التي ما أنزل الله بها من سلطان. على أنّ الآية التي أوقعت كثيراً من الناس في إِيجاب الزكاة فيما لم يوجبه الله وهي: {خذ من أموالهم} قد ذكَر أئمة التفسير أنها في صدقة النفل؛ وليست في صدقة الفرض التي نحن بصددها". وسئل شيخنا -رحمه الله- عن زكاة المعادن فقال: لا تجب الزكاة في المعادن؛ لأنه لا زكاة إِلا بنصّ. ما يُستخرج من البحر قال البخاري -رحمه الله-: قال ابن عباس -رضي الله عنهما- ليس العنبر بركاز، هو شيء دَسَرهُ (¬1) البحر (¬2). وسألْتُ شيخنا -رحمه الله- عن هذا الأثر فقال: روايةً لا يحضرني، ودرايةً؛ هو كذلك. قال البخاري: وقال الحسن: في العنبر واللؤلؤ الخُمس (¬3)، فإِنما جعَل ¬

_ (¬1) أي: دفَعه ورمى به إِلى الساحل. "فتح". (¬2) وصَله الشافعي وابن أبي شيبة وغيرهما بسند صحيح عنه، وانظر "الفتح" (3/ 362) و"مختصر البخاري" (1/ 356). (¬3) وصَلَه أبو عبيد في "الأموال"، وانظر "الفتح" (3/ 362).

النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرّكاز الخمس، ليس في الذي يُصاب في الماء (¬1). قال ابن القصار: "ومفهوم الحديث؛ أنّ غير الرّكاز لا خمس فيه -ولاسيما اللؤلؤ والعنبر- لأنهما يتولّدان من حيوان البحر؛ فأشبها السمك" (¬2). وذهب الجمهور إِلى أنه لا يجب فيه شيء؛ إلاَّ ما رُوي عن عمر بن عبد العزيز (¬3). قال ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (6/ 160): "وليس في شيء ممّا أُصيب من العنبر والجواهر والياقوت والزّمرّد -بَحْرية وبَرّيّة- شيء أصلاً، وهو كلّه لمن وجَده؟ ". وقال (ص 161): "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام"، فصحّ أنه لا يحلّ إِغرام مسلم شيئاً بغير نصّ صحيح، وكان -بلا خلاف- كلّ ما لا ربّ له فهو لمن وجَده - وبالله تعالى التوفيق!؟ ". قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 19): "وأمّا ما يخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان؛ فلا زكاة فيه عند الجمهور. وقيل: فيه زكاة، وهو قول الزهري والحسن البصري ورواية لأحمد". وسألتُ شيخنا -رحمه الله-: هل ترون وجوب الزكاة على ما يخرج من البحر؛ فقال -رحمه الله-: "لا زكاة عليه". ¬

_ (¬1) وصله الإِمام البخاري -رحمه الله- برقم (1499). (¬2) الفتح (3/ 363). (¬3) الفتح (3/ 363).

المال المغصوب والضائع

المال المغصوب والضائع قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 18): "قال مالك: ليس فيه زكاة حتى يقبضه، فيزكّيه لعام واحد، وكذلك الدَّيْن عنده لا يزكّيه حتى يقبضه زكاة واحدة، وقول مالك: يُروى عن الحسن وعطاء وعمر ابن عبد العزيز. وقيل: يزكى كلّ عام إِذا قبضه زكاة عمّا مضى، وللشافعي قولان" (¬1). جواز دفْع القيمة بدل العين قال ابن حزم -رحمه الله-: "والزكاة واجبة في ذمّة صاحب المال لا في عين المال؛ وقد اضطربت أقوال المخالفين في هذا. وبرهان صحّة قولنا، هو أن لا خلاف بين أحد من الأمّة، من زمننا إِلى زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -في أنّ من وجبت عليه زكاة بُرّ أو شعير أو تمر أو فضة أو ذهب أو إِبل أو بقر أو غنم؛ فأعطى زكاته الواجبة عليه؛ من غير ذلك الزرع؛ ومن غير ذلك التمر، ومن غير ذلك الذهب، ومن غير تلك الفضة، ومن غير تلك الإِبل، ومن غير تلك البقر، ومن غير تلك الغنم- فإِنه لا يمنع من ذلك، ولا يكره ذلك له، بل سواء أعطى من تلك العين، أو ممّا عنده من غيرها، أو ممّا يشتري، أو ممّا يوهب، أو ممّا يستقرض. فصحّ يقيناً أن الزكاة في الذمّة لا في العين؛ إِذ لو كانت في العين؛ لم يحلّ ¬

_ (¬1) قلت: والراجح أنه يُزكّي كل عام إِذا قبَضه؛ لأنه من حقوق العباد، وهذا يتفق مع النصوص العامّة في إِيجاب الزكاة للنصاب؛ إِذا مضى عليه الحول، والله -تعالى- أعلم.

له ألبتة أن يُعطيَ من غيرها، ولوجَب منْعه من ذلك، كما يُمنع من له شريك في شيء من كل ذلك؛ أن يُعطيَ شريكه من غير العين التي هم فيها شركاء إِلا بتراضيهما، وعلى حكم البيع. وأيضاً -فلو كانت الزكاة في عين المال؛ لكانت لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما-: إِمّا أن تكون في كل جزء من أجزاء ذلك المال، أو تكون في شيء منه بغير عينه. فلو كانت في كل جزء منه؛ لحرُم عليه أن يبيع منه رأساً أو حبّة فما فوقها؛ لأنّ لأهل الصدقات في ذلك الجزء شريكاً، ولحرُم عليه أن يأكل منها شيئاً لِما ذكَرنا، وهذا باطل بلا خلاف ... وإنْ كانت الزكاة في شيء منه بغير عينه؛ فهذا باطل، وكان يلزم أيضاً: مثل ذلك سواء سواء؛ لأنّه كان لا يدري لعله يبيع أو يأكل الذي هو حق أهل الصدقة، فصحّ ما قُلنا يقيناً -وبالله تعالى التوفيق-" (¬1). قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 46): "ومعلوم أنّ مصلحة وجوب العين؛ قد يعارضها أحياناً في القيمة من المصلحة الراجحة، وفي العين من المشقة المنفية شرعاً". وقد رجّح شيخ الإِسلام جواز ذلك في بعض الصور للحاجة أو المصلحة الراجحة كما في "مجموع الفتاوى" (25/ 79). وقال (ص82): "والأظهر في هذا: أنّ إِخراج القيمة لغير حاجة، ولا ¬

_ (¬1) انظر "المُحلّى" (5/ 390) وذكَره الشيخ السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (1/ 378).

إذا وجبت الزكاة في المال وهلك قبل الأداء

مصلحة راجحة؛ ممنوع منه، ولهذا قدّر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجبران بشاتين، أو عشرين درهماً، ولم يعدل إِلى القيمة، ولأنه متى جوّز إِخراج القيمة مطلقاً، فقد يعدل المالك إِلى أنواع رديئة. وقد يقع في التقويم ضرر، ولأن الزكاة مبناها على المواساة، وهذا معتَبر في قدْر المال وجنسه. وأمّا إِخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل؛ فلا بأس به، مِثل أن يبيع ثمر بستانه، أو زرْعه بدراهم؛ فهنا إِخراج عشر الدراهم يجزيه، ولا يكلَّف أن يشتري ثمراً، أو حِنْطة، إِذ كان قد سوى الفقراء بنفسه، وقد نصّ أحمد على جواز ذلك. ومِثل أن يجب عليه شاة في خمس من الإِبل، وليس عنده من يبيعه شاة؛ فإِخراج القيمة هنا كاف، ولا يُكلَّف السفر إِلى مدينة أخرى ليشتري شاة، ومِثل أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه إِعطاء القيمة؛ لكونها أنفع؛ فيعطيهم إِياها، أو يرى الساعي أنّ أخْذها أنفع للفقراء" (¬1). إِذا وجبت الزكاة في المال وهلك قبل الأداء اختلف العلماء فيما إِذا وجبت الزكاة في المال وهلك قبل الأداء، والراجح فيه سقوط الزكاة عمّن تلف لديه النصاب قبل التمكّن؛ إِذا لم يُفرِّط في الأداء، وإِلا كانت في ذمّته. قال الإِمام الشافعي -رحمه الله- في "الأم" (4/ 188): "ولو كان له ¬

_ (¬1) وانظر ما جاء عن شيخ الإِسلام في "الاختيارات" (ص 103) ومنه أفاد شيخنا -رحمهما الله تعالى- في "تمام المِنّة" (ص 379).

مال يُمكنه أن يؤدي زكاته فلم يفعل؛ فوجبت عليه الزكاة سنين ثم هلك؛ أدى زكاته لِما فرّط فيه. وإِنْ كانت له مائة شاة، فأقامت في يده ثلاث سنين، وأمكَنه في مُضيّ السَّنة الثالثة أداء زكاتها، فلم يؤدِّها، أدّى زكاتها لثلاث سنين، وإن لم يمكنه في السنة الثالثة أداء زكاتها حتى هلكت؛ فلا زكاة عليه في السنة الثالثة، وعليه الزكاة في السنتين اللتين فرّط في أداء الزكاة فيهما". وبه يقول عدد من العلماء. قال في "المغني" (2/ 465) -بعد أنْ نقل بعض الأقوال في المسألة-: "والصحيح -إِن شاء الله- أنّ الزكاة تسقط بتلف المال؛ إِذا لم يفرط في الأداء، لأنها تجب على سبيل المواساة، فلا تجب على وجه يجب أداؤها مع عدم المال وفقر من تجب عليه، ولأنه حقٌّ يتعلق بالعين، فيسقط بتلفها من غير تفريط كالوديعة. والتفريط أن يمكنه إِخراجها فلا يخرجها، فإِن لم يتمكّن من إِخراجها فليس بمفرِّط، سواء لعدم المستحق، أو لبعد المال، أو لكون الفرض لا يوجد في المال ولا يجد ما يشتري، أو كان في طلب الشراء ونحو ذلك ... ". وجاء في "الاختيارات الفقهيّة" (ص 98): ولو تلِف النصاب بغير تفريط من المالك؛ لم يضمن الزكاة على كلٍّ من الروايتين، واختاره طائفة من أصحاب أحمد. وهو اختيار شيخنا -رحمه الله- كما في "تمام المِنّة" (ص379).

إذا عزل الزكاة ليخرجها فضاعت

إِذا عزل الزكاة ليخرجها فضاعت جاء في "المحلّى" (5/ 391) -بحذف وتصرّف يسير-: "كلّ مالٍ وجبت فيه زكاة من الأموال ... فسواء تلف ذلك أو بعضه -أكثره أو أقله- ... بتفريط تلف أو بغير تفريط؛ فالزكاة كلّها واجبة في ذمّة صاحبه؛ كما كانت لو لم تتلف، ولا فرق؛ [لأنّ] الزكاة في الذمّة؛ لا في عين المال. ... وكذلك لو أخرج الزكاة وعَزلها ليدفَعها إِلى المصدّق أو إِلى أهل الصدقات؛ فضاعت الزكاة كلّها أو بعضها؛ فعليه إِعادتها كلّها ولا بدّ ... ولأنه في ذمّته؛ حتى يوصلها إِلى من أمَره الله تعالى بإِيصالها إِليه" ثم ذكَر أقوال العلماء وبعض الآثار عن عدد من السلف؛ أنها لا تجزي عنه إِن ضاعت؛ وعليه إِخراجها ثانية. قال: وروّينا عن عطاء أنّها تجزئ عنه. وسألت شيخنا -رحمه الله- عن ذلك فقال: "لا بدّ من إِيصالها". تأخير الزكاة لا يُسقِطها (¬1) * من مضى عليه سنون؛ ولم يؤدّ ما عليه من زكاة؛ لزِمه إخراج الزكاة عن جميعها؛ سواء علم وجوب الزكاة، أم لم يعلم، وسواء كان في دار الإِسلام أم في دار الحرب. وقال ابن المنذر: لو غلب أهل البغي على بلد، ولم يؤد أهل ذلك البلد ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "فقه السنّة" (1/ 381).

الزكاة في المال المشترك

الزكاة أعواماً، ثم ظفر بهم الإِمام؛ أخَذ منهم زكاة الماضي؛ في قول مالك والشافعي وأبي ثور* وقال الإِمام الشافعي -رحمه الله-: "لو كان له مال يُمكنه أن يؤدي زكاته، فلم يفعل، فوجبت عليه الزكاة سنين، ثمّ هلك؛ أدّى زكاته لما فرّط فيه" (¬1). الزكاة في المال المشترك (¬2) إِذا كان المال مُشترَكاً بين شريكين أو أكثر؛ لا تجب الزكاة على واحد منهم؛ حتى يكون لكلّ واحد منهم نصاب كامل؛ في قول أكثر أهل العلم. هذا في غير الخلطة في الحيوان (¬3). الفرار من الزكاة قبل وجوبها مَن ملك نصاباً من أي صنفٍ من أصناف المال؛ فباعه قبل الحول أو تخلّص جزء منه ابتغاء إِسقاط الزكاة؛ كان آثماً، وتبقى معلّقةً في ذمّته حتى يُخرِجها، إِذ هذا ضرْبٌ من ضروب التحايل، وهو من صنيع اليهود. وهذا كمن طلّق امرأته في مرض موته؛ ليحرمها الإِرث، والله -تعالى- أعلم. وجاء في "الاختيارات الفقهية" (ص 99): "ولا يحلّ الاحتيال لإِسقاط ¬

_ (¬1) "الأمّ" (4/ 188)، وتقدم غير بعيد. (¬2) انظر "فقه السنة" (1/ 382). (¬3) كما تقدّم.

مصارف الزكاة

الزكاة، ولا غيرها من حقوق الله تعالى". وقال الشيخ السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (1/ 335) في التعليق: "لو باع النصاب في أثناء الحول، أو أبدله بغير جنسه؛ انقطع حول الزكاة، واستأنف حولاً آخر". قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 359) -في الرد على ذلك-: "ينبغي أن يُقيَّد هذا بما إِذا وقع ذلك اتفاقاً، لا لقصد الخلاص من الزكاة؛ كما يُروى عن بعض الحنفية؛ أنه كان إِذا قارب انتهاء حول النصاب، وهب المال لزوجته، حتى إِذا انتهى الحول استردَّه منها! لأنّ العود بالهدية جائز عندهم على تفصيل فيه! فمن احتال هذه الحيلة -التي يُسمّيها بعضهم حيلة شرعية- فإِنّي أرى أن يُؤخَذ منه الزكاة، وشطْر ماله، على حديث بهز بن حكيم؛ فإِنَّ المحتال ... أولى بهذا الجزاء من الممتنع دون حيلة، فتأمّل". مصارف الزكاة (¬1) قال الله تعالى: {إِنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمُؤَلفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً (¬2) من الله والله عليم حكيم} (¬3). ¬

_ (¬1) استفدت غالب هذا الباب من "تفسير ابن كثير". (¬2) أي: حُكماً مقدراً بتقدير الله فرْضه وقسْمه. (¬3) التوبة: 60.

أما ما جاء في الفقراء:

وهذه الآية الكريمة تُبيّن أنّ الأصناف ثمانية، وهي: 1، 2 - الفقراء والمساكين، وهم المحتاجون الذين لا يجدون كفايتهم ويقابلهم الأغنياء المكفيُّون ما يحتاجون إِليه (¬1). أمّا ما جاء في الفقراء: فحديث ابن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تحلّ الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّة (¬2) سوي (¬3) " (¬4). وسألت شيخنا -رحمه الله-: وإذا احتاج ذو المرّة السويّ؟ فأجاب: "المقصود أن يسأل، أمّا غير السائل فيجوز". وعن عبد الله بن عديّ بن الخيار قال: "أخبرني رجلان أنهما أتيا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه، فرآنا جلدَيْن، فقال: إِن شئتما أعطيتكما، ولا حظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" (¬5). وعن زهير العامري قال: "قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله ¬

_ (¬1) "فقه السنة" (1/ 383). (¬2) المِرة: القوّة والشدة. (¬3) السويّ: الصحيح الأعضاء. (¬4) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (877). (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1438) والنسائي وغيرهما، وانظر "المشكاة" (1832).

وأما ما جاء في المساكين:

عنهما-: أخبرني عن الصدقة أي مال هي؟ قال: هي شر مال، إِنما هي مال للعميان والعرجان والكسحان واليتامى وكل منقطع به. فقلت: إِن للعاملين عليها حقاً وللمجاهدين، فقال: للعاملين عليها بقدر عمالتهم، وللمجاهدين في سبيل الله قدر حاجتهم -أو قال حالهم- قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ الصدقة لا تحلّ ... " (¬1). الحديث. وأمّا ما جاء في المساكين: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس؛ تردُّه اللُّقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يُغنيه، ولا يُفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس" (¬2). وليس ثمّة فرقٌ من حيث الحاجة واستحقاق الزكاة بين الفقراء والمساكين؛ إِذ النّصوص تدّل على هذا. ففي "النهاية": (المسكين): الذي لا شىء له، وقيل: هو الذي له بعض الشيء. وفي "النهاية"كذلك في تفسير كلمة (الفقير): الفقير الذي لا شيء له، ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي، قال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (3/ 382): وهذا سند يتقوى بالذي قبله [أي: حديث ابن عمرو]، فإِن عطاء هذا أورده ابن أبي حاتم (3/ 1/332) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ورواه ابن أبي شيبة من طريق ثالث موقوفاً. وسنده صحيح. (¬2) أخرجه البخاري: 1479، ومسلم: 1039.

والمسكين الذي له بعض ما يكفيه، وإِليه ذهب الشافعي، وقيل فيهما بالعكس وإليه ذهب أبو حنيفة. وفي تفسير "ابن كثير": في قوله تعالى: {إِنّما الصدقات للفقراء والمساكين}: قدّم الفقراء هاهُنا على البقيّة؛ لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور ولشدّة فاقتهم وحاجتهم. قال ابن كثير -رحمه الله-: "واختار ابن جرير وغير واحد؛ أنَّ الفقير هو المتعفّف الذي لا يسأل الناس شيئاً، والمسكين هو الذي يسأل ويطوف ويَتْبَع الناس شيئاً". وإلى هذا تميل نفسي؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس؛ تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكنّ المسكين الذي لا يجد غنىً يُغنيه، ولا يُفطن له فيُتصدّق عليه، ولا يقوم فيسأل النّاس". وهذا فيه التعريف السائد للمسكين في المجتمع، وجاء الشرع ليُلغي المعنى، لا ليُلغي التعريف، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس الشديد بالصُّرَعة (¬1)، إِنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (¬2). وكقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إِنّ المفلس من أمتي؛ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذَف هذا، وأَكل مال هذا، وسَفَك دم هذا، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإِنْ فنيت حسناته، قبْل أن يُقْضى ¬

_ (¬1) الذي يصرع النّاس كثيراً بقوّته. "فتح". (¬2) أخرجه البخاري: 6114، ومسلم: 2609.

ما عليه، أخذ من خطاياهم فَطُرِحت عليه، ثم طرح في النار" (¬1). وكقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما تَعُدّون الرَّقوب فيكم؟ قلنا: الذي لا يولد له، قال: ليس ذاك بالرقوب، ولكنّه الرجل الذي لم يُقدِّم من ولده شيئاً" (¬2). قال ابن الأثير في "النهاية": "الرقوب في اللغة: الرجل والمرأة إِذا لم يَعِش لهما ولد، لأنّه يرقب موته ويرصُده؛ خوفاً عليه، فنَقله النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى الذي لم يقدّم من الولد شيئاً أي: يموت قبله؛ تعريفاً أنّ الأجر والثواب لمن قدَّم شيئاً من الولد، وأنّ الاعتداد به أكثر والنفع به أعظم ... ومن لم يُرزق ذلك؛ فهو كالذي لا ولد له، ولم يقُلْه إِبطالاً لتفسيره اللغوي" (¬3). ويمكننا أن نقول هذا في حديث: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس؛ تردّه اللقمة واللقمتان"، فهذا هو المعنى اللغوي وهو الواقع الاجتماعي، ولم يقُل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقولته ليبطل تفسيره اللغوي. ولهذا يمكننا أن نقول عن المسكين: إِنه الذي يُفطن له بالصدقة ويسأل الناس، وطالما سأل الناس وفُطن له بالصدقة فإِنه واجدٌ ما يُغنيه، فجاء الحديث ليُبيّن الأَوْلى منه بالصدقة وهو مَنْ لا يسأل الناس، ولا يُفطن له بالصدقة، ولا يجد ما يُغنيه. وقد قال الله تعالى: {للفقراء الذين أُحصِروا (¬4) في سبيل الله لا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 2581. (¬2) أخرجه مسلم: 2608. (¬3) وقد فصّلت القول فيه في "شرح صحيح الأدب المفرد" (1/ 182). (¬4) أي: حصَرهم الجهاد أي: منَعهم الاشتغال به من الضّرْب في الأرض -أي: =

يستطيعون ضَرْبَاً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفُّف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إِلحافاً (¬1)} (¬2). فالفقراء إِذن قد تكون عندهم موانع تمنعهم من التكسّب، أو أنهم لا يستطيعون ذلك أصلاً لبعض الأسباب، ويحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، بعكس الذي يطوف على الناس؛ تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان. وهم لا يسألون الناس إِلحافاً بعكس من يسأل كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولا يقوم فيسأل الناس ... ". وفي حديث: "ليس المسكين ... " قال الحافظ (3/ 343): "وفيه دلالة لمن يقول: إِنّ الفقير أسوأ حالاً من المسكين، وأنّ المسكين الذي له شيء لكنّه لا يكفيه، والفقير الذي لا شيء له ... ويؤيده قوله تعالى: {أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} (¬3) فسمّاهم مساكين مع أنّ لهم سفينة يعملون فيها، وهذا قول الشافعي وجمهور أهل الحديث والفقه. فإِنْ قلتَ: قد جاءت الآيات الكثيرة في الحض على إِطعام المسكين، فلماذا لم يكن ذلك في الفقير وهو أولى؟ قلتُ: الفقير والمسكين كلاهما من أهل الحاجة، الذين يشرع التصدّق ¬

_ = التجارة- لاشتغالهم به عن التكسّب. "فتح" (3/ 341). (¬1) أي: لا يُلحّون في المسألة ويكلّفون الناس ما لا يحتاجون إِليه. "ابن كثير". (¬2) البقرة: 273. (¬3) الكهف: 79.

عليهم، ولكن جاء التوبيخ والتقريع لمن لم يقدّم العون الواجب؛ لمن تكون حاجته ظاهرة وهو المسكين، كقوله تعالى: {ولا يحضُّ على طعام المسكين} (¬1). وكقوله تعالى: {ولا تحاضّون على طعام المسكين} (¬2). والخُلاصة؛ أنّ الفقير أسوأ حالاً من المسكين، وهذا نابع من تعفّفه وعدم سؤاله الناس، ولا يفطن الناس له في صدقاتهم؛ فيحتاج إِلى مثابرة في التعرّف على هذا النوع؛ لرفع الجهل المنبوذ الذي ذكره الله تعالى في كتابه: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف} (¬3). وهذا لا ينفي جواز الصدقة على المسكين كما في قوله تعالى: {إِنّما الصدقات للفقراء والمساكين} ولكن معرض الكلام في بيان أصناف المحتاجين وبيان الأولى في ذلك، لذلك قال ابن كثير: وإنما قدّم الفقراء هاهُنا على البقية لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور ولشدّة حاجتهم. ولهذا فهناك خصوص وعموم بين المسكين والفقير، فالفقير أعمّ والمسكين أخصّ، فكلّ مسكين فقير، وليس كلّ فقير مسكيناً، وهو كقولنا: كلّ مؤمن مسلم، وليس كلّ مسلم مؤمناً، قال الله تعالى: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلَمنا ولمّا يدخل الإِيمان في ¬

_ (¬1) الحاقة: 34. (¬2) الفجر: 18. (¬3) البقرة: 273.

المالك الذي لا يجد ما يفي بكفايته

قلوبكم} (¬1). والله -تعالى- أعلم. المالك الذي لا يجد ما يفي بكفايته (¬2) من ملَك نصاباً، من أيّ نوع من أنواع المال -وهو لا يقوم بكفايته، لكثرة عياله، أو لغلاء السعر- فهو غنيّ؛ من حيث أنّه يملك نصاباً؛ فتجب الزكاة في ماله، وفقير من حيث أنّ ما يملكه لا يقوم بكفايته، فيُعطى من الزكاة كالفقير. قال النووي: ومن كان له عقار، ينقص دخله عن كفايته؛ فهو فقير يُعطى من الزكاة تمام كفاية، ولا يُكلف بيعه. وفي "المغني": قال الميمون: ذاكَرت أبا عبد الله -أحمد بن حنبل- فقلت: قد يكون للرجل الإِبل والغنم؛ تجب فيها الزكاة وهو فقير، وتكون له أربعون شاة، وتكون له الضّيعة لا تكفيه، فيعطى الصدقة؟ قال: نعم، وذلك لأنه لا يملك ما يُغنيه، ولا يقدر على كسْب ما يكفيه، فجاز له الأخذ من الزكاة. كما لو كان ما يملك، لا تجب فيه الزكاة. 3 - العاملون عليها: وهم: الجباة والسعاة؛ يستحقّون منها قِسطاً على ذلك، ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين تحرم عليهم الصدقة. فعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث؛ أنه انطلق هو والفضل بن العباس يسألان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليستعملهما على الصدقة، فقال: "إِنَّ الصدقة لا تنبغي ¬

_ (¬1) الحجرات: 14. (¬2) عن "فقه السنة" (1/ 386).

لآل محمّد. إِنّما هي أوساخ الناس" (¬1). وفي رواية: "إِنّ هذه الصدقات إِنَّما هي أوساخ الناس؛ وإنها لا تحلّ لمحمّد ولا لآل محمّد" (¬2). ويجوز أن يكونوا من الأغنياء؛ لحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تحلّ الصدقة لغنيّ إِلا لخمسة: للعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غازٍ في سبيل الله، أو مسكين تُصدِّق عليه؛ فأَهْدَى منها لِغَنيّ" (¬3). ولحديث عبد الله بن السعدي: "أنه قدِم على عمر في خلافته فقال له عمر: ألم أُحدَّث أنك تلي من أعمال الناس أعمالاً، فإِذا أُعطيتَ العُمالة (¬4) كرهتها؟ فقلت: بلى، فقال عمر: ما تريد إِلى ذلك؟ قلت: إِنَّ لي أفراساً وأعبداً (¬5) وأنا بخير، وأريد أن تكون عُمالتي صدقة على المسلمين. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1072، قال النووى (7/ 179): "معنى أوساخ الناس؛ أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم، كما قال تعالى: {خُذْ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} فهي كغسالة الأوساخ". (¬2) أخرجه مسلم: 1072. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1440)، وغيره وصححه شيخنا في "الإِرواء" (870). (¬4) العُمالة: بضم الميم أجرة العمل، وأما العَمالة بفتح العين: فهي نفس العمل. (¬5) أعبُداً: جمع عبد وهو الرقيق، وفي رواية: أعتُداً: جمع عتيد، وهو المال المدَّخر.

قال عمر: لا تفعل، فإِنّي كنت أردتُ الذي أردتَ، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إِليه منّي، حتى أعطاني مرّة مالاً فقلت: أعطه أفقر إِليه مني، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُذهُ فتموّله وتصدَّق به، فما جاءك من هذا المال -وأنت غير مشرف (¬1) ولا سائل- فخذه، وإِلا فلا تُتبِعه نفسك" (¬2). وينبغي أن تكون الأجرة بقدر الكفاية (¬3). فعن المستورد بن شداد، قال: سمعتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإِن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإِن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً". قال: قال أبو بكر: أُخبِرت أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من اتخذ غير ذلك فهو غالٌّ أو سارق (¬4) " (¬5). ¬

_ (¬1) أي: غير متطلّع إِليه. (¬2) أخرجه البخاري: 7163، ومسلم: 1045. (¬3) انظر "فقه السنة" (1/ 387). (¬4) قال المظهر: أي: يحلّ له أن يأخذ مما في تصرفه في مال بيت المال؛ قدر مهر زوجة ونفقتها وكسوتها، وكذلك ما لا بد منه من غير إِسراف وتنعّم، فإِنْ اْخَذ أكثر ما يحتاج إِليه ضرورة؛ فهو حرام عليه. فال الطيبي: وإنما وضع الاكتساب موضع العُمالة والأجرة؛ حسماً لطمعِه. "المرقاة" (7/ 320). (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2552)، وقال شيخنا -رحمه الله- في "المشكاة" (3751): وإسناده صحيح.

4 - المؤلفة قلوبهم:

وبوَّب ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (4/ 70): (باب إِذْن الإِمام للعامل بالتزويج، واتخاذ الخادم والمسكن من الصدقة)، ثمّ ذكر حديث المستورد بن شدّاد -رضي الله عنه-. قال في "المغني" (2/ 518): "ويُعطى منها أجر الحاسب والكاتب والحاشد والخازن والراعي ونحوهم، فكلّهم معدودون من العاملين عليها؛ ويُدفع إِليهم من حصة العاملين عليها". 4 - المؤلفة قلوبهم: والمؤلفة قلوبهم أقسام: منهم من يُعطى لِيُسْلم؛ كما أعطى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفوان بن أميّة من غنائم حُنين؛ وقد كان مُشركاً. فعن ابن شهاب قال: "غزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزوة الفتح -فتح مكة- ثمّ خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمن معه من المسلمين، فاقتتلوا بحُنين، فنصَر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ صفوان بن أميّة مائة من النعم، ثمّ مائة، ثمّ مائة. قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أنَّ صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إِليَّ، فما برِح يعطيني؛ حتى إِنه لأحبّ الناس إليَّ" (¬1). وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "ما سُئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الإِسلام ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 2313.

شيئاً إِلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجَع إلى قومه، فقال: يا قوم! أسلِموا، فإِنّ محمّداً يعطي عطاءً؛ لا يخشى الفاقة". وفي رواية: "أنّ رجلاً سأل النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غنماً بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: أي قوم! أسلموا، فوالله! إِنّ محمّداً ليعطي عطاءً؛ ما يخاف الفقر فقال أنس: إِنْ كان الرجل ليُسْلِم ما يريد إِلا الدنيا، فما يُسْلِم حتى يكون الإِسلام أحب إِليه من الدنيا وما عليها" (¬1). ومنهم من يُعطى ليحسن إسلامُه، ويثبّت قلبه كما أعطى يوم حنين أيضاً جماعة من صناديد (¬2) الطلقاء وأشرافهم مائة من الإِبل وقال: "إِني لأُعطي الرجل وغيره أحبّ إِليّ منه، خشية أن يكبّه الله في النار" (¬3). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "بعث علي -رضي الله عنه- وهو باليمن، بذهبة (¬4) في تربتها (¬5)، إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقسَمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس الحنظلي، وعُيينة بن بدر (¬6) الفزاري، وعلقمة بن عُلاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وزيد الخير (¬7) الطائي، ثم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 2312. (¬2) أي. سادة. (¬3) أخرجه البخاري: 27، ومسلم: 150. (¬4) هكذا لفظ مسلم ولفظ البخاري: "بذُهَيبة". (¬5) أي: غير مسبوكة. (¬6) وهو عُيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري. (¬7) وزيد الخير: كذا هو في جميع النسخ (الخير) بالراء وفي الرواية التي بعدها =

أحد بني نبهان. قال: فغضبت قريش فقالوا: أيُعطي [أتُعطي] صناديد نجد ويدعنا؟ [وتدعنا] فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنّي إِنّما فعلْتُ ذلك لأتألَّفهم" (¬1). ومنهم من يُعطى لما يُرجى من إِسلام نظرائه. ومنهم من يُعطى ليجبي الصدقات ممّن يليه، أو ليدفع عن المسلمين الضرر. قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 40): "قال: -أي: أبو جعفر الطبري -رحمه الله-: ... والصواب أن الله جعل الصدقة في معنيين: أحدهما: سد خلّة المسلمين. والثاني: معونة الإِسلام، وتقويته. فما كان معونة للإِسلام، يُعطى منه الغني والفقير، كالمجاهد ونحوه، ومن هذا الباب يُعطى المؤلفة، وما كان في سد خلّة المسلمين". وسألت شيخنا -رحمه الله-: يقول بعض العلماء: إِعطاء المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة قد سقط بانتشار الإِسلام وغلبته، وقال آخرون: الظاهر جواز التأليف عند الحاجة إِليه، فهل ترون الأخير؟ فأجاب -رحمه الله-: "بلا شكّ". ¬

_ = زيد الخيل باللام. وكلاهما صحيح، يقال بالوجهين، كان يقال له في الجاهلية زيد الخيل، فسمّاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإِسلام زيد الخير. "شرح النووي" (7/ 161). (¬1) أخرجه البخاري: 4351، ومسلم: 1064 وهذا لفظه.

5 - وفي الرقاب:

5 - وفي الرقاب (¬1): وأمّا الرقاب؛ فرُوي عن الحسن البصري ومقاتل بن حيّان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن زيد أنهم المكاتبون، وروي عن أبي موسى الأشعرى نحوه، وهو قول الشافعي والليث. وقال ابن عباس (¬2) والحسن (¬3): لا بأس أن تُعتق الرقبة من الزكاة، وهو مذهب أحمد ومالك وإسحاق؛ أي: أنَّ الرقاب أعمّ من أن يُعطى المكاتَب (¬4) أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالاً، وقد ورد في ثواب الإِعتاق وفكّ الرقبة أحاديث كثيرة، وأنَّ الله يعتق بكل عضو عضواً من مُعتِقها، حتى الفرج بالفرج، وما ذاك إلاَّ لأنَّ الجزاء من جنس العمل: {وما تُجزون إِلاّ ما كنتم تعملون}. ¬

_ (¬1) انظر للمزيد من الفائدة "الفتح" (3/ 332). (¬2) لعله يشير إِلى قول البخاري -رحمه الله-: ويُذكر عن ابن عباس -رضي الله عنه-: يُعتق من زكاة ماله ويُعطى في الحج -ووصَله أبو عبيد في "الأموال" بسند جيد عنه، وانظر "الفتح" (3/ 331) و"مختصر البخاري" (1/ 348). (¬3) لعله يشير أيضاً إِلى قول البخاري -رحمه الله- وقال الحسن: إِن اشترى أباهُ من الزكاة جاز، ويُعطى في المجاهدين والذي لم يحجّ. قال الحافظ في "الفتح" (3/ 332): وهذا صحيح عنه أخرج أوله ابن أبي شيبة. (¬4) الكتابة: أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه إِليه منجَّماً [مقسَّطاً]، فإِذا أدّاه صار حرّاً، وسمّيت كتابة لمصدر (كتب) كأنه يكتب على نفسه لمولاه ثمنه، ويكتب مولاه له عليه العِتق، وقد كاتبَه مكاتبَة والعبد مكاتَب. "النهاية".

6 - الغارمون:

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثة كلّهم حقٌّ على الله عَوْنه: الغازي في سبيل الله، والمكاتَب الذي يريد الأداء، والنَّاكح الذي يريد التعفف" (¬1). وعن البراء قال: "جاء أعرابي فقال: يا نبيّ الله! علّمني عملاً يدخلني الجنة؟ قال: لئن كنت أقصرت الخُطبة لقد أعرضت المسألة (¬2)، أعتق النسمة (¬3)، وفُكَّ الرقبة، قال: أو ليستا واحداً؟ قال: لا؛ عتق النسمة أن تعتق النسمة، وفكّ الرقبة أن تعين على الرقبة ... " (¬4). 6 - الغارمون: وهم الذين تحمّلوا الديون، وشقّ عليهم أداؤها، وهم أقسام: منهم من تحمَّل حَمَالةً (¬5)، وضمن ديناً فلزِمه فأَجْحَف (¬6) بماله، أو غرِم ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2041)، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "غاية المرام" (210). (¬2) أي: جئت بالخطبة قصيرة والمسألة عريضة، يعني: قلّلْت الخطبة وأعظمت المسألة. (¬3) النسمة: النفس والروح، أعتق النسمة: أعتق ذا روح وكلّ دابّة فيها روح فهي نسمة، وإنّما يريد الناس والمراد الانفراد بعتقها. (¬4) وانظر كتابي "شرح صحيح الأدب المفرد" (1/ 83). (¬5) الحَمالة: المال الذي يتحمّله الإِنسان الذي يستدين، ويدفعه في إصلاح ذات البين؛ كالإصلاح بين قبيلتين ونحو ذلك. "شرح النووي" (7/ 133). (¬6) أجحف بماله: أى أذهبه.

في أداء دينه، أو في معصية ثمّ تاب، فهؤلاء يُدفع إِليهم. والأصل في هذا الباب؛ حديث قبيصة بن مُخارق الهلالي قال: "تحمَّلت حَمالة، فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسأله فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. قال: ثمّ قال: يا قبيصة! إِنّ المسألة لا تحلّ إلاَّ لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حَمالة؛ فحلّت له المسألة حتى يصيبها ثمّ يمسك، ورجل أصابته جائحة (¬1) اجتاحت (¬2) ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قِواماً (¬3) من عَيْش (أو قال: سِداداً (¬4) من عيش) ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه (¬5)؛ لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلّت له المسألة حتى يصيب قِواماً من عيش (أو قال: سِداداً من عيش) فما سواهنّ من المسألة، يا قبيصة! سُحتاً (¬6) ¬

_ (¬1) الجائحة: هي الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها، وكل مصيبة عظيمة وفتنة مبيرة جائحة. (¬2) أي: أهلكت. (¬3) القِوام والسداد بمعنى واحد، وهو ما يُغنى من الشيء أو تسدّ به الحاجة، وكل شيء سددت به شيئاً فهو سِداد، ومنه: سِداد الثغر، وسِداد القارورة، وقولهم: سِداد من عوز. "شرح النووي" (7/ 133). (¬4) القِوام والسداد بمعنى واحد، وهو ما يُغنى من الشيء أو تسدّ به الحاجة، وكل شيء سددت به شيئاً فهو سِداد، ومنه: سِداد الثغر، وسِداد القارورة، وقولهم: سِداد من عوز. "شرح النووي" (7/ 133). (¬5) قال النووي (7/ 133): "هكذا هو في جميع النسخ: يقوم ثلاثة، وهو صحيح. أي: يقومون بهذا الأمر فيقولون: لقد أصابته فاقة، والحجى مقصور، وهو العقل، وإنما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من قومه، لأنهم من أهل الخبرة بباطنه، والمال ممّا يخفى في العبادة فلا يعلمه إِلا من كان خبيراً بصاحبه". (¬6) السحت: الحرام.

7 - وفي سبيل الله

يأكلها صاحبها سُحتاً" (¬1). ويُعطى الغارم بقدْر حاجته لا أكثر؛ لحديث قبيصة بن مُخارق: " ... حتى يُصيب قِواماً من عيش (أو قال: سِداداً من عيش) فما سواهُنّ من المسألة يا قبيصة؛ سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً". قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (4/ 72): "باب الدليل على أنّ الغارم الذي يجوز إِعطاؤه من الصدقة وإن كان غنياً، هو الغارم في الحمالة، والدليل على أنه يُعطى قدر ما يؤدي الحَمالة لا أكثر". ثم ذكَر حديث قبيصة بن مخارق السابق. 7 - وفي سبيل الله (¬2) قال ابن كثير -رحمه الله-: "وأمّا في سبيل الله، فمنهم الغُزاة الذين لا حقّ لهم في الديوان (¬3)، وعند الإِمام أحمد والحسن وإسحاق، والحجّ في سبيل الله للحديث". يشير بذلك إِلى حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحجّ، فقالت امرأة لزوجها: أحِجَّني مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ما عندي ما أحِجُّكِ عليه، قالت: أحِجّني على جملك فلان! قال: ذاك حبيسٌ (¬4) في سبيل الله -عزّ وجلّ-. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1044. (¬2) انظر -إِن شئت- ما جاء في "الفتح" (3/ 332). (¬3) يعني: ليس لهم رِزق أو راتب من الدولة. (¬4) أي: موقوف على الغزاة يركبونه في الجهاد. "النهاية".

فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنّ امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، وإنها سألتني الحج معك! قالت: أحِجّني مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: ما عندي ما أُحِجّك عليه، فقالت: أحِجّني على جملك فلان، فقلت: ذاك حبيس في سبيل الله، فقال: "أما إِنك لو أحْجَجْتها عليه كان في سبيل الله". قال: وإنها أمَرتني أن أسألك: ما يعدل حَجة معك؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أقرِئها السلام ورحمة الله وبركاته وأخبِرها: أنها تعدل حَجَّة معي" -يعني- عمرة في رمضان" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (2681): "وأمّا (سبيل الله) في آية مصارف الزكاة {إنما الصدقات}، فهي في الجهاد وفي الحج والعمرة". وقال شيخنا في "تمام المِنّة": -بعد قول ابن كثير-: " .. وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية فقال في "الاختيارات": "ومن لم يحجّ حَجّة الإِسلام وهو فقير؛ أُعطي ما يحجّ به، وهو إِحدى الروايتين عن أحمد. ورواه أبو عبيد في "الأموال" رقم (1976) عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهماً في سبيل الله، فقيل له: أتُجعل في الحج؟ فقال: أما إِنه في سبيل الله. وإسناده صحيح كما قال الحافظ في "الفتح" (3/ 258). وروى أبو عبيد رقم (1784 و1965) بسند صحيح عن ابن عباس ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1753) وغيره، وانظر "تمام المِنّة" (ص 381).

هل بناء المستشفيات الخيرية العامة وإعداد الدعاة إلى الإسلام والنفقة على المدارس الشرعية ... ونحو ذلك من "سبيل الله"؟

-رضي الله عنهما-: "أنه كان لا يرى بأساً؛ أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق الرقبة" (¬1). وتقدّم الحديث: "لا تحلّ الصدقة لغنيّ إلاَّ لخمسة: للعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غازٍ في سبيل الله، أو مسكين تُصدِّق عليه؛ فأَهدى منها لغني". وعن أبي لاس الخزاعي -رضي الله عنه- قال: "حمَلنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على إِبل من إِبل الصدقة ضعاف للحجّ ... " (¬2). هل بناء المستشفيات الخيرية العامّة وإِعداد الدعاة إِلى الإِسلام والنفقة على المدارس الشرعية ... ونحو ذلك من "سبيل الله"؟ جاء في "تمام المِنّة" (ص382) بتصرف: " [إِنّ] تفسير الآية بهذا المعنى الواسع الشامل لجميع الأعمال الخيرية مما لم يُنقل عن أحدٍ من السّلف -فيما علِمت- وإن كان جَنَح إِليه صدّيق حسن خان في "الروضة الندية"، فهو مردود عليه. ولو كان الأمر كما زعم، لما كان هناك فائدة كبرى في حصْر الزكاة في المصارف الثمانية في الآية الكريمة، ولكان أن يدخل في (سبيل الله) كلّ ¬

_ (¬1) وإعلال أبي عبيد له بأن أبا معاوية انفرد به؛ ليس بشيء، لأن أبا معاوية ثقة، وهو أحفظ الناس لحديث الأعمش كما في "التقريب"، وهذا من روايته عنه، وقد تابعه عنه عبدة بن سليمان كما في "الفتح"، فزالت شبهة تفرد أبي معاوية به، وانظر "إِرواء الغليل" (3/ 376 - 377). (¬2) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (2377)، وقال شيخنا -رحمه الله-: إِسناده حسن.

8 - ابن السبيل:

أمر خيري مِثل بناء المساجد ونحوها، ولا قائل بذلك من المسلمين. بل قال أبو عبيد في "الأموال" فقرة (1979): "فأمّا قضاء الدين عن الميت، والعطية في كَفَنه، وبنيان المساجد، واحتفار الأنهار، وما أشبه ذلك من أنواع البرّ، فإِنّ سفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء؛ مُجمِعون على أنّ ذلك لا يجزي من الزكاة، لأنّه ليس من الأصناف الثمانية". 8 - ابن السبيل: قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "وكذلك ابن السبيل، وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره؛ فيعطى من الصدقات ما يكفيه إِلى بلده، وإِنْ كان له مال. وهكذا الحُكم فيمن أراد إِنشاء سفر من بلده وليس معه شيء، فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه. والدليل على ذلك الآية، وما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تحلّ الصدقة لغني إلاَّ لخمسة: ... ". وذكَر الحديث المتقدّم. وعند مالك وأحمد؛ ابن السبيل المستحق للزكاة، يختصّ بالمجتاز دون المنشئ ولا يعطى من الزكاة من إِذا وجد مُقِرضاً يُقرِضه وكان له من المال ببلده، ما يفي بقرْضه، فإِن لم يجد مُقرِضاً، أو لم يكن له مال يقضي منه قرضه، أعطي من الزكاة". وقول مالك وأحمد هو الراجح -والله أعلم-. لأنه ليس للإِنسان أن

هل يجب استيعاب الدفع إلى جميع مصارف الزكاة؟

ينشئ السفر إِذا لم يكن قادراً عليه إِلا إِذا كان مضطراً لذلك، وإيفاء القرض أولى من قَبول الزكاة، ولو جازت لابن السبيل الغني لجاء ذلك في الحديث المتقدّم: "لا تحلّ الصدقة لغني إِلا لخمسة ... " ولم يذكر منها ابن السبيل. والله -تعالى- أعلم. هل يجب استيعاب الدفع إِلى جميع مصارف الزكاة؟ لا يجب ذلك لأنَّ الآية ذكَرت الأصناف لبيان المصرف؛ لا لوجوب استيعابها. جاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 40): "قال الإِمام أبو جعفر الطبري: عامّة أهل العلم يقولون: للمتولي قسمتها، ووضْعها في أي الأصناف الثمانية شاء، وإنّما سمّى الله الأصناف الثمانية؛ إِعلاماً منه أنّ الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إِلى غيرها، لا إِيجاباً لقسمتها بين الأصناف الثمانية". وجاء في "تفسيرابن كثير": "وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية؛ هل يجب استيعاب الدفع لها، أو إِلى ما أمكن منها؟ على قولين: (أحدهما) أنه يجب ذلك وهو قول الشافعي وجماعة. (والثاني) أنه لا يجب استيعابها، بل يجوز الدفع إِلى واحد منها، ويعطى جميع الصدقة؛ مع وجود الباقين، وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف؛ منهم عمر وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون ابن مهران.

إذا اجتمع في واحد أكثر من سبب لأخذ الزكاة

قال ابن جرير وهو قول عامّة أهل العلم، وعلى هذا؛ فإِنما ذُكِرت الأصناف هاهنا لبيان المصرف لا لوجوب استيعابها". وجاء في "الروضة الندية" (1/ 503): " ... نعم إِذا جمع الإِمام جميع صدقات أهل قُطر من الأقطار، وحضَر عنده جميع الأصناف الثمانية، كان لكلّ صنف حقٌّ في مطالبته بما فرضَه الله، وليس عليه تقسيط ذلك بينهم بالسوية، ولا تعميمهم بالعطاء. بل له أن يعطي بعض الأصناف أكثر من البعض الآخر، وله أن يعطي بعضهم دون بعض؛ إِذا رأى في ذلك صلاحاً عائداً على الإِسلام وأهله. مثلاً: إِذا جُمعت لديه الصدقات وحضَر الجهاد، وحقّت المدافعة عن حوزة الإِسلام من الكفار أو البغاة؛ فإِنّ له إِيثار صِنف المجاهدين بالصرف إِليهم؛ وإن استغرق جميع الحاصل من الصدقات، وهكذا إِذا اقتضت المصلحة إِيثار غير المجاهدين". إِذا اجتمَع في واحد أكثر من سبب لأخذ الزكاة قال في "المغني" (2/ 518): "وإن اجتمع في واحد أسباب تقتضي الأخذ بها؛ جاز أن يعطى بها، فالعامل الفقير له أن يأخذ عُمالته، فإِن لم تُغنه فله أن يأخذ ما يُتمّ به غناه، فإِنْ كان غازياً فله أخذ ما يكفيه لغزوه، وإِن كان غارماً أخذ ما يقضي به غرمه؛ لأنّ كلّ واحد من هذه الأسباب؛ يُثبت حُكْمه بانفراده فوجود غيره لا يمنع ثبوت حُكمه؛ كما لم يمنع وجوده".

من تحرم عليهم الزكاة

من تحرُم عليهم الزكاة (¬1) 1 - أهل الكفر والإِلحاد لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ في الحديث المتقدّم: " ... فأخبِرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقةً، تُؤخذ من أغنيائهم، فتردّ على فقرائهم". والمراد أغنياء المسلمين وفقراؤهم. قال في "المغني" (2/ 517): "لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أنّ زكاة الأموال لا تُعطى لكافر ولا لمَمْلوك. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، أنّ الذّمّي لا يعطى من زكاة الأموال شيئاً، ولأن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ: "أعلِمهم أنّ عليهم صدقة تُؤخَذ من أغنيائهم، وتُرَدّ في فقرائهم". فخصَّهم بصرفها إِلى فقرائهم كما خصَّهم بوجوبها على أغنيائهم". ويستثنى من ذلك المؤلفة قلوبهم كما تقدّم. ويجوز أن يعطوا من صدقة التطوّع، قال الله تعالى: {ويُطعمون الطعام على حبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} (¬2). جاء في "أضواء البيان" (8/ 675): "في قوله تعالى: {مسكيناً ويتيماً وأسيراً} جمْعُ أصنافٍ ثلاثة: الأول والثاني: من المسلمين غالباً، أمّا ¬

_ (¬1) عن "فقه السنة" (1/ 398) بتصرف، وانظر "السيل الجرار" -إِن شئت- (2/ 62 - 66) للمزيد من الفائدة. (¬2) الإنسان: 8.

الثالث: وهو الأسير؛ فلم يكن لدى المسلمين أسرى إلاَّ من الكفّار، وإنْ كانت السورة مكية؛ إِلا أن العِبرة بعموم اللفظ كما هو معلوم. وقد نقَل ابن كثير عن ابن عبّاس: أنها في الفُرْس من المشركين وساق قصّة أُسَارَى بدر. واختار ابن جرير أنّ الأَسْرى هم الخَدم، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنّ الأُسَارى هنا على معناها الحقيقي، لأنّ الخدم لا يخرجون عن القسمين المتقدمين: اليتيم والمسكين، وهؤلاء الأُسَارى بعد وقوعهم في الأسر، لم يبق لهم حَوْل ولا طَوْل، فلم يَبق إِلا الإِحسان إِليهم. وهذا من محاسن الإِسلام وسمو تعاليمه، وإنّ العالم كله اليوم؛ لفي حاجة إِلى معرفة هذه التعاليم السّماويّة السّامية حتى مع أعدائه، وقد قال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يُخرِجوكم مِن دياركم أن تبرُّوهم وتُقسطوا إِليهم} (¬1)، وهؤلاء بعد الأسْر ليسوا مقاتلين". وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: "قَدمت عليّ أمّي، وهي مشركة في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستفتيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قلت: إِنَّ أمّي قَدِمت وهي راغبة، أفأصِل أمّي؟ قال: نعم، صِلِي أمّك" (¬2). وفي الحديت: "تصدّقوا على أهل الأديان" (¬3). ¬

_ (¬1) الممتحنة: 8. (¬2) أخرجه البخاري: 2670، ومسلم: 1003. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وغيره، وهو ثابت بمجموع طرقه وشواهده، وانظر "الصحيحة" (2766).

2 - بنو هاشم وبنو المطلب.

قال شيخنا -رحمه الله-: ويشهد للحديث ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: وذكر الحديث. ثمّ قال -رحمه الله تعالى-: " ... وترجم له [أي: البيهقي] ولحديث الترجمة بقوله: "باب صدقة النافلة على المشرك وعلى من لا يُحمَد فِعله" هذا في صدقة النافلة. وأمّا الفريضة فلا تجوز لغير المسلم لحديث معاذ المعروف: "تؤخذ من أغنيائهم، فتردّ على فقرائهم ... ". 2 - بنو هاشم وبنو المطّلب. لحديث المطلب بن ربيعة بن الحارث المتقدّم: " ... إِنّ الصّدقة لا تنبغي لآل محمّد، إِنما هي أوساخ الناس" (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أخذ الحسن بن علي تمرةً من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَخ كَخ (¬2) ارم بها؛ أما علمتَ أنّا لا نأكل الصدقة" (¬3). واختلف العلماء في بني المطلب، فذهب الشافعي إِلى أنه ليس لهم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1072. (¬2) يقال: كخ كخ بفتح الكاف وكسرها، وهي كلمة يُزجر بها الصبيان عن المستقذرات، فيقال له كخ، أي: اتركه وارم به. وفي الحديث أنَّ الصبيان يُوَقّون مما يوقّ الكبار، وتمنع من تعاطيه وهذا واجب على الوليّ. "شرح النووي" (7/ 175). (¬3) أخرجه البخاري: 1491، ومسلم: 1069.

الأخذ من الزكاة؛ مثل بني هاشم. فعن جبير بن مُطعم قال: "مشيت أنا وعثمان بن عفّان إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلنا: يا رسول الله، أعطيْت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنما بنو المطلب وبنو هاشم شيءٌ واحد". قال الليث: حدثني يونس وزاد: "قال جُبَيْر: ولم يَقسِم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل. وقال ابن إِسحاق: عبد شمس وهاشم والمطلب إِخوة لأمّ وأمّهم عاتكة بنت مرّة، وكان نوفل أخاهم لأبيهم" (¬1). قال ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (6/ 210): "فصحّ أنّه لا يجوز أن يُفرَّق بين حُكمهم في شيء أصلاً؛ لأنهم شيء واحد بنصّ كلامه -عليه الصلاة والسلام- فصحّ أنهم آل محمّد، وإذ هم آل محمّد فالصدقة عليهم حرام". وكما حرَّم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصدقة على بني هاشم؛ فقد حرّمها كذلك على مواليهم وهم الأرقاء المعتقون. فعن أبي رافع -رضي الله عنه- "أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعَث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصيب منها، فقال: لا حتى آتي رسول الله فأسأله. فانطلق إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله فقال: "إِنّ الصدقة لا تحلّ لنا، وإِنّ موالي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3140.

3 - من تجب عليهم النفقة من قبل المزكي

القوم من أنفسهم" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة": "وما دلّ عليه الحديت من تحريم الصدقة على موالي أهل بيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ هو المشهور في مذهب الحنفية؛ خلافاً لقول ابن الملك منهم. وقد ردّ ذلك عليه العلاّمة الشيخ علي القاري في "مرقاة المفاتيح" (2/ 448 - 449) فليراجعه من شاء". 3 - من تجب عليهم النفقة من قِبل المزكّي؛ كالأبناء والأبوين ونحو ذلك، وسيأتي التفصيل بإِذن الله -تعالى-. زكاة من لا تجب نفقتهم أمّا إِذا لم تجب النففة عليهم؛ فإِخراج الزكاة عليهم أَوْلى. عن زينب امرأة عبد الله قالت: "كنت في المسجد فرأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: تصَدّقْن ولو من حُليِّكنَّ -وكانت زينب تُنفق على عبد الله وأيتام في حجرها- فقالت لعبد الله: سَلْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أيَجزي عني أن أنفق عليك وعلى أيْتَامي في حَجري من الصدقة؟ فقال: سلي أنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فانطلَقْتُ إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوَجَدْت امرأة من الأنصار على الباب؛ حاجتها مثل حاجتي، فمرّ علينا بلال فقلنا: سَل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيجزي عني أن أُنفق على زوجي وأيتام لي في حجري؟ وقلنا: لا تُخْبِر بنا. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (530)، وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (1613).

فدخل فسأله فقال: من هما؟ قال: زينب، قال: أيُّ الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله، قال: نعم، ولها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة" (¬1). وفي حديث سلمان بن عامر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصِلَة" (¬2). ومن الأمثلة على جواز إِعطاء الزكاة لمن لا تجب نفقتهم: الولد المتزوّج الذي يعيش في بيت مستقل عن أبويه؛ وكلٌّ مستقلٌّ بنفقته على نفسه. جاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 90): "وسئل -رحمه الله- عن دفْعها إِلى والديه، وولده الذين لا تلزمه نفقتهم؛ هل يجوز أم لا؟ فأجاب: الذين يأخذون الزكاة صنفان: صنف يأخذ لحاجته؛ كالفقير والغارم لمصلحة نفسه. وصنف يأخذها لحاجة المسلمين: كالمجاهد والغارم في إِصلاح ذات البين، فهؤلاء يجوز دفْعها إِليهم، وإِن كانوا من أقاربه. وأما دْفعها إِلى الوالِدين: إِذا كانوا غارِمَين، أو مكاتبين: ففيها وجهان، والأظهر جواز ذلك. وأمّا إِن كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم، فالأقوى جواز دفعها إِليهم في هذه الحال". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1466، ومسلم: 1000. (¬2) أخرجه أحمد والنسائي والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (531) وغيرهم، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (883).

وجاء في "الاختيارات الفقهية" (ص 104): "ويجوز صرف الزكاة إِلى الوالديْن وإنْ علَوْا، وإلى الولد وإن سَفل، إِذا كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم؛ لوجود المقتضي السالم عن المعارض المقاوم؛ وهو أحد القولين في مذهب أحمد، وكذا إِنْ كانوا غارمين أو مُكاتبين، أو أبناء سبيل؛ وهو أحد القولين أيضاً. وإذا كانت الأمّ فقيرة؛ ولها أولاد صغار لهم مال ونفقتها تضرُّ بهم؛ أُعطيت من زكاتهم. والذي يخدمه إِذا لم تكفه أجرته؛ أعطاه من زكاته؛ إِذا لم يستعمله بدل زكاته، ومن كان في عياله من لا تجب عليه نفقتهم، فله أن يعطيهم من الزكاة ما يحتاجون إِليه؛ ممّا لم تَجْرِ عادته بإِنفاقه من ماله". وقال ابن خزيمة في "صحيحه" (4/ 109): " (باب صدقة المرء على ولده ... ) ثمّ روى بإِسناده حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أنّ رجلاً تصدّق على ولده بأرض، فردّها إِليه الميراث، فذكَر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له: "وجب أجرك ورجع إِليك مُلكك" (¬1). وسألت شيخنا -رحمه الله- عن الزكاة على الأقارب. فقال: لا تجتمع زكاة ونفقة. وسأله بعضهم: أتصحّ زكاة البنت الغنية على والديها؟ فأجاب -رحمه الله-: لا؛ يجب عليها النفقة. ¬

_ (¬1) انظر "صحيح ابن خزيمة" (2465).

الزكاة على الزوجة

وسأله بعضهم: هل يجب على الوالد أن يُنفق على ولده الفقير المتزوّج؟ فقال: "نعم". وأجاب شيخنا -رحمه الله- أحد السائلين في موطن آخر: "نحن نرى جواز إِعطاء الفرع للأصل، والعكس إِذا كانوا لا يعيشون مع بعض، ولا يُنفق أحدهما على الآخر. فإِذا كان الوالد مع بقية أولاده يعيشون مستقلّين، وأحد الأبناء يعيش بمفرده وهو غنيّ؛ فله أن يقدّم زكاة ماله وزكاة فطره لأبيه وإخوانه. أمّا إِذا كان هو المسؤول عنهم في الإِنفاق؛ فهنا يُقال نفقة وزكاة لا يجتمعان، فلا يجوز أن تعطى الزكاة لمن يُنفَق عليه. أمّا إِذا كان الأب وأولاده يعيشون بمفردهم مستورين -كما يقال- فيجوز لهذا الولد الغني أن يعطي زكاة ماله لأبيه وإخوته الفقراء". الزكاة على الزوجة لا يجوز دفع الزكاة إِلى الزوجة؛ لأنّ نفقتها تجب على زوجها. ونقَل ابن قدامة -رحمه الله- في "المغني" (2/ 513) الإِجماع على ذلك قائلاً: "وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنَّ الرجل لا يُعطي زوجته من الزكاة؛ وذلك لأنَّ نفقتها واجبة عليه، فتستغني بها عن أخْذ الزكاة، فلم يَجُز دفعها إِليها". إلاَّ إِذا كانت غارمة فتُعطى من سهم الغارمين. وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل يجوز للرجل أن يدفع لزوجته الزكاة إِذا

هل تدفع الزوجة الزكاة لزوجها؟

كانت مدينة من باب الغارمين؟. فقال: "إِذا لم يكن للنفس حظٌّ في الموضوع، فهي أَوْلى". وقال مرّة أخرى: "ليس الغارم كلّ مديون، وإنّما هو الذي استدان لِحلّ مشكلةٍ للآخرين، فهذا يعطى من مالِ الزكاة. أمّا إِذا استدان شخص لمصلحته الخاصة؛ فإِنه لا يُعطى كونه غارماً، بل يُنظر أفقير هو أم لا". هل تَدْفَع الزوجة الزكاة لزوجها؟ يجوز للزوجة أن تدفع زكاتها إِلى زوجها، وهو مذهب الشافعي وابن المنذر وطائفة من أهل العلم. فعن أبي سعيد -رضي الله عنه-: "خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أَضْحىً أو فِطر إِلى المصلّى، ثمّ انصرف، فوعظ الناس وأمَرهم بالصدقة، فقال: أيها الناس: تصدقوا. فمرّ على النساء فقال: يا معشر النساء تصدّقن فإِنِّي رأيتكنَّ أكثر أهل النار، فقُلن: وبمَ ذلك يا رسول الله؟ قال: تُكْثِرْن اللَّعن وتكفُرن العَشير (¬1) ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للُبّ الرجل الحازم من إِحداكنّ يا معشر النساء. ثمّ انصرف فلما صار إِلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن ¬

_ (¬1) أي: الزوج، والعشير: المُعاشر، لأنها تعاشره ويعاشرها، من العِشرة: الصحبة. "النهاية".

هل يدفع الزكاة إلى الأقارب المحتاجين إذا كان الأجنبي أشد حاجة!

عليه، فقيل: يا رسول الله هذه زينب فقال: أيُّ الزّيانب؟ فقيل: امرأة ابن مسعود قال: نعم؛ ائذنوا لها فأُذِن لها. قالت: يا نبيّ الله! إِنك أمرتَ اليوم بالصدقة، وكان عندي حُلِيٌّ لي فأردت أن أتصدَّق به فزعم ابن مسعود أنه وولده أحقّ مَن تصدَّقْتُ به عليهم. فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَدق ابن مسعود زوجك وولدك أحقُّ من تصدّقت به عليهم" (¬1). ولأنه تجب نفقته، فلا يمنع دفْع الزكاة إِليه، وليس في المنع نصٌّ ولا إِجماع (¬2). قال ابن خزيمة في "صحيحه" (4/ 106): " (426) باب استحباب إِتيان المرأة زوجها وولدها؛ بصدقة التطوع على غيرهم من الأباعد، إِذ هم أحقّ بأن يُتصدَّق عليهم من الأباعد". وذكر حديث: "صدق ابن مسعود ... "، وغيره. هل يدْفع الزكاة إِلى الأقارب المحتاجين إِذا كان الأجنبي أشدّ حاجة! جاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 89): "وسئل -قدس الله روحه- عن دفع الزكاة إِلى أقاربه المحتاجين؛ الذين لا تلزمه نفقتهم؟ هل هو الأفضل أو دفْعها إِلى الأجنبي؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري 1462، وفي رواية: لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة، وتقدّمت. (¬2) عن "المغني" (2/ 513) بحذف.

4 - صرفها في وجوه القرب:

فأجاب: أمّا دفْع الزكاة إِلى أقاربه: فإِنْ كان القريب الذي يجوز دفْعها إِليه؛ حاجته مِثل حاجة الأجنبي إِليها، فالقريب أوْلى. وإن كان البعيد أحْوَج، لم يُحاب بها القريب. قال أحمد: عن سفيان ابن عيينة كانوا يقولون: لا يُحابي بها قريباً، ولا يَدفَع بها مذمّة، ولا يقي بها ماله". وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 93): "وسئل عن الصدقة على المحتاجين من الأهل، وغيرهم؟ فأجاب: إِنْ كان مال الإنسان لا يتسع للأقارب والأباعد، فإِن نفقة القريب واجبة عليه، فلا يُعطي البعيد ما يضر بالقريب. وأمّا الزكاة والكفَّارة؛ فيجوز أن يعطي منها القريب الذي لا ينفق عليه، والقريب أولى إِذا استوت الحاجة". 4 - صرفها في وجوه القُرَب: لا يجوز صرف الزكاة في غير الأصناف التي ذُكرت في الآية الكريمة: {إنّما الصدقات للفقراء ... } إِذ ليس لنا التوسُّع؛ لأنّ الآية الكريمة حصرت هذه المصارف فكيف نوسّعها. جاء في "مختار الصحاح": "وإنْ زدْت على (إِنّ) (ما) صارت للتعيين، كقوله تعالى: {إِنّما الصدقات للفقراء ... } الآية، لأنه يوجب إِثبات الحُكم للمذكور، ونفْيه عمّا عداه". وبهذا؛ فلا كبير فائدة -كما تقدّم- من حصر الزكاة في المصارف

هل تعطى الزكاة لغير أهل الصلاح؟

الثّمانية في الآية الكريمة إِذا توسّعنا. جاء في "المغني" (21/ 527): "ولا يجوز صرف الزكاة إِلى غير مَن ذَكَر الله -تعالى- مِن بناء المساجد والقناطر والسقايات وإصلاح الطرقات، وسد البثوق (¬1)، وتكفين الموتى، والتوسعة على الأضياف، وأشباه ذلك من القُرب التي لم يذكرها الله -تعالى-. وقال أنس والحسن: ما أعطيت في الجسور والطرق فهي صدقة ماضية، والأول أصحّ لقوله سبحانه وتعالى: {إِنّما الصدقات للفقراء والمساكين ... } و"إنّما" للحصر والإِثبات تُثبتُ المذكور وتنفي ما عداه". وتقدّم ما ذكره شيخنا عن أبي عبيد في "الأموال" -رحمهما الله تعالى-: "فأمّا قضاء الدين عن الميت، والعطيّة في كفنه، وبُنيان المساجد، واحتفار الأنهار، وما أشبه ذلك من أنواع البِرّ؛ فإِنّ سفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء؛ مُجمِعون على أن ذلك لا يجزي من الزكاة؛ لأنه ليس من الأصناف الثّمانية". هل تعطى الزكاة لغير أهل الصّلاح؟ قال في "الاختيارات الفقهية" (ص103): "ولا ينبغي أن يُعطيَ الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله؛ فإِنَّ الله تعالى فرَضها معونةً على طاعته لمن يحتاج إِليها من المؤمنين؛ كالفقراء والغارمين، أو لِمَن يُعَاوِن المؤمنين، فمن لا يُصلّي من أهل الحاجات؛ لا يُعطى شيئاً حتى يتوب، ويلتزم أداء ¬

_ (¬1) مفردها بَثق: موضع انبثاق الماء من نهر ونحوه. وانظر "الوسيط".

الصدقة على ذي الرحم الكاشح

الصلاة في أوقاتها". وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل تعطى الزكاة لغير الصالح إِذا لم يستعن بها على المعصية؟ فقال: " ... عند فقدان الصالح". وقال -رحمه الله-: ... "أمّا المسلم الفاسق؛ فيجوز إِعطاؤه الزكاة إِذا كان فيه تأليفٌ لقلبه، وإِلاَّ فلا". انتهى. والذي يبدو لي أنّ التصدّق على كل من حُكم بإِسلامه يُجزئ؛ إِذا لم يستعِن بها على المعصية، مع وجوب تقديم الصالح، والله -تعالى- أعلم. الصدقة على ذي الرحم الكاشح عن أمّ كلثوم -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الصّدقة على ذي الرحم الكاشح (¬1) ". الصدقة على الجار عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه" (¬2). هل يشرع الاتجار بأموال اليتامى؟ فيه أحاديث لا تثبُت؛ منها: "اتجروا في مال اليتامى لا تأكلها الزكاة". ¬

_ (¬1) الكاشح: هو العدوّ الذي يُضمر عداوته ويطوي عليها كَشْحه -أي باطنه- والكَشْح: الخصر، أو الذي يطوي عنك كَشْحه ولا يألفك. "النهاية". (¬2) أخرجه البخاري: 6015، ومسلم: 2625.

إسقاط الدين عن الزكاة

وقد بيّن ضعفها وعِلَلَها شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (788). وسألت شيخنا -رحمه الله- عن الاتجار بأموال اليتامى. فقال -رحمه الله-: إِذا غلب على ظنه الربح جاز. وفي بعض الإِجابات عنها وعن مِثلها مِن بعض مصارف قال -رحمه الله-: إِذا تكفّلوا بإِعادة المال عند الخسارة جاز ذلك. إِسقاط الدَّين عن الزكاة قال النووي في "المجموع": "لو كان على رجل معسر دين، فأراد أن يجعله عن زكاته وقال له: جعلْته عن زكاتي فوجهان: أصحهما، لا يجزئه، وهو مذهب أحمد، وأبي حنيفة، لأنّ الزكاة في ذمّته، فلا يبرأ إِلا بإِقباضها. والثاني: يجزئه؛ وهو مذهب الحسن البصري، وعطاء؛ لأنه لو دفَعه إِليه، ثمّ أخذه منه جاز، فكذا إِذا لم يقبضه. كما لو كانت له دراهم وديعة، ودفَعها عن الزكاة، فإنه يجزئه؛ سواء قبَضها أم لا" (¬1). قلت: ولا يمكن تشبيه دراهم الوديعة بهذا المال، لأنّ الأصل في مال الوديعة أنه مقبوض، لكن هذا قد يقبض وقد لا يقبض. والذي يبدو أنّه إذا ترجّح قبض هذا الدين جاز، وإلا فلا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر "فقه السُّنّة" (1/ 407).

وجاء في "المغني" (2/ 516): "قال مهنا: سألت أبا عبد الله عن رجل له على رجل دين بِرَهْن، وليس عنده قضاؤه، ولهذا الرجل زكاة مال يريد أن يُفرِّقها على المساكين؛ فيدفع إِليه رهنه ويقول له: الدين الذي لي عليك هو لك، ويحسبه من زكاة ماله. قال: لا يجزيه ذلك، فقلت له: فيدفع إِليه من زكاته فإِنْ ردّه إِليه قضاءً مِن ماله أَخَذَه؟ فقال: نعم. وقال في موضع آخر وقيل له: فإِنْ أعطاه ثمّ ردَّه إِليه؟ قال: إِذا كان بحِيلَة فلا يُعْجبني. قيل له: فإِن استقرض الذي عليه الدين دراهم، فقضاه إِياها ثمّ ردّها عليه، وحسَبها من الزكاة؟ فقال: إِذا أراد بها إِحياء ماله فلا يجوز، فحصَل من كلامه أنّ دفْع الزكاة إِلى الغريم جائز؛ سواء دفَعها ابتداءً أو استوفى حقّه ثمّ دفع ما استوفاه إِليه. إِلا أنه متى قصد بالدفع إِحياء ماله أو استيفاء دينه لم يجُز؛ لأنّ الزكاة لحقّ الله -تعالى- فلا يجوز صرْفها إِلى نفْعه، ولا يجوز أن يحتسب الدين الذي له من الزكاة قبل قبْضه؛ لأنه مأمور بأدائها وإيتائها، وهذا إِسقاط. والله أعلم". وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 89): "وإنْ كان له دين على حيٍّ أو ميت؛ لم يحتسب به من الزكاة ولا يحتال في ذلك". وسألت شيخنا -رحمه الله- عن رجل له دين عند آخر وهو مُعسر، فهل يجزئه لو قال له: هو زكاة مالي؟

نقل الزكاة

فأجاب -رحمه الله-: يجزئ إِذا أعلمه بذلك وقَبل المدين، ولم يكن ديناً ميّتاً (¬1). نقْل الزكاة لا شكَّ أنّ الأصل والأفضل إِخراج الزكاة في نفص البلد؛ لقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ -رضي الله عنه- كما تقدّم-: " ... أخبِرهم أن عليهم صدقة؛ تؤخَذ من أغنيائهم وتُردّ في فقرائهم". وهذا يختصّ بفقراء بلدهم، وهذا آكد في تنظيم أمور الفقراء وسدّ حاجاتهم. قال الإِمام البخاري -رحمه الله- "باب أخْذ الصدقة من الأغنياء، وتردّ في الفقراء حيث كانوا" (¬2). قال ابن المنيّر: "اختار البخاري جواز نقل الزكاة من بلد المال؛ لعموم قوله: "فترَدّ على فقرائهم" لأن الضمير يعود على المسلمين، فأيّ فقير منهم رُدَّت فيه الصدقة في أي جهة كان، فقد وافق عموم الحديث" (¬3). وقال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (4/ 58): "باب الأمر بقسم الصّدقة في أهل البلدة، التي تؤخذ منهم الصدقة"، ثمّ ذكر الحديث: " ... فأَعلِمهم أنّ الله افترض عليهم صدقة في أموالهم؛ تؤخذ من أغنيائهم، ¬

_ (¬1) أي: لم يكن يائساً من قبضه. (¬2) انظر "صحيح البخاري" "كتاب الزكاة" (63 - باب). (¬3) انظر "الفتح" (3/ 357).

فتردُّ في فقرائهم". قال في "المغني" (2/ 531): "فإِن خالف ونقَلها أجزأته في قول أكثر أهل العلم، وإن استغنى عنها فقراء أهل بلدها، فإِنه يجوز نقْلها عند المانعين". وجاء في "الاختيارات الفقهية" (ص 99) -بحذف-: "وإذا نقل الزكاة إِلى المستحقين بالمصر الجامع، مثل أن يعطي مَن بالقاهرة من العشور التي بأرض مصر، فالصحيح جواز ذلك. فإِنّ سكّان المصر؛ إِنما يعانون من مزارعهم، بخلاف النقل من إِقليم، مع حاجة أهل المنقول عنه. وإنما قال السلف: جيران المال أحق بزكاته، وكرهوا نقل الزكاة إِلى بلد السلطان وغيره؛ ليكتفي أهل كلّ ناحية بما عندهم من الزكاة، ويجوز نقل الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية". وفيه (ص 104): "ويجب صرْف الزكاة إِلى الأصناف الثّمانية، إنْ كانوا موجودين، وإِلا صُرفت إِلى الموجود منهم، ونقْلها إِلى حيث يوجدون". وعن إِبراهيم بن عطاء -مولى عمران بن حصين- عن أبيه: أن زياداً -أو بعض الأمراء- بَعث عمران بن حصين على الصدقة. فلمّا رجع قال لعمران: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني؟ أخذناها من حيث كنّا نأخذها؛ على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووضعناها حيث كنا نضعها، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1431)، وابن ماجه "صحيح سنن =

إذا استدان مالا هل يخرج زكاته؟

قال الإِمام مالك -رحمه الله-: "لا بأس بنقلها للحاجة، وإذا لم يكن أهل البلد مستحقين؛ فتنقَل -بلا خلاف- وعند الإِمام الشافعي وأحمد لا تُنقَل، ولا شكّ أنّ الأفضل إِخراجها في نفس البلد؛ إِلا إِذا لم يجد مستحقّيها؛ مع جواز نقْلها ولو وجد مستحقّوها". وجاء في "مجموع الفتاوى" كذلك (25/ 85): "وسئل -رحمه الله- عمن له زكاة، وله أقارب في بلد تقصر إِليه الصلاة، وهم مستحقّون الصدقة؛ فهل يجوز أن يدفعها إِليهم؟ أم لا؟ فأجاب: الحمد لله. إِذا كانوا محتاجين مستحقين للزكاة، ولم تحصل لهم كفايتهم من جهة غيره، فإنه يعطيهم من الزكاة، ولو كانوا في بلد بعيد، والله أعلم". وسئل شيخنا -رحمه الله- عن دليل الجواز فقال: "الدليل عدم ورود الدليل المانع من النقل" والله أعلم. إِذا استدان مالاً هل يُخرج زكاته؟ إِذا استدان رجل مالاً بلغ النصاب وحال عليه الحول؛ فالظاهر وجوب إِخراج الزكاة عنه، أمّا إِذا لم يَحُل عليه الحول؛ فلا زكاة عليه. وسئل شيخنا -رحمه الله- عن شخص استدان مبلغاً وحال عليه الحول؛ فهل يخرج زكاته؟ وهل يجب كذلك على صاحب المال؛ فيكون قد زُكّي مرتين! ¬

_ = ابن ماجه" (1467)، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "تخريج أحاديث مشكلة الفقر" (ص 90).

هل يجزئ الرجل عن زكاته ما يغرمه ولاة الأمور في الطرقات وما في معناه؟

فأجاب: "هو كذلك، فإِنّ الواجب على المدين أن يقضي حاجته بهذا المال، فإِذا لم يستعمل المال لسبب أو آخر وبقي مكنوزاً عنده حولاً كاملاً؛ فإِنه يجب عليه وعلى صاحب المال إِخراج الزكاة. أمّا الدائن، فالأمر واضح وجليّ، وأما المدين؛ فلأنه كنزَ هذا المال حولاً كاملاً، ومِن حِكمة الله سبحانه في ذلك، ألا يتورّط المدين بكنز المال". هل يجزئ الرجل عن زكاته ما يُغرمه ولاة الأمور في الطرقات وما في معناه؟ أجاب شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 93) فقال: "ما يأخذه ولاة الأمور بغير اسم الزكاة؛ لا يعْتد له من الزكاة والله -تعالى- أعلم". من أعطى الزكاة لمن ظنّ أنّه مستحقّ فظهر أنه غير مستحقّ (¬1) قال في "المغني" (2/ 528) -بحذف-: "وإذا أعطى من يظنه فقيراً فبان غنياً، فعن أحمد فيه روايتان: إِحداهما: يجزئه. اختارها أبو بكر، وهذا قول الحسن وأبي عبيد وأبي حنيفة. والرواية الثانية: لا يُجزئه؛ لأنه دفع الواجب إِلى غير مستحقّه، فلم يخرج من عُهدته؛ كما لو دفَعها إِلى كافر أو ذي قرابة -كديون الآدميين- وهذا قول الثوري والحسن بن صالح وأبي يوسف وابن المنذر، والشافعي؛ قولان ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "المغني" (2/ 528).

كالروايتين". فعن عُبيد الله بن عَديّ بن الخِيار، قال: أخبَرني رجلان أنهما أتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في حجة الوِداع، وهو يُقسِّم الصدقة، فسألاه منها، فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جِلْدين (¬1)، فقال؛ إِنْ شئتما أعطيتكما، ولا حظَّ فيها لغنيّ ولا لقويّ مكتسب" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قال رجل لأتصدقنَّ بصدقةٍ، فخرج بصدقة فوضعها في يد سارق. فأصبحوا يتحدثون تُصُدِّق على سارق، فقال: اللهمّ لك الحمد، لأتصدقنَّ بصدقة، فخرج بصدقة فوضعها في يَدَي زانيةٍ. فأصبحوا يتحدّثون: تُصدِّق الليلة على زانية، فقال: اللهمّ لك الحمد على زانية، لأتصدقنّ بصدقة، فخرج بصدقته فوضَعها في يَدَي غنيٍ. فأصبحوا يتحدَّثون: تُصدِّق على غني؛ فقال: اللهمّ لك الحمد على سارق وعلى زانية وعلى غنيّ. فأُتي فقيل له: أمّا صدقتك على سارقٍ؛ فلعلَّه أن يستعفَّ عن سرقته، وأمّا الزانية فلعلها أن تستعفّ عن زناها، وأمّا الغني فلعلّه يعتبر، فيُنفق ممّا أعطاه الله" (¬3). ¬

_ (¬1) بسكون اللام أو كسرها أي: قويين. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1438)، والنسائي، وقال شيخنا -رحمه الله- في "المشكاة" (1832): إِسناده قوي، وتقدّم. (¬3) أخرجه البخاري: 1421، ومسلم: 1022.

ما هو الأفضل: إظهار الصدقة أم إخفاؤها؟

وبوّب له البخاري بقوله: "إِذا تصدّق على غني وهو لا يعلم". قال الحافظ في "الفتح" (3/ 290): "أي: فصدقته مقبولة". وعن معن بن يزيد -رضي الله عنه- قال: "بايعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وأبي وجدّي، وخطب عليّ (¬1) فأنكَحني وخاصمتُ إِليه، وكان أبي يزيد، أخرج دنانير يتصدّق بها، فوضَعها عند رجل في المسجد. فجئت فأخذتُها فأتيتُه بها فقال: والله ما إِياك أردت، فخاصمتُه إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لك ما نويتَ يا يزيد، ولك ما أخذتَ يا معن" (¬2). وبوّب له البخاري بقوله: "إِذا تصدّق على ابنه وهو لا يشعر". وسألت شيخنا -رحمه الله-: إِذا أخطأ المزكّي فأعطاها لغير أهلها، هل يجزئه ذلك وتسقط منه، وهل حديث: "لك ما نويت يا يزيد ... "، وكذلك "تُصدّق الليلة على سارق ... "، يفيد ذلك؟ فأجاب -رحمه الله-: هكذا الظاهر، وفي مرّة أخرى قال: إِذا كان لا يعلم يسقط عنه. ما هو الأفضل: إِظهار الصدقة أم إِخفاؤها (¬3)؟ يجوز للمتصدّق أن يُظهر صدقته؛ سواء أكانت صدقة فرض أو نافلة؛ دون ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "الفتح" (3/ 292): "أي: طلب لي النكاح فأجيب، يُقال: خطب المرأة إِلى وليّها: إذا أرادها الخاطب لنفسه، وعلى فلان: إِذا أرادها لغيره". (¬2) أخرجه البخاري: 1422. (¬3) عن "فقه السنة" (1/ 411) بزيادة.

أن يرائي بصدقته، وإخفاؤها أفضل. قال الله تعالى: {إِنْ تبدوا الصدقات فنعمّا (¬1) هي وإِن تُخفوها وتُؤتوها الفقراء فهو خير لكم} (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله-: "فيه دلالة على أنّ إِسرار الصدقة أفضل من إِظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء؛ إِلا أنه يترتب على الإِظهار مصلحة راجحةٌ من اقتداء الناس، فيكون أفضل من هذه الحيثية. وقال الله تعالى: {الذين يُنفِقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية} (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "سبعة يُظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلَّ إِلا ظلُّه: إِمام عَدْل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه مُعلَّق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله؛ اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذاتَ منصب وجمال، فقال: إِني أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكَر الله خالياً ففاضت عيناه" (¬4). وعن أنس: "أُنزلت هذه الآية: {لن تنالوا البِرّ حتى تُنفقوا ممّا ¬

_ (¬1) نِعْم: فعل مُتَصرّف لإِنشاء المدح وأُلحقت به هنا "ما"، كما هو معروف عند أهل اللغة. قال ابن كثير -رحمه الله-: إِن أظهرتموها فنِعْم شيء هي. (¬2) البقرة: 271. (¬3) البقرة: 274. (¬4) أخرجه البخاري: 1423، ومسلم: 1031، وتقدّم.

الدعاء للمزكي

تُحبّون} (¬1)، قال: {من ذا الذي يُقرِض الله قرْضاً حسَناً} (¬2). قال أبو طلحة: يا رسول الله حائطي الذي في كذا وكذا، هو لله ولو استطعت أن أُسِرَّه لم أُعلِنه، فقال: "اجعله في فقراء أهلك أدنى أهل بيتك" (¬3). الدعاء للمزكي قال الله تعالى: {خُذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إِنّ صلاتك سكن (¬4) لهم} (¬5). قال ابن كثير في "تفسيره": {وصلِّ عليهم} أي: ادعْ لهم واستغفِر لهم. وعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا أتاه قومٌ بصدقتهم قال: اللهمّ صلِّ على آل فلان، فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهمّ صلِّ على آل أبي أوفى" (¬6). ¬

_ (¬1) آل عمران: 92. (¬2) البقرة: 245. (¬3) أخرجه أحمد، والترمذي وصححه، وأصله في "الصحيحين"، وانظر "صحيح ابن خزيمة" (2458). (¬4) قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: رحمةً لهم وقال قتادة: وقارٌ "تفسير ابن كثير"، وتقدّم. (¬5) التوبة: 103. (¬6) أخرجه البخاري: 1497، ومسلم: 1078.

التحذير من المن بالعطية

الصدقة باليمين (¬1) لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتقدّم: "سبعةٌ يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظلَّ إِلا ظلُّه: ... ". وفيه: "ورجل تصدّق بصدقةٍ فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". التحذير من المنّ بالعطيّة قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كالذي يُنفِق ماله رئاء الناس} (¬2). عن أبي ذرّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاثة لا يُكلّمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إِليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث مرار. قال أبو ذر: خابوا وخسِروا من هم يا رسول الله! قال: المسبل، والمنّان، والمنفق سلعته بالحَلفِ الكاذب" (¬3). فضل صدقة الشحيح الصحيح (¬4) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أيُّ الصدقة أعظم أجراً؟ ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "صحيح البخاري". (¬2) البقرة: 264. (¬3) أخرجه مسلم: 106. (¬4) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الزكاة) "11 - باب ... ".

النهي عن تحقير ما قل من الصدقات

قال: أن تصّدّق وأنت صحيح شحيح (¬1) تخشى الفقر وتأمل الغِنى، ولا تمهل حتى إِذا بلَغَت الحُلقوم (¬2) قلت لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان" (¬3). النهي عن تحقير ما قلّ من الصدقات عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اتقوا النار ولو بشِقّ تمرة" (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: يا نساء المسلمات (¬5) لا تحقرنّ جارةٌ لجارتها ولو فِرسِن (¬6) شاة" (¬7). ¬

_ (¬1) قال صاحب المنتهى: الشح بخل مع حرص. "فتح". (¬2) إِذا بلغت: أي: الروح، والمراد: قاربت بلوغه، إِذ لو بلغته حقيقة لم يصح شيء مِن تصرفاته. والحلقوم مجرى النفس قاله أبو عبيد". "فتح". (¬3) أخرجه البخاري: 1419، ومسلم: 1032. (¬4) أخرجه البخاري: 1417، ومسلم: 1016. (¬5) انظر شرحه -إِن شئت- في كتابي "شرح صحيح الأدب المفرد" (1/ 150) حديث (90/ 122 و91/ 123). (¬6) الفِرْسِن: عظم قليل اللحم، وهو خُفّ البعير، كالحافر للدابة، وقد يستعار للشاة، فيقال: فِرْسِن شاة، ونونه زائدة وقيل أصلية، والذي للشاة هو الظّلف، [والظلف: هو الظُّفر المشقوق]. "الوسيط". قال الحافظ: وأشير بذلك إِلى المبالغة في إِهداء الشيء اليسير وقبوله، لا إِلى حقيقة الفِرْسِن، لأنه لم تجْر العادة بإِهدائه، أي: لا تمنع جارة من الهدية لجارتها الموجود عندها لاستقلالها، بل ينبغي أن تجود لها بما تيسَّر؛ وإن كان قليلاً، فهو خير من العدم ... (¬7) أخرجه البخاري: 6017، ومسلم: 1030.

الزجر عن عيب المتصدق المقل بالقليل من الصدقة

قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (4/ 111): " (باب الأمر بإِعطاء السائل وإن قلّت العطية وصغُرت قيمتها، وكراهية ردّ السائل من غير إِعطاء إِذا لم يكن للمسؤول ما يجزل العطية). ثمّ ذكَر حديث أم بُجيد -وكانت ممّن بايع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنها قالت له: يا رسول الله! صلى الله عليك، إِنّ المسكين ليقوم على بابي؛ فما أجد له شيئاً أعطيه إِياه؟ فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِن لم تجدي له شيئاً تعطينه إِياه إِلا ظِلْفاً (¬1) مُحْرَقاً (¬2)، فادفعيه إِليه في يده" (¬3). الزجر عن عيب المتصدّق المُقلّ بالقليل من الصدقة (¬4) قال الإِمام البخاري -رحمه الله- (باب اتقوا النار ولو بشِقّ تمرة، والقليل من الصدقة) (¬5). عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: لمّا نزلت آية الصدقة؛ كنّا ¬

_ (¬1) ظِلفاً: بالكسر: بمنزلة القدم من الإنسان، يعني: شيئاً يسيراً. (¬2) من الإِحراق، أراد المبالغة في ردّ السائل بأدنى ما تيسّر ... "عون المعبود" (5/ 58). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1466)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2473). (¬4) انظر -إِن شئت- "صحيح ابن خزيمة" (1/ 102). (¬5) "صحيح البخاري" (كتاب الزكاة) "10 - باب اتقوا النار ... ".

الزجر عن رمي المتصدقين بالكثير من الصدقة بالرياء والسمعة

نحامِلُ (¬1)، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مُرائي. وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إِنّ الله لغني عن صاع هذا، فنزَلت: {الذين يلْمزون المطوّعين من المؤمنين في الصّدقات والذين لا يَجدون إِلا جُهدهم} (¬2) الآية" (¬3). الزجر عن رمي المتصدِّقين بالكثير من الصدقة بالرياء والسمعة (¬4) للحديث السابق. هل يشتري صدقته؟ لا يجوز للمرء أن يشتري صدقته؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنَّ عمر بن الخطاب تصدّق بفرَسٍ في سبيل الله، فوجده يباع، فأراد أن يشتريه، ثمّ أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستأمره فقال: لا تعُد في صدقتك. فبذلك كان ابن عمر -رضي الله عنهما- لا يترك أن يبتاع شيئاً تصدّق به إلاَّ جعله صدقة" (¬5). ويجوز له أن يشتري صدقة غيره؛ لحديث أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تحلّ الصدقة لغنيّ إِلا لخمسة: ... أو رجل اشتراها ¬

_ (¬1) أي: نحمل الحمل بالأجرة. قاله الكرماني. (¬2) التوبة: 79. (¬3) أخرجه البخاري: 1415. (¬4) انظر -إِن شئت- "صحيح ابن خزيمة" (1/ 102). (¬5) أخرجه البخاري: 1489، ومسلم: 1621.

إذا تحولت الصدقة

بماله" (¬1). قال الإِمام البخاري -رحمه الله-: "ولا بأس أن يشتري صدقة غيره لأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنما نهى المتصدِّق خاصةً عن الشراء ولم ينه غيره". وانظر ما قاله شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 384). إِذا تحوّلت الصدقة (¬2) يجوز الأكل من الصدّقة إِذا أُهديت من فقير أو قُدّمت في ضيافة ونحوها. عن أنس -رضي الله عنه- "أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتي بلحمٍ تُصدّق به على بريرة فقال: هو عليها صدقة، وهو لنا هديّة" (¬3). التصدّق بغير المال عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "على كلّ مسلم صدقة، فقالوا: يا نبي الله فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدّق، قالوا: فإِن لم يجد؟ قال: يُعين ذا الحاجة الملهوف (¬4)، قالوا: فإِن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف، وليُمسِك عن الشرّ، فإِنها له صدقة" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (870)، وتقدّم. (¬2) هذا العنوان من "صحيح البخاري" -رحمه الله- (كتاب الزكاة) "62 - باب ... ". (¬3) أخرجه البخاري: 1495. (¬4) الملهوف: أي: المستغيث وهو أعمّ من أن يكون مظلوماً أو عاجزاً. (¬5) أخرجه البخاري: 1445، ومسلم: 1008.

وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "على كلِّ نفس في كلِّ يوم طلعت فيه الشمس صدقة منه على نفسه. قلت: يا رسول الله! من أين أتصدق وليس لنا أموال؟ قال: لأنّ من أبواب الصدقة التكبير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إِله إلاَّ الله، وأستغفر الله، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعزل الشوكة عن طريق الناس، والعظمةَ والحجَرَ، وتهدي الأعمى، وتُسمع الأصمّ والأبكم حتى يفقه، وتدُلُّ المستدلّ على حاجة له قد علِمتَ مكانها، وتسعى بشدة ساقيك إِلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف. كلّ ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك، ولك في جماعك زوجتك أجر. قال أبو ذر: كيف يكون لي أجر في شهوتي؟ فقال: أرأيت لو كان لك ولد؛ فأدرك ورجوت خيره فمات؛ أكنت تحتسبه؟ قلت: نعم. قال: فأنت خلقته؟ قال: بل الله خلَقه. قال: فأنت هديتَه؟ قال: بل الله هداه. قال: فأنت ترزقه؟ قال: بل الله كان يرزقه. قال: كذلك فضعه في حلاله، وجنّبه حرامه، فإِنْ شاء الله أحياه، وإِنْ شاء أماته، ولك أجر" (¬1). والنّصوص في هذه المعاني كثيرة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "الصحيحة" (575).

التصدق بالماء

التصدّق بالماء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "ليس صدقة أعظم أجراً من ماء" (¬1). وعن أنس -رضي الله عنه-: "أنّ سعداً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إِنَّ أمّي توفِّيت ولم توصِ، أفينفعها أن أتصدّق عنها؟ قال: نعم، وعليك بالماء" (¬2). وعن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- قال: "قلت: يا رسول الله! إِنَّ أمّي ماتت، فأيّ الصدقة أفضل؟ قال: الماء. فحفَر بئراً وقال: هذه لأمّ سعد" (¬3). وعن علي بن الحسن بن شقيق قال: "سمعتُ ابن المبارك -وسأله رجل: يا أبا عبد الرحمن! قرحة خرجَت من ركبتي منذ سبع سنين، وقد عالجت بأنواع العلاج، وسألت الأطباء، فلم أنتفع به؟ - قال: اذهب فانظر موضعاً يحتاج الناس للماء؛ فاحفر هناك بئراً؛ فإِنني أرجو أن ينبع هناك عين، ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (945). (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" ورواته محتجٌّ بهم في الصحيح، وصححه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (946). (¬3) أخرجه أبو داود واللفظ له وابن ماجه وغيرهما، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (947).

ما جاء في المنيحة

ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل، فبرئ". رواه البيهقي. وقال: وفي هذا المعنى حكاية شيخنا الحاكم أبي عبد الله -رحمه الله-: "فإِنه قرح وجهه، وعالجه بأنواع المعالجة، فلم يذهب، وبقي فيه قريباً من سنة، فسأل الأستاذ الإِمام أبا عثمان الصابوني أن يدعو له في مجلسه يوم الجمعة، فدعا له، وأكثر الناس التأمين. فلمّا كان من الجمعة الأخرى؛ ألقت امرأة في المجلس رقعة بأنها عادت إِلى بيتها، واجتهدت في الدعاء للحاكم أبي عبد الله تلك الليلة، فرأت في منامها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كأنه يقول لها: قولي لأبي عبد الله يوسع الماء على المسلمين. فجئت بالرقعة إِلى الحاكم، فأمر بسقايةٍ بنيت على باب داره، وحين فرغوا من بنائها، أمر بصب الماء فيها، وطرح الجمد في الماء، وأخذ الناس في الشرب، فما مرّ عليه أسبوع حتى ظهر الشفاء، وزالت تلك القروح وعاد وجهه إِلى أحسن ما كان، وعاش بعد ذلك سنين" (¬1). ما جاء في المنيحة (¬2) عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أربعون خصلة -أعلاهنّ منيحة العنز- ما من عامل يعمل بخَصلة منها؛ ¬

_ (¬1) انظر "صحيح الترغيب والترهيب" (950). (¬2) جاء في "النهاية": "ومِنحة اللبن: أن يعطيه ناقة أو شاة، ينتفع بلبنها ويعيدها، وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوبرها وصوفها زماناً ثمّ يردّها".

التصدق بالفرس

رجاء ثوابها وتصديق موعودها؛ إلاَّ أدخَله الله بها الجنة" (¬1). التصدُّق بالفرس لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- المتقدّم: "أنّ عمر بن الخطاب تصدّق بفَرسٍ في سبيل الله ... ". التصدّق بالزّرع عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً؛ فيأكل منه طير أو إِنسان أو بهيمة، إِلا كان له به صدقة" (¬2). اشتراط المتصدّق حبْس أصول الصدقة، والمنْع مِن بيع رقابها وهبتها وتوريثها (¬3) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنَّ عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بخيبر، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستأمره فيها فقال: يا رسول الله، إِني أصبت أرضاً بخيبر؛ لم أُصِب مالاً قطُّ أنفس عندي منه؛ فما تأمر به؟ قال: إِن شئت حبسْتَ أصلها وتصدقت بها. قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهَب ولا يورَث، وتصدّق بها في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2631. (¬2) أخرجه البخاري: 2320، ومسلم: 1552. (¬3) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 117) بتصرُّف.

لا يقبل الله صدقة من غلول

الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضَّيف، ولا جناح على من وَلِيها أن يأكل منها بالمعروف، ويُطعِم غير متموّل. قال: فحدّثت به ابن سيرين فقال: غير متأثّل (¬1) مالاً" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن رجلاً قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنّ أبي مات، وترَك مالاً، ولم يوصِ، فهل يُكفِّرُ عنه أن أتصدّق عنه؟ قال: نعم" (¬3). لا يقبل الله صدقة من غُلول (¬4) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تقبل صلاة بغير طُهور، ولا صدقةٌ من غُلول" (¬5). استسلاف الإِمام المال لأهل الصدقات وردُّه ذلك من الصدقة بعد الاستسلاف (¬6) عن أبي رافع "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسلف من رجل بَكْراً (¬7)، فقَدِمَت عليه ¬

_ (¬1) أي: غير جامع. يُقال: مالٌ مؤثَّل، ومجْدٌ مؤثَّل، أي: مجموعٌ ذو أصل، وأثْلةُ الشيء: أصْله. "النهاية". (¬2) أخرجه البخاري: 2737. (¬3) أخرجه مسلم: 1630. (¬4) الغُلول: هو الخيانة في المغنم، والسَّرقة من الغنيمة قبل القسمة، يُقال: غلَّ في المغنم يغلُ غلولاً فهو غالٌّ، وكلُّ من خان في شيء خُفية فقد غلّ. "النهاية". (¬5) أخرجه مسلم: 224، وتقدّم. (¬6) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 50) بتصرف. (¬7) البَكْر: من الإِبل هو الصغير؛ كالغلام من الآدميين.

الرخصة في إعطاء الإمام من الصدقة من يذكر حاجة وفاقة؛ لا يعلم الإمام منه خلافه من غير مسألة عن حاله؛ أهو فقير محتاج أم لا؟

إِبل من إِبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكْرة. فرجع إِليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلاَّ خِياراً (¬1) رَباعياً (¬2)، فقال: أعطه إياه، إِنَّ خِيار الناس أحسنهم قضاء" (¬3). الرخصة في إِعطاء الإِمام من الصدقة من يذكر حاجة وفاقة؛ لا يعلم الإِمام منه خلافه من غير مسألة عن حاله؛ أهو فقير محتاج أم لا (¬4)؟ قال ابن خزيمة -رحمه الله-: "خبر سلمة بن صخر (¬5) في ذِكْره للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم يأتوا (¬6) وحشاً ليس لهم عشاء، وبعثة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِياه إِلى صاحب صدقة بني زريق ليقبض صدقتهم، وليس في الخبر أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل غيره، وفي الخبر أيضاً دلالة على إِباحة دفع صدقة قبيلة إِلى واحد؛ لا أنه يجب على الإِمام تفرقة صدقة كلّ امرئ" (¬7). وصدقة كلّ يومٍ على جميع الأصناف الموجودة من أهل سهمان الصدقة، إِذ ¬

_ (¬1) أي: مختاراً. "مجمع بحار الأنوار". (¬2) يقال للذكر من الإِبل إِذا طلعت رَباعيته رَباع، والأنثى رَباعِيَة: -بالتخفيف- وذلك إذا دخلا في السنة السابعة. "النهاية". (¬3) أخرجه مسلم: 1600. (¬4) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 78). (¬5) سيأتي الحديث -إِن شاء الله تعالى- في الباب الآتي. (¬6) كذا الأًصل، ولعل الصواب باتوا وسيأتي -إِن شاء الله تعالى- بلفظ: "لقد بتنا ليلتنا هذه وحشاء ما لنا عشاء". (¬7) انظر "صحيح ابن خزيمة" (4/ 79).

الرخصة في إعطاء الإمام المظاهر من الصدقة ما يكفر به عن ظهاره إذا لم يكن واجدا للكفارة.

النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمَر سلمة بن صخر بقبض صدقات بني زريف من مصدّقهم". الرخصة في إِعطاء الإِمام المظاهر (¬1) من الصدقة ما يُكفّر به عن ظهاره إِذا لم يكن واجداً للكفارة (¬2). عن سلمة بن صخر قال: "كنت امرأً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلمّا دخَل رمضان؛ تظاهَرْتُ من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فَرَقاً (¬3) من أن أصيب في ليلتي شيئاً، فأتتابع في ذلك حتى يدركني النهار، وأنا لا أقدر على أن أنزع. فبينا هي تخدمني إِذ تكشّف لي منها شيء، فوثبْت عليها، فلمّا أصبحت غدوت على قومي، فأخبرتُهم خبري وقلت لهم: انطلقوا معي إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأُخبره بأمري، فقالوا: لا والله لا نفعل نتخوّف أن ينزل فينا قرآن، أو يقول فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقالةً يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك. قال: فخرجْتُ فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته خبري، فقال لي: أنت بذاك؟ فقلت: أنا بذاك، فقال: أنت بذاك؟ فقلت: أنا بذاك، فقال: أنت بذاك؟ قلت: نعم؛ ها أنا ذا؛ فأَمضِ فيّ حُكم الله -عزّ وجلّ- فإِني صابر له، قال: أعتِق رقبة، قال: فضربتُ صفحة رقبتي بيدي، وقلت: لا والذي بعثَك بالحقّ، ما أصبحت أملك غيرها. ¬

_ (¬1) أي: من يظاهر الزوجة، والظهار مشتقٌّ من الظهر، وهو قول الرجل لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أمّي وسيأتي تفصيله -إِن شاء الله- في موضعه. (¬2) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 73). (¬3) الفرق: شدّة الخوف.

إعطاء الإمام دية من لا يعرف قاتله من الصدقة

قال: فصم شهرين، قال: قلت: يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إِلا في الصيام؟ قال: فتصدَّق، قال: فقلت: والذي بعثَك بالحقّ؛ لقد بِتنا ليلتنا هذه وحشاء ما لنا عشاء. قال: اذهب إِلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له فليدفعها إِليك، فأطعِم عنك منها وَسْقاً (¬1) من تمر ستين مسكيناً، ثمّ استعن بسائره عليك وعلى عيالك. قال: فرجعْت إِلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السعة والبركة، قد أمر لي بصدقتكم فادفعوها لي، فدفعوها إِلي" (¬2). إعطاء الإِمام دِيَة من لا يُعرف قاتِلُه من الصدقة (¬3) عن سهل بن أبي حَثْمة "أنَّ نفراً من قومه انطلقوا إِلى خيبر؛ فتفرّقوا فيها، ووجدوا أحدهم قتيلاً، وقالوا للذي وُجِد فيهم: قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا ولا عَلِمنا قاتلاً. فانطلقوا إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول الله انطلقْنا إِلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلاً، فقال: الكُبْرَ الكُبْر (¬4) فقال لهم: تأتون بالبيِّنة على مَن قتَله، قالوا: ما لنا ¬

_ (¬1) تقدّم أنّ الأصل في الوَسْق هو الحِمل، وأنّه ستّون صاعاً. (¬2) أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2091). (¬3) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 77). (¬4) الكُبْر: بضم الكاف مصدر أو جمع الأكبر أو مفرد بمعنى الأكبر يقال هو =

صدقة الفطر

بينة، قالوا: فيحلفون قالوا: لا نرضى بأيْمان اليهود، فكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُبطِل (¬1) دمه فوداه (¬2) مائة من إِبل الصدقة" (¬3). صدقة الفطر (¬4) صدقة الفطر: هي الزكاة التي تجب بالفطر من رمضان. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "فَرَض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير؛ على العبد (¬5) والحرِّ والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين. ¬

_ = كُبرهم أي: أكبرهم، وفي بعضها الكبَر -بكسر الكاف وفتح الموحدة- أي كبر السن أي: قدم وا أكبركم سناً في الكلام، وقصَّته أن أخا المقتول عبد الرحمن هو أحدثهم، وهو كان يتكلم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يتكلم أكبركم، فتكلم ابنا عمه محيصة وحويصة مصغران بالمهملات وسكون التحتانية فيهما وقيل: بحركتها والتشديد. فإِن قلت: كان الكلام حقّه لأنه كان هو الوارث؛ لا هما، قلت: أُمِر أن يتكلم الأكبر ليفهم صورة القضية، ثمّ بعد ذلك يتكلم المُدّعى أو معناه؛ ليكن الكبير وكيلا له الكرماني (24/ 25). (¬1) أي: يهدر. (¬2) أي: أعطى دِيَته. (¬3) أخرجه البخاري: 6898 (¬4) قال الحافظ (3/ 367): "أُضيفت الصدقة للفطر، لكونها تجب بالفطر من رمضان". (¬5) انظر العنوان الآتي.

صدقة الفطر عن المملوك واجب على مالكه

وأَمَر بها أن تؤدّى قبل خروج الناس إِلى الصلاة" (¬1). صدقة الفطر عن المملوك واجب على مالكه عن أبي هريرة -رضى الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده صدقة؛ إِلا صدقة الفطر". قال ابن خزيمة في "صحيحه" (4/ 82): "باب الدليل على أنّ صدقة الفطر عن المملوك واجب على مالكه، لا على المملوك؛ كما توهّم بعض الناس". وذكر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وهذا يفسّر الحديث السابق: "فرَض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحُرِّ ... ". حكمتها: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر طُهْرةً (¬2) للصائم، من اللغو (¬3) والرَّفَث (¬4)، وطُعْمةً للمساكين (¬5)، مَن أدّاها قبل الصلاة؛ فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة؛ فهي صدقة من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1503، ومسلم: 984. (¬2) أي: تطهيراً لنفس الصائم. (¬3) ما لا ينعقد عليه القلب من القول. "عون" (5/ 3). (¬4) الرَّفَث هنا الفُحْش من الكلام. "النهاية". (¬5) طُعمةً للمساكين: هو الطعام الذي يؤكل، جاء في "العون": "فيه دليل أنّ الفطرة؛ تُصرف في المساكين دون غيرهم مِن مصارف الزكاة".

على من تجب؟

الصدقات" (¬1). على من تجب؟ تجب على المسلم الحُرّ المالك لمقدار نصف صاعٍ من بُرٍّ أو صاع من التمر ونحوه؛ يزيد عن قوته وقوت عياله يوماً وليلة، وتجب عليه عن نفسه، وعمّن يجب الإِنفاق عليهم؛ كالزوجة والأبناء والخدم والمسلمين. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممّن تمونون (¬2) " (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس في العبد صدقة إِلا صدقةُ (¬4) الفطر" (¬5). جاء في "الروضة الندية" (1/ 519) -بتصرف-: "إِذا ملكَ زيادة على قوت يومه؛ أخرج الفطرة إِن بلغَ الزائد قدْرها، ويؤيّده تحريم السؤال على مَن ملك ما يغديه ويعشّيه ... " اهـ. وقد ورد في هذا عدد من النصوص منها: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1420)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1480)، وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (843). (¬2) مانه موناً: احتمل مؤنته [أي: القوت]، وقام بكفايته، فهو مَمون. "الوسيط". (¬3) أخرجه الدارقطني ومِن طريقه البيهقي وحسنّه شيخنا في "الإرواء" (835). (¬4) بالضمّ والفتح. (¬5) أخرجه مسلم: 982، وهو عند الشيخين بلفظ: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة"، وتقدّم.

قدرها:

"من سأل وعنده ما يُغنيه، فإِنّما يستكثر من النّار، فقالوا: يا رسول الله وما يُغنيه؟ قال: قدْر ما يغدّيه ويعشّيه (¬1). قدْرها: وقدْرها صاع من التمر والشعير ونحو ذلك ... ممّا يعدّ قوتاً. والصاع: أربعة أمداد، والمدّ: حفنة الرجل باليدين، وسُمّي مدّاً؛ لأنَّ اليدين تُمدّان. عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كنّا نُخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقِط، أو صاعاً من زبيب" (¬2). وأمّا من البُر؛ فنصف صاع، وهو قول أبي حنيفة، وقياس أحمد في بقيّة الكفّارات، وبه يقول شيخ الإِسلام (¬3) وشيخنا -رحم الله الجميع-. عن عروة بن الزبير: "أنَّ أسماء بنت أبي بكر، كانت تُخرج على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أهلها -الحرّ منهم والمملوك- مُدّين من حنطة، أو صاعاً من تمر بالمدّ، أو بالصاع الذي يقتاتون به" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح الترغيب الترهيب" (796). (¬2) أخرجه البخاري: 1506، ومسلم: 985. (¬3) انظر "الاختيارات" (ص 102). (¬4) أخرجه الطحاوي واللفظ له، وابن أبي شيبة، وأحمد، وسنده صحيح على شرط الشيخين؛ كما في "تمام المِنّة" (ص 387)؛ وراجِعه -إن شئت- للمزيد من الفوائد الحديثية والفقهية.

الزيادة عن المنصوص عليه

قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص387) -عقب أثر عروة ابن الزبير-: "فثبَت من ذلك أن الواجب في صدقة الفطر من القمح نصف صاع، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية كما في "الاختيارات" (ص 60)، وإليه مال ابن القيم ... وهو الحقّ إِن شاء الله تعالى". وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل نصف الصاع يجزئ إِذا أخرجه الغنيّ والفقير. فقال: "نعم". وسألته أيضاً: الواجب في صدقة الفطر من القمح نصف صاع، فهل هذا خاص بالقمح؟ أم يمكن أن تقاس عليه أصناف أُخرى، قد تكون مِثله أو أعلى في السعر أو الجودة؟ فأجاب -رحمه الله-: هو كذلك. الزيادة عن المنصوص عليه تجوز الزيادة عن المنصوص عليه، لا خروجاً عن النص؛ ولكن تنفُّلاً وتطوُّعاً. جاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 70): "سُئل -رحمه الله- عمّن عليه زكاة الفطر؛ ويعلم أنّها صاع ويزيد عليه، ويقول: هو نافلة، هل يكره؟ فأجاب: الحمد لله، نعم يجوز بلا كراهية عند أكثر العلماء؛ كالشافعي وأحمد وغيرهما، وإنما تنقل كراهيته عن مالك. وأمّا النقص عن الواجب، فلا يجوز باتفاق العلماء".

هل يجوز إخراج القيمة؟

هل يجوز إِخراج القيمة؟ لا يجوز إِخراج القيمة في زكاة الفِطر؛ لورود النّص في الطّعام. قال ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (6/ 193) مسألة (708): " ... ولا تجزئ قيمة أصلاً". وقال النووي -رحمه الله-: "ولم يُجز عامّة الفقهاء إِخراج القيمة، وأجازه أبو حنيفة" (¬1). قلت: ولعلّ أصْل المبحث؛ فيما إِذا كانت صدقة الفطر؛ تجري مجرى صدقّة الأموال أو صدقة الأبدان؛ كالكفارات؟ والراجح أنها * تجري مجرى كفّارة اليمين، والظِّهار، والقتل، والجماع في رمضان، ومجرى كفّارة الحج، فإِنّ سببها هو البدن ليس هو المال، كما في السنن عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنّه فرَض صدقة الفطرطُهرةً للصائم من اللغو والرفث وطُعمة للمساكين، مَن أدّاها قبل الصلاة؛ فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات" (¬2). ولهذا أوجَبَها الله طعاماً، كما أوجب الكفّارة طعاماً. وعلى هذا القول؛ فلا يجزئ إِطعامها إِلا لمن يستحقّ الكفّارة، وهم الآخِذون لحاجة أنفسهم، فلا يعطى منها في المؤلفة، ولا الرقاب، ولا غير ¬

_ (¬1) "شرح النّووى" (7/ 60) وذكره الشيخ عبد العظيم -حفظه الله- في "الوجيز" (ص 224). (¬2) تقدّم تخريجه.

وقت إخراجها

ذلك، وهذا القول أقوى في الدليل * (¬1). وقت إِخراجها عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرَ بزكاة الفطر (¬2) قبل خروح الناس إِلى الصلاة" (¬3). ولا بأس من تعجيلها للموكّل بتوزيعها قبل الفطر بيوم أو يومين. فعن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "فرَض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر -أو قال: رمضان- على الذكر والأنثى والحرّ والمملوك؛ صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، فعدل الناس به نصف صاع من بُرّ. فكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يعطي التمر، فأعْوز (¬4) أهل المدينة من التمر فأعطى شعيراً، فكان ابن عمر يعطي على الصغير والكبير؛ حتى إِنْ كان يعطي عن بنيَّ. ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "مجموع الفتاوى" (25/ 73). (¬2) قال الحافظ في "الفتح" (3/ 368): "واستُدِلّ به على أن وقت وجوبها غروب الشمس؛ ليلة الفطر لأنه وقت الفطر من رمضان، وقيل وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد؛ لأن الليل ليس محلاًّ للصوم، وإنما يتبيّن الفطر الحقيقي بالأكل بعد طلوع الفجر. والأول قول الثوري وأحمد وإسحق والشافعي في الجديد، وإحدى الروايتين عن مالك. والثاني قول أبي حنيفة والليث والشافعي في القديم، والرواية الثانية عن مالك. ويقوّيه قوله في حديث الباب: وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إِلى الصلاة". (¬3) أخرجه البخاري: 1509، ومسلم: 986. (¬4) أي: احتاج.

وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يُعطَون قبل الفطر بيوم أو يومين" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (3/ 335): "وروى الجملة الأخيرة منه الدارقطني (225) والبيهقي (4/ 175) من طريق الضحاك بن عثمّان عن نافع به بلفظ ... : "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَر بإِخراج زكاة الفطر؛ أن تُؤدّى قبل خروج الناس إِلى الصلاة، وأنّ عبد الله بن عمر؛ كان يؤديها قبل ذلك بيوم أو يومين". وروى مالك (1/ 285/55) عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إِلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة. قلت [أي: شيخنا -رحمه الله تعالى-]: وهذا يُبيّن أنّ قوله في رواية البخاري: "للذين يقبلونها" ليس المراد به الفقراء، بل الجباة الذين ينصبهم الإِمام لجمع صدقة الفطر. ويؤيد ذلك ما وقع في رواية ابن خزيمة؛ من طريق عبد الوارث عن أيوب: "قلت: متى كان ابن عمر يعطي؟ قال: إِذا قعد العامل، قلت: متى يقعد العامل؟ قال: قبل الفطر بيوم أو يومين" انتهى. ولا يجوز تأخيرها عن وقتها، فمن فَعل عُدَّت زكاته صدقة من الصدقات كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- المتقدّم: "فرَض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر طُهرةً للصائم ... ومن أدّاها بعد الصلاة؛ فهي صدقة من الصدقات". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1511.

مصرفها:

مصرفها: تُعطى صدقة الفطر للمساكين؛ كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- المتقدّم: " ... وطعمة للمساكين". وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- كما في "الاختيارات" (ص 102): "ولا يجوز دفع زكاة الفطر إِلا لمن يستحقّ الكفّارة، وهو من يأخذ لحاجته، لا في الرقاب والمؤلفة قلوبهم، وغير ذلك" (¬1). وقال شيخنا ردّاً على الشيخ السيد سابق -رحمهما الله- في قوله: "تُوزّع على الأصناف الثمانية المذكورة في آية {إِنّما الصدقات للفقراء ... } ". "ليس في السُّنّة العملية ما يشهد لهذا التوزيع، بل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عبّاس: " ... وطُعمة للمساكين"؛ يفيد حصْرُها بالمساكين. والآية إِنّما هي في صدقات الأموال؛ لا صدقة الفطر؛ بدليل ما قبلها، وهو قوله تعالى: {ومنهم من يَلمِزك في الصدقات فإنْ أُعطوا منها رَضُوا} (¬2). وهذا هو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية، وله في ذلك فتوى مفيدة (ج2/ص81 - 84) من "مجموع الفتاوى"، وبه قال الشوكاني في "السيل الجرّار" (2/ 86 - 87)، ولذلك قال ابن القيم في "الزاد": "وكان من هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تخصيص المساكين بهذه الصدقة ... "" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "مجموع الفتاوى" (25/ 73)، وتقدّم غير بعيد. (¬2) التوبة: 58. (¬3) "تمام المِنّة" (ص 387).

عدم جواز إعطائها للذمي

عدم جواز إِعطائها للذمّي لا يجوز إِعطاء صدقة الفطر للذمّي لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتقدّم: "وطُعمةً للمساكين" فإِنّ الظاهر منه أنه أراد مساكين المسلمين؛ لا مساكين الأمم كلّها (¬1). وقال شيخنا في الردّ على الشيخ السيد سابق -رحمهما الله- حين استدلّ على جواز ذلك بالآية: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتِلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتُقسِطوا إِليهم إِنّ الله يحبّ المقسطين} (¬2). لا يظهر في الآية دليل على الجواز؛ لأن الظاهر منها الإِحسان إليهم على وجه الصِّلة من الصدقات غير الواجبة، فقد روى أبو عبيد (رقم 1991) بسند صحيح عن ابن عبّاس قال: "كان ناس لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتَّقون أن يتصدّقوا عليهم، ويريدونهم على الإِسلام، فنزلت: {ليس عليك هداهم ولكنّ الله يهدي من يشاء وما تُنفِقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إِلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوفَّ إِليكم وأنتم لا تُظلَمون} (¬3) ". فهذه الآية مثل التي قبلها. ثمّ روى بسند صحيح إِلى سعيد بن المسيّب: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تصدّق بصدقة على أهل بيت من اليهود فهي تجري عليهم". ¬

_ (¬1) قاله شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص389). (¬2) الممتحنة: 8. (¬3) البقرة: 272.

في المال حق سوى الزكاة

وروى عن الحسن -وهو البصري- قال: "ليس لأهل الذمّة في شيء من الواجب حقّ، ولكن إِنْ شاء الرجل تصدَّق عليهم من غير ذلك". فهذا هو الذي ثبت في الشرع، وجرى عليه العمل من السلف، وأمّا إِعطاؤهم زكاة الفطر؛ فما علمنا أحداً من الصحابة فعَل ذلك، وفَهْم ذلك من الآية فيه بُعْد، بل هو تحميل للآية ما لا تتحمّل. وما رواه أبو إِسحاق عن أبي ميسرة قال: "كانوا يجمعون إِليه صدقة الفطر؛ فيعطيها أو يعطي منها الرهبان". رواه أبو عبيد (613/ 1996)، وابن زنجويه (1276). فهو مع كونه مقطوعاً موقوفاً على أبي ميسرة -واسمه عمرو بن شرحبيل- فلا يصحّ عنه؛ لأنّ أبا إِسحاق هو السبيعي مختلط مدلّس، وقد عنعنه". في المال حقٌّ سوى الزكاة (¬1) عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أطعِموا الجائع وعودوا المريض وفكُّوا العاني (¬2) " (¬3). ¬

_ (¬1) أمّا حديث: "إِنَّ في المال حقّاً سوى الزكاة" فضعيف أخرجه الترمذي والدارمي وقال الترمذي: هذا حديث إِسناده ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعّف ... ". وانظر "تخريج أحاديث مشكلة الفقر" برقم (103). (¬2) قال في "النهاية": "العاني: الأسير، وكلّ من ذلّ واستكان وخضع فقد عنَا يعنو، وهو عانٍ، والمرأة عانية وجمعها: عوان". (¬3) أخرجه البخاري: 5649.

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "بينما نحن في سفرٍ مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعَل يصرف بصَره (¬1) يميناً وشمالاً، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من كان معه فضْل ظهر (¬2) فليَعُد به (¬3) على من لا ظهر له، ومن كان له فضلٌ مِن زاد؛ فليعُد به على من لا زاد له. قال: فذكَر مِن أصناف المال ما ذَكَر، حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحد منّا في فضل" (¬4). وعن عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما-: "أنَّ أصحاب الصفّة كانوا أُناساً فقراء، وأنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإنْ أربع فخامس أو سادس، وأنَّ أبا بكر جاء بثلاثة فانطلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعشرة" (¬5). وقد لا تكفي الزكاة المفروضة؛ لإِطعام الجائع، وفكّ الأسير، ومداواة المريض، ونحو ذلك؛ ممّا لا يُستغنى عنه من الحاجات؛ فيجب في الأموال حقٌّ آخر سوى الزكاة؛ لسدّ الحاجة والقيام بما يلزم. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: " ... في مالك حقّ سوى ¬

_ (¬1) أي: متعرّضاً لشيء يدفع به حاجته. "شرح النووي". (¬2) من كان معه فضل ظهر: أي: زيادة عن حاجته؛ ممّا يُركب على ظهره من الدوابّ. (¬3) أي: فليُعطِه. (¬4) أخرجه مسلم: 1728. (¬5) أخرجه البخاري: 602، ومسلم: 2057.

الزكاة" (¬1). قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (6/ 224 - 229) -بتصرّف-: "وفرْض على الأغنياء من أهل كلّ بلد؛ أن يقوموا بفقرائهم، ويُجبرهم السلطان على ذلك؛ إِنْ لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمِثل ذلك، وبمسكن يُكنّهم (¬2) من المطر، والصيف والشمس وعيون المارة. برهان ذلك: قول الله تعالى: {وآت ذا القربى حقّه والمسكين وابن السَّبيل} (¬3). وقال الله تعالى: {وبالوالدين إِحساناً وبذي القُربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجُنُب والصاحب بالجَنْب وابن السبيل وما ملَكَت أيْمانكم} (¬4). فأوجب تعالى حقّ المساكين، وابن السبيل، وما ملكَت اليمين مع حق ذي القربى. وافترض الإِحسان إِلى الأبوين، وذي القربى، والمساكين والجار، وما ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة وأبو عبيد، وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "الإِرواء" تحت الحديث (873). (¬2) أي: يحميهم ويردّ عنهم. (¬3) الإِسراء: 26. (¬4) النساء: 36.

ملكت اليمين، والإِحسان يقتضي كل ما ذكَرنا، ومنْعه إِساءة بلا شكّ. وقال تعالى: {ما سلككُم في سقر * قالوا لم نَكُ من المصلّين * ولم نك نُطعِم المسكين} (¬1). فقَرن الله تعالى إِطعام المسكين بوجوب الصلاة. وعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طُرُق كثيرة في غاية الصحّة؛ أنه قال: "من لا يرحم الناس لا يرحَمْه الله" (¬2). ومن كان على فضلةٍ، ورأى المسلم أخاه جائعاً عريان ضائعاً فلم يُغِثه؛ فما رحِمه بلا شكّ". ثمّ ذكر حديث عبد الرحمن بن أبي بكر المتقدّم في أصحاب الصّفّة: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ... ". وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلِمه ولا يُسلمه" (¬3). قال أبو محمّد: من تركه يجوع ويعرى -وهو قادر على إِطعامه وكسوته- فقد أسلَمه! ثمّ ذكَر حديث أبي سعيد الخدري المتقدّم: "من كان معه فضل ظهر فليعُد به على من لا ظهر له ... ". ¬

_ (¬1) المدثر: 42 - 44. (¬2) أخرجه البخاري: 2442، ومسلم: 2319. (¬3) أخرجه البخاري: 2442، ومسلم: 2580.

صدقة التطوع

ثمّ قال: وهذا إِجماع الصحابة -رضي الله عنهم- يخبر بذلك أبو سعيد وبكلّ ما في هذا الخبر نقول. ثمّ ذكَر حديث أبي موسى المتقدّم: "أطعموا الجائع وفكُّوا العاني". وقال: والنصوص من القرآن، والأحاديث الصحاح في هذا تكثُر جدّاً. وعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ لأخذْت فضول أموال الأغنياء؛ فقسَمتها على فقراء المهاجرين. وهذا إِسناد في غاية الصحة والجلالة. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "في مالكَ حقٌّ سوى الزكاة" (¬1). فهذا إِجماع مقطوع به من الصحابة -رضي الله عنهم- لا مُخالِف لهم منهم. وصحّ عن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم، كلهم يقول: في المال حقٌّ سوى الزكاة. صدقة التطوّع يُستحبُّ الإِكثار من صدقة التطوّع، وفيها العديد من النصوص؛ من ذلك: 1 - قول الله تعالى: {مَثل الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله كمثَل ¬

_ (¬1) تقدّم غير بعيد.

أولى الناس بالصدقة

حبةٍ أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبة والله يضاعِف لمن يشاء والله واسع عليم} (¬1). 2 - وقوله سبحانه: {لن تنالوا البِرّ حتى تُنفقوا مما تحبّون وما تُنفِقوا من شيء فإِنّ الله به عليم} (¬2). 3 - وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من يوم يصبح العباد فيه إِلا مَلَكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهمَّ أعط مُنفِقاً خَلَفاً (¬3)، ويقول الآخر: اللهمّ أعط ممسكاً تَلَفاً (¬4) ". 4 - وحديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: كلّ امرئ في ظلِّ صدقته؛ حتى يقضى بين الناس. قال يزيد: فكان أبو مَرثد لا يخطئه يوم إِلا تصدّق فيه بشيء، ولو كعكة أو بصلة" (¬5). أوْلى الناس بالصدقة أوْلى الناس بالصدقة أهل المتصدّق ثمّ قرابته. ¬

_ (¬1) البقرة: 261. (¬2) آل عمران: 92. (¬3) أي: عِوضاً. (¬4) أخرجه البخاري" (1442). قال الحافظ في "الفتح" (3/ 305): "التعبير بالعطيّة في هذا للمشاكلة؛ لأنّ التلف ليس بعطية". (¬5) أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (862).

عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإنْ فضَل شيء؛ فلأهلك، فإِنْ فضَل عن أهلك شيء؛ فلِذِي قرابتك، فإِنْ فضَل عن ذي قرابتك شيء؛ فهكذا وهكذا" (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصدقة فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي دينار قال: تصدَّق به على نفسك، قال: عندي آخر قال: تصدَّق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدَّق به على زوجتك، قال: عندي آخر، قال: تصدَّق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبْصَر" (¬2). وفي رواية: "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقَبة، ودينار تصدّقتَ به على مسكين، ودينار أنفقتَه على أهلك، أعظمُها أجراً الذي أنفقتَه على أهلك" (¬3). وعن حكيم بن حزام -رضي الله عنه-: "أنَّ رجلاً سأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصدقات أيها أفضل؟ قال: على ذي الرحِم الكاشح (¬4) " (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 997. (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وحسنه شيخنا في "الإرواء" (895). (¬3) أخرجه مسلم: 995. (¬4) الكاشح: "بالشين المعجمة: هو الذي يُضمر عداوته في كشْحه -وهو خصره- يعني: أنّ أفضل الصدقة على ذي الرحِم المُضمِر العداوة في باطنه"، وتقدّم. (¬5) أخرجه أحمد والطبراني، وإسناده حسن، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (880) و"الإِرواء" (892)، وتقدّم.

التحذير من التصدق بالحرام

وعن خيثمة قال: "كنّا جلوساً مع عبد الله بن عمرو إِذ جاءه قَهْرَمان (¬1) له، فدخل فقال: أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: فانطلِق فأعطهم. قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كفى بالمرء إِثماً أنْ يحبس عمّن يملك قوته" (¬2). التحذير من التصدّق بالحرام عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيها الناس! إنَّ الله طيِّب لا يقبل إلاَّ طيباً، وإِنّ الله أمَر المؤمنين بما أمَر به المرسلين، فقال: {يا أيها الرسل كُلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إِنِّي بما تعملون عليم} (¬3)، وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} (¬4). ثمّ ذكر الرجل يطيل السفر أشعث (¬5) أغبر (¬6) يمدّ يديه إِلى السماء يا ربّ! يا ربّ! ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام وَغُذِيَ بالحرام فأنّى ¬

_ (¬1) قَهْرَمان: هو الخازن القائم بحوائج الإِنسان، وهو بمعنى الوكيل. "شرح النووي" (7/ 82). (¬2) أخرجه مسلم: 996. (¬3) المؤمنون: 51. (¬4) البقرة: 172. (¬5) أشعث: ثائر الشعر جعد الرأس. "فيض" ملتقطاً. (¬6) الأغبر: أي: غيّر الغبار لونه لطول سفره؛ في طاعة، كحجٍّ وجهادٍ وزيارة رَحم وكثرة عبادة. "فيض".

هل تتصدق المرأة من مال زوجها؟

يستجاب لذلك؟ " (¬1). وتقدّم حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من تصدق بعَدل تمرة من كسب طيِّب -ولا يقبل الله إلاَّ الطيب- فإِنّ الله يتقبلّها بيمينه، ثمّ يربِّيها لصاحبه كما يربِّي أحدكم فَلُوَّه (¬2)، حتى تكون مثلَ الجبل". هل تتصدّق المرأة من مال زوجها؟ للمرأة أن تتصدّق من بيت زوجها؛ إِن كان يرضى عن ذلك. فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مُفسدةٍ؛ كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازِن (¬3) مثلُ ذلكَ، لا ينقُصُ بعضهم أجرَ بعض شيئاً" (¬4). بيّن الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (3/ 303): بأنّ هذا عن رضى الزوج بذلك في الغالب. ثمّ قال: ويدلّ على ذلك ما رواه المصنف [أي: الإِمام البخاري -رحمه الله-] من حديث همام عن أبي هريرة بلفظ: "إِذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1015 (¬2) تقدّم أن الفَلُوّ هو المُهر الصغير، وقيل: هو العظيم من أولاد ذات الحافر، وسمّي كذلك لأنه يُفلَى -أي: يُفطَم-. (¬3) الخازن: خادم المالك في الخزن وإن لم يكن خادمه حقيقة. (¬4) أخرجه البخاري: 1425، ومسلم: 1024.

أمره، فلها نصف أجره" (¬1). وقال أيضاً -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 301): "والأوْلى: أن يُحمل على ما إِذا أنفقت مِن الذي يخصّها به إِذا تصدقت بغير استئذانه، فإِنه يصدق كونه من كسبه، فيؤجَر عليه، وكونه بغير أمره يحتمل أن يكون أَذِن لها بطريق الإِجمال، لكن المنفي ما كان بطريق التفصيل. ولا بدّ من الحمل على أحد هذين المعنيين، وإِلا فحيث كان من ماله بغير إِذنه لا إِجمالاً ولا تفصيلاً، فهي مأزورة بذلك لا مأجورة". وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: "سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول عام حَجّة الوِداع: "لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إِلا بإِذن زوجها. قيل: يا رسول الله! ولا الطعام؟ قال: ذلك أفضل أموالنا" (¬2). قال الصنعاني -رحمه الله- في "سُبل السلام" (4/ 78): -بعد أن ذكر حديث عائشة رضي الله عنها-: "فيه دليل على جواز تصدُّق المرأة من بيت زوجها. والمراد إِنفاقها من الطعام الذي لها فيه تصرّف بصنعته للزوج ومن يتعلق به؛ بشرط أن يكون ذلك بغير إِضرار وأن لا يخلَّ بنفقتهم. قال ابن العربي -رحمه الله-: قد اختلف السلف في ذلك؛ فمنهم من أجازه في الشيء اليسير الذي لا يؤبه له ولا يظهر به النقصان، ومنهم مَن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2066. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3044)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1721)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (931).

حمَله على ما إِذا أذن الزوج ولو بطريق الإِجمال- وهو اختيار البخاري. ويدلّ له ما أخرجه الترمذي عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إلاَّ بإِذن زوجها" ... [وذكر الحديث المتقدّم]. إلاَّ أنه قد عارضه ما أخرجه البخاري (¬1) من حديث أبي هريرة بلفظ: "إِذا أنفقت المرأة من كسب زوجها عن غير أمره؛ فلها نصف أجره". ولعلّه يقال في الجمع بينهما؛ إِنّ إِنفاقها مع إِذنه تستحقّ به الأجر كاملاً، ومع عدم الإذن نصف الأجر، وإِنّ النهي عن إِنفاقها من غير إِذنه؛ إِذا عرَفت منه الفقر أو البخل فلا يحلّ لها الإِنفاق إلاَّ بإِذنه؛ بخلاف ما إِذا عرَفت منه خلاف ذلك؛ جاز لها الإنفاق عن غير إِذنه ولها نصف الأجر ... ". وانظر "الفتح" (3/ 303). وعن أسماء بنت أبي بكر أنها جاءت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا نبيّ الله ليس لي شيء؛ إلاَّ ما أدخَل عليّ الزبير (¬2) فهل عليّ جناح أنْ أرضَخَ ممّا يدخل عليَّ فقال: ارضخي (¬3) ما استطعتِ، ولا تُوْعِي فيُوعيَ الله عليك (¬4) " (¬5). ¬

_ (¬1) برقم: (2066). (¬2) هو ابن العوّام وكان زوجها. (¬3) معناه ممّا يرضى به الزبير؛ وتقديره: إِنّ لك في الرضخ مراتب مباحة، بعضها فوق بعض، وكلها يرضاها الزبير، فافعلي أعلاها. أو يكون معناه: ما استطعتِ ممّا هو ملَك لك. (¬4) أي: "لا تجمعي وتشحّي بالنفقة، فيشحَّ عليك، وتُجازي بتضييِق رزقك". "النهاية". وانظر شرحه في كتابي "شرح صحيح الأدب المفرد". (¬5) أخرجه البخاري: 2590، ومسلم: 1029، واللفظ له.

هل تتصدق المرأة من مالها بدون إذن زوجها؟

قال النووي -رحمه الله- (7/ 119): "هذا محمول على ما أعطاها الزبير لنفسها؛ بسبب نفقةٍ وغيرها، أو ممّا هو ملك الزبير ولا يَكره الصدقة منه، بل رضي بها على عادة غالب الناس". هل تتصدّق المرأة من مالها بدون إِذن زوجها؟ عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يجوز لامرأةٍ عطيّة في مالها؛ إِلا بإِذن زوجها" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2/ 406): "وهذا الحديث ... يدلّ على أنّ المرأة لا يجوز لها أن تتصرّف بمالها الخاص بها إِلا بإِذن زوجها، وذلك مِن تمام القِوامة التي جعلها ربنا -تبارك وتعالى- له عليها. ولكن لا ينبغي للزوج -إِذا كان مسلماً صادقاً- أن يستغل هذا الحُكم؛ فيتجبر على زوجته، ويمنعها من التصرف في مالها فيما لا ضير عليهما منه. وما أشبه هذا الحقّ بحقّ وليّ البنت التي لا يجوز لها أن تزوّج نفسها بدون إِذن وليّها، فإِذا أعضَلها رفَعت الأمر إِلى القاضي الشرعي ليُنصفها. وكذلك الحكم في مال المرأة إِذا جار عليها زوجها فمنَعها من التصرف المشروع في مالها؛ فالقاضي يُنصفها أيضاً؛ فلا إشكال على الحكم نفسه، وإنما الإِشكال في سوء التصرف به، فتأمّل". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد، وانظر "الصحيحة" (825).

الصدقة عن الميت عن غير وصية من مال الميت، وتكفير ذنوب الميت بها

الصدقة عن الميّت عن غير وصيّة مِن مال الميّت، وتكفير ذنوب الميّت بها (¬1) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن رجلاً قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ أبي مات، وترَك مالاً، ولم يوص، فهل يُكفّر عنه إِن تصدّقتُ عنه؟ فقال: نعم" (¬2). هل يتصدّق بكلّ ماله؟ قال الله تعالى: {ويُؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (¬3)} (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أتى رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، أصابني الجَهْد (¬5)، فأرسَل إِلى نسائه فلم يجد عندهنّ شيئاً، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا رجل يُضيِّفه الليلة يرحَمُه الله؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إِلى أهله فقال لامرأته: ضَيْفُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تدَّخريه شيئاً. فقالت: والله ما عندي إِلا قوت الصبية. قال: فإِذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم، وتعالَيْ فأطفئي السراج، ونطوي ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 123). (¬2) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (2498)، وقال شيخنا -رحمه الله- إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬3) الخصاصة: الفاقة. (¬4) الحشر: 9. (¬5) أي: المشقة.

بطوننا الليلة ففعَلت. ثمّ غدا الرجل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لقد عجب الله عز وجل -أو ضحك- من فلان وفلانة، فأنزل الله عز وجل: {ويُؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} " (¬1). وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "أمَرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً أن نتصدّق، فوافَق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر -إِنْ سبقته يوماً- فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أبقيتَ لأهلك؟ قلت: مِثله. قال: وأتى أبو بكر بكلّ ما عنده، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أبقيتَ لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابِقُك إِلى شيء أبداً" (¬2). فمن كان في قوةٍ منيعة من التوكلّ على الله بحيث لا يندم؛ فليفعل وليتصدّق بكلّ ماله. وسألت شيخنا -رحمه الله- عن حديث أبي بكر -رضي الله عنه- فقال: "هذه مسألة دقيقة؛ تُشبه الحالة الآتية: وهي أن يأمر الوالد ولده أن يُطلّق زوجه، فهل يفعل تأسّياً بقصّة عمر مع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4889، ومسلم: 2054. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1472)، وغيره، وانظر "المشكاة" (6021)، و"مختصر البخاري" (1/ 336).

ولده -رضي الله عنهما-. فأقول: نعم؛ إِذا كان الوالد كعمر؛ يطلّق، وإلاَّ فلا، ومن كان كأبي بكر في قوّة الإِيمان، وكان كذلك أهله بقوة إِيمان أهل أبي بكر -رضي الله عنهم- جاز التصدّق بكل المال، فهل يمكن تحقُّقه؟ فهذا خاصٌ بالصدّيق -رضي الله عنه- فقط". وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: "إِنّك إِنْ تذَرَ ورثتك أغنياء؛ خيرٌ من أن تذَرهم عالةً؛ يتكفّفون الناس، وإِنك لن تُنفق نفقة تبتغي بها وجه الله؛ إِلا أُجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك" (¬1). وقال الإِمام البخاري -رحمه الله- في "صحيحه" (¬2): "لا صدقة إِلا عن ظهر غنى (¬3)، ومن تَصدَّق وهو محتاج، أو أهله محتاج، أو عليه دين؛ فالدين أحقُّ أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو رَدٌّ عليه، ليس له أن يُتلف أموال الناس، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أخَذ أموال الناس يريد إِتلافها أتلَفه الله (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2742، ومسلم: 1628. (¬2) انظر (24 - كتاب الزكاة- 18 - باب). (¬3) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول" أخرجه البخاري: 1426 من حديث أبي هريرة، وفي مسلم: (1034) من حديث حكيم بن حزام -رضي الله عنه-: "أفضل الصدقة -أو خير الصدقة- عن ظهر غنى ... وابدأ بمن تعول". (¬4) وصله البخاري -رحمه الله- برقم (2387) بلفظ: "مَن أخذ أموال الناس يريد أداءَها أدى الله عنه، ومن أخَذ يريد إِتلافها أتلَفه الله".

إِلا أن يكون معروفاً بالصبر، فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، كفِعل أبي بكر -رضي الله عنه- حين تصدّق بماله (¬1). وكذلِك آثر الأنصار المهاجرين، ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إِضاعة المال، فليس له أن يضيّع أموال الناس بعلّة الصدقة. وقال كعب -رضي الله عنه-: "قلت: يا رسول الله، إِنّ من توبتي أن أنخلع من مالي (¬2) صدقة إِلى الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: أمسِك عليك بعض مالك، فهو خير لك، قلت: فإِنّي أُمسك سهمي الذي بخيبر" (¬3). وقال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (4/ 99): (باب صدقةالمُقلّ إِذا أبقى لنفسه قدْر حاجته). ثمّ ذكَر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سبقَ درهم مائة ألف درهم، فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: رجل له مال كثير أخذ من عُرضه (¬4) مائة ألف درهم، تصدَّق بها؛ ورجل ليس له إِلا درهمان فأخَذ أحدهما فتصدّق به" (¬5). ¬

_ (¬1) وهو الذي ذكرْته في هذا الباب. (¬2) أي: أخرج من جميع مالي. "فتح". (¬3) وقد وصله البخاري -رحمه الله- برقم (4418)، وأخرجه مسلم: 2769. (¬4) العُرض: الجانب والناصية من كل شيء. (¬5) أخرجه النسائي وابن خزيمة في "صحيحه" (2443) وابن حبان وغيرهم، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في تخريج أحاديث مشكلة الفقر برقم (119).

الصدقة على الحيوان

الصدقة على الحيوان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "بينا رجل يمشي؛ فاشتدّ عليه العطش، فنزل بئراً فشرب منها، ثمّ خرج فإِذا هو بكلب يلهث؛ يأكل الثرى (¬1) من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي. فملأ خفّه ثمّ أمسَكه بفيه ثمّ رَقِيَ (¬2) فسقى الكلب، فشكر اللهُ له فغفَر له. قالوا: يا رسول الله وإنّ لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كلّ كبِد رطبةٍ أجر" (¬3). وعنه أيضاً قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بينما كلب يُطيف (¬4) بركيّة (¬5) كاد يقتله العطش، إِذ رأته بغيٌّ (¬6) من بغايا بني إِسرائيل، فنزعت مُوقَها (¬7) فسقته، فغُفِر لها به" (¬8). ¬

_ (¬1) أي: التراب النّديّ. (¬2) أي: صعد. (¬3) أخرجه البخاري: 2363، ومسلم: 2244. (¬4) أي: يديم المرور حوله. (¬5) قال الحافظ في "الفتح" (6/ 516): بركية: البئر مطوية أو غير مطوية، وغير المطوية يقال لها: جُبّ وقليب، ولا يقال لها بئر حتى تُطوى، وقيل: الركي البئر قبل أن تطوى فإِذا طويت فهي الطوى. (¬6) هي: الزانية. (¬7) هو الخفّ وقيل: ما يُلبس فوق الخُفّ. "فتح". (¬8) أخرجه البخاري: 3467، ومسلم: 2245.

الصدقة الجارية

وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من رحم ولو ذبيحة عُصفور؛ رحمه الله يوم القيامة" (¬1). وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً؛ فيأكل منه طير أو إِنسان أو بهيمة؛ إِلا كان له به صدقة" (¬2). الصدقة الجارية عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا مات الإِنسان انقطع عنه عمله إِلا من ثلاثة: إِلا من صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له" (¬3). الصدقة في رمضان عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل -عليه السلام- يلقاه في كلّ ليلة من رمضان، فيدارسه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد". وغيره، وانظر "الصحيحة" (27). (¬2) أخرجه البخاري: 2320، ومسلم: 1552، وتقدّم. (¬3) أخرجه مسلم: 1621.

الصدقة في أيام العشر من ذي الحجة

القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المُرسَلة (¬1) " (¬2). الصدقة في أيام العشر من ذي الحجّة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من أيّام العمل الصالح فيها أحبُّ إِلى الله من هذه الأيام -يعني أيّام العشر- قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إِلا رجل خرج بنفسه وماله؛ فلم يرجِع من ذلك بشيء" (¬3). ¬

_ (¬1) أي: المطلقة يعني أنه في الإسراع بالجود؛ أسرع من الريح، وعبّر بالمُرسَلة؛ إِشارة إِلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده؛ كما تعمّ الريح المرسَلة جميع ما تهبّ عليه. "فتح" (1/ 31). (¬2) أخرجه البخاري: 3554، ومسلم: 2308. (¬3) أخرجه البخاري: 969، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2130) وغيرهما، وتقدّم.

كتاب الصيام

كتاب الصيام

الصيام

الصيام الصيام: في اللغة: هو الكفّ والإِمساك؛ كما في قوله تعالى: {إِنّي نذَرْت للرحمن صوماً} (¬1)، أي: صمتاً. وفي الشرع: الإِمساك عن الطعام والشراب والوقاع، بنيّة خالصة لله -عزّ وجلّ- في جميع النهار؛ لقوله تعالى: {ثمَّ أتِمّوا الصيام إِلى الليل} (¬2). [البقرة: 187]. فضله: 1 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "سمعْت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: قال الله -عزّ وجلّ- كلّ عمل ابن آدم له إلاَّ الصيام، هو لي (¬3) وأنا أجزي به. فوالذي نفس محمّد بيده لَخُلْفَةُ (¬4) فم الصائم أطيب عند الله من ريح المِسك" (¬5). ¬

_ (¬1) مريم: 26. (¬2) حلية الفقهاء: (ص 99) بتصرف. (¬3) فيه أقوال أرجحها: ... لأنّ الصوم بعيد من الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة والحج والغزو والصدقة، وغيرها من العبادات الظاهرة، وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه فيه حظّ. وانظر "شرح النووي" (8/ 31)، و"الفتح" (4/ 107). (¬4) لخُلفة: وفي رواية: لخُلوف هو بضم الخاء فيهما وهو تغير رائحة الفم. "شرح النووي" (8/ 31). (¬5) أخرجه مسلم: 1151.

وفي رواية: " .. إِنّ للصائم فرحتين إِذا أفطر فَرِح، وإذا لقي الله فَرِح" (¬1). وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يُكَفِّرها الصيام والصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (¬2). 2 - وعنه أيضاً أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الصيام جُنَّة (¬3)، فلا يرفُث (¬4) ولا يجهل (¬5)، وإن امرؤٌ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم -مرتين-. والذي نفسي بيده لخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعَشْر أمثالها" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1151. (¬2) أخرجه البخاري: 1895، ومسلم: 144، (كتاب الفتن وأشراط الساعة) "باب في الفتنة التي تموج كموْج البحر" (4/ 2218) وهذا لفظه. (¬3) جُنَّة: أي: يقي صاحبه ما يُؤذيه من الشهوات، والجُنَّة الوقاية. "النهايهّ". وقال في "الفتح" (4/ 104): والجُنّة -بضم الجيم- الوقاية والسَّتر، وقد تبيَّن بهذه الروايات متعلق هذا السَّتر وأنّه من النار، وبهذا جزم ابن عبد البرّ. (¬4) يرفث: -بالضم والكسر- الكلام الفاحش، وهو يطلق على هذا، وعلى الجماع وعلى مقدماته، وعلى ذِكره مع النساء أو مطلقاً، ويُحتمل أن يكون لما هو أعمّ منها. (¬5) قال الحافظ -رحمه الله-: "ولا يجهل: أي لا يفعل شيئاً من أفعال أهل الجهل؛ كالصّياح والسّفه ونحو ذلك. قال القرطبي: لا يفهم من هذا أن غير يوم الصوم يباح فيه ما ذُكِر، وإنّما المراد أنّ المنع من ذلك يتأكد بالصوم". (¬6) أخرجه البخاري: 1894، ومسلم: 1151.

3 - عن سهل بن سعد عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنّ في الجنّة باباً يُقال له الرَّيَّان (¬1)، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخُل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؛ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإِذا دخلوا أُغْلِق، فلم يدخل منه أحد" (¬2). 4 - عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من صام يوماً في سبيل الله بَعّدَ الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" (¬3). 5 - وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من صام يوماً في سبيل الله؛ جعَل الله بينه وبين النار خندقاً؛ كما بين السماء والأرض" (¬4). 6 - وعنه -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "عليك بالهجرة فإِنه لا مِثل لها، عليك بالصوم فإِنه لا مِثل له، عليك بالسجود فإِنك لا تسجد لله ¬

_ (¬1) قال الحافظ -رحمه الله-: "الرّيان: وزن فَعْلان من الرَيّ: اسم عَلم على باب من أبواب الجنة يختص بدخول الصائمين منه، وهو ممّا وقَعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه، لأنه مشتَقّ من الرَيّ، وهو مناسبٌ لحال الصائمين ... قال القرطبي: اكتفى بذِكر الرَيّ عن الشّبع لأنه يدل عليه من حيث أنه يستلزمه، قلت [أي: الحافظ]: أو لكونه أشقّ على الصائم من الجوع". اهـ. وقال الكرماني -رحمه الله-: "هذا الاسم في مقابل العطشان، فروعي المناسبة بين العمل وجزائه". (¬2) أخرجه البخاري: 1896، ومسلم: 1152. (¬3) أخرجه البخاري: 2840، ومسلم: 1153. (¬4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1325)، وغيره، وخرّجه شيخنا - رحمه الله- في "الصحيحة" (563).

منزلة الصائم الصابر

سجدة إِلا رفَعك الله بها درجة، وحطّ عنك بها خطيئة" (¬1). 7 - عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة. يقول الصيام: أي ربّ: منعتُه الطعام والشّهوة، فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعْته النوم بالليل، فشفِّعني فيه، قال: فيُشفَّعان (¬2) " (¬3). منزلة الصّائم الصابر عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "الطاعمُ ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2100) وخرّجه شيخنا -رحمه الله تعالى- في "الصحيحة" (1937). (¬2) قال شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 483): "أي: يُشفّعهما الله فيه ويدخله الجنة، فال المناوي -رحمه الله-: "وهذا القول يحتمل أنه حقيقة؛ بأن يجد ثوابهما ويخلق الله فيه النطق {والله على كل شيء قدير}، ويُحتمل أنه على ضربٍ من المجاز والتمثيل". قلت -أي: شيخنا رحمه الله-: والأول هو الصواب الذي ينبغي الجزم به هنا، وفي أمثاله من الأحاديث التي فيها تجسيد الأعمال ونحوها؛ كمثل تجسيد الكنز شجاعاً أقرع، ونحوه كثير، وتأويل مِثل هذه النصوص ليس من طريقة السلف -رضي الله عنهم- بل هو طريقة المعتزلة ومن سَلَك سبيلهم من الخلف، ودلك مما يُنافي أوّل شروط الإِيمان {الذين يؤمنون بالغيب} فحذار أن تَحْذُو حذوهم، فتضلّ وتشقى، والعياذ بالله تعالى". (¬3) أخرجه أحمد والطبراني في "الكبير" وصححه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (969)، وانظر "تمام المِنّة" (ص 394).

أقسامه:

الشّاكرُ؛ بمنزلةِ الصائم الصابر" (¬1). أقسامه: الصوم قسمان: فرض ونفل: أولاً: صوم الفرض، وهو ثلاثة أقسام: 1 - صوم رمضان. 2 - صوم الكفّارات. 3 - صوم النَّذر. ثانياً: صوم التطوُّع. صوم رمضان حُكمه: يجب صيام رمضان إِذ هو رُكن من أركان الدين. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصّيَام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون} (¬2). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُني الإِسلام ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1427) وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (655). (¬2) البقرة: 183.

فضل شهر رمضان

على خمس: شهادة أن لا إِله إِلا الله وأنّ محمّداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإِيتاء الزكاة، والحجّ، وصوم رمضان" (¬1). وعن طلحة بن عبيد الله "أنَّ أعرابياً جاء إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثائر الرأس فقال: يا رسول الله! أخبِرني ماذا فرَض الله عليَّ من الصلاة؟ فقال: الصلوات الخمس إِلا أنْ تطوّع شيئاً. فقال: أخبرني ما فرَض الله عليّ من الصيام؟ فقال: شهر رمضان إِلا أن تطوّع شيئاً. فقال: أخبرني بما فرَض الله عليَّ من الزّكاة؟ فقال: فأخبَره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرائع الإِسلام. قال: والذي أكرمك؛ لا أتطوَّع شيئاً، ولا أَنْقُصُ ممّا فرَض الله عليَّ شيئاً، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أفلح إِن صدق -أو دخل الجنة إِن صدق-" (¬2). فضل شهر رمضان 1 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام رمضان إِيماناً واحتساباً (¬3)، غُفر له ما تقدّم من ذنبه" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 8، ومسلم: 16. (¬2) أخرجه البخاري: 1891، ومسلم: 11. (¬3) أي: طلَباً لوجه الله وثوابه، فالاحتساب من الحَسَب، وإنّما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله احتَسبه؛ لأن له حينئذ؛ أن يعتد عمله، والحِسبة من الاحتساب. "النهاية". (¬4) أخرجه البخاري: 1901، ومسلم: 760.

2 - وعن عمرو بن مرَّة الجهَنيّ -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله أرأيت إِن شهدْتُ أن لا إِله إِلا الله، وأنّك رسول الله، وصلّيتُ الصلوات الخمس، وأدّيتُ الزكاة، وصمت رمضان، فممّن أنا؟ قال: من الصدِّيقين والشُّهداء" (¬1). 3 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتاكم رمضان شهرٌ مبارَك، فرض الله -عزّ وجلّ- عليكم صيامه، تُفْتَح فيه أبواب السَّماء، وتُغلَقُ فيها أبواب الجحيم وتُغَلُّ (¬2) فيه مردَةُ (¬3) الشياطين (¬4)، لله فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرِم" (¬5). 4 - وعن عرفجة قال: عُدنا عتبة بن فرقد: فتذاكَرنا شهر رمضان، فقال: ما تذْكرون؟ قلنا: شهر رمضان. قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "تُفتَح فيه أبواب الجنَّة، وتُغلَق فيه أبواب النار، وتُغَلُّ فيه الشياطين، وينادي منادٍ كلَّ ليلة: يا باغي الخير (¬6) ¬

_ (¬1) أخرجه البزار وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" واللفظ لابن حبان، وصحّحه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (989). (¬2) تُغَلّ: من الإِغلال، وهو وضْع الغُلّ أو الطوق في يده أو عُنقه. (¬3) مرَدة: جمع المارد وهو العاتي الشديد، وانظر "النهاية". (¬4) قال في "المرقاة" (4/ 451): "يُفهم من هذا الحديث أن المقيَّدين هم المَردة فقط". (¬5) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1992)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (985)، و"المشكاة" (1962) و"تمام المنّة" (395). (¬6) أي: يا طالب.

هَلُمَّ، ويا باغيَ الشّرّ أقْصِر (¬1) " (¬2). قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 188): "باب ذِكر البيان أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّما أراد بقوله: "وصُفِّدت الشياطين" مرَدة الجِنّ منهم؛ لا جميع الشياطين، إِذ اسم الشياطين قد يقع على بعضهم، وذَكَر دعاء الملَك في رمضان إِلى الخيرات، والتقصير عن السيِّئات، مع الدليل على أنّ أبواب الجنان إِذا فُتحت لم يغلق منها باب، ولا يُفتَح باب من أبواب النيران إِذا أُغلقت في شهر رمضان. ثمّ روى إِسناده إِلى أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذا كان أوَّل ليلة من رمضان، صُفِّدت الشياطين مرَدة الجِنّ، وغُلِّقت أبواب النار، فلم يُفتَح منها باب، وفتِّحت أبواب الجنان فلم يُغلَق منها باب، ونادى منادٍ يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغيَ الشَّرِّ أقْصِر، ولله عُتَقاء من النار" (¬3). 5 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الصلوات الخمس والجُمُعة إِلى الجُمُعة ورمضان إِلى رمضان، مكفِّرات ما بينهن، إِذا اجتُنبت الكبائر" (¬4). ¬

_ (¬1) أي: أمسِك. (¬2) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1993)، وغيرهما. (¬3) قال شيخنا -رحمه الله- (1883): إِسناده حسن، للخلاف في أبي بكر بن عيَّاش من قِبَل حِفْظِه. (¬4) أخرجه مسلم: 233، ولشيخنا -رحمه الله- كلام طيِّب في هذا الحديث فانظره -إِن شئت- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 212) تحت رقم (348)، وانظر للمزيد من الأحاديث "صحيح الترغيب والترهيب" (صيام رمضان احتساباً ... ).

الترهيب من الفطر في رمضان

الترهيب مِن الفِطْر في رمضان عن أبي أُمامَة الباهليِّ -رضي الله عنه- قال: سمِعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "بينا أنا نائم أتاني رجلان، فأخذا بضَبْعَيَّ (¬1) فأتيا بي جَبَلاً وعراً، فقالا: اصعد. فقلت: إِني لا أُطِيقه. فقال: إِنّا سنسهِّلُه لك. فصعدت، حتى إِذا كنتُ في سواء الجبل إِذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عُواء أهل النار. ثمّ انطلق بي، فإِذا أنا بقوم معلَّقين بعراقيبهم (¬2)، مشقَّقة أشداقهم (¬3)، تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: مَنْ هؤلاء؟ قال: الذين يُفطرون قبل تحلَّة صومِهم (¬4)." (¬5) الحديث. بمَ يثبُت الشهر؟ يثبت شهر رمضان برؤية الهلال من واحد عَدْل، أو بإِكمال عدّة شعبان ثلاثين يوماً. ¬

_ (¬1) ضبْعيّ: مثنى ضبْع -بسكون الباء- وسط العضد وقيل: هو ما تحت الإِبْط، وانظر " النهاية". (¬2) العراقيب: مفردها العُرقوب: وهو الوَتَر خلفَ الكعبين بين مَفْصِل القدم والساق. وانظر "النهاية". (¬3) الأشداق: جوانب الفم. (¬4) أي: يفُطرون قبل وقت الإِفطار، والتاء في التحلَّة زائدة. (¬5) أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" وغيرهما وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (991).

عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "تراءى (¬1) الناس الهلال فأخبرْتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنِّي رأيته، فصام وأمَر الناس بصيامه" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صوموا لرؤيته (¬3)، وأَفطِروا لرؤيته (¬4) فإِن غُبّي (¬5) عليكم فأكملوا عِدَّة شعبان ثلاثين" (¬6). وقد ورد في بعض النصوص الأمر بصيام رمضان برؤية شاهدين؛ لحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "ألا إِني جالَسْت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وساءَلتُهم، وإنهم حدّثوني أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وانسكوا (¬7) لها، فإِنْ غمّ عليكم فأكمِلوا ¬

_ (¬1) تراءى: أي: تكلّفوا النظر إِليه هل يرونه أم لا، وانظر "النهاية". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2052)، وغيره، وصححه شيخنا - رحمه الله- في "الإرواء" (908). (¬3) أي: لرؤية البعض ولو واحد. (¬4) أي: لرؤية البعض وأقلّهم اثنان. (¬5) غُبِّي: من الغباوة وهو عدم الفِطنة، يقال: غبِي عليّ بالكسر: إِذا لم يعرفه، ومن التغبية، قاله الكرماني، وفي "النهاية": غَبي [بالتخفيف: أي: خفي ورواه بعضهم غُبّي - بضمّ الغين وتشديد الباء المكسورة- لما لم يسمّ فاعله من الغباء: يشبه الغبَرة في السماء". اهـ. وفي بعض الروايات في "الصحيحين": "غُمّي"، وعند مسلم: (1081): "وأُغمي". (¬6) أخرجه البخاري: 1909، ومسلم: 1081. (¬7) قال السّندي -رحمه الله- في حاشيته على "النسائي" (4/ 133): "المراد: الحج، أي: الأضحية".

ثلاثين، فإِن شهد شاهدان فصوموا وأفطِروا" (¬1). وعن حسين بن الحارث الجدلي -من جديلة قيس-: أنّ أمير مكّة خطب، ثمّ قال: عَهِدَ إِلينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن نَنْسُكَ للرؤية، فإِنْ لم نره، وشهد شاهدَا عَدْل نسَكْنا بشهادتهما. فسألت (¬2) الحسين بن الحارث: مَن أمير مكّة؟ قال: لا أدري، ثمّ لقِيَني بعدُ فقال: هو الحارث بن حاطب، أخو محمّد بن حاطب. ثمّ قال الأمير: إِنّ فيكم من هو أعلم بالله ورسوله منِّي، وشهد هذا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأومأ بيده إِلى الرجل. قال الحسين: فقلت لشيخ إِلى جنبي: من هذا الذي أومأ إِليه الأمير؟ قال: هذا عبد الله بن عمر، وصدَق، كان أعلم بالله منه، فقال (¬3): بذلك أَمَرَنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬4). وجاء في "تحفة الأحوذي" (3/ 373): "وقال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله- بعد حديث كريب (¬5): "والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم، قالوا: تُقبَل شهادة رجل واحد في الصِّيَام، وبه يقول ابن المبارك ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والنسائي والسياق له، وغيرهما، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (909): "وهذا سند صحيح رجاله ثقات كلهم". (¬2) السائل: هو أبو مالك الأشجعي الراوي عن حسين بن الحارث الجدلي. (¬3) القائل: عبد الله بن عمر. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2050) وغيره. (¬5) سيأتي بعد قليل إِن شاء الله -تعالى- وهو يفيد قبول شهادة رجل واحد في الصيام.

فائدة:

والشافعي وأحمد. وقال إِسحاق: لا يصام إِلا بشهادة رجلين، ولم يختلف أهل العلم في الإِفطار؛ أنّه لا يُقبل فيه إِلا شهادة رجلين. وأجاب من قال بقَبول شهادة رجل في الصيام عن هذين الحديثين: بأن التصريح بالاثنين غاية ما فيه المنع من قبول الواحد بالمفهوم، وحديث ابن عبّاس وحديث ابن عمر المذكورين؛ يدلاّن على قَبوله بالمنطوق ودلالة المنطوق أرجح". فائدة: قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 132): "فإِناّ نعلم بالإِضطرار من دين الإِسلام؛ أنَّ العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العِدَّة أو الإِيلاء، أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب؛ أنَّه يرى أو لا يرى لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه. ولا يُعرف فيه خلاف قديم أصلاً، ولا خلاف حديث: إِلا أنّ بعض المتأخّرين من المتفقّهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنّه إِذا غُمّ الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حقّ نفسه بالحساب، فإِن كان الحساب دلّ على الرؤية صام وإلا فلا. وهذا القول وإنْ كان مقيَّداً بالإِغمام ومختصّاً بالحاسب فهو شاذّ، مسبوق بالإِجماع على خلافه، فأمَّا اتباع ذلك في الصَّحو، أو تعليق عموم الحكم العام به؛ فما قاله مسلم".

إذا رأى الهلال أهل بلد هل يلزم سائر البلاد الموافقة؟

إِذا رأى الهلالَ أهلُ بلد هل يلزم سائر البلاد الموافقة؟ اختلف العلماء على مذاهب؛ فيما إِذا رأى الهلالَ أهلُ بلد، هل هذا خاصٌّ بأهل البلد الذين رأوه؟ أم هو عامّ لجميع البلاد؟ وقد ذكَرها النووي -رحمه الله- في "المجموع" (6/ 273) والحافظ في "الفتح" (4/ 123) وغيرهما. وجاء في "نيل الأوطار" (4/ 267): "وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب؛ ذكَرها صاحب "الفتح": أحدها: أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم، ولا يلزمهم رؤية غيرهم. حكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم بن محمّد وسالم وإِسحاق، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحْكِ سِواه، وحكاه الماوردي وجهاً للشافعية. وثانيها: أنه لا يلزم أهل بلد رؤية غيرهم؛ إِلا أن يثبت ذلك عند الإِمام الأعظم، فيلزم الناس كلهم، لأنَّ البلاد في حقِّه كالبلد الواحد، إِذ حُكمه نافذ في الجميع، قاله ابن الماجشون. وثالثها: أنَّها إِنْ تقاربت البلاد؛ كان الحُكم واحد، وإِنْ تباعدت فوجهان؛ لا يجب عند الأكثر. قاله بعض الشافعية واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب وحكاه البغوي عن الشافعي. وفي ضبط البعيد أوجه: أحدها: اختلاف المطالع؛ قطع به العراقيون والصيدلاني، وصحّحه

النووي في "الرّوضة" و"شرح المهذَّب". وثانيها: مسافة القصر، قطع به البغوي وصحّحه الرافعي والنووي. ثالثها: باختلاف الأقاليم حكاه في "الفتح". رابعها: أنه يلزم أهل كلّ بلد؛ لا يتصور خفاؤه عنهم، بلا عارض دون غيرهم، حكاه السرخسي. خامسها: مِثل قول ابن الماجشون المتقدّم. سادسها: أَنّه لا يلزم إِذا اختلفت الجهتان ارتفاعاً وانحداراً؛ كأن يكون أحدهما سهلا والآخر جبلاً، أو كان كل بلد في إِقليم، حكاه المهدي في البحر؛ عن الإِمام يحيى والهادوية. وحُجّة أهل هذه الأقوال؛ حديث كريب (¬1). ووجه الاحتجاج به أنَّ ابن عبّاس لم يعمل برؤية أهل الشام. وقال في آخر الحديث: "هكذا أمَرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -"، فدل ذلك على أنَّه قد حفظ من رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أنه لا يلزم أهل بلدٍ العمل برُؤية أهل بلد آخر". وقد تقدّم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته وأفطرِوا لرؤيته". فهذا خطاب لجميع الأمّة، فكما أنَّ رؤية الواحد كالرؤية لأهل البلد؛ كانت الرؤية في البلد؛ كالرؤية في كلّ البلاد. وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 107): ¬

_ (¬1) انظر ما فصّله الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 123).

" ... فالضابط أنَّ مدار هذا الأمر على البلوغ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته" فمن بلغه أنه رؤي؛ ثبت في حقّه؛ من غير تحديدٍ بمسافة أصلاً ... ". وقال -رحمه الله- (ص 111): " ... ومن حدّد ذلك بمسافة قصر أو إِقليم؛ فقوله مخالفٌ للعقل والشرع". وجاء في "الروضة النديّة" (1/ 537): "وإذا رآه أهل بلدٍ؛ لزم سائر البلاد الموافقة، وجْهُهُ الأحاديث المصرحة بالصيام لرؤيته والإِفطار لرؤيته، وهي خطاب لجميع الأمّة، فمن رآه منهم في أيّ مكان كان ذلك رؤيةً لجميعهم". وقد استدلّ من رأى أنَّ لأهل كل بلد رؤيتهم، وأنّه لا يلزمهم رؤية غيرهم؛ بحديث كُريب "أنَّ أمّ الفضل بنت الحارث بعَثته إِلى معاوية بالشام. قال: فقدِمتُ الشام، فقضيتُ حاجتها واسْتُهِلَّ (¬1) عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيتُ الهلال ليلة الجمعة، ثمّ قدِمتُ المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عبّاس -رضي الله عنهما- ثمّ ذكَر الهلال فقال: رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنَّا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه. ¬

_ (¬1) أي: ظهر عليّ هلال رمضان.

فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا؛ هكذا أمَرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وشك يحيى بن يحيى في: نكتفي أو تكتفي" (¬1). جاء في "الشرح الكبير" لشمسِ الدين بن قدامة (3/ 8): " ... فأما حديث كريب؛ فإِنما دل على أنّهم لا يفطرون بقول كريب وحده -ونحن نقول به- وإنما محلّ الخلاف وجوب قضاء اليوم الأول، وليس هو في الحديث". وجاء في "الروضة النديّة" (1/ 537): "وأمَّا استدلال من استدل بحديث كريب ... أنّه استهلَّ عليه رمضان وهو بالشام، فرأى الهلال ليلة الجمعة، فقدم المدينة فأخبر بذلك ابن عبّاس فقال: لكنَّا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نُكْمِل ثلاثين أو نراه. ثمّ قال: هكذا أمَرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... فغير صحيح (¬2)، لأنه لم يُصرّح ابن عبّاس بأنّ النّبيّ- صلى الله تعالى عليه وسلم- أمَرهم بأن لا يعملوا برؤية غيرهم من أهل الأقطار، بل أراد ابن عبّاس أنه أمرهم بإِكمال الثلاثين أو يروه، ظنّاً منه أنّ المراد بالرؤية رؤية أهل المحلّ. وهذا خطأ في الاستدلال؛ أوقع الناس في الخبط والخلط حتى تفرّقوا في ذلك على ثمانية مذاهب. وقد أوضح الماتن المقام في الرسالة التي سمّاها "إِطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1087. (¬2) أي: في الاستدلال به لا في الحُكم على صحّة الحديث.

قال في "المسوى": "لا خلاف في أنّ رؤية بعض أهل البلد موجبة على الباقين، واختلفوا في لزوم رؤية أهل بلد أهل بلد آخر. والأقوى عند الشافعي؛ يلزم حُكم البلد القريب دون البعيد، وعند أبي حنيفة يلزم مطلقاً". وجاء في "نيل الأوطار" (4/ 267): "واعلم أن الحجَّة إِنِّما هي في المرفوع من رواية ابن عبّاس؛ لا في اجتهاده الذي فهم عنه الناس والمشار إِليه بقوله هكذا أمَرنا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم -هو قوله: "فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، والأمر الكائن من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- هو ما أخرَجه الشيخان وغيرهما بلفظ: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه فإِن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". وهذا لا يختص بأهل ناحية؛ على جهة الانفراد، بل هو خطاب لكلّ من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد، أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم، لأنّه إِذا رآه أهل بلد؛ فقد رآه المسلمون، فيلزم غيرهم ما لزِمهم. ولو سلم توجُّه الإِشارة في كلام ابن عبّاس إِلى عدم لزوم رؤية أهل بلد لأهل بلد آخر؛ لكان عدم اللزوم مقيّداً بدليل العقل، وهو أن يكون بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع. وعدم عمل ابن عبّاس برؤية أهل الشام مع عدم البعد الذي يمكن معه الاختلاف؛ عملٌ بالاجتهاد وليس بحُجّة ... ". وقال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 398): " ... إِنّ

حديث ابن عبّاس ورَد فيمن صام على رؤية بلده، ثمّ بلَغه في أثناء رمضان أنهم رأوا الهلال في بلد آخر قبله بيوم، ففي هذه الحالة؛ يستمر في الصيام مع أهل بلده حتى يكملوا ثلاثين، أو يروا هلالهم، وبذلك يزول الإِشكال. ويبقى حديث أبي هريرة وغيره على عمومه؛ يشمل كل من بلَغه رؤية الهلال من أي بلد أو إِقليم؛ من غير تحديد مسافة أصلاً؛ كما قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (25/ 107)، وهذا أمر متيسِّر اليوم كما هو معلوم، ولكنّه يتطلّب شيئاً من اهتمام الدول الإِسلامية حتى تجعله حقيقة واقعية إِن شاء الله -تبارك وتعالى-. وإلى أن تجتمع الدول الإِسلامية على ذلك؛ فإِنّي أرى على شَعْب كل دولة أن يصوم مع دولته، ولا ينقسم على نفسه، فيصوم بعضهم معها، وبعضهم مع غيرها -تقدّمت في صيامها أو تأخّرت- لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف في الشَّعب الواحد، كما وقع في بعض الدول العربية، منذ بضع سنين. والله المستعان". انتهى. وعن الحسن في رجل كان بمصر من الأمصار، فصام يوم الاثنين، وشهد رجلان أنهما رأيا الهلال ليلة الأحد. فقال: لا يقضي ذلك اليوم الرجل، ولا أهلُ مِصره، إِلا أن يعلموا أنَّ أهل مصر من أمصار المسلمين؟ قد صاموا يوم الأحد فيقضونه" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2045)، وقال شيخنا -رحمه الله-: صحيح مقطوع.

إذا أغمي هلال شوال وأصبح الناس صياما

إِذا أُغْمِيَ هلال شوال وأصبح النَّاس صياماً عن أبي عُمير بن أنس بن مالك قال: "حدَّثني عمومتي من الأنصار من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: أُغْمِي علينا هلال شوّال، فأصبحنا صياماً، فجاء رَكْب من آخر النَّهار، فشَهِدوا عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّهم رأوا الهلال بالأمس. فأمَرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يفطروا، وأن يخرجوا إِلى عيدهم من الغد" (¬1). هل يصوم أو يُفطر مَنْ رأى الهلال وحده؟ اختلف العلماء في هذا، فمنهم من رأى إِيجاب الصوم والفطر لمن انفرد برؤية الهلال؛ استناداً إِلى الحديث المتقدّم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته". ومنهم من رأى أنه لا يصوم ولا يُفطر إلاَّ مع الناس؛ استناداً لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم يومَ تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون" (¬2). وعن مسروق قال: "دخلت على عائشة يوم عرفة، فقالت: اسقوا مسروقاً سويقاً، وأكثروا حلواه. قال: فقلت: إِنِّي لم يمنعني أن أصوم اليوم إلاَّ أنّي خفْتُ أن يكون يوم النحر، فقالت عائشة: النحر يوم ينحر الناس، والفطر يوم يفطر الناس" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1340) وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (634). (¬2) أخرجه الترمذي وغيره، وانظر "الصحيحة" (224). (¬3) وحسنه شيخنا -رحمه الله- لغيره في "الصحيحة" تحت الحديث (224).

قال شيخنا -رحمه الله- عقب حديث: "الصوم يوم تصومون ... " في "الصحيحة" (1/ 443): " ... قال الترمذي عقب الحديث: "وفسّر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقال: إِنّما معنى هذا؛ الصوم والفطر مع الجماعة وعِظَم الناس". وقال الصنعاني في "سبل السلام" (2/ 72): "فيه دليل على أن يُعتَبر في ثبوت العيد الموافقة للناس، وأنّ المتفرد بمعرفة يوم العيد بالرؤية يجب عليه موافقة غيره، ويلزمه حُكمهم في الصلاة والإِفطار والأضحية. وذكَر معنى هذا ابن القيم -رحمه الله- في "تهذيب السنن" (3/ 214)، وقال: "وقيل: فيه الردُّ على من يقول: إِنَّ مَنْ عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل، جاز له أن يصوم ويفطر؛ دون مَنْ لم يعلم. وقيل: إِنَّ الشاهد الواحد إِذا رأى الهلال، ولم يحكم القاضي بشهادته أنّه لا يكون هذا له صوماً، كما لم يكن للناس. وقال أبو الحسن السندي في "حاشيته على ابن ماجه" -بعد أن ذكَر حديث أبي هريرة عند الترمذي-: "والظاهر أنه معناه أنَّ هذه الأمور ليس للآحاد فيها دخل، وليس لهم التفرُّد فيها؛ بل الأمر فيها إِلى الإمام والجماعة، ويجب على الآحاد اتباعهم للإِمام والجماعة. وعلى هذا؛ فإِذا رأى أحد الهلال، وردَّ الإِمام شهادته؛ ينبغي أن لا يثبت في حقّه شيء من هذه الأمور، ويجب عليه أن يتَّبع الجماعة في ذلك". قلت: -أي شيخنا رحمه الله-: وهذا المعنى هو المتبادر من

الحديث، ويؤيده احتجاج عائشة به على مسروق؛ حين امتنع من صيام يوم عرفة، خشية أن يكون يوم النحر، فبيّنت له أنه لا عبرة برأيه، وأنّ عليه اتباع الجماعة؟ فقالت: "النحر يوم ينحر الناس، والفطر يوم يفطر الناس". قلت: -أي شيخنا رحمه الله-: وهذا هو اللائق بالشريعة السمحة؛ التي من غاياتها تجميع الناس وتوحيد صفوفهم، وإبعادهم عن كل ما يفرّق جمْعهم من الآراء الفردية، فلا تعتبر الشريعة رأي الفرد -ولو كان صواباً من وِجهة نظره- في عبادة جماعية؛ كالصوم والتَّعييد وصلاة الجماعة. ألا ترى أنّ الصحابة -رضي الله عنهم- كان يصلّي بعضهم وراء بعض، وفيهم من يرى أنّ مسّ المرأة والعضو وخروج الدم من نواقض الوضوء، ومنهم من لا يرى ذلك، ومنهم من يُتمّ في السفر، ومنهم من يقصر؟! فلم يكن اختلافهم هذا وغيره؛ ليمنعهم من الاجتماع في الصلاة وراء الإِمام الواحد، والاعتداد بها، وذلك لعلمهم بأن التفرُّق في الدين شرٌّ من الاختلاف في بعض الآراء. ولقد بلغ الأمر ببعضهم في عدم الاعتداد بالرأي المخالف لرأي الإِمام الأعظم في المجتمع الأكبر كـ (منى)، إِلى حدّ ترْك العمل برأيه إِطلاقاً في ذلك المجتمع؛ فراراً ممّا قد ينتج من الشر بسبب العمل برأيه. فروى أبو داود (1/ 307) أنَّ عثمان -رضي الله عنه- صلّى بمنى أربعاً، فقال عبد الله بن مسعود مُنكِراً عليه: صلّيتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ومع عثمان صدراً من إِمارته ثمّ

أتمَّها، ثمَّ تفرَّقت بكم الطرق، فلوددتُ أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبَّلتين. ثمّ إِنّ ابن مسعود صلّى أربعاً! فقيل له: عبت على عثمان ثمّ صلّيت أربعاً؟! قال: الخلاف شرٌّ. وسنده صحيح. وروى أحمد (5/ 155) نحو هذا عن أبي ذرّ -رضى الله عنهم أجمعين-. فليتأمّل في هذا الحديث وفي الأثر المذكور؛ أولئك الذين لا يزالون يتفرَّقون في صلواتهم، ولا يقتدون ببعض أئمّة المساجد، وخاصّة في صلاة الوتر في رمضان؛ بحُجّة كونهم على خلاف مذهبهم! وبعض أولئك الذين يدّعون العلم بالفلك ممّن يصوم وحده ويفطر وحده؛ متقدّماً أو متأخِّراً على جماعة المسلمين؛ معتدّاً برأيه وعلمه؛ غير مبال بالخروج عنهم ... " انتهى. وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 204): "فالمنفرد برؤية هلال شوال، لا يفطر علانية؛ باتفاق العلماء، إِلا أن يكون له عذر يبيح الفطر كمرض وسفر، وهل يفطر سراًّ؟ على قولين للعلماء أصحّهما لا يفطر سرّاً، وهو مذهب مالك وأحمد في المشهور في مذهبهما". وقال شيخنا في الردّ على السيد سابق -رحمهما الله تعالى- في "تمام المِنّة" (ص 399): "ومِن (مَنْ رأى الهلال وحده) وتحت هذا العنوان الجانبي قال: "واتفقَت أئمّة الفقه على أنّ مَن أبصَر هلال الصوم وحده أن

يصوم". فأقول: هذا ليس على إِطلاقه، بل فيه تفصيل ذكَره شيخ الإِسلام ابن تيمية في فتوى له، فقال (25/ 114): "إِذا رأى هلال الصوم وحده، أو هلال الفطر وحده، فهل عليه أن يصوم برؤية نفسه، أو يفطر برؤية نفسه؟ أم لا يصوم ولا يفطر إِلا مع النّاس؟ على ثلاثة أقوال؛ هي ثلاث روايات عن أحمد". ثمّ ذكَرها، والذي يهمّنا ذِكره منها ما وافق الحديث، وهو قوله: "والثالث: يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال، لقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صومكم يوم تصومون، وفِطركم يوم تُفطرون، وأضحاكم يوم تُضْحون". رواه الترمذي وقال: حسن غريب. قال: وفسّر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إِنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعِظَم الناس". وهذا الحديث مخرج في "الصحيحة" (224)، و"الإِرواء" (905) من طرق عن أبي هريرة، فمن شاء رجَع إِليها. ثمّ قال ابن تيمية (117) -رحمه الله تعالى-: "لكن من كان في مكان ليس فيه غيره، إِذا رآه صام، فإِنه ليس هناك غيره"". انتهى. قلت: وهذا الذي ينبغي أن يصار إِليه، إِذ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون ... ". يُفهِم أنّ هذا جاء لإِلغاء الصوم أو الفطر الفردي، سواءٌ أصحّت الرُّؤية أم لم تصحّ، وإلا فلا قيمة للحديث ألبتة عياذاً بالله. والله أعلم.

أركان الصوم

أركان الصوم 1 - النيّة: قال الله تعالى: {وما أُمروا إِلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين حُنَفَاء (¬1)} (¬2). وعن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنَّما الأعمال بالنيات، وإنِّما لكلِّ امرئٍ ما نوى" (¬3). ولا بُدّ من أن تكون النيّة قبل الفجر من كلّ ليلة؛ لحديث حفصة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يُجمع (¬4) الصيام قبل الفجر فلا صيام له" (¬5). جاء في "الروضة الندية" (1/ 539): "وأمَّا أنَّه يجب تجديد النية لكلّ يوم؛ فلا يخفى أنَّ النيّة هي مجرّد القصد إِلى الشيء، أو الإِرادة له من دون اعتبار أمر آخر. ولا ريب أنّ من قام في وقت السحر، وتناوَل طعامه وشرابه في ذلك الوقت من دون عادة له به في غير أيّام الصوم؛ فقد حصَل له القصد المعتبر، لأنّ أفعال العقلاء لا تخلو عن ذلك" انتهى. ¬

_ (¬1) حُنفاء: أي: مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإِسلام. "تفسير البغوى". (¬2) البيِّنة: 5. (¬3) أخرجه البخاري: 1، ومسلم: 1907. (¬4) الإِجماع: إِحكام النيّة والعزيمة؛ أجمعْتُ الرأي وأزْمعْته وعزمْت عليه؛ بمعنى". "النهاية". (¬5) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (1933) ومن طريقه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2143)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (914).

أمّا صيام التطوّع؛ فالأمر فيه أوسع، فإِنّه يمكن لمن لم يبيّت النية من الليل أنْ ينوي ذلك في النهار. فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم: "يا عائشة! هل عندكم شيء؟ " قالت: فقلت يا رسول الله ما عندنا شيء. قال: "فإِني صائم" (¬1). وبوّب له ابن خزيمة -رحمه الله- بقوله: "باب الدليل على أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد بقوله: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" الواجب من الصيام دون التطوّع منه". وذكَر حديث عائشة -رضي الله عنها- وهناك من ذهب من العلماء أنها تجزئ قبل الزوال وبعده، ومنهم من قال: قبل الزوال. قال النووي -رحمه الله- في تبويب "صحيح مسلم" (2/ 808) " باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال. وسألت شيخنا -رحمه الله- عن ذلك فقال: "قبل الزوال". 2 - الإمساك عن المفطّرات؛ من طلوع الفجر إِلى غروب الشمس. قال الله تعالى: {فالآن باشروهنّ (¬2) وابتغوا ما كتب الله لكم (¬3) وكلوا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1154. (¬2) أي: جامعوهنّ. (¬3) يعني من الولد.

على من يجب؟

واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود (¬1) من الفجر ثمّ أتمّوا الصيام إِلى الليل} " (¬2). على من يجب؟ يجب صوم رمضان على المسلم العاقل البالغ الصحيح المقيم ويجب أن تكون المرأة طاهرة من الحيض والنّفاس (¬3). ¬

_ (¬1) وهو سواد الليل وبياض النهار كما في "صحيح البخاري" (1917)، و"مسلم" (1091)، من حديث سهل بن سعد قال: "أنزلت {وكُلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} ولم ينزل {من الفجر} فكان رجالٌ إِذا أرادوا الصوم ربَط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبيّن له رؤيتهما، فأنزَل الله بعد {من الفجر} فعلموا أنّه إِنّما يعني الليل والنهار". عن البراء -رضي الله عنه- "لمّا نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كلّه، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله {عَلِم الله أنَّكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم} ". أخرجه البخاري: 4508. وفي رواية له (1915): "كان أصحاب محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا كان الرجل صائماً فحضَر الإِفطار فنام قبل أن يفطر؛ لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإنّ قيس بن صِرمة الأنصاري كان صائماً، فلما حضر الإِفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلِق فأطلُب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلمّا رأته قالت: خيبةً لك، فلمّا انتصف النهار غُشي عليه، فذكَر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت هذه الآية: {أُحلَّ لكم ليلة الصيام الرفث إِلى نسائكم} ففرحوا بها فرحاً شديداً، ونزلت {وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} ". (¬2) البقرة: 187. (¬3) "فقه السنة" (1/ 438) بحذف يسير.

صيام الصبي

ودليل عدم وجوبه على المجنون وغير البالغ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل" (¬1). ودليل عدم وجوبه على غير الصحيح والمقيم قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعِدّة (¬2) من أيّام أُخر (¬3)} (¬4). صيام الصبي ومع ما تقدّم من القول بعدم وجوب الصوم على الصبي؛ إلاَّ أنه ينبغي على وليِّ أمْره؛ أن يوجّهه إِلى الصوم؛ ليعتاده وينشأ عليه منذ صِغَره. عن الرُبَيِّع بنت مُعَوِّذ قالت: "أرسل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة عاشوراء إِلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتمّ بقيّة يومه، ومن أصبح صائماً فليصم. قالت: فكنّا نصومه بعدُ، ونصَوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العِهن (¬5)، فإِذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك؛ حتى يكون عند ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3703) وغيره، وانظر "الإِرواء" (297)، وتقدّم في "كتاب الزكاة". (¬2) أي: فعليه عِدّة، والعدد والعِدّة واحد. (¬3) {من أيّام أُخر} أي: غير أيّام مرضه وسفره. "تفسير البغوي". (¬4) البقرة: 184. (¬5) أي: الصوف.

من يرخص لهم في الفطر وتجب عليهم الفدية

الإِفطار" (¬1). وفي رواية: "ونصنع لهم اللعبة من العِهن، فنذهب به معنا، فإِذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تُلهيهم حتى يتمُّوا صومهم" (¬2). قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 200): "والجمهور على أنه لا يجب على من دون البلوغ، واستحبّ جماعة من السلف منهم ابن سيرين والزهري. وقال به الشافعي أنهم يؤمرون به للتمرين عليه إِذا أطاقوه، وحدّه أصحابه بالسبع والعشر كالصلاة، وحَدّه إِسحاق باثنتي عشرة سنة، وأحمد في رواية بعشر سنين ... ". وقال -رحمه الله- (ص 201): "وفي الحديث حُجة على مشروعية تمرين الصبيان على الصيام كما تقدّم لأنّ من كان في مثل السن الذي ذُكر في هذا الحديث؛ فهو غير مكلّف، وإنما صنَع لهم ذلك للتمرين". من يُرخّص لهم في الفطر وتجب عليهم الفدية * يرخص الفطر للشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمريض الذي لا يرجى برؤه، وأصحاب الأعمال الشاقة، الذين لا يجدون متسعاً من الرزق، غير ما يزاولونه من أعمال. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1960، ومسلم: 1136. (¬2) أخرجه مسلم: 1136.

هؤلاء جميعاً يُرخّص لهم في الفطر، إِذا كان الصيام يُجْهدهم، ويشقّ عليهم مشقّة شديدة في جميع فصول السنة.* (¬1) وجاء في "الروضة النديّة" (1/ 552) (¬2): وفي لفظ آخر عن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أنه قال: "كنّا في رمضان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من شاء صام ومن شاء أفطر فَافْتَدَى بطعام مسكين، حتى أُنزلت هذه الآية: {فمن شهِد منكم الشهر فليصُمه} " (¬3). والكبير العاجز عن الأداء والقضاء؛ يُكفِّر عن كل يوم بإِطعام مسكين؛ لحديث سلمة بن الأكوع الثابت في "الصحيحين" وغيرهما قال: "لمّا نزلت هذه الآية: {وعلى الذين يطيقونه فِديةٌ طعامُ مسكين} (¬4) كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسَخَتها (¬5) " (¬6). وأخرج هذا الحديث أحمد وأبو داود عن معاذ بنحو ما تقدّم وزاد: "ثمّ ¬

_ (¬1) العنوان وما بين نجمتين من "فقة السنة" (1/ 439). (¬2) بزيادة اللفظ الثاني لسلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه مسلم: 1145. (¬4) البقرة: 184. (¬5) فنسختها: يعني أنهم كانوا مُخيّرين في صدر الإسلام بين الصوم والفدية، ثمّ نُسخ التخيير بتعيين الصوم بقوله تعالى: {فمن شَهد منكم الشهر فليصُمه} قاله المعلِّق على "صحيح مسلم" -رحمه الله-. (¬6) أخرجه البخاري: 4507، ومسلم: 1145.

أنزَل الله: {فمن شهِد منكم الشهر فليصمه} " (¬1). فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخّص فيه للمريض والمسافر، وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام". وعن عطاء أنه سمع ابن عبّاس يقرأ: " {وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين} قال ابن عبّاس: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة؛ لا يستطيعان أن يصوما، فيُطعمان مكان كلّ يوم مسكيناً" (¬2). قال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 17): "ورواه النسائي (1/ 318 - 319) من طريق ورقاء عن عمرو بن دينار به نحوه، ولفظه: " {يطيقونه} يكلَّفونه، {فديةٌ طعام مسكين فمن تطوّع خيراً} طعام مسكين آخر، ليست بمنسوخة {فهو خير له وأن تصوموا خير لكم} لا يرخّص في هذا؛ إِلا للذي لا يطيق الصيام، أو مريض لا يشفى. قلت: وإسناده صحيح ... ". وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 217): "وسُئل عن رجل كلَّما أراد أن يصوم أُغمِي عليه، ويزبد ويخبط، فيبقى أيّاماً لا يفيق، حتى يُتّهم أنّه جنون، ولم يتحقّق ذلك منه. فأجاب: الحمد لله، إِنْ كان الصوم يوجب له مِثل هذا المرض؛ فإِنه يُفطِر ويقضي، فإِنْ كان هذا يصيبه في أي وقتٍ صام؛ كان عاجزاً عن الصيام؛ فيُطعم عن كل يوم مسكيناً، والله أعلم". ¬

_ (¬1) "صحيح سنن أبي داود" (479). (¬2) أخرجه البخاري: 4505.

والحُبلى والمرضع إِذا لم تطيقا الصوم أو خافتا على أنفسهما أو أولادهما أفطرتا وعليهما الفدية، ولا قضاء عليهما. عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "إِذا خافت الحامل على نفسها، والمرضع على ولدها في رمضان قال: يُفطران، ويُطعمان مكان كل يوم مسكيناً، ولا يقضيان صوماً" (¬1). قال شيخنا في "الإِرواء" (4/ 19): "وفي رواية له (¬2) بالسند المذكور عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: "أنّه رأى أمّ ولد له حاملاً أو مرضعاً فقال: أنتِ بمنزلة الذي لا يطيق، عليكِ أن تطعمي مكان كلّ يوم مسكيناً، ولا قضاء عليك". زاد في رواية (2761) عن سعيد به: "أنَّ هذا إِذا خافت على نفسها". ورواه الدارقطني (250) من طريق روح عن سعيد به بلفظ: "أنتِ من الذين لا يطيقون الصيام، عليك الجزاء، وليس عليك القضاء". وقال الدارقطني: "إِسناده صحيح". ثمّ روى من طريق أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس وابن عمر قال: "الحامل والمرضع تفطر ولا تقضي". وقال: "وهذا صحيح". قلت -أي شيخنا رحمه الله-: ورواه ابن جرير من طريق علي بن ثابت ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 19): وإِسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) أي: للطبري -رحمه الله-.

عن نافع عن ابن عمر مِثل قول ابن عبّاس في الحامل والمرضع، وسنده صحيح ولم يسُق لفظه. وقد رواه الدارقطني من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر: "أن امرأته سألته وهي حُبْلى، فقال: أفطري، وأطعمي عن كل يوم مسكيناً، ولا تقضي"، وإسناده جيد. ومن طريق عبيد الله عن نافع قال: "كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش، وكانت حاملاً، فأصابها عطش في رمضان، فأمَرها ابن عمر أن تُفطر وتُطعم عن كلّ يوم مسكيناً"، وإِسناده صحيح. ومنها ما عند الدارقطني وصححه من طريق منصور عن مجاهد عن ابن عبّاس قرأ: {وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين} يقول: "هو الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام فيُفطر ويُطعم عن كلّ يوم مسكيناً؛ نصف صاع من حنطة". وأخرجه (249) من طريق عكرمة عن ابن عبّاس قال: "إِذا عجَز الشيخ الكبير عن الصيام؛ أطعم عن كلّ يوم مُدّاً مُدّاً". وقال: "إِسناده صحيح". وعن أنس بن مالك الكعبي (¬1) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ الله وضع عن ¬

_ (¬1) جاء في "عون المعبود" (7/ 33): "قال في "المرقاة" هو من بني عبد الله بن كعب على ما جَزم به البخاري في ترجمته، وجرى عليه أبو داود فقال: رجل من بني عبد الله بن كعب، أخوه قشير فهو كعبي لا قشيري؛ خلافاً لما وقع لابن عبد البر؛ لأنّ كعباً له ابنان عبد الله جد أنس هذا، وقشير وهو أخو عبد الله ... وأما أنس بن مالك خادم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو أنصاري خزرجي. انتهى".

من يرخص لهم في الفطر، ويجب عليهم القضاء

المسافر شطر الصلاة، والصوم عن المسافر وعن المرضع والحبلى" (¬1). من يرخص لهم في الفطر، ويجب عليهم القضاء * يباح الفِطْر للمريض الذي يُرجى برؤه والمسافر، ويجب عليهما القضاء. * (¬2) قال الله تعالى: {ومن كان منكم مريضاً أو على سفر فعِدَّةٌ من أيّامٍ أُخر} (¬3). وفي حديث معاذ بن جبل الطويل -رضي الله عنه-: " ... فإِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر، ويصوم يوم عاشوراء، فأنزل الله تعالى {كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم} إِلى قوله: {طعام مسكين}. فكان من شاء أن يصوم صام، ومن شاء أن يُفطر ويُطعم كلّ يوم مسكيناً أجزأه ذلك، وهذا حول، فأنزل الله تعالى: {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن} إِلى {أيّام أُخر} فثبت الصيام على من شهد الشهر، وعلى المسافر أن يقضي، وثبت الطعام للشيخ الكبير والعجوز اللذين لا يستطيعان الصوم" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2107)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2146)، والترمذي وابن ماجه، وانظر "المشكاة" (2025). (¬2) العنوان وما بين نجمتين من "فقه السنة" (1/ 441). (¬3) البقرة: 185. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (479)، وغيره، وانظر "الإرواء" (4/ 20)، وتقدّم.

وأما الرخصة للمسافر؛ ففيها أحاديث عديدة؛ منها:

وعن أنس بن مالك أنه ضعُف عن الصوم عاماً، فصنع جفنة ثريد، ودعا ثلاثين مسكيناً فأشبَعهم" (¬1). * والصحيح الذي يخاف المرض بالصيام يُفطر، مِثل المريض، وكذلك من غلَبه الجوع أو العطش، فخاف الهلاك، لزِمه الفطر، وإِنْ كان صحيحاً مقيماً، وعليه القضاء. قال الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيماً} (¬2)، وقال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (¬3). وإِذا صام المريض، وتحمَّل المشقَّة، صحّ صومه، إِلا أنه يُكره له ذلك؛ لإِعراضه عن الرخصة التي يحبها الله، وقد يلحقه بذلك ضرر. * (¬4) وأمَّا الرُّخصة للمسافر؛ ففيها أحاديث عديدة؛ منها: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "غزونا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لستَّ عشرة مضَت من رمضان، فمنّا من صام ومنّا من أفطَر، فلم يَعِبِ الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" (¬5). وعن حمزة بن عمرو الأسلمي أنّه قال للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أأصوم في السفر؟ ¬

_ (¬1) قال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 22): وسنده صحيح .. وعلّق البخاري بنحوه. (¬2) النساء: 29. (¬3) الحج: 78. (¬4) ما بين نجمتين عن "فقه السنة" (1/ 554). (¬5) أخرجه مسلم: 1116.

أيهما أفضل للمريض والمسافر؛ الفطر أم الصوم؟

-وكان كثير الصيام- فقال: إنْ شئت فصم، وإنْ شئت فأفطرِ" (¬1). وفي رواية: "أنّه قال: يا رسول الله! أجد بي قوَّة على الصِّيام في السفر، فهل عليّ جُناح؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هي رخصة من الله، فمن أخَذ بها فحسَن، ومن أحبَّ أن يصوم فلا جُناح عليه" (¬2). قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (¬3) (1/ 377): بعد كلام طويل: "والحقّ أنّ الحديث يفيد التخيير لا التفضيل". أيّهما أفضل للمريض والمسافر؛ الفطر أم الصوم؟ إِذا لم يجد المسافر أو المريض مشقةً في الصوم، جاز له الصوم، وإن وجدا المشقّة فعليهما أن يُفطِرا. فعن أنس -رضي الله عنه- قال: كنّا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر، فمنّا الصائم ومنّا المفطر، قال: فنزلنا مَنْزِلاً في يوم حارّ أكثرُنا ظلاًّ صاحب الكساء (¬4)، ومنّا من يتّقي الشمس بيده. قال: فسقط الصُّوَّام (¬5)، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسَقَوُا الرِّكاب (¬6)، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1934. (¬2) أخرجه مسلم: 1121. (¬3) انظره للمزيد من الفوائد الفقهية إِن شئت. (¬4) في رواية البخاري -رحمه الله-: " ... أكثرُنا ظلاًّ الذي يستظلّ بكسائه". (¬5) أي: لضعفهم. (¬6) الرّكاب: الإِبل التي يُسار عليها، الواحدة راحلة، ولا واحدة لها من لفظها. "مختار الصحاح".

فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذهب المُفطرون اليوم بالأجر" (¬1). وعن قَزَعَة قال: "أتيت أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- وهو مكثور عليه (¬2)، فلما تفرّق الناس عنه، قلت: إِني لا أسألك عمَّا يسألك هؤلاء عنه، سألته عن الصوم في السفر، فقال: سافَرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى مكّة ونحن صيام. قال: فنزَلنا منزلاً، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنكم قد دنوتم من عدوِّكم، والفطر أقوى لكم". فكانت رخصة، فمنّا من صام ومنّا من أفطر. ثمّ نزلنا منزِلاً آخر، فقال: "إِنكم مُصَبِّحو عدوِّكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا". وكانت عَزْمَة (¬3)، فأفطرنا ثمّ قال: لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك في السفر" (¬4). وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- " أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج عام الفتح إِلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كُرَاعَ الغميم، فصام الناس، ثمّ دعا بقدح من ماء فرفَعه، حتى نظر الناس إِليه، ثمّ شرب. فقيل له بعد ذلك: إِنَّ بعض الناس قد صام. فقال: أولئك العُصاة، أولئك العصاة" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2890، ومسلم: 1119، واللفظ له. (¬2) قال في "النهاية": "يقال: رجل مكثور عليه، إذا كثُرت عليه الحقوق والمطالبات، أراد أنّه كان عنده جمع من الناس؛ يسألونه عن أشياء، فكأنهم كان لهم عليه حقوقٌ، فهم يطلبونها". (¬3) العَزْمة: ضدّ الرخصة. (¬4) أخرجه مسلم: 1120. (¬5) أخرجه مسلم: 1114.

قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 256): وفي خَبَر أبي سعيد أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى على نهر من ماء السماء من هذا الجنس أيضاً. قال في الخبر: "إِنّي لست مثلكم، إِني راكب وأنتم مشاة، إِني أيسركم" (¬1). قال ابن خزيمة -رحمه الله-: "فهذا الخبر دلّ على أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صام وأمرَهم بالفطر في الابتداء، إِذ كان الصوم لا يَشُقّ عليه إِذ كان راكباً، له ظهْر لا يحتاج إِلى المشي، وأمَرهم بالفطر إِذ كانوا مشاة يشتدُّ عليهم الصوم مع الرجَّالة (¬2). فسمّاهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عصاة إِذ امتنعوا من الفطر بعد أمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِياهم، بعد عِلمه أن يشتد الصوم عليهم، إِذ لا ظهر لهم، وهم يحتاجون إِلى المشي". وعن جابر قال: "مرّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل يقلب ظهره لبطنه، فسأل عنه، فقالوا: صائم يا نبي الله! فدعاه، فأمَره أن يفطر فقال: أَمَا يكفيك في سبيل الله، ومع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تصوم؟! " (¬3). قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (6/ 186): "وله طرق أخرى عن جابر بنحوه في "الصحيحين" وغيرهما، وهي مخرجة في "الإِرواء" (925). وفي الحديث دلالة ظاهرة على أنه لا يجوز الصوم في السفر إِذا كان ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد وابن خزيمة في "صحيحه" (2022)، وقال شيخنا: إِسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه ابن حبّان. (¬2) جمع راجل، وهو الماشي على رجليه. (¬3) أخرجه أحمد وإسناده صحيح على شرط مسلم.

يضرّ بالصائم، وعليه يُحمَل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس من البر الصِّيام في السفر". يوضّح ما قاله شيخنا -رحمه الله- مناسبة الحديث؛ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفرٍ فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلِّل عليه فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال: ليس من البرّ الصوم في السفر" (¬1). قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 255): "أي: ليس البر الصوم في السفر؛ حتى يُغشى على الصائم ويحتاج إِلى أن يُظلل ويُنضح عليه، إِذ الله -عزّ وجلّ- رخّص للمسافر في الفطر، وجعل له أن يصوم في أيّام أخر، وأعلم في حُكم تنزيله؛ أنه أراد بهم اليسر لا العسر في ذلك، فمن لم يَقبل يُسر الله، جاز أن يقال له: ليس الحسر أخذك بالعسر عليك من البّر. وقد يجوز أن يكون في هذا الخبر: "ليس البر أن تصوموا في السفر"، أي: ليس كل البرّ هذا، قد يكون البر أيضاً [أن] تصوموا في السفر [و] قبول رخصة الله والإِفطار في السفر". وقوله: "أولئك هم العصاة"، وفيما سوى ذلك فهو مخير إِن شاء الله صام، وإِن شاء أفطر، وهذا خلاصة ما تدل عليه أحاديث الباب، فلا تعارض بينها والحمد لله". وقال -رحمه الله- (ص 260): (باب استحباب الصوم في السفر لمن قوي عليه، والفِطر لمن ضعُف عنه). ثمّ ذكَر حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- المتقدّم ... "فلم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1946، ومسلم: 1115.

هل يجوز له الفطر إذا نوى الصيام وهو مقيم ثم سافر نهارا؟

يَعِبْ المفطر على الصّائم ولا الصّائم على المُفطر". وقال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (1/ 377): " ... يمكن الاستدلال لتفضيل الإِفطار على الصيام بالأحاديث التي تقول: "إِنّ الله يحبّ أن تؤتى رُخَصه كما يَكره أن تؤتى معصيته (وفي رواية: كما يحبّ أن تؤتى عزائمه) " (¬1). وهذا لا مناص من القول به، لكن يمكن أن يقيَّد ذلك بمن لا يتحرج بالقضاء، وليس عليه في الأداء، وإلا عادت الرخصة عليه بخلاف المقصود، فتأمّل". انتهى. وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 213): "وسُئل رحمه الله عمّن يكون مسافراً في رمضان، ولم يُصبه جوع، ولا عطش، ولا تعب، فما الأفضل له، الصيام؟ أم الافطار؟ فأجاب: أمّا المسافر فيفطر باتفاق المسلمين، وإن لم يكن عليه مشقّة، والفطر له أفضل، وإن صام جاز عند أكثر العلماء، ومنهم من يقول لا يجزئه". قلت: والراجح القول الأوّل لِما تقدّم، والله -تعالى- أعلم. هل يجوز له الفطر إِذا نوى الصيام وهو مقيم ثمّ سافر نهاراً؟ إِذا نوى المرء الصيام أو شرع فيه ثمّ سافر أثناء النهار، جاز له الفطر. فعن محمّد بن كعب أنه قال: "أتيتُ أنس بن مالك في رمضان، وهو يريد سفراً، وقد رُحِّلَت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" وغيره، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (564).

له: سُنّة؟ فقال: سُنّة، ثمّ ركب" (¬1). وعن عبيد بن جبير قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في رمضان فدفع، ثمّ قرّب غداءه، ثمّ قال: اقترب، فقلت: ألست في البيوت؟ فقال أبو بصرة: أرغبت عن سُنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ " (¬2). قال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله- عَقِب حديث محمّد بن كعب: "وقد ذهب بعض أهل العلم، إِلى هذا الحديث، وقال: للمسافر أن يفطر في بيته قبل أن يخرج، وليس له أن يقصر الصلاة، حتى يخرج من جدار المدينة أو القرية، وهو قول: إِسحاق بن إِبراهيم". قال الشوكاني -رحمه الله- (¬3): "والحديثان يدلاّن على أنّ للمسافر أن يفطر قبل خروجه؛ من الموضع الذي أراد السفر منه". قال شيخنا -رحمه الله- في كتابه النافع " تصحيح حديث إِفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر" (ص 28) -بعد الحديث الأوّل-: "وله شاهد من القرآن الكريم والسُّنّة: أمّا القرآن: فهو قول الله تبارك وتعالى: {فمن كان مريضاً أو على سفر ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (641)، وانظر "تصحيح حديث إِفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر والردّ على مَن ضعَّفه " لشيخنا -رحمه الله-. (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2109)، وانظر "تمام المِنّة" (ص 400)، و"الإِرواء" (928). (¬3) "نيل الأوطار" (4/ 311)، وذكَره السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (1/ 444).

فعدّةٌ من أيّام أُخَر}، فإِن قوله: {على سفر} يشمل من تأهَّب للسَّفر ولمَّا يخرج، وقد صرّح الإِمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" ... أنّ ذلك مقتضى الآية". ثمّ ذكَر -رحمه الله- للحديث شواهد من السُّنّة منها: 1 - عن اللجلاج قالوا (كذا الأصل: ولعله: اللجلاج وغيره قالوا): كنّا نسافر مع عمر -رضي الله عنه- ثلاثة أميال فيتجوّز في الصلاة ويفطر. رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/ 151/2) بإِسناد حسن أو قريب منه. 2 - عن أنس بن مالك قال: قال لي أبو موسى: ألم أُنبَّأ أنك إِذا خرجْتَ خرجت صائماً، وإذا دخلتَ دخلتَ صائماً؟ فإِذا خرجتَ فاخرج مُفطراً، وإِذا دخلتَ فادخل مُفطراً. رواه الدارقطني (ص 241) والبيهقي (4/ 247) بإِسناد صحيح على شرط الستة. 3 - عن نافع عن ابن عمر أنه خرَج في رمضان فأفطرَ. رواه ابن أبي شيبة (2/ 151/1) بإِسناد رجاله ثقات. 4 - عن ابن عبّاس قال: إِنْ شاء صام وإنْ شاء أفطر. رواه ابن أبي شيبة في "باب ما قالوا في الرجل يُدركه رمضان، فيصوم ثمّ يسافر"، (2/ 151/1) وإسناده صحيح. 5 - عن مغيرة قال: خرج أبو ميسرة في رمضان مسافراً فمرّ بالفرات وهو صائم، فأخذ منه حسوة فشربه وأفطر.

لا يجوز للحائض أو النفساء أن تصوما، ويجب عليهما القضاء

رواه ابن أبي شيبة (2/ 151/1) بإِسناد صحيح. ثمّ روى هو (2/ 151/2) والبيهقي (4/ 247) بسند آخر عنه مختصراً وهو صحيح أيضاً. 6 و7 - عن سعيد بن المسيّب والحسن البصري قالا: يفطر إِنْ شاء. رواه ابن أبي شيبة عقب الأثر الذي قبله وسنده صحيح. وفي رواية عن الحسن البصري: "يفطر إِنْ شاء في بيته؛ يوم يريد أن يخرج" ذكَرها القرطبي في "تفسيره" (2/ 279). ثمّ قال -رحمه الله- (ص 34): "إذا تبيّن أنّ الحديث صحيح بلفظ الإِثبات، فهو حُجّة واضحة لما ذهب إِليه الإِمام إِسحاق بن راهويه، كما حكاه الترمذي عنه، وقد نقله الشيخ عنه -وفي كتاب "المسائل" لإِسحاق بن منصور المروزي (ق 29/ 1 - 2) ما نصه: "قلت (يعني: للإِمام أحمد): إِذا خرج مسافراً متى يفطر؟ قال: إذا برز عن البيوت، قال إِسحاق (يعني ابن راهويه): بل حين يضع رِجله فله الإِفطار؛ كما فعَل ذلك أنس بن مالك، وسنَّ النّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كذا)، وإذا جاوز البيوت قصَر". لا يجوز للحائض أو النفساء أن تصوما، ويجب عليهما القضاء عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أَحَرُوريَّةٌ أنتِ؟ قلت: لست بحَرُوريَّة، ولكنِّي أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمَر بقضاء الصوم ولا نؤمَر بقضاء الصلاة" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 321، ومسلم: 335، وهذا لفظه.

كان صيام تسع وعشرين لرمضان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من صيام ثلاثين

كان صيام تسع وعشرين لرمضان على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من صيام ثلاثين عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لَمَا (¬1) ضمنا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسعاً وعشرين أكثر ممّا صمنا معه ثلاثين" (¬2). وفي لفظ: "ما صُمتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسعاً وعشرين؛ أكثر ممّا صُمنا ثلاثين" (¬3). قال ابن خزيمة في "صحيحه" (3/ 208): "باب الدليل على أنَّ صيام تسع وعشرين لرمضان؛ كان على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من صيام ثلاثين؛ ¬

_ (¬1) لَمَا موصولة أو مصدرية وجاء في "تحفة الأحوذي" (3/ 370): "قال أبو الطَّيِّب السندي في "شرح الترمذي": كلمة "ما" تحتمل أن تكون مصدرية في الموضعين أي: صومي تسعاً وعشرين أكثر من صومي ثلاثين. وتحتمل أن تكون في الموضعين موصولة والعائد محذوف، والتقدير: ما صمته حال كونه تسعاً وعشرين أكثر مما صمناه حال كونه ثلاثين، فيكون تسعاً وعشرين، وكذلك ثلاثين؛ حال من ضمير المفعول المحذوف الراجع إِلى رمضان المراد بالموصول، وعلى التقديرين قوله: "أكثر" مرفوع على الخبرية. والحاصل أنّ الأشهر الناقصة أكثر من الوافية". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2036) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (556)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1922). (¬3) انظر "صحيح سنن الترمذي" (556).

الأيام المنهي عن صيامها

خلاف ما يتوهم بعض الجُهّال والرُّعَاع (¬1) أن الواجب أن يصام لكلّ رمضان ثلاثين يوماً كوامل". ثمّ ذكَر الحديث السابق. الأيّام المنهي عن صيامها 1 - يوما العيدين عن أبي عبيد قال: "شهدتُ العيد مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: هذان يومان نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامهما: يوم فِطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نُسُكِكُم (¬2) " (¬3). قال في "الروضة النديّة" (1/ 566): "وقد أجمع المسلمون على ذلك". 2 - أيّام التشريق (¬4) عن سالم عن ابن عمر -رضي الله عنهم- قالا: "لم يُرخَّصْ أيّام التشريق ¬

_ (¬1) الرُّعاع: جمع رُعاعة [رَعاعة]، وهو من لا قلب له ولا عقل. وانظر "الوسيط"، وفيه: "الرُّعاع من الناس: الغوغاء". وفي "اللسان": "الغوغاء: الجراد حين يخفّ للطيران، ثمّ استعير للسّفَلَة من الناس والمتسرّعين إِلى الشرّ". (¬2) أي: أضاحيكم. (¬3) أخرجه البخاري: 1990، ومسلم: 1137. (¬4) جاء في "النهاية": هي ثلاثة أيّام تلي عيد النحر، سُمّيت بذلك من تشريق اللحم، وهو تقديده وبسْطه في الشمس ليجفّ، لأنّ لحوم الأضاحي؛ كانت تشرق فيها بمِنى، وقيل: سميت به لأن الهَدْي والضحايا لا تُنحر حتى تشرق الشمس: أي: تطلع".

3 - يوم الجمعة منفردا

أن يُصَمْن إِلا لمن لم يجد الهَدي" (¬1). وعن أبي مرّة مولى أمّ هانئ "أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص فقرّب إِليهما طعاماً، فقال: كل، فقال: إِنّي صائم، فقال عمرو: كُلْ؛ فهذه الأيّام التي كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بإِفطارها، وينهانا عن صيامها. قال مالك: وهي أيّام التشريق" (¬2). 3 - يوم الجمعة منفرداً عن جويرية بنت الحارث -رضي الله عنها- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخَل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: أصمتِ أمس؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعْت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلاَّ يوماً قبله أو بعده" (¬4). وعنه -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تختصوا ليلة الجمعة بقيامٍ مِن بين الليالي، ولا تخصّوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيّام؛ إِلا أن يكون في صومٍ يصومه أحدكم" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1997، 1998. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2113). (¬3) أخرجه البخاري: 1986. (¬4) أخرجه البخاري: 1985، ومسلم: 1144. (¬5) أخرجه مسلم: 1144.

4 - يوم السبت في غير الفرض

عن قيس بن سكن قال: "مرّ ناسٌ من أصحاب عبد الله على أبي ذرّ يوم جمعة وهم صيام، فقال: أقسمتُ عليكم لتُفطرنّ، فإِنه يوم عيد" (¬1). 4 - يوم السبت في غير الفرض عن الصمّاء -رضي الله عنها- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تصوموا يوم السبت؛ إِلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إِلا لحاء (¬2) عنبة أو عود شجرة فليمضغه (¬3) " (¬4). قال الإِمام الطحاوي -رحمه الله- بعد أن روى حديث عبد الله بن بسر السابق: " ... فذهَب قومٌ إِلى هذا الحديث؛ فكرِهوا صوم يوم السبت تطوُّعاً، وخالَفهم في ذلك آخرون؛ فلم يروا بصومه بأساً ... " (¬5). وملخّص أقوال العلماء الذين أجازوا صيام السبت لغير فريضة (¬6)، يدور ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (959): وإسناده صحيح. (¬2) أراد قِشر العنبة؛ استعارهَ من قشر العود. "النهاية". (¬3) مضَغه: لاكه بأسنانه، وهذا تأكيد لنفي الصوم. "عون المعبود" (7/ 49). (¬4) أخرجه الترمذي وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1403) والحاكم وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (960)، و"تمام المِنة" (405). (¬5) "شرح معاني الآثار" (2/ 80) وأشار إِليه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 125) (التحقيق الثاني) إِلى نسخته (1/ 339). (¬6) وكانت أقوالهم -رحمهم الله تعالى- مختلفة لا مؤتلفة -والاختلاف في ماهية الشيء يدلّ على وهْنه وضعْفه كما لا يخفى-.

حول تضعيف الحديث السابق أو القول بشذوذه، أو نسخه، أو جواز صيامه مقروناً بغيره (¬1). أمّا من جهة درجة الحديث؛ فقد قال بثبوته جمْع من العلماء، فقد حسّنه الترمذي وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري وأقرّه الذهبي، وصححه ابن خزيمة وابن حبّان، وانظر طرقه في "تلخيص الحبير" للحافظ ابن حجر (2/ 822). و"الإِرواء" (¬2) (960). "أمّا دعوى الشذوذ، فهي إِمّا إِسنادية أو متنية، فمن حيث الإِسناد، فالحديث صحيح دونما ريب. أمّا من حيث المتن، فلم ترِد هذه الدعوى على أصحابها إِلا بعد تعذُّر الجمع والتوفيق عندهم، ولا يُلْجَأُ إِلى ادّعاء الشذوذ بمجرد هذا التعذُّر. وليس التعريف العلمي الاصطلاحي للشذوذ منطبقاً على هذا النوع من مظنّة التعارض، كما لا يخفى" (¬3). انتهى. أمّا دعوى النسخ؛ فإِنَّ النسخ لا يبطل بالاحتمال. وأمّا جواز صيامه مقروناً مع غيره: ¬

_ (¬1) وقد أُلِّفت في ذلك بعض الرسائل منها: "القول الثبت في صوم يوم السبت" لفضيلة الشيخ محمّد الحمود النجدي -حفظه الله تعالى-. (¬2) وانظر كذلك تخريج الشيخ علي الحلبي -حفظه الله- للحديث في كتابه "زهر الروض في حُكم صيام يوم السبت في غير الفرض". (¬3) "زهر الروض" (ص 72).

فليس هنالك ما يشير من الأدلة على ذلك إِذ الاستثناء بيّن ... "إِلا فيما افتُرض عليكم". أوما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قادراً أن يقول: "لا تصوموا يوم السبت مفرداً ... ". أو: "لا تصوموا السبت إِلا مقروناً مع غيره"؟! جاء في "تمام المِنّة" (ص 406): "وتأويل الحديث بالنهي عن صوم السبت مفرداً يأباه قوله: "إِلا فيما افُترض عليكم"، فإِنه كما قال ابن القيم - رحمه الله- في "تهذيب السنن": "دليل على المنع من صومه؛ في غير الفرض مفرداً أو مضافاً؛ لأنّ الاستثناء دليل التناول، وهو يقتضي أنّ النّهي عنه يتناول كل صور صومه إِلا صورة الفرض. ولو كان إِنما يتناول صورة الإِفراد لقال: لا تصوموا يوم السبت إِلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، كما قال في الجمعهَ، فلمّا خصّ الصورة المأذون فيها صومها بالفريضة؛ علم تناول النهي لما قابلها". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: وأيضاً لو كانت صورة الاقتران غير منهي عنها؛ لكان استثناؤها في الحديث أولى من استثناء الفرض؛ لأنّ شبهة شمول الحديث له أبعد من شموله لصورة الاقتران، فإِذا استثنا الفرض وحده؛ دلّ على عدم استثناء غيره؛ كما لا يخفى ... " انتهى. ولنا أن نقول: إِنّ من قال بجواز صيام السبت مقروناً مع غيره في النافلة؛ قد سوَّى بين الجمعة والسبت، وأنّى له هذا؟! وكأنّ لسان حاله يقول: لو قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصوموا يوم الجمعة إِلا فيما افترض عليكم" لأغنى عن كلّ نصوص الجمعة، ومعاذ الله من ذلك.

ثمَّ إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الجمعة ما لم يَقُل في السبت، فممّا قاله في الجمعة -كما تقدّم-: "إِلا أن يكون في صومٍ؛ يصومه أحدكم (¬1) ". وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صيام يوم الشكّ: " ... إِلا أن يكون رجل كان يصوم صومه؛ فليصم ذلك اليوم" (¬2)، فلو جاز صيام السبت لغير فريضة؛ لجاءت الاستثناءات كما جاءت في الجمعة ويوم الشكّ والنصف من شعبان؛ لمن اعتاد الصيام، والله -تعالى- أعلم. لذلك أرى أنّ النصوص كانت على أصناف ثلاثة: 1 - صنف يفيد جواز صيام السبت مطلقاً، كما في حديث جويرية -رضي الله عنها- المتقدّم: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخَل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: أصمتِ أمس؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري". وكحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أحبُّ الصيام إِلى الله صيام داود؛ كان يصوم يوماً ويُفطر يوماً ... " (¬3). وهذا يفيد صيام يوم السبت مفرداً لغير فريضة؛ لمن صام صيام داود -عليه السلام-. إِلى غير ذلك من النصوص. ¬

_ (¬1) وانظر -إِن شئت- "الصحيحة" المجلد الثاني استدراك (16). (¬2) أخرجه البخاري: 1914، ومسلم: 1082، وسيأتي إِن شاء الله تعالى. (¬3) أخرجه البخاري: 3420، ومسلم: 1159.

فكيف يكون التعامل مع هذه النصوص؟

2 - صنف يفيد استواء الطرفين، لا له ولا عليه؛ كما في حديث: عبيد الأعرج قال: "حدَّثتني جدتي أنها دخلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يتغدّى، وذلك يوم السبت، فقال: تعالي فكلي، فقالت: إِني صائمة، فقال لها: صمتِ أمس؟ فقالت: لا، فقال: فكلي؛ فإِنّ صيام يوم السبت لا لك ولا عليك" (¬1). 3 - صنف ثالث يفيد تحريم صيام يوم السبت إِلا لفريضة وقد مضى في أوّل الكلام في موضوعنا؛ من حديث الصمَّاء -رضي الله عنها-. فكيف يكون التعامل مع هذه النصوص؟ إِنَّ من لم يصم السبت لغير فريضة؛ لم يُعارض هذه النصوص أبداً، وهذا يتمشّى مع القاعدة المعروفة "الحاظر مقدّم على المبيح" (¬2). جاء في كتاب "الاعتبار" للعلاّمة الحازمي -رحمه الله- (ص 39) إِشارة إِلى أنه في غير السبت: " ... ولأنّ الإِثم حاصل في فِعل المحظور، ولا إِثم في ترْك المباح، فكان الترك أولى". وقال -رحمه الله- (ص 35): في وجوه الترجيح: " ... أن يكون أحد الحديثين قولاً والآخر فِعلاً، فالقول أبلغ في البيان؛ ولأنّ النّاس لم يختلفوا في كون قوله حُجّة، واختلفوا في اتباع فِعله، ولأنّ الفِعل لا يدلّ لنفسه على شيء؛ بخلاف القول فيكون أقوى". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "الصحيحة" (225). (¬2) قاعدة "الحاظر مقدّم على المبيح"، و"القول مقدّم على الفعل" عند التعارض ممّا يذكره شيخنا -رحمه الله- في موضوع صيام السبت لغير الفريضة، وتحريم الشرب قائماً لغير ضرورة.

ويكون قد نجا من عمل بلا ثواب ولا عقاب "لا لك ولا عليك". وقال شيخنا -رحمه الله- بعد حديث: "لا تصوموا يوم السبت ... ". والحديث ظاهره النّهي عن صوم السبت مطلقاً إِلا في الفرض، وقد ذهب إِليه قومٌ من أهل العلم كما حكاه الطحاوي، وهو صريحٌ في النهي عن صومه مفرداً، ولا أرى فرقاً بين صومه -ولو صادف يوم عرفة أو غيره من الأيّام المفضَّلة- وبين صوم يوم من أيّام العيد إِذا صادف يوم الاثنين أو الخميس؛ لعموم النهي، وهذا قول الجمهور فيما يتعلّق بالعيد؛ كما في "المحلّى" (7/ 27). وقال الشيخ محمود مهدي إِستنبولي -رحمه الله- في كتابه "صوم رمضان" (ص 49): "قلت: والحديث صريح في النهي القطعيِّ عن صومه، ولم يُشِر إِلى كونه منفرداً أو مخصوصاً، فالحمل للحديث على ظاهره هو الأصل. والله أعلم". ويذكّرنا شيخنا -رحمه الله- بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّك لن تدَع شيئاً لله عز وجلّ إلاَّ بدّلك الله به ما هو خيرٌ لك منه" (¬1) فلا يحزنك أنّك لم تصم عرفة أو عاشوراء إِذا وافق السبت؛ لهذا الحديث. ويحضرني في هذا المقام ما قاله البخاري -رحمه الله- في "صحيحه" "ما يُذكَر في الفخِذ ... وقال أنس: حسر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن فَخِذه (¬2)، وحديث ¬

_ (¬1) أخرجه وكيع في "الزهد" وعنه أحمد وغيره، وسنده صحيح على شرط مسلم، وانظر "الضعيفة" تحت رقم (5). (¬2) أخرجه البخاري معلقاً وموصولاً: 371، وانظر "الفتح" (1/ 478) -إِن شئت - للمزيد من الفائدة، وانظر أيضاً "صحيح مسلم" (2401).

5 - يوم الشك

أنس أسند، وحديث جَرهد (¬1) أحوط، حتى يُخرَج من اختلافهم". انظر "الفتح" (1/ 478). وفي المسألة تفصيل أكثر، أكتفي بما ذكرتُ والله -تعالى- أعلم. ولا ينبغي أن تؤدّي هذه المسائل إِلى التدابر والتباغض والولاء والبراء! قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (14/ 376) -بعد ذِكْر مسألةٍ يرى فيها أنّ أحد الأئمة الأعلام قد أخطأ في اجتهاده-: "ولو أنَّ كلَّ مَن أخطأ في اجتهاده -مع صحة إِيمانه، وتوخّيه لاتّباع الحق- أهدرناه، وبدَّعْناه، لقلَّ من يَسْلَم من الأئمّة معنا. رحم الله الجميع بمنّه وكرَمه". 5 - يوم الشكّ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يتقدّمَنّ أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ إلاَّ أن يكون رجل كان يصوم، فليصم ذلك اليوم" (¬2). وعن عمّار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: "من صام اليوم الذي يُشَكُّ فيه؛ فقد عصى أبا القاسم" (¬3). ¬

_ (¬1) قال شيخنا في "مختصر البخاري" (1/ 107): "وصله مالك والترمذي وحسّنه، وصححه ابن حبّان". (¬2) أخرجه البخاري: 1914، ومسلم: 1082 (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2046)، والترمذي، وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (961).

6 - صوم الدهر

6 - صوم الدهر عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال لي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّك لتصوم الدّهر وتقوم الليل، فقلت: نعم، قال: إِنك إِذا فعلْتَ ذلك هَجَمَت (¬1) له العين ونَفِهَتْ (¬2) له النفس، لا صام مَن صام الدّهر، صوم ثلاثة أيّام صوم الدهر كلِّه. قلت: فإِنّي أطيق أكثر من ذلك، قال: فصم صوم داود -عليه السلام-: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يَفِرُّ إِذا لاقى" (¬3). وعن أبي قتادة -رجل (¬4) أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلمّا رأى عمر -رضي الله عنه- غضبه قال: رضينا بالله رباً ... وذكَر الحديث إِلى أن قال عمر -رضي الله عنه-: "يا رسول الله! كيف بمن يصوم الدّهر كلّه قال: "لا صام (¬5) ولا أفطر (¬6) أو قال: لم يصُم ولم يُفطر" (¬7). ¬

_ (¬1) أي: غارت ودخَلَت في موضعها، ومنه الهجوم على القوم: الدخول عليهم. "النهاية". (¬2) أي: أعْيَت وكَلّت. "الفتح". (¬3) أخرجه البخاري: 1979، ومسلم: 1159. (¬4) في بعض النسخ أنّ رجُلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬5) أي: ليس له أجر الصائم لأنه لا يشرع. (¬6) لأنه منَع عن نفسه الطعام، فليس حاله حال المفطرين. (¬7) أخرجه مسلم: 1161.

7 - صيام المرأة وزوجها حاضر إلا بإذنه

وردّاً على قول الشيخ السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (1/ 448): "فإِن أفطَر يومي العيد وأيّام التشريق وصام بقيّة الأيّام؛ انتفت الكراهة". قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 408): "هذا التأويل خلاف ظاهر الحديث: "لا صام من صام الأبد"، وقوله: "لا صام ولا أفطَر". وقد بيَّن ذلك العلاّمة ابن القيّم في "زاد المعاد" بما يزيل كلّ شبهة، فقال -رحمه الله-: "وليس مراده بهذا من صام الأيّام المحرَّمة ... ". وذكَر نحوه الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 180) ". وجاء في "تمام المِنّة" كذلك (ص 409): "ثمّ قوله (¬1) أيضاً: "والأفضل أن يصوم يوماً ويفطر يوماً؛ فإِنّ ذلك أحبّ الصيام إِلى الله". قلت: فهذا من الأدلة على كراهة صوم الدهر مع استثناء الأيّام المحرّمة، إِذ لو كان صوم الدهر هذا مشروعاً أو مستحبّاً؛ لكان أكثر عملاً، فيكون أفضل، إِذ العبادة لا تكون إِلا راجحة، فلو كان عبادة لم يكن مرجوحاً؛ كما تقدّم (¬2) عن ابن القيّم". 7 - صيام المرأة وزوجها حاضر إِلاَّ بإِذنه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تصوم المرأة ¬

_ (¬1) أي: الشيخ السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السُّنّة" (1/ 448). (¬2) (ص 408) من الكتاب.

وبعلها شاهد (¬1) إِلا بإذنه" (¬2). وفي رواية: "لا تصوم المرأة يوماً تطوُّعاً في غير رمضان وزوجها شاهد إِلا بإِذنه" (¬3). قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (1/ 752): "وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أتمّ منه، وفيه بيان سبب وروده، مع فوائد أخرى ينبغي الاطلاع عليها، وهذا نصّه: قال [أبو هريرة]-رضي الله عنه-: جاءت امرأة إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن عنده، فقالت: يا رسول الله! إِنّ زوجي صفوان بن المعطل يضربني إِذا صلّيت، ويُفطّرني إِذا صُمتُ، ولا يصلِّي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس - قال: وصفوان عنده-. قال: فسأله عمّا قالت، فقال: يا رسول الله! أمّا قولها: "يضربني إِذا صلّيت"؛ فإِنها تقرأ بسورتين [فتعطّلني]، وقد نهيتها [عنهما]. قال: فقال: "لو كانت سورة واحدة؛ لكفت الناس". وأمّا قولها: "يُفطّرني"؛ فإِنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شابٌّ؛ فلا أصبر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصوم المرأة إِلا بإِذن زوجها". ¬

_ (¬1) أي: حاضر. (¬2) أخرجه البخاري: 5192، ومسلم: 1026. (¬3) أخرجه الدارمي في "سننه" وإسناده صحيح على شرط مسلم وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2146)، وانظر "الصحيحة" (395) و"صحيح الترغيب والترهيب" (1039).

وأمّا قولها: "إِني لا أُصلّي حتى تطلع الشمس"؛ فإِنّا أهل بيت؛ قد عُرف لنا ذاك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس. قال: "فإِذا استيقظتَ فصلِّ". أخرجه أبو داود والسياق له، وابن حِبّان، والحاكم، وأحمد بإِسناد صحيح على شرط الشيخين ... ". جاء في "الفتح" (9/ 296) -بعد حمْل هذا على التحريم-: "قال النووي في "شرح مسلم": وسبب هذا التحريم؛ أنّ للزوج حقَّ الاستمتاع بها في كل وقت، وحقّه واجب على الفور فلا يفوته بالتطوع، ولا بواجب على التراخي، وإِنّما لم يجُز لها الصوم بغير إِذنه. وإذا أراد الاستمتاع بها جاز ويفسد صومها لأن العادة أنّ المسلم يهاب انتهاك الصوم بالإِفساد، ولا شكّ أنّ الأَولى له خلاف ذلك؛ إِن لم يثبت دليل كراهته. نعم لو كان مسافراً فمفهوم الحديث في تقييده بالشاهد؛ يقتضي جواز التطوع لها إِذا كان زوجها مسافراً، فلو صامت وقَدِم في أثناء الصيام؛ فله إِفساد صومها ذلك من غير كراهة. وفي معنى الغَيْبَة أن يكون مريضاً بحيث لا يستطيع الجماع (¬1). وحمل المهلَّب النهي المذكور على التنزيه فقال: هو من حسن المعاشرة، ولها أن تفعل من غير الفرائض بغير إِذنه ما لا يضرّه ولا يمنعه من واجباته، وليس له أن يُبطل شيئاً من طاعة الله إِذا دخلت فيه بغير إِذنه اهـ. وهو ¬

_ (¬1) ولكن إِذا رأى قصوراً منها في خدمة الأبناء فله منْعها؛ لأنّ له القوامة في ذلك كما لا يخفى. والله أعلم.

8 - النصف الثاني من شعبان، إلا لمن كان له صوم يصومه.

خلاف الظاهر. وفي الحديث أنّ حق الزوج آكد على المرأة من التطوع بالخير، لأنّ حقّه الواجب والقيام بالواجب مُقدَّم على القيام بالتطوع (¬1). 8 - النصف الثاني من شعبان، إلاَّ لمن كان له صوم يصومه. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا انتصف شعبان فلا تصوموا" (¬2). وعنه أيضاً عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يتقدّمن أحدكم رمضان بصوم يومٍ أو يومين؛ إِلا أن يكون (¬3) رجلٌ كان يصوم صومه، فليصم ذلك اليوم" (¬4). الوصال (¬5) في الصوم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِيّاكم والوصال، مرّتين، قيل: إِنّك تواصل، قال: إِني أَبيتُ يطعمني ربي ويَسقين، فاكلَفوا (¬6) ¬

_ (¬1) انظر -إِن شئت- تعليق شيخنا -رحمه الله- على هذا في "آداب الزفاف" (ص 176). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2049) والترمذي وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1339)، وغيرهم، وانظر "المشكاة" (1974). (¬3) فال الحافظ -رحمه الله- كان تامّة أي: إِلا أن يوجد رجل. (¬4) أخرجه البخاري: 1914، ومسلم: 1082، وتقدّم. (¬5) الوصال في الصوم: هو ألاّ يُفطر يومين أو أيّاماً. "النهاية". (¬6) أي: احملوا المشقة في ذلك، يُقال: كلفت بكذا: إِذا ولعت به. "الفتح" (4/ 208).

من العمل ما تطيقون" (¬1). وقد أفاد الحديث تحريم الوصال، ولكن ورد ما يدلّ على جواز المواصلة حتى السَّحر؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنّه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا تواصلوا، فأيّكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السّحر. قالوا: فإِنّك تواصل يا رسول الله، قال: لست كهيئتكم، إِني أبيتُ لي مُطِعم يُطعمني وساقٍ يَسقين" (¬2). قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 209): "والنهي في حديث أبي سعيد على ما فوق السَّحر على كراهة التحريم". وسألت شيخنا -رحمه الله- عن مواصلة الصيام إِلى السَّحر قائلاً: هل هذا ماضٍ حُكمه؟ أم هناك ناسخٌ أو صارف؟ فقال: هذا ماضٍ حُكمه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1966، ومسلم: 1103. (¬2) أخرجه البخاري: 1967.

صيام التطوع

صيام التطوّع 1 - الاثنين والخميس عن أبي قتادة -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن صوم يوم الاثنين؟ قال: ذاك يوم وُلدت فيه، ويوم بُعثت -أو أُنزل عليّ فيه-". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأُحبّ أن يُعرض عملي وأنا صائم" (¬1). وعن أبي هريرة أيضاً أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كان يصوم الاثنين والخميس، فقيل: يا رسول الله! إِنك تصوم الاثنين والخميس؟ فقال: "إِنَّ يوم الاثنين والخميس يَغفر الله فيهما لكل مسلم، إِلا مُهتجرين، يقول: دعهما حتى يصطلحا" (¬2). 2 - صيام يوم (¬3) وفطر يوم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: أخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّي أقول: والله لأصومنَّ النّهار ولأقومنَّ الليل ما عشت، فقلت له: قد قُلتُه بأبي ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1027)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" أيضاً (1029). (¬2) أخرجه ابن ماجه وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1028) و"تمام المِنّة" (ص 413). (¬3) إِلا إِذا وافَق يوماً ورَد النّص بتحريمه.

3 - ثلاثة أيام من كل شهر

أنت وأمّي. قال: فإِنّك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيّام فإِنَّ الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدّهر. قلت: إِني أُطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطِر يومين، قلت: إِنّي أطيق أفضل من ذلك. قال: فصم يوماً وأفطِر يوماً، فذلك صيام داود عليه السلام، وهو أفضل الصيام، فقلت: إِنّي أطيق أفضل من ذلك، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا أفضل من ذلك" (¬1). وعنه -رضي الله عنهما- أيضاً قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ أحبّ الصيام إِلى الله صيام داود، وأحبّ الصلاة إِلى الله صلاة داود -عليه السلام- كان ينام نصف الليل، ويقوم ثُلُثه، وينام سُدُسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً" (¬2). 3 - ثلاثة أيّام من كل شهر (¬3) وقد تقدم في ذلك حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- وفيه: "وصم من الشهر ثلاثة أيّام فإِنّ الحسنة بعَشر أمثالها، وذلك مِثل صيام الدهر ... ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1976، ومسلم: 1159. (¬2) أخرجه البخاري: 1131، ومسلم: 1159. (¬3) انظر -إِن شئت- ما قاله في "الروضة الندية" (1/ 560) تحت عنوان (وأيّام البيض).

وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا صمت من الشهر ثلاثاً فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة" (¬1). وفي رواية: "فأنزَل الله تصديق ذلك في كتابه {مَن جاء بالحسنة فله عشْر أمثالها}، فاليوم بعشرة أيّام" (¬2). وقال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 302): (باب استحباب صيام هذه الأيّام الثلاثة من كل شهر أيّام البيض منها)، ثمّ ذكَر حديثين، منهما: حديث أبي ذر -رضي الله عنه-. وقال (ص 303): "باب إِباحة صوم هذه الأيّام الثلاثة من كلّ شهر أوّل الشهر؛ مبادرة يصومها خوف أن لا يدرك المرء صومها أيّام البيض". ثمّ روى بإِسناده إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنّه كان يصوم ثلاثة أيّام من غرّة كلّ شهر، ويكون من صومه يوم الجمعة" (¬3). وقال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 303): "باب ذِكر الدليل على أنّ صوم ثلاثة أيّام من كل ثلاث؛ يقوم مقام صيام الدهر، كان ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (608) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2279)، وابن ماجه، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1024). (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (609)، وابن ماجه وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (4/ 102). (¬3) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (2129)، وقال شيخنا -رحمه الله- إِسنادهُ حسن ... وأخرج أبو داود نحوه "صحيح سنن أبي داود" (2450) بلفظ: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم -يعني من غرّة كل شهر- ثلاثة أيّام".

4 - أكثر شعبان

صوم الثلاثة أيّام من أول الشهر، أو من وسطه، أو من آخره". ثمّ روى حديث معاذة العدويّة (¬1). ولفظه: "أنها سألت عائشة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم من كلّ شهر ثلاثة أيّام؟ قالت: نعم، فقلت لها: من أي أيّام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أيّ أيّام الشّهر يصوم" (¬2). وعن عبد الملك بن قدامة بن مَلْحَان عن أبيه -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بصيام أيّام البيض، ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، قال: وقال: هو كهيئة الدهر" (¬3). وفي رواية: "هن صيام الشهر" (¬4). 4 - أكثر شعبان عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم حتى نقول: لا يُفطر، ويُفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استكمل صيام شهر إلاَّ رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "صحيح ابن خزيمة" (2130). (¬2) أخرجه مسلم: 1160. (¬3) أخرجه أبو داود وغيره، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1025). (¬4) أخرجه النسائي، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1025). (¬5) أخرجه البخاري: 1969، ومسلم: 1156.

5 - ستة أيام من شوال

وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: "قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان! قال: ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفَع فيه الأعمال إِلى ربّ العالمين، وأُحبّ أن يُرفَع عملي وأنا صائم" (¬1). وقد تقدّم حديث: "إِذا انتصف شعبان فلا تصوموا ... ". 5 - ستة أيّام من شوّال عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من صام رمضان ثمّ أتبعه ستّاً من شوّال كان كصيام الدهر" (¬2). قال النووي -رحمه الله- في "شرحه" (8/ 56): "قال أصحابنا: والأفضل أن تصام الستة متوالية؛ عقب يوم الفطر، فإِنْ فرَّقها أو أخّرها عن أوائل شوال إِلى أواخره؛ حصلت فضيلة المتابعة، لأنه يصدق أنه أتبعه ستّاً من شوال". وجاء في "الروضة الندية" (1/ 555): "أقول: ظاهر الحديث أنّه يكفي صيام ستّ من شوال، سواء كانت من أوله، أو من أوسطه، أو من آخره، ولا يُشتَرط أن تكون متصلة به؛ لا فاصل بينها وبين رمضان إِلا يوم الفطر، وإنْ كان ذلك هو الأولى، ولأنّ الإِتْباع -وإن صدق على جميع الصور- فصِدقه على الصورة التي لم يُفصَل فيها بين رمضان، وبين الستّ إِلا يوم الفطر الذي لا ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2221) وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1008) و"تمام المِنّة" (412). (¬2) أخرجه مسلم: 1164 وغيره.

6 - تسع ذي الحجة

يصحّ صومه لا شك أنه أولى. وأمّا أنّه لا يحصل الأجر إِلا لمن فعل كذلك فلا، لأنّ مَن صام ستاً من آخر شوال؛ فقد أتبع رمضان بصيام ستٍّ من شوال بلا شكّ، وذلك هو المطلوب". قال النووي -رحمه الله تعالى- في "شرحه" (8/ 56): "قال العلماء: وإنّما كان ذلك كصيام الدهر؛ لأنّ الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين، وقد جاء هذا في حديث مرفوع في كتاب النسائي" (¬1). لعلّه يُشير -رحمه الله- إِلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "جعَل الله الحسنة بعشر أمثالها، فشهرٌ بعشرة أشهر، وصيام ستة أيّام بعد الفطر تمام السّنة" (¬2). 6 - تسع ذي الحجة (¬3) عن هُنَيْدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم تسع ذي الحجّة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيّام من كلّ شهر: أول اثنين من الشهر وخميسين" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2269) والترمذي، وابن ماجه، وانظر "الإِرواء" (4/ 102). (¬2) انظر "صحيح الترغيب والترهيب" (993)، و"الإِرواء" (4/ 107). (¬3) فائدة: تبويب عدد من العلماء بقولهم: "باب في صوم العشر"؛ من باب التغليب؛ لأنّ اليوم العاشر لا يجوز صيامه". (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2129) بلفظ: "والخميس" =

وعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من أيّام العمل الصالح فيها؛ أحبُّ إِلى الله من هذه الأيّام -يعني أيّام العشر-. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إِلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صائماً في العشر قطّ" (¬2). قال ابن خزيمة -رحمه الله- بعد الحديث السابق (3/ 293): "باب ذكَر علّةٍ قد كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يترك لها بعض أعمال التطوع، وإن كان يحثّ عليها، وهي خشية أن يُفرَض عليهم ذلك الفعل؛ مع استحبابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما خفف على الناس من الفرائض". ثمّ روى -رحمه الله- بإِسناده حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يترك العمل وهو يحب أن يفعله؛ خشية أن يستن به فيفرض عليهم" (¬3). ¬

_ = والتصويب من النسائي، انظر "صحيح سنن النسائي" (2236)، وفي لفظ عند النسائي "صحيح سنن النسائي" (2272): " ... والخميس الذي يليه، ثمّ الخميس الذي يليه". (¬1) أخرجه البخاري: 969 وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2130) -واللفظ له- وغيرهما، وتقدّم في "كتاب الزكاة". (¬2) أخرجه مسلم: 1176. (¬3) وهو في "صحيح مسلم" (718) بلفظ: " ... وإن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيدع العمل، وهو يحب أن يَعَمل به، خشية أن يَعْمل به الناس، فيُفرَض عليهم".

أيهما أفضل العشر من ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟

وقال الإِمام النووي -رحمه الله- في "شرحه" (8/ 71): "قال العلماء: هذا الحديث ممّا يوهم كراهة صوم العشر، والمراد بالعشر هنا الأيّام التسعة من أول ذي الحِجّة. قالوا: وهذا ممّا يتأول؛ فليس في صوم هذه التسعة كراهة؛ بل هي مُستحبّة استحباباً شديداً؛ لا سيما التاسع منها وهو يوم عرفة (¬1). ثمّ ذكَر حديث: "ما من أيّام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه". قال: "فيتأول قولها لم يصم العشر؛ أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائماً فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، ويدل على هذا التأويل حديث هُنَيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم تسع ذي الحجة ... ". وقال في "الروضة النديّة" (1/ 556): "وعدم رؤيتها وعِلمها لا يستلزم العدم". أيهما أفضل العشر من ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟ جاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 287): "وسئل عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، أيهما أفضل؟ فأجاب: أيّام عشر ذي الحِجّة؛ أفضل من أيّام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان؛ أفضل من ليالي عشر ذي الحِجّة. قال ابن القيّم -رحمه الله-: وإذا تأمّل الفاضل اللبيب هذا الجواب، ¬

_ (¬1) انظر "شرح النووي" (8/ 50).

7 - يوم عرفة لغير الحاج:

وجَدَه شافياً كافياً، فإِنّه ليس من أيّام العمل فيها أحبّ إِلى الله من أيّام عشر ذي الحجة -وفيها: يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم التروية-. وأمّا ليالي عشر رمضان فهي ليالي الإِحياء، التي كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحييها كلّها، وفيها ليلة خير من ألف شهر. فمن أجاب بغير هذا التفصيل، لم يمكنه أن يُدليَ بحُجّة صحيحة". 7 - يوم عرفة لغير الحاج: عن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام يوم عرفة، أحتسب (¬1) على الله أن يُكفّر السنة التي قبله والسنة التي بعده. وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفّر السّنة التي قبله" (¬2). وعن كعب بن مالك عن أبيه أنّه حدثه أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعَثه وأوس بن الحَدَثان؛ أيّام التشريق فنادى: "أنّه لا يدخل الجنَّة إِلا مؤمن، وأيّام منىً أيّام أكل وشُرب" (¬3). وعن ميمونة -رضي الله عنها-: "أن الناس شكُّوا في صيام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة، فأرسلْتُ إِليه بحِلابٍ (¬4) وهو واقف في الموقف، فشرب ¬

_ (¬1) أي: أرجو، وفي "المرقاة" (4/ 542): "قال الطيبي: كان الأصل أن يُقال: أرجو من الله أن يكفّر، فوضع مرضعه أحتسب وعداه بعلى الذي للوجوب؛ على سبيل الوعد؛ مبالغةً لحصول الثواب". (¬2) أخرجه مسلم: 1162، وغيره. (¬3) أخوجه مسلم: 1142. (¬4) وفي رواية عند مسلم: "بِحِلاب اللبن" قال النووي -رحمه الله- (4/ 8): =

8 - أكثر شهر الله المحرم، وتأكيد صوم عاشوراء، ويوما قبلها أو يوما بعدها

منه (¬1) والناس ينظرون" (¬2). 8 - أكثر شهر الله المحرّم، وتأكيد صوم عاشوراء، ويوماً قبلها أو يوماً بعدها عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة، صلاة الليل" (¬3). وعن حُميد بن عبد الرحمن أنّه سمع معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- يوم عاشوراء عام حجّ على المنبر يقول: "يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر" (¬4). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصومه في الجاهلية، فلمَّا قَدِم المدينة صامه، وأمَر بصيامه، فلمّا فُرِض رمضان، ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامهُ، ومن شاء ترَكه" (¬5). ¬

_ = "هو بكسر الحاء المهملة: وهو الإِناء الذي يُحلب فيه، ويقال له المِحلب -بكسر الميم-". (¬1) فيه جواز الأكل والشرب في المحافل من غير كراهة. "تحفة" (7/ 76). (¬2) أخرجه البخاري: 1989، ومسلم: 1124. (¬3) أخرجه مسلم: 1162، وتقدّم. (¬4) أخرجه البخاري: 2003، ومسلم: 1129. (¬5) أخرجه البخاري: 2002، ومسلم: 1125.

قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 284): "باب ذِكر الدليل على أنّ ترْك النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صوم عاشوراء؛ بعد نزول فرض صوم رمضان، إِنْ شاء ترَكه، لا أنه كان يتركه على كلّ حال، بل كان يتركه؛ إنْ شاء تركه، ويصوم، إِن شاء صامه". ثمّ روى عن ابن عمر نحواً من حديث عائشة -رضي الله عنهم-. وعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "قدم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى الله بني إِسرائيل من عدوّهم فصامه موسى. قال: فأنا أحقّ بموسى منكم، فصامه وأمَر بصيامه" (¬1). وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "كان يوم عاشوراء تعدُّهُ اليهود عيداً، قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فصوموه أنتم" (¬2). وعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "حين صام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عاشوراء، وأمَر بصيامه قالوا: يا رسول الله! إِنه يوم تُعظّمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإِذا كان العام المقبل -إِن شاء الله- صمنا اليوم التاسع. قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفِّي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2004، ومسلم: 1130. (¬2) أخرجه البخاري: 2005، ومسلم: 1131. (¬3) أخرجه مسلم: 1134.

وفي لفظ: "لئن بقيت إِلى قابل لأصومنّ التاسع" (¬1). وفي الحديث: "صوموا يوم عاشوراء وخالِفوا اليهود، صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً" (¬2). قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 246): " .. صيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها: أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر والله أعلم". وسألت شيخنا -رحمه الله- قائلاً: ذكَر بعض العلماء أنّ صيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أعلاها: صوم التاسع والعاشر والحادي عشر، ما رأيكم؟ فقال: وعلى ذلك صيام شهر محرم، وفهمتُ أنّ هذا ينسحب على صيامه كله إِلا ما استثني، لأنّ أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرّم. وسأل أحد الإِخوة شيخنا -رحمه الله-: "إِذا لم يتيسَّر صيام التاسع لامرأة حائض أو رجل لا عِلم عنده، فهل نقول له صُم الحادي عشر للمخالفة؟ ". فقال شيخنا: "هذا من باب أولى؛ لأنّ شهر محرّم محلّ الصيام، إِذ أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرّم، ولذلك استدركنا على التقسيم الثلاثي هذا". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1134. (¬2) أخرجه الطحاوى والبيهقي وسنده صحيح، وانظر "صحيح ابن خزيمة" (2095).

هل يصح إظهار السرور يوم عاشوراء والاكتحال وطبخ الحبوب ونحوه؟

هل يصحّ إِظهار السرور يوم عاشوراء والاكتحال وطبْخ الحبوب ونحوه؟ جاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 299) -بحذف-: "وسُئل شيخ الإِسلام عمّا يفعله الناس في يوم عاشوراء من الكحل، والاغتسال، والحناء، والمصافحة، وطبخ الحبوب، وإظهار السرور، وغير ذلك إلى الشارع، فهل ورد في ذلك عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديث صحيح؟ أم لا؟ وإذا ورد حديث صحيح في شيء من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا؟ وما تفعله الطائفة الأخرى من المأتم والحزن، والعطش، وغير ذلك من الندب والنياحة، وقراءة المصروع، وشقّ الجيوب؛ هل لذلك أصل؟ أم لا؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن أصحابه، ولا استحَبّ ذلك أحد من أئمّة المسلمين، لا الأئمّة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً، لا عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا الصحابة، ولا التابعين، لا صحيحاً ولا ضعيفاً، لا في كتب الصحيح، ولا في السنن، ولا المسانيد، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة. ورووا في حديث موضوع مكذوب عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنّه من وسع على أهله يوم عاشوراء؛ وسّع الله عليه سائر السَّنة"؟ هل في الأشهر الحُرُم صوم؟ لم يثبت في تخصيص صيام الأشهر الحرم شيء، وقد ورد في ذلك حديث

ضعيف (¬1) يبقى ما ورد فيه النصوص، كصيام الاثنين والخميس، وأيّام البيض ... إلخ. وكذلك ليس في صيام رجب دليل ثابت، ولا فضيلة خاصة. عن خرشة بن الحرّ قال: "رأيتُ عمر يضرب أكفّ المترجّبين (¬2)؛ حتى يضعوها في الطعام، ويقول: كلوا فإِنّما هو شهر كانت تعظّمه الجاهلية" (¬3). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّه كان إِذا رأى النّاس وما يعدّونه لرجب كَرِهه" (¬4). قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 290): "وأمّا صوم رجب بخصوصه؛ فأحاديثه كلّها ضعيفة، بل موضوعة؛ لا يَعتمد ¬

_ (¬1) وهو حديث مجيبة الباهلية، عن أبيها أو عمّها "أنّه أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... " فذكَر الحديث إِلى أن قال [أي: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]: "صُم من الحُرم واترك، صُم من الحُرُم واترك، صُم من الحُرم واترك". أخرجه أحمد وأبو داود وغيره، وضعّفه شيخنا -رحمه الله - كما في "تمام المِنّة" (ص 413) و"ضعيف سنن أبي داود" (526). (¬2) أي: الصائمين في رجب. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (957): وهذا سند صحيح. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (958): وهذا سند صحيح على شرط الشيخين.

فائدة:

أهل العِلم على شيء منها". فائدة: قد يضعُف العبد عن الصوم في الصّيف، إِذا كان مِن أهل البلاد الحارّة، فليغتنِم الصوم في الشتاء؛ فإِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الصوم في الشتاء؛ الغنيمة الباردة" (¬1). جاء في "فيض القدير" (4/ 243): "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة: أي: الغنيمة التي تحصل بغير مشقّة، والعرب تستعمل البارد في شيء ذي راحة، والبرد ضدّ الحرارة؛ لأنّ الحرارة غالبةً في بلادهم، فإِذا وجدوا برداً عدّوه راحة. وقيل: الباردة الثابتة، من برد لي على فلان كذا، أي: ثبَت، أو الطيبة مِن برْد الهواء إِذا طاب. والأصل في وقوع البرد عبارة عن الطيب، أيضاً إِنّ الهواء والماء لمّا كان طيبهما ببرْدهما؛ سيّما في بلاد تهامة والحجاز قيل: هواء بارد وماء بارد؛ على سبيل الاستطابة، ثمّ كَثُر حتى قيل: عيش بارد وغنيمة باردة. ذكَره الزمخشري. قال الطيبي: والتركيب من قلب التشبيه؛ لأن الأصل الصوم في الشتاء كالغنيمة الباردة، وفيه من المبالغة أنّ الأصل في التشبيه أن يلحق الناقص بالكامل كما يقال: زيد كالأسد، فإِذا عكس وقيل: الأسد، يجعل الأصل كالفرع، والفرع كالأصل، يبلغ التشبيه إِلى الدرجة القصوى في المبالغة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "الصحيحة" (1922).

جواز فطر الصائم المتطوع

ومعناه الصائم في الشتاء يحوز الأجر من غير أن تمسّه مشقّة الجوع". جواز فِطر الصائم المتطوّع فعن عائشة أمّ المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: "دخل عليَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا، قال: فإِني إِذن صائم. ثمّ أتانا يوماً آخر فقلنا: يا رسول الله! أُهْدِى لنا حَيْس (¬1) فقال: أرينيه فلقد أصبحت صائماً فأكل". قال طلحة: "فحدّثْتُ مجاهداً بهذا الحديث فقال: ذاك بمنزلة الرجل يُخْرِج الصدقة من ماله، فإِنْ شاء أمضاها، وإن شاء أمسَكها" (¬2). وفي رواية: قال: أدنيه؛ أما إِنّي قد أصبحتُ وأنا صائم، فأكَل منه، ثمّ قال: إِنّما مثل صوم المتطوع مثل الرجل؛ يُخرج من ماله الصدقة، فإِنْ شاء أمضاها، وإِنْ شاء حبَسها" (¬3). وعن أمّ هانئ -رضي الله عنها- قالت: كنت قاعدة عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتُي بشراب فضرب منه، ثمّ ناولني فضربت منه، فقلت: إِني أذنبت فاستغفر لي ¬

_ (¬1) حَيس: بفتح الحاء المهملة وسكون الياء تمر مخلوط بسمن وأقط، وقيل: طعام يتخذ من الزبد والتمر والأقط وقد يبدّل الأقط بالدقيق، والزبد بالسّمن، وقد يبدل السمن بالزيت. (¬2) أخرجه مسلم: 1154. (¬3) أخرجه النسائي بإِسناد صحيح، وانظر "آداب الزفاف" (ص159) و"الإرواء" (4/ 135)، وفيه: "فهذه الزيادة ثابتة عندي، ولا يُعلّها أنّ بعض الرواة أوقفها على مجاهد، فإِنّ الراوي قد يرفع الحديث تارة، ويوقفه أخرى".

قال: وما ذاك؟ قالت: كنت صائمة فأفطرْتُ. فقال: أمِن قضاءٍ كنت تقضينه؟ قالت: لا، قال: فلا يضرّك" (¬1). وفي رواية: "فلا يضرّك إِن كان تطوّعاً" (¬2). وفي رواية: "الصائم المتطوع أمير نفسه (¬3)، إِنْ شاء صام، وإن شاء أفطر" (¬4). عن أبي جحيفة قال: "آخى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أمّ الدرداء متبذّلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجةٌ في الدنيا. فجاء أبو الدرداء، فصَنع له طعاماً فقال: كُل فإِنّي صائم، فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلمّا كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم، فنام، ثمّ ذهب يقوم، فقال: نم، فلمّا كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن. قال: فصلّيا، فقال له سلمان: إِنّ لربك عليك حقّاً، ولنفسك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً، فأعط كلّ ذي حقٍّ حقّه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (584) وغيرهما، وانظر " المشكاة" (2079). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2145). (¬3) قال الطيبي: يُفهم أنّ الصائم غير المتطوّع لا تخيير له؛ لأنه مأمور مجبور عليه. "مرقاة" (4/ 575). (¬4) أخرجه أحمد والنسائي في "الكبرى" والحاكم وغيرهم، وانظر "المشكاة" (2079)، و"آداب الزفاف" (ص 156).

عدم وجوب قضاء يوم النفل

فأتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكَر ذلك له، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدَق سلمان" (¬1). وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا دُعي أحدكم إِلى طعام فليُجب، فإِن شاء طعم وإن شاء تَرَك" (¬2). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: "صنعْتُ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طعاماً، فأتاني هو وأصحابه، فلمّا وُضع الطعام قال رجل من القوم: إِنّي صائم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دعاكم أخوكم وتكلّف لكم، كُلْ يوماً، ثمّ صم مكانه إِن شئت" (¬3). وفي رواية: " ... ثمّ قال له: أَفطِر، وصُم مكانه يوماً إِن شئت" (¬4). عدم وجوب قضاء يوم النّفل (¬5) لا يجب قضاء يوم النّفل لحديث أبي سعيد الخدري المتقدم وفيه: " ... فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعاكم أخوكم وتكلّف لكم، ثمّ قال له: أفطر وصُم مكانه يوماً إِنْ شئت". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 6139. (¬2) أخرجه مسلم: 1430. (¬3) أخرجه البيهقي وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1952). (¬4) انظر "الإِرواء" (7/ 12). (¬5) هذا العنوان من "آداب الزفاف" (ص 159) لشيخنا -رحمه الله- وكذلك ما تحته بتصرف.

آداب الصيام

آداب الصيام 1 - السحور (¬1) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تسحّروا فإِنّ في السُّحور (¬2) بركة" (¬3). قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 213): "باب الأمر بالسحور أمر ندب وإرشاد، إِذ السحور بركة، لا أمْر فرض وإيجاب يكون تاركه عاصياً بتركه". ثمّ ذكَر -رحمه الله- حديث أنس -رضي الله عنه-. وسألت شيخنا -رحمه الله- إِن كان يرى الوجوب في السّحور؛ لحديث أنس السابق -رضي الله عنه- فقال: لا نقول بالوجوب. وعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فصْل ما بين صيامنا وصيامِ أهل الكتاب أكلةُ السَّحَر" (¬4). ¬

_ (¬1) جاء في "النهاية": "هو بالفتح اسم ما يُتَسَحَّر به من الطعام والشراب، وبالضم المصدر والفعل نفسه، وأكثر ما يروى بالفتح. وقيل: إِنّ الصواب بالضم؛ لأنه بالفتح الطعام، والبركةُ والأجر والثواب في الفعل لا في الطعام". وجاء في "القاموس المحيط": "السَّحَر: قبيل الصُّبح". (¬2) بالضم والفتح. (¬3) أخرجه البخاري: 1923، ومسلم: 1095. (¬4) أخرجه مسلم: 1096.

فضله:

فضله: لقد ورد في فضل السحور أحاديثُ كثيرة، منها: 1 - عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ الله وملائكته يُصلّون على المتسحِّرين" (¬1). 2 - وعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: "دعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى السحور في رمضان فقال: هلُمَّ إِلى الغداء المبارك" (¬2). 3 - وعن عبد الله بن الحارث عن رجل من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "دخلْتُ على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يتسحَّر فقال: "إِنّها بركة أعطاكم الله إِياها، فلا تَدَعوه" (¬3). 4 - وعن سلمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "البركة في ثلاثة: في الجماعة، والثريد، والسحور" (¬4). بمَ يتحقّق؟ يتحقّق السحور ولو بجَرعة من ماء. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وابن حِبّان في "صحيحه"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1053). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2054) والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1054). (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2042) بإِسناد حسن، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1056). (¬4) أخرجه الطبراني في "الكبير"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح =

فضل السحور بالتمر

فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تسحروا ولو بجَرعة (¬1) من ماء" (¬2). فضل السحور بالتمر عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "نعم سَحور المؤمن التمر" (¬3). وقته: يبدأ قبيل الفجر -فيما يبدو- ففي "القاموس المحيط " -كما تقدم-: السحر: قبيل الصُّبح (¬4) وينتهي بتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. قال الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} (¬5). وعن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: "لمّا نزلت {حتى يتبيّن لكم ¬

_ = الترغيب والترهيب" (1052). (¬1) الجُرعة: -بالضمّ- الاسم من الشرب اليسير، وبالفتح: المرّة الواحدة منه، وانظر "النهاية". (¬2) أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1058). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2055)، وابن حبان في "صحيحه"، وصححه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (1059). (¬4) وربّما أكل المرء قبله بساعات، فلا يسمّى سحوراً. (¬5) البقرة: 187.

الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود} عَمَدْتُ إلى عِقَال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلْتُ أنظر في الليل فلا يَسْتَبِين لي، فغدوت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكَرت له ذلك، فقال: إِنما ذلك سوادُ الليل وبياض النهار" (¬1). وعن سهل بن سعد قال: "أُنْزلت: {وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود} ولم ينزل {من الفجر}، فكان رجال إِذا أرادوا الصوم؛ ربَط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبيّن له رؤيتهما، فأنزل الله بعد {من الفجر} فعلموا أنّه إِنّما يعني الليل والنهار" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إِنَّ بلالاً يؤذِّنُ بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابن أمِّ مكتوم" (¬3). وفي لفظٍ لها -رضي الله عنها- "أنَّ بلالاً كان يؤذِّن بليل، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كلوا واشربوا حتى يؤذّن ابن أمّ مكتوم، فإِنّه لا يؤذن حتى يطلع الفجر. قال القاسم: ولم يكن بين أذانهما إِلا أن يرقى ذا وينزل ذا" (¬4). وعن عبد الله بن النعمان السُّحَيمي قال: "أتاني قيس بن طَلق في رمضان في آخر الليل -بعدما رفعت يدي من السّحور لخوف الصبح- فطلب مني ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1916، ومسلم: 1090. (¬2) أخرجه البخاري: 1917، ومسلم: 1091، وتقدّم. (¬3) أخرجه البخاري: 622، ومسلم: 1092. (¬4) أخرجه البخاري: 1918، 1919، ومسلم: 1092.

بعض الإِدام، فقلت له: يا عمّاه! لو كان بقي عليك من اللَّيل شيء لأدخلتك إِلى طعام عندي وشراب. قال: عندك؟ فدخل، فقربت إِليه ثريداً ولحماً ونبيذاً (¬1)، فأكَل وشرب، وأكرهني فأكلْتُ وشربْتُ، وإني لَوَجِلٌ من الصُّبح. ثمّ قال: حدَّثني طَلْق بن علي أن نبيّ الله قال: كلوا واشربوا، ولا يَهيدنّكم السَّاطع المُصعِد (¬2)، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر" (¬3). جاء في "بذل المجهود" (11/ 147) -في شرح "حتى يعترض لكم ¬

_ (¬1) جاء في "النهاية": النّبيذ: هو ما يُعمل من الأشربة من التّمر والزبيب، والعسل، والحنطة، والشَّعير، وغير ذلك. يُقال: نبذْتُ التمر والعنب؛ إِذا تركْت عليه الماء ليصير نبيذاً، فصُرِفَ مِن مفعول إِلى فعيل. وانتبذْته: أي: اتخذته نبيذاً. وسواء كان مسكراً أو غير مسكر فإِنه يُقال له: نبيذ، ويُقال للخمر المعتَصَر من العنب: نبيذ، كما يقال للنّبيذ: خمر. (¬2) لا يهِيدنكم: أي: لا تنزعجوا للفجر المستطيل؛ فتمتنعوا به عن السَّحور؛ فإِنه الصُّبح الكاذب، وأصل الهَيْد: الحركة. "النهاية". الساطع المُصعِد: جاء في "النهاية": السَّاطع أي: الصبُّح الأوّل المستطيل، يُقال: سطع الصُّبح يسطع فهو ساطع: أوّل ما ينشقّ مستطيلاً. وفي "بذل المجهود" (11/ 147): السَّاطع المُصعِد: أي المرتفع طولاً. وفي "تحفة الأحوذي" (3/ 389): من الإِصعاد: أي المرتفع. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2058) والترمذي وابن خزيمة وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (2031).

الأحمر"-: "قال في "الدّرجات": أي: يستبطن البياض المعترض أوائل حمرة؛ لأنّ البياض إِذا تتامّ طلوعه؛ ظهر أوائل الحُمْرة، والعرب تشبِّه الصّبح بالبلق في الخيل؛ لما به من بياض وحمرة، قلت [أي: صاحب بذل المجهود]: لا يصحّ كونه أحمر إلاَّ قبل نزول قوله تعالى: {حتى يتبيّن لكم الخيطُ الأبيض} الآية لأنّه معنى الآخر هو النَّهار إِلا أنَّ الشمس لم تطلع، وكلاهما يعارض الآية، وهذا كله على ظاهره، وإلا فإِنَّ الأحمر يطلق على الأبيض أيضاً، فإِن أطلق عليه وافق الآية فتنبّه له إِن كنت فائق السجيَّة". قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 210): "باب الدليل على أنَّ الفجر الثاني ... هو البياض المعترض الذي لونه الحُمْرة إِن صحَّ الخبر ... ". ثمّ ذكَر حديث أبي طلق بن علي -رضي الله عنه-. وقال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (5/ 52) عَقِبَ الحديث: "واعلم أنَّه لا منافاة بين وصفه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لضوء الفجر الصَّادق (بالأحمر) ووصفه تعالى إِياه بقوله: {الخيط الأبيض}؛ لأنّ المراد -والله أعلم- بياض مشوب بحمرة، أو تارة يكون أبيض، وتارة يكون أحمر، يختلف ذلك باختلاف الفصول والمطالع. وقد رأيت ذلك بنفسي مراراً من داري في (جبل هملان) جنوب شرق (عمّان)، ومكَّنني ذلك من التأكد من صحَّة ما ذكَره بعض الغيُورين على تصحيح عبادة المسلمين؛ أنّ أذان الفجر في بعض البلاد العربية يرفع قبل الفجر الصَّادق؛ بزمن يتراوح بين العشرين والثَّلاثين دقيقة -أي: قبل الفجر

الكاذب أيضاً! -. وكثيراً ما سمعت إِقامة صلاة الفجر من بعض المساجد مع طلوع الفجر الصَّادق، وهم يؤذِّنون قبلها بنحو نصف ساعة، وعلى ذلك فقد صلَّوا سنّة الفجر قبل وقتها. وقد يستعجلون بأداء الفريضة أيضاً قبل وقتها في شهر رمضان، كما سمعته من إِذاعة دمشق وأنا أتسحَّر رمضان الماضي (1406)، وفي ذلك تضييقٌ على الناس بالتعجيل بالإِمساك عن الطَّعام، وتعريضٌ لصلاة الفجر للبطلان. وما ذلك إلاَّ بسبب اعتمادهم على التوقيت الفلكي، وإعراضهم عن التوقيت الشرعي: {وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}، "فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر"، وهذه ذكرى، (والذكرى تنفع المؤمنين) ". انتهى. قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (6/ 342) (مسألة 756): "ولا يلزم صومٌ في رمضان ولا في غيره إِلا بتبيُّن طلوع الفجر الثاني، وأمَّا ما لم يتبيّن؛ فالأكل والشُّرب والجماع مباح، كلُّ ذلك كان على شكّ من طلوع الفجر، أو على يقين من أنه لم يطلع. ومن أكل شاكّاً (¬1) في غروب الشَّمس أو شَرِب فهو عاصٍ له تعالى، مفسد لصومه، ولا يقدر على القضاء؛ فإِنْ جامع شَاكّاً في غروب الشّمس فعليه ¬

_ (¬1) الشّك لغةً: خلاف اليقين، والمقصود هنا أنّه أكل ولم يتيقّن أو يرجّح الظنّ أن الشمس قد غربت.

الكفّارة ... ". ثمّ ذكَر الأدلّة على ذلك. وقال (ص 346): "وروينا من طريق معمر عن أبان عن أنس عن أبي بكر الصدِّيق أنّه قال: إِذا نظر الرَّجلان إِلى الفجر فشكَّ أحدهما؛ فليأكلا حتى يتبين لهما". وقال (ص 347): "ومن طريق الحسن: أنّ عمر بن الخطاب كان يقول: إِذا شكّ الرجلان في الفجر فليأكلا حتى يستيقنا. ومن طريق ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس قال: أحل الله الشراب ما شَككْت؛ يعني في الفجر. وعن وكيع عن عمارة بن زاذان عن مكحول الأزدي قال: رأيت ابن عمر أخذ دلواً من زمزم وقال لرجلين: أَطَلَع الفجر؟ قال أحدهما: قد طلع، وقال الآخر: لا؛ فشرب ابن عمر". وقال -رحمه الله- (ص 349): "وعن الحسن: كُلْ ما امتريت وعن أبي مجلز: السّاطع: ذلك الصُّبح الكاذب؛ ولكن إذا انفضح الصبح في الأفق. وعن إِبراهيم النخعي: المعترض الأحمر يُحلّ الصلاة (¬1) ويُحرّم الطعام. ومن طريق ابن أبي شيبة: ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم قال: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم، إِنّما كانوا يعدُّون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق. وعن معمر: أنّه كان يؤخِّرُ السّحور جداً، حتى يقول الجاهل: لا صوم له! ". ¬

_ (¬1) أي: صلاة الفجر.

فائدة:

فائدة: إِذا سمع النِّداء والإِناءُ على يده، أو كان يأكل، فله أَنْ يستكْمِل شرابه وأكْله، ويقضي حاجته منهما؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا سمع أحدكم النِّداء والإِناء على يده، فلا يضَعْه حتى يقضي حاجته منه" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 417): "وفيه دليل على أَنَّ مَنْ طلع عليه الفجر وإناء الطعام أو الشراب على يده؛ أنّه يجوز له أن لا يضعه حتى يأخذ حاجته منه. فهذه الصورة مستثناة من الآية: {وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}. فلا تعارُض بينها وما في معناها من الأحاديث؛ وبين هذا الحديث، ولا إِجماع يعارضه، بل ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم إِلى أكثر ممّا أفاده الحديث، وهو جواز السّحور إِلى أن يتضح الفجر، وينتشر البياض في الطرق، راجع "الفتح" (4/ 109 - 110). وإِنَّ من فوائد هذا الحديث إِبطال بدعة الإِمساك قبل الفجر بنحو ربع ساعة؛ لأنَّهم إِنَّما يفعلون ذلك خشية أن يدركهم أذان الفجر وهم يتسحّرون، ولو علموا هذه الرخصة لما وقعوا في تلك البدعة. فتأمّل". استحباب تأخيره: عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّا معشر ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2060)، وغيره.

هل يفطر إذا أكل أو شرب أو جامع، ظانا غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر؟

الأنبياء أُمِرنا بتعجيل فِطرنا، وتأخير سحورنا، وأن نضَع أيماننا على شمائلنا في الصلاة" (¬1). وعن أنس عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: "تسحَّرنا مع النّبىِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ قام إِلى الصلاة، قلت (¬2): كم كان بين الأذان (¬3) والسّحور؟ قال: قَدْر خمسين آية (¬4) " (¬5). جاء في "الفتح" (4/ 199): "قال ابن عبد البرّ: أحاديث تعجيل الإِفطار وتأخير السّحور صِحاح متواترة، وعند عبد الرزاق بإِسناد صحيح عن عمرو بن ميمون الأودي قال: كان أصحاب محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسرَعَ النّاس إِفطاراً وأبطأهم سحوراً". هل يفطر إِذا أكل أو شرب أو جامع، ظانّاً غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر؟ مَن أكَل أو شرب أو جامع ظانّاً غروب الشمس، أو عدم طلوع الفجر، ثمّ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان والضياء بسند صحيح، وانظر "التعليقات الرضيَّة" (2/ 20) و"الصحيحة" (4/ 376). (¬2) قلتُ: هو مقول أنس، والمقول له زيد بن ثابت -رضي الله عنهما-. (¬3) أي: الإقامة، وبوّب له البخاري -رحمه الله- في كتاب الصوم بقوله: (باب كم بين السَّحور وصلاة الفجر). جاء في "الفتح" (4/ 138): "وقال: أي انتهاء السّحور وابتداء الصلاة؛ لأنّ المراد تقدير الزّمان الذي ترك فيه الأكل والمراد بفعل الصَّلاة؛ أول الشّروع فيها قاله الزين بن المنيّر". (¬4) أي: متوسطة؛ لا طويلة ولا قصيرة، لا سريعة ولا بطيئة "فتح". (¬5) أخرجه البخاري: 1921، ومسلم: 1097.

ظهر له خلاف ذلك فإِنّه لا يفسد صومه، وليس عليه قضاء ولا كفّارة. جاء في "المحلّى" (6/ 331) المسألة (753): "ومن أكل وهو يظنّ (¬1) أنّه ليل، أو جامَع كذلك؛ أو شرب كذلك؛ فإِذا به نهار -إِما بطلوع الفجر، وإمّا بأنّ الشَّمس لم تغرب-: فكلاهما لم يتعمّد إِبطال صومه، وكلاهما ظن أنَّه في غير صيام، والناسي ظنّ أنّه في غير صيام ولا فرق، فهما والناسي سواء ولا فرق. وليس هذا قياساً (¬2) -ومعاذ الله من ذلك- وإنما يكون قياساً لو جعلنا الناسي أصلاً؛ ثمّ شبّهنا به مَن أكل وشرب وجامع، وهو يظنّ أنّه في ليل فإِذا به في نهار، ولم نفعل هذا، بل كلّهم سواء في قول الله تعالى: {ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمَّدت قلوبكم} (¬3) وفي قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ الله تجاوز لأمّتي الخطأ والنِّسيان وما استُكرِهوا عليه" (¬4)، وهذا قول جمهور السَّلف. ثمّ ساق بإِسناده إِلى جمْع من السَّلف في ذلك ومنه: ¬

_ (¬1) الظنّ: إِدراك الذهن الشيءَ مع ترجيحه، وقد يكون مع اليقين. "الوسيط". (¬2) قال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في التعليق: "سواءٌ رضي المؤلف أن يكون هذا قياساً أو لم يرضَ، فإِنه قياسٌ في الحقيقة على الناسي، لأنّ النصّ لم يدلّ على عدم بطلان صوم من أفطر ظانّاً أنه في ليل، والقياس على الناسي -الذي ذكره المؤلّف- قياس صحيح، وإنْ تحاشى هو أن يُسمّيه قياساً". (¬3) الأحزاب: 5. (¬4) تقدّم.

عن زيد بن وهب قال: أفطر النّاس في زمن عمر بن الخطاب فرأيت عِساساً (¬1) أُخرجَت من بيت حفصة، فشربوا، ثمّ طلعت الشّمس من سحاب، فكَأنّ ذلك شقَّ على النّاس. فقالوا: نقضي هذا اليوم فقال عمر: لِمَ؟ والله ما تجانفنا لإِثم (¬2) ". وروينا أيضاً من طريق الأعمش عن المسيّب عن زيد بن وهب، ومن طريق ابن أسلم عن أخيه عن أبيه ولم يذكر قضاء. وقد رُوي عن عمر أيضاً القضاء، وهذا تخالف من قوله، فوجب الرُّجوع إِلى ما افترض الله تعالى الرّجوع إِليه عند التنازع، من القرآن والسنة؛ فوجدنا ما ذكَرنا قبل، مع أنّ هذه الرواية عن عمر أولى؛ لأن زيد بن وهب له صحبة، وإنّما روى عنه القضاء من طريق علي بن حنظلة عن أبيه. ومن طريق شعبة قال: سألت الحكم بن عتيبة عمّن تسحّر نهاراً وهو يرى أنّ عليه ليلاً، فقال: يُتمّ صومه. وعن مجاهد قال: من أكل بعد طلوع الفجر وهو يظنّ أنّه لم يطلع فليس عليه القضاء؛ لأنَّ الله تعالى يقول: {حتى يتبيّن لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}. وعن الحسن البصري فيمن تسحَّر وهو يرى أنّه ليل، قال: يُتمُّ صومه. وعن جابر بن زيد فيمن أكل يرى أنَّه ليل فإِذا به نهار، قال: يُتمّ صومه. ¬

_ (¬1) العِساس: جمع العُسّ: القدح الكبير. (¬2) أي: لم نمِلْ فيه لارتكاب الإِثم، ومنه قوله تعالى: {غير متجانفٍ لإِثم} [المائدة: 3]. "النهاية".

ثمّ اتفق عروة وعطاء فيمن أكل في الصّبح وهو يرى أنّه ليل: لم يقضه. فهؤلاء: عمر بن الخطاب، والحكم بن عتيبة، ومجاهد، والحسن، وجابر ابن زيد أبو الشعثاء، وعطاء بن أبي رباح، وعروة بن الزبير. فإِنْ ذكَروا ما رويناه ... عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "أفطر النّاس على عهد رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمّ طلعت الشّمس". قال أبو أسامة: قلت لهشام: فأُمِروا بالقضاء؟ فقال: ومن ذلك بدٌّ (¬1)؟! فإِنّ هذا ليس إلاَّ من كلام هشام، وليس من الحديث، فلا حُجّة فيه (¬2)، وقد قال معمر: سمعت هشام بن عروة في هذا الخبر نفسه يقول: لا أدري أقضوا أم لا؟! فصحّ ما قُلنا. وأمَّا مَنْ أُكره على الفطر، أو وطئت امرأة نائمة، أو مكرهة أو مجنونة أو مغمى عليها، أو صُبّ في حلقه ماء وهو نائم، فصوم النّائم والنّائمة، والمُكْره، والمُكْرهة تامّ صحيح لا داخلة فيه، ولا شيء عليهم، ولا شيء على المجنونة، والمغمى عليها، ولا على المجنون والمغمى عليه، لمَا ذكَرنا من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنّ الله تجاوز لأمتّه عن الخطأ والنِّسيان وما استُكرهوا عليه (¬3). والنّائم والنّائمة مكرهان بلا شك، غير مُخْتارين لما فُعِل بهما. وقال زفر: لا شيء على النّائم والنّائمة، ولا قضاء كما قلنا، سواء سواء، وصومهما تامّ -وهو قول الحسن بن زياد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1959. (¬2) وسيأتي -إِن شاء الله تعالى- كلام شيخ الإِسلام -رحمه الله- في ذلك. (¬3) تقدّم.

وقد رُوي أيضاً عن أبي حنيفة في النّائم مثل قول زفر. وقال سفيان الثّوري: إِذا جومعت المرأة مُكْرهة في نهار رمضان فصومها تامّ، لا قضاء عليها، وهو قول عبيد الله بن الحسن، وبه يقول أبو سليمان، وجميع أصحابنا. والمجنون والمغمى عليه غير مخاطَبَين، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفع القلم عن المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يحتلم" (¬1). قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 228): " ... وكذلك طرد هذا أنّ الصائم إِذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً أو مخطئاً، فلا قضاء عليه، وهو قول طائفة من السلف والخلف ومنهم من يُفَطِّر الناسي والمخطئ كمالك ... ". وقال -رحمه الله- (ص 231): "وأيضاً فقد ثبت في "صحيح البخاري" عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "أفطرنا يوماً من رمضان في غيم على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمّ طلعت الشمس ... ". وهذا يدلّ على شيئين: على أنّه لا يُسْتحَب مع الغيم التأخير إِلى أن يتيقّن الغروب ... والثاني: لا يجب القضاء فإِنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو أمَرهم بالقضاء لشاع ذلك كما نقل فطرهم، فلمّا لم يُنقَل ذلك دلّ على أنّه لم يأمرهم به. فإِنْ قيل: فقد قيل لهشام بن عروة: أمروا بالقضاء؟ قال: أو بد من القضاء؟ ¬

_ (¬1) تقدّم.

قيل: هشام قال ذلك برأيه، لم يرو ذلك في الحديث، ويدلّ على أنّه لم يكن عنده بذلك علم أنّ معمراً روى عنه قال: سمعت هشاماً قال: لا أدري أقضوا أم لا؟ ذكَر هذا وهذا عنه البخاري، والحديث رواه عن أمِّه فاطمة بنت المنذر عن أسماء. وقد نقل هشام عن أبيه عروة أنهم لم يؤمروا بالقضاء، وعروة أعلم من ابنه، وهذا قول إِسحاق بن راهويه -وهو قرين أحمد بن حنبل، ويوافقه في المذهب: أصوله وفروعه، وقولهما كثيراً ما يجمع بينه ... ". وجاء (ص 259) منه: "وسئل عن رجل باشر زوجته، وهو يسمع المتسحر يتكلّم، فلا يدري: أهو يتسحّر؟ أم يؤذّن، ثمّ غلب على ظنِّه أنّه يتسحَّر، فوطئها، وبعد يسير؛ أضاء الصبح، فما الذي يجب عليه؟ أفتونا مأجورين. فأجاب: هذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال: أحدها: عليه القضاء، والكفّارة، هذا إِحدى الروايتين عن أحمد. وقال مالك: عليه القضاء لا غير، وهذه الرواية الأخرى عنه، وهذا مذهب الشافعي، وأبي حنيفة وغيرهما. والثالث: لا قضاء ولا كفّارة عليه. وهذ قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أظهر الأقوال، ولأنّ الله تعالى عفا عن الخطأ والنِّسيان، وأَباح -سبحانه وتعالى- الأكل والشرب، والجماع حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، والشاكّ في طلوع الفجر يجوز له الأكل والشرب والجماع بالاتفاق، ولا قضاء عليه إِذا استمر الشَّك".

وجاء (ص 264) منه: "وهذا القول أصحّ الأقوال، وأشبهها بأصول الشريعة، ودلالة الكتاب والسنَّة، وهو قياس أصول أحمد وغيره، فإِنّ الله رفع المؤاخذة عن الناسي، والمخطئ، وهذا مخطئ. وقد أباح الله الأكل والوطء حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، واستحبَّ تأخير السّحور، ومن فعل ما ندب إِليه، وأُبيح له، لم يفرّط فهذا أولى بالعذر من الناسي، والله أعلم". وقال الحافظ رحمه الله- في "الفتح" (4/ 200) -بحذف-: "وقد اختلف في هذه المسألة فذهب الجمهور إِلى إِيجاب القضاء ... وجاء ترك القضاء عن مجاهد والحسن، وبه قال إِسحاق وأحمد في رواية. قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 239): "ليس في هذا الخبر أنّهم أمروا بالقضاء، وهذا من قول هشام: بدٌّ من ذلك، لا في الخبر، ولا يُبيّن عندي أنّ عليهم القضاء، فإِذا أفطروا والشمس عندهم قد غربت، ثمّ بان أنها لم تكن غَرَبت؛ كقول عمر بن الخطاب: والله ما نقضي ما يجانفنا من الإِثم". وسألت شيخنا -رحمه الله- قائلاً: إذا أكل ظانّاً غروب الشمس فظهر خلاف ذلك، أو ظنَّ عدم طلوع الفجر. فقال -رحمه الله-: "إِذا كان معذوراً في ظنّه فلا يعدُّ مُفطراً". انتهى. قلت: والراجح عدم القضاء -والله تعالى أعلم- لِمَا وردَ عن السلف من آثارٍ في ذلك، فإِنْ كان بالنقل فهم أولى، وإن كان بالرأي فرأيهم خير من رأي سواهم (¬1). ¬

_ (¬1) ذكره بعض العلماء.

2 - تعجيل الفطر

حشَرَنا الله وإياهم مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. 2 - تعجيل الفطر عن سهل بن سعد أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يزال الناس بخير ما عجّلوا (¬1) الفطر" (¬2). قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 274): (باب ذِكر دوام الناس على الخير، ما عجّلوا الفطر، وفيه كالدلاله على أنّهم إِذا أخّروا الفِطر؛ وقعوا في الشّر). ثمّ روى الحديث السابق. عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تزال أمَّتي على سُنَّتي ما لم تنتظر بفطرها النّجوم. قال: وكان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا كان صائماً أمَر رجلاً، فأوفى على شيء، فإِذا قال: غابت الشمس أفطر" (¬3). وقد بوّب له ابن خزيمة -رحمه الله- بقوله: "باب ذكر استحسان سنّة المصطفى محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لم ينتظر بالفطر قبل طلوع النجوم". ¬

_ (¬1) وهذا يقتضي معرفة الوقت والدّقة في ذلك، وأوراق التقويم في معظم البلاد مع الأسف -إن لم نقُل كلها- تقريبيّة. والله المستعان. (¬2) أخرجه البخاري: 1957، ومسلم: 1098. (¬3) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (3/ 275)، وقال شيخنا -رحمهما الله تعالى-: إِسناده صحيح، وأخرجه ابن ماجه من طريق المصنف دون الزيادة المدرجة.

متى يفطر الصائم

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يزال الدين ظاهراً، ما عجّل النّاس الفطر؛ لأنّ اليهود والنّصارى يؤخّرون" (¬1). وقال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 199): "من البدع المنكَرة ما أُحدِث في هذا الزّمان؛ من إِيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جُعلت علامةً لتحريم الأكل والشرب على من يريد الصيام؛ زعماً ممّن أحدثه أنّه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك إِلا آحاد النّاس. وقد جرّهم ذلك إِلى أنْ صاروا لا يؤذِّنون إِلا بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت زعموا، فأخَّروا الفِطر وعجَّلوا السّحور وخالفوا السنّة، فلذلك قلَّ عنهم الخير وكثير فيهم الشرّ، والله المستعان". متى يُفطر الصائم عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أقبل الليل (¬2) من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس من ها هنا؛ فقد أفطر الصائم" (¬3). وعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: "كنّا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر وهو صائم، فلمّا غابت الشّمس قال لبعض القوم: يا فلان قُم فاجدح ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2063) وابن خزيمة في "صحيحه" (2060)، وقال شيخنا -رحمه الله -: إسناده حسن. (¬2) أي: من جهة المشرق. (¬3) أخرجه البخاري: 1954، ومسلم: 1100.

لنا (¬1)، فقال: يا رسول الله لو أمسيت (¬2)، قال: انزل فاجدَحْ لنا، قال: يا رسول الله فلو أمسيت، قال: انزل فاجدَحْ لنا، قال: إِنّ عليك نهارا (¬3)، قال: انزل اجدَحْ لنا. فنزل فجدَح لهم، فشرب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمّ قال: إِذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا؛ فقد أفطر الصائم" (¬4). وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 215): "وسُئل عن غروب الشّمس: هل يجوز للصائم أنْ يفطر بمجرد غروبها؟ فأجاب: إِذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق، وإذا غاب جميع القرص ظهر السواد من المشرق، كما قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس؛ فقد أفطر الصائم"". ¬

_ (¬1) الجدْح: تحريك السَّويق ونحوه بالماء بعود، يُقال له المِجْدَح [عود] مُجَنَّح الرأس [وربّما يكون له ثلاث شعب]. "الفتح" والزيادة من "النهاية". والسَّويق: طعام يُتخذ من مدقوق الحنطة والشعير، سمي بذلك؛ لانسياقه في الحلق. "الوسيط". (¬2) لو أمسيت: فيه دليل على أنّ وقت المساء يبدأ مِن غروب الشمس قاله بعض طلاّب العلم. (¬3) قال الحافظ -رحمه الله-: يُحْتمل أن يكون المذكور كان يرى كثرة الضوء من شدة الصحو؛ فيظن أنَ الشّمس لم تغرب، ويقول لعلّها غطّاها شيء من جبلٍ ونحوه، أو كان هناك غيم فلم يتحقَّق غروب الشّمس. (¬4) أخرجه البخاري: 1955، ومسلم: 1101.

علام يفطر؟

علام يُفطر؟ يسنّ أن يُفطر على رطبات قبل صلاة المغرب، فإِنْ لم يجد فعلى تمرات، فإِن لم يجد فعلى الماء. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفطر على رُطبات، قبل أنْ يُصلّي، فإِنْ لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإِنْ لم تكن حسا (¬1) حسَوات من ماء" (¬2). 3 - الدعاء عند الفِطر عن مروان (¬3) قال: "رأيت ابن عمر يقبض على لحيته، فيقطع ما زاد على الكفّ، وقال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا أفطر قال: ذهب الظمأ، وابتلّت العُروق (¬4)، وثبت الأجر (¬5) إِن شاء الله" (¬6). ¬

_ (¬1) حسا: أي: شرِب، وفي "النهاية": "الحُسوة -بالضمّ- الجرعة من الشراب، بقدر مرة واحدة والحَسوة -بالفتح- المرّة". (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2065)، وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (922)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (1064)، وهذا حتى يصلّي الجماعة في المسجد؛ إِن كان يسمع النداء، أو يصلّي مع أهل بيته جماعة كذلك، ثم يستكمل طعامه. (¬3) هو ابن سالم المقفع. (¬4) وابتلت العُروق: أي: بزوال اليبوسة الحاصلة بالعطش. (¬5) وثبت الأجر: أي: حصل الثواب، وهذا حثٌّ على العبادات، فإِنّ التعب يُسرّ لذَهابه وزواله. قال الطيبي: ذِكر ثبوت الأجر بعد زوال التعب استلذاذ أيّ استلذاذ، ونظيره قوله تعالى حكايةً عن أَهل الجنة: {الحمد لله الذي أذهب عنّا الحَزَن إِنّ ربنا لغفورٌ شكور}. [فاطر: 34]، انظر "المرقاة" (4/ 488). (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2066)، وغيره، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (920).

4 - الجود ومدارسة القرآن.

4 - الجود ومدارسة القرآن. عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجود النّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كلّ ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلَرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة (¬1) " (¬2). فينبغي الاقتداء بالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجود والعطاء. قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 193) تبويباً لهذا الحديث: (باب استحباب الجود بالخير والعطايا في شهر رمضان إِلى انسلاخه، استناناً بالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -). 5 - الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا دخل العَشرُ شدَّ ¬

_ (¬1) المرسلة: أي: المطلقة يعني: أنّه في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبّر بالمرسَلَة إِشارة إِلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده كما تعمّ الريح المرسَلَة جميع ما تهب عليه ... وقال النووي: في الحديث فوائد: منها: الحث على الجود في كل وقت، ومنها: الزيادة في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح، وفيه: زيارة الصلحاء وأهل الخير، وتكرار ذلك إِذا كان المزور لا يكرهه، واستحباب الإكثار من القراءة في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار. "الفتح" (1/ 31)، وتقدّم. (¬2) أخرجه البخاري: 3220، ومسلم: 2308، وتقدّم في "كتاب الزكاة".

ترهيب الصائم من الغيبة والفحش والكذب ونحو ذلك

مِئْزره (¬1) وأحيا ليله، وأيقظ أهله (¬2) " (¬3). وفي رواية: "كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره" (¬4). وعن علي -رضي الله عنه- "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان" (¬5). ترهيب الصائم من الغِيبة والفُحش والكذب ونحو ذلك (¬6) لا شكّ أنّ الصِّيام يهذِّب النّفس ويزكّيها، ويمرّسها على فِعل الخير وترْك الشر، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون} (¬7). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يدَع قول الزور والعَمَلَ به؛ فليس لله حاجةٌ؛ في أن يدَع طعامه وشرابه" (¬8). ¬

_ (¬1) أي: اعتزل النساء، وقال الخطابي: يُحتمل أنه يريد به الجدّ في العبادة، كما يُقال: شددت لهذا الأمر مئزري، أي: تشمّرْت له، ويحتمل أن يراد التشمير والاعتزال معاً ... ". "فتح" (4/ 269). (¬2) أي: للصلاة. (¬3) أخرجه البخاري: 2024، ومسلم: 1174. (¬4) أخرجه مسلم: 1175. (¬5) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (637). (¬6) هذا العنوان من كتاب "الترغيب والترهيب" للمنذري. (¬7) البقرة: 183. (¬8) أخرجه البخاري: 1903.

ما يباح للصائم

وعنه -رضي الله عنه- أيضاً قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلاَّ الجوع، ورُبَّ قائم ليس له مِن قيامه إِلا السّهر" (¬6). وعنه أيضاً قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قال الله: كلّ عمل ابن آدم له، إِلا الصّيام فإِنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة (¬1). وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث (¬2) ولا يصخب (¬3)، فإِنْ سابّه أحدٌ أو قاتله فليقل إِنّي امرؤٌ صائم" (¬4). وعنه كذلك -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تسابّ وأنت صائم، فإِنْ سابّك أحد؛ فقل: إِنّي صائم، وإنْ كنتَ قائماً فاجلس" (¬5). ما يُباح للصائم 1 - الغُسل تعبُّداً، كالاغتسال من جنابة باحتلام، أو جماعٍ قبل الفجر أو ¬

_ (¬6) أخرجه ابن ماجه -واللفظ له- والنسائي وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله - في "صحيح الترغيب والترهيب" (1069). (¬1) جُنّة: أي: وقاية كما تقدّم. (¬2) يرفُث: من الرفث، كلمة جامعة لكل ما يريدهُ الرجل من المرأة. "النهاية". (¬3) الصخب: الخصام والصياح كما تقدّم. (¬4) أخرجه البخاري: 1904، ومسلم: 1151، وتقدّم. (¬5) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (3/ 241)، وقال شيخنا -رحمه الله-: وإسناده صحيح وأخرجه ابن حبان من طريق المصنف، قال ابن خزيمة (3/ 241): "باب الأمر بالجلوس إِذا شتم الصائم وهو قائم؛ لتسكين الغضب على المشتوم؛ فلا ينتصر بالجواب".

2 - أن يصبح جنبا

اغتسال الجمعة؛ أو تبرُّداً من حرٍّ ونحوه، وله أن يصبّ الماء على رأسه من عطشٍ أو حرّ. عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَر الناس في سفره عام الفتح بالفطر، وقال: تقَوَّوْا لعدوِّكم، وصام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال أبو بكر: قال الذي حدَّثني: لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعَرْج (¬1) يصبّ على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحرّ" (¬2). وعن عائشة وأمّ سلمة -رضي الله عنهما- "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله؛ ثمّ يغتسل ويصوم" (¬3). وبلّ ابن عمر -رضي الله عنهما- ثوباً فألقاه عليه وهو صائم، ودخل الشعبي الحمّام وهو صائم" (¬4). وجاء في "المغني" (3/ 45): ولا بأس أن يغتسل الصائم، وذكر حديث عائشة وأم سلمة -رضي الله عنهما-. 2 - أن يصبح جُنباً لحديث عائشة وأمّ سلمة -رضي الله عنهما- ¬

_ (¬1) اسم موضع. (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2072)، وغيرهما. (¬3) أخرجه البخاري: 1925، ومسلم: 1109. (¬4) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به، ووصله في "التاريخ"، وابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن أبي عثمان أنّه رأى ابن عمر يفعل ذلك، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 451).

3 - المضمضة والاستنشاق من غير مبالغة.

المتقدّم. 3 - المضمضة والاستنشاق من غير مبالغة. عن لقيط بن صَبِرَةَ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بالِغْ في الاستنشاق إلاَّ أنْ تكون صائماً" (¬1). وقال عطاء: إِنْ تمضمض ثمّ أفرغ ما في فيه من الماء، لا يَضيره إِن لم يَزْدَرِدْ (¬2) ريقه، وماذا بقي في فيه (¬3). وقال الحسن: "لا بأس بالمضمضة والتبرّد للصائم" (¬4). وقال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 161): "قال ابن المنذر: أجمعوا على أنّه لا شيء على الصائم فيما يبتلعه ممّا يجري مع الريق؛ ممّا بين أسنانه؛ ممّا لا يقدر على إِخراجه". جاء في "الشرح الكبير" (3/ 44): "المضمضة والاستنشاق لا يفطّر بغير خلاف؛ سواء كان في طهارة أو غيرها". ¬

_ (¬1) تقدّم. (¬2) أي: يبتلع. (¬3) أخرجه البخاري -رحمه الله- معلقاً بصيغة الجزم، قال شيخنا -رحمه الله-: وصله سعيد بن منصور وعبد الرزاق، لكن عند عبد الرزاق (7487) زيادة: "قلت: فإِن أزدرده وهو يقال له: إنّه ينهى عن ذلك؟ قال: قد أفطر إِذن. غير مرةّ يقول ذلك وسنده صحيح، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 453). (¬4) أخرجه البخاري معلّقاً مجزوماً به، ووصَله عبد الرزاق بمعناه، وأخرج مالك وأبو داود نحوه مرفوعاً، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 451).

4 - الاكتحال والقطرة ونحوها مما يدخل العين

وفي "المغني" (3/ 44): "وإنْ تمضمض أو استنشق في الطهارة؛ فسبق الماء إِلى حلْقه من غير قصد ولا إِسراف، فلا شيء عليه، وبه قال الأوزاعي وإسحاق والشافعي في أحد قوليه ورُوي ذلك عن ابن عباس. وقال مالك وأبو حنيفة: يفطر؛ لأنه أوصل الماء إِلى جوفه؛ ذاكراً لصومه فأفطر كما لو تعمّد شربه ... ". ا. هـ والصواب أنه لا يُفطّر؛ لعموم قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إِلا وسعها} (¬1)، وقوله سبحانه: {ما جَعل عليكم في الدين مِن حَرَج} (¬2). 4 - الاكتحال والقطرة ونحوها ممّا يدخل العين؛ سواء أَوَجَد طعْمه في حلقه أم لم يَجده، لأنّ العين ليست بمنفذ إِلى الجوف (¬3). عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: اكتحل رسول الله وهو صائم" (¬4). وعن أنس بن مالك: "أنّه كان يكتحل وهو صائم" (¬5). عن الأعمش قال: "ما رأيت أحداً من أصحابنا يكره الكحل للصّائم، ¬

_ (¬1) البقرة: 286. (¬2) الحج: 78. (¬3) "فقه السنة" (1/ 460). (¬4) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1360). (¬5) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به، وانظر "الفتح" (4/ 153)، ووصَله أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2082)، وقال شيخنا -رحمه الله-: حسن موقوف.

وكان إِبراهيم (¬1) يرخّص أن يكتحل الصائم بالصَّبر" (¬2). وقال الحسن: "لا بأس بالكحل للصائم" (¬3). جاء في كتاب "الأمّ" (4/ 365): "قال الشافعي: ولا يُفْسِد الكُحل وإن تنخَّمه، فالنخامة تجيء من الرأس باستنزاله، والعين متصلة بالرأس، ولا يصل إِلى الرأس والجوف -عِِلْمي- ولا أعلم أحداً كره الكحل على أنّه يفطِّر". وسألت شيخنا -رحمه الله-: ما رأيكم فيمن يقول: إِن الاكتحال والقطرة لا يفطران؛ سواء وجَد طعمه في الحلق أم لم يجد؟ فقال: هو كذلك، وإذا وجَد طعمه لفَظه، ولا يجوز بلْعه. وقال أحد الإِخوة الحاضرين: وهل يُفطر إِذا بلَعَه؟ فقال -رحمه الله-: نعم. وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 241): " ... وإذا كانت الأحكام التي تعمّ بها البلوى لا بد أن يبيّنها الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بياناً عامّاً، ولا بدّ أَنْ تنقل الأمّة ذلك، فمعلوم أنّ الكحل ونحوه مما تعمّ به البلوى كما تعمّ بالدُّهن والاغتسال والبخور والطّيب، فلو كان هذا ممّا يفطِّر لبيّنه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما بيّن الإِفطار بغيره، فلمّا لم يُبيّن ذلك؛ عُلِم أنّه من جنس الطيب ¬

_ (¬1) هو النخعي، وانظر "بذل المجهود" (11/ 194). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2083)، وانظر "الفتح" (4/ 154). (¬3) أخرجه عبد الرزاق بإِسناد صحيح عنه؛ كما قال الحافظ في "الفتح" (4/ 154) وأورده البخاري معلقاً مجزوماً به.

والبخور والدّهن. والبخور قد يتصاعد إِلى الأنف ويدخل في الدِّماغ وينعقد أجساماً، والدّهن يشربه البدن، ويدخل إِلى داخله ويتقوّى به الإِنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوّة جيدة، فلمّا لمْ يُنه الصّائم عن ذلك؛ دلّ على جواز تطييبه وتبخيره وادّهانه، وكذلك اكتحاله. وقد كان المسلمون في عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجْرح أحدهم؛ إِمّا في الجهاد وإمّا في غيره مأمومة (¬1) وجائفة (¬2)، فلو كان هذا يفطر لبيّن لهم ذلك، فلما لم ينه الصائم عن ذلك عُلِمَ أنّه لم يجعله مفطِّراً". وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 244) أيضاً: "فإِنّ الكحل لا يُغَذِّي البتة، ولا يُدْخِل أحد كحلاً إِلى جوفه؛ لا من أنفه ولا فمه". 5 - القبلة والمباشرة لمن قدر على ضبط نفسه. عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبِّل ويُباشر وهو صائم، وكان أملككم لأربه (¬3) " (¬4). وجاء في "الصحيحة" (1/ 433): -بتِصرف- تحت هذا الحديث: ¬

_ (¬1) المأمومة: أي: الشَّجَّة في الرّأس، تصل إِلى أم الدماغ، وأمّ الدّماغ: الجلِدة الرّقيقة التي تجمعه، يقال: بلغت الشّجّة أمّ الدّماغ. "الوسيط". (¬2) الجائفة: الطعنة التي تبلغ الجوف. "اللسان". (¬3) لأرَبه: بفتح الهمزة والرّاء أي: حاجته، ويروى بكسر الهمزة وسكون الرّاء [إِرْبه] أي: عضوه، والأوّل أشهر، وِإلى ترجيحه أشار البخاري بما أورده من التفسير. "الفتح". (¬4) أخرجه البخاري: 1927، ومسلم: 1106.

"ومرادها -رضي الله عنها- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان غالباً لهواه. و (الإِرب): هو بفتح الهمزة أو كسرها، قال ابن الأثير: "وله تأويلان: أحدهما: أنّه الحاجة. والثاني: أنّه أراد به العضو، وعنت به من الأعضاء الذَّكَر خاصّة. وهو كناية عن المجامعة". قال في "المرقاة": "وأمّا ذِكر الذَّكَر؛ فغير ملائم للأنثى، لا سيّما في حضور الرِّجال"، وراجع تمام البحث فيه. وفي الحديث فائدة أخرى على الحديث الذي قبله، وهي جواز المباشرة من الصائم، وهي شيء زائد على القبلة، وقد اختلفوا في المراد منها هنا، فقال القاري: "قيل: هي مسُّ الزوج المرأة فيما دون الفرج، وقيل: هي القبلة واللَّمس باليد". قلت: [أي: شيخنا -رحمه الله تعالى-] ولا شكَّ أنّ القبلة ليست مرادة بالمباشرة هنا؛ لأنّ الواو تفيد المغايرة، فلم يبق إلاَّ أن يكون المراد به إِمّا القول الأوّل أو اللّمس باليد، والأوّل هو الأرجح، لأمرين: الأوّل: حديث عائشة الآخر قالت: "كانت إِحدانا إِذا كانت حائضاً، فأراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يباشرها؛ أمَرها أن تتزر في فور حيضتها، ثمّ يباشرها. قالت: وأيّكم يملك إِرْبَه؟! ". رواه البخاري (1/ 320)، ومسلم (1/ 166 و 167) وغيرهما. فإِنّ المباشرة هنا هي المباشرة في حديث الصيام؛ فإِنّ اللّفظ واحد، والدّلالة واحدة، والرِّواية واحدة أيضاً.

بل إِنّ هناك ما يؤيِّد المعنى المذكور، وهو الأمر الآخر، وهو أن السَّيدة عائشة -رضي الله عنها- قد فسّرت المباشرة بما يدلّ على هذا المعنى، وهو قولها في رواية عنها: "كان يباشر وهو صائم، ثمّ يجعل بينه وبينها ثوباً. -يعني: الفرج-" (¬1). قلت: [أي: شيخنا -رحمه الله-]: "وفي هذا الحديث فائدة هامّة، وهو تفسير المباشرة بأنّه مسّ المرأة فيما دون الفرج،؛ فهو يؤيّد التفسير الذي سبق نقْله عن القاري، وإن كان حطططططكاه بصيغة التمريض: (قيل)؛ فهذا الحديث يدلّ على أنّه قول معتمد، وليس في أدلّة الشّريعة ما ينافيه، بل قد وجدنا في أقوال السّلف ما يزيده قوّة؛ فمنهم راوية الحديث عائشة نفسها -رضي الله عنها- فَرَوَى الطحاوي (1/ 347) بسند صحيح عن حكيم بن عقال أنّه قال: "سألْتُ عائشة: ما يحرم عليَّ من امرأتي وأنا صائم؟ قالت: فرجها". وحكيم هذا وثّقه ابن حبان، وقال العجلي: "بصري، تابعي، ثقة". وقد علّقه البخاري (4/ 120) بصيغة الجزم: "باب المباشرة للصائم، وقالت عائشة -رضي الله عنها-: يحرم عليه فرجها". وقال الحافظ: "وصله الطحاوي من طريق أبي مرّة مولى عقيل عن حكيم ابن عقال ... وإسناده إِلى حكيم صحيح. ويؤدّي معناه أيضاً ما رواه عبد الرزاق بإِسناد صحيح عن مسروق: سألت ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وابن خزيمة في "صحيحه"، وانظر "الصحيحة" (221).

عائشة: ما يحلُّ للرّجل من امرأته صائماً؟ قالت: كلّ شيء؛ إِلا الجماع". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله تعالى-]: وذكَره ابن حزم (6/ 211) محتجّاً به على من كره المباشرة للصائم. ثمّ ذكَر ابن حزم عن سعيد بن جبير: "أنّ رجلاً قال لابن عبّاس: إِنّي تزوجت ابنة عمّ لي جميلة، فبُني بي في رمضان، فهل لي -بأبي أنت وأمّي- إِلى قُبْلتها من سبيل؟ فقال له ابن عبّاس: هل تملك نفسك؟ قال: نعم. قال: قبِّل. قال: فبأبي أنت وأمّي؛ هل إِلى مباشرتها من سبيل؟ قال: هل تملك نفسك؟ قال: نعم، قال: فباشِرها. قال: فهل لي أن أضرب بيدي على فرجها مِن سبيل؟ قال: وهل تملك نفسك؟ قال: نعم، قال: اضرب". قال ابن حزم: "وهذه أصحّ طريق عن ابن عبّاس". قال: "ومن طرق صحاح عن سعد بن أبي وقّاص أنّه سُئل: أتقبِّل وأنت صائم؟ قال: نعم، وأقبض على متاعها. وعن عمرو بن شرحبيل أنّ ابن مسعود كان يباشر امرأته نصف النّهار وهو صائم، وهذه أصحّ طريق عن ابن مسعود". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله تعالى-]: أثر ابن مسعود هذا أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 167/2) بسند صحيح على شرطهما، وأثر سعد هو عنده بلفظ: "قال: نعم؛ وآخذ بجهازها"، وسنده صحيح على شرط مسلم.

وأثر ابن عبّاس عنده أيضاً، ولكنّه مختصر بلفظ: "فرخّص له في القبلة والمباشرة ووضع اليد؛ ما لم يعْدُه إِلى غيره"، وسنده صحيح على شرط البخاري. وروى ابن أبي شيبة (2/ 170/1) عن عمرو بن هَرِم قال: "سُئل جابر بن زيد عن رجل نظر إِلى امرأته في رمضان؛ فأمنى من شهوتها؛ هل يفطر؟ قال: لا؛ ويتمّ صومه". وإِسناده جيّد، وعلّقه البخاري على عمرو بصيغة الجزم، وسكت عنه الحافظ (4/ 151). وترجم ابن خزيمة للحديث بقوله: "باب الرخصة في المباشرة التي هي دون الجماع للصائم، والدليل على أنّ اسم الواحد قد يقع على فِعلين أحدهما مباح والآخر محظور"". وعن عمر بن الخطاب قال: "هَشِشْتُ فقبَّلتُ وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، صنعت اليوم أمراً عظيماً، قبَّلتُ وأنا صائم. قال: أرأيتَ لو مضمضتَ من الماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به، قال: فمه؟ " (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- "أنّ رجلا سأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ عن المباشرة للصائم، فرخَّص له، وأتاه آخر فنهاه، فإِذا الذي رخَّص له شيخ، والذي نهاه شابٌ" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان يقبّلني وهو صائم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2089). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2090).

وأنا صائمة" (¬1). وجاء في "الصحيحة" (1/ 430): "والحديث دليل على جواز تقبيل الصائم لزوجته في رمضان، وقد اختلف العلماء في ذلك على أكثر من أربعة أقوال؛ أرجحها الجواز، على أن يراعَى حال المقبِّل؛ بحيث إِنّه إِذا كان شابّاً يخشى على نفسه أن يقع في الجماع الذي يفسد عليه صومه؛ امتنع من ذلك. وإلى هذا أشارت السيدة عائشة -رضي الله عنها- في الرواية الآتية عنها: " ... وأيُّكم يملك إِربه؟ ". بل قد روي ذلك عنها صريحاً؛ فقد أخرج الطحاوي (1/ 346) من طريق حريث بن عمرو عن الشّعبي عن مسروق عنها قالت: "ربما قبّلني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وباشرني وهو صائم، أمّا أنتم؛ فلا بأس به للشيخ الكبير الضعيف". وحريث هذا أورده ابن أبي حاتم (2/ 2/263) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، بل جاء هذا مرفوعاً من طرق عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ يقوّي بعضها بعضاً، أحدها عن عائشة نفسها. ويؤيده قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دع ما يبريبك إِلى ما لا يريبك" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وانظر "الصحيحة" (219). (¬2) أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "غاية المرام" (179) و"الإِرواء" (12 و 2074).

ولكن ينبغي أن يُعلم أنّ ذِكر الشيخ ليس على سبيل التحديد، بل المراد التمثيل بما هو الغالب على الشيوخ من ضعف الشهوة، وإلا فالضّابط في ذلك قوّة الشهوة وضعْفها، أو ضعْف الإِرادة وقوّتها. وعلى هذا التفصيل تُحمل الروايات المختلفة عن عائشة -رضي الله عنها- فإِنّ بعضها صريح عنها في الجواز مطلقاً؛ كحديثها هذا؛ لا سيّما وقد خرج جواباً على سؤال عمرو بن ميمون لها في بعض هذه الروايات، وقالت: و {لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬1). وبعضها يدلّ على الجواز حتّى للشّابّ؛ لقولها: "وأنا صائمة"؛ فقد توفِّي عنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعمرها (18) سنة. ومِثله ما حدَّثت به عائشة بنت طلحة؛ أنّها كانت عند عائشة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدخَل عليها زوجها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وهو صائم، فقالت له عائشة: ما منعك أن تدنو من أهلك فتقبِّلها وتلاعبها؟ فقال: أقبّلها وأنا صائم؟! قالت: نعم. أخرجه مالك (1/ 274)، وعنه الطحاوي (1/ 327)، بسند صحيح. قال ابن حزم (6/ 211): "عائشة بنت طلحة كانت أجمل نساء أهل زمانها، وكانت أيّام عائشة هي وزوجها فتيين في عنفوان الحداثة". وهذا ومثله محمول على أنّها كانت تأمن عليهما، ولهذا قال الحافظ في "الفتح" (4/ 123) -بعد أن ذكَر هذا الحديث من طريق النّسائي-: " ... فقال: وأنا صائم؟! فقبّلني": ¬

_ (¬1) الأحزاب: 21.

6 - الحقنة لغير التغذية

"وهذا يؤيده ما قدّمناه أنّ النّظر في ذلك لمن لا يتأثّر بالمباشرة والتقبيل، لا للتفرقة بين الشاب والشيخ؛ لأنّ عائشة كانت شابّة. نعم لمّا كان الشابُّ مظنّة لهيجان الشهوة؛ فرّق من فرّق"" انتهى. قال ابن قدامة -رحمه الله- في "المغني" (3/ 39): فيمن قبّل أو لمس: " ... أن يُمني فيفطر بغير خلافٍ نعلمه ... ". قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 151): "كذا قال، وفيه نظر، فقد حكى ابن حزم أنّه لا يفطر ولو أنزل، وقوّى ذلك، وذهب إِليه ... ". وسيأتي -إِن شاء الله تعالى-: (هل الاستمناء بتقبيل الرجل زوجه أو باليد يفسد الصوم)؟ 6 - الحُقنة لغير التغذية يباح للصائم استعمال الحقنة لغير التغذية. قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 233): "وأمّا الكحل والحقنة وما يقطر في إِحليله (¬1)، ومداواة المأمومة والجائفة؛ فهذا ممّا تنازع فيه أهل العلم، فمنهم من لم يفطّر بشيء من ذلك، ومنهم من فطَّر بالجميع لا بالكحل، ومنهم من فطَّر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لم يفطِّر بالكحل ولا بالتقطير ويفطِّر بما سوى ذلك. والأظهر أنّه لا يفطر بشيء من ذلك، فإِنّ الصّيام من دين المسلمين الذي يحتاج إِلى معرفته الخاصّ والعامّ، فلو كانت هذه الأمور مما حرّمها الله ¬

_ (¬1) هو مخرج البول. "الوسيط".

7 - الحجامة

ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها، لكان هذا ممّا يجب على الرسول بيانه، ولو ذَكَر ذلك لعلِمه الصحابة وبلّغوه الأمّة؛ كما بلغوا سائر شرْعه، فلمّا لم يَنقُل أحد من أهل العلم عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً؛ عُلِم أنّه لم يذكر شيئاً من ذلك. والحديث المرويّ في الكحل ضعيف. رواه أبو داود في "السنن" ولم يروه غيره، ولا هو في مسند أحمد، ولا سائر الكتب المعتمدة". ثمّ أشار -رحمه الله- إِلى ما رُوي عنه: "أنّه أمر بالإِثمد المروَّح (¬1) عند النّوم وقال: ليتقه الصائم وبيَّن أقوال بعض العلماء في عدم ثبوته. وقال -رحمه الله- (ص 245): " ... فالصائم نُهِي عن الأكل والشرب؛ لأنّ ذلك سبب التقوّي، فترك الأكل والشرب الذي يُولِّد الدم الكثير الذي يجري فيه الشيطان؛ إِنّما يتولد من الغذاء لا عن حقنة ولا كحل، ولا ما يقطر في الذكَر ولا ما يداوى به المأمومة (¬2) والجائفة (¬3) ... ". وسألت شيخنا -رحمه الله- عن الحقنة؛ فبيّن أنّه يرى جوازها لغير التغذية، وأنها تفطّر إِذا كانت للتغذية من أيّ طريق. 7 - الحجامة عن ثابت البُنَاني قال: "سُئل أنس بن مالك -رضي الله عنه- أكنتم ¬

_ (¬1) أي: المطيّب بالمسك؛ كأنّه جُعل له رائحة تفوح بعد أن لم تكن له رائحة. "النهاية". (¬2) المأمومة: أي: الشجّة في الرأس تصِل إِلى أمّ الدماغ، وتقدّم. (¬3) الجائفة: الطعنة التي تبلغ الجوف، وتقدّم.

تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إِلا من أجل الضعف" (¬1). عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- "أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو صائم" (¬2). وعن ابن عبّاس وعكرمة -رضي الله عنهم- قالا: "الصوم ممّا دخَل وليس ممّا خرَج" (¬3). ولا يعكّر على هذا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفطر الحاجم والمحجوم" (¬4). قال شيخنا -رحمه الله- في "مختصر البخاري" (1/ 455) -بحذف-: " ... لكنّ الحديث منسوخ، وناسخه حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "أَرْخَص النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحجامة للصائم" وهو صحيح كما بينته هناك (¬5). وجاء في "الإِرواء" (4/ 74): "وفي "الفتح" (4/ 155): وقال ابن حزم: صحّ حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبي سعيد: "أرخص النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحجامة للصائم". وإسناده صحيح، فوجب الأخذ به، لأنّ الرخصة إِنّما تكون بعد العزيمة، فدل على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1940. (¬2) أخرجه البخاري: 1939. (¬3) قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح": "وصَله ابن أبي شيبة وقال شيخنا - رحمه الله-: " .. بإِسنادين صحيحين عنهما" "مختصر البخاري" (1/ 455). (¬4) وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (931). (¬5) أي: "الإِرواء" (4/ 74).

8 - ما لا يمكن التحرر منه كابتلاع الريق

نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجماً أو محجوماً. انتهى. والحديث المذكور أخرجه النسائي (يعني: في "الكبرى")، وابن خزيمة والدارقطني، ورجاله ثقات، لكن اختُلف في رفعه ووقفه". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: قد توبع معتمر عليه. ثمّ ذكَر الطُّرُق التى تقوّيه وقال (ص 75): "فالحديث بهذه الطرق صحيح لا شكّ فيه، وهو نصٌّ في النسخ، فوجب الأخذ به كما سبق عن ابن حزم - رحمه الله-. ثمّ قال شيخنا -رحمه الله- في التحقيق الثاني "للإِرواء" في الصفحة نفسها: "وروى علي بن حجر في "حديثه" (ق 17/ 2): حدثنا حميد الطويل عن أبي المتوكّل الناجي أنّه سأل أبا سعيد الخدري عن الصائم يحتجم فقال: نعم لا بأس به، وسنده صحيح" (¬1). 8 - ما لا يمكن التحرّر منه كابتلاع الريق؛ فإِنّه لا يفطّر، لأنّ اتّقاء ذلك يشقّ، فأشبه غُبار الطريق وغربلة الدقيق ... (¬2). قال عطاء: "إِن ازْدَرَدَ (¬3) ريقه، لا أقول يفطر" (¬4). ¬

_ (¬1) وانظر"صحيح ابن خزيمة" (3/ 235) برقم (1979 و 1980 و 1982). (¬2) قاله ابن قدامة في "المغني" (3/ 39). (¬3) أي: ابتلع. (¬4) أخرجه البخاري مجزوماً به ووصَله عبد الرزاق بسند صحيح، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 451).

9 - السواك والطيب والادهان:

ويُباح شمّ الريحان والطيب والادّهان به، ونحو ذلك والأصل في كلّ هذا استصحاب البراءة الأصلية، ولم يَرد نصٌّ في تحريم ذلك من كتاب أو سُنَّة. 9 - السواك والطيب والادّهان: يباح السّواك للصائم؛ لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لولا أنْ أشقّ على أُمتي؛ لأمرْتهم بالسِّواك عند كلّ صلاة" (¬1). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " .. لأمرتهم بالسِّواك مع كلّ وضوء ... " (¬2). قال البخاري -رحمه الله- "ولم يخصّ الصائم من غيره" (¬3). ثمّ لاستصحاب البراءة الأصلية، وعدم ورود النهي عن ذلك. وقال ابن عمر -رضي الله عنهما- "يستاك أوّل النّهار وآخره" (¬4). وقال ابن سيرين: "لا بأس بالسِّواك الرَّطب، قيل: له طعم، قال: والماء له طعم تُمضْمضُ به" (¬5). جاء في "الإِرواء" (1/ 107): "قال الترمذي: ... إنّ الشافعي لم ير في ¬

_ (¬1) تقدّم. (¬2) تقدّم، وانظر "الإِرواء" (70). (¬3) انظر "مختصر البخاري" (1/ 452). (¬4) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به، ووصَله ابن أبي شيبة (3/ 47)، بمعناه، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 451). (¬5) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به، ووصَله ابن أبي شيبة وانظر "مختصر البخاري" (368).

السواك بأساً للصائم أوّل النّهار وآخره، وكرهه أحمد وإِسحاق آخر النّهار. قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: وفي رواية عن أحمد مثل قول الشافعي، واختارها ابن تيمية في "الاختيارات" وقال (ص 10): إِنّه الأصحّ. قال الحافظ في "التلخيص" (ص 22): "وهذا اختيار أبي شامة وابن عبد السلام والنووي وقال: إِنّه قول أكثر العلماء وتبعهم المزني". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: وهو الحقّ لعموم الأدلّة كالحديث الآتي (¬1) في الحضّ على السواك عند كلّ صلاة، وعند كل وضوء؛ وبه قال البخاري في "صحيحه" (4/ 127) ". انتهى. قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 266): " ... وأمّا السّواك فجائز بلا نزاع، لكن اختلفوا في كراهيّته بعد الزوال على قولين مشهورين، هما روايتان عن أحمد. ولم يقم على كراهيّته دليل شرعي يصلح أنْ يخصّ عمومات نصوص السِّواك". ولا بأس كذلك بالطيب والادّهان، لِمَا تقدّم. وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إِذا كان صوم أحدكم؛ فليصبح دهيناً مترجّلاً" (¬2). ¬

_ (¬1) يشير بذلك إِلى حديث أبي هريرة المتقدّم: "لولا أن أشقَّ على أمتي لأمَرْتُهم بالسواك ... ". (¬2) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 451).

هل يباح ذوق الطعام؟

هل يباح ذوق الطّعام؟ وفي "المغني" (3/ 46): "قال أحمد: أحبّ إِليّ أنْ يجتنب ذوق الطعام، فإِنْ فعل لم يضرّه ولا بأس به. قال ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: "لا بأس أنْ يذوق الطعام: الخلّ والشّيء يريد شراءه" (¬1). وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 266): "وذوق الطعام يكره لغير حاجة؛ لكن لا يفطّره، وأمّا للحاجة فهو كالمضمضة (¬2) ". المفطّرات 1 - الأكل والشُّرب عمداً عن طريق الفم أو الإِبر المغذّية ونحوه، فإِن أكل أو شرب ناسياً فلا يفطر، ولا قضاء عليه ولا كفّارة. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أكل ناسياً وهو صائم؛ فليُتمّ صومه فإِنّما أطعمه الله وسقاه" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري -رحمه الله- معلقاً مجزوماً عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: "أنّه قال: لا بأس أن يتطعَّم القِدْر أو الشيء، ووصله ابن أبي شيبة في "المصنف" والبغوي في "الجعديات"، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 451) وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (937). (¬2) أي: لا يُفطّر. (¬3) أخرجه البخاري: 6669، ومسلم: 1155.

وجاء في "الإِرواء" (4/ 86): "ولفظ أبي داود: "جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إِنّي أكلت وشربت ناسياً، وأنا صائم؟ فقال: أطعمك الله وسقاك". وهو (¬1) رواية للبيهقي وابن حبان (3513)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وقال الدارقطني وزاد: "ولا قضاء عليه": إِسناده صحيح وكلهم ثقات". وفيه (ص 87): عن أبي سلمة عنه بلفظ: "من أفطر في شهر رمضان ناسياً، فلا قضاء عليه، ولا كفّارة" (¬2). وفي الحديث: "رُفع عن أمّتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" (¬3). 2 - القيء عمداً، فإِنْ غَلَبَه وسَبَقه؛ فلا قضاء عليه ولا كفّارة. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من ذَرَعه (¬4) ¬

_ (¬1) قاله -رحمه الله- في التحقيق الثاني. (¬2) قال شيخنا -رحمه الله تعالى- في الكتاب المذكور: أخرجه ابن حبان (906) والحاكم (1/ 430) وصححه على شرط مسلم! ووافقه الذهبي، وأخرجه الدارقطني والبيهقي وقالا: "كلهم ثقات". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: وإسناده حسن. وانظر ما قاله شيخنا -رحمه الله- في التعليق على صحيح ابن خزيمة (3/ 239) و"التعليقات الرضية" (2/ 16). (¬3) أخرجه ابن ماجه وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (82 و 2565)، وتقدّم. (¬4) ذرعَه: أي: سبقه وغلبه في الخروج. "النهاية".

القيء وهو صائم، فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض" (¬1). قال ابن المنذر -رحمه الله-: وأجمعوا على إِبطال صوم من استقاء عامداً. "الإِجماع" (ص 47). قال الترمذي: "والعمل عند أهل العلم على حديث أبي هريرة، عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنّ الصائم إِذا ذرعه القيء، فل قضاء عليه، وإذا استقاء عمداً فليقض. وبه يقول الشافعي، وسفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق". 3 - الحيض والنّفاس إِذا وقع قبل غروب الشمس ولو بلحظات. 4 - الجماع، وتجب الكفّارة (¬2) الآتي بيانها -إِن شاء الله- في هذا الحديث: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بينما نحن جلوس عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هَلَكتُ، قال: مالك؟ قال: وقعت ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2084) وابن ماجه والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (577) وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (923). (¬2) وهذا خاصّ في صوم رمضان دون غيره؛ لعدم ورود النصّ في غير رمضان. قال في "المغني" (3/ 61): "ولا تجب الكفّارة بالفطر في غير رمضان في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء. وقال قتادة: تجب على من وطئ في قضاء رمضان، لأنّه عبادة تجب الكفّارة في أدائها، فوجبت في قضائها كالحجّ. ولنا أنّه جامع في غير رمضان فلم تلزمه كفّارة كما لو جامع في صيام الكفّارة ويفارق القضاء الأداء؛ لأنّه متعيّن بزمان محترم، فالجماع فيه هتك له بخلاف القضاء".

على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إِطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: فمكث النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبينا نحن على ذلك أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعَرَق (¬1) فيها تمر -والعرق: المِكتَل (¬2) - قال: أين السائل؟ فقال: أنا، قال: خُذ هذا فتصدق به. فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابَتَيها (¬3) -يريد الحرَّتيْن- أهل بيتٍ أفقرُ من أهل بيتي، فضحك النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت أنيابه ثم قال: أطعِمه أهلك" (¬4). أمّا إِذا جامَع ناسياً، فلا يفطر، ولا كفّارة عليه ولا قضاء، مع أنّ تحقّق هذا قد يصعب، لأن أحد الزوجين قد يتذكر، فيذكّر الآخر، كما ذكر ذلك شيخنا -رحمه الله-. ¬

_ (¬1) يقال للعَرَق: الزّبيل، والزِّنبيل ويقال له القُفّة وعند الفقهاء ما يسع خمسة عشر صاعاً وهي ستون مدّاً؛ لستّين مسكيناً، لكل مسكين مدّ. وانظر "شرح النووي". (¬2) جاء في "النهاية": المِكتل بكسر الميم: الزَّبيل الكبير [قال ابن دريد: سمّي زبيلاً لأنّه يُحمل فيه الزّبل والعَرَق] قيل: إنّه يسع خمسةَ عشر صاعاً؛ كأنّ فيه كُتلاً من التمر: أي: قطعاً مجتمعة". (¬3) هما الحرّتان، والمدينة بين حرّتين، والحَرّة: الأرض الملبّسة حجارةً سوداً. "شرح النووي". (¬4) أخرجه البخاري: 1936، ومسلم: 1111.

على من تقع الكفارة؟

ولكن لا يبعد أن يقع النّسيان من الطرفين، فربّما كانا في عمرة في رمضان، وبعد التحلّل، وقع الجماع لأن الذهن منصرف بالتحلُّل من العمرة ونسيا شهر رمضان. وقال الحسن ومجاهد: "إِنْ جامَع ناسياً فلا شيء عليه" (¬1). على من تقع الكفّارة؟ اختلف العلماء في ذلك، والراجح وجوبها على الرجل دون المرأة، ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتقدّم؛ كان الخطاب للرجل دون المرأة، " ... هل تجدُ رقبةً تعتقها؛ ... هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين، ... خذ هذا فتصدّق به". جاء في "المغني" (3/ 58): "وهل يلزمها الكفّارة؟ [أي: مع عدم العُذر] على روايتين: إِحداهما: يلزمها، وهو اختيار أبي بكر، وقول مالك وأبي حنيفة وأبي ثور وابن المنذر، ولأنّها هتكت صوم رمضان بالجماع، فوجبت عليها الكفّارة كالرّجل. والثانية: لا كفّارة عليها، قال أبو داود سئل أحمد: من أتى أهله في رمضان أعليها كفّارة؟ قال: ما سمعنا أنّ على امرأة كفّارة. وهذا قول الحسن، وللشافعي قولان كالروايتين، ووجه ذلك أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الواطئ في رمضان أنْ يعتق رقبة، ولم يأمر في المرأة بشيء -مع علمه ¬

_ (¬1) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به، ووصله عبد الرزاق بإِسنادين عنهما، وهو عن مجاهد صحيح، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 452).

ترتيب الكفارة كما وردت في الحديث

بوجود ذلك منها- ولأنّه حقّ يتعلّق بالوطء من بين جنسه، فكان على الرجل كالمهر". وقال في "نيل الأوطار" (4/ 295): عقب حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- السابق: "قوله: "تصدق بهذا" استدلّ به ... من قال: إِنّ الكفّارة تجب على الرجل فقط، وبه قال الأوزاعي وهو الأصحّ من قولي الشافعي. وقال الجمهور: تجب على المرأة على اختلافٍ بينهم في الحُرَّة والأَمَة والمطاوعة والمُكرهَة، وهل هي عليها أو على الرجل". وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل الكفّارة تقع على الرّجُل في جميع الحالات، أم المتسبّب في الجماع؟ فقال -رحمه الله-: الرجل يكفّر في جميع الحالات". ترتيب الكفّارة كما ورَدَت في الحديث وتجب الكفّارة كما هي مُرتّبة في الحديث، فيجب العتق أولاً، فإِنْ لم يستطع صام شهرين متتابعين، فإِنْ لم يستطع أطعم ستين مسكيناً. قال ابن خزيمة -رحمه الله تعالى- في "صحيحه" (3/ 216): "باب إِيجاب الكفّارة على المجامع في الصوم في رمضان بالعتق إِذا وجده، أو الصيام إِذا لم يجد العتق، أو الإِطعام إِذا لم يستطع الصوم" ثم ذكر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. إِذا تكرّر الجماع، هل تتكّرر الكفّارة؟ وإذا تكرّر الجماع في يوم آخر؛ تكرّرت الكفّارة؛ لأنّ كل يومٍ عبادة

لا تجب الكفارة على من لم يستطعها

مستقلة، كما ذكَر بعض أهل العلم. وهذا هو الراجح من أقوال العلماء. وهل يقال لمن يجامع نساءه طوال شهر رمضان نهاراً: عليك كفّارة واحدة؟! لا تجب الكفّارة على من لم يستطعها قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 220): "باب الدليل على أنّ المجامع في رمضان إِذا ملَك ما يُطعم ستين مسكيناً؛ ولم يملك معه قوت نفسه وعياله، لم تجب عليه الكفّارة". ثم ذكر خبر أبي هريرة -رضي الله عنه- "ما بين لابتيها أحوج منّا". هل يجوز صيام الشهرين متفرّقاً في كفّارة الجماع؟ لا يجوز ذلك لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتقدّم: "فهل تستطيع أنْ تصوم الشهرين متتابعين". قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 222): "باب الدليل على أنّ صيام الشّهرين في كفّارة الجماع لا يجوز متفرّقاً؛ إِنِّما يجب صيام شهرين متتابعين". وذكر الشاهد السابق بلفظ مقارب. أَمْر المجامع بقضاء صوم يوم مكان اليوم الذي جامع فيه، إِذا لم يجد الكفّارة. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رجلاً جاء النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد وقع بأهله

هل الاستمناء بمباشرة الرجل زوجه أو باليد يفسد الصوم؟

في رمضان، فذكر الحديث، وقال في آخره: "فصم يوماً، واستغفر الله" (¬1). هل الاستمناء بمباشرة الرجل زوجه أو باليد يفسد الصوم؟ قال السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنّهَ" (1/ 466) في (ما يبطل الصيام): "الاستمناء سواء أكان سببه تقبيل الرجل لزوجته أو ضمّها إِليه، أو كان باليد، فهذا يبطل الصوم ويوجب القضاء". قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 418): "لا دليل على الإِبطال بذلك، وإلحاقه بالجماع غير ظاهر، ولذلك قال الصنعاني: "الأظهر أنه لا قضاء ولا كفّارة إلاَّ على من جامع، وإلحاق غير المجامع به بعيد". وإليه مال الشوكاني، وهو مذهب ابن حزم، فانظر "المُحلّى" (6/ 175 - 177 و205). وممّا يرشدك إِلى أنّ قياس الاستمناء على الجماع قياس مع الفارق؛ أنّ بعض الذين قالوا به في الإِفطار لم يقولوا به في الكفّارة، قالوا: "لأنّ الجماع أغلظ، والأصل عدم الكفّارة". انظر "المهذب" مع "شرحه" للنووي (6/ 368). فكذلك نقول نحن: الأصل عدم الإِفطار، والجماع أغلظ من الاستمناء، فلا يقاس عليه فتأمّل. وقال الرافعي (6/ 396): "المني إِنْ خرَج بالاستمناء أفطر؛ لأنّ الإِيلاج من غير إِنزال مبطل، فالإِنزال بنوع شهوة أولى أن يكون مفطّراً". ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (1954) وأخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1357): بلفظ: "وصم يوماً مكانه". وانظر "الإِرواء" (4/ 91)، وتقدّم.

قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: "لو كان هذا صحيحاً؛ لكان إِيجاب الكفّارة في الاستمناء أولى من إِيجابها على الإِيلاج بدون إِنزال، وهم لا يقولون أيضاً بذلك، فتأمّل تناقض القياسين! أضِف إِلى ذلك مخالفتهم لبعض الآثار الثابتة عن السلف في أنّ المباشرة بغير جماع لا تفطّر ولو أنزل، وقد ذكرْتُ بعضها في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" تحت الأحاديث (219 - 221) (¬1)، ومنها قول عائشة -رضي الله عنها- لمن سألها: ما يحلّ للرجل من امرأته صائماً؟ قالت: "كلّ شيء إِلا الجماع". أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (4/ 190/8439) بسند صحيح، كما قال الحافظ في "الفتح"، واحتج به ابن حزم. وراجع سائرها هناك. وترجم ابن خزيمة -رحمه الله- لبعض الأحاديث المشار إِليها بقوله في "صحيحه" (3/ 242): "باب الرخصة في المباشرة التي هي دون الجماع للصائم، والدليل على أنّ اسم الواحد قد يقع على فعلين: أحدهما مباح، والآخر محظور، إِذ اسم المباشرة قد أوقعه الله في نصّ كتابه على الجماع، ودلّ الكتاب على أنّ الجماع في الصوم محظور، قال المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنّ الجماع يفطّر الصائم، والنّبيّ المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد دلّ بفعله على أنّ المباشرة التي هي دون الجماع مباحة في الصوم، غير مكروهة". وإنّ ممّا ينبغي التنبيه عليه هنا أمرين: ¬

_ (¬1) وذكرْت ما قاله -رحمه الله- فيها تحت (القبلة والمباشرة ... من كتابنا هذا).

الأول: أنّ كون الإِنزال بغير جماع لا يفطّر؛ شيء، ومباشرة الصائم، شيء آخر، ذلك أنّنا لا ننصح الصائم وبخاصّة إِذا كان قوي الشهوة؛ أنْ يباشر وهو صائم، خشية أن يقع في المحظور؛ الجماع، وهذا سداً للذريعة المستفادة من عديد من أدلّة الشريعة، منها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ومَن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه". وكأنّ السيدة عائشة -رضي الله عنها- أشارت إِلى ذلك بقولها حين روت مباشرة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صائم: "وأيّكم يملك إِربه؟ ". والأمر الآخر: أنّ المؤلف لمّا ذكر الاستمناء باليد، فلا يجوز لأحد أن ينسب إِليه أنّه مباح عنده، لأنّه إِنّما ذكَره لبيان أنَّه مبطل للصوم عنده. وأما حكم الاستمناء نفسه، فلبيانه مجال آخر، وهو قد فصّل القول فيه، في "كتاب النكاح"، وحكى أقوال العلماء، واختلافهم فيه ... وأمّا نحن؛ فنرى أنّ الحق مع الّذين حرَّموه، مستدلين بقوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إِلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أَيْمانهم فإِنّهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} (¬1). ولا نقول بجوازه لمن خاف الوقوع في الزنا، إِلا إِذا استعمل الطبَّ النبوي، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للشباب في الحديث المعروف الآمر لهم بالزواج: "فمن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإِنّه له وجاء". ولذلك فإِننا نُنكر أشد الإِنكار على الذين يُفتون الشباب بجوازه؛ خشية الزنا، دون أن يأمرهم بهذا الطبّ النّبويّ الكريم". انتهى. ¬

_ (¬1) المؤمنون: 5 - 7.

وقال أخي الشيخ مشهور حسن -حفظه الله تعالى- في مقدّمة تحقيقه على "بلوغ المنى في حُكم الاستمنى" للشوكاني -رحمه الله- ملخّصاً ما ذهب إِليه في مسألة الاستمناء-: "إِنْ فعَله ليكسر حدَّة شهوته، وشدّة شبقه فحسب فحرام، فإِنْ كان هذا الفعل لدفع مضرّة الزنى أو اللواط، التي باتت أو كادت [أن تكون] متحققة في حقّه، فهو مباح بعد أن يجرّب الصيام، ويجاهد نفسه، ويتقي الله ما استطاع". انتهى. قلت: فلا تنظرنّ إِلى كلمة (فهو مباح) حتى تنظر فيما أشار إِليه من الصيام ومجاهدة النفس، والتقوى المستطاعة؛ وهذا يتضمّن التحصُّن بالصلاة الخاشعة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقراءة القرآن، والأذكار، والدعاء والابتهال إِلى الله -سبحانه- أن يصرف عنك مقته وغضبه. فإِذا اجتمع هذا مع اجتناب الأطعمة والأشربة المثيرة للشهوة، مع غضّ البصر والابتعاد عن الاختلاط وأسباب الفتنة، فإِن النجاة بإِذن الله -تعالى- متحقّقة. لكن؛ لا بُدّ لنا أن نُذكّر بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِن تصدق الله يصدقْك" (¬1)، وبالله التوفيق. وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 214): " ... وأمّا من استمنى فإِنه يُفطر". وتقدم ما جاء في "الصحيحة" (1/ 437): "وروى ابن أبي شيبة (2/ 170/1) عن عمرو بن هرم قال: سُئل جابر بن زيد عن رجل نظر إِلى امرأته في رمضان فأمنى من شهوتها؛ هل يفطر؟ قال: لا؛ ويتمّ صومه". ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النّسائي" (1845) والطبراني وغيرهما.

قال شيخنا -رحمه الله-: وإسناده جيّد، وعلّقه البخاري على عمرو بصيغة الجزم، وسكت عنه الحافظ (4/ 151). وترجم ابن خزيمة للحديث بقوله: "باب الرخصة في المباشرة التي هي دون الجماع للصائم، والدليل على أنّ اسم الواحد قد يقع على فعلين أحدهما مباح والآخر محظور". وجاء في التعليق على "بلوغ المنى في حُكم الاستمنى" (ص54 - في التعليق): "وقرّر المرغيناني في "الهداية" أنّ الاستمناء لا يفطّر ... ". وانظر تفصيل الشيخ مشهور -حفظه الله- (ص 54) فإِنه نافع قويّ. قلت: ومهما يكن مِن أمر؛ فإِنّه لا ينبغي أن نختلف، أو نتفرّق، أو نُوالي، أو نعادي في هذه المسائل. فهناك من قال من أهل العلم أنّ الاستمناء يفطّر، وهناك من قال أنّه لا يفطّر ولا شكّ أنّه حرام -أي باليد ونحوه- لما ذَكرناه وقدّمناه. أمّا الاستمناء بضمّ الزوجة ونحو ذلك في الصيام؛ فمن رأى بعد الاطلاع على ما قال أهل العلم أنّ ذلك لا يفطّر فله ذلك، ومن رأى أنّه يفطّر؛ فإِنّ العلماء القائلين بأنّه لا يفطّر؛ لم يوجبوا عليه هذا الفعل. لكن ليس لأحدٍ أن يُلزم الآخر برأيه، والمهم ألا يتبع المرء هواه، فما دام قد اعتمد على أقوال العلماء، مع بذل الأسباب في معرفة الحقّ والصواب، والتجرّد من الهوى والتعصّب، فقد سدّد وقارب ونجا بإِذن الله -تعالى- وبالله التوفيق.

قضاء رمضان

قضاء رمضان من أفطر لعذر شرعي وجب عليه القضاء. جاء في "الرّوضة النّدية" (1/ 547): "يجب على مَنْ أفطر لعذر شرعي أنْ يقضي؛ كالمسافر والمريض. وقد صرح بذلك القرآن الكريم: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام أُخر} (¬1). وقد ورد في الحائض حديث معاذة عن عائشة -رضي الله عنها- ... والنفساء مِثلها". [بلفظ: فتؤمر بقضاء الصِّيام ولا تؤمر بقضاء الصّلاة] (¬2). متى يقضى قضاء رمضان (¬3) قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {فعِدَّة من أيّام أُخر} (¬4): في القضاء " ... هل يجب متتابعاً أو يجوز فيه التفريق فيه قولان: أحدهما: أنّه يجب التتابع، لأنّ القضاء يحكي الأداء. والثاني؛ لا يجب التتابع، بل إِنْ شاء تابع، وهذا قول جمهور السلف والخلف، وعليه ثبتت الدلائل؛ لأن التتابع إِنِّما وجب في الشّهر؛ لضرورة ¬

_ (¬1) البقرة: 184. (¬2) أخرجه البخاري: 321، ومسلم: 335. (¬3) هذا العنوان في "صحيح البخاري" (كتاب الصوم) "باب - 40". (¬4) البقرة: 185.

أدائه في الشّهر، فأمّا بعد انقضاء رمضان، فالمراد صيام أيام عدّة ما أفطر، ولهذا قال الله تعالى: {فعدّة من أيّام أُخر} ". انتهى. عن أبي سلمة قال: سمعْتُ عائشة -رضي الله عنها- تقول: "كان يكون عليَّ الصيام من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلاَّ في شعبان. قال يحيى: الشُّغل من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬1). وقال ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: "لا بأس أن يُفرِّق؛ لقوله الله تعالى: {فعدّة من أيّام أُخر} (¬2). وعنه -رضي الله عنهما- كذلك في قضاء رمضان: "صُمه كيف شئت"، وقال ابن عمر -رضي الله عنهما- "صُمه كما أفطرته" (¬3). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- في قضاء رمضان-: "يُتابِع بينه" (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: يواتِره (¬5) إِن شاء" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1950، ومسلم: 1146. (¬2) البقرة: 185. (¬3) أخرجه البيهقي وعنه ابن أبي شيبة وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (4/ 95): "وهذا سند صحيح على شرط الشيخين". (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (4/ 95): "وسنده صحيح". (¬5) يواتره: أي: يُفرِّقه، فيصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يَلزَمُه التتابع فيه فيقضيه وتراً وتراً". "النهاية". (¬6) أخرجه الدارقطني وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (4/ 95): "وإسناده صحيح".

قال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 97): "وخلاصة القول؛ أنّه لا يصحّ في التفريق ولا في المتابعة حديث مرفوع، والأقرب جواز الأمرين كما في قول أبي هريرة -رضي الله عنه-[المتقدّم: "يُواتره إِن شاء] (¬1) ". جاء في "الفتح" (4/ 189): "قال الزين بن المنيِّر [-بحذف بعد حديث عائشة رضي الله عنها- السابق]: ... وظاهر صنيع عائشة يقتضي إِيثار المبادرة إِلى القضاء لولا ما منَعَها من الشغل، فيشعر بأنّ من كان بغير عذر لا ينبغي له التأخير. قلت: -أي: الحافظ رحمه الله-: ظاهر صنيع البخاري يقتضي جواز التراخي والتفريق؛ لما أودَعَه في الترجمة من الآثار كعادته -وهو قول الجمهور-. ونقل ابن المنذر وغيره عن عليّ وعائشة وجوب التتابع، وهو قول بعض أهل الظاهر. وروى عبد الرزاق بسنده عن ابن عمر قال: يقضيه تباعاً ... ولا يختلف المجيزون للتفريق أنَّ التتابع أولى". وجاء في "تمام المِنّة" (ص421): "قوله -أي: الشيخ السيد سابق رحمه الله-: "قضاء رمضان لا يجب على الفور، بل يجب وجوباً موسَّعاً في أيِّ وقت، وكذلك الكفَّارة". قلت: -أي: شيخنا رحمه الله- هذا يتنافى مع قوله تعالى: {وسارعوا إِلى مغفرة من ربّكم} [آل عمران: 133]، فالحقّ وجوب المبادرة إِلى القضاء حين الاستطاعة، وهو مذهب ابن حزم (6/ 260)، وليس يصحُّ في ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من التحقيق الثاني "للإِرواء".

السُّنّة ما يعارض ذلك. وأمّا استدلال المؤلف على عدم الوجوب بقوله: "فقد صحّ عن عائشة أنّها كانت تقضي ما عليها من رمضان في شعبان. (رواه أحمد ومسلم)، ولم تكن تقضيه فوراً عند قدرتها على القضاء". فليس بصواب؛ لأنّه ليس في حديث عائشة أنّها كانت تقدر أن تقضيه فوراً، بل فيه عكس ذلك، فإِنّ لفظ الحديث عند مسلم (3/ 154 - 155): "كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إِلا في شعبان، الشغل من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". وهكذا أخرجه البخاري أيضاً في "صحيحه" -خلافاً لما أوهمه تخريج المصنف- وفي رواية لمسلم عنها قالت: "إِنْ كانت إِحدانا لتفطر في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فما تقدر على أنْ تقضيه مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى يأتي شعبان". فالحديث بروايتيه صريح؛ في أنّها كانت لا تستطيع، ولا تقدر على القضاء قبل شعبان، وفيه إِشعار بأنَّها لو استطاعت لَمَا أخّرته، فهو حجّة على المؤلف ومَن سبَقه. ولذلك قال الزين بن المنيِّر -رحمه الله-: "وظاهر صنيع عائشة يقتضي إِيثار المبادرة إِلى القضاء، لولا ما منعها من الشغل، فيشعر بأنّ مَنْ كان بغير عذر، لا ينبغي له التأخير" (¬1). واعلم أنّ ابن القيم والحافظ وغيرهما قد بيّنا أنّ قوله في الحديث: ¬

_ (¬1) وتقدم في بداية المبحث.

"الشُّغل من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -"؛ مدرج في الحديث، ليس من كلام عائشة، بل من كلام أحد رواته، وهو يحيى بن سعيد، ومن الدليل على ذلك قول يحيى في روايةٍ لمسلم: "فظننت أنّ ذلك لمكانها من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". ولكن هذا لا يخدج فيما ذكَرنا؛ لأنّنا لم نستدل عليه بهذا المدرج، بل بقولها: "فما أستطيع .. "، والمدرج؛ إِنّما هو بيان لسبب عدم الاستطاعة، وهذا لا يهمنا في الموضوع. ولا أدري كيف خفي هذا على الحافظ حيث قال في خاتمة شرح الحديث: "وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقاً، سواء كان لعذر أو لغير عذر؛ لأن الزيادة كما بيّناه مدرجة ... فخفي عليه أنّ عدم استطاعتها هو العذر فتأمّل". وجاء فيه (ص424): "وجملة القول؛ أنّه لا يصحّ في هذا الباب شيء لا سلباً ولا إِيجاباً، والأمر القرآني بالمسارعة يقتضي وجوب المتابعة إلاَّ لعذر، وهو مذهب ابن حزم أيضاً (6/ 261)، قال: "فإِنْ لم يفعل فيقضيها متفرِّقة، وتجزيه لقول الله تعالى: {فعدّةٌ من أيّام أُخر}، ولم يحدد تعالى في ذلك وقتاً يبطل القضاء بخروجه، وهو قول أبي حنيفة". انتهى. والخلاصة التي بدت لي: وجوب الصوم على الفور إِلا من عُذر، مع التتابع. وجواز تفريقه من عُذرٍ أو ابتغاء استراحة؛ تدفع عنه مشقة التتابع، إِذ القول بجواز عدم الصيام على الفور وعدم التتابع، قد يفضي إِلى تأخير القضاء

شهوراً أو سنوات، وقد يقول قائل: إِنّ تأخير عائشة -رضي الله عنها- قضاءَها إِلى شعبان ليس على الوجوب. فماذا إِذاً؟! أليس هذا بِمُفضٍ إِلى التقصير والتأخير؛ بل التفريط؟! ولا يخفى علينا قوله تعالى: {وما تدري نفس ماذا تكسب غداً} (¬1). وعن أبي أُمَامَة بن سهل قال: "دخلت أنا وعروة بن الزبير يوماً على عائشة، فقالت: لو رأيتما نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم، في مَرضٍ مَرِضَه. قالت: وكان له عندي ستةُ دنانير -قال موسى: أو سبعة- قالت: فأمرني نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أفرّقها، قالت: فشغلني وجع نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى عافاه الله. قالت: ثم سألني عنها؟ فقال: ما فعَلت الستة -قال: أو السبعة-؟ قلت: لا والله، لقد كان شغلني وجعك. قالت: فدعا بها، ثمّ صفَّها في كفّه، فقال: "ما ظنُّ نبيِّ الله لو لقي الله عزّ وجلّ، وهذه عنده! يعني: ستة دنانير أو سبعة" (¬2). فهذا هو حُسن الظنّ بالله -سبحانه- فمن وافتْه المنيّة وقد أدّى ذلك؛ فقد فعَل الخير. ومن وافتْه المنيّة في فترةٍ كان يستريح فيها يوماً أو يومين أو أكثر من ذلك، ذلك بحسب طاقته وقدرته، وقد عَلِم الله تعالى منه صِدق نيّته، فإِنه يرتجى له من الله المغفرة والرحمة، ولكن من أَخّر وسوَّف، فهذا الذي نرثي ¬

_ (¬1) لقمان: 34. (¬2) أخرجه أحمد وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (1014).

له ونأسف عليه. ثمّ ما الفرق بين هذا وبين الذي استطاع الحجّ فأجّله لغير عُذر، ثمّ جاء أجله ولم يحجّ! وعلى كلّ حال إِنّ مدار الأمر لا يُغادر وجود العُذر وعدم الاستطاعة؛ لمن أجَّل وفرّق، والله -تعالى- أعلم. ثمَّ تدبّرت بعض ما جاء في الطرق الأُخرى من حديث عائشة -رضي الله عنها- المتقدّم بلفظ: "إِنْ كانت إِحدانا لتُفطر في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ حتى يأتي شعبان" (¬1). فتأمّل يرحمك الله: "أنْ تقضيه مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -"، وتدبّر -وفّقك الله- الطريق الأخرى بلفظ: "ما كنتُ أقضي ما يكون عليّ من رمضان إلاَّ في شعبان، حتى توفّي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬2). فماذا بعد أن توفّي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ هل كانت عائشة -رضي الله عنها- تؤخّر القضاء إِلى شعبان؟ لا شكّ أنّ الجواب ظاهر، لأنّ الشغل برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا وجود له بعد مصيبة موته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكذلك لا محلّ لعدم الاستطاعة التي كانت تقولها -رضي الله عنها-: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1146. (¬2) أخرجه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وانظر "الإِرواء" (4/ 98).

"فما أستطيع" كما هو في حياته. فلمن كان في مثل حال عائشة -رضي الله عنها- من الشُّغل، مِمّا يعذرها ولا تستطيع معه القضاء، نقول: لا بأس لا بأس! وفي حديث جابر -رضي الله عنه- قال: "مرّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل يقلِّب ظهره لبطنه، فسأل عنه؟ فقالوا: صائم يا نبي الله! فدعاه فأمره أنْ يفطر فقال: أما يكفيك في سبيل الله، ومع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تصوم؟! " (¬1). وهكذا لأمَ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك الصحابي الذي كان يعاني من مشقة الصيام، على صومه، قائلاً: أما يكفيك في سبيل الله، ومع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تصوم؟! وتأجيل عائشة من هذا الباب ... ومع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " -والله تعالى أعلم-. ثمّ إِنّ هذا يدخل في مسألة أعمّ من هذه وهي: "ما حُكم أداء ما يتوجّب من الحقوق المتعلّقة بالله -سبحانه- أو العباد؟ أعلى الفور أمْ على التراخي؟ ". ويطول الكلام في هذا، وحسْبنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مطل (¬2) الغني ظُلم" (¬3). وعن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لَيّ (¬4) الواجد (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وإسناده صحيح على شرط مسلم، وانظر "الصحيحة" (2595)، وتقدّم. (¬2) أي: تسويف القادر المتمكّن من أداء الدين الحالّ. (¬3) أخرجه البخاري: 2287، ومسلم: 1564. (¬4) جاء في "الفيض" (5/ 400): "الليّ: المطل، أصْله لوى فأدغمت الواو في الياء". (¬5) الواجد: الغني من الوُجد -بالضمّ- بمعنى السِّعة والقدرة، ويُقال: وجَد المال وجْداً أي: استغنى.

هل على من أخر القضاء كفارة؟

يُحلّ (¬1) عِرْضَه (¬2) وعقوبته (¬3) " (¬4). ولنا أنْ نقول مقولة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غير هذه المناسبة: "فدين الله أحقُّ أنْ يُقضى" (¬5). وما تقدّم من آثار في جواز التفريق، ينبغي أن تُحمل على العُذر؛ لا على مضادّة قوله سبحانه: {وسارعوا إِلى مغفرةٍ من ربّكم وجنَّةٍ عرضها السَّموات والأرض أُعدَّت للمتَّقين} (¬6). هل على من أَخَّر القضاء كفّارة؟ لم يَرِد في هذا حديث مرفوع، فلا كفّارة. وسألت شيخنا -رحمه الله- عن هذا فقال: هناك قول، ولكن ليس هناك حديث مرفوع. هل يقضي مَن أَفطر متعمّداً؟ إِذا أفطر متعمِّداً في رمضان، هل يُشرع له قضاؤه أم لا؟ ¬

_ (¬1) يُحلّ: بضمّ الياء من الإِحلال. (¬2) عرضه: بأن يقول له المدين: أنت ظالم، أنت مماطل ونحوه؛ ممّا ليس بقذف ولا فُحش. (¬3) بأن يعزّره القاضي على الأداء بنحو ضربٍ أو حبس حتى يؤدِّى". (¬4) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3086) وغيرهما، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1434). (¬5) تقدّم. (¬6) آل عمران: 133.

قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المنّة" (ص 425) -بحذف وتصرف- بعد أن رجّح عدم القضاء: "والظاهر الثاني، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية، فقد قال في "الاختيارات" (ص 65): "لا يقضي متعمِّدٌ بلا عذرٍ صوماً ولا صلاة، ولا تصحُّ منه، وما رُوي أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المجامع في رمضان بالقضاء ضعيف". وهو مذهب ابن حزم، ورواه عن أبي بكر الصدّيق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبي هريرة، فراجع "المُحلّى" (6/ 180 - 185) [المسألة: 735]. والحقّ أنه ثابت صحيح بمجموع طرقه كما قال الحافظ ابن حجر، وأحدها صحيح مرسل كما كنت بيّنته في تعليقي على رسالة ابن تيمية في "الصيام" (ص 25 - 27)، ثمّ في "إِرواء الغليل" (4/ 90 - 92). فقضاء المجامع من تمام كفّارته، فلا يلحق به غيره من المفطرين عمداً. أمّا الصلاة فهو مختار المصنّف (¬1) أيضاً تبعاً لابن حزم -وقد كان نقَل كلامه في ذلك مُلخَّصاً في "الصلاة" قبيل "الجمعة"- وكان يلزمه أن يختار مثله في الصوم، فإِنّ دليل عدم القضاء فيه مثله في الصلاة. ولا سيّما أنّه مذهب ابن حزم أيضاً، فقد قال: "برهان ذلك أنّ وجوب القضاء في تعمُّد القيء قد صحَّ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... ولم يأت في فساد الصوم بالتعمد للأكل أو الشرب أو الوطء نصٌّ بإِيجاب القضاء. ¬

_ (¬1) أي: الشيخ السيد سابق -رحمه الله- كما في "فقه السنة".

قضاء صوم النذر عن الميت من قبل وليه

وإنما افترض تعالى رمضان -لا غيره- على الصحيح المقيم العاقل البالغ، فإِيجاب صيام غيره بدلاً منه؛ إِيجاب شرْعٍ لم يأذن الله -تعالى- به، فهو باطل. ولا فرق بين أنْ يوجب الله -تعالى- صوم شهر مسمّى، فيقول قائل: إِنّ صوم غيره ينوب عنه بغير نصّ وارد في ذلك، وبين من قال: إِنّ الحجّ إِلى غير مكّة ينوب عن الحجّ إِلى مكّة، والصلاة إِلى غير الكعبة، تنوب عن الصلاة إِلى الكعبة، وهكذا في كل شيء. قال الله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} (¬1)، وقال تعالى: {ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه} (¬2). ثمّ شرع يرُدُّ على المخالفين قياسهم كل مفطر بعمد؛ على المفطر بالقيء، وعلى المجامع في رمضان. ثم روى مثل قوله عن الخلفاء الراشدين حاشا عثمان، وعن ابن مسعود وأبي هريرة، فراجِعه. قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: لكن المجامع في رمضان قد صح أنّه أمره بالقضاء أيضاً". قضاء صوم النَّذر عن الميت من قِبل وليِّه عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من مات وعليه ¬

_ (¬1) البقرة: 229. (¬2) الطلاق: 1.

صيام (¬1) صام عنه وليُّه" (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما-: "أنّ امرأة ركبَت البحر فنذَرت، إِنِ الله -تبارك وتعالى- أَنْجاها أنْ تصوم شهراً، فأنجاها الله عز وجل، فلم تصم حتى ماتت. فجاءت قرابة لها [إِمّا اختها أو ابنتها] إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرت ذلك له، فقال: [أرأيتك لو كان عليها دَيْن كُنتِ تقضينه؟ قالت: نعم، قال: فَدَيْن الله أحق أن يُقضى]، [فـ] اقضِ [عن أمّك] " (¬3). وعنه -رضي الله عنهما-: "أنّ سعد بن عبادة -رضي الله عنه- استفتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إِنّ أمّي ماتت وعليها نذر فقال: اقضه عنها" (¬4). جاء في "أحكام الجنائز" (ص 215) -بتصرّف بعد أنْ ذكَر هذه الأحاديث-: "قلت: وهذه الأحاديث صريحة الدَّلالة في مشروعيَّة صيام الوليّ عن ¬

_ (¬1) خبر بمعنى الأمر، تقديره: فليصُم عنه وليّه، قاله الحافظ في "الفتح" (4/ 193). (¬2) أخرجه البخاري: 1952، ومسلم: 1147. (¬3) أخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي والبيهقي والطيالسي وأحمد والسياق مع الزيادة الثانية له، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، والزيادة الأولى لأبي داود والبيهقي، وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وصححه، وابن ماجه بنحوه، وفيه عندهم جميعاً الزيادة الثانية وعند مسلم الأخيرة. عن "أحكام الجنائز" (ص 214). (¬4) أخرجه البخاري: 2761، ومسلم: 1638.

الميِّت صوم النَّذر، إلاَّ أنّ الحديث الأوّل (¬1) يدلُّ بإِطلاقه على شيء زائدٍ على ذلك، وهو أنّه يصوم عنه صوم الفرض أيضاً، وقد قال به الشافعيَّة، وهو مذهب ابن حزم (7/ 2، 8) وغيرهم. وذهب إِلى الأوّل الحنابلة، بل هو نصُّ الإِمام أحمد، فقال أبو داود في "المسائل" (96): "سمعت أحمد بن حنبل قال: لا يُصامُ عن الميِّت إلاَّ في النَّذر". وحمَل أتباعه الحديث الأوَّل على صوم النَّذر، بدليل ما روت عَمْرة: أن أمّها ماتت وعليها من رمضان فقالت لعائشة: أقضيه عنها؟ قالت: لا بل تصدَّقي عنها مكان كل يوم نصف صاعٍ على كل مسكين. أخرجه الطحاوي (3/ 142) وابن حزم (7/ 4) واللفظ له بإِسنادٍ؛ قال ابن التركماني: صحيح. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "إِذا مرض الرجل في رمضان، ثمّ مات ولم يصم؛ أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نَذْر قضى عنه وليُّه". أخرجه أبو داود بسند صحيح على شرط الشيخين، وله طريق آخر بنحوه عند ابن حزم (7/ 7) وصحح إِسناده. قلت: [أي: شيخنا -رحمه الله-] وهذا التفصيل الذي ذَهَبتْ إِليه أمّ المؤمنين، وحَبْر الأمّة ابن عبّاس -رضي الله عنهما- وتابعهما إِمام السنَّة أحمد بن حنبل، هو الذي تطمئنُّ إِليه النَّفس، وينشرح له الصدر، وهو أعدل ¬

_ (¬1) يشير بذلك -رحمه الله- إِلى حديث عائشة -رضي الله عنها- المتقدّم.

الأقوال في هذه المسألة وأوسطها. وفيه إِعمالٌ لجميع الأحاديث؛ دون ردٍّ لأيّ واحد منها، مع الفهم الصحيح لها؛ خاصّة الحديث الأول منها، فلم تَفْهَم منه أمُّ المؤمنين ذلك الإِطلاق الشامل لصوم رمضان، وهي راويته. ومن المقرَّر أنَّ راوي الحديث أدرى بمعنى ما روى، لا سيّما إِذا كان ما فَهِمَ هو الموافق لقواعد الشريعة وأصولها، كما هو الشأن هنا". انتهى. وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 269): "وسُئل عن الميِّت في أيّام مرضه أدركه شهر رمضان، ولم يكن يقدر على الصّيام، وتوفّي وعليه صيام شهر رمضان. وكذلك الصلاة مدّة مرضه، ووالديه بالحياة. فهل تسقط الصلاة والصيام عنه إِذا صاما عنه، وصلّيا؟ إِذا وصَّى، أو لم يوصِ؟ فأجاب: إِذا اتّصل به المرض، ولم يمكنه القضاء فليس على ورثته إلاَّ الإِطعام عنه، وأمّا الصلاة المكتوبة، فلا يصلِّي أحد عن أحد، ولكن إِذا صلَّى عن الميت واحد منهما تطوُّعا، وأهداه له، أو صام عنه تطوُّعاً وأهداه له، نفَعه ذلك، والله أعلم". وجاء في "تهذيب السنن" لابن القيم -رحمه الله- (7/ 27): "وقد اختلف أهل العلم فيمن مات وعليه صوم هل يقضى عنه؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: لا يُقضى عنه بحال، لا في النّذر ولا في الواجب الأصلي، وهذا ظاهر مذهب الشافعي، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابه.

الثاني: أنّه يُصام عنه فيهما، وهذا قول أبي ثور وأحد قولي الشافعي. الثالث: أنّه يُصام عنه النَّذر دون الفرض الأصلي، وهذا مذهب أحمد المنصوص عنه، وقول أبي عبيد والليث بن سعد، وهو المنصوص عن ابن عباس. روى الأثرم عنه أنه "سئل عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر، وعليه صوم رمضان؟ قال: أمّا رمضان فليطعم عنه، وأمّا النَّذر فيصام". وهذا أعدل الأقوال، وعليه يدلُّ كلام الصحابة، وبهذا يزول الإِشكال. وتعليل حديث ابن عباس أنه قال: "لا يصوم أحد عن أحد، ويُطْعم عنه"، فإِنّ هذا إِنّما هو في الفرض الأصلي، وأمّا النَّذر فيصام عنه، كما صرَّح به ابن عباس. ولا معارضة بين فتواه وروايته، وهذا هو المرويُّ عنه في قصّة مَنْ مات وعليه صوم رمضان وصوم النَّذر، فرَّق بينهما، فأفتى بالإِطعام في رمضان، وبالصوم عنه في النَّذر. فأيُّ شيء في هذا ممّا يوجب تعليل حديثه؟ وما روي عن عائشة من إِفتائها في التي ماتت وعليها الصوم: أنّه يُطعَم عنها؛ إِنما هو في الفرض لا في النذر؛ لأنّ الثَّابت عن عائشة فيمن مات وعليه صيام رمضان: "أنّه يطعم عنه في قضاء رمضان، ولا يصام". فالمنقول عنها كالمنقول عن ابن عباس سواء، فلا تعارُضَ بين رأيها وروايتها.

وبهذا يظهر اتفاق الروايات في هذا الباب، وموافقة فتاوى الصحابة لها، وهو مقتضى الدليل والقياس، لأنّ النّذر ليس واجباً بأصل الشرع، وإنّما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدَّين الذي استدانه. ولهذا شبَّهه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدَّين في حديث ابن عبّاس، والمسؤول عنه فيه؛ أنّه كان صوم نذر، والدين تدخله النيابة. وأمّا الصوم الذي فرَضه الله عليه ابتداء؛ فهو أحد أركان الإِسلام، فلا يدخله النيابة بحال، كما لا يدخل الصلاة والشهادتين، فإِنّ المقصود منها طاعة العبد بنفسه، وقيامه بحقِّ العبودية التي خُلِقَ لها وأُمِر بها. وهذا أمر لا يؤدّيه عنه غيره، كما لا يُسْلِم عنه غيره، ولا يصلِّي عنه غيره، وهكذا من ترك الحجّ عمداً مع القدرة عليه حتى مات أو ترَك الزكاة فلم يُخرجها حتى مات (¬1)، فإِنّ مقتضى الدليل وقواعد الشرع: أن فِعْلهما عنه بعد الموت لا يبرئ ذمَّته. ولا يُقبل منه، والحق أحقُّ أن يتبع. وسرُّ الفرق: أنَّ النَّذر التزام المكلَّف لِمَا شُغِل به ذمَّته، لا أنّ الشارع ألْزَمه به ابتداءً، فهو أخف حُكْماً ممّا جعله الشَّارع حقاً له عليه، شاء أم أبى. والذِّمّة تسَع المقدور عليه والمعجوز عنه، ولهذا تقبل أنْ يشغلها المكلِّف بما لا قُدرة له عليه؛ بخلاف واجبات الشرع، فإِنِّها على قدر طاقة البدن، لا تجب على عاجز. ¬

_ (¬1) ولكن يبقى الحق المتعلِّق بالعباد، فتبرئة ذمَّته من جهتهم لا بدَّ منها، وذلك عن طريق الورثة، فلا بُدّ من دفْع الزكاة لأهلها. والله -تعالى- أعلم.

فواجب الذِّمَّة أوسع من واجب الشرع الأصلي، لأنَّ المكلّف متمكِّن من إِيجاب واجبات كثيرة على نفسه لم يوجبها عليه الشارع. والذِّمَّة واسعة، وطريق أداء واجبها أوسع من طريق أداء واجب الشرع، فلا يلزم من دخول النِّيابة في واجبها بعد الموت دخولها في واجب الشرع. وهذا يبيِّن أنّ الصحابة أفقه الخلْق، وأعمقهم عِلماً، وأعرفهم بأسرار الشرع ومقاصده وحكمه، وبالله التوفيق". والخلاصة: "أنّه لا يُصام عن الميِّت إلاَّ صوم النَّذر، أمّا رمضان فيطعم عنه". والحديث المتقدم: "من مات وعليه صيام صام عنه وليّه". يحمل على صوم النّذر. وكذلك حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- " جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إِنّ أُمّي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: نعم؛ فدين الله أحقّ أن يقضى" (¬1). فقد جاء ما يفسّرهما عند الشيخين أنّه صوم النَّذر قال شيخنا في "تمام المنّة" (ص 428) في الرَّد على السيد السابق -رحمهما الله تعالى- بعد قوله وروى أحمد وأصحاب السنن: "هذا يوهم أنّه لم يخرِّجه من هو أرقى في الصحَّة من المذكورين، وليس كذلك، فقد أخرجه الشيخان (¬2) في "الصوم" ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1953، ومسلم: 1148. (¬2) قلت: فانظر -يرحمك الله- تحت الرقم السابق في "صحيح البخاري" =

ماذا يقول الصائم إذا دعي إلى طعام؟

عن ابن عباس، وفي رواية لهما: "ماتت وعليها صوم نذر". فهذا الحديث إِذن وارد فى صوم النَّذر، فلا يجوز الاستدلال به على صوم الفرض كما فعل المؤلِّف". ماذا يقول الصائم إِذا دُعي إِلى طعام؟ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا دُعي أحدكم إِلى طعام وهو صائم؛ فليقل: إِنّي صائم" (¬1). وفي الحديث الإِشارة إِلى تأليف القلوب وتطييب خاطر الداعي. وإنّ ممّا يُخشى من عدم قوله: "إِني صائم" إِحداث شيءٍ في نفس الداعي، أو ظنّه أن الطعام أو الشراب لم يُعجِب الزائر، فيتكلّف في إِحضار غيره، والله -تعالى- أعلم. الترغيب في إِطعام الصائم (¬2) عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من فطَّر صائماً؛ كان له مثل أجره، غير أنّه لا ينقص من أجر الصَّائم شيء" (¬3). ¬

_ = (1953) تجد تتمّة الحديث "وقال عبيد الله: ... عن ابن عباس: قالت امرأة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنّ أمّي ماتت وعليها صوم نذر"، وكذلك هو تحت رقم "صحيح مسلم" السابق (1148، 156). وانظر كلام الحافظ حول وصْل حديث البخاري -رحمهما الله تعالى-. (¬1) أخرجه مسلم: 1150. (¬2) هذا العنوان من "كتاب الترغيب والترهيب" للمنذري -رحمه الله-. (¬3) أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في =

الصوم لمن لم يستطع الباءة

الصوم لمن لم يستطع الباءة (¬1) عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "دخلت مع علقمة والأسود على عبد الله، فقال عبد الله: كنّا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شباباً لا نجد شيئاً، فقال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج، فإِنّه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإِنّه له وِجاء (¬2) " (¬3). ليلة القدر فضلها: ليلة القدر لها فضْل عظيم، فهي خيرٌ من ألف شهر، وهى أفضل ليالي رمضان. قال الله تعالى: {إِنّا أنْزلناه في ليلة القدر* وما أدراك ما ليلة القدر* ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر* تنزّل الملائكة والرُّوح فيها بإِذن ربِّهم من كل أَمْر سلام هي حتى مطلع الفجر} (¬4). ¬

_ = "صحيحيهما"، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه شيخنا - رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1065). (¬1) الباءة: القُدرة على مؤن النكاح، وفي "الفتح" (9/ 108) فوائد طيبة فارجع إليه إِن شئت. (¬2) الوجاء: أن تُرضّ أنثيا الفحل رضّاً شديداً؛ يذهب شهوة الجماع. "النهاية". (¬3) أخرجه البخاري: 5066، ومسلم: 1400. (¬4) القدر: 1 - 5.

متى تتحرى وتلتمس؟

جاء في تفسير العلاّمة السعدي -رحمه الله-: {ليلة القدر خير من ألف شهر} أي: تعادل في فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها، خير من العمل في ألف شهر، خالية منها. وهذا ممّا تتحيَّر فيه الألباب، وتندهش له العقول، حيث مَنَّ -تعالى- على هذه الأمّة الضعيفة القوّة والقوى؛ بليلة يكون فيها العمل يقابل ويزيد على ألف شهر، عمر رجل معمّر عمراً طويلاً، نيفاً وثمانين سنة. وجاء في "تفسير ابن كثير" -رحمه الله- في قوله تعالى: {تنزَّلُ الملائكة والرّوح فيها} أي: يكثُر تنزُّل الملائكة في هذه الليلة؛ لكثرة بركتها، والملائكة يتنزّلون مع تنزُّل البركة والرحمة، كما يتنزَّلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بِحِلَق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق؛ تعظيماً له". متى تُتحرّى وتُلتمس؟ جاء في "الروضة النديّة" (1/ 576): "وفي المسوّى: "اختلفوا في أي ليلة هي أرجى، والأقوى إِنّها ليلة في أوتار العشرة الأخيرة، تتقدّم وتتأخّر"، "وقول أبي سعيد: أنّها ليلة إِحدى وعشرين". وقال المزني، وابن خزيمة (¬1): إِنِّها تنتقل كلّ سنة ليلة؛ جَمْعاً بين الأخبار. قال في "الروضة": وهو قوي، ومذهب الشافعي أنَّها لا تلزم ليلة بعينها، وفي "المنهاج" ميل الشافعي إِلى أنَّها ليلة الحادي والثالث والعشرين، وعن ¬

_ (¬1) انظر "صحيح ابن خزيمة" (3/ 329).

أبي حنيفة أنّها في رمضان، لا يدري أية ليلة هي ... ". انتهى. قال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله-: "وروي عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة القدر: أنّها ليلة إِحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، وآخر ليلة من رمضان" (¬1). انتهى. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجاور (¬2) في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: تحرَّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" (¬3). وعنها -رضي الله عنها- أيضاً أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تحرَّوا ليلة القدْر في الوتر من العشْر الأواخر من رمضان" (¬4). عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تحرَّوا ليلة القدر في السَّبْع الأواخر" (¬5). وفي لفظ له قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: التمسوها في العشر الأواخر (يعني ليلة القدر)، فإِن ضَعُف أحدكم أو عجز؛ فلا يُغلَبنَّ على السَّبْع البواقي" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر "صحيح سنن الترمذي" (1/ 238). (¬2) أي: يعتكف. "النهاية". (¬3) أخرجه البخاري: 2020، ومسلم: 1167، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. (¬4) أخرجه البخاري: 2017، ومسلم: 1169. (¬5) أخرجه مسلم: 1165. (¬6) أخرجه مسلم: 1165.

عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر؛ قبل أنْ تُبان له (¬1)، فلما انقضين أمَر بالبناء فقوِّض (¬2)، ثم أبينتْ له أنّها في العشر الأواخر. فأمر بالبناء فأُعيد، ثمّ خرج على النّاس، فقال: يا أيها الناس! إِنّها كانت أُبينت لي ليلة القدر، وإِنِّي خرجتُ لأُخبركم بها، فجاء رجلان يحْتَقَّانِ (¬3) معهما الشيطان، فَنُسِّيتُها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة. قال قلت: يا أبا سعيد! إِنّكم أعلم بالعدد منّا قال: أجل، نحن أحقُّ بذلك منكم، قال قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ قال: إِذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها ثنتين وعشرين وهي التاسعة، فإِذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة" (¬4). عن عبد الله بن أُنَيس أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أُريت ليلة القدر ثمّ أُنسِيتُها، وأراني صُبْحَها أسجد في ماء وطين. قال: فمُطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلَّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فانصرف، وإنَّ ¬

_ (¬1) أي: توضّح وتُكشف. (¬2) أي: قُلِع وأُزِيل. "النهاية". (¬3) أي: يختصمان كما فسّرها ابن خلاد أحد رواة الحديث. (¬4) أخرجه مسلم: 1167.

أثر الماء والطّين على جبهته وأنفه. قال: وكان عبد الله بن أنيس يقول: ثلاث وعشرين" (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى (¬2)، في سابعة تبقى (¬3)، في خامسةٍ (¬4) تبقى" (¬5). وعن معاذ بن جبل أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سُئل عن ليلة القدر؟ فقال: "هي في العشر الأواخر، أو في الخامسة، أو في الثالثة" (¬6). وعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هي في العشر الأواخر، في تسع (¬7) يمضين أو في سبع (¬8) يبقين" (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1168. (¬2) أي: ليلة الحادي والعشرين. قاله الكرماني. (¬3) أي: ليلة ثلاث وعشرين. (¬4) ليلة خمس وعشرين. "عمدة القاري". (¬5) أخرجه البخاري: 2021. (¬6) أخرجه أحمد، وقال شيخنا -رحمه الله-: وإسناده جيّد، فإنّ رجاله كلهم ثقات، وبقيّة قد صرّح بالتحديث، وانظر "الصحيحة" تحت الحديث (1471). (¬7) أي: ليلة التاسع والعشرين. قاله الكرماني. (¬8) أي: ليلة السابع والعشرين. (¬9) أخرجه البخاري: 2022.

وعن معاوية -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "التمسوا ليلة القدر آخر ليلة من رمضان" (¬1). وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 284) -بحذف-: "وسُئل عن ليلة القدر وهو معتقل بالقلعة قلعة الجبل -سنة ست وسبعمائة-. فأجاب: الحمد لله، ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، هكذا صحّ عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "هي في العشر الأواخر من رمضان" (¬2)، وتكون في الوتر منها. لكنّ الوتر يكون باعتبار الماضي، فتطلب ليلة إِحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين. ويكون باعتبار ما بقي كما قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لتاسعةٍ تبقى، لسابعةٍ تبقى، لخامسة تبقى، لثالثة تبقى" (¬3). فعلى هذا إِذا كان الشهر ثلاثين؛ يكون ذلك ليال الأشفاع، وتكون الاثنين وعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى، وهكذا فسّره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح، وهكذا أقام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشَّهر. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن نصر في "قيام الليل" وابن خزيمة في "صحيحه"، وانظر "الصحيحة" تحت الحديث (1471). (¬2) يشير إِلى حديث البخاري: 2022، المتقدم: "هي في العشر الأواخر". (¬3) أخرجه البخاري: 2021 دون "لثالثة تبقى"، وهي ثابتة كما في "الصحيحة" (3/ 456) تحت الحديث (1471).

تحديدها:

وإِن كان الشَّهر تسعاً وعشرين، كان التاريخ بالباقي، كالتاريخ الماضي. وإذا كان الأمر هكذا، فينبغي أنْ يتحرّاها المؤمن في العشر الأواخر جميعه؛ كما قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تَحَرَّوها في العشر الأواخر" (¬1). وتكون في السَّبع الأواخر أكثر، وأكثر ما تكون ليلة سبع وعشرين، كما كان أُبيّ بن كعب يحلف اُنّها ليلة سبع وعشرين ... وقد يكشفها الله لبعض الناس في المنام، أو اليقظة فيرى أنوارها، أو يرى من يقول له هذه ليلة القدر، وقد يفتح على قلبه من المشاهدة ما يتبيّن به الأمر، والله -تعالى- أعلم". وسُئل عن ليلة القدر وليلة الإِسراء بالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيّهما أفضل؟ فأجاب: "بأنَّ ليلة الإِسراء أفضل في حقّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليلة القدر أفضل بالنسبة إِلى الأمّة، فحظُّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي اختُصّ به ليلة المعراج منها؛ أكمل من حظّه من ليلة القدر. وحظ الأمّة من ليلة القدر أكمل من حظهم من ليلة المعراج، وإن كان لهم فيها أعظم حظّ، لكن الفضل والشرف والرتبة العليا إِنِّما حصلت فيها، لمن أُسري به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". تحديدها: هي ليلة سبع وعشرين من رمضان على الأرجح، وعليه أكثر الأحاديث (¬2). ¬

_ (¬1) تقدّم. (¬2) انظر "قيام رمضان" (ص 19).

قيامها والدعاء فيها

عن زِرّ بن حُبَيْش قال: "سألت أُبيّ بن كعب -رضي الله عنه- فقلت: إِنّ أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يُصب ليلة القدر. فقال -رحمه الله-: أراد أن لا يتّكل الناس، أمَا إِنّه قد عَلِم أنها في رمضان، وأنّها في العشر الأواخر، وأنّها ليلة سبع وعشرين، ثمّ حلف لا يستثني (¬1)، أنّها ليلة سبع وعشرين. فقلت: بأيِّ شيءٍ تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالعَلاَمة، أو بالآية التي أخبَرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّها تطلع يومئذٍ لا شُعاع لها" (¬2). وفي لفظ عنه "قال: سمعت أُبيّ بن كعب يقول: وقيل له: إِنّ عبد الله بن مسعود يقول: من قام ليله السَّنَةَ أصاب ليلة القدر). فقال أُبيّ: والله الذي لا إِله إِلا هو! إِنّها لفي رمضان (يحلف ما يستثني) ووالله إِنِّي لأعلم أيّ ليلة هي، هي الليلة التي أمَرنا بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقيامها، هي ليلة صبيحة سبع وعشرين، وأمارتها أنْ تطلع الشّمس في صبيحة يومها بيضاء؛ لا شعاع لها". قيامها والدعاء فيها عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قام ليلة القدر إِيماناً ¬

_ (¬1) لا يستثني: أي: حَلفَ حلفاً جازماً؛ مِن غير أن يقول عقيبه: إِن شاء الله -تعالى- مِثل أن يقول الحالف: لأفعلنّ إلاَّ أن يشاء الله، أو إِن شاء الله؛ فإِنه لا ينعقد اليمين، وإنّه لا يظهر جزم الحالف. "عون" (4/ 177). (¬2) أخرجه مسلم: 762.

صفة ليلة القدر

واحتساباً؛ غفِر له ما تقدّم من ذنبه" (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قلت: يا رسول الله: أرأيت إِنْ علمت أيّ ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي اللهمّ إِنّك عفوٌ تحبُّ العفو فاعف عني" (¬2). صفة ليلة القدر 1 - تكون ليلة طَلْقة (¬3) لا حارّة ولا باردة. عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّي كنت أُريت ليلة القدر، ثم نسيتُها، وهي في العشر الأواخر من ليلتها، وهي طَلْقة بَلجة (¬4) لا حارّة ولا باردة" (¬5). 2 - تطلع الشّمس في صبيحة يومها بيضاء؛ لا شعاع لها. كثرة الملائكة في الأرض ليلة القدر (¬6) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليلة القدر ليلة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1901، ومسلم: 759. (¬2) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (3105) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2789)، وصححه شيخنا في "المشكاة" (2091). (¬3) طَلْقة: أي: سهلة طيّبة يُقال: يوم طَلْق وليلةٌ طلقٌ وطلقة: إِذا لم يكن فيها حرٌّ ولا بردٌ يؤذيان. "النهاية". (¬4) بَلجة: أي: مشرفة، والبُلجة [البَلجة] بالضم والفتح ضوء الصبح. "النهاية". (¬5) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (2190)، وقال شيخنا -رحمه الله-: وهو حديت صحيح ... لشواهده. (¬6) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (3/ 332).

سابعة أو تاسعة وعشرين، إِنّ الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الطيالسي في "مسنده" وعنه أحمد، وكذا ابن خزيمة في "صحيحه"، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2205): وهذا إِسناد حسن وسكت عليه الحافظ في "الفتح" (4/ 209).

كتاب الاعتكاف

كتاب الاعتكاف

تعريفه:

الاعتكاف تعريفه (¬1): الاعتكاف لغة: لزوم الشيء وحبْس النَّفس عليه، يُقال: عكَف بالمكان: إِذا أقام به، والمعكوف: المحبوس. قال الله تعالى: {والهديَ معكوفاً أن يبلغ مَحِلَّه (¬2)} (¬3). وشرعاً: المُقام في المسجد من شخص مخصوص على صفة مخصوصة. مشروعيّته (¬4): لا خلاف في مشروعيّة الاعتكاف، وقد كان يعكتف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العشر الأواخر من رمضان حتى توفّاه الله عزّ وجلّ (¬5). فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف في كلّ رمضان عشرة أيّام، فلمّا كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً" (¬6). ¬

_ (¬1) ملتقطاً من "فتح الباري" (4/ 271)، و"حلية الفقهاء" (ص 110). (¬2) قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "أي: وصدُّوا [أيّ: الكفّار] الهَدي أنْ يصل إِلى مَحِلِّه وهذا مِن بغيهم وعنادهم ... ". (¬3) الفتح: 25. (¬4) انظر "الروضة الندية" (1/ 569). (¬5) انظر "صحيح البخاري" (2026)، و"صحيح مسلم" (1171). (¬6) أخرجه البخاري: 2044، وشطره الأوّل عند "مسلم" من حديث عائشة -رضي الله عنها-: 1172.

حكمه:

قال شيخنا -رحمه الله- في "قيام رمضان" (ص 34): "والاعتكاف سُنّة في رمضان وغيره من أيّام السنة. والأصل في ذلك قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} (¬1)، مع توارد الأحاديث الصحيحة في اعتكافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتواتر الآثار عن السلف بذلك ... ". حكمه: الاعتكاف سُنّة إلاَّ أنْ يكون نَذْراً فيلزم الوفاء به، وممّا يدلُّ على أنّه سُنّة؛ فِعْل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومداومته عليه، تقرُّباً إِلى الله -تعالى- وطلباً لثوابه، واعتكاف أزواجه معه وبعده (¬2). جاء في كتاب "الإِجماع" لابن المنذر -رحمه الله- (ص 47): "وأجمعوا على أنّ الاعتكاف لا يجب على النّاس فرضاً؛ إلاَّ أنْ يوجبه المرء على نفسه؛ فيجب عليه". وقال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 271): "والاعتكاف ليس بواجب إِجماعاً إلاَّ على مَنْ نذرَه". فعن عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من نَذَر أنْ يطيع الله فليُطعه، ومن نذر أن يعصيَه فلا يعصِه" (¬3). ¬

_ (¬1) البقرة: 187. (¬2) "المغني" (3/ 118). (¬3) أخرجه البخاري: 6696 و6700.

مقصود الاعتكاف

عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "يا رسول الله! إِنّي نذرتُ في الجاهلية أنْ أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أوفِ نذرك، فاعتكَف ليلةً" (¬1). مقصود الاعتكاف قال الإِمام ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (2/ 86): "لمّا كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيْره إِلى الله -تعالى- متوقفاً على جمعيّته على الله، ولمّ شَعثه بإِقباله بالكليَّة على الله -تعالى- فإِنَّ شَعَثَ القلب لا يَلُمُّه، إلاَّ الإِقبال على الله -تعالى-، وكان فُضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، ممّا يزيده شَعَثاً، ويُشَتِّتُه في كلِّ وادٍ، ويقطعه عن سيره إِلى الله -تعالى- أو يُضعِفه، أو يُعوّقه ويوقفه؛ اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده، أنْ شرع لهم من الصوم، ما يُذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوّقة له عن سيْره إِلى الله -تعالى- وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأُخراه، ولا يضرُّه ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة. وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله -تعالى- وجمعيِّته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده -سبحانه- بحيث يصير ذكره وحبه، والإِقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهمُّ كُلُّه به، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2042، ومسلم: 1656.

زمانه:

والخطرات كلُّها بذِكْره، والتفكُّر في تحصيل مراضيه وما يقرِّب منه. فيصير أُنْسه بالله بدلاً عن أُنْسه بالخلق، فيعدُّه بذلك لأُنْسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يُفرح به سواه، فهذا مقصود الاعكتاف الأعظم". زمانه: يؤدّى الاعتكاف الواجب حسبما نَذَره وسمّاه النّاذر، فإِنْ نَذَر الاعتكاف يوماً أو أكثر؛ وجب الوفاء بما نذَره (¬1). ويشرع الاعتكاف المستحبّ في أيّ وقت من أيّام العام. وقد ثبت أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف في العشر الأول من شوّال. ففي حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: " ... وتَرَك الاعتكاف في شهر رمضان؛ حتى اعتكف في العشر الأَوّل من شوّال" (¬2). * وآكدُه في رمضان لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف في كلِّ رمضان عشرة أيّام، فلمّا كان العام الذي قُبض فيه؛ اعتكف عشرين يوماً" (¬3). وأفضله آخر رمضان، لأن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يعتكف العشر الأواخر من ¬

_ (¬1) "فقه السنة" (1/ 476). (¬2) أخرجه البخاري: 2033، ومسلم: 1173 واللفظ له، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- بتمامه. (¬3) تقدّم.

شروطه

رمضان حتى توفَّاه الله -عزّ وجلّ-" (¬1). * (¬2) شروطه (¬3) 1 - الإِسلام، قال الله تعالى: {لئنْ أشركت ليحبطنّ عَمَلُك} (¬4). 2 - العقل. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النّائم حتّى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم" (¬5). لا يُشرع الاعتكاف إلاَّ في المساجد؛ لقوله تعالى: {ولا تباشروهنَّ (¬6) وأنتم عاكفون في المساجد} (¬7). وقالت السيدة عائشة -رضي الله عنها-: "السنّة في المعتكِف أنْ لا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2026، ومسلم: 1171، وتقدّم. (¬2) ما بين نجمتين من "قيام رمضان" (ص 35). (¬3) عن "قيام رمضان" (ص 35) بتصرف وزيادة. (¬4) الزُّمر: 65. (¬5) أخرجه أبو داود، والنسائي وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (297)، وتقدّم. (¬6) أي: لا تجامعوهنّ، قال ابن عباس: المباشرة والملامسة والمسّ جماع كله، ولكنّ الله عزّ وجلّ يكنّي ما شاء بما شاء. أخرجه البيهقي بسند رجاله ثقات. (¬7) البقرة: 187.

يخرج إِلا لحاجته التي لا بدّ له منها، ولا يعود مريضاً، ولا يمسّ امرأته، ولا يباشرها، ولا اعتكاف إلاَّ في مسجد جماعة، والسنَّة فيمن اعتكف أنْ يصوم" (¬1). وينبغي أنْ يكون مسجداً جامعاً؛ لكي لا يضطر للخروج منه لصلاة الجمعة، فإِنّ الخروج لها واجب عليه، لقول عائشة في روايةٍ عنها في حديثها السابق: " ... ولا اعتكاف إلاَّ في مسجد جامع" (¬2). قال شيخنا -رحمه الله-: ثم وقَفْت على حديث صحيح صريح؛ يُخصّص؛ {المساجد} المذكورة في الآية بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النّبوي، والمسجد الأقصى، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا اعتكاف إلاَّ في المساجد الثلاثة" (¬3). وقد قال به من السلف فيما اطّلعت: حذيفة بن اليمان، وسعيد بن المسيِّب، وعطاء، إلاَّ أنّه لم يذكر المسجد الأقصى. وقال غيرهم بالمسجد الجامع مطلقاً، وخالف آخرون فقالوا: ولو في مسجد بيته، ولا يخفى أنّ الأخذ بما وافق الحديث منها هو الّذي ينبغي ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي بسند صحيح، وأبو داود بسند حسن. (¬2) روى البيهقي عن ابن عباس قال: إِنّ أبغض الأمور إِلى الله البدع، وإنّ من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور. (¬3) أخرجه الطحاوي والإِسماعيلي والبيهقي بإِسناد صحيح عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- وهو مخرج في "الصحيحة" (2786)، مع الآثار الموافقة له ... وكلها صحيحة.

المصير إِليه، والله -سبحانه- وتعالى أعلم". وجاء في "الصحيحة" (6/ 670): "واعلم أنّ العلماء اختلفوا في شرطيّة المسجد للاعتكاف وصِفَته؛ كما تراه مبسوطاً في "المصنَّفَين" المذكورَين (¬1) و"المُحلّى" وغيرهما. وليس في ذلك ما يصح الاحتجاج به سوى قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد}، وهذا الحديث الصحيح، والآية عامّة، والحديث خاصٌّ، ومقتضى الأصول أنْ يُحمل العام على الخاصّ. وعليه: فالحديث مخصِّص للآية ومبيِّن لها، وعليه يدلُّ كلام حذيفة وحديثه، والآثار في ذلك مختلفة أيضاً، فالأَوْلى الأخذ بما وافق الحديث منها، كقول سعيد بن المسيِّب: "لا اعتكاف إلاَّ في مسجد نبيّ". أخرجه ابن أبي شيبة وابن حزم بسند صحيح عنه". 3 - لا بد من الصوم في الاعتكاف على الراجح وتقدّم حديث عائشة - رضي الله عنها-: "والسّنة فيمن اعتكف أنْ يصوم". قال الإِمام ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (2/ 87): "ولم يُنقل عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه اعتكف مفطراً قطّ، بل قد قالت عائشة: "لا اعتكاف إلاَّ بصوم"، ولم يذكر سبحانه الاعتكاف إِلا مع الصوم، ولا فَعَله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلا مع الصوم. ¬

_ (¬1) يريد شيخنا -رحمه الله تعالى- "مصنف ابن أبي شيبة" و"مصنف عبد الرّزاق" كما في (ص 669).

متى يدخل المعتكف؟

فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف أنّ الصوم شرط في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجِّحه شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية" (¬1). متى يدخل المعتكَف؟ عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا أراد أن يعتكف؛ صلّى الفجر، ثمّ دخَل معتكفه" (¬2). وسألْتُ شيخنا -رحمه الله- عن قول بعض الفقهاء؛ في دخوله المعتكف قبل غروب الشمس من يوم، والخروج بعده بيوم؟ فأجاب: نعم جائز؛ والمهمّ أنْ يدخل صائماً. وقال ابن حزم -رحمه الله-: "ومن نذر اعتكاف يوم أو أيّام مسمّاة، أو أراد ذلك تطوّعاً؛ فإِنّه يدخل في اعتكافه قبل أن يتبيّن له طلوع الفجر، ويخرج إِذا غاب جميع قرص الشمس؛ سواء كان ذلك في رمضان أو غيره؟ ومن نذر اعتكاف ليلة أو ليال مسمّاة، أو أراد ذلك تطوُّعاً؛ فإِنّه يدخل قبل أنْ يتمّ غروب جميع قرص الشمس؛ ويخرج إِذا تبيّن له طلوع الفجر؛ لأن مبدأ الليل إِثر غروب الشمس، وتمامه بطلوع الفجر، ومبدأ اليوم بطلوع الفجر، وتمامه بغروب الشمس كلّها، وليس على أحد إلاَّ ما التزم أو ما ¬

_ (¬1) قال شيخنا -رحمه الله-: "ويترتّب عليه أنّه لا يشرع لمن قصد المسجد للصلاة أو غيرهما أنْ ينوي الاعتكاف مدة لبْثه فيه، وهو ما صرّح به شيخ الإسلام -رحمه الله- في "الاختيارات"". (¬2) أخرجه البخاري: 2041، ومسلم: 1173 واللفظ له.

ما يستحب للمعتكف

نوى؟ " (¬1). ما يستحبّ للمعتكِف (¬2) يستحبّ للمعتكف التشاغل بالصّلاة، وتلاوة القرآن، وذِكْر الله تعالى ونحو ذلك من الطاعات المحضة، ويجتنب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، ولا يكثر الكلام؛ لأنّ من كثُر كلامه كثر سَقطه. وفي الحديث: "مِنْ حُسن إِسلام المرء ترْكه ما لا يعنيه" (¬3). ويجتنب الجدال والمراء والسّباب، والفحش، فإِنّه لا ينبغي في غير الاعتكاف، ففيه أولى. قال ابن قدامة (¬4) -رحمه الله-: "فأمّا إِقراء القرآن، وتدريس العلم، ودرسه ومناظرة الفقهاء، ومجالستهم، وكتابة الحديث، ونحو ذلك مما يتعدّى نفْعه؛ فأكثر أصحابنا على أنّه لا يستحبّ، وهو ظاهر كلام أحمد. وقال أبو الحسن الآمدي: في استحباب ذلك روايتان، واختار أبو الخطاب أنّه مستحبّ إِذا قصد به طاعة الله -تعالى- لا المباهاة وهذا ¬

_ (¬1) "المحلّى" (5/ 292) مسألة (636) وذكره السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (1/ 480). (¬2) عن كتاب "المغني" (3/ 148) -بتصرف-. (¬3) أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1886)، وانظر "شرح العقيدة الطحاوية" (268 و345). (¬4) "المغني" (3/ 149).

مذهب الشافعي، لأنّ ذلك أفضل العبادات، ونفْعه يتعدّى، فكان أولى مِن ترْكه كالصلاة. واحتجّ أصحابنا بأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف، فلم يُنقَل عنه الاشتغال بغير العبادات المختصَّة به، ولأنّ الاعتكاف عبادة من شرطها المسجد، فلم يُستحبّ فيها ذلك؛ كالطواف (¬1) انتهى". وسألتُ شيخنا -رحمه الله- عن هذا. فقال: "الاعتكاف عبادة محضة، فنحن لا نرى هذا؛ كما ننكر على الأئمّة في شهر رمضان مِن فصْلهم الصلاة وإنشاء استراحة؛ تتخلّلها موعظة أو درس، وهذا كقول القائل: "تقبّل الله" لمن صلّى، فهذه زيادة لم تكن في عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا السلف. والاعتكاف عبادة محضة؛ صلاة -ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر- (¬2) وتلاوة قرآن ... إِلخ". قال ابن قدامة -رحمه الله- في "المغني" (3/ 149) -بتصرف يسير-: ¬

_ (¬1) ثمّ أتمّ -رحمه الله- قوله: "وما ذكروه يبطُل بعيادة المرضى وشهود الجنازة، فعلى هذا القول؛ فِعْله لهذه الأفعال أفضل من الاعتكاف". قلت: وفي هذا الكلام نظر؛ لأنّ ما ذكروه يبطُل بالجماع كذلك، فهل هو خيرٌ من الاعتكاف في كلّ الأحوال؟ وكذلك ما ذكروه يُبطل بالخروج لغير سبب، فهل هذا أيضاً أفضل من الاعتكاف! ولا يُقال باستحباب المناظرات والتدريس في المعتكف، ونحو ذلك؛ لأنّ لللمعتكِف أن يختار أجر المناظرات والتدريس أو الاعتكاف. (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" وقال شيخنا -رحمه الله- في "صحيح =

"وليس من شريعة الإِسلام الصمت عن الكلام، وظاهر الأخبار تحريمه. قال: قيس بن أبي حازم: "دخل أبو بكر -رضي الله عنه- على امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها لا تتكلم فقال: ما لها لا تَكلَّمُ؟ قالوا: حجّت مُصمتةً، قال لها: تكلّمي فإِنّ هذا لا يحلّ، هذا من عمل الجاهلية، فتكلّمت" (¬1). وعن عليّ -رضي الله عنه- قال: "حفظت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: لا صُمات يوم إِلى الليل" (¬2). فإِنْ نذر ذلك في اعتكافه أو غيره، لم يلزمه الوفاء به، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر، ولا نعلم فيه مخالفاً؛ لما روى ابن عباس قال: بينا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب إِذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أنْ يقوم ولا يقعد ولا يستظلّ ولا يتكلّم ويصوم. فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مُرْهُ فليتكلم وليستظلّ، وليقعد وليُتمّ صومه" (¬3). ولنا النّهي عنه، وظاهره التحريم، والأمر بالكلام ومقتضاه الوجوب، وقول أبي بكر الصدِّيق -رضي الله عنه-: "إِنّ هذا لا يحلّ، هذا من عمل الجاهلية". ¬

_ = الترغيب والترهيب" (383): "له شواهد يتقوّى بها؛ فأخرجه الطيالسي وأحمد والحاكم من طريقين عن أبي ذر، وأحمد وغيره، من حديث أبي أُمامة؛ فالحديث حسن إِن شاء الله -تعالى-. (¬1) أخرجه البخاري: 3834. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2497). (¬3) أخرجه البخاري: 6704.

ما يجوز للمعتكف:

وهذا صريح ولم يخالِفه أحد من الصحابة؛ فيما علِمناه، واتباع ذلك أولى". ما يجوز للمعتكف (¬1): 1 - الخروج من معتكفه لقضاء الحاجة، وأن يُخرج رأسه من المسجد، ليغَسّل ويُسَرَّح. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "وإنْ كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليُدخِل عليَّ رأسه وهو [معتكف] في المسجد، [وأنا في حجرتي] فأُرَجِّلُه، [وفي رواية: فأغسله وإنّ بيني وبينه لعتبة الباب وأنا حائض]. وكان لا يدخل البيت إِلا لحاجة [الإِنسان]، إِذا كان معتكفاً" (¬2). وعليه ألا يتوسّع في الخروج، قال أبو زُرعة العراقي -رحمه الله تعالى- بعد هذا الحديث: "لو جاز له الخروج لغير ذلك، لما احتاج إِلى إِخراج رأسه من المسجد خاصّة، ولكان يخرج بجملته؛ ليفعل حاجته من تسريح رأسه في بيته ... " (¬3). 2 - أن يتوضأ في المسجد، لقول رجلٍ خدَم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "توضّأ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد وضوءاً خفيفاً" (¬4). ¬

_ (¬1) من (1 - 4) من "قيام رمضان" (ص 37) -بتصرف-. (¬2) أخرجه البخاري: 295، ومسلم: 297. (¬3) قاله في "طرح التثريب" (4/ 177) ونقَله الشيخ علي الحلبي -حفظه الله تعالى- في كتابه النافع "الإِنصاف في أحكام الاعتكاف". (¬4) أخرجه البيهقي بسند جيد، وأحمد مختصراً بسند صحيح.

3 - أن يتخذ خيمةً صغيرةً في مؤخرة المسجد يعتكف فيها؛ لأنّ عائشة -رضي الله عنها- "كانت تضرب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِبَاءً (¬1) إِذا اعتكف، وكان ذلك بأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬2). و"اعتكف مرّة في قُبَّةٍ تُركيّةٍ (¬3) على سُدَّتِها (¬4) حصير" (¬5). 4 - ويجوز للمرأة أن تزور زوجها وهو في مُعْتكَفه، وأن يُوَدّعها إِلى باب المسجد، لقول صفيّة -رضي الله عنها-: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معتكفاً [في المسجد في العشر الأواخر من رمضان] فأتيته أزوره ليلاً، [وعنده أزواجه، فَرُحْن]، فحدّثته [ساعة]، ثم قمت لأنقلب، [فقال: لا تعجلي حتى أنصرف ¬

_ (¬1) الخِباء: "أحد بيوت العرب من وبرٍ أو صوف ولا يكون من شَعَر، ويكون على عمودين أو ثلاثة". "النهاية". (¬2) أخرجه البخاري: 2033، ومسلم: 1173. (¬3) القُبّة من الخيام: بيت صغير مستدير؛ وهو من بيوت العرب. "النهاية". وجاء في "إكمال إِكمال المعلّم" (4/ 132): "هي قُبَّة صغيرة من لِبْد" واللِّبد: هو الشّعر أو الصوف المتلبّد. "الوسيط". (¬4) والسُّدّة: كالظلّة على الباب، لتقي الباب من المطر، والمراد أنه وضع قطعة حصيرعلى سُدّتها لئلا يقع فيها نظر أحد؛ كما قال السندي. قال شيخنا -رحمه الله-: وأولى أن يقال: لكي لا ينشغل بال المعتكف بمن قد يمرّ أمامه تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه؛ كما قال الإمام ابن القيّم: "عكس ما يفعله الجهّال من اتخاذ المعتكف موضع عِشْرة ومجلبة الزائرين وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لون، والاعتكاف النبوي لون، والله الموفق". (¬5) هو طرف من حديث أبي سعيد الخدرى، أخرجه مسلم: 1167.

معك]. فقام معي ليقْلِبَني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد [حتى إِذا كان عند باب المسجد الذي عند باب أمّ سلمة]، فمرّ رجلان من الأنصار، فلمّا رأيا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسرعا. فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: على رِسْلكما (¬1)؛ أنها صفية بنت حُيَيٍّ، فقالا: سبحان الله! يا رسول الله! قال: إِنّ الشيطان يجري من الإِنسان مجرى الدم، وإنّي خشيت أنْ يقذف في قلوبكما شراً، أو قال: شيئاً" (¬2). بل يجوز لها أن تعتكف مع زوجها، أو بمفردها؛ لقول عائشة -رضي الله عنها-: "اعتكَفَتْ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة مستحاضة (وفي رواية: أنّها أمّ سلمة) من أزواجه، فكانت ترى الحُمرة والصُّفرة، فربما وضعنا الطَّسْت تحتها وهي تصلّي" (¬3). وقالت أيضاً: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفّاه الله، ثمّ اعتكف أزواجه من بعده" (¬4). ¬

_ (¬1) أي: اثبتا ولا تعجلا. "النهاية". (¬2) أخرجه البخاري: 2035، ومسلم: 2175. (¬3) أخرجه البخاري: 2037، وهو مخرَّج في "صحيح سنن أبي داود" (2138)، والرواية الأخرى لسعيد بن منصور كما في "الفتح" (4/ 281) لكن سمّاها الدارمي (1/ 22): "زينب". والله أعلم. (¬4) أخرجه البخاري: 2026، ومسلم: 1172، وتقدّم نحوه.

منع الرجل أهله من الاعتكاف

5 - ولا بأس أنْ يأكل المعتكف في المسجد، ويضع سُفرة، يسقط عليها ما يقع منها؛ كيلا يُلوّث المسجد (¬1). منْع الرجل أهله من الاعتكاف للرجل أن يمنع أهله من الاعتكاف، كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا أراد أن يعتكف صلّى الفجر، ثمّ دخَل معتكفه، وإنّه أَمَر بخبائه فضُرِب، أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان. فأمرت زينب بخبائها فَضُرِب، وأمَر غيرُها من أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخبائه فضُرب. فلمّا صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفجر، نظر فإِذا الأخبية، فقال: آلبر (¬2) تُرِدْن؟ فأمر بخبائه فقوِّض (¬3) وتَرَك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأوّل من شوال (¬4) " (¬5). ¬

_ (¬1) "المغني" (3/ 151). (¬2) أي: الطاعة. (¬3) أي: أُزيل. (¬4) وذكر الإمام النووي عدة وجوهٍ ذكَرها القاضي -رحمهما الله تعالى- لمنع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أزواجه -رضي الله عنهن- من ذلك منها: "أنّه كرِه ملازمتهن المسجد؛ مع أنه يجمع النّاس، ويحضره الأعراب والمنافقون، وهنّ محتاجات إِلى الخروج والدخول لما يعرض لهنّ، فيبتذلن بذلك. أو لأنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآهن عنده في المسجد، وهو في المسجد، فصار كأنّه في منزله بحضوره مع أزواجه، وذهب المهمّ من مقصود الاعتكاف وهو التخلّي عن الأزواج، ومتعلقات الدنيا وشبه ذلك، أو لأنهنّ ضيّقن المسجد بأبنيتهنّ .. ". (¬5) أخرجه البخاري: 2033، ومسلم: 1173، واللفظ له.

ما يبطل الاعتكاف

ما يُبطل الاعتكاف 1 - الارتداد عن الدِّين (¬1) لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} (¬2). 2 - الجماع، لقوله تعالى: {ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد} (¬3). وقال ابن عباس: "إِذا جامع المعتكف بطل اعتكافه، واستأنف (¬4) " (¬5). ولا كفّارة عليه لعدم ورود ذلك عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه (¬6). فوائد متنوّعة 1 - هناك من يرى أن الخروج اليسير من المسجد يُبطل الاعتكاف، وأنّ الخروج في غير ما سبق ذِكره ينافي الاعتكاف، ولا دليل -فيما علمت- على إِبطاله. وسألت شيخنا -رحمه الله- عن الخروج اليسير، فقال: "لا يبطله ولكنّه ¬

_ (¬1) انظر "المغني" (3/ 145). (¬2) الزمر: 65. (¬3) البقرة: 187. (¬4) أي: أعاد اعتكافه. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 92) وعبد الرزاق بسند صحيح، وانظر "قيام رمضان" (ص 41). (¬6) انظر "قيام رمضان" (ص 41).

يقلّل الأجر". 2 - الاستحاضة لا تمنع الاعتكاف؛ لأنها لا تمنع الصلاة ولا الطواف (¬1). كما في حديت عائشة -رضي الله عنها- قالت: "اعتكفَتْ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأهّ مستحاضة (وفي رواية: أنّها أمّ سلمة) من أزواجه، فكانت ترى الحُمرة، والصُّفرة، فربّما وضَعْنا الطَّسْت تحتها وهي تصلّي" (¬2). 3 - يرى بعض العلماء أنّ ذهاب العقل بجنون ونحوه يبطل الصوم، ولا دليل على هذا. قال الإِمام الشافعي -رحمه الله- في "الأم" (4/ 385): "وإذا جُنّ المعتكف، فأقام سنين؛ ثم أفاق بنى". وسألت شيخنا -رحمه الله- عن هذا فقال: "الجنون كالنوم، فإِذا أفاق وهو لا يزال في نيّة الاعتكاف، فإِنّه يتمُّ اعتكافه، وكذلك الحيض والنّفاس لا يُبطلان الاعتكاف، ولكنهما يمنعان من الصلاة ولا يمنعان مِن ذِكر الله تعالى". 4 - ويرى عدد من العلماء أن مَن قبّل زوجه؛ لا يفسد اعتكافه إلاَّ أن يُنزل. وسألت شيخنا -رحمه الله- عن هذا فقال: "حتى الاستثناء لا نقول به، قال الله تعالى: {ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد} (¬3)، وهذا ¬

_ (¬1) انظر "المغني" (3/ 154). (¬2) تقدّم قريباً. (¬3) البقرة: 187.

التقبيل ولو كان مقروناً بالإِنزال؛ فهو كالتقبيل المقرون بالإِنزال وهو صائم (¬1)، فهذا لا يفطّر وهذا لا يفطّر، ولكن هل ذلك ممّا يجوز؟ الجواب: لا، ففرق بين الأمرين". 5 - سألت شيخنا عمّا ذكره السيد سابق في "فقه السنّة" عن الإِمام الشافعي -رحمهم الله أجمعين-: إِن لم يكن عليه نذْر اعتكاف أو شيء أوجبه على نفسه، وكان متطوعاً فخرج، فليس عليه قضاء؛ إلاَّ أن يحبّ ذلك اختياراً منه. وكلّ عمل لك أن لا تدخل فيه، فإِذا دخَلت فيه وخرجْتَ منه؛ فليس عليك أن تقضي إِلا الحجّ والعمرة". فقال -رحمه الله- مجيباً عن العبارة الأخيرة: يُقيَّد ذلك بأن لا يكون فرضاً، ولا بدّ من الإِتمام لقوله تعالى: {وأتمّوا الحجّ والعمرة لله} (¬2). وإذا لم يتيّسر له؛ فكما قال الإِمام -رحمه الله-: "فعليه القضاء". لكن هنا يحضرني تقييد؛ وهو عدم اشتراطه كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهمّ ¬

_ (¬1) وقد تقدّم رأي أهل العلم في ذلك؛ فأغنى عن الإِعادة، ثم رأيت للإِمام الشافعي -رحمه الله- كلاماً مفيداً في "الأمّ" (4/ 382) برقم (5064): بلفظ: "ولا يفسد الاعتكاف من الوطء؛ إلاَّ ما يوجب الحدّ؛ لا تفسده قبلة ولا مباشرة ولا نظرة؛ أنزل أو لم يُنزل، وكذلك المرأة؛ كان هذا في المسجد أو في غيره". (¬2) البقرة: 196.

محلّي حيت حبَستني (¬1) " (¬2). فإِذا حصل طارئُ مرض أو كسْر أو نحوه؛ فلا يجب عليه القضاء لأنّه اشترط، هذا إِذا كان حجّ نافلة. والخلاصة: جواب الإِمام الشافعي -رحمه الله- صحيح، مع ذِكر الاشتراط؛ فإِذا اشترط بقوله: "اللهمّ محلّي حيث حبستني" فلا قضاء عليه. وسألت شيخنا -رحمه الله- هل يشترط اعتكاف الليالي مع الأيام؟ فأجاب: السُّنّة الأيام مع الليالي، ويجوز اعتكاف الأيام دون الليالي. -تمّ بحمد الله تعالى- ¬

_ (¬1) جاء في "شرح النووي" (8/ 131): " ... فيه دلالة لِمن قال: يجوز أنْ يشترط الحاج والمعتمر في إِحرامه؛ أنّه إِن مرض تحلّل وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وآخرين من الصحابة -رضي الله عنهم- وجماعة من التابعين وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو الصحيح من مذهب الإِمام الشافعي وحجّتهم هذا الحديث الصحيح الصريح. وقال أبو حنيفة ومالك وبعض التابعين: لا يصحّ الاشتراط، وحملوا الحديث على أنها قضيّة عين وأنّه مخصوص بضُبَاعَة" ولعله يأتي -إن شاء الله تعالى- في موضعه. (¬2) أخرجه البخاري: 5089، ومسلم: 1207.

الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الجزء الرابع كتاب الجنائز والحج بقلم حسين بن عودة العوايشة المكتبة الإسلامية دار ابن حزم

بسم الله الرحمن الرحيم

الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1423 هـ - 2002 م المكتبة الإسلامية ص ب: (113) الجبيهة - هاتف 5342887 عمَّان - الأردن دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص ب: 6366/ 14 - تليفون: 701974

الجنائز

[[الجنائز]] فَضْلُ المَرَضِ: عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "دخَلْت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يُوعَك وَعْكاً شديداً، فمَسسْته بيدي فقلت: يا رسول الله! إِنك توعك (¬1) وَعْكاً شديداً؟! فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أجل، إِني أوعك كما يوعك رجلان منكم فقلت: ذلك أنّ لك أجرين؟! فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أجل. ثمّ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما من مسلم يُصيبه أذى -مرض فما سواه- إِلا حَطّ الله له سيّئاته، كما تحطّ الشجرة ورقها" (¬2). وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما يصيب المسلمَ من نَصَب (¬3) ولا وَصَب (¬4) ولا همّ ولا حَزَن ولا أذى ولا غمّ - حتى الشوكةِ يُشَاكُها- إِلا كفّر الله بها من خطاياه" (¬5). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وأهله وماله، حتى يلقى الله -عزّ وجلّ- وما عليه خطيئة" (¬6). ¬

_ (¬1) الوعك: الحمّى. وقيل: ألمها. "النهاية". (¬2) أخرجه البخاري: 5660، ومسلم: 2571. (¬3) النّصَب: هو التعب، وانظر للمزيد من الشرح -إِن شئت- كتابي "شرح صحيح الأدب المفرد" برقم (378/ 492). (¬4) الوصَب؛ أي: المرض. وقيل: هو المرض اللازم. "فتح" (10/ 106). (¬5) أخرجه البخاري: 5641، 5642، ومسلم: 2573. (¬6) أخرجه أحمد، والترمذي وغيرهما. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وانظر "الصحيحة" (2280).

شكوى المريض:

وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يُرِدِ الله به خيراً يُصِبْ (¬1) منه" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا اشتكى المؤمن؛ أخلصَه الله (¬3) كما يخلص الكِيرُ (¬4) خَبَث الحديد (¬5) " (¬6). شكوى المريض: يجوز للمريض أن يشكو للطبيب والصديق ما يجده من الألم والمرض؛ ما ¬

_ (¬1) قال النووي -رحمه الله- في "رياض الصالحين" (ص 64): "ضبطوا "يُصَِب": بفتح الصاد وكسْرها. وقال في "الفتح" (10/ 108): " .. "يُصِب منه"؛ كذا للأكثر بكسر الصاد، والفاعل: الله، قال أبو عبيد الهَرَوي: "معناه يبتليه بالمصائب لِيُثِيبَه عليها ... "، وانظره للمزيد من الفوائد -إِن شئت-. (¬2) أخرجه البخاري: 5645. (¬3) أي: من الذنوب. (¬4) جهاز من جلد أو نحوه؛ يستخدمه الحدّاد وغيره؛ للنّفْخ في النار وإشعالها. "الوسيط". (¬5) خَبَث الحديد: ما تلقيه النار من وسخ الفضّة والنحاس وغيرهما؛ إِذا أُذيبا. "النهاية". وانظر للمزيد من شرحه -إِن شئت- كتابي "شرح صحيح الأدب المفرد" (2/ 115). (¬6) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب المفرد" (382)، وانظر "الصحيحة" (1257).

المريض يكتب له ما كان يعمل مقيما صحيحا:

لم يكن ذلك على سبيل التسخّط وإظهار الجَزَع (¬1)؛ وقد تقدّم حديث: "إِنّي أُوعَك كما يوعَك رجلان منكم". وعن القاسم بن محمد قال: "قالت عائشة: وارأساه!! فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذاك لو كان وأنا حيٌّ واستغفرَ لك وأدعوَ لك، فقالت عائشة: واثُكْلِيَاه (¬2)!! والله إِني لأظنُّك تحبّ موتي، ولو كان ذلك لظَللْتَ آخر يومك مُعرِّساً ببعض أزواجك!! فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بل أنا وارأساه! لقد هممت -أو أردت- أن أرسل إِلى أبي بكر وابنه وأعهد؛ أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنّون! ثمّ قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون -أو يدفع الله ويأبى المؤمنون-" (¬3). وعن عروة بن الزبير قال: "دخلت أنا وعبد الله بن الزبير على أسماء -قبل قتل عبد الله بعشر ليال- وأسماء وَجِعة، فقال لها عبد الله: كيف تجدينك؟ قالت: وَجِعة." (¬4). المريض يُكتب له ما كان يعمل مقيماً صحيحاً: عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا ¬

_ (¬1) انظر "فقه السّنّة" (1/ 488). (¬2) أصْل الثُّكْل: فَقْدُ الولد أو من يعزّ على الفاقد، وليست حقيقته هنا مرادة، بل هو كلام كان يجري على ألسنتهم عند حصول المصيبة أو توقعها. "فتح". (¬3) أخرجه البخاري: 5666. (¬4) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (509)، وانظر "صحيح الأدب المفرد" (394).

عيادة المريض:

مرض العبد أو سافر؛ كُتب له مثلُ ما كان يعمل مقيماً صحيحاً" (¬1). عيادة المريض: عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أطعموا الجائع وعودوا المريض وفُكُّوا العاني (¬2) " (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "حقّ المسلم على المسلم خمس: ردّ السلام، وعيادة المريض، واتّباع الجنائز، وإِجابة الدعوة، وتشميت العاطس" (¬4). وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله؛ ناداه منادٍ: أن طِبْتَ وطاب ممشاك، وتبوَّأتَ من الجنة منزلاً" (¬5). وعن ثوبان مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من عاد مريضاً؛ لم يزل في خُرْفةِ الجنة (¬6) قيل: يا رسول الله! وما خُرْفةُ الجنة؟ قال: جناها" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2996. (¬2) العاني: الأسير، وكلّ من ذلَّ واستكان وخضع؛ فقد عنا يعنو، وهو عانٍ، والمرأة عانية، وجمعُها: عوانٍ. "النهاية". (¬3) أخرجه البخاري: 5649. (¬4) أخرجه البخاري: 1240، ومسلم: 2162. (¬5) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1633)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1184)، وانظر "المشكاة" (1575، 5015). (¬6) أي: في اجتناء ثمرها. "النهاية". والخُرفة: اسم ما يخترف من الثمار حين يُدرك. (¬7) أخرجه مسلم: 2568.

عيادة المغمى عليه:

وعن علي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما من مسلم يعود مسلماً غدوةً؛ إِلا صلّى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يمسي، وإن عاده عَشِيَّةً؛ إِلا صلّى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف (¬1) في الجنة" (¬2). عيادة المُغْمَى عليه (¬3): عن جابر بن عبد الله قال: "مرضتُ مرضاً، فأتاني النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يعودني- وأبو بكر وهما ماشيان، فوجداني أُغميَ عليّ، فتوضأ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ صبَّ وَضوءه عليّ، فأفقتُ؛ فإِذا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقلت: يا رسول الله! كيف أصنع في مالي؟ [كيف] أقضي في مالي؟ فلم يُجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث" (¬4). جاء في "الفتح" (10/ 114): "قال ابن المنَيِّر: فائدة الترجمة: أن لا يُعتقد أَنَّ عيادة المغمى عليه ساقطة لكونه لا يعلم بعائده. [قال الحافظ]: ومجرد عِلم المريض بعائده لا تتوقف مشروعية العيادة عليه؛ لأَنَّ وراء ذلك جبْرَ خاطِرِ أهله، وما يُرجَى من بركة دعاء العائد، ووضْع يده على المريض، والمسح على جسده، والنفث عليه عند التعويذ، إِلى غير ¬

_ (¬1) أي: مخروف من ثمرها، فعيل بمعنى مفعول. "النهاية". (¬2) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2655)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (775)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1183) وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (1367). (¬3) هذا العنوان من كتاب "الأدب المفرد" وكذا ثلاثة الأبواب التي بعده. (¬4) أخرجه البخاري: 5676، ومسلم: 1616.

قول العائد للمريض: كيف تجدك؟

ذلك" (¬1). قول العائد للمريض: كيف تَجِدُكَ؟ عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة؛ وُعك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلتْ عليهما، فقلت: يا أبتِ! كيف تجدك؟ ويا بلال! كيف تجدك؟ " (¬2). ما يجيب المريض: عن سعيد بن عمرو بن سعيد قال: "دخل الحجاج على ابن عمر -وأنا عنده -فقال: كيف هو؟ فقال: صالح، فقال: من أصابك؟ قال: أصابني من أمَر بحمل السلاح في يوم لا يحلُّ فيه حمْله! يعني: الحجاج" (¬3). أين يقعد العائد؟ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا عاد المريض جلس عند رأسه، ثمّ قال (سبع مرار): أسأل الله العظيم - ربَّ العرش العظيم: أنْ يشفيَك، فإِنْ كان في أجله تأخير عُوفي من وجعه (¬4) " (¬5). ¬

_ (¬1) انظر كتابي "شرح صحيح الأدب المفرد" (2/ 135). (¬2) أخرجه البخاري: 3926. وبعضه في مسلم: 1376. (¬3) أخرجه البخاري: 967. (¬4) أي: إِذا لم يحضر أجله وكتب الله له حياة؛ عافاه من مرضه. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2663)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1698).

عيادة النساء الرجال:

عيادة النِّساءِ الرّجالَ (¬1): عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما قدِم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة؛ وُعك أبو بكر وبلال -رضي الله عنهما- قالت: فدخلْت عليهما قلت: يا أبت! كيف تجدك؛ ويا بلال! كيف تجدك؟ " (¬2). عيادة المشرك: عن أنس -رضي الله عنه- "أن غلاماً ليهود كان يخدُم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمرض، فأتاه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعوده، فقال: أسلِم "فأسلم" (¬3). التداوي: عن أسامة بن شَرِيك قال: "أتيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وأصحابُه كأنما على رؤوسهم الطير، فسلّمت ثمّ قعدت، فجاء الأعراب من هاهنا وهاهنا، فقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ فقال: تداووا؛ فإِن الله -عزّ وجلّ- لم يضع داءً إِلا وضَع له دواءً؛ غيرَ داء واحد: الهَرَمُ" (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما أنزل الله داءً؛ إِلا ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "صحيح البخاري"، ونقله السيد السابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (1/ 490). (¬2) أخرجه البخاري: 5654، وبعضه في مسلم: 1376، وتقدّم. (¬3) أخرجه البخاري: 5657 و1356. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3264)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1660)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2772)، وانظر "غاية المرام" (تحت رقم 292)، و"المشكاة" (4532).

تحريم التداوي بمحرم:

أنزل له شفاءً" (¬1). وعن جابر -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لكل داءٍ دواء، فإِذا أُصيب دواء الداء برَأ بإِذن الله -عزّ وجلّ-" (¬2). تحريم التداوي بمحرّم: عن وائل الحضرمي: أن طارق بن سُويد الجُعْفِيَّ سأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الخمر؟ فنهاه -أو كره- أن يصنعها، فقال: إِنما أصنعها للدواء؟! فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنه ليس بدواء، ولكنه داء" (¬3). وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في السُّكْر: "إِنّ الله لم يجعل شفاءَكم فيما حرّم عليكم" (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الدواء الخبيث" (¬5). وجاء في "مجموع الفتاوى" (24/ 266): وسُئل عن التداوي بالخمر؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5678. (¬2) أخرجه مسلم: 2204. (¬3) أخرجه مسلم: 1984. (¬4) أخرجه البخاري معُلقاً مجزوماً به موقوفاً، وتقدّم في كتابنا هذا (باب الطهارة)، وانظر ما قاله الحافظ في "الفتح" (10/ 79). (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3278)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1667)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2785).

فأجاب: "التداوي بالخمر حرام، بنص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعلى ذلك جماهير أهل العلم". ثمّ ذكر -رحمه الله- الأدلّة على ذلك، ثمّ قال: "وليس هذا مِثلَ أكْل المُضْطَرِّ للميتة؛ فإِن ذلك يحصل به المقصود قطعاً، وليس له عنه عوض، والأكل منها واجب، فمن اضطر إِلى الميتة ولم يأكل حتى مات؛ دخل النار، وهنا لا يعلم حصول الشفاء، ولا يتعين هذا الدواء، بل الله - تعالى- يعافي العبد بأسباب متعددة". وجاء فيه (24/ 270): وسُئل -رحمه الله- عن رجل وُصف له شحم الخنزير بمرضٍ به، هل يجوز له ذلك أم لا؟ فأجاب: "وأما التداوي بأكل شحم الخنزير؛ فلا يجوز". وجاء فيه (24/ 275): "وأما ما أبيح للحاجة لا لمجرد الضرورة -كلباس الحرير-؛ فقد ثبت في "الصحيح": "أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للزبير وعبد الرحمن ابن عوف في لبس الحرير؛ لحكة كانت بهما". وهذا جائز على أصح قَوْلَي العلماء؛ لأن لبس الحرير إِنما حُرِّمَ عند الاستغناء عنه، ولهذا أبيح للنساء لحاجتهن إِلى التزيّن به، وأبيح لهن التستر به مطلقاً، فالحاجة إِلى التداوي به كذلك، بل أوْلى، وهذه حُرِّمت لما فيها من السرف والخيلاء والفخر، وذلك مُنْتَفٍ إِذا احتيج إِليه، وكذلك لبسها للبرد، أو إذا لم يكن عنده ما يستتر به غيرها".

الطبيب المشرك:

الطبيب المشرك (¬1): قال الشيخ تقي الدين (¬2): "إِذا كان اليهودي أو النصراني خبيراً بالطب ثقة عند الإِنسان؛ جاز له أن يستطبّ كما يجوز له أنْ يودِعه المال وأن يعامله، كما قال -تعالى-: {ومن أهل الكتاب من إِن تأمنه بقنطار يُؤَدِّهِ إِليك ومنهم من إِن تأمنه بدينار لا يُؤَدِّهِ إِليك} [آل عمران: 75] ". وفي "الصحيح": "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما هاجر؛ استأجر رجلاً مشركاً هادياً خِرِّيتاً" (¬3). والخريت: الماهر بالهداية، وَأْتَمَنَهُ على نفسه وماله. وكانت خُزَاعَةُ عَيْبَةً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسلمُهم وكافرُهم (¬4). وإذا أمكنه أنْ يستطبّ مسلماً؛ فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله، فلا ينبغي أن يَعْدِلَ عنه. وأمّا إِذا احتاج إِلى ائتمان الكتابيّ أو استطبابه؛ فله ذلك، ولم يكن من ولاية اليهود والنصارى المنهيّ عنها، وإِذا خاطبه بالتي هي أحسن كان حسَناً؛ فإِنّ الله -تعالى- يقول: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إِلا ¬

_ (¬1) انظر "فقه السّنّة" (1/ 492). (¬2) انظر "الآداب الشرعية" لابن مفلح (2/ 94). (¬3) أخرجه البخاري: 3905. (¬4) أخرجه البخاري: 2731، 2732 بلفظ: "وكانوا عيبةَ نُصْح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (5/ 337): "العَيبة: ما توضع فيه الثياب لحِفظها؛ أي: أنهم موضع النصح له والأمانة على سرّه، كأنّه شبّه الصدر -الذي هو مستودع السر- بالعيبة التي هي مستودع الثياب".

هل يداوي الرجل المرأة والمرأة الرجل؟

بالتي هي أحسن إِلا الذين ظلموا منهم} (¬1) ". انتهى كلامه. وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل ترون جواز تطبيب الكافرِ المسلمَ؛ إِذا لم يُتهم، وكان غير مظنون به الريبة؟ فأجاب: نعم. هل يداوي الرجل المرأة والمرأة الرجل؟ (¬2) عن رُبَيِّعَ بنتِ مُعوِّذ قالت: "كنّا نغزو مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نسقي القوم، ونخدُمهم، ونَرُدُّ القتلى والجرحى إِلى المدينة" (¬3). العلاج بالرُّقى: عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُعوِّذ بعض أهله؛ يمسح بيده اليمنى ويقول: "اللهمّ ربَّ الناس! أذهب الباس، واشفه -وأنت الشافي، لا شفاءَ إِلا شفاؤك- شفاءً لا يغادر سَقَماً" (¬4). وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي: أنّه شكا إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجَعاً، يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ضع يدك على الذي تَألَمُ من جسدك، وقل: باسم الله؛ ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شرّ ما أجد وأحاذر" (¬5). ¬

_ (¬1) العنكبوت: 46. (¬2) هذا العنوان من "صحيح البخاري". (¬3) أخرجه البخاري: 5679. (¬4) أخرجه البخاري: 5743، ومسلم: 2191. (¬5) أخرجه مسلم: 2202.

وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاده في مرضه، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً ثلاث مِرارٍ" (¬1). وعن محمد بن سالم: حدَّثنا ثابت البُناني قال: قال لي: يا محمد! إِذا اشتكيت؛ فضع يدك حيث تشتكي، ثمّ قل: "بسم الله، أعوذ بعزة الله وقدرته من شرِّ ما أجد من وجعي هذا، ثمّ ارفع يدك، ثمّ أعد ذلك وتراً؛ فإِن أنس بن مالك حدثني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدّثه بذلك" (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من عاد مريضاً لم يحضر أجله، فقال عنده -سبع مِرار- أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يشفيَك؛ إِلا عافاه الله من ذلك المرض" (¬3). وعنه -رضي الله عنهما- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعوِّذ الحسن والحسين ويقول: إِن أباكما كان يعوِّذ بها إِسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامّة (¬4)، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1628. (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2838)، وانظر "الصحيحة" (1258). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2663)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1698)، وتقدّم. (¬4) جاء في "النهاية": "إِنما وصف كلامه بالتمام؛ لأنه لا يجوز أن يكون في شيء من كلامه نقص أو عيب كما يكون في كلام الناس. وقيل: معنى التمام ها هنا: أنها تنفع المتعوّذ بها وتحفظه من الآفات وتكفيه".

تحريم التمائم:

من كل شيطان وهامّة (¬1)، ومن كل عين لامّة (¬2) " (¬3). تحريم التمائم: عن عقبة بن عامر الجُهَني -رضي الله عنه-: أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقبل إِليه رَهْطٌ (¬4)، فبايع تسعةً، وأمسَك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله! بايعت تسعة وتركت هذا؟! قال: إِن عليه تميمة، فأدخل يده، فقطعها، فبايعه وقال: "من علّق تميمةً؛ فقد أشرك" (¬5). "والتميمة: هي خرَزات كانت العرب تُعلّقها على أولادهم؛ يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإِسلام". قاله ابن الأثير في "النهاية". وقال بعض العلماء: "ثمّ توسّعوا فيها فسمَّوا بها كل عوذة". قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (331): "ومِنْ ذلك تعليق بعضهم نعل الفرس على باب الدار، أو في صدر المكان! وتعليق بعض السائقين نعلاً في مقدمة السيارة أو مؤخرتها، أو الخرز الأزرق على مرآة السيارة التي تكون أمام السائق من الداخل؛ كل ذلك من أجل العين زعموا! ¬

_ (¬1) واحدة الهوامّ ذوات السموم. وقيل: كلّ ما له سمّ يقتل؛ فأمّا ما لا يقتل سمّه فيقال له؛ السوام. وقيل: المراد كل نسمة تهم بسوء. "فتح". (¬2) قال الخطابي: المراد به: كلّ داء وآفة يُلِمّ بالإِنسان من جنون وخبل. وقال أبو عُبيد: أصْله من: ألمَمت إِلماماً. "الفتح" أيضاً. (¬3) أخرجه البخاري: 3371. (¬4) الرهط: ما دون العَشَرة من الرجال؛ لا يكون فيهم امرأة. "مختار الصحاح". (¬5) أخرجه الإِمام أحمد بإِسناد صحيح، وانظر "الصحيحة" (492).

وهل يدخل في (التمائم) الحُجُبُ التي يعلقها بعض الناس على أولادهم أو على أنفسهم إِذا كانت من القرآن أو الأدعية الثابتة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ للسلف في ذلك قولان؛ أرجحهما عندي المنع؛ كما بيّنتُه فيما علّقته على "الكَلِم الطيب" لشيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- (رقم التعليق: 34) ". عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنّ الرُّقَى (¬1) والتمائم والتّوَلة (¬2) شرك" (¬3). وانظر تعليق شيخنا -رحمه الله- على الحديث (492) من "الصحيحة". عن عيسى -وهو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى- قال: دخلْت على عبد الله ابن عُكيم أبي معبد الجهني أعوده، وبه حُمرة، فقلت: ألا تُعلّق شيئاً؛! قال: الموت أقرب من ذلك، قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من تَعَلَّق شيئاً وُكِّلَ إِليه" (¬4). ¬

_ (¬1) الرُّقى: جمع رُقْيَة: العُوذة التي يُرقَى بها صاحب الآفة، كالحمى والصّرَع وغير ذلك من الآفات". وانظر "النهاية" وقال شيخنا -رحمه الله-: "هي -هنا- كلّ ما فيه الاستعاذة بالجنّ، أو لا يفهم معناها، مِثل كتابة بعض المشايخ من العجم على كتابهم لفظة (يا كبيكج)؛ لحفظ الكتب من الأرَضة زعموا! ". (¬2) التّوَلَة -بكسر التاء وفتح الواو-: ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره؛ جعله من الشرك؛ لاعتقادهم أنّ ذلك يؤثر ويفعل خلاف ما قدّره الله -تعالى-". (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3288)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2845) وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (331)، و"غاية المرام" (298). (¬4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1691) وغيره، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "غاية المرام" (297).

التوقي من العدوى:

التوقِّي من العدوى: عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الطاعون رِجْز -أو عذاب أرسل على بني إِسرائيل- أو على من كان قبلكم - فإِذا سمعتم به بأرض؛ فلا تَقْدَموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها؛ فلا تخرجوا فراراً منه" (¬1). وعن الشَّريد بن سُوَيْد، قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم (¬2)، فأرسل إِليه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنا قد بايعناك فارجع" (¬3). عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تُوردوا المُمْرضَ (¬4) على المُصِحّ" (¬5). قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" -تحت الحديث (971) -: "واعلم أنه لا تعارض بين هذين الحديثين وبين أحاديث: "لا عدوى ... " (¬6) المتقدّمة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5728 ومسلم: 2218، واللفظ له. (¬2) أي: مصاب بالجذام، وهو علّة تتأكل منها الأعضاء وتتساقط، وانظر "الوسيط". (¬3) أخرجه مسلم: 2231. (¬4) قال النووي -رحمه الله- (14/ 217): "قال العلماء: المُمْرِضُ: صاحب الإِبل المِرَاض، والمُصِحُّ: صاحب الإِبل الصحاح، فمعنى الحديث: لا يورد صاحب الإِبل المراض إِبله على إِبل صاحب الإِبل الصحاح؛ لأنّه ربما أصابها المرض بفعل الله -تعالى- وقدَره الذي أجرى به العادة، لا بطبعها؛ فيحصل لصاحبها ضرر بمرضها، وربما حصل له ضرر أعظم من ذلك؛ باعتقاد العدوى بطبعها؛ فيكفر؛ والله أعلم". (¬5) أخرجه البخاري: 5774، ومسلم: 2221. (¬6) إِشارة إِلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا عدوى ولا طِيَرة" أخرجه البخاري: 5272، ومسلم: 2223.

برقم (781 - 789)؛ لأنّ المقصود بهما إِثبات العدوى، وأنها تنتقل بإِذن الله - تعالى- من المريض إِلى السليم، والمراد بتلك الأحاديث نفي العدوى التي كان أهل الجاهلية يعتقدونها، وهي انتقالها بنفسها دون النظر إِلى مشيئة الله في ذلك؛ كما يرشد إِليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: "فمن أعدى الأول؟ " (¬1) فقد لفَت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نظر الأعرابي بهذا القول الكريم إِلى المسبِّب الأول؛ ألا وهو الله -عزّ وجلّ- ولم ينكر عليه قوله: "ما بال الإِبل تكون في الرّمل كأنها الظباء، فيخالطها الأجرب فيجربها"؟! بل إِنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقره على هذا الذي كان يشاهده، وإنما أنكر عليه وقوفه عند هذا الظاهر فقط بقوله له: "فمن أعدى الأوّل؟! ". وجملة القول: أنّ الحديثين يثبتان العدوى، وهي ثابتة تجربةً ومشاهدةً، ¬

_ (¬1) والحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا عدوى ولا صَفَر ولا هامة"، فقال أعرابي: يا رسول الله! فما بال إِبلي تكون في الرَّمل؛ كأنها الظِّباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال: فمن أعدى الأول؟! " أخرجه البخاري: 5717، ومسلم: 2220. والطِّيَرة: التشاؤُم بالشيء؛ وانظر تفصيل الشرح -إِن شئت- في كتابي "شرح صحيح الأدب المفرد" (3/ 39)، وجاء في "النهاية" في شرح كلمة صَفَر: "كانت العرب تزعم أن في البطن حيّة يقال لها: الصَّفر، تصيب الإِنسان إِذا جاع وتؤذيه، وأنها تُعدي، فأبطل الإِسلام ذلك. وقيل: أراد به النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو تأخير المحرَّم إِلى صَفَر، ويجعلون صَفر هو الشهر الحرام، فأبطله". والهامة: الرأس، واسم طائر، وهو المراد في الحديث، وذلك أنّهم كانوا يتشاءمون بها، وهي من طير الليل. "النهاية" أيضاً.

ذكر الموت والاستعداد له بالعمل:

والأحاديث الأخرى لا تنفيها؛ وإِنما تنفي عدوى مقرونة بالغفلة عن الله -تعالى- الخالق لها. وما أشبه اليوم بالبارحة! فإِن الأطباء الأوربيين في أشد الغفلة عنه -تعالى- لشركهم وضلالهم، وإيمانهم بالعدوى على الطريقة الجاهلية! فلهؤلاء يقال: "فمن أعدى الأول؟! ". فأمّا المؤمن الغافل عن الأخذ بالأسباب؛ فهو يُذكَّر بها، ويقال له -كما في حديث الترجمة-: "لا يورد الممرض على الصح"؛ أخذاً بالأسباب التي خلَقها الله -تعالى- وكما في بعض الأحاديث المتقدّمة (¬1): "وَفِرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد" ... ". وجاء في "مجموع الفتاوى" (24/ 284): "وسُئل عن رجل مبتلى، سكَن في دارٍ بين قوم أصحَّاء، فقال بعضهم: لا يمكننا مجاورتك، ولا ينبغي أن تجاور الأصحاء، فهل يجوز إِخراجه؟ فأجاب: نعم؛ لهم أن يمنعوه من السكن بين الأصحاء، فإِن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يورد ممرض على مُصح"؛ فنهى صاحب الإِبل الراض أن يوردها على صاحب الإِبل الصحاح، مع قوله: "لا عدوى ولا طِيَرة"، وكذلك روي أنه لما قدم مجذوم ليبايعه، أرسل إِليه بالبيعة، ولم يأذن له في دخول المدينة". ذكر الموت والاستعداد له بالعمل: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجاءه رجل ¬

_ (¬1) إِشارة إِلى الحديث المتقدّم في "الصحيحة" (780) وفيه: "واتقوا المجذوم كما يُتّقى الأسد".

من الأنصار، فسلّم على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ قال: يا رسول الله! أيّ المؤمنين أفضل؟ قال: "أحسنهم خُلُقاً، قال: فأيّ المؤمنين أَكْيَسُ (¬1)؟ قال: أكثرهم للموت ذِكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً، أولئك الأكياس" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أكثِروا ذِكر هاذِمَ (¬3) اللذات" (¬4). وقال البخاري -رحمه الله- في "صحيحه": (من استعدَّ الكفن في زمن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يُنكر عليه) (¬5)، ثمّ ساق بإِسناده حديث (1277) عن سهل -رضي الله عنه- "أنّ امرأة جاءت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببُردة منسوجة فيها حاشيتُها (¬6)، ¬

_ (¬1) أكيس: أي: أعقل؛ "النهاية". (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (3435) وغيره، وانظر "الصحيحة" (1384). (¬3) أي: قاطع. (¬4) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (3434)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1720)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1877)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (682). (¬5) انظر منه (كتاب الجنائز) (باب 28). (¬6) قال الداودي: "يعني: أنها لم تقطع من ثوب فتكون بلا حاشية. وقال غيره: حاشية الثوب هُدْبُهُ؛ فكأنه قال: إِنها جديدة لم يقطع هدبها، ولم تلبس بعد. وقال القزاز: حاشيتا الثوب: ناحيتاه اللتان في طرفهما الهدب" "فتح". وجاء في "النهاية": "وحاشية كل شيء جانبه وطرفه".

أتدرون ما البُردة (¬1)؟ قالوا: الشَّمْلة (¬2)، قال: نعم، قالت: نسجتها بيدي، فجئت لأكْسَوَكَها، فأخذها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محتاجاً إِليها، فخرج إِلينا وإنها إِزاره، فحسّنها فلان، فقال: اكسُنيها ما أحسنها! قال القوم: ما أحسنت، لبسها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحتاجاً إِليها ثمّ سألته وعلمت أنه لا يرُدُّ! قال: إِني -والله- ما سألته لألبسها، إِنما سألته لتكون كفني. قال سهل: فكانت كفنه". وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخلت على أبي بكر -رضي الله عنه- فقال: في كم كفَّنْتم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيضٍ سَحولية (¬3)؛ ليس فيها قميص ولا عمامة. وقال لها: في أيّ يوم توفّي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالت: يومَ الاثنين. قال: فأيّ يوم هذا؟ قالت: يوم الاثنين. قال: أرجو فيما بيني وبين الليل، فنظر إِلى ثوب عليه كان يُمرَّض فيه، به رَدْعٌ (¬4) من زعفران؛ فقال: اغسلوا ثوبي هذا، وزيدوا عليه ثوبين فكفّنوني فيهما. قلت: إِنّ هذا خَلَق! قال: إِن الحيّ أحق بالجديد من الميت، إنما هو للمُهْلة (¬5)، فلم يُتوفَّ حتى ¬

_ (¬1) و (¬2) البُردة: كساء أسود مربّع، يلبسه الأعراب. والشملة: كساء يُشتمل به. قاله الكرماني. وجاء في "الفتح" (3/ 143): "وفي تفسير البردة بالشملة تجوُّز؛ لأن البردة كساء والشملة ما يشتمل به؛ فهي أعمّ، لكن لما كان أكثر اشتمالهم بها؛ أطلقوا عليها اسمها". (¬3) منسوبة إِلى سَحُول -بفتح المهملة وضمّها- قرية باليمن. قاله الكرماني. (¬4) الرَّدعْ: هو لَطْخ وأثر لم يعمّه كلّه: ملتقطاً من "شرح الكرماني" و"الفتح". (¬5) المُهْلة؛ أي: القيح والصديد الذي يذوب فيسيل من الجسد. "النهاية".

فضل طول العمر مع حسن العمل:

أمسى من ليلة الثلاثاء، ودُفِنَ قبل أن يصبح" (¬1). جاء في "المنتقى شرح موطَّإِ مالك" (2/ 461): "سؤاله -رضي الله عنه- عائشة لما كانت أعلم الناس بأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنّه مات في يومها وفي بيتها، ووليت أمره، واهْتبلَتْ به، فكان يرجع في ذلك إِليها، وسألها أبو بكر -رضي الله عنه- في مرضه استعداداً للموت، ولتنظر في كفنه وأمره، ويجري ذلك كلّه على اختياره من الاقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". فضل طول العمر مع حُسن العمل: عن أبي بَكْرة -رضي الله عنه-: أنّ رجلاً قال: يا رسول الله! أي الناس خير؟ قال: "من طال عمره وحسن عمله، قال: فأي الناس شرّ؟ قال: من طال عمره وساء عمله" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا أنبئكم بخياركم؟! قالوا: بلى. قال: "خياركم: أطولكم أعماراً وأحسنكم أخلاقاً" (¬3). وعن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: "بينما نحن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إِذ بَصُرَ بجماعة فقال: علامَ اجتمع عليه هؤلاء؟! قيل: على قبر يحفرونه. قال: ففزع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَبَدَرَ بين يدي أصحابه مسرعاً، حتى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1387. (¬2) أخرجه أحمد، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1899)، والدارمي. (¬3) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "الصحيحة" (1298).

طلب الموت بالمدينة:

انتهى إِلى القبر فجثا عليه. قال: فاستقبلتُه من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بلّ الثرى من دموعه، ثمّ أقبل علينا، قال: "أي إِخواني! لِمثل اليوم فأعدّوا" (¬1). طلب الموت بالمدينة: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال لي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من استطاع أن يموت بالمدينة فَلْيَمُتْ بها؛ فإِني أشفع لمن يموت بها" (¬2). وعن سُبيعة الأسلمية -رضي الله عنها- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت؛ فإِنّه لا يموت بها أحد إلاَّ كنتُ له شفيعاً -أو شهيداً- يوم القيامة" (¬3). وعن حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- قالت: سمعت عمر يقول: "اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬4). موت الفَجأة (¬5): عن عُبَيْد بن خالد السُّلَمِيِّ -رجل من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "التاريخ"، وابن ماجه، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (1751). (¬2) أخرجه أحمد، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (3076) وغيرهما. (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1196). (¬4) أخرجه البخاري: 1890. (¬5) الفَجأة: البغتة من غير تقدّم سبب، كما في "النهاية".

أعمار أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -:

قال: "موت الفجاة أخْذةُ أَسَفٍ (¬1) " (¬2). وإنما سمّاه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا؛ لأنه لا يترك المرء ليستعدّ ليوم المعاد بالتوبة وإعداد زاد الآخرة، ولم يمرض ليكون كفّارة لذنوبه (¬3). وبهذا ينبغي على المؤمن أن يكون مستعدّاً دائماً للموت، وأن يحرص على أداء ما عليه من الحقوق. أعمار أمّة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أعمار أمّتى ما بين الستين إِلى السبعين، وأقلّهم من يجوز ذلك" (¬4). جاء في "المرقاة" (9/ 130): "وهذا محمول على الغالب؛ بدليل شهادة الحال، فإِنّ منهم من لم يبلغ ستين، ومنهم من يجوز سبعين. ذَكره الطيبي -رحمه الله-". أجر شدّة الموت وسكراته: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "مات النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنّه لَبْينَ حاقِنَتِي (¬5) ¬

_ (¬1) بفتح السين وروي بكسرها. "عون" (8/ 260). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2667)، وانظر "المشكاة" (1611). (¬3) "المرقاة" (4/ 77) -بتصرّف يسير-. (¬4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2815، 1900)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (3414)، وانظر "الصحيحة" (757). (¬5) الفقرة من التَّرْقُوة -عظمة مشرفة بين ثغرة النحر والعاتق- وحبل العنق. "شرح الكرماني".

ما يجب على المريض

وذاقِنَتي (¬1)، فلا أكره شدة الموت لأحدٍ أبداً بعد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬2). ما يجب على المريض (¬3) 1 - على المريض أنْ يرضى بقضاء الله، ويصبر على قَدَره، ويُحسن الظنَّ بربه، ذلك خير له. فعن صهيب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عجباً لأمر المؤمن، إِنّ أمره كلَّه خير، وليس ذاك لأحدٍ إلاَّ للمؤمن: إِنْ أصابته سرَّاءُ شكَر؛ فكان خيراً له، وإنْ أصابته ضرَّاءُ صبَر؛ فكان خيراً له" (¬4). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يموتَنَّ أحدكم إِلا وهو يُحسن بالله الظنّ" (¬5). 2 - وينبغي عليه أن يكون بين الخوف والرجاء؛ يخافُ عقاب الله على ذنوبه، ويرجو رحمة ربّه. فعن أنس -رضي الله عنه-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على شاب وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله! وأخاف ذنوبي، فقال رسول ¬

_ (¬1) الذاقنة: الذَّقَن، وقيل طرف الحُلقوم. وقيل: ما يناله الذَّقَن من الصَّدر. "النهاية". (¬2) أخرجه البخاري: 4446. وعند الترمذي وغيره: "لا أغبط أحداً بهون موت؛ بعد الذي رأيت من شدّة موت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "مختصر الشمائل المحمدية" (رقم 325). (¬3) عن "أحكام الجنائز" لشيخنا الألباني -رحمه الله- بتصرّف. (¬4) أخرجه مسلم: 2999. (¬5) أخرجه مسلم: 2877.

الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يجتمعان في قلب عبد في مِثل هذا الموطن؛ إِلا أعطاه الله ما يرجو، وآمَنَهُ مما يخاف" (¬1). قال النووي -رحمه الله- (17/ 210): "قال العلماء: معنى حُسن الظنّ بالله -تعالى-: أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه، قالوا: وفي حالة الصحة يكون خائفاً راجياً، ويكونان سواءً. وقيل: يكون الخوف أرجح، فإِذا دنت أمارات الموت؛ غلَّب الرجاءَ أو مَحَضَهُ؛ لأن مقصود الخوف الانفكاك عن المعاصي والقبائح، والحرصُ على الإِكثار من الطاعات والأعمال؛ وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال، فاستحب إِحسان الظن المتضمن للافتقار إِلى الله -تعالى- والإِذعان له". 3 - ومهما اشتد به المرض؛ فلا يجوز له أن يتمّنى الموت؛ لحديث أمّ الفضل -رضي الله عنها-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عليهم، وعباسٌ عمّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشتكي، فتمنّى عباسٌ الموتَ، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا عمّ! لا تتمنَّ الموت؛ فإِنّك إِن كنت مُحسناً؛ فأنْ تُؤخّرَ -تزدادُ إِحساناً إِلى إِحسانك- خيرٌ لك، وإنْ كنت مسيئاً، فأن تُؤخرَ -فَتَسْتَعْتِبَ (¬2) من إِساءتك- خيرٌ لك، فلا تتمنَّ الموت" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي وسنده حسن، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (3436) وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (1051)، و"المشكاة" (1612). (¬2) أي: ترجع عن الإِساءة، وتطلب الرضا. "النهاية". (¬3) أخرجه أحمد، وأبو يعلى، والحاكم، وقال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 12): " .. صحيح على شرط البخاري".

فإِن كان لا بدّ فاعلاً فلْيكل الأمر لله؛ لحديث أنس -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يتمنَّيَنَّ أحدكم الموت لضُّرِّّ نزَل به، فإِنْ كان لا بُدّ متمنياً للموت؛ فليقل: اللهمّ أحْيني ما كانت الحياةُ خيراً لي، وتوفّني إِذا كانت الوفاةُ خيراً لي" (¬1). 4 - ويجب عليه التوبة من ذنوبه والندم عليها؛ لعموم النصوص الآمرة بذلك، وهو أشد ما يكون احتياجاً لها في حاله هذه. 5 - وإذا كان عليه حقوق؛ فليُؤدِّها إِلى أصحابها، إِنْ تيسَّر له ذلك؛ وإلا أوصى بذلك، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كانت عنده مَظلِمَةٌ (¬2) لأخيه فَلْيتحلَّلْهُ منها؛ فإِنه ليس ثَمَّ دينارٌ ولا درهم، من قبل أن يُؤخذ لأخيه من حسناته، فإِن لم يكن له حسنات؛ أُخِذ من سيئات أخيه فطرِحت عليه" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أتدرون ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المفلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إِنّ المفلس من أُمّتي مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعْطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإِنْ فَنِيَتْ حسناته قبل أن يقضى ما عليه؛ أُخِذَ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثمّ طُرح في النّار" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 6351، ومسلم: 2680. (¬2) بفتح الميم وسكون الظاء المعجمة وكسر اللام؛ كما في "الفتح". (¬3) أخرجه البخاري: 2449، 6534. (¬4) أخرجه مسلم: 2581.

وعن جابر بن عبد الله: أنّه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فابتعت (¬1) بعيراً، فشددت إِليه رَحْلي شهراً، حتى قدمت الشام؛ فإِذا عبد الله بن أُنَيْس، فبعثت إِليه أنّ جابراً بالباب، فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم، فخرج فاعتنقني. قلت: حديث بلغني لم أسمعه؛ خشيت أن أموت أو تموت، قال: سمعت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "يحشر الله العباد -أو النّاس- عراةً غُرْلاً (¬2) بُهماً (¬3) قلنا: ما بُهْماً؟ قال: ليس معهم شيء (¬4)، فيناديهم -بصوت يسمعه من بُعد (أحسبه قال) كما يسمعه من قُرْب-: أنا الملك، لا ينبغي لأحد من أهل الجنّة يدخل الجنّة وأحد من أهل النّار يطلبه بِمَظْلِمَةٍ، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النّار وأحد من أهل الجنَّة يطلبه بمظلِمة". قلت: وكيف؟ وإنمّا نأتي الله عراةً بُهماً؟! قال: "بالحسنات والسيئات" (¬5) " (¬6). ¬

_ (¬1) أي: اشتريت. (¬2) غير مختونين. (¬3) بُهماً: جمع بهيم، وهو في الأصل: الذي لا يُخالط لونهُ لونٌ سواه، يعني: ليس فيهم شيء من العاهات والأعراض التي تكون في الدنيا؛ كالعمى والعوَر والعرج، وغير ذلك، وإنما هي أجسادٌ مُصحَّة لخلود الأبد في الجنة أو النار. "النهاية". (¬4) لا تعارض بين قوله: ليس معهم شيء وما تقدّم في "النهاية" في تفسير (بهماً)، فإِنّه يُحمل على عدم اصطحابهم أدنى شيء؛ حتى مُخالطة الألوانِ، والله أعلم. (¬5) أي: القصاص. وانظر للمزيد -إِن شئت- كتابي "شرح صحيح الأدب المفرد" (746). (¬6) أخرجه أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب المفرد" (746) =

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات وعليه ديْنٌ؛ فليس ثَمّ دينار ولا درهم، ولكنّها الحسنات والسيئات" (¬1). وفي لفظ: "الدَّين دَيْنان: فمن مات وهو ينوي قضاءه؛ فأنا وليُّه، ومن مات وهو لا ينوي قضاءه؛ فذاك الذي يؤخذ من حسناته، ليس يومئذ دينارٌ ولا درهم" (¬2). وقال جابر بن عبد الله: "لَمّا حضر أُحد؛ دعاني أبي من الليل، فقال: ما أُراني إِلا مقتولاً في أول من يُقتل من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإني لا أترك بعدي أعزَّ علي منك؛ غيرَ نفس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن عَلَيَّ ديناً فاقضِ، واستوصِ بأخواتك خيراً، فأصبحنا، فكان أوَّلَ قتيل ... " الحديث (¬3). 6 - ولا بُدّ من الاستعجال بمثل هذه الوصية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما حقُّ امرئٍ مسلم له شيء يوصي فيه؛ يبيت ثلاث ليال إلاَّ ووصّيته عنده مكتوبة. قال عبد الله بن عمر: ما مرّت عليّ ليلةٌ - منذ سمِعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ¬

_ = وإسناده حسن، وعلّقه البخاري في (كتاب العلم): "باب الخروج في طلب العلم"، وانظر "السنة" (514) لابن أبي عاصم، و"الصحيحة" (1/ 301)، و (3251). (¬1) أخرجه الحاكم -والسّياق له- وابن ماجه، وأحمد من طريقين عن ابن عمر، والأول صحيح، كما قال الحاكم ووافقه الذهبي، والثاني حسن، كما قال المنذري. (¬2) أخرجه الطبراني في "الكبير"، وهو صحيح بما قبله، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 13). (¬3) أخرجه البخاري: 1351.

ذلك- إِلا وعندي وصيّتي" (¬1). جاء في "الروضة الندية" (1/ 405): "ويتخلّص عن كلّ ما عليه، ووجوب ذلك معلوم، وإذا أمكن بإِرجاع كل شيء لمن هو له؛ من دين أو وديعة أو غصب أو غير ذلك فهو الواجب، وإن لم يكن في الحال؛ فالوصية المفصَّلة هي أقل ما يجب، وورد الأمر بالوصية وأنّه لا يحل لأحد أن يبيت إِلا ووصيته عند رأسه؛ كما في الأحاديث الصحيحة" (¬2). 7 - ويجب أن يوصيَ لأقربائه الذين لا يرثون منه؛ لقوله -تبارك وتعالى-: {كُتِب عليكم إِذا حَضَرَ أحدَكم الموتُ إِنْ ترك خيراً الوصيةُ للوالدَين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتقين} (¬3). 8 - وله أن يوصي بالثُّلث من ماله، ولا يجوز الزيادة عليه، بل الأفضل أن يَنْقُصَ منه؛ لحديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعودني عام حجّة الوداع من وجع اشتدّ بي، فقلت: إِني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إِلا ابنة، أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: لا. فقلت بالشطر (¬4)؟ فقال: لا. ثم قال: الثُّلثُ؛ والثلث كبير -أو كثير-! إِنك أن تَذَرَ ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً (¬5) يتكفّفون النّاس (¬6)، وإنك لن تُنفق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2738، ومسلم: 1627 - وهذا لفظه-. (¬2) يشير إلى مثِل حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- المتقدّم. (¬3) البقرة: 180. (¬4) أي: النّصف. (¬5) العالة: الفقراء. (¬6) أي: يسألون الناس في أكفهم. "شرح النووي".

نفقةً -تبتغي بها وجه الله- إِلا أُجرت بها، حتى ما تجعل في فِيِّ (¬1) امرأتك، فقلت: يا رسول الله! أُخَلَّفُ (¬2) بعد أصحابي؟ قال: إِنك لن تخلّف فتعملَ عملاً صالحاً؛ إِلا ازددت به درجة ورفعة، ثمّ لعلك أن تُخلّف حتى ينتفع بك أقوام ويُضَرَّ بك آخرون. اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردَّهم على أعقابهم، لكن البائس سعد ابن خَوْلة! يرثي له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أنْ مات بمكة" (¬3). وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "وَدِدْتُ أنّ الناس غضُّوا من الثُّلث إِلى الربع في الوصيّة؛ لأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الثلثُ كثير" (¬4). 9 - ويُشْهِد على ذلك رجلين عَدْلين مسلمين، فإِنْ لم يوجدا؛ فرجلين من غير المسلمين، على أن يستوثق منهما عند الشك بشهادتهما؛ حسبما جاء بيانه في قول الله -تبارك وتعالى-: {يا أيها الذين آمنوا شهادةُ بينكم إِذا حضر أحدَكم الموتُ حين الوصيةِ اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم إِنْ أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيُقسمان بالله إِن ارتبتم لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكْتُمُ شهادةَ اللهِ إِنّا إِذاً لمن الآثمين * فإِنْ عُثر على أنّهما استحقا إثماً (¬5) ¬

_ (¬1) أي: في فمها. (¬2) أي: أُخلّف بمكّة. (¬3) أخرجه البخاري: 1295، ومسلم: 1628. (¬4) أخرجه البخاري: 2743، ومسلم: 1629. (¬5) قال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 15): "أي: فإِن اتّفق الاطّلاع =

فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأَوْلَيَان فيُقسمان بالله لَشَهَادتُنا أحقُّ مِنْ شَهَادتهما وما اعتدينا إِنّا إِذاً لمن الظَّالمين * ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن تُرَدَّ أيمْانٌ بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين (¬1)} " (¬2). 10 - وأما الوصية للوالدين والأقرَبين الذين يرثون من الموصي؛ فلا تجوز؛ لأنها منسوخة بآية الميراث، وبيّن ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتمَّ البيان في خطبته في حجة الوداع؟ فقال: "إِنّ الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" (¬3). 11 - ويحرُمُ الإِضرار في الوصية، كأنْ يوصيَ بحرمان بعض الورثة من حقّهم من الإِرث، أو يُفضّل بعضهم على بعض فيه؛ لقوله -تبارك وتعالى-: {للرّجال نصيب مّما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيبٌ مما ترك ¬

_ = على أنّ الشاهدين المقسِمَين استحقا إِثماً بالكذب والكتمان في الشهادة، أو بالخيانة وكتمان شيء من التركة في حالة ائتمانهما عليها؛ فالواجب -أو فالذي يُعمل لإحقاق الحقّ - هو أن تردّ اليمين إِلى الورثة؛ بأن يقوم رجلان آخران مقامهما من أولياء الميت الوارثين له، الذين استُحقّ ذلك الأِثمُ بالإِجرام عليهم والخيانة لهم. كذا في "تفسير المنار"، وراجع تمام البحث فيه (7/ 222) ". (¬1) المائدة: 106 - 108. (¬2) قال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 15): "فالناسخ إِنما هو القرآن، والسُّنّة إِنما هي مبينة لذلك كما ذكرنا، وكما هو واضح من خطبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ خلافاً لما يظنُّه كثيرون أن الحديث هو الناسخ". (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2494) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1721)، والبيهقي، وأشار لتقويته، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 15).

الوالدان والأقربون ممّا قلّ منه أو كثُر نصيباً مفروضاً} (¬1). وفي الأخيرة منها: {من بعد وصيّةٍ يُوصَى بها أو دَيْنٍ غير مُضَارٍّ وصيّةً من الله والله عليم حليم} (¬2). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ضرر ولا ضرار، من ضارَّ ضارَّه الله، ومن شاقَّ شاقَّه الله" (¬3). 12 - والوصيّة الجائرة باطلة مردودة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ" (¬4). ولحديث عمران بن حُصَيْن: "أنّ رجلاً أعتق عند موته ستة رَجْلَةٍ (¬5) [لم يكن له مال غيرهم] فجاء ورثته من الأعراب، فأخبروا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما صنع. قال: أَوَ فَعَلَ ذلك؟! قال: لو علمْنا إِن شاء الله ما صلّينا عليه قال: فأقرع بينهم؛ فأعتق منهم اثنين (¬6)، وردَّ أربعةً في الرِّق" (¬7). ¬

_ (¬1) النساء: 7. (¬2) النساء: 12. (¬3) أخرجه الدارقطني، والحاكم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري؛ وحسّنه شيخنا - رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 16)، وانظر "الإِرواء" (896). (¬4) أخرجه البخاري: 2697، ومسلم: 1718. (¬5) جمع رجل. (¬6) يلاحظ أنّ الإِعتاق يساوي الثلث. (¬7) أخرجه أحمد، ومسلم: 1668 بنحوه، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 17).

13 - ولمَّا كان الغالبُ على كثير من الناس في هذا الزمان الابتداعَ في دينهم - ولا سيّما فيما يتعلّق بالجنائز- كان من الواجب أن يوصي المسلم بأن يجهَّز ويُدفن على السنة؛ عملاً بقوله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً وَقودها النّاس والحجارة عليها ملائكة غلاظٌ شدادٌ لا يعصون الله ما أمرَهم ويفعلون ما يُؤمرون} (¬1). ولذلك كان أصحاب رسول الله يوصون بذلك، والآثار عنهم بما ذكرنا كثيرة، فلا بأس من الاقتصار على بعضها: أ- عن عامر بن سعد بن أبي وقاص: أنّ أباه قال في مرضه الذي هلك فيه: "ألْحِدُوا (¬2) لي لحداً، وانْصِبوا عليَّ اللّبن نصباً، كما صُنِعَ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). ب- عن أبي بُرْدَةَ قال: "أوصى أبو موسى -رضي الله عنه- حين حضره الموت قال: إِذا انطلقتم بجنازتي؛ فأسرعوا بي المشي، ولا تُتْبِعوني بمِجمَر (¬4)، ولا تجعلُنَّ على لحدي شيئاً يحول بيني وبين التراب، ولا تجعلُنًّ على قبري بناءً، وأُشهدكم أني بريء من كل حالقةٍ، أو سالقة (¬5)، أو خارقة (¬6)!، قالوا: سمعت ¬

_ (¬1) التحريم: 6. (¬2) اللحد: هو الشق تحت الجانب القبلي من القبر. "شرح النووي". (¬3) أخرجه مسلم: 966. (¬4) هو الذي يوضع فيه النّار للبَخُور. "النهاية". (¬5) هي التي ترفع صوتها عند المصيبة. (¬6) أي: شاقّة وممزقة.

تلقين المحتضر:

فيه شيئاً؟ قال: نعم؛ من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬1). جـ - عن حذيفة قال: "إِذا أنا متُّ؛ فلا تُؤْذِنوا (¬2) بي أحداً؛ فإِنّي أخاف أن يكون نَعْياً (¬3)، وإنّي سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن النعي" (¬4). تلقين المحتضر (¬5): فإِذا حضَره الموت؛ فعلى من يكون عنده أمور: 1 - أن يلقّنوه الشهادة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لقنِّوا موتاكم: لا إِله إِلا الله" (¬6). وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كان آخرُ كلامِهِ لا إِله إِلا الله؛ دخل الجنّة" (¬7). عن عثمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات وهو يعلم ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، والبيهقي -بهذا التمام- وابن ماجه بسند حسن. (¬2) أي: تُعلموا. (¬3) النعي؛ قال في "النهاية": "نَعَى الميّت ينعاه نعياً ونَعِيّاً: إِذا أذاع موته وأخبر به وإذا ندبَه. (¬4) أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن". (¬5) جاء في "الروضة الندية" (1/ 399): "وتلقين المحتضر؛ وهو في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيّام الآخرة". (¬6) أخرجه مسلم: 916. (¬7) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2673)، وانظر "الإِرواء" (687)، و"المشكاة" (1621).

أنه لا إِله إِلا الله؛ دخل الجنّة" (¬1). وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: "من مات لا يشرك بالله شيئاً؛ دخل الجنة" (¬2). وتلقين المحتضر هو المشروع، أمّا تلقين الرجل بعد موته؛ فلا يشرع. وجاء في "سنن الترمذي" في (كتاب الجنائز): (باب تلقين المريض عند الموت والدّعاء له). قال أبو عيسى -رحمه الله-: "وقد كان يُستحبّ أن يُلقّن المريض عند الموت قول: لا إله إِلا الله ... ". وليس التلقينُ ذِكرَ الشهادة بحضرة الميت وتسميعَها إِياه، بل هو أمره بأنْ يقولها؛ خلافاً لما يظنُّ البعض، والدليل حديث أنس -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاد رجلاً من الأنصار، فقال: يا خال! قل: لا إِله إِلا الله، فقال: أخالٌ أم عمٌّ؟ فقال: بل خال، فقال: فخير لي أن أقول: لا إِله إِلا الله؟ فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم" (¬3). جاء في "سِيَر أعلام النبلاء" (13/ 76): "قال أبو جعفر محمّد بن علي ورّاق أبي زُرعة: حضَرنا أبا زرعة بـ (ماشهران)، وهو في السَّوْق (¬4)، وعنده أبو ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 26. (¬2) أخرجه مسلم: 93. (¬3) أخرجه أحمد بإِسناد صحيح على شرط مسلم. (¬4) أي: النّزع، جاء في "الوسيط": "ساق المريض سَوْقاً وسياقاً ... شرع في نزْعروح".

حاتم، وابن وارة، والمنذر بن شاذان وغيرهم، فذكروا حديث التلقين: "لقّنوا موتاكم: لا إله إِلا الله"، واستحْيَوْا من أبي زُرعة أن يلقّنوه، فقالوا: تعالوا نذكر الحديث. فقال ابن وارة: حدَّثنا أبو عاصم: حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح .. وجعل يقول: ابن أَبِي .. ولم يجاوزه. وقال أبو حاتم حدثنا بُندار: حدثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر [عن صالح] .. ولم يجاوز، والباقون سكتوا، فقال أبو زُرعة وهو في السَّوْق: حدثنا بُندار: حدثنا أبو عاصم: حدثنا عبد الحميد عن صالح بن أبي عَريب عن كثير بن مُرة عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كان آخرُ كلامِهِ: لا إِله إِلا الله؛ دخل الجنّة"، وتوفي رحمه الله. رواها أبو عبد الله الحاكم وغيره عن أبي بكر محمد بن عبد الله الورّاق الرّازي عن أبي جعفر بهذا". وقال حُسين الجُعفي: دخلت على الأعمش أنا وزائدة في اليوم الذي مات فيه، والبيت مُمتلئ من الرجال، إِذ دخل شيخ، فقال: سبحان الله! ترون الرجل وما هو فيه وليس منكم أحد يُلقنّه؟! فقال الأعمش هكذا، فأشار بالسبّابة وحرّك شفتيه" (¬1). 2 - أن يدعوا له، ولا يقولوا في حضوره إلاَّ خيراً. ¬

_ (¬1) رواه عبد الله بن أحمد في كتاب أبيه "العلل ومعرفة الرجال" (2/ 76/462) بسند صحيح.

عن أمّ سلمة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا حضرتم المريض -أو الميت- فقولوا خيراً؛ فإِنّ الملائكة يؤمّنون على ما تقولون" (¬1). 3 - وأمّا قراءة سورة {يس} عنده، وتوجيهه نحو القبلة؛ فلم يصحّ فيه حديث، بل كره سعيد بن المسيِّب توجيهه إِليها، وقال: أليس الميت امرأً مسلماً؟! وعن زُرعة بن عبد الرحمن: أنه شهد سعيد بن المسيِّب في مرضه؛ وعنده أبو سلمة بن عبد الرحمن؛ فغُشي على سعيد، فأمر أبو سلمة أن يحوَّل فراشه إِلى الكعبة، فأفاق، فقال: حوّلتم فراشي؟! فقالوا: نعم. فنظر إِلى أبي سلمة فقال: أُراه بعلمك؟! فقال: أنا أمرتهم! فأمر سعيد أن يعاد فراشه" (¬2) انتهى. قلت: أمّا قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البيت الحرام: "قِبلتكم أحياءً وأمواتاً" (¬3). فإِنه لا يفيد توجيه المحتضر، جاء في "الروضة الندية" (1/ 400): "لأنّ "المراد بقوله: "أحياءً" عند الصلاة، وبقوله: "أمواتاً" في اللحد، والمحتضر حي غير مصلّ، فلا يتناوله الحديث؛ وإِلا لزم وجوب التوجه إِلى القبلة على كل حي، وعدم اختصاصه بحال الصلاة! وهو خلاف الإِجماع ... ". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 919. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" بسند صحيح عن زُرعة. (¬3) أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (690).

ما على الحاضرين بعد موته

وأمّا حديث ابن أبي قتادة -رضي الله عنه- الآتي؛ فلا يثبت؛ ولفْظه: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قدم المدينة؛ يسأل عن البراء بن معرور؟ فقالوا: تُوفّي، وأوصى بثلثه لك يا رسول الله! وأوصى أن يوجه إِلى القبلة لما احتضر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصاب الفطرة، وقد رددت ثلثه على ولده، ثمّ ذهب فصلّى عليه، فقال: "اللهم اغفر له، وارحمه، وأدخله جنتك، وقد فعلت" (¬1). ولا بأس في أن يَحْضُر المسلمُ وفاةَ الكافر ليعرض الإِسلام عليه؛ رجاءَ أن يسلم؛ لحديث أنس -رضي الله عنه- قال: "كان غلام يهودي يخدم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمرض، فأتاه النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم. فنظر إِلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلم فخرج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار" (¬2). ما على الحاضرين بعد موته فإِذا قضى وأسلم الروح؛ فعليهم عدّة أشياء: 1 - أن يغمضوا عينيه، ويَدْعوا له أيضاً. عن أمّ سلمة قالت: دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أبي سلمة وقد شَقَّ بصرُهُ (¬3)، ¬

_ (¬1) وفيه علّتان: الأولى: فيه نعيم بن حمّاد، ضعيف. والثانية: الإِرسال، فإِنّ عبد الله بن أبي قتادة ليس صحابيّاً، وانظر التفصيل في "الإِرواء" (689). (¬2) أخرجه البخاري: 1356، وتقدّم مختصراً. (¬3) أي: شخَص، وهو الذي حضره الموت، وصار ينظر إِلى الشيء لا يرتدّ إِليه طرفه. "النووي".

فأغمضه ثمّ قال: "إِنّ الروح إِذا قبض تبعه البصر، فضجّ ناس من أهله فقال: لا تَدْعوا على أنفسكم إلاَّ بخير؛ فإِنّ الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون، ثمّ قال: اللهمّ اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخْلُفْهُ في عقبه في الغابرين (¬1) واغفر لنا وله يا رب العالمين! وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه" (¬2). 2 - أن يُغطّوه بثوب يستر جميع بدنه لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين تُوفّي سُجِّيَ (¬3)؛ بِبُرْد حِبَرَةٍ (¬4) " (¬5). جاء في "الفتح" (3/ 114) في شرح (باب الدخول على الميت بعد الموت إِذا أُدرج في أكفانه): "قال ابن رُشَيْد: موقع هذه الترجمة من الفقه: أن الموت لمّا كان سبب تغيير محاسن الحي التي عهد عليها -ولذلك أُمر بتغميضه وتغطيته-؛ كان ذلك مظنةً للمنع من كشْفه، حتى قال النَّخَعِيُّ: ينبغي أن لا يطلع عليه إِلا الغاسل له ومن يليه. فترجم البخاري على جواز ذلك، ثمّ أورد فيه ثلاثة أحاديث ... ". وهذا في غير من مات مُحرماً، فأمّا المُحرم؛ فإِنّه لا يُغطى رأسه ولا وجهه؛ ¬

_ (¬1) أي: الباقين كقوله -تعالى-: {إِلا امرأته كانت من الغابرين} [الأعراف: 83]. "النووي". (¬2) أخرجه مسلم: 920. (¬3) سُجيّ؛ أي: غُطيّ وزناً ومعنى. "الفتح". (¬4) الحِبرة: بكسر المهملة وفتح الموحدة؛ جاء في "النهاية": "الحبير من البرود: ما كان مَوشيّاً مَخطّطاً، وهو بُرْد يمانٍ". (¬5) أخرجه البخاري: 5814، ومسلم: 942.

لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "بينما رجل واقف بعرفة؛ إِذ وقع عن راحلته؛ فوقَصَتْه (¬1) -أو قال: فأوقَصَتهُ-، قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغسلوه بماء وسدْر، وكفّنوه في ثوبين، ولا تُحنّطوه (¬2) (وفي رواية: ولا تُطيّبوه)، ولا تخمّروا (¬3) رأسه [ولا وجهه]؛ فإِنّه يُبعث يوم القيامة مُلَبِّياً" (¬4). 3 - أن يُعجّلوا بتجهيزه وإخراجه إِذا بان موته. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أسرعوا بالجنازة؛ فإِن تَكُ صالحة؛ فخير تقدمونها إِليه، وإن يَكُ سوى ذلك؛ فشرٌّ تضعونه عن رقابكم" (¬5). 4 - أن يدفنوه في البلد الذي مات فيه، ولا ينقلوه إِلى غيره؛ لأنّه يُنافي الإِسراع المأمور به في حديث أبي هريرة المتقدّم. ونحوه حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "لما كان يوم أحد؛ جاءت عمتي بأبي لتدفنه في مقابرنا، فنادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رُدُّوا القتلى إِلى مضاجعها" (¬6). ¬

_ (¬1) الوقص: كسْر العُنق. (¬2) ولا تُحنّطوه: هو بالحاء المهملة؛ أي: تُمِسُّوه حَنوطاً والحَنوط -بفتح الحاء- ويقال له: الحِناط -بكسر الحاء- وهو أخلاط من طيب تجمع للميت خاصة، لا تستعمل في غيره. "النووي". (¬3) أي: تغطّوا. (¬4) أخرجه البخاري: 1265، ومسلم: 1206، وانظر لأجل الزيادات "أحكام الجنائز" (ص 22). (¬5) أخرجه البخاري: 1315، ومسلم: 944. (¬6) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1401)، وأبو داود "صحيح سنن =

ولذلك قالت عائشة -لما مات أخٌ لها بوادي الحبشة فحُمِل من مكانه-: "ما أجدُ في نفسي -أو يُحْزنني في نفسي- إِلا أنّي وَدِدْتُ أنه كان دُفن في مكانه" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- (ص 25): "قال النووي في "الأذكار": "وإذا أوصى بأن يُنقل إِلى بلدٍ آخر؛ لا تُنَفَّذ وصيّته؛ فإِنّ النقل حرام على المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون، وصرّح به المحقّقون" ... " انتهى. قال ابن المنذر -رحمه الله- في "الأوسط" (5/ 464): "يستحب أن يدفن الميت في البلد الذي توفي فيه، على هذا كان الأمر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعليه عوامُّ أهل العلم، وكذلك تفعل العامّة في عامة البلدان، ويكره حمل الميت من بلد إِلى بلد يخاف عليه التغيّر فيما بينهما". 5 - أن يبادر بعضهم لقضاء دينه من ماله، ولو أتى عليه كُلِّه، فإِن لم يكُن له مال؛ فعلى الدولة أن تؤدي عنه إِن كان جَهِدَ في قضائه، فإِن لم تفعل، وتطوّع بذلك بعضهم؛ جاز، وفي ذلك أحاديث: الأوّل: عن سعد بن الأطول؛ "أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالاً، فأردت أن أنفقها على عياله. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِن أخاك مُحْتَبِس بدينه، فاقْضِ عنه، فقال: يا رسول الله! قد أديت عنه إِلا دينارين، ادَّعَتْهُما امرأة وليس لها ¬

_ = أبي داود" (2710)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1230)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1893). (¬1) أخرجه البيهقي بسند صحيح.

بيّنَة! قال: فأعْطِها فإِنها مُحِقّة" (¬1). الثاني: عن سَمُرَة بن جُنْدُبٍ: أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى على جنازة (وفي رواية: صلّى الصُّبح) فلمّا انصرف قال: أهاهنا من آل فلان أحدٌ؟ [فسكت القوم، وكان إِذا ابتدأهم بشيء سكتوا]، فقال ذلك مراراً [ثلاثاً؛ لا يجيبه أحد]، [فقال رجل: هُو ذا]، قال: فقام رجل يجرُّ إِزاره من مُؤَخَّر الناس، [فقال له النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما منعك في المرّتين الأولين أن تكون أجبتني؟] أما إِنّي لم أُنوّه باسمك إِلا لخير، إِنّ فلاناً -لرجل منهم- مأسور بدينه [عن الجنة، فإِنْ شئتم فافْدوه، وإن شئتم فأسلموه إِلى عذاب الله]! فلو رأيت أهله ومن يتحرّون أمره! قاموا فقضوا عنه، [حتى ما أحدٌ يطلبه بشيء] " (¬2). الثالث: عن جابر بن عبد الله قال: "مات رجل، فغسّلناه وكفّناه وحنَّطناه، ووضعناه لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيثُ توضع الجنائز، عند مقام جبريل، ثمّ آذنّا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصلاة عليه، فجاء معنا [فتخطى] خُطىً، ثمّ قال: لعل على صاحبكم ديناً؟ قالوا: نعم، ديناران، فتخلف، [قال: صلّوا على صاحبكم]، فقال له رجل منا -يُقال له: أبو قتادة-: يا رسول الله! هما علّي. فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: هما عليك وفي مالك، والميّت منهما بريء؟ فقال: نعم، فصلّى عليه فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا لقي أبا قتادة يقول (وفي ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1973) وغيرهما. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2858)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4368)، وغيرهما؛ وانظر "أحكام الجنائز" (ص 26).

رواية: ثمّ لقيه من الغد فقال:) ما صنعتِ الديناران؟ [قال: يا رسول الله! إنّما مات أمس] حتى كان آخر ذلك (وفي الرواية الأخرى: ثم لقيه من الغد فقال: ما فعل الديناران؟) قال: قد قضيتهما يا رسول الله! قال: الآن حين بردت عليه جلده (¬1) " (¬2). فائدة: قال شيخنا -رحمه الله-: أفادت هذه الأحاديث أنّ الميت ينتفع بقضاء الدّين عنه، ولو كان من غير ولده، وأنّ القضاء يرفع العذاب عنه، فهي من جملة المُخصِّصات لعموم قوله تبارك وتعالى: {وأنْ ليس للإِنسان إِلا ما سعى} (¬3)، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا مات الإِنسان انقطع عمله إلاَّ من ثلاث" (¬4). الرابع: عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خطب؛ احمرَّت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه؛ حتى كأنّه منذر جيش، يقول: صبّحكم ومسّاكم ويقول: "بُعثتُ أنا والساعةُ وكهاتين" ويقرن بين إِصبعيه السبابة (¬5) والوسطى، ويقول: أمّا بعد: فإِنّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة، ثمّ يقول أنا أولى بكلِّ ¬

_ (¬1) قال شيخنا -رحمه الله-: "أي: بسبب رفع العذاب عنه بعد وفاء دينه". (¬2) أخرجه الحاكم -والسياق له- والبيهقي، والطيالسي، وأحمد بإِسناد حسن؛ كما قال الهيثمي. (¬3) النجم: 39. (¬4) أخرجه مسلم: 1631. (¬5) قال النووي: "سمّيت بذلك؛ لأنهم كانوا يشيرون بها عند السبّ".

ما يجوز للحاضرين وغيرهم

مؤمن من نفسه؛ من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك دَيْناً أو ضَياعاً (¬1)؛ فإِليَّ وعليَّ" (¬2). ما يجوز للحاضرين وغيرهم ويجوز لهم كشف وجه الميّت، وتقبيله، والبكاء عليه ثلاثة أيام؛ وفي ذلك أحاديث: الأوّل: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "لما قُتل أبي؛ جعلت أكشف الثوب عن وجهه أبكي، وينهونني، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا ينهاني، فجعَلت عمّتي فاطمة تبكي، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تبكين أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتى رفعتموه" (¬3). الثاني: عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: "أقبل أبو بكر -رضي الله عنه- على فرسه من مسكنه بالسُّنُح؛ حتى نزل فدخل المسجد فلم يُكلّم الناس حتى دخل على عائشة -رضي الله عنها-، فتيممّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو مُسجًّى ببرد حِبَرة- فكشف عن وجهه، ثمّ أكبّ عليه فقبّله [بين عينيه]، ثمّ بكى فقال: بأبي أنت وأمّي يا نبي الله! لا يجمع الله عليك موتتين: أمّا الموتة التي كُتبت عليك فقد مُتَّها. ¬

_ (¬1) قال النووي: قال أهل اللغة: الضَّياع -بفتح الضاد-: العيال، قال ابن قتيبة: أصْله مصدر ضاع يضيع ضَياعاً المراد: من ترك أطفالاً وعيالاً ذوي ضَياع". (¬2) أخرجه مسلم: 867. (¬3) أخرجه البخاري: 1244، 1293، ومسلم: 2471.

قال أبو سلمة: فأخبرني ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنّ أبا بكر -رضي الله عنه- خرج؛ وعمر -رضي الله عنه- يكلِّم الناس، فقال: اجلس، فأبى، فقال: اجلس، فأبى، فتشهد أبو بكر -رضي الله عنه-، فمال إِليه الناس وتركوا عمر، فقال: أمّا بعد؛ فمن كان منكم يعبد محمّداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإِنّ محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإِنّ الله حيٌّ لا يموت، قال الله -تعالى-: {وما محمدٌ إِلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإِن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلبْ على عقبيه فلن يضرَّ الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين} [آل عمران: 144]! فوالله لكأنَّ النّاس لم يكونوا يعلمون أنّ الله أنزل الآية حتى تلاها أبو بكر - رضي الله عنه- فتلّقاها منه الناس، فما يُسمَع بشرٌ إِلا يتلوها" (¬1). الثالث: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قبّل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عثمان بن مظعون وهو ميّت، فكأني أنظر إِلى دموعه تسيل على خديه" (¬2). الرابع: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "دخلنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أبي سيف -القَين (¬3) - وكان ظِئراً (¬4) لإِبراهيم -عليه السلام- فأخذ رسول ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1241، 1242، والزيادة للنسائي، كما في "أحكام الجنائز" (ص 31). (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1456)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (788)، وانظر "المشكاة" (1623) و"الإِرواء" (693). (¬3) القين: هو الحدّاد، ويُطلق على كلّ صانع، يُقال: قان الشيء: إِذا أصلحه. "الفتح". (¬4) ظئراً -بكسر المعجمة وسكون التحتانية المهموزة بعدها راء-؛ أي: موضعاً =

وإن أحب أهله أن يروه لم يمنعوا:

الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِبراهيم، فقبّله وشمّه، ثمّ دخلنا عليه بعد ذلك؛ وإيراهيم يجود بنفسه (¬1)، فجعلت عينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- وأنت يا رسول الله؟! فقال: يا ابن عوف! إنها رحمةٌ، ثمّ أتبعها بأخرى فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إِلا ما يُرْضِي ربّنا، وإِنّا بفِرَاقك يا إِبراهيم! لمحزونون" (¬2). الخامس: عن عبد الله بن جعفر قال: "أمهل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آل جعفر ثلاثة أن يأتيهم، ثمّ أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم" (¬3). وإِن أحبّ أهله أن يَروه لم يُمنعوا (¬4): فقد تقدّم أن جابراً كشف الثوب عن وجه أبيه -رضي الله عنهما- وتقدّم، أيضاً حديث عائشة: "قبّل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عثمان بن مظعون وهو ميّت ... ". ما يجب على أقارب الميت ويجب على أقارب الميت حين يبلغهم خبر وفاته أمران: ¬

_ = وأطلق عليه ذلك لأنه كان زوج المرضعة، وأصل الظئر مِن: ظأرت الناقة: إِذا عطفت على غير ولدها، فقيل ذلك للتي ترضع غير ولدها، وأطلق ذلك على زوجها؛ لأنّه يشاركها في تربيته غالباً. "الفتح". (¬1) أي: وهو في النَّزْع. (¬2) أخرجه البخاري: 1303، ومسلم: 2315. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3532)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4823). (¬4) هذا العنوان من "المغني" (2/ 338).

الأول: الصبر والرّضا بالقدر. قال -تعالى-: {ولنبْلُوَنَّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثَّمرات وبشِّر الصَّابرين * الذين إِذا أصابتهم مُصيبةٌ قالوا إنّا لله وإِنّا إِليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربِّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} (¬1). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "مرّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، قالت: إِليك عنّي؛ فإِنّك لم تُصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إِنه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم تجد عنده بَوَّابينَ، فقالت: لم أعرفك، فقال: إِنما الصبر عند الصدمة الأولى" (¬2). والصبر على وفاة الأولاد له أجر عظيم، وقد جاء في ذلك أحاديثُ كثيرة؛ منها: 1 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد؛ فيلجُ النار؛ إِلا تحِلَّةَ القسم (¬3) " (¬4). 2 - وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من مُسلِمَين يموتُ ¬

_ (¬1) البقرة: 155 - 157. (¬2) أخرجه البخاري: 1283، ومسلم: 626. (¬3) قال الإِمام البغوي في "شرح السّنة" (5/ 451): "يريد: إِلا قدْر ما يَبَرُّ الله قسمه فيه، وهو قوله -عزّ وجلّ-: {وإِنْ منكم إِلا واردها} فإِذا مرّ بها وجاوزها؛ فقد أبرّ قسمه". (¬4) أخرجه البخاري: 1251، ومسلم: 2632.

لهما ثلاثة من الولد -لم يبلغوا الحِنْث (¬1) - إلاَّ أدخلهم الله وأبويهم الجنة بفضل رحمته. قال: ويكونون على بابٍ من أبواب الجنة، فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: حتى يجيء أبوانا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم بفضل رحمة الله" (¬2). 3 - عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "أن النساء قلن للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اجعل لنا يوماً، فوعظهن وقال: أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد؛ كانوا لها حجاباً من النار، قالت امرأة: واثنان؟ قال: واثنان" (¬3). الأمر الثاني -ممّا يجب على الأقارب-: الاسترجاع، وهو أن يقول: (إِنّا لله وإِنّا إِليه راجعون)؛ كما جاء في الآية المتقدّمة، ويزيدُ عليه قوله: "اللهم أْجُرْني في مُصيبتي، وأخلف لي خيراً منها"؛ لحديث أمّ سلمة -رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما من مسلم تُصيبه مُصيبة فيقول ما أمره الله: إِنّا لله وإنّا إِليه راجعون، اللهم أْجُرْني في مصيبتي، وأخلِف لي خيراً منها؛ إلاَّ أخلَف الله له خيراً منها. قالت: فلمّا مات أبو سلمة قلت: أيُّ المسلمين خيرٌ من أبي سلمة؟! أوّل ¬

_ (¬1) الحِنْث؛ أي: مبْلغ الرّجال، ويجري عليهم القلم، فيُكتب عليهم الحِنْث، وهو الإِثم، وقال الجوهري: بلغ الغُلام الحِنث؛ أي: المعصية والطاعة. "النهاية". (¬2) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1770)، والبيهقي وغيرهما عنه، وسنده صحيح على شرط الشيخين، كما في "أحكام الجنائز" (34). (¬3) أخرجه البخاري: 1249، ومسلم: 2633.

بيتٍ هاجر إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! ثمّ إِنّي قُلتها، فأخلف الله لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالت: أرسل إِليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاطب بن أبي بَلْتَعَةَ يخطُبني له، فقلت: إِنّ لي بنتاً وأنا غيور! فقال: "أمّا ابنتها؛ فندعو الله أنْ يُغْنيَها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة" (¬1). ولا ينافي الصبرَ أن تمتنع المرأة من الزينة كُلِّها؛ حِداداً على وفاة ولدها أو غيره؛ إِذا لم تزد على ثلاثة أيام؛ إِلا على زوجها، فتُحِدُّ أربعة أشهر وعشراً؛ لحديث زينب بنت أبي سلمة قالت: "دخلتُ على أمَّ حبيبة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين توفي أبوها أبو سُفيان بن حرب، فدَعت أمُّ حبيبة بطيبٍ فيه صُفرة - خلوق (¬2) أو غيره-، فدهنت منه جارية، ثمّ مسّت بعارضيها (¬3)، ثمّ قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة؛ غير أنّي سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لا يحلّ لامرأة تُؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميّتٍ فوق ثلاث ليالٍ؛ إِلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا. قالت زينب: فدخلت على زينب ابنة جحش حين توفي أخوها، فدعت بطيب فمست منه، ثمّ قالت: أما والله ما لي بالطيب من حاجة؛ غير أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر: لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدّ على ميت فوق ثلاث ليال؛ إِلا على زوج؛ أربعة أشهر وعشراً" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 918. (¬2) خَلوق: طِيب مخلوط. (¬3) العارِضان: جانبا الوجه فوق الذّقن ... "شرح الكرماني". (¬4) أخرجه البخاري: 5334، 5335.

ما يحرم على أقارب الميت

ولكنّها إِذا لم تحدّ على غير زوجها -إِرضاءً للزوج وقضاءً لوَطَرِهِ منها- فهو أفضل لها، ويرجى لهما من وراء ذلك خيرٌ كثير؛ كما وقع لأم سُليم وزوجها أبي طلحة الأنصاري -رضي الله عنهما-. فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "مات ابن لأبي طلحة من أم سُليم، فقالت لأهلها: لا تُحدِّثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أُحدّثه، قال: فجاء فقرَّبت إِليه عشاءً، فأكل وشرب، فقال: ثمّ تصنّعت له أحسن ما كان تصنَّع قبل ذلك، فوقع بها، فلمّا رأت أنّه قد شبع وأصاب منها؛ قالت: يا أبا طلحة! أرأيت لو أنّ قوماً أعاروا عاريَتهم أهل بيت، فطلبوا عاريَتَهُم؛ أَلَهُمْ أنْ يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، قال: فغضب وقال: تركتِني حتّى تلطّخت ثمّ أخبرتني بابني! فانطلق حتّى أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بما كان، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بارك الله لكما في غابر ليلتكما (¬1) " (¬2). ما يحرُم على أقارب الميت 1 - النياحة؛ وهي رفْع الصوت بالبكاء، وفيه أحاديثُ كثيرة: عن أبي مالك الأشعري أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أربعٌ في أُمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهنَّ: الفخر في الأحساب (¬3)، والطعن في الأنساب، والاستسقاء ¬

_ (¬1) أي: ماضيها. (¬2) أخرجه البخاري: 5470، ومسلم: 2144. (¬3) الحسب في الأصل: الشرف بالآباء وما يعدُّه الناس من مفاخرهم. وتأتي بمعنى =

بالنّجوم، والنياحة، وقال: النائحة -إذا لم تتب قبل موتها- تقام يوم القيامة وعليها سربال (¬1) من قطران، ودِرْع مِن جرَب (¬2) " (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اثنتان في النّاس هما بهم كُفر: الطعْن في النّسب، والنّياحة على الميت" (¬4). وعنه -رضي الله عنه- قال: "لما مات إِبراهيم ابن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ صاحَ أسامة ابن زيد، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ليس هذا منّي، وليس لصائحٍ حقّ، القلب يحزن والعين تدمع، ولا يُغضَب الربّ" (¬5). وعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ الميت ليُعذَّب ببكاء أهله عليه" (¬6). ¬

_ = الفَعال الحسن. وقيل: الحسب مأخوذ من الحساب، وذلك أنّهم إِذا تفاخروا؛ عدّ كلّ واحد منهم مناقبه ومآثر آبائه وحسبهم؛ فالحسب العدّ والمعدود. "النهاية" ملتقطاً. (¬1) سربال: هو القميص. (¬2) ودرع من جرب؛ أي: يصير جلدها أجرب؛ حتى يكون جلدها كقميص على أعضائها، والدرع قميص النساء. والقطران: دهن يُدْهَن به الجمل الأجرب؛ فيحترق لحدّته وحرارته، فيشتمل على لذع القطران وحرقته وإسراع النار في الجلد". "فيض". (¬3) أخرجه مسلم: 934. (¬4) أخرجه مسلم: 67. (¬5) أخرجه ابن حبان، والحاكم بسند حسن؛ كما في "أحكام الجنائز" (ص 40). (¬6) أخرجه البخاري: 1286، ومسلم: 927.

2، 3 - ضرب الخدود وشق الجيوب.

وفي لفظ: "الميّت يعذب في قبره بما نِيح عليه" (¬1). فهذا ينفي مطلق البكاء، وأنّ المراد هو النُّوَاحُ، كما بيّن ذلك شيخنا -رحمه الله-. وعن المغيرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من نِيحَ عليه؛ فإِنّه يُعذّب بما نيحَ عليه يوم القيامة" (¬2). وهذا لا يعارض مثل قوله -تعالى-: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (¬3). إِذ الحديث محمول -كما ذهب إِلى ذلك الجمهور- على من أوصى بالنّوح عليه، أو لم يوصِ بتركه مع علِمه بأنّ النّاس يفعلونه عادة. ولهذا قال عبد الله بن المبارك: -رحمه الله تعالى-: "إِذا كان ينهاهم في حياته، ففعلوا شيئاً من ذلك بعد وفاته؛ لم يكن عليه شيء" (¬4). 2، 3 - ضرب الخدود وشق الجيوب. عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس منّا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1292، ومسلم: 927. (¬2) أخرجه مسلم: 933. (¬3) الأنعام: 164. (¬4) "عمدة القاري" (4/ 79)، وذكره شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 41).

4 - حلق الشعر.

من لطم الخدود وشق الجيوب (¬1)، ودعا بدعوى الجاهلية (¬2) " (¬3). 4 - حلق الشعر. عن أبي بُردة بن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "وَجِع أبو موسى وَجَعاً؛ فَغُشِيَ عليه، ورأسه في حَجْرِ امرأة من أهله فصاحت امرأة من أهله، فلم يستطع أن يَرُدّ عليها شيئاً، فلمّا أفاق قال: أنا بريء ممن بريء منه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بريء من الصالقة (¬4) والحالقة (¬5) والشاقّة (¬6) " (¬7). 5 - نَشْر الشّعر. عن امرأة من المبايعات قالت: "كان فيما أخذ علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المعروف -الذي أخذ علينا أن لا نعصيَه فيه-: أن لا نخمش (¬8) وجهاً، ولا ندعو ¬

_ (¬1) الجيوب: جمع جيب، وهو ما يُفتح من الثوب، ليدخل فيه الرأس، والمراد بشقّه إِكمال فتْحه إِلى آخره، وهو من علامات التسخّط. "فتح". (¬2) دعوى الجاهلية: هو قولهم: يا لفلان! يا للأنصار! يا للمهاجرين! كانوا يدْعو بعضهم بعضاً عند الأمر الحادث الشديد. "النهاية" ملتقطاً. (¬3) أخرجه البخاري: 1294، 1297، 1298، ومسلم: 103. (¬4) التي ترفع صوتها بالبكاء. "فتح". وفي "النهاية": الصّلْق: الصوت الشديد .. (¬5) التي تحلق رأسها عند المصيبة. (¬6) التي تشقّ ثوبها. (¬7) أخرجه البخاري: 1296، ومسلم: 104. (¬8) أي: لا نخدش.

النعي الجائز

ويلاً (¬1)، ولا نشق جيباً، ولا ننشر شعراً (¬2) " (¬3). 6 - الإِعلان عن موته على رؤوس المنائر ونحوها، لأنّه من النعي (¬4)، وقد ثبت عن حذيفة بن اليمان أنّه قال: "إِذا متُّ فلا تُؤْذِنوا (¬5) بي أحداً؛ فإِنّي أخاف أن يكون نعياً، وإِنّي سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن النعي" (¬6). النعي الجائز النعي -لغةً-: هو الإِخبار بموت الميت؛ وقد دلّ حديث حذيفة -رضي الله عنه- السابق على أنّ النهي يشمل كلّ إِخبار، ولكن قد جاءت أحاديثُ صحيحة تدّل على جواز نوعٍ من الإِخبار. فيجوز إعلان الوفاة إِذا لم يقترن به ما يشبه نعي الجاهلية، وقد يجب ذلك إِذا لم يكُن عنده من يقوم بحقه من الغسل والتكفين والصلاة عليه ونحو ¬

_ (¬1) هو أن يقول عند المصيبة: يا ويلاه. (¬2) أي: ولا نفرّق شعراً، يُقال: نشر الراعي غنمه؛ أي: بثّها بعد أن آواها. "عون" (8/ 281). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2685)، ومن طريقه البيهقي بسند صحيح. (¬4) سيأتي بيانه -إِن شاء الله تعالى-. (¬5) أي: تُعلِموا. (¬6) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (786) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1203).

ذلك، وفيه أحاديث: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج إِلى المصلّى؛ فصفَّ بهم وكبّر أربعاً" (¬1). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أخذ الراية زيد فأصيب، ثمّ أخذها جعفر فأصيب، ثمّ أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب -وإنّ عَيْنَي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَتَذْرِفانِ- ثمّ أخذها خالد بن الوليد من غير إِمرة ففُتح له" (¬2). قال شيخنا -رحمه الله- (ص 45 - 46): "أخرجه البخاري وترجم له والذي قبله بقوله: "باب الرجل ينعى إِلى أهل الميت بنفسه". وقال الحافظ: "وفائدة هذه الترجمة: الإِشارة إِلى أنّ النعي ليس ممنوعاً كلُّه، وإنّما نهى عمّا كان أهل الجاهلية يصنعونه، فكانوا يرسلون مَنْ يُعلن بخبر موت الميت على أبواب الدُّور والأسواق ... " ... " انتهى. جاء في "السيل الجرار" (1/ 338): "وأمّا الإِيذان بموت الميت؛ فقد ثبت في كتب اللغة أن النعي هو الإِخبار بموت الميت وإِذاعته، وقد ثبت عنه -صلى الله عليه وآله وسلّم- في "الصحيحين" وغيرهما: "أنه قال لما رأى قبراً دفن ليلاً فقال: "متى دفن هذا؟ فقالوا: البارحة. قال: أفلا آذنتموني" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1245، ومسلم: 951. (¬2) أخرجه البخاري: 1246. (¬3) سيأتي تخريجه -إِنْ شاء الله تعالى-.

وثبت في "الصحيح" أنه قال ذلك لما أخبروه بموت السوداء -أو الأسود- الذي كان يقُمّ المسجد (¬1). فدل على أن مجرد الإِخبار بموت الميت -من دون إِذاعة ولا تفجُّع- جائز؛ لأنّه قد ورد ما يدلّ على أنّ في كثرة المصلين عليه منفعة له، وأنهم شفعاؤه، وأيضاً لا بد من حضور من يتولى تجهيزه وحمله ودفنه، فإِخبارهم بذلك مما تدعو إِليه الحاجة وتقتضيه الضرورة. وأمّا ما ذكَره من توابع النّعي؛ فهي ما ورد النهي عنه مِن ضرْب الخدود، وشقِّ الجيوب، والدعاء بدعوة الجاهلية؛ كما في "الصحيحين" وغيرهما". ويستحب للمخبر أن يطلب من النّاس أن يستغفروا للميت؛ لحديث أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: "بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيش الأُمراء فقال: عليكم زيد بن حارثة؛ فإِنْ أصيب زيدٌ فجعفر بن أبي طالب؛ فإِن أصيب جعفرٌ فعبد الله بن رواحة الأنصاري. فوثب جعفر فقال: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله! ما كنت أرهب أن تستعمل عليّ زيداً، قال: امضهْ فإِنّك؛ لا تدْري أيُّ ذلك خير. فانطلقوا، فلبثوا ما شاء الله، ثمّ إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صعد المنبر، وأمر أن ينادى (الصلاة جامعة)، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ناب خير، أو بات خير -أو ثاب خير؛ شك عبد الرحمن (يعني: ابن مهدي) -! ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؟ إِنهم انطلقوا فلقوا العدو، فأصيب زيد شهيداً، فاستغفِروا له - فاستغفر له الناس- ثمّ أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب، فشد على القوم حتى ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه -إنْ شاء الله تعالى-.

ما جاء في الإحداد على الميت:

قتل شهيداً، أَشْهَدُ له بالشهادة، فاستغفَروا له، ثمّ أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، فأثبت قدميه حتى قُتل شهيداً، فاستغفروا له، ثمّ أخذ اللواء خالد بن الوليد؛ ولم يكن من الأمراء، هو أمّر نفسه، ثمّ رفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصبعيه فقال: اللهم هو سيف من سيوفك، فانصره؛ فمن يومئذٍ سمّي خالد سيف الله، ثمّ قال: انفروا فأمدُّوا إِخوانكم، ولا يتخلفنّ أحدٌ؛ فنفر الناس في حرّ شديد مُشاة وركباناً" (¬1). ما جاء في الإِحداد (¬2) على الميت: الإِحداد: هو الحُزن على الميت، وترْك الزينة والطيب. يجوز للمرأة أن تحدّ على قريبها ثلاثة أيام، ويحرم عليها الإِحداد فوق ذلك. أمّا الزوج؛ فيحلّ لها أن تحدّ عليه أربعة أشهر وعشراً. فعن أم عطية أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تُحدّ امرأة على ميت فوق ثلاث؛ إِلا على زوج؛ أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً؛ إِلا ثوب عَصْب (¬3)، ولا تكتحل، ولا تمس طيباً؛ إِلا إِذا طهرت نُبذة (¬4) من قُسْط (¬5) أو ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وإسناده حسن. (¬2) قال النووي: "الإِحداد والحداد: مشتق من الحد؛ وهو المنع؛ لأنها تمتنع الزينة والطيب". (¬3) العَصْب -بعين مفتوحة ثمّ صاد ساكنة مهملتين-: هو برود اليمن، يُعْصَبُ غزْلها ثمّ يُصبَغ معصوباً، ثمّ تنسج. ومعنى الحديث: النهي عن جميع الثياب المصبوغة للزينة؛ إِلا ثوب العصب. "شرح النووي". (¬4) النُّبذة: القطعة والشيء اليسير. "شرح النووي" أيضاً. (¬5) القُسط: ضرْبٌ من الطّيب، وقيل هو العود، والقُسط: عقار معروف في =

غسل الميت

أظفار (¬1) " (¬2). وعن زينب ابنة أبي سلمة قالت: "لمّا جاء نعي أبي سفيان من الشام؛ دعت أمّ حبيبة -رضي الله عنها- بصُفرة (¬3) في اليوم الثالث، فمسحت عارضيها (¬4) وذراعيها، وقالت: إِني كنتُ عن هذا لغنية؛ لولا أنّي سمعت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدّ على ميت فوق ثلاث؛ إِلا على زوج؛ فإِنّها تُحدُّ عليه أربعة أشهر وعشراً" (¬5). غَسْلُ المَيِّتِ حكمه: فإِذا مات المسلم؛ وجب على طائفة من الناس أن يبادروا إلى غَسله، وهو ¬

_ = الأدوية طيّب الريح؛ تبخّر به النّفساء والأطفال، وهو أشبه بالحديث؛ لإِضافته إِلى الأظفار. "النهاية". (¬1) الأظفار: جنس من الطيب، والقطعة منه شبيهة بالظُّفر. "النهاية" بحذف. قال النووي -رحمه الله-: "القُسط والأظفار: نوعان معروفان من البخور وليسا من مقصود الطيب، رخّص فيه للمغتسلة من الحيض؛ لإِزالة الرائحة الكريهة، تتبع به أثر الدم لا للتطيُّب والله -تعالى- أعلم. (¬2) أخرجه البخاري: 5342، ومسلم: 938. (¬3) الصُّفرة -في الأصل-: لونٌ أصفر. والمراد هاهنا: نوع من الطّيب فيه صُفرة. قاله العيني في "عمدة القاري". (¬4) العارض: جانب الوجه وصفحة الخدّ. "الوسيط"، وتقدّم. (¬5) أخرجه البخاري: 1280، وتقدّم نحوه.

كيفية غسل الميت:

فرض كفاية؛ إِذا قام به البعض؛ سقط عن جميع المكلَّفين. وأمّا وجوب الغَسْل؛ فلأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به في غير ما حديث: 1 - قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المُحْرِم الذي وقصته ناقته: "اغسلوه بماء وسِدْر ... " (¬1). 2 - قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنته زينب -رضي الله عنها-: "اغْسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك ... " (¬2). كيفية غَسْلِ الميت: ويُراعي في غَسْلِهِ الأمورَ الآتيةَ: أولاً: غسله ثلاثاً فأكثر؛ على ما يرى القائمون على غسله. قال الإِمام مالك -رحمه الله-: "إِنّ الغَسل أوّلاً هو الفرض، فوجَب أن يكون بالماء وحده، وما بعد ذلك؛ فإِنما هو على وجه التنظيف والتطييب؛ فلا يضرّه ما خالطه مما يزيد في تنظيفه" (¬3). ثانياً: أن تكون الغَسَلاتُ وتراً. قال ابن المنذر -رحمه الله- في "الأوسط" (5/ 325): "ذِكْر الخبر الدالِّ على أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنما أمر بعدد غسل الميت على ما يراه غاسله بعد أن يكون عدد غسله وتراً، وعلى أنّ معنى قوله: "إِنْ رأيتن ذلك وتراً لا شفعاً ... ". ثمّ ذكر حديث أمّ عطيّة -رضي الله عنها-. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1265، ومسلم: 1206، وتقدّم. (¬2) سيأتي تخريجه -إِن شاء الله تعالى-. (¬3) "المنتقى شرح موطأ مالك" (2/ 453).

ثالثاً: أن يُقرن مع بعضها سِدْرٌ، أو ما يقوم مقامه في التنظيف، كالصابون ونحوه. رابعاً: أن يخلط مع آخر غَسْلة منها شيء من الطيب، والكافورُ أوْلى. خامساً: نقض الضفائر وغسلها جيداً. سادساً: تسريح شعره. سابعاً: جعله ثلاث ضفائر للمرأة وإلقاؤها خلفها. ثامناً: البدء بميامنه ومواضع الوضوء منه. قال الزين بن المنيِّر: قوله: "ابدأن بميامنها"؛ أي: في الغسلات التي لا وضوء فيها. "ومواضع الوضوء منها"؛ أي: في الغسلة المتصله بالوضوء". "فتح" (3/ 121). تاسعاً: أن يتولى غَسلَ الذّكر الرجالُ، والأنثى النساءُ؛ إلاَّ ما استُثْني؛ كما يأتي بيانه -إِن شاء الله تعالى-. والدليل على هذه الأمور: حديث أم عطية -رضي الله عنها- قالت: "دخل علينا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نُغَسِّلُ ابنته [زينب]، فقال: اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً [أو سبعاً]، أو أكثر من ذلك -إِن رأيتنّ ذلك- بماء وسدْرٍ [قالت: قلت: وتراً؟ قال: نعم]، واجعلن في الآخرة كافوراً (¬1)، أو شيئاً من كافور، فإِذا فرغتن فآذِنَّنِي، فلمّا فرغنا آذنّاه، فألقى إِلينا حِقْوه (¬2)؛ فقال: أشعرنها إِياه (¬3)؛ [تعني: ¬

_ (¬1) الكافور: من أخلاط الطيب. وفي "الصحاح": من الطيب. (¬2) الحِقو: المراد به هنا الإِزار. "فتح". (¬3) أشِعْرنها إِياه؛ أي: اجعلنه شعارها. والشعار: الثوب الذي يلي الجسد؛ لأنّه يلي شعره. "النهاية".

ذكر مضمضة الميت واستنشاقه:

إِزاره]، [قالت: ومشطناها ثلاثة قُرون]، (وفي رواية: نقضنه ثمّ غسلنه) [فضفّرنا شعرها ثلاثة أثلاثٍ: قرنيها وناصيتها] وألقيناها خلفها]، [قالت: وقال لنا: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها] (¬1). قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 180 - مسألة: 568): "وصفة الغَسْل: أن يُغسَّل جميع جسد الميت ورأسه بماء قد رُمي فيه شيء من سدر ولا بدّ، إِن وجد، فإِن لم يوجد؛ فبالماء وحده ثلاث مرات ولا بد، يُبتدأ بالميامن، ويُوضّأ، فإِنْ أحبُّوا الزيادة فعلى الوتر أبداً: إِما ثلاث مرات، وإِما خمس مرات، وإمّا سبع مرات، ويجعل في آخر غسلاته -إِن غسل أكثر من مرة- شيئاً من كافور ولا بدّ فرضًا؛ فإِنْ لم يوجد فلا حرج؛ لأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك كلّه". ثمّ ذكر -رحمه الله- حديث أم عطية -رضي الله عنها- السابق. ذِكْر مضمضة الميت واستنشاقه (¬2): واختلفوا في مضمضة الميت واستنشاقه: فكان سعيد بن جبير والنَّخَعِيُّ، والثوري لا يرون ذلك. وكان الشافعي وإِسحاق يأمران به. قال ابن النذر -رحمه الله-: "هذا أحبُّ إِلي؛ لأنّ في جملة ما وصَفه عامة أهل العلم أن يوضأ الميت، ومن سنة الحيِّ إِذا توضأ أن يتمضمض ويستنشق؛ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1254، ومسلم: 939 وغيرهما، وانظر تخريج الزيادات في "أحكام الجنائز" (ص 65 - 66). (¬2) "الأوسط" (5/ 330).

ماذا إذا مات رجل بين نساء، أو ماتت امرأة بين رجال؟

فسبيل ما يُفعَل بالميت كسبيل ما يفعله الحي؛ إِلا أن تمنع منه سُنّة". ماذا إِذا مات رجل بين نساء، أو ماتت امرأة بين رجال؟ قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 259 - مسألة: 618): "فلو مات رجل بين نساء لا رجل معهن، أو ماتت امرأة بين رجال لا نساء معهم؛ غسَل النساءُ الرجلَ وغسل الرجالُ المرأةَ على ثوب كثيف، يُصبّ الماء على جميع الجسد دون مباشرة اليد؛ لأن الغسل فرض كما قدَّمنا؛ وهو ممكن كما ذكَرنا بلا مباشرة؛ فلا يحل تركه، ولا كراهة في صبّ الماء أصلاً. وبالله -تعالى- التوفيق. ولا يجوز أن يُعوّض التيمم من الغسل؛ إِلا عند عدم الماء فقط. وبالله -تعالى- التوفيق. وممن قال بقولنا هذا: طائفة من العلماء: رُوِّينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري وقتادة قالا جميعاً: تُغسل وعليها الثياب، يعنيان: في المرأة تموت بين رجال لا امرأة معهم ... وقال الحجاج عن الحكم بن عُتَيْبَة قالا جميعاً -في المرأة تموت مع رجال ليس معهم امرأة-: إِنها يصب عليها الماء من وراء الثياب". غسل الميت بخرقة: عاشراً: ويراعى أن يُغسَل الميت بخرقة أو نحوها تحت ساتر لجسمه بعد تجريده من ثيابه كُلّها؛ فإِنّه كذلك كان العمل على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ كما يُفيدُه حديث عائشة -رضي الله عنها-: "لما أرادوا غسل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: والله ما ندري؛ أنجرِّد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ثيابه كما نُجرّد موتانا، أم نغسله وعليه

ذكر عصر بطن الميت:

ثيابه؟ فلمّا اختلفوا؛ ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلاَّ وذقنَه في صدره، ثمّ كلّمهم مُكلِّم من ناحية البيت -لا يدرون من هو-: أن اغسلوا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه ثيابه. فقاموا إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فغسلوه وعليه قميصه؛ يصُبُّون الماء فوق القميص، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم، وكانت عائشة تقول: لو استقْبَلْتُ من أمري ما استدبرت؛ ما غسله إلاَّ نساؤه" (¬1). ذِكْر عصْر بطن الميت (¬2): قال ابن المنذر -رحمه الله-: "واختلفوا في عصر بطن الميت: فكان ابن سيرين والنخعي والحسن البصري ومالك يقولون: يُعصَر بطن الميت. قال بعضهم: عصراً خفيفاً. وكان سفيان الثوري يقول: يُمسح مسحاً رقيقاً بعد الغسلة الأولى. قال الشافعي: "يُمِرُّ يده على بطنه إِمراراً بليغاً؛ ليُخْرِجَ شيئاً إِنْ كان فيه". وقال أحمد وإِسحاق: يمسح بطنه مسحاً رقيقاً؛ خرج منه شيئاً أو لم يخرج. وقد رُوِّينا عن الضحاك بن مزاحم: أنه أوصى أنه لا يعصر بطنه. وكان أحمد بن حنبل يستحب أن يعصر بطنه في الثانية قال: فإِنّه تلين ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2693)، وابن الجارود في "المنتقى"، والحاكم وغيرهم. (¬2) "الأوسط" (5/ 329).

هل يغطى وجه الميت؟

في الغسلة الأولى. قال ابن المنذر: ليس في عصر البطن سُنّة تتبع، وقد رواه من ذكَرنا ذلك عنهم من أهل العلم؛ فإِنْ أمرَّ الغاسل يديه إِمراراً خفيفاً على بطنه ليخرج شيئاً إِن كان هناك فحَسَن، وإن تَرك فلم يفعل ذلك، فلا بأس" انتهى. قلت: وهذا راجع للمغسِّل، فيفعل ما تقتضيه الحاجة. والله -تعالى- أعلم. هل يغطّى وجه الميّت؟ جاء في "الأوسط" (5/ 327): "واختلفوا في تغطية وجه الميت عند غسله: فكان محمد بن سليمان وسليمان بن يسار وأيوب السَّخْتِيَاني يرون أن يلقى على وجه الميت خرقة. وكان مالك والثوري والشافعي وجماعة يرَون أن يُطرح على فرج الميت خرقة، ولم يذكروا الوجه. وقال أحمد بن حنبل: إِنما يغطى منه ما كان يغطى في حياته، قال أحمد: يغطى ما بين سُرّته وركبتيه". قلت: وقول الإِمام أحمد -رحمه الله- هو الراجح؛ لأن عورة الحيّ والميت سواءٌ، ولا دليل على التخصيص. وجاء في "السيل الجرار" (1/ 345): "الأدلة الواردة في منع نظر العورة ولمسها شاملة لعورة الحي والميت، فغَسْلُها يكون بالدلك مع حائل بين اليد وبينها".

حادي عشر: ويستثنى -مما ذكر في (رابعاً) -: المُحْرِم؛ فإِنّه لا يجوزُ تطييبه؛ لقوله في الحديث الذي سبقت الإِشارة إِليه قريباً: "لا تُحنِّطوه (وفي رواية: ولا تُطيّبوه). فإِنّه يُبعث يوم القيامة مُلبياً" (¬1). ثاني عشر: ويستثنى -أيضاً ممّا ورد في (تاسعاً) - الزوجان؛ فإِنّه يجوز لكلٍّ منهما أنْ يتولّى غَسْل الآخر؛ إِذ لا دليل يمنعُ منه، والأصل الجواز، ولا سيما وهو مؤيَّد بحديثين: 1 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لو كنت استقبلتُ من أمري ما استدبرت؛ ما غسل النّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيرُ نسائه" (¬2). قال البيهقي: "فتلهّفَت على ذلك، ولا يُتَلَهَّفُ إِلا على ما يجوز". قال شيخنا -رحمه الله-: "والجواز هو قول الإِمام أحمد، كما رواه أبو داود في "مسائله" (ص 146) ". 2 - وعنها -رضي الله عنها- قالت: "رجع إِليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صُداعاً في رأسي، وأقول: وارأساه! فقال: بل أنا وارأساه! ما ضرَّك لو متِّ قبلي فغسلتُك وكفَّنتك، ثمّ صليتُ عليك ودفنتك؟! " (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1265، ومسلم: 1206، وتقدّم. (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1196) وغيره، وتقدّم. (¬3) أخرجه أحمد، والدارمي، وابن ماجه صحيح سنن ابن ماجه" (1197)، وغيرهم.

ذكر ترك الأخذ من شعر الميت ومن أظفاره:

وعن أسماء بنت عُمَيْسٍ قالت: "غسلت أنا وعلي فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬1). ذِكر ترْك الأخذ من شعر الميت ومن أظفاره (¬2): قال ابن المنذر -رحمه الله-: "واختلفوا في أخْذ شعر الميت وأظفاره: فقالت طائفة: يؤخذ من شعره وأظفاره؛ كذلك قال الحسن البصري وبكر بن عبد الله المُزَنِيُّ. ورُوِّينا أن سعد بن مالك أخذ عانة ميت، وذكَر آثاراً في ذلك". ثمّ قال -رحمه الله-: "وكرهت طائفة ذلك: كره محمد بن سيرين أخْذ عانة الميت. وسُئل حمّاد بن أبي سليمان عن تقليم أظفار الميت؟ فقال: إِنْ كان أقلف أتختنه؟ وكره مالك تقليم أظافر الميت وحلْق عانته". قال ابن المنذر -رحمه الله-: "الوقوف عن أخذ ذلك أحب إِليّ؛ لأنّ المأمور بأخذ ذلك من نفسه الحي، فإِذا مات انقطع الأمر، ويصير جميع بدنه إِلى البلاء؛ إِلا عَجْبَ (¬3) الذَّنَبِ الذي استثناه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". وبعدم الأخذ يقول شيخنا -رحمه الله- في إِجابةٍ أَجابنيها. التيمُّم للميّت عند فَقْدِ الماء: ويُيَمَّمُ الميت إِذا فُقد الماء؛ لقوله -تعالى-: {فإِنْ لم تجدوا ماءً ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم، وعنه البيهقي، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (701). (¬2) "الأوسط" (5/ 328). (¬3) العَجب: العظم الذي في أسفل الصُّلب عند العَجُز. "النهاية".

يتولى الغسل من كان أعرف بسنة الغسل:

فتيمّموا} (¬1). ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" (¬2). قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 182 - تحت المسألة: 569): فإِن عُدِمَ الماء؛ يُمِّم الميت ولا بُدّ؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "جُعلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً" ... ". يتولّى الغسلَ من كان أعرف بسُنّة الغسل: قال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 68): [ولا بدَّ] أن يتولَّى غَسْلَهُ من كان أعرف بسُنّة الغسل، لا سيّما إِذا كان من أهله وأقاربه؛ لأنّ الذين تولّوا غَسله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا كما ذكرنا، فقد قال عليّ -رضي الله عنه-: "غَسلْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعلتُ أنظرُ ما يكون من الميّت؛ فلم أر شيئاً، وكان طيِّباً حيّاً وميّتاً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). قال ابن المنذر -رحمه الله- في "الأوسط" (5/ 324): "ذِكْر الدليل على أنّ عُصبة الميت وقرابته أحقّ بولايته وغَسْله؛ إِذا كان فيهم من يُحسن الغسل من الأباعد". ثمّ ذكر -رحمه الله- حديث سالم بن عُبَيْدِ في وفاة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وفيه: ¬

_ (¬1) النساء: 43. (¬2) أخرجه البخاري: 438، ومسلم: 523. (¬3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1198)، والحاكم، والبيهقي وغيرهم.

"قالوا: يا صاحب رسول الله (¬1)! أيُدفَن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم، قالوا: أين؟ قال: في المكان الذي قُبِض فيه روحُه، فإِنّ الله لم يقبض روحه إِلا في مكان طيب. فعلموا أن قد صدَق، ثمّ أمَرهم أن يُغسّله بنو أبيه" (¬2). قال شيخنا -رحمه الله-: " [أي: عصبته]، فغسله سيدنا علي -رضي الله عنه-، فكان الفضل بن عباس وأسامة وشقران مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يناولون عليّاً الماء". ولمن تولّى غَسْله أجرٌ عظيم بشرطين اثنين: الأول: أن يستُر عليه، ولا يحدّث بما قد يرى من المكروه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من غَسَّلَ مُسلماً فكتم عليه؛ غفر له الله أربعين مرةً، ومن حفر له فأجنّه؛ أجري عليه كأجر مسكن أسكنه إِياه إلى يوم القيامة، ومن كفّنه؛ كساه الله يوم القيامة من سندسِ وإستبرقِ الجنة" (¬3). الثاني: أن يبتغي بذلك وجه الله، لا يريدُ به جزاءً ولا شُكوراً ولا شيئاً من أمور الدنيا، لما تقرّر قي الشرع أنّ الله -تبارك وتعالى- لا يقْبل من العمل إلاَّ ما كان خالصاً لوجهه الكريم. والأدلّة على ذلك من الكتاب والسُّنة كثيرة جدّاً. ¬

_ (¬1) الخطاب لأبي بكر الصّديق -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه الترمذي في "الشمائل"، وهو حديث صحيح؛ خرّجه شيخنا -رحمه الله- في "مختصر الشمائل" (333). (¬3) أخرجه الحاكم، والبيهقي وغيرهما، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 69).

ويستحبّ لمن غسّله أن يغتسل، فعن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من غسَّل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضَّأ" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله تعالى-: "وظاهر الأمر يفيد الوجوب، وإنّما لم نقُل به لحديثين موقوفيْن -لهما حْكم الرفع-: الأوّل: عن ابن عباس: "ليس عليكم في غَسْلِ ميّتكم غُسْلٌ إِذا غسَّلْتمُوه؛ فإِن ميّتكم ليس بنجسٍ، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم" (¬2). الثاني: قول ابن عمر -رضي الله عنه-: "كنّا نغسل الميت، فمنّا من يغتسل، ومنّا من لا يغتسل" (¬3). ولا يُشْرَعُ غَسل الشهيد قتيل المعركة، ولو اتّفق أنّه كان جُنباً، وفي ذلك أحاديث: عن جابر قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ادْفنوهم في دمائهم؛ يعني: يوم أُحد، ولمْ يُغسِّلْهم" (¬4). وفي لفظ: "لا تغسِلوهم؛ فإِنّ كُلّ جرحٍ -أو كلّ دم- يفوح مِسكاً يوم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2707)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (791)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1195). (¬2) أخرجه الحاكم، والبيهقي، وحسّن شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "أحكام الجنائز" (ص 72). (¬3) أخرجه الدارقطني، والخطيب في "تاريخه" بإِسناد صحيح، كما قال الحافظ. (¬4) أخرجه البخاري: 1346.

الشهداء الذين يغسلون ويصلى عليهم:

القيامة؛ ولم يُصلِّ عليهم" (¬1). الثالث: عن أبي بَرْزَةَ: أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في مغزىً له، فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟، قالوا: نعم، فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثمّ قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم، فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثمّ قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا، قال: لكنّي أفقد جُليبيباً، فاطلبوه. فطُلِبَ في القتلى، فوجدوه إِلى جنب سبعةٍ قد قتلهم ثمّ قتلوه، فأتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوقف عليه، فقال: قتل سبعة، ثمّ قتلوه! هذا منّي وأنا منه، هذا منّي وأنا منه! قال: فوضعه على ساعديه، ليس له إِلا ساعدا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: فحفر له ووضع في قبره، ولم يذكر غَسْلاً" (¬2). عن أنس: "أنّ شهداء أُحد لم يغسّلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يُصَلَّ عليهم؛ غير حمزة" (¬3). الشهداء الذين يغسلون ويصلّى عليهم: أمّا القتلى الذين لم يُقْتَلوا في المعركة بأيدي الكفار؛ فقد أطلق الشارع على بعضهم لفظ الشهداء، وهؤلاء يغسلون، ويصلّى عليهم؛ فقد غسل ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وسنده صحيح على شرط الشيخين، كما في "الإِرواء" (3/ 164). (¬2) أخرجه مسلم: 2472. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2688) وغيره، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 74).

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مات منهم في حياته، وغسل المسلمون بعده عمر وعثمان وعليّاً، وهم جميعاً شهداء، ونحن نذكر هؤلاء الشهداء فيما يلي (¬1): عن جابر بن عَتِيكٍ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الشهداء سبعةٌ -سوى القتل في سبيل الله-: المطعون شهيد، والغَرِقُ شهيد، وصاحب ذات الجَنْبِ شهيد (¬2)، والمبطون شهيد، وصاحب الحَرِيقُ شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجُمع (¬3) شهيدة" (¬4). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما تَعُدُّون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! من قُتل في سبيل الله فهو شهيد. قال: إِنّ شُهداء أمتي إِذاً لقليل، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟! قال: من قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ¬

_ (¬1) انظر "فقه السّنّة" (1/ 513). (¬2) ذات الجنب: هي الدُّمّل الكبيرة التي تظهر في باطن الجَنب وتنفجر إِلى داخل. "النهاية". (¬3) جاء في "النهاية": "أي: تموت وفي بطنها ولد. وقيل: التي تموت بكراً. والجُمع - بالضم- بمعنى المجموع، كذُخْر بمعنى المذخور. وكسر الكسائي الجيم، والمعنى: أنها ماتت مع شيء مجموع فيها غير منفصل عنها من حمل أو بكارة". (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2668) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2261) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1742)، وانظر "أحكام الجنائز" لشيخنا -رحمه الله- (ص 55).

من جرح في المعركة وعاش حياة مستقرة:

ومن مات في الطّاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد" (¬1). وعن سعيد بن زيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد" (¬2). من جُرح في المعركة وعاش حياةً مستقرّة (¬3): إِذا جُرح الرجل في المعركة وعاش حياة مستقرّة، ثمّ مات؛ يُغسل ويُصلّى عليه. فإنْ عاش عيشة غير مستقرّة فتكلّم أو شرب ثمّ مات؛ فإِنّه لا يُغسل ولا يصلّى عليه. والله -تعالى- أعلم. هل يُغسل الكافر؟ جاء في كتاب "الأوسط" (5/ 341): "واختلفوا في غَسْل الكافر ودَفْنه: فكان مالك يقول: "لا يغسِّلُ المسلمُ والدَه إِذا مات كافراً، ولا يتبعه، ولا يدخل في قبره؛ إِلا أن يخشى أن يضيع، فيواريه". وكان الشافعي يقول: "لا بأس أن يغسل المسلم ذا قرابته من المشركين، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1915. (¬2) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3993)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1148)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3817). (¬3) عن "فقه السنة" (1/ 531).

الصبي الصغير تغسله المرأة:

ويتبعه ويدفنه"، وبه قال أبو ثور، وأصحاب الرأي. قال أبو بكر [هو ابن المنذر]: ليس في غَسْلِ من خالف الإِسلام سنة يجب اتباعها ... " انتهى. قلت: لا دليل على مشروعية غَسْلِ الكافر؛ لأن الغَسْلَ عبادة لا تثبت إِلا بدليل، وقد ورد الدليل على مواراته ودفنه؛ كما في حديث علي -رضي الله عنه- قال: "لما توفّي أبو طالب؛ أتيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: إِنّ عمّك الشيخ الضالّ قد مات، فمن يواريه؟ قال: اذهب فواره ... " (¬1). الصبي الصغير تغسله المرأة: قال ابن المنذر في "الأوسط" (5/ 338): "أجمع كل من نحفظ -من أهل العلم- على أن المرأة تغسل الصبي الصغير، وممن حفظنا ذلك عنه: الحسن البصري ومحمد بن سيرين وحفصة بنت سيرين ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي". ما عدد ما يُغسَل الجنب والحائض إِذا ماتا؟ جاء في "الأوسط" (5/ 340): "واختلفوا في الجنب والحائض يموتان؛ كم يغسلان؟ فكان الحسن يقول: يغسل الجنب غسل الجنابة، والحائض غسل الحيض؛ ¬

_ (¬1) بعض من حديث أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2753)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1895) وغيرهم، وسيأتي بتمامه -إِن شاء الله- في (باب الدفن).

إذا خرج شيء من الميت بعد الغسل؛ فهل يعاد الغسل؟

ثمّ يغسلان غَسْلَ الميت. وقال سعيد بن المسيِّب والحسن: ما مات ميت إِلا أجنب. ورُوِّينا عن عطاء أنه قال: "يُصْنَعُ بهما ما يُصْنَعُ بغيرهما". قال أبو بكر [هو ابن المنذر]: وهذا قول عوام أهل العلم، وبه نقول، وذلك أنا لا نعلم -فيما سَنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِن غسل الموتى- تفريقاً بين من مات منهم جُنباً، أو غير جنب، أو حائضاً [وهذه حُجّة قوية]، وقد يجنب الرجل في غير وقت الصلاة، وإِنما يجب عليه الاغتسال إِذا دخل وقت الصلاة، فيؤدي فرض الصلاة، وإذا سقط بوفاته عنه فرض الصلاة؛ أشبه أن يسقط عنه فرض الطهارة، التي تؤدى بها الصلاة. والله أعلم" انتهى. إِذا خرج شيء من الميت بعد الغَسْلِ؛ فهل يعاد الغَسل؟ اختلف العلماء في الميت يخرج منه الشيء بعد الغسل: فقال بعضهم: يعاد عليه الغَسْل، واختلفوا في عدد المرات. *وقالت طائفة: لا يعاد الغسل؛ كذلك قال مالك والثوري والنعمان. وقال الثوري والنعمان: يغسل ما خرج منه. قال ابن المنذر: وكذلك نقول، ولا يكون حكم الميت أكثر من حكم الحي، فلو خرج من حي شيء بعد ما اغتسل؛ لم ينقض ذلك غسله، وإيجاب الغسل في هذه الحالة إِيجاب فرض، والفرض لا يجب بغير حجة* (¬1). قلت: كلام ابن المنذر في غاية القوّة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من كتاب "الأوسط" (5/ 334).

فوائد في غسل الميت:

فوائد في غسل الميت: 1 - ينبغي ألاَّ يحضُرَ الغُسل إِلا من لا بدّ من حضوره. جاء في "المغني" (2/ 317): "ولا يحضرهُ إلاَّ من يُعين في أمره ما دام يُغسَل". 2 - وأن يَحْرِص القائم على تغسيله على عدم إِظهار العورة ما استطاع إِلى ذلك سبيلاً. 3 - أن يتضمّن الغَسل تعميم الماء على بدن الميت كلّه. تكفين الميت حُكمه: تكفين الميت -ولو بثوب واحدٍ- واجب؛ لحديث خبّاب -رضي الله عنه- الآتي إِن شاء الله -سبحانه- بعد سطور. قال شيخنا -رحمه الله- (ص 76): "وبعد الفراغ من غَسْلِ الميت؛ يجب تكفينه؛ لأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك في حديث المُحْرِم الذي وقصته الناقة". قلت: وهو حديث: "اغسلوه بماءٍ وسدرٍ، وكفّنوه في ثوبين ... " (¬1). الكفن أو ثمنه مِن مال الميّت: والكَفَن أو ثمنه من مال الميت، ولو لم يُخلِّف غيره؛ لحديث خبّاب بن الأَرتِّ -رضي الله عنه- قال: "هاجرنا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1265، ومسلم: 1206، وتقدّم.

والحنوط وأجرة القبر والغسل كذلك من مال الميت.

على الله: فمنّا من مات لم يأكل من أجره شيئاً (¬1)؛ منهم مُصعب بن عمير، ومنّا من أينعت (¬2) له ثمرته؛ فهو يَهْدِبُها (¬3)؟ قُتل يوم أُحد، فلم نجد ما نكفّنه إِلا بُردةً إِذا غطّينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطّينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نُغطّي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإِذخر (¬4) " (¬5). وقال ابن المنذر -رحمه الله- في "الأوسط" (5/ 354) -بعد هذا الحديث-: "يدل هذا الحديث على معاني: أحدها: التكفين في ثوب واحد عند عدم غيره. ويدل على أن الكفن من رأس المال، قال في الحديث: لم يترك إِلا نمرةً. ويدل على أن الكفن يُبْدَأُ به على الدَّين، والميراث. ويدل على أن الثوب الذي يكفن فيه لو أضاق؛ فتغطية رأسه أولى أن يبدأ به من غيره". والحَنُوط وأُجرة القبر والغسل كذلك من مال الميت. وقال عمرو بن دينار: الحنوط من جميع المال (¬6)، وقال إِبراهيم: يبدأ ¬

_ (¬1) كناية عن الغنائم، كما في "الفتح". (¬2) أي: نضجت. (¬3) أي: يجتنيها. (¬4) الإِذخِر: حشيشة طيبة الرائحة. (¬5) أخرجه البخاري: 1276، ومسلم: 940. (¬6) رواه البخاري معلقاً، ووصله عبد الرزاق من طريق أُخرى عنه، وسنده صحيح، =

ينبغي أن يكون الكفن طائلا سابغا ساترا جميع بدنه:

بالكفن، ثم بالدّين، ثمّ بالوصية (¬1)، وقال سفيان: أجر القبر والغسل هو من الكفن (¬2). ينبغي أن يكون الكفن طائلاً سابغاً ساتراً جميع بدنه: وينبغي أن يكون الكفن حسناً طائلاً سابغاً، يسترُ جميع بدنه؛ لحديث جابر ابن عبد الله -رضي الله عنه-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوماً؛ فذكر رجلاً من أصحابه قبض؛ فكفِّن في كفن غير طائلٍ وقُبر ليلاً؛ فزجر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُقبر الرّجل بالليل حتى يُصلّى عليه؛ إِلا أن يُضطرّ إِنسان إِلى ذلك، وقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذا كفّن أحدكم أخاه فليُحسِّن كفَنه" (¬3). قال شيخنا -رحمه الله-: "قال العلماء: والمراد بإِحسان الكَفن: نظافته وكثافته وستره وتوسُّطه، وليس المراد به السَّرَفَ فيه والمغالاة ونفاسته" انتهى. وجاء في "السيل الجرّار" (1/ 347): "قد حصَل الاتفاق على أنّ الواجب في الكفن ثوب واحد يستر جميع البدن، وأنّ ذلك مُقدّم على ما يخرج من التَّرِكَةِ من دَيْنٍ وغيره، فإِنْ ألجأت الضرورة إِلى أن يُكفنّ في ثوب لا يستر ¬

_ = وانظر "مختصر صحيح البخاري" (1/ 300). (¬1) رواه البخاري معلّقاً. وقال شيخنا -رحمه الله- في "مختصر البخاري" (1/ 300): " ... هو إِبراهيم بن يزيد النخعي، وقد وصَله عنه الدارمي، وكذا عبد الرزاق وسنده صحيح أيضاً". (¬2) رواه البخاري معلّقاً، ووصده عبد الرزاق، كما في "الفتح" (3/ 141)؛ وفيه: "أي: أجر حفْر القبر وأجْر الغاسل: مِن حُكم الكفن في أنه من رأس المال". (¬3) أخرجه مسلم: 943.

ماذا إذا ضاق الكفن؟

جميع بدنه؛ فللضرورة حُكمها؛ كما وقع في "الصحيحين" وغيرهما: "أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك إِلا نَمِرَة (¬1) ... ". ماذا إذا ضاق الكفَن؟ فإِنْ ضاق الكَفن عن ذلك، ولم يتيسّر السابغ؛ سُتر به رأسه وما طال من جسده، وما بقي منه مكشوفاً جُعل عليه شيء من الإِذخر أو غيره من الحشيش، وفيه حديثان: الأول: حديث خّباب بن الأرتّ -رضي الله عنه- المتقدّم وفيه: " .. فأمَرنا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نغطّي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإِذخر". الثاني: عن حارثة بن مُضَرِّب قال: "دخلت على خبّاب وقد اكتوى [في بطنه] سبعاً، فقال: لولا أنّي سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يتمنّينّ أحدكم الموت"؛ لتمنّيته! ولقد رأيتني مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا أملك درهماً، وإنّ في جانب بيتي الآن لأربعين ألف درهم. ثمّ أتى بكفنه، فلمّا رآه بكى وقال: ولكنّ حمزة لم يوجد له كفن إِلا بُردةً ملحاءَ، إِذا جُعلت على رأسه قَلَصتْ (¬2) عن قدميه، وإذا جُعلت على قدميه قَلَصتْ عن رأسه، وجُعل على قدميه الإِذخر" (¬3). ¬

_ (¬1) النَمِرَة: كل شملة مُخطّطة من مآزر الأعراب؛ فهي نَمِرة، وجمعها نِمار، كأنها أُخذت من لون النَّمر؛ لما فيها من السواد والبياض؛ وهي من الصفات الغالبة. "النهاية". (¬2) أي: نقصَت. "الوسيط". (¬3) أخرجه أحمد -بهذا التمام، وإسناده صحيح- والترمذي -دون قوله: ثمّ أتى بكفنه ... - وقال: "حديث حسن صحيح" ... وانظر "أحكام الجنائز" (ص 78).

جواز تكفين الجماعة في الكفن الواحد عند الضرورة:

جواز تكفين الجماعة في الكفن الواحد عند الضرورة: وإذا قلَّت الأكفان، وكثرت الموتى؛ جاز تكفين الجماعة منهم في الكفن الواحد، ويقدَّم أكثرهم قرآناً إِلى القبلة؛ لحديث أنس: "لمّا كان يومُ أُحُد؛ مرّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحمزة بن عبد المطلب، وقد جُدِعَ ومُثِّل به، فقال: لولا أن تجد صفيّة [في نفسها!] تركته [حتى تأكُله العافية]، حتى يحشره الله من بطون الطير والسّباع! فكفّنه في نَمِرَة، [وكانت] إِذا خُمَّرَ رأسه بدت رجلاه، وإذا خُمِّرت رجلاه بدا رأسه، فخُمّر رأسه، ولم يُصَلِّ على أحد من الشهداء غيرهُ. وقال: أنا شاهد عليكم اليوم، [قال: وكثرت القتلى، وقلّت الثياب، وقال:] وكان يَجْمَعُ الثلاثة والاثنين في قبر واحد، ويسأل: أيُّهُم أكثر قرآناً، فيقدِّمه في اللحد، وكفّن الرجلين والثلاثة في الثوب الواحد" (¬1). وفي رواية قال: "أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على حمزة يوم أُحد، فوقف عليه، فرآه قد مُثِّل به، فقال: لولا أن تجد صفية في نفسها؛ لتركته حتى تأكله العافية (¬2)، حتى يحشر يوم القيامة من بطونها، قال: ثمّ دعا بنَمِرة فكفّنه فيها، فكانت إِذا مُدَّت على رأسه بدت رجلاه، وإذا مُدت على رجليه بدا رأسه. قال: فكثر القتلى، وقَلَّتْ الثياب. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (811). (¬2) العافية: كلُّ طالب رزق من إِنسان أو بهيمة أو طائر، وجمْعها العوافي. والمراد هنا: السّباع والطيور التي تأكل الجِيف.

يدفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها:

قال: فكُفِّنَ الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثمّ يدفنون في قبر واحد. قال: فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل عنهم أيُّهم أكثر قرآناً، فيقدمه إِلى القبل. قال: فدفنهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يصل عليهم" (¬1). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "معنى الحديث أنّه كان يقسم الثوب الواحد بين الجماعة، فيكفّن كل واحد ببعضه للضرورة، وإِن لم يستر إلاَّ بعض بدنه، يدلُّ عليه تمام الحديث: أنّه كان يسأل عن أكثرهم قرآناً فيُقدّمه في اللحد، فلو أنّهم في ثوب واحد جُملة؛ لسأل عن أفضلهم قبل ذلك؛ كي لا يؤدّي إِلى نقض التكفين وإعادته". ذكره في "عون المعبود" (3/ 165). قال شيخنا -رحمه الله-: "وهذا التفسير هو الصواب. وأما قول من فسّره على ظاهره؛ فخطأ مخالف لسياق القصة كما بيّنه ابن تيمية! وأبعد منه عن الصواب من قال: معنى: (ثوب واحد) قبرٌ واحد! لأنّ هذا منصوص عليه في الحديث؛ فلا معنى لإِعادته". يدفن الشهيد في ثيابه التي قُتل فيها: ولا يجوز نزْع ثياب الشهيد التي قُتل فيها، بل يُدْفن وهي عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قتلى أُحد: "زمِّلوهم في ثيابهم" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2689)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (811) وغيرهما. (¬2) أخرجه أحمد، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 80).

وفي رواية: "زمّلوهم بدمائهم" (¬1). ويُستحبُّ تكفينه بثوب واحد أو أكثر فوق ثيابه، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمصعب بن عمير وحمزة بن عبد المطلب كما تقدّم. وكذلك ما ثبت عن شدّاد بن الهاد: أن رجلاً من الأعراب جاء إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فآمن به واتّبعه، ثمّ قال: أُهاجِر معك، فأوصَى به النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بعض أصحابه، فلمّا كانت غزوة [خَيْبَر] غنم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً؛ فقسم وقَسَم له، فأعطى أصحابه ما قَسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلمّا جاء دفعوه إِليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قِسم قَسَمه لك النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فأخذه فجاء به إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما هذا؟ قال: قَسَمتُه لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أنْ أُرمى إِلى هاهُنا، وأشار إِلى حلقه بسهم فأموت، فأدخُل الجنة! فقال: إِنْ تصدُق الله يصدُقْك. فلبثوا قليلاً، ثمّ نهضوا في قتال العدو، فأتي به النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يُحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَهُوَ هُو؟! قالوا: نعم! قال: صَدَقَ الله فصدقه ثمّ كفَّنه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في جبَّة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ قدّمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهمّ هذا عبْدك، خرج مُهاجراً في سبيلك، فقتل شهيداً، أنا شهيدٌ على ذلك" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1892). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1845) وغيرهما.

يكفن المحرم في ثوبيه الذين مات فيهما:

يُكفّن المُحرِم في ثوبيه الذين مات فيهما: والمُحْرِم يُكفَّن في ثوبيه اللّذين مات فيهما، كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتقدّم في المحرِم الذي وقصته الناقة: " .. وكفّنوه في ثوبيه [اللذين أحرم فيهما] ... ". ويستحبّ في الكفن أمور: الأوّل: البياض. فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "البَسوا من ثيابكم البياض؛ فإِنّها من خير ثيابكم، وكفّنوا فيها موتاكم" (¬1). الثاني: كونُه ثلاثةَ أثواب. عن عائشة -رضي الله عنها-: أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُفِّن في ثلاثة أثواب يمانِيَةٍ بيض سَحولية (¬2) من كُرْسُفٍ؛ ليس فيهنّ قميص ولا عِمامة" (¬3). وفي زيادة: "أُدرج فيها إِدراجاً" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3284)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (792)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1201)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1788). (¬2) سحوليّة: يروى بفتح السين وضمّها، فالفتح منسوب إِلى السَّحُول، وهو القصّار [المُبيّض للثّياب]؛ لأنه يسْحلُها؛ أي: يغسلها، أو إِلى سَحُول؛ وهي قرية باليمن. وأمّا الضم؛ فهو جمع سَحْل، وهو الثوب الأبيض النقي، ولا يكون إلاَّ من قُطن". (¬3) أخرجه البخاري: 1264، ومسلم: 941. (¬4) أخرجه أحمد، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 83).

الثالث: أن يكون أحدها ثوبَ حِبَرَةٍ (¬1) إِذا تيسّر. فعن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِذا تُوفّي أحدكم فوجد شيئاً؛ فليكفِّن في ثوب حِبَرة" (¬2). قال شيخنا -رحمه الله تعالى- "اعلم أنه لا تعارض بين هذا الحديث وبين الحديث الأول في البياض: "وكفنوا فيها موتاكم"؛ لإِمكان التوفيق بينهما بوجه من وجوه الجمع الكثيرة المعلومة عند العلماء، ويخطر في بالي الآن منها وجهان: 1 - أن تكون الحِبَرة بيضاء مخططة ويكون الغالب عليها البياض؛ فحينئذٍ يشملها الحديث الأول؛ باعتبار أن العبرة في كل شيء بالغالب عليه، وهذا إِذا كان الكفن ثوباً واحداً، وأما إِذا كان أكثر؛ فالجمع أيسر؛ وهو الوجه الآتي. 2 - أن يجعل كفناً واحداً حِبَرةً، وما بقي أبيضَ، وبذلك يُعْمَلُ بالحديثين معاً. ْالرابع: تبخيرهُ ثلاثاً؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا جمّرتم (¬3) الميت؛ فأجمروه ثلاثاً" (¬4). وهذا الحكم لا يشمل المُحِرم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المُحْرم الذي وقصته الناقة: ¬

_ (¬1) الحِبرة -بوزن عِنَبَة- والحبير من البُرود: ما كان مَوْشِيّاً، وهو بُرد يمانٍ. وانظر "النهاية"، وتقدّم. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2703) وغيره. (¬3) أي: بخّرتموه بالطيب. "النهاية". (¬4) أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة، وابن حبان في "صحيحه"، وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (84).

" .. ولا تطيّبوه ... ". [تقدّم تخريجه.] ولا تجوز المُغالاة في الكفن، ولا الزيادة فيه على الثلاثة؛ لأنّه خلاف ما كُفّن فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه إِضاعة للمال، وهو منهيّ عنه؛ لا سيّما والحيُّ أولى به. فعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنّ الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإِضاعة المال، وكثرة السؤال" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله تعالى-: "ويُعجبني بهذه المناسبة ما قاله العلاّمة أبو الطيّب في "الروضة الندية" (1/ 165): "وليس تكثير الأكفان والمغالاة في أثمانها بمحمود؛ فإِنّه لولا ورود الشرع به؛ لكان من إِضاعة المال؛ لأنّه لا ينتفع به الميت، ولا يعود نفْعه على الحي، ورحم الله أبا بكر الصّديق حيث قال: "إِن الحيّ أحقُ بالجديد .. لمّا قيل له عند تعيينه لثوب من أثوابه في كفنه: إِنّ هذا خَلَق" (¬2). انتهى. جاء في "السيل الجرّار" (1/ 348): "أقول: الذي أوصى بأن يُكفّن في زيادة على سبعة (¬3) أكفان؛ فقد أوصى بما نهى عنه -صلّى الله عليه وآله وسلّم- من إِضاعة المال، وهذا إِضاعة للمال بلا شك ولا شبهة؛ فهو وصية بمحْظور لا يجوز تنفيذها، وإنما قلنا: إِنه إِضاعة للمال؛ لأنّه لا ينتفع به الميت، وإن كفن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1477، ومسلم: 1715. (¬2) أخرجه البخاري: 1387. (¬3) ليس فيه جواز التكفين بسبعة أثواب، ولكنّه في معرض الردّ وقد قال -رحمه الله- في الصفحة نفسها: " ... ولو سلمنا ذلك؛ لكان أفضل الأكفان ثلاثة دروج؛ فلا يصحّ قول المصنف: والمشروع إِلى سبعة وتراً".

حمل الجنازة واتباعها

بألف كفن؛ لأن ذلك يصير ترابًا عن قريب. ومعلوم أنه إِذا كان صحيح العقل لا يقصد التزين بذلك بين أهل البرزخ - فقد صاروا جميعاً في شغل شاغل عن ذلك-؛ فالصواب أنه يأثم الوصي والوارث بامتثال هذه الوصية لا بِرَدِّها. والله -سبحانه- إِنما جعل للميت ثلث ماله ليجعله زيادة في حسناته ويتقرب به إِلى الله -سبحانه- لا ليضعه في موضع الإِضاعة، ويخالف به ما شرعه الله لعباده من عدم إِضاعة المال". والمرأة في ذلك كالرجل، إِذ لا دليل على التفريق. حَمْلُ الجنازةِ واتّباعُها حُكم حمل الجنازة واتّباعها: ويجب حمل الجنازة واتّباعها، وذلك من حقّ الميت المسلم على المسلمين، وفي ذلك أحاديث منها: الأول: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "حقّ المسلم على المسلم خمس: ردّ السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس" (¬1). الثاني: قوله أيضاً: "عودوا المريض، واتّبعوا الجنائز؛ تذكّرْكم الآخرة" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1240، ومسلم: 2162. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، والبخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب المفرد" (403/ 518)، وابن حبان في "صحيحه" وغيرهم.

هل تتبع جنازة المشرك؟

واتّباعُها على مرتبتين: الأولى: اتّباعها من عند أهلها، حشى الصلاة عليها. والأخرى: اتباعها من عند أهلها، حتى يُفرغ من دفنها. وكُلاًّ منهما فعَل (¬1) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هل تتبع جنازة المشرك؟ جاء في "مجموع الفتاوى" (24/ 265): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن قوم مسلمين مجاوري النصارى؛ فهل يجوز للمسلم إِذا مرض النصراني أن يعوده؟ وإِذا مات أن يتبع جنازته؟ وهل على مَن فعَل ذلك من المسلمين وِزْرٌ أم لا؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، لا يتبع جنازتَه، وأمّا عيادته فلا بأس بها (¬2)؛ فإِنه قد يكون في ذلك مصلحةٌ لتأليفه على الإِسلام، فإِذا مات كافراً؛ فقد وَجَبت له النار؛ ولهذا لا يُصلّى عليه. والله أعلم". فضل اتباع الجنازة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من شهد الجنازة ¬

_ (¬1) انظر "أحكام الجنائز" (ص 87). (¬2) وقد تقدّم في ذلك الدليل، لكن ينبغي أن توظّف هذه الزيارة في الدعوة إِلى الله - تعالى- كما يشير إِلى ذلك الحديث، وهذا ما ذهب إِليه شيخ الإِسلام -رحمه الله- في الكلام السابق. أمّا إِذا كان الزائر ضعيف العلم والإِيمان؛ فلا يحلّ له الذّهاب مخافة الافتتان.

حتى يُصلّى عليها؛ فله قيراط (¬1)، ومن شهِدهَا حتى تدفن؛ فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين" (¬2). وفي لفظٍ: "أعظم من أُحد" (¬3). وفي بعض الشواهد عن أبي هريرة زيادات مفيدة، لعلّه من المُستحسن ذِكْرها: "وكان ابن عمر يُصلّي عليها، ثمّ ينصرف، فلمّا بلغه حديث أبي هريرة قال: [أكثر علينا أبو هريرة (وفي رواية: فتعاظمه)]، [فأرسل خبّاباً إِلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة، ثمّ يرجع إِليه فيُخبره ما قالت؟ وأخذ ابن عمر قبضةً من حصى المسجد يُقلِّبها في يده، حتى رجع إِليه الرسول، فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة. فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض، ثمّ قال:] لقد فرّطْنا في قراريط كثيرة! [فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: إِنه لم يكن يَشْغَلني عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفقة السوق، ولا غرس الوَدِيِّ (¬4)، إِنما كنت ألزم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكلمةٍ يُعلّمنيها، وللُقمة يُطعِمُنيها]، [فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هريرة! كنت ألزمنا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأعلمنا بحديثه] " (¬5). ¬

_ (¬1) القيراط: جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عُشرِه في أكثر البلاد. "لسان العرب". (¬2) أخرجه البخاري: 1325، ومسلم: 945 - واللفظ له-. (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1887). (¬4) صغار النّخل. (¬5) قال شيخنا -رحمه الله-: "هذه الزيادات كلّها لمسلم (945)، إِلا الأخيرة؛ =

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟! قال أبو بكر: أنا قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما اجتمعن في امرئ إِلا دخَل الجنة" (¬1). وهذا الفضْل في اتّباع الجنائز؛ إِنّما هو للرجال دون النساء؛ لنهي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهنّ عن اتباعها، وهو نهي تنزيه. عن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: "نُهينا عن اتباع الجنائز؛ ولم يُعْزَم علينا" (¬2). وفي روإية: "نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). وقد جاء التصريح بأنّ النساء لا أجر لهنَّ في اتباعها: كما في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في "الثقات" (6/ 493) بإِسناده عن عائشة مرفوعاً؛ وهو مخرج في "الصحيحة" (3012). ¬

_ = فهي لأحمد؛ وكذا سعيد بن منصور بإِسنادٍ صحيحٍ، كما قال الحافظ في "الفتح"، والتي قبلها للطيالسي وسندها صحيح على شرط مسلم، والزيادة الثانية للشيخين، والرواية الثانية فيها للترمذي، وأحمد ... ". (¬1) أخرجه مسلم: 1028. (¬2) أخرجه البخاري: 1278، ومسلم: 938. (¬3) انظر "أحكام الجنائز" (ص 90).

لا يجوزأن تتبع الجنائز بما يخالف الشريعة:

لا يجوزأن تُتَّبَعَ الجنائز بما يخالف الشريعة: ولا يجوز أن تُتّبع الجنائز بما يخالف الشريعة، وقد جاء النصُّ فيها على أمرين: رفع الصوت بالبكاء، واتبّاعها بالبَخُور. عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تتّبع جنازة معها رانّة (¬1) " (¬2). وعن أبي بُردة قال: "أوصى أبو موسى -رضي الله عنه- حين حضَره الموت قال: إِذا انطلقتم بجنازتي؛ فأسرعوا بي المشي، ولا تَتَّبعوني بمِجمَر (¬3) ... " (¬4). وعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال وهو في سياق الموت: "فإِذا أنا مِتُّ؛ فلا تصحبني نائحةٌ ولا نار" (¬5). ويلحق بذلك رفع الصوت بالذّكر أمام الجنازة؛ لأنّه بدعة، ولقول قيس بن عُبَاد: "كان أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكرهون رفع الصوت عند الجنائز" (¬6). ولأنّ فيه تشبّهاً بالنصارى؛ فإِنّهم يرفعون أصواتهم بشيء من أناجيلهم ¬

_ (¬1) رانّة: الرنّة -بتشديد النون-: الصوت، يُقال: رنّت المرأة؛ إِذا صاحت. "شرح سنن ابن ماجه" للسندي (1/ 480). (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1287)، وأحمد من طريقين عن مجاهد عنه، وهو حسن بمجموع الطريقين. (¬3) المِجْمَر: هو الذي يوضَع فيه النّار للبَخور، كما تقدّم. (¬4) أخرجه أحمد، وابن ماجه بسند حسن وغيرهما، وتقدّم. (¬5) أخرجه مسلم: 121. (¬6) أخرجه البيهقي، وابن المبارك في "الزهد"، وأبو نعيم بسند رجاله ثقات.

وأذكارهم مع التمطيط والتلحين والتحزين. وأقبح من ذلك: تشييعها بالعزف على آلالات الموسيقية أمامها عزفاً حزيناً، كما يفعل في بعص البلاد الإِسلامية تقليداً للكفّار! والله المُستعان. قال النووي -رحمه الله تعالى- في "الأذكار" (ص 203): "واعلم أنّ الصواب والمختار وما كان عليه السلف -رضي الله عنهم-: السّكوت في حال السّير مع الجنازة، فلا يُرْفَعُ صوت بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة، وهي أنّه أسكن لخاطره، وأجمع لفكره فيما يتعلّق بالجنازة، وهو المطلوب في هذا الحال، فهذا هو الحق، ولا تغترّ بكثرة من يخالفه، فقد قال أبو عليّ الفُضَيْل بن عِيَاضٍ -رضي الله عنه- ما معناه: الزم طُرق الهدى؛ ولا يضرك قلّة السالكين، وإيّاك وطرُق الضلالة؛ ولا تغتر بكثرة الهالكين". وقد روّينا في "سنن البيهقي" ما يقتضي ما قلته (يشير إِلى قول قيس بن عباد). وأمّا ما يفعله الجهلة من القراءة على الجنازة بدمشق وغيرها؛ من القراءة بالتمطيط وإخراج الكلام عن مواضعه، فحرام بإِجماع العلماء، وقد أوضحت قُبحه، وغلظ تحريمه، وفسق من تمكّن من إِنكاره فلم يُنكره في كتاب "آداب القراءة". والله المستعان". قال شيخنا -رحمه الله-: "يشير إِلى كتابه "التبيان في آداب حَمَلة القرآن" انتهى. وجاء في "مجموع الفتاوى" (24/ 293): "وسُئل عن رفع الصوت في الجنازة؟ فأجاب: الحمد لله؛ لا يستحب رفع الصوت مع الجنازة، لا بقراءة ولا ذِكر

ولا غير ذلك؛ هذا مذهب الأئمة الأربعة، وهو المأثور عن السلف من الصحابة والتابعين، ولا أعلم فيه مخالفاً؛ بل قد روي عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنّه نهى أن يتبع بصوت أو نار: رواه أبو داود (¬1). وسمع عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- رجلاً يقول في جنازة: استغفروا لأخيكم. فقال ابن عمر: لا غفر الله بعد! وقال قيس بن عُبَاد -وهو من أكابر التابعين من أصحاب علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: كانوا يستحبون خفض الصوت عند الجنائز، وعند الذكر، وعند القتال. وقد اتفق أهل العلم بالحديث والآثار أنّ هذا لم يكن على عهد القرون الثلاثة المفضلة. وأما قول السائل: إِن هذا قد صار إِجماعاً من الناس! فليس كذلك؛ بل ما زال في المسلمين من يكره ذلك، وما زالت جنائز كثيرة تخرج بغير هذا في عدة أمصار من أمصار المسلمين. وأما كون أهل بلد -أو بلدين أو عشر- تعوَّدوا ذلك؛ فليس هذا بإِجماع؛ بل أهل مدينة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي نزل فيها القرآن والسنة -وهي دار الهجرة، والنصرة، والإِيمان، والعلم- لم يكونوا يفعلون ذلك؛ بل لو اتفقوا في مثل زمن مالك وشيوخه على شيء، ولم ينقلوه عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو خلفائه؛ لم يكن ¬

_ (¬1) قال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 91): "أخرجه أبو داود [انظر "ضعيف أبي داود" (696)]، وأحمد من حديث أبي هريرة، وفي سنده من لم يسمّ، لكنّه يتقوى بشواهده المرفوعة وبعض الآثار الموقوفة ... ".

الإسراع في السير بها:

إِجماعهم حُجّة عند جمهور المسلمين، وبعد زمن مالك وأصحابه ليس إِجماعهم حجة باتفاق المسلمين؛ فكيف بغيرهم من أهل الأمصار. وأمّا قول القائل: إِنّ هذا يشبه بجنائز اليهود والنصارى! فليس كذلك؛ بل أهل الكتاب عادتهم رفع الأصوات مع الجنائز، وقد شُرط عليهم في شروط أهل الذّمة أن لا يفعلوا ذلك. ثمّ إنما نهينا عن التشبه بهم فيما ليس هو من طريق سلفنا الأول، وأما إِذا اتبعنا طريق سلفنا الأول كنا مصيبين، وإن شاركنا في بعض ذلك من شاركنا، كما أنهم يشاركوننا في الدفن في الأرض، وفي غير ذلك". الإِسراع في السير بها: ويجب الإِسراع في السير بها، سيراً دون الرَّمَلِ، وفي ذلك أحاديث: الأول: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أسرِعوا بالجنازة؛ فإِن تكُ صالحة؛ فخير تقدّمونها إِليه، وإن يَكُ سوى ذلك؛ فشرّ تضعونه عن رقابكم" (¬1). الثاني: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا وُضِعَتِ الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم؛ فإِن كانت صالحة قالت: قدّموني، وإن كانت غير صالحة؟ قالت: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إِلا الإِنسان، ولو سمعه صَعِق" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1315، ومسلم: 944، وتقدّم. (¬2) أخرجه البخاري: 1314.

الثالث: عن عبد الرحمن بن جَوْشَنٍ قال: "كنت في جنازة عبد الرحمن بن سَمُرَةَ، فجعل زياد ورجال من مواليه يمشون على أعقابهم أمام السرير، ثمّ يقولون: رويداً رويداً بارك الله فيكم!! فلحِقهم أبو بكرة في بعض سِكَكِ المدينة، فحمل عليهم بالبَغْلَةِ، وشدّ عليهم بالسّوط، وقال: خلُّوا! والذي أكرم وجه أبي القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لقد رأيتنا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنكاد أن نَرْمُلَ بها رَمَلاً" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله-: ظاهر الأمر الوجوب [أي: الإِسراع بالجنازة]، وبه قال ابن حزم (5/ 154 - 155)، ولم نجد دليلاً يصرفه إِلى الاستحباب، فوقفنا عنده، وقال ابن القيم في "زاد المعاد": "وأمّا دبيب الناس اليوم خطوة خطوة؛ فبدعة مكروهة، مخالفة للسنّة، ومتضمّنة للتشبّه بأهل الكتاب اليهود" ... " انتهى. وجاء في "الروضة الندية" (1/ 430): "والحق: هو القصد في المشي، فالأحاديث المصرحة بمشروعية الإِسراع؛ ليس المراد بها الإِفراطَ في المشي الخارج عن حد الاعتدال، والأحاديث التي فيها الإِرشاد إِلى القصد؛ ليس المراد بها الإِفراطَ في البُطْءِ، فيجمع بين الأحاديث بسلوك طريقة وسطى بين الإِفراط والتفريط؛ يصدق عليها أنه إِسراع بالنسبة إِلى الإِفراط في البطء، وأنها قصد بالنسبة إِلى الإِفراط في الإِسراع، فيكون المشروع دون الخبب، وفوق المشي الذي يفعله من يمشي في غير مهم". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2725)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1805) وغيرهما.

أين يكون الماشي والراكب من الجنازة؟

أين يكون الماشي والراكب من الجنازة؟ ويجوز المشي أمامها وخلفها وعن يمينها ويسارها، على أن يكون قريباً منها، إِلا الراكب فيسير خلفها. فعن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها؛ قريباً منها؛ والسِّقْط يُصلّى عليه ويُدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" (¬1). وكل من المشي أمامها وخلفها ثبت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلاً، كما قال أنس ابن مالك -رضي الله عنه-: "إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة وخلفها" (¬2). ما هو الأفضل؟ لكن الأفضل المشي خلفها؛ لأنّه مقتضى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "واتبعوا الجنائز" (¬3). ويؤيِّده قول علي -رضي الله عنه-: "المشي خلفها أفضل من المشي أمامها، كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته فذّاً" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2723)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1205)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (823)، والنسائي "صحيح سنن الترمذي" (1834). (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1207)، والطحاوي. (¬3) تقدّم بتمامه بلفظ: "عودوا المريض، واتبعوا الجنائز، تذكّرْكم الآخرة". (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والبيهقي وغيرهم، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 96).

الجنازة" .. " (¬1). لكر، الأفضل المشي؛ لأنّه المعهود عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يَرِدْ أنّه ركب معها؛ بل قال ثوبان -رضي الله عنه-: "إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتي بدابة وهو مع الجنازة؛ فأبى أن يركبها، فلما انصرف أُتي بدابة فركب، فقيل له؟ فقال: إِنّ الملائكة كانت تمشي؛ فلم أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبْتُ" (¬2). وأمّا الركوب بعد الانصراف عنها؛ فجائز بدون كراهة؛ لحديث ثوبان المذكور آنفاً، ومِثله حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ابن الدَّحداح، تم أُتي بفرس عُرْي (¬3)؛ فعقله (¬4) رجل فركبه، فجعل يتوقّص (¬5) به؛ ونحن نتّبعه ونسعى خلفه، فال: فقال رجل من القوم: إِنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كم من عِذْق (¬6) مُعلّق (أو مُدلّى) في الجنة لابن الدحداح! أو قال شعبة: لأبي الدحداح! " (¬7). ¬

_ (¬1) تقدّم. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2720). (¬3) عُري؛ أي: لا سرج عليه ولا غيره. "النهاية". (¬4) أي: أمسَكه له وحبَسه. (¬5) يتوقّص به؛ أي: يَثب ويُقارب الخُطَى. "النهاية". (¬6) قال النووي -رحمه الله - (7/ 33): العِذق هنا بكَسر العين المهملة: وهو الغصن من النخلة. وأما العَذق بفتحها: فهو النخلة بكماَلها، وليس مراداً هنا". (¬7) أخرجه مسلم: 965.

تحريم حمل الجنازة على عربة مخصصة لها ونحو ذلك:

تحريم حمل الجنازة على عربة مخصصة لها ونحو ذلك: وأمّا حمل الجنازة على عربة أو سيارة مخصصة للجنائز، وتشييع المُشيعين لها وهم في السيارات؛ فهذه الصورة لا تُشْرع البتة، وذلك لأمور: الأول: أنها من عادات الكُفار، وقد تقرّر في الشريعة أنّه لا يجوز تقليدهم فيها. الثاني: أنها بدعة في عبادة، مع مُعارضتها للسّنة العملية في حمل الجنازة، وكلّ ما كان كذلك من المُحدثات؛ فهو ضلالة اتفاقاً. الثالث: أنها تُفوّت الغاية من حملها وتشييعها، وهي تذكّر الآخرة، كما في الحديث المتقدّم: " .. واتبعوا الجنائز تُذكّركم الآخرة". قال شيخنا -رحمه الله-: إِنّ تشييعها على تلك الصّورة ممّا يفوّت على الناس هذه الغاية الشريفة تفويتاً كاملاً أو دون ذلك؛ فإِنّه ممّا لا يخفى على البصير أنّ حمل الميت على الأعناق (¬1)، ورؤية المشيعين لها وهي على ¬

_ (¬1) وقد أوصى شيخنا -رحمه الله- أن تُحمَل جنازته على الأعناق، وكان ذلك، مع ما كان مِن مسافة؛ لكن لم يشعر بها المشيّعون وحفظ الله سماحة الشيخ الوالد العثيمين؛ فقد قال: طبّق السّنة في حياته وبعد مماته. وقد كان هذا خلال حياته، ثمّ وقعت مصيبة الموت، فرحمه الله -تعالى- وألحقنا به وأشياخنا ووالدينا وأحبابنا في الجنّة؛ مع النّبين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. فأقول بهذه المناسبة المفجعة: واحرَّ قلباهُ من فَقْدِ العثيميِن ... لا شيء بعدك في دُنْيايَ يُرضيني ذَهبَ الأئمّةُ يا حُزني ويا أَلمي ... ماتَ ابنُ بازٍ وأيضاً ناصرُ الدِّينِ =

نسخ القيام للجنازة:

رؤوسهم؛ أبلغ في تحقيق التذكّر والاتعاظ من تشييعها على الصّورة المذكورة، ولا أكون مُبالغاً إِذا قلت: إِنّ الذي حمل الأوروبيين عليها إِنّما هو خوفهم من الموت وكل ما يذكّر به؛ بسبب تغلُّب المادة عليهم وكفرهم بالآخرة! ". الرابع: أنها سبب قويّ لتقليل المُشيّعين لها والرّاغبين في الحصول على الأجر. الخامس: أنّ هذه الصّورة لا تتفق من قريب ولا من بعيد -مع ما عُرف عن الشريعة المُطهّرة السمحة من البُعد عن الشكليّات والرسميّات، لا سيّما في مثل هذا الأمر الخطير: الموت! نسْخ القيام للجنازة: والقيام لها منسوخ، وهو على نوعين: أ- قيام الجالس إِذا مرّت به. ب- وقيام المُشيّع لها عند انتهائها إِلى القبر حتى تُوضْع على الأرض. والدليل على ذلك. حديث عليّ -رضي الله عنه- وله ألفاظ: الأول: عن عليّ -رضي الله عنه- قال: "رأينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام فقمنا؛ وقعد فقعدنا؛ يعني: في الجنازة" (¬1). ¬

_ = هل ظلَّ مِن رغَدٍ في العيش أَنشُدُه ... بل طاب بَعْدَكُمُ غَسْلي وتكفيني تبكي القَصِيمُ ولا تبكي بِمُفْرَدِها ... فالدَّمْعُ في مِصْرَ في الأفغانِ في الصينِ (¬1) أخرجه مسلم: 962.

استحباب الوضوء لمن حملها:

الثاني: "كان يقوم في الجنائز، ثمّ جلس بَعْدُ" (¬1). الثالت: من طريق واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ قال: "شهدت جنازة في بني سَلِمَة، فقمت، فقال لي نافع بن جبير: اجلس؛ فإِنّي سأخبرك في هذا بثَبْتٍ، حدّثني مسعود بن الحكم الزُّرَقيُّ أنه سمع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- برَحْبَة الكوفة وهو يقول: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا بالقيام في الجنازة، ثمّ جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس" (¬2). الرابع: عن إِسماعيل بن مسعود بن الحكم الزُّرَقي عن أبيه قال: "شهدتُ جنازة بالعراق، فرأيت رجالاً قياماً ينتظرون أن توضع، ورأيت عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- يشير إِليهم: أن اجلسوا؛ فإِن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمَرَنا بالجلوس بعد القيام" (¬3). استحباب الوضوء لمن حمَلها: ويُستحبُّ لمن حملها أن يتوضأ؛ للحديث المتقدّم: "من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ". ¬

_ (¬1) رواه مالك وعنه الشافعي في "الأم"، وأبو داود. (¬2) أخرجه الشافعي، وأحمد، والطحاوي، وابن حبان في "صحيحه". (¬3) أخرجه الطحاوي بسند حسن.

الصلاة على الجنازة

الصلاة على الجنازة شروطها (¬1): *صلاة الجنازة يتناولها لفظ الصلاة، فيشترط فيها الشروط التي تفرض في سائر الصلوات المكتوبة: من الطهارة الحقيقية، والطهارة من الحدث الأكبر والأصغر، واستقبال القبلة، وستر العورة.* لكنّه إِذا خشي فوات الصلاة؛ فله أن يتيمّم وبه يقول شيخ الإِسلام - رحمه الله- كما في "مجموع الفتاوى"، وكذلك شيخنا -رحمه الله- في إِجابةٍ أجابنيها. حُكمها: والصلاة على الميت المسلم فرض كفاية؛ لأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها في أحاديث منها: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يُؤتى بالرّجل الميّت، عليه الدّين، فيسأل: هل ترك لدَيْنه من قضاء؟ فإِنْ حُدّث أنّه ترك وفاءً صلّى عليه؛ وإلا قال: صلّوا على صاحَبكم، فلمّا فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن تُوفّي وعليه دَيْن؛ فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته" (¬2). عدم وجوب الصلاة على شخصين: ويستثنى من ذلك شخصان؛ فلا تجب الصلاة عليهما: ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "فقه السّنّة" (1/ 521). (¬2) أخرجه البخاري: 2298، ومسلم: 1619 - واللفظ له-.

الأول: الطفل الذي لم يبلغ؛ لأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُصلِّ على ابنه إِبراهيم؛ قالت عائشة -رضي الله عنها-: "مات إِبراهيم ابن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن ثمانية عشر شهراً، فلم يصلِّ عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬1). الثاني: الشهيد؛ لأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُصلِّ على شهداء أُحد وغيرهم؛ وفي ذلك ثلاثة أحاديث سبَق ذِكْرها: منها حديث أنس -رضي الله عنه-: "أنّ شهداء أحد لم يُغسّلوا، ودُفنوا بدمائهم، ولم يُصلّ عليهم [غير حمزة] ". ولكنّ ذلك لا ينفي مشروعية الصلاة عليهما بدون وجوب، كما يأتي من الأحاديث فيهما في المسألة التالية: وتُشرع الصلاة على من يأتي ذكرهم. الأول: الطفل، ولو كان سِقْطاً (وهو الذي يَسْقُط من بطن أُمّه قبل تمامه)، وفي ذلك حديثان: 1 - " .. والطفل (وفي رواية: السِّقْط) يُصلّى عليه، ويُدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" (¬2). 2 - وعن عائشة أمّ المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: دُعي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى جنازة صبيّ من الأنصار، فقلت: يا رسول الله! طوبى لهذا؛ عُصفور من عصافير الجنّة؛ لم يعمل السُّوء ولم يدركه! قال: أوَ غيرَ ذلك يا عائشة! إِنّ الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2729) وغيره. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2723)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1834) وغيرهما، وتقدّم.

أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله-: "وأجاب السّندي في "حاشيته على النسائي" بجوابٍ خلاصتُه: أنّه إِنما أنكر عليها الجزم بالجنة لطفل معين: قال: ولا يصحّ الجزم في مخصوص؛ لأنّ إِيمان الأبوين -تحقيقاً- غيب، وهو المناط عند الله -تعالى-. والظاهر أن السِّقْط إِنّما يُصلّى عليه إِذا كان قد نُفخت فيه الروح، وذلك إِذا استكمل أربعة أشهر ثمّ مات، فأمّا إِذا سقط قبل ذلك فلا؛ لأنّه ليس بميت كما لا يخفى". عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو الصادق المصدوق-: إِنّ خلْق أحدكم يُجمَع في بطن أُمّه أربعين يوماً وأربعين ليلة، ثمّ يكون علقة مثله، ثم يكون مُضغة مثله، ثمّ يُبْعَثُ إِليه الملك، فَيُؤْذَنُ بأربع كلمات، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقيٌّ أم سعيد، ثمّ ينفخ فيه الروح: فإِنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار. وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار؛ حتى ما يكون بينها وبينه إِلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها" (¬2). وجاء في "المحلّى" (5/ 233 - مسألة: 598): "ونستحب الصلاة على ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 2662. (¬2) أخرجه البخاري: 7454، ومسلم: 2643.

المولود يولد حياً ثمّ يموت -استهل أو لم يستهل-؛ وليس الصلاة عليه فرضاً ما لم يبلغ. أمّا الصلاة عليه؛ فإِنها فعل خير لم يأت عنه نهي! وأمّا ترك الصلاة عليه؛ فلما روينا من طريق أبي داود: ثمّ ذكر إِسناده إِلى عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: "مات إِبراهيم ابن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن ثمانية عشر شهراً، فلم يصلّ عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". وقال: هذا خبر صحيح؛ ولكن إِنما فيه ترك الصلاة، وليس فيه نهي عنها. الثاني: الشهيد، وفيه أحاديث كثيرة: منها: عن شَدَّاد بن الهادِ: "أنّ رجلاً من الأعراب جاء إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فآمن به واتّبعه، ثمّ قال: أُهاجر معك .. فلبثوا قليلاً، ثمّ نهضوا في قتال العدوّ، فأُتِيَ به النّبيُّ يُحْمَل قد أصابه سهم .. ثمّ كفّنه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى جُبَّته، ثمّ قدّمه فصلّى عليه ... " (¬1). عن عبد الله بن الزبير: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَر -يوم أحد- بحمزة؛ فسُجِّي ببردةٍ، ثمّ صلّى عليه (¬2)، فكبر تسع تكبيرات، ثمّ أُتي بالقتلى يُصَفُّون، ويصلّي عليهم، وعليه معهم" (¬3). قال شيخنا -رحمه الله-: "قد يقول قائل: لقد ثبت في هذه الأحاديث ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1845) وغيره بسند صحيح، وتقدّم. (¬2) وللجمع بين هذا الحديث والحديث المتقدّم (ص 103) ولم يصلّ عليهم غير حمزة؛ انظر "أحكام الجنائز" (ص 107). (¬3) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، وإسناده حسن، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 106).

مشروعية الصلاة على الشهداء، والأصل أنّها واجبةٌ، فلماذا لا يُقال بالوجوب؟! قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: لما سبق ذكره في المسألة (58) [يعني: من كتابه؛ وهي هنا قبل بضع صفحات] ونزيد على ذلك هنا فنقول: لقد استشهد كثير من الصحابة في غزوة بدر وغيرها، ولم يُنقل أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى عليهم ولو فعَل لنقلوه عنه، فدلّ ذلك أنّ الصلاة عليهم غير واجبة. ولذلك قال ابن القيم في "تهذيب السنن" (4/ 295): "والصواب في المسألة ... أنه مخير بين الصلاة عليهم، وتركها؛ لمجيء الآثار بكل واحد من الأمرين، وهذا إِحدى الروايات عن الإِمام أحمد، وهي الأَلْيَقُ بأصوله ومذهبه". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: ولا شكّ أنّ الصلاة عليهم أفضل من الترك إذا تيسّرت؛ لأنها دعاء وعبادة. الثالث: من قُتل في حدّ من حدود الله؛ لحديث عمران بن حصين: "أنّ امرأة من جُهَيْنَةَ أتت نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي حُبلى من الزّنى، فقالت: يا نبي الله! أصبت حدّاً فأقمه عليّ. فدعا نبيّ الله وليَّها، فقال: "أحسِن إِليها، فإِذا وضعت فأْتِني بها ففعل، فأمر بها نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فشُكّت عليها ثيابها (¬1)، ثمّ أَمر بها فرجمت، ثمّ صلّى عليها، فقال له عمر: تُصلي عليها؟ يا نبي الله وقد زَنَتْ؟! فقال: لقد تابت توبة، لو قُسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبةً أفضل ¬

_ (¬1) أي: شُدّت، وقد وَردت هكذا في بعض النّسخ كما قال النووي -رحمه الله تعالى-.

من أن جادت بنفسها لله -تعالى-؟! " (¬1). الرابع: الفاجر المنبعث في المعاصي والمحارم، مثل تارك الصلاة والزّكاة مع اعترافه بوجوبهما،، والزاني ومُدْمن الخمر، ونحوهم من الفُساق؛ فإِنه يصلّي عليهم؛ إِلا أنه ينبغي لأهل العلم والدين أن يَدَعُوا الصلاة عليهم؛ عقوبة وتأديباً لأمثالهم، كما فعل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي ذلك أحاديث: 1 - عن أبي قتادة قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا دُعي لجنازة سأل عنها، فإِنْ أُثني عليها خير قام فصلّى عليها، وإن أُثني عليها غير ذلك قال لأهلها: شأنَكُم بها ولم يُصلِّ عليها" (¬2). 2 - عن جابر بن سمَرة -رضي الله عنه- قال: "أُتي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل قَتَل نفسه بمشاقص (¬3)؛ فلم يُصَلِّ عليه" (¬4). قال أبو عيسى -رحمه الله- تعليقاً على حديث جابر بن سمرة: "وقد اختلف أهل العلم في هذا: فقال بعضهم: يُصلّى على كلِّ من صلّى للقبلة، وعلى قاتل النفس، وهو قول سُفيان الثوري وإسحاق، وقال أحمد: لا يُصلّي الإِمام على قاتل النفس، ويصلّي عليه غير الإِمام". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1696. (¬2) أخرجه أحمد، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وشيخنا -رحمه الله- كما في "أحكام الجنائز" (ص 109). (¬3) المشاقص: سهام عراض، واحدها مِشقص -بكسر الميم وفتح القاف-. (¬4) أخرجه مسلم: 978.

وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "الاختيارات" (ص 52): "ومن امتنع من الصلاة على أحدهم (يعني: القاتل والغالَّ والمدين الذي ليس له وفاء) زجراً لأمثاله عن مثل فعله؛ كان حسناً، ولو امتنع في الظاهر، ودعا له في الباطن، ليجمع بين المصلحتين؛ كان أولى من تفويت إِحداهما". قال النووي -رحمه الله- بعد الحديث السابق: "أُتي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يُصَلِّ عليه": وفي هذا الحديث دليل لمن يقول: لا يصلّى على قاتل نفسه لعصيانه، وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز والأوزاعي. وقال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء: يُصلّى عليه، وأجابوا عن هذا الحديث بأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لم يصل عليه بنفسه؛ زجراً للناس عن مثل فعله، وصلت عليه الصحابة، وهذا كما ترك النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة في أول الأمر على من عليه دين؛ زجراً لهم عن التساهل في الاستدانة، وعن إِهمال وفائه؛ وأمر أصحابه بالصلاة عليه، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلّوا على صاحبكم". قال القاضي: مذهب العلماء كافةً: الصلاةُ على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنى. وعن مالك وغيره: أن الإِمام يجتنب الصلاة على مقتول في حد، وأن أهل الفضل لا يُصلّون على الفساق زجراً لهم ... " انتهى. وجاء في "الأوسط" (5/ 408) -بعد إِيراد عدد من النّصوص والآثار-: "سنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة على المسلمين ولم يستثن منهم أحداً، وقد دخَل في جُملهم الأخيار والأشرار، ومن قُتل في حد، ولا نعلم خبراً أوجب استثناء

أحدٍ ممن ذكَرناه، فيُصلّ على من قَتل نفسه، وعلى من أُصيب في أي حد أصيب فيه، وعلى شارب الخمر، وولد الزنى، لا يستثنى منهم إِلا من استثناه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الشهداء الذين أكرمَهم الله بالشهادة، وقد ثبَت أن نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى على من أصيب في حدّ". وجاء في "المحلّى" (5/ 249 - مسألة: 611) -بحذف-: "ويصلّى على كلّ مسلم، برّ أو فاجر، مقتول في حدّ، أو في حرابة، أو في بغي، ويصلّي عليهم الإِمام، وغيره ...... لعموم أمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: "صلّوا على صاحبكم (¬1)، والمسلم صاحب لنا، قال -تعالى-: {إِنما المؤمنون إِخوة} (¬2)، وقال -تعالى-: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} (¬3). فمن منَع من الصلاة على مسلم؛ فقد قال قولاً عظيماً، وإن الفاسق لأحوج إِلى دعاء إِخوانه المؤمنين من الفاضل المرحوم. وصح عن عطاء: أنه يصلى على ولد الزنى، وعلى أمه، وعلى المتلاعِنَين، وعلى الذي يقاد منه، وعلى المرجوم، والذي يفرّ من الزحف فيُقتل. قال عطاء: لا أدَع الصلاة على من فال: لا إِله إِلا الله؛ قال -تعالى-: {من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} (¬4). ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه. (¬2) الحجرات: 10. (¬3) التوبة: 71. (¬4) التوبة: 113.

قال عطاء: فمن يعلم أن هؤلاء من أصحاب الجحيم؟! قال ابن جريج: فسألت عمرو بن دينار؟ فقال مثل قول عطاء! وصح عن إِبراهيم النخعي أنه قال: لم يكونوا يحجبون الصلاة عن أحد من أهل القبلة، والذي قتل نفسه يصلّى عليه. وصح عن قتادة: صلّ على من قال: لا إِله إِلا الله، فإِن كان رجلَ سوء جدّاً؛ فقل: اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات! ما أعلم أحداً من أهل العلم اجتنب الصلاة على من قال: لا إِله إِلا الله! وصح عن ابن سيرين: ما أدركت أحداً يتأثم من الصلاة على أحد من أهل القبلة. وصح عن الشعبي أنه قال في رجل قتل نفسه: ما مات فيكم -مذ كذا- وكذا أحوجُ إِلى استغفاركم منه". الخامس: المدِين الذي لم يترك من المال ما يقضي به دينه؛ فإِنّه يُصلّى عليه، وإنما ترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة عليه في أوّل الأمر. عن سَلَمَة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: "كنّا جُلوساً عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إِذ أُتي بجنازة فقالوا: صلّ عليها، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: لا. قال: فهل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، فصلّى عليه، ثمّ أُتي بجنازة أخرى فقالوا: يا رسول الله! صلّ عليها. قال: هل عليه دَين؟ قيل: نعم. قال: فهل ترك شيئاً؟

قالوا: ثلاثة دنانير، فصلّى عليها. ثمّ أُتي بالثالثة فقالوا: صلّ عليها، قال: هل ترك شيئاً؟ قالوا: لا. قال: فهل عليه دَين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلّوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: صلِّ عليهِ يا رسول الله! وعليَّ دينه، فصلّى عليه" (¬1). وعن أبي قتادة -رضي الله عنه-: أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتيَ برجل من الأنصار ليصلّي عليه، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلّوا على صاحبكم، فإِنّ عليه دَيْناً. قال أبو قتادة: هو عليّ، قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بالوفاء؟ قال: بالوفاء، فصلّى عليه" (¬2). عن أبي هريرة -رضي الله عنه- "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُؤتى بالرّجل المُتوفّى؛ عليه الدين، فيسأل هل ترك لدينه فضلاً (¬3) فإِنّ حُدِّث أنّه ترك لدينه وفاءً صلّى؛ وإِلا قال للمسلمين صلّوا على صاحبكم، فلمّا فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن تُوُفّي من المؤمنين فترك ديناً؛ فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته" (¬4). قال شيخنا -رحمه الله-: "قال أبو بشر يونس بن حبيب -راوي "مسند ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2289. (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (854)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1851)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (45). (¬3) في بعض النسخ: "قضاءً". (¬4) أخرجه البخاري: 2298، ومسلم: 1619، وتقدّم.

هل يصلى على الميت الذي كان لا يصلي:

الطيالسي"- عقب الحديث: "سمعت أبا داود -يعني: الطيالسي- يقول: بذا نسخ تلك الأحاديث التي جاءت على الّذي عليه الدين" انتهى. هلّ يُصلّى على الميت الذي كان لا يصلّي: جاء في "مجموع الفتاوى" (24/ 285): "وسُئل -رحمه الله- عن الصلاة على الميت الذي كان لا يصلّي؛ هل لأحد فيها أجر أم لا؟ وهل عليه إِثم إِذا تركها، مع علمه أنه كان لا يصلّي؟ وكذلك الذي يشرب الخمر وما كان يصلّي؛ هل يجوز لمن كان يعلم حاله أن يصلّي عليه أم لا؟ فأجاب: أما من كان مظهراً للإِسلام، فإِنّه تجري عليه أحكام الإِسلام الظاهرة: من المناكحة، والموارثة، وتغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ونحو ذلك؛ لكن من عُلِمَ منه النفاق والزندقة؛ فإِنّه لا يجوز لمن عَلِمَ ذلك منه الصلاة عليه، وإن كان مظهراً للإِسلام، فإِن الله نهى نبيه عن الصلاة على المنافقين، فقال: {ولا تُصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تَقُم على قبره إِنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} (¬1)، وقال: {سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} (¬2). وأما من كان مظهراً للفسق -مع ما فيه من الإِيمان- كأهل الكبائر؛ فهؤلاء لا بد أن يصلّي عليهم بعض المسلمين، ومن امتنع من الصلاة على أحدهم زجراً لأمثاله عن مثل ما فعله، كما امتنع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة على قاتل نفسه، ¬

_ (¬1) التوبة: 84. (¬2) المنافقون: 6.

وعلى الغال، وعلى المدين الذي لا وفاء له، وكما كان كثير من السلف يمتنعون من الصلاة على أهل البدع؛ كان عمله بهذه السنة حسناً، ومن صلّى على أحدهم يرجو له رحمة الله، ولم يكن في امتناعه مصلحة راجحة؛ كان ذلك حسناً، ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن -ليجمع بين المصلحتين-؛ كان تحصيل المصلحتين أولى من تفويت أحداهما. وكل من لم يُعْلَمْ منه النفاق وهو مسلم؛ يجوز الاستغفار له، والصلاة عليه، بل يشرع ذلك، ويؤمر به، كما قال -تعالى-: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} (¬1). وكل من أظهر الكبائر؛ فإِنّه تسوغ عقوبته بالهجر وغيره، حتى ممن في هجره مصلحة له راجحة فتحصل المصالح الشرعية في ذلك بحسب الإِمكان". والله أعلم. وفيه (ص 287): وسئل عن رجل يصلّي وقتاً، ويترك الصلاة كثيراً، أو لا يصلّي؛ هل يصلّى عليه؟ فأجاب: "مثل هذا ما زال المسلمون يصلون عليه، بل المنافقون الذين يكتمون النفاق يصلّي المسلمون عليهم، ويغسَّلون، وتجري عليهم أحكام الإِسلام، كما كان المنافقون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن كان من علم نفاق شخص لم يجز له أن يصلّي عليه، كما نُهِيَ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة على من علم نفاقه. وأمّا من شك في حاله؛ فتجوز الصلاة عليه إِذا كان ظاهر الإِسلام، كما صلّى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على من لم يُنْهَ عنه، وكان فيهم من لم يعلم نفاقه، كما قال - ¬

_ (¬1) محمد: 19.

تعالى-: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل الدينة مَرَدُوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} (¬1). ومثل هولاء لا يجوز النهي عنه؛ ولكن صلاة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين على المنافق لا تنفعه، كما قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لمَا ألبس ابن أُبيٍّ قميصه (¬2) -: "وما يُغني عنه قميصي من الله؟! "؛ وقال -تعالى-: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} (¬3). وتارك الصلاة أحياناً، وأمثاله من المتظاهرين بالفسق؛ فأهل العلم والدين إِذا كان في هجر هذا، وترك الصلاة عليه منفعة للمسلمين -بحيث يكون ذلك باعثاً لهم على المحافظة على الصلاة عليه-[هجروه ولم يصلوا عليه]، كما ترك النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة على قاتل نفسه، والغال، والمدين الذي لا وفاء له، وهذا شرٌّ منهم". السادس: مَن دُفن قبل أن يُصلّى عليه، أو صَلّى عليه بعضهم دون بعض، فيصلّون عليه في قبره، على أن يكون الإِمام في الصورة الثانية ممّن لم يكن صلّى. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ امرأةً (¬4) سوداء كانت تقُمّ المسجد (أو ¬

_ (¬1) التوبة: 101. (¬2) انظر "صحيح البخاري": 4670، و"صحيح مسلم": 2400 دون "وما يُغني عنه قميصي من الله". (¬3) المنافقون: 6. (¬4) انظر "أحكام الجنائز" (ص 113) في ترجيح شيخنا -رحمه الله- أنها امرأة.

شابّاً)، ففقدها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسأل عنها (أو عنه)؟ فقالوا: مات، قال: أفلا كنتم آذنتموني؟! قال: فكأنّهم صغّروا أمرها (أو أمره)، فقال: دُلُّوني على قبره. فدلوه، فصلّى عليها ثمّ قال: إِنّ هذه القبور مملوءةٌ ظُلمةً على أهلها، وإنّ الله عزّ وجلّ ينوّرها لهم بصلاتي عليهم" (¬1). وعن يزيد بن ثابت -وكان أكبر من زيد- قال: خرجنا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما ورد البقيع؛ فإِذا هو بقبر جديد، فسأل عنه؟ فقالوا: فلانة. قال: فعرفها. وقال: "ألا آذنتموني بها؟! قالوا: كنت قائلاً صائماً، فكرهنا أن نؤذيك! قال: فلا تفعلوا، لا أعرفنّ ما مات منكم ميت -ما كنت بين أظهركم- إِلا آذنتموني به؛ فإِنّ صلاتي عليه له رحمة ثمّ أتى القبر فصففنا خلفه، فكبّر عليه أربعاً" (¬2). قال الإِمام أحمد -رحمه الله- ومن يشك في الصلاة على القبر؟! يروى عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ستة وجوه؛ كلّها حسان (¬3). وجاء في "المحلّى" (5/ 210 مسألة: 581): "ورُوِّينا عن معمر عن أيوب السَّخْتيَاني عن ابن أبي مليكة: مات عبد الرحمن بن أبي بكر على ستة أميال من مكَة؛ فحملناه، فجئنا به مكة. فدفناه، فقدمت علينا عائشة أمّ المؤمنين فقالت: أين قبر أخي؟ فدللناها عديه، فوضعت في هودجها عند قبره فصلت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 458، ومسلم: 956 - واللفظ له-. (¬2) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1911)، وابن ماجه واللفظ له "صحيح سنن ابن ماجه" (1239). (¬3) انظر -للمزيد من الفوائد- "الإِرواء" (3/ 183).

عليه! .. وعن ابن عمر: أنّه قدم وقد مات أخوه عاصم، فقال: أين قبر أخي؟ فدُل عليه؛ فصلّى عليه ودعا له. وعن علي بن أبي طالب: أنّه أمر قَرَظَةَ بن كعب الأنصاري أن يصلّي على قبر سهل بن حُنَيْفِ بقوم جاءوا بعد ما دفن وصُلِّي عليه. وعن علي بن أبي طالب أيضاً: أنّه صلّى على جنازة بعد ما صُلِّي عليها. وأن أنس بن مالك صلّى على جنازة بعدما صُلّي عليها. وعن ابن مسعود نحو ذلك. وعن سعيد بن المسيَّب إِباحة ذلك. وعن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد: أنّه صلّى على جنازة بعدما صلِّي عليها. وعن قتادة: أنّه كان إِذا فاتته الصلاة على الجنازة صلّى عليها. فهذه طوائف من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف. وأمّا أمر تحديد الصلاة بشهر أو ثلاثة أيام؛ فخطأ لا يشكل؛ لأنّه تحديد بلا دليل؛ ولا فرق بين من حد بهذا، أو من حد بغير ذلك". السابع: من مات في بلد ليس فيها من يصلّي عليه صلاةَ الحاضر، فهذا يُصلّي عليه طائفة من المسلمين صلاة الغائب؛ لصلاة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على النّجاشيّ. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي في اليوم

الذي مات فيه، خرج الى المصلّى؛ فصفّ بهم وكبّر أربعاً" (¬1). قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 249 - مسألة: 610): "ويصلى على الميت الغائب بإِمام وجماعة؟ قد صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على النجاشي -رضي الله عنه- ومات بأرض الحبشة؛ وصلّى معه أصحابه عليه صفوفاً، وهذا إِجماع منهم لا يجوز تعدّيه". قال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 118): "واعلم أنّ هذا الذي ذكرناه من الصلاة على الغائب: هو الذي لا يتحمّل الحديث غيره، ولهذا سبقَنا إِلى اختياره ثُلّةٌ من مُحقّقي المذاهب، وإليك خلاصةً من كلام ابن القيم -رحمه الله- في هذا الصدد؟ قال في "زاد المعاد" (1/ 205 و206): "ولم يكن من هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسُنته الصلاة على كلّ ميت غائب؛ فقد مات خلْق كثير من المسلمين وهم غُيَّبٌ، فلم يصلّ عليهم، وصحّ عنه أنّه صلّى على النجاشي صلاته على الميت، فاخْتُلِفَ في ذلك على ثلاثة طرق: 1 - أنّ هذا تشريع وسنّة للأمّة الصلاة على كلّ غائب. وهذا قول الشافعي وأحمد. 2 - وقال أبو حنيفة ومالك: هذا خاص به، وليس ذلك لغيره. 3 - وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "الصواب: أنّ الغائب إِن مات ببلدٍ لم يُصَلَّ عليه فيه، صُلّي عليه صلاةَ الغائب، كما صلّى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على النجاشي؛ لأنه مات بين الكُفار ولم يصلَّ عليه. وإنْ صُلّي عليه -حيث مات- لم يصلَّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1245، ومسلم: 951، وتقدّم.

هل يصلى على العضو إذا لم يوجد غيره؟

عليه صلاة الغائب؛ لأنّ الفرض سقط بصلاة المسلمين عليه، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى على الغائب وتَرَكَهُ، وفِعْلُهُ وتَرْكُه سُنّة، وهذا له موضع، والله أعلم. والأقوال ثلاثة في مذهب أحمد، وأصحُّها هذا التفصيل" .. ". قلت: ولو كانت الصلاة مشروعة على كل غائب؛ لنُقل إِلينا صلاة الصحابة -رضي الله عنهم- الذين لم يتمكّنوا من الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولُنقِل إِلينا كذلك صلاة الأئمة الأعلام من بعدهم على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه -رضي الله عنهم-. هل يُصلّى على العضو إِذا لم يُوجَدْ غيره؟ اختلف العلماء فيما إِذا وُجد عُضو من الميت، هل يصلّ عليه أم لا؟ فقالت طائفة: يصلّ عليه، وهو قول الإِمامين: الشافعى وأحمد -رحمهما الله تعالى-. وقالت طائفة: لا يصلّى عليه. والراجح: هو الصلاة عليه؛ لأن ذَهاب بعض الميت لا يعني ذَهاب حرمة ما بقي. جاء في "الأوسط" (5/ 411): "قال أبو بكر [هو: ابن المنذر]: لعلّ من حجّة من رأى لا يصلّى على العضو؛ أن يقول: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[صلى] الصلاة على الميت، والصلاة على الميت سُنّة، ولا سُنّة تثبت في الصلاة على بعض البدن، فيُصلّي حيث صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويقف عن الصلاة فيما لا سنّة فيه.

تحريم الصلاة والاستغفار والترحم على الكفار والمنافقين:

ومن حُجّة من يرى الصلاة على العضو يوجد: أن حرمة المسلم واحدة في كل جسده، فإِذا ذهب بعضه لم تذهب حرمة ما بقي، ويجب أن يفعل فيما بقي من بدنه -من الغسل والصلاة والدفن- سُنّة الموتى. والله أعلم ... ". وجاء في "المحلّى" (5/ 205 - تحت المسألة: 580): "ويصلّى على ما وُجِدَ من الميت المسلم: ولو أنّه ظُفُرٌ أو شعرٌ فما فوق ذلك، ويُغَسَّلُ ويُكَفَّنُ؛ إِلا أن يكون من شهيد، فلا يغسل، لكن يُلَفُّ ويدفن. ويصلّى على الميت المسلم، وإن كان غائباً لا يوجد منه شيء؛ فإِنْ وُجِدَ من الميت عضو آخر بعد ذلك أيضاً غُسل أيضاً، وكُفّن، ودُفن، ولا بأس بالصلاة عليه ثانية؛ وهكذا أبداً. برهان ذلك: أننا قد ذكرنا -قبلُ- وجوب غَسْل الميت وتكفينه ودفْنه والصلاة عليه، فصح بذلك غَسْل جميع أعضائه -قليلها وكثيرها- وستر جميعها بالكفن والدفن؛ فذلك -بلا شك- واجب في كلّ جزء؛ منه فإِذ هو كذلك؛ فواجب عمله فيما أمكن عمله فيه بالوجود متى وجد؛ ولا يجوز أن يسقط ذلك في الأعضاء المفرقة بلا برهان. وينوي بالصلاة على ما وجد منه الصلاة على جميعه: جسده وروحه". تحريم الصلاة والاستغفار والترحم على الكّفار والمنافقين: وتحرم الصلاة والاستغفار والترحُّم على الكّفار والمنافقين (¬1)، لقول الله ¬

_ (¬1) قال شيخنا -رحمه الله- في التعليق: "هم الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وإنما يتبين كُفرهم بما يترشّح من كلماتهم من الغمز في بعض أحكام الشريعة =

-تبارك وتعالى-: {ولا تُصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تَقُمْ على قبره إِنّهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} (¬1). وسبب نزول هذه الآية الكريمة: ما رواه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لمّا مات عبد الله بن أُبي ابن سلُولَ؛ دُعي له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي عليه، فلمّا قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَثَبْتُ إِليه فقلت: يا رسول الله! أتصلّي على ابن أُبيٍّ وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا -أعدّدُ عليه قوله-؟! فتبسّم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: أخّر عني يا عمر! فلمّا أكثرت عليه قال: إِنّي خيّرت فاخترت، لو أعلم أنّي إِن زدت على السبعين يُغفر له لزدت عليها، قال: فصلّى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ انصرف، فلم يمكث إِلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: {ولا تُصلِّ على أحدٍ منهم ¬

_ = واستهجانها، وزعمهم أنّها مخالفة للعقل والذوق، وقد أشار إلى هذه الحقيقة ربّنا تبارك في قوله: {أم حَسِبَ الذين في قلوبهم مرض أنْ لن يُخرج الله أضغانهم. ولو نشاء لأَريْنَاكهُم فلَعَرْفتهم بسِيمَاهُم ولَتَعْرِفَنَّهم في لَحْن القول والله يعلم أعمالكم} [محمد: 29 - 30]. وأمثال هؤلاء المنافقين كثير في عصرنا الحاضر، والله المستعان" انتهى. قلت: وهذا فيه تكفيرٌ بالقول أو الفعل، فمن قال: الشرع مخالفٌ للعقل فقد كفر، ومن قال: الشرع مخالف للذوق فقد كَفَر. وبهذا فلا يُصلى على أمثال هؤلاء، نسأل الله -تعالى- حُسن الختام. وفي هذا نقْض صريح لمذهب المرجئة البدعي الخبيث. (¬1) التوبة: 84.

هل يصلى على قتلى المسلمين إذا اختلطوا بالمشركين؟!

مات أبداً} إِلى: {وهم فاسقون}. قال: فعجبت -بُعْدَ- من جُرْأتي على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ، والله ورسوله أعلم" (¬1). وعن المسيَّب بن حزْن قال: لمّا حَضَرت أبا طالب الوفاةُ؛ جاءه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوجدَ عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أميةَ بنَ المغيرة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا عمّ! قل: لا إِله إِلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملّة عبد المطلب؟! فلم يزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرضها عليه، ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب -آخرَ ما كّلمهم-: هو على ملّة عبد المطلب، وأَبى أنْ يقول: لا إِله إِلا الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما والله لأستغفرنّ لك؛ ما لم أُنْهَ عنك. فأنزل الله -عزّ وجلّ-: {ما كان للنّبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قُرْبى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم}، وأنزل الله -تعالى- في أبي طالب، فقال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {إِنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} " (¬2). هل يُصلّى على قتلى المسلمين إِذا اختلطوا بالمشركين؟! جاء في "الأوسط" (5/ 424): "اختلف أهل العلم في قتلى المسلمين والمشركين، إِذا اختلطوا ولم يتميّزوا: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1366، 4671. (¬2) أخرجه البخاري: 6681، 4675، ومسلم: 24 - واللفظ له-.

وجوب الجماعة في صلاة الجنازة:

فكان الشافعي يقول: يُصلّي عليهم ويَنْوي بالصلاة المسلمين. وقال ابن الحسن: إِن كان الموتى كُفّاراً وفيهم رجل من المسلمين؛ لم يصلِّ عليهم، وإن كانوا مسلمين فيهم الكافر أو الاثنين؛ استحسنَّا الصلاة عليهم. وبقول الشافعي نقول. وقد اعتل الشافعي لقوله؛ فقال: لئن جازت الصلاة على مائة مسلم فيهم مشرك؛ لَتَجُوزَنَّ على مائة مشرك فيهم مسلم. وصدَق الشافعي؛ لأنّ الإِمام والمأموم في الحالين إِنما ينوون المسلم والمسلمين" انتهى. قلت: وممّا يقوّي قول الإِمام الشافعي -رحمه الله-: أن للنيّة اعتباراً؛ إِذ هي شرط من شروط الصلاة؛ فإِن عدم نيّة الصلاة على المشرك تجعلنا نقول: إِنّه لم يُصلِّ عليه وإنْ جعَله أمامه؛ ولا سبيل إِلا هذا، والله -تعالى- أعلم. وجوب الجماعة في صلاة الجنازة: وتجب الجماعة في صلاة الجنازة، كما تجب في الصلوات المكتوبة؛ بدليلين: الأول: مداومة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها. الآخر: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلّوا كما رأيتموني أُصلّي" (¬1). ولا يُعَكِّر على ما ذكرنا صلاةُ الصحابة -رضي الله عنهم- على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فُرادى لم يؤمّهم أحدٌ؛ لأنها قضية خاصّة، لا يُدْرَى وجهها، فلا يجوز من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 631، وتقدّم في "كتاب الصلاة".

أقل ما ورد في انعقاد الجماعة:

أجلها أن نترك ما واظب عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طيلة حياته المباركة، لا سيّما والقضية المذكورة لم تَرِد بإِسناد صحيح تقوم به الحُجّة، وإن كانت رويت من طُرقٍ يقوّي بعضها بعضاً؛ فإِنْ أمكن الجمع بينها وبين ما ذكرنا من هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التجميع في الجنازة فبها؛ وإِلا فهديه هو المُقَدَّم؛ لأنه أثبت وأهدى. فإِنْ صلَّوا عليها فُرادى سقط الفرض، وأثموا بترك الجماعة. والله أعلم. وقال النّووي في "المجموع" (5/ 314): "تجوز صلاة الجنازة فرادى بلا خلاف، والسنة أن تصلّى جماعةً؛ للأحاديث المشهورة في "الصحيح" في ذلك؛ مع إِجماع المسلمين". أقل ما ورَد في انعقاد الجماعة: وأقلّ ما ورَد في انعقاد الجماعة فيها ثلاثة؛ فعن عبد الله بن أبي طلحة: "أنّ أبا طلحة دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى عُمير بن أبي طلحة حين توفّي، فأتاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلّى عليه في منزلهم، فتقدّم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان أبو طلحة وراءه، وأمّ سليم وراء أبي طلحة، ولم يكن معهم غيرهم" (¬1). انتفاع الميت بكثرة المصلين إِذا كانوا موحِّدين حقّاً: وكُلَّما كثر الجمع كان أفضل للميت وأنفع، فعن عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من ميت يُصلّي عليه أُمّة من المسلمين -يبلغون مائةً- كُلهم يشْفعون له؛ إِلا شُفِّعوا فيه" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم، وعنه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- على شرط مسلم. (¬2) أخرجه مسلم: 947.

صلاة النساء على الجنازة:

وقد يُغفر للميت ولو كان العدد أقلّ من مائة؛ إِذا كانوا مسلمين، لم يخالط توحيدَهم شيءٌ من الشرك. فعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً؛ إِلا شفَّعهم الله فيه" (¬1). صلاة النساء على الجنازة: للمرأة أن تصلّي على الجنازة كالرجل؛ لعموم النصوص الواردة في ذلك. عن عبّاد بن عبد الله بن الزبير: "أنّ عائشة أمرت أن يُمَرَّ بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد، فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع ما نسِي الناس! ما صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سهيل ابن البيضاء إِلا في المسجد" (¬2). تسوية الصفوف في صلاة الجنازة: ويجب تسوية الصفوف حين يُصلّى على الجنائز؛ كما تسوّى في صلاة الفريضة، بل وفي كل صلاة جماعة؛ لعموم الأدلة الواردة في ذلك؛ ولا دليل على التفريق. قال شيخنا -رحمه الله- (ص 128): "وإذا لم يوجد مع الإِمام غير رجل واحد، فإِنه لا يقف حِذاءه كما هو السنّة في سائر الصلوات، بل يقف خلف ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 948. (¬2) أخرجه مسلم: 973.

من هو الأحق بالإمامة؟

الإِمام، للحديث المتقدّم: " .. فتقدّم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان أبو طلحة وراءه، وأمّ سُلَيْمٍ وراء أبي طلحة، ولم يكن معهم غيرهم". من هو الأحقّ بالإمامة؟ والوالي أو نائبه أحقُّ بالإِمامة فيها من الوليّ. عن أبي حازم قال: "إِني لشاهد يوم مات الحسن بن علي؛ فرأيت الحسين ابن عليّ يقول لسعيد بن العاص -ويطعن في عنقه ويقول-: تقدّم؛ فلولا أنّها سنّة ما قدّمتك (وسعيد أمير على المدينة يومئذ، وكان بينهم شيءٌ) " (¬1) انتهى. وقال الحسن: أدركت الناس، وأَحقُّهم على جنائزهم مَن رَضوهم لفرائضهم (¬2). وجاء في "المحلّى" (5/ 213 - تحت المسألة: 584): "ومن طريق وكيع عن الربيع عن الحسن: كانوا يُقَدِّمُون الأئمة على جنائزهم، فإِن تدارؤا (¬3)؛ فالوليّ ثم الزوج (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم، والبزار، والطبراني في "المعجم الكبير"، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 129). (¬2) رواه البخاري معلّقاً (كتاب الجنائز -باب- 56). (¬3) أي: تدافعوا في الخصومة. (¬4) لكن ابن حزم -رحمه الله- يرى أنّ أحقّ الناس بالصلاة على الميت والميتة: الأولياء؛ وهم: الأب وآباؤه، والابن وأبناؤه، ثمّ الإِخوة الأشقاء، ثمّ الذين للأب، ثمّ بنوهم، ثمّ الأعمام للأب والأم، ثمّ للأب ثمّ بنوهم، ثمّ كل ذي رحم محرمة؛ إِلا أن =

فإِنْ لم يحضر الوالي أو نائبه؛ فالأحقُّ بالإِمامة أقرؤُهم لكتاب الله، ثمّ على الترتيب الذي ورد ذكره في حديث أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يؤم القوم أقرؤُهم لكتاب الله، فإِن كانوا في القراءة سواءً، فأعلمهم بالسُّنّة، فإِن كانوا في السّنة سواءً؛ فأقدمهم هجرة، فإِن كانوا في الهجرة سواء؛ فأقدمهم سِلْماً (¬1)، ولا يُؤَمَّنَ الرّجلُ في سلطانه، ولا يُقْعَدْ في بيته على تكْرِمَتِهِ (¬2) إِلا بإِذنه" (¬3). ويؤمهم الأقرأ ولو كان غُلاماً لم يبلغ الحلم؛ لحديث عمرو بن سَلِمَةَ: "أنهم (¬4) وفدوا إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلمّا أرادوا أن ينصرفوا قالوا: يا رسول الله! من يؤمنا؟ قال: أكثركم جمعاً للقرآن -أو أخذاً للقرآن-، قال: فلم يكن أحد من القوم جمع ما جمعته. قال: فقدَّموني وأنا غلام، وعليّ شَمْلة لي، فما شهدت مَجْمعاً من جَرْمٍ إلاَّ كنت إِمامهم، وكنت أصلي على جنائزهم إِلى يومي هذا" (¬5). ¬

_ = يوصي الميت أن يصلّي عليه إِنسان؛ فهو أولى؛ ثم الزوج، ثمّ الأمير أو القاضي. (¬1) سِلماً؛ أي: إسلاماً. (¬2) تكرِمته؛ قال العلماء: التكرمة: الفراش ونحوه ممّا يُبسط لصاحب المنزل ويُخصّ به. "النووي". (¬3) أخرجه مسلم: 673. (¬4) أي: قومه. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (548).

هذا؛ وقد وجَدْت ابن المنذر يقول بقول شيخنا -رحمهما الله تعالى-. جاء في "الأوسط" (5/ 398) تحت باب (ذِكر الوالي والولي يحضران الصلاة على الجنازة): "اختلف أهل العلم في صلاة الأمير أو الإِمام على الجنازة ووليُّها حاضر: فقال أكثر أهل العلم: الإِمام أحقّ بالصلاة عليها من الولي؛ رُوِّينا عن علي ابن أبي طالب أنّه قال: الإِمام أحقّ مَن صلّى على الجنازة، وليس بثابت عنه. وهذا قول علقمة والأسود وسُوَيْدِ بن غَفَلَةَ والحسن البصري وبه قال جماعة من المتقدمين، وقال مالك: الولي أحق، وكذلك قال أحمد وإسحاق. وقال أصحاب الرأى: إمام الحي أحق بالصلاة عليه". وفيه قول ثانٍ قاله الشافعي، قال: "الولي أحق بالصلاة من الوالي". وقد رُوِّينا عن الضحاك أنه قال لأخيه عند موته: لا يصلين عليّ غيرك، ولا تَدَعَنَّ الأمير يصلّي عليّ، واذكر منّي ما علمت. قال ابن المنذر -رحمه الله-: النظر يحتمل ما قاله الشافعي؛ غير أن مذهبه ومذهب عوام أهل العلم القول بالأخبار إِذا جاءت، وترْك حمْل الشيء على الظن عند وجود الأخبار. ثمّ ساق بإِسناده إِلى سالم عن أبي حازم قال: شهدت حسيناً حين مات الحسن، وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص وهو يقول: تقدّم؛ فلولا السُّنّة ما قدّمتك، وسعيد أمير المدينة. قال ابن المنذر: "وقد كان بحضرته في ذلك الوقت خلْق من المهاجرين

ماذا إذا اجتمعت جنائز متعددة من الرجال والنساء؟

والأنصار، فلمّا لم يُنكر أحد منهم ما قال؛ دلّ على أن ذلك كان عندهم حقّاً والله أعلم. وليس في هذا الباب أعلى من هذا لأنّ جنازة الحسن بن علي حضَرها عوامّ الناس من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم على ما يرى. والله أعلم. قال ابن المنذر: ودل حديث عمرو بن سلمة على ذلك [وفيه:] .. ثم سألوا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من يصلّي بنا، أو من يصلّي لنا؟ قال: يصلّي بكم -أو يصلّي لكم -أكثركم أخذاً -أو أكثرهم جمعاً- للقرآن" انتهى. قال ابن المنذر: "وهذا الحديث موافق لحديث أبي مسعود الأنصاري: "يؤم القوم أقرؤهم"، فلو لم يكن حديث الحسن بن علي موجوداً في هذا الباب، ثمّ قال قائل: يدخل في قوله: "يؤم القوم أقرأُهم" الصلوات المكتوبات، وعلى الجنائز؛ ما كان بعيداً -والله أعلم- لأن اسم الصلاة يقع على الصلاة على الميت، قال الله جل ذكره: {ولا تُصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقُم على قبره ... } (¬1) الآية. وثبتت الأخبار عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "صلّوا على صاحبكم" (¬2)، وصلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على النجاشي (¬3)، والأخبار تكثر في هذا الباب، والله أعلم". ماذا إِذا اجتمعت جنائز مُتعدِّدة من الرجال والنساء؟ وإذا اجتمعت جنائز مُتعدِّدة من الرّجال والنساء؛ صُلّي عليها صلاة واحدة، ¬

_ (¬1) التوبة: 84. (¬2) تقدّم تخريجه. (¬3) تقدّم.

جواز الصلاة على كل جنازة على حدة:

وجُعلت الذكور -ولو كانوا صِغاراً- ممّا يلي الإِمام، وجنائز الإِناث مما يلي القبلة، وفي ذلك أحاديث: الأول: عن نافع عن ابن عمر: "أنه صلّى على تسع جنائز جميعاً، فجعل الرجال يلون الإِمام، والنساء يلين القبلة، فصفّهنَّ صفاً واحداً، ووضعت جنازة أم كلثوم بنت علي امرأة عمر بن الخطاب، وابن لها -يقال له: زيد- وُضعا جميعاً، والإِمام يومئذ سعيد بن العاص، وفي الناس ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة. فوضع الغلام ممّا يلي الإِمام، فقال رجل: فأنَكرتُ ذلك، فنظرت إِلى ابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي قتادة، فقلت: ما هذا؟ قالوا: هي السُّنّة" (¬1). الثاني: عنّ عمّار مولى الحارث بن نوفل: "أنّه شهد جنازة أم كلثوم وابنها، فجُعِلَ الغلامُ ممّا يلي الإِمام [ووضِعَتِ المرأةُ وراءه، فصلّى عليها]، فأنكرت ذلك، وفي القوم ابن عباس وأبو سعيد الخُدري وأبو قتادة وأبو هريرة، [فسألتهم عن ذلك]؟ فقالوا: هذه السنّة" (¬2). جواز الصلاة على كل جنازة على حِدَة: ويجوز أن يُصَلِّيَ على كلّ واحدة من الجنائز صلاة؛ لأنّه الأصل، ولأنّ النّبيّ ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1869)، وابن الجارود في "المنتقى" وغيرهم. (¬2) أخرجه أبو داود -والسياق له- "صحيح سنن أبي داود" (2734) وغيره، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 133).

جواز الصلاة على الجنازة في المسجد:

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَل ذلك في شهداء أُحد. فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لما وقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على حمزة .. أمر به فهيِّىء إِلى القبلة، ثمّ كبّر عليه تسعاً، ثمّ جمع إِليه الشهداء، كُلّما أُتي بشهيد وضع إِلى حمزة، فصلّى عليه، وعلى الشهداء معه، حتى صلّى عليه، وعلى الشهداء اثنتين وسبعين صلاة" (¬1). قال النووي في "المجموع" (5/ 225): "واتّفقوا على أنّ الأفضل أنْ يفرد كلَّ واحد بصلاة إِلا صاحب "التتمة" فجزم بأنّ الأفضل أن يُصلّيَ عليهم دفعة واحدة، لأنّ فيه تعجيل الدفن وهو مأمور به، والمذهب الأول، لأنّه أكثر عملاً، وأرجى للقبول، وليس هو تأخيراً كثيراً". والله أعلم. جواز الصلاة على الجنازة في المسجد: وتجوز الصلاة على الجنازة في المسجد؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما توفّي سعد بن أبي وقاص؛ أرسل أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يمروا بجنازته في المسجد، فيصلّين عليه، ففعلوا، فَوَقِفَ به على حُجرهُنّ يُصلّين عليه، أُخرج به من باب الجنائز الذي كان إِلى المقاعد (¬2)؛ فبلغهنّ أنّ الناس عابوا ذلك، وقالوا: ما كانت الجنائز يُدخل بها المسجد! فبلغ ذلك عائشة فقالت: ما أسرعَ النّاسَ إِلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به! ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "معجمه الكبير"، وقال شيخنا في "أحكام الجنائز" (ص 134): "وهذا سند جيد، رجاله كلهم ثقات، وقد صرّح فيه محمد بن إِسحاق بالتحديث، فزالت شبهة تدليسه". (¬2) موضع قرب المسجد الشريف.

تفضيل الصلاة على الجنازة خارج المسجد:

عابوا علينا أن يمرّ بجنازة في المسجد؛ وما صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سهيل بن بيضاء إِلاّ في جوف المسجد" (¬1). تفضيل الصلاة على الجنازة خارج المسجد: لكنّ الأفضل الصلاة عليها خارج المسجد في مكانٍ مُعَدّ للصلاة على الجنائز؛ كما كان الأمر على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الغالب على هديه فيها، وفي ذلك أحاديث. منها: عن ابن عمر -رضي الله عنه-: "أنّ اليهود جاؤوا إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل منهم وامرأة زنيا، فأمر بهما فرجما قريباً من موضع الجنائز عند المسجد" (¬2). ومنها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه؛ خرج إِلى المصلّى، فصَفّ بهم وكبّر أربعاً" (¬3). تحريم الصلاة على الجنازة بين القبور: ولا يجوز الصلاة عليها بين القبور؛ لحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يصلّى على الجنائز بين القبور" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 973، وتقدّم. (¬2) أخرجه البخاري: 1329. (¬3) أخرجه البخاري: 1245، ومسلم: 951، وتقدّم. (¬4) أخرجه ابن الأعرابي في "معجمه"، والطبراني في "المعجم الأوسط". وقال الهيثمي في "المجمع" (3/ 36): "وإسناده حسن". =

يقف الإمام وراء رأس الرجل، ووسط المرأة:

وسألت شيخنا عن الصلاة بين القبور؟ فقال: لا يجوز؛ ما الذي أدْخَله في جُحر الضَّبِّ؟! يقف الإِمام وراء رأس الرجل، وَوَسَطِ المرأة: ويقف الإِمام وراء رأس الرجل ووسَطِ المرأة. عن أبي غالب الخيّاط قال: "صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل، فقام حِيَالَ رأسه (¬1)، ثمّ جاءوا بجنازة امرأة من قريش، فقالوا: يا أبا حمزة صلِّ عليها. فقام حِيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام على الجنازة مقامك منها، ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم، فلمّا فرغ قال: احفظوا" (¬2). وعن سَمُرة بن جُنْدُب قال: "صلّيت خلف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصلّى على أمّ كعب؛ ماتت وهي نُفَساء، فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصلاة عليها وسطها (¬3) " (¬4). ¬

_ = قال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 138): "وله طريق أخرى عن أنس عند الضياء، يتقوّى الحديث بها". (¬1) أي: قُبالته. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2735)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (826) -واللفظ له- وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1214). (¬3) بتسكين السين وفتحها. (¬4) أخرجه البخاري: 1332، ومسلم: 964 - واللفظ له-.

كم يكبر على الجنائز؟

كم يكبّر على الجنائز؟ قال شيخنا -رحمه الله-: "ويُكبّر عليها أربعاً أو خمساً، إِلى تسع تكبيرات، كُلّ ذلك ثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأيّها فعل أجزأه، والأَوْلى التنويع، فيفعل هذا تارة، وهذا تارة، كما هو الشأن في أمثاله؛ مثل أدعية الاستفتاح، وصيغ التشهد والصلوات الإِبراهيمية ونحوها". اهـ قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (22/ 70) -في معرض توجيهه المسلمين الأخذَ بجميع سنن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العبادات-: "ومنها التكبير على الجنائز؛ يجوز -على المشهور- التربيع والتخميس والتسبيع؛ وإِن اختار التربيع. وأمّا بقية الفقهاء فيختارون بعض ذلك، ويكرهون بعضه". قال شيخنا -رحمه الله- (ص 141): "وإِن كان لا بُدّ من التزام نوع واحدٍ منها؛ فهو الأربع؛ لأنّ الأحاديث فيها [أقوى و] أكثر [والمقتدي يكبّر ما كبّر الإِمام] " (¬1). وإِليك بيان ذلك: أمّا الأربع، ففيها أحاديث: 1 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه؛ خرج إِلى المصلّى، فصفّ بهم وكبّر أربعاً" (¬2). ¬

_ (¬1) ما بين معقوفين زيادة من "تلخيص أحكام الجنائز" (ص 54). (¬2) أخرجه البخاري: 1245، ومسلم: 951، وتقدّم.

2 - عن أبي أمامة (¬1) أنّه قال: "السنّة في الصلاة على الجنازة: أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مُخَافَتَةً، ثمّ يكبر ثلاثاً؛ والتسليم عند الآخرة" (¬2). 3 - عن عبد الله بن أبي أوفى قال: "إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر أربعاً" (¬3). وأما الخمس؛ فلحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "كان زيد يكبّر على جنائزنا أربعاً، وإِنّه كبّر على جنازة خمساً، فسألته؟ فقال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبّرها" (¬4) قال الترمذي: "وقد ذهب بعض أهل العلم إِلى هذا من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم-: رأوا التكبير على الجنازة خمساً. وقال أحمد وإسحاق: إِذا كبّر الإِمام على الجنازة خمساً؛ فإِنّه يُتَّبَع الإِمام". وأما الست والسبع، ففيها بعض الآثار الموقوفة، ولكنّها في حُكم الأحاديث المرفوعة؛ لأنّ بعض كبار الصحابة أتى بها على مشهد من الصحابة دون أن يعترض عليه أحد منهم. الأول: عن عبد الله بن مُغفَّل: "أنّ علي بن أبي طالب صلّى على سهل بن ¬

_ (¬1) قال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 141): "ليس هو أبا أمامة الباهلي الصحابي المشهور، بل هذا آخر معروف بكنيته أيضاً؛ واسمه أسعد -وقيل: سعد بن سعد- بن حنيف الأنصاري، معدود في الصحابة، له رؤية، ولم يسمع من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالحديث من مراسيل الصحابة، وهي حجة". (¬2) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1880). (¬3) أخرجه البيهقي بسند صحيح، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 142). (¬4) أخرجه مسلم: 957، وغيره.

حنيف، فكبّر عليه ستّاً، ثمّ التفت إِلينا، فقال: إِنه بدريٌّ". قال الشعبي: "وقدِمَ علقمة من الشام فقال لابن مسعود: إِنّ إِخوانك بالشام يُكبّرون على جنائزهم خمساً، فلو وقّتّم (¬1) لنا وقتاً نُتابعكم عليه! فأطرق عبد الله ساعة ثمّ قال: انظروا جنائزكم، فكبّروا عليها ما كبّر أئمّتكم، لا وقت ولا عدد" (¬2). الثاني: عن عَبْدِ خَيْرٍ قال: "كان عليّ -رضي الله عنه- يُكبّر على أهل بدر سِتّاً، وعلى أصحابِ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمساً، وعلى سائر الناس أربعا" (¬3). الثالث: عن موسى بن عبد الله بن يزيد: "أنّ عليّاً صلّى على أبي قتادة، فكبّر عليه سبعاً، وكان بدْريّاً" (¬4). ¬

_ (¬1) قال شيخنا -رحمه الله- في التعليق: "أي: حدّدتم لنا عدداً مخصوصاً، كما يُستفاد من "النهاية". وعليه فقوله في آخر الأثر: "ولا عدد"، تفسير وبيان لقوله: "لا وقت". (¬2) أخرجه ابن حزم في "المحلّى" بهذا التمام، وقال: "وهذا إِسناد غاية في الصحة. قال شيخنا -رحمه الله-: "وقد أخرج منه قصةَ علي -رضي الله عنه-: أبو داود في "مسائله" عن الإِمام أحمد، والطحاوى، والحاكم، والبيهقي. وسندهم صحيح على شرط الشيخين، وهي عند البخاري في "المغازي" (7/ 253) دون قوله: ستّاً ... ". (¬3) أخرجه الطحاوي، والدارقطني ومن طريقه البيهقي. وسنده صحيح رجاله ثقات كلهم، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 144). (¬4) أخرجه الطحاوي، والبيهقي بسند صحيح على شرط مسلم، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 144) للمزيد من الفوائد الحديثية.

هل يرفع يديه بعد التكبيرة الأولى؟

قال شيخنا -رحمه الله-: "فهذه آثار صحيحة عن الصحابة، تدلّ على أن العمل بالخمس والستّ تكبيرات استمر إِلى ما بعد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ خلافاً لمن ادّعى الإِجماع على الأربع فقط! وقد حقق القولَ في بطلان هذه الدعوى ابن حزم في "المحلى" (5/ 124 - 125) ". وأما التسع؛ فلحديث عبد الله بن الزبير: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى على حمزة، فكّبّر عليه تسع تكبيرات ... " (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- (ص 145): "وهذا العدد هو أكثر ما وقفنا عليه في التكبير على الجنازة، فيوقف عنده ولا يُزاد عليه، وله أن ينقص منه إِلى الأربع وهو أقل ما ورد. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في "زاد المعاد" -بعد أن ذكر بعض ما أوردنا من الآثار والأخبار-: "وهذه آثار صحيحة، فلا مُوجِبَ للمنع منها، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يمنع ممّا زاد على الأربع، بل فعله هو وأصحابه من بعده ... ". هل يرفع يديه بعد التكبيرة الأولى؟ ويُشرع له أن يرفع يديه في التكبيرة الأولى، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبّر على جنازة، فرفع يديه في أوّل تكبيرة، ووضع اليمنى على اليسرى" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، وإسناده حسن، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 106)، وتقدّم. (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (859) وغيره.

وفي "المجموع" للنووي (5/ 232): "قال ابن المنذر في كتابيه "الإِشراف" و"الإِجماع": أجمعوا على أنّه يرفع في أول تكبيرة، واختلفوا في سائرها". قال شيخنا -رحمه الله- (ص 148): "ولم نجد في السّنّة ما يدلُّ على مشروعية الرفع في غير التكبيرة الأولى؛ فلا نرى مشروعية ذلك، وهو مذهب الحنفية وغيرهم، واختاره الشوكاني وغيره من المحقّقين. وإليه ذهب ابن حزم فقال (5/ 128): "وأمّا رفع الأيدي؛ فإِنّه لم يأتِ عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه رفع في شيء من تكبيرة الجنازة إِلا في أول تكبيرة فقط، فلا يجوز فعل ذلك؛ لأنّه عمل في الصلاة لم يأْتِ به نص، وإنما جاء عنه -عليه السلام- أنّه كبّر ورفع يديه في كُلِّ خفض ورفع، وليس فيها رفع وخفض. والعجب من قول أبي حنيفة برفع الأيدي في كُلّ تكبيرة في صلاة الجنازة، ولم يأت قطُّ عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنعه من رفع الأيدي في كلّ خفض ورفع في سائر الصلوات، وقد صح عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" ... " انتهى. وجاء في "المحلّى" كذلك (5/ 260 - مسألة: 619) -بحذف-: "ولا ترفع اليدان في الصلاة على الجنازة إِلا في أول تكبيرة فقط؛ لأنّه لم يأت برفع الأيدي فيما عدا ذلك نص. وصحّ عن ابن عمر رفع الأيدي لكل تكبيرة، ولقد كان يلزم من قال بالقياس أن يرفعها في كل تكبيرة قياساً على التكبيرة الأولى". قال شيخنا -رحمه الله-: "نعم؛ روى البيهقي (4/ 44) بسند صحيح عن ابن عمر: أنّه كان يرفع يديه على كل تكبيرة من تكبيرات الجنازة. فمن كان

أين وكيف يضع يديه؟

يظنُّ أنه لا يفعل ذلك إِلا بتوقيف من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فله أن يرفع، وقد ذكر السَّرَخْسِي عن ابن عمر خلاف هذا، وذلك ممّا لا نعرف له أصلاً في كتب الحديث" انتهى. قلت: وهو أحد أقوال الإِمام مالك -رحمه الله-؛ كما روى ابن القاسم عنه (¬1). وبه يقول الشوكاني كما أشار شيخنا -رحمهما الله- فقد قال في "نيل الأوطار" (4/ 105): " .. والحاصل أنّه لم يثبت في غير التكبيرة الأولى شيء يصلح للاحتجاج به عن النّبيّ- صلّى الله عليه واممه وسلم- وأفعال الصحابة وأقوالهم لا حجة فيها (¬2)؛ فينبغي أن يقتصر على الرفع عند تكبيرة الإِحرام؛ لأنه لم يشرع في غيرها إِلا عند الانتقال من ركن إِلى ركن كما في سائر الصلوات، ولا انتقال في صلاة الجنازة". أين وكيف يضع يَدَيْهِ؟ ثمّ يضع يده اليمنى على ظهر كفّه اليُسرى والرُّسغ والساعد، ثمّ يشد بهما على صدره. عدم مشروعية دعاء الاستفتاح: وليس في صلاة الجنازة دعاء استفتاح لعدم ورود ذلك عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ¬

_ (¬1) انظر "المنتقى شرح موطأ مالك" (2/ 472). (¬2) يعني: في هذا الموضع، وإلا فهناك تفصيل حول أفعال وأقوال الصحابة -رضي الله عنهم- متى تكون حُجّة ومتى لا تكون.

قراءة الفاتحة وسورة عقب التكبيرة الأولى:

قراءة الفاتحة وسورة عقب التكبيرة الأولى: ثمّ يقرأ عقب التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب وسورة؛ لحديث طلحة بن عبد الله بن عوف قال: "صليّت خلف ابن عباس -رضي الله عنهما- على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب [وسورة، وجهر حتى أسمَعَنا، فلمّا فرغ أخذْتُ بيده، فسألته؟ فـ] قال: [إِنما جهرت] ليعلموا أنّها سنة [وحقّ] " (¬1). وجاء في "الروضة الندية" (1/ 419): "والحاصل: أن الموطن موطن دعاء لا موطن قراءة قرآن، فيتوجه الاقتصار على ما ورد وهو الفاتحة وسورة، ويكون ذلك بعد التكبيرة الأولى، ويشتغل فيما بعدها بمحض الدعاء". الإِسرار في القراءة: ويقرأُ سرّاً؛ لحديث أبي أُمامة بن سهل قال: "السنة في الصلاة على الجنازة: أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأمّ القرآن مخافتةً، ثمّ يكبّر ثلاثاً، والتسليم عند الآخرة" (¬2). الصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد التكبيرة الثانية: ثمّ يكبّر التكبيرة الثانية، ويُصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1335 وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن الجارود في "المنتقى"، والدارقطني، والحاكم، وانظر لتخريج الزيادات "أحكام الجنائز" (ص 151). (¬2) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1880) وغيره، وتقدّم.

يأتي ببقية التكبيرات ويخلص الدعاء للميت؛

فعن أبي أُمامة أنه أخبره رجل من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنّ السنّة في الصلاة على الجنازة أن يُكبّر الإِمام، ثمّ يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرّاً في نفسه، ثمّ يُصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويُخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات (الثلاث)، لا يقرأ في شيء منهنّ، ثمّ يُسلّم سرّاً في نفسه [حين ينصرف [عن يمينه]، والسنّة أن يفعل من وراءه مثلما فعَل إِمامه] " (¬1). قال شيخنا -رحمه الله-: "وأما صيغة الصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنازة؛ فلم أقف عليها في شيء من الأحاديث الصحيحة، فالظاهر أنّ الجنازة ليس لها صيغة خاصة، بل يُؤتى فيها بصيغة من الصيغ الثابتة في التشهد في المكتوبة". يأتي ببقية التكبيرات ويخلص الدعاء للميت؛ ثمّ يأتي ببقية التكبيرات، ويخلص الدعاء فيها للميت، لحديث أبى أُمامة المتقدّم، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا صليتم على الميت؛ فأخلصوا له الدعاء" (¬2). الدعاء بالثابت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأدعية: ويدعو فيها بما ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأدعية، وفي ذلك أحاديث: الأول: عن عوف بن مالك قال: صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جنازة، فحفظتُ من دعائه وهو يقول: "اللهم اغفر له وارحمه، وعافِهِ واعفُ عنه، وأكرِم نُزُلَهُ ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في "الأم"، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وشيخنا في "أحكام الجنائز" (ص 155). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2740)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1216) وغيرهما.

ووسِّعْ مُدْخَلَهُ، واغسله بالماء والثلجِ والبَرَدِ، ونقِّه من الخطايا كما نقَّيْتَ الثوب الأبيض من الدنس وأَبدِلْه داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأَدخِله الجنة، وأَعذه من عذاب القبر (أو من عذاب النّار). قال: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت" (¬1). الثاني: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا صلّى على جنازة يقول: "اللهم اغفر لحيّنا وميّتنا، وشاهِدِنا وغَائبِنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييتَه منّا فأحْيهِ على الإِسلام، ومن توفّيته منّا فتوفَّه على الإِيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تُضِلَّنا بعده" (¬2). الثالث: عن واثلة بن الأسقع قال: "صلّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رجل من المسلمين، فسمعته يقول: "اللهمّ إِنّ فلان بن فلان، في ذمّتك، فَقِهِ فِتنة القبر - قال عبد الرحمن: في ذمتك وحَبْلِ جوارك فَقِهِ من فتنة القبر- وعذاب النّار، وأنت أهل الوفاء والحمد، اللهم فاغفر له وارحمه، إِنّك أنت الغفور الرحيم" (¬3). الرابع: عن يزيد بن رُكانة بن المطَّلب قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قام للجنازة ليُصلّي عليها قال: "اللهم عبدُك وابنُ أَمَتِكِ، احتاج إِلى رحمتك، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 963. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2741)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (817)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1217). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2742)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1218)، وغيرهما.

بماذا يدعى للطفل؟

وأنت غني عن عذابه، إِن كان مُحسناً فزد في حسناته، وإن كان مُسيئاً فتجاوز عنه [ثمّ يدعو ما شاء الله أن يدعو] " (¬1). قال شيخنا -رحمه الله-: "إِيثار ما تقدّم من أدعيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما استحسنه بعض الناس: ممّا لا ينبغي أن يتردّد فيه مسلم؛ فإِنّ خير الهدى هدى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! ولذلك قال الشوكاني (4/ 55): "واعلم أنّه قد وقع في كتب الفقه ذِكر أدعيةٍ غير المأثورة عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ والتمسك بالثابت عنه أولى". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله تعالى-]: "بل أعتقد أنّه واجب على من كان على علم بما ورد عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالعدولُ عنه حينئذٍ يُخشى أن يحقّ فيه قول الله -تبارك وتعالى-: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}؟! ". بماذا يُدعى للطّفل؟ قال الحسن: "يقرأ على الطفل بفاتحة الكتاب ويقول: اللهم اجعله لنا فرطاً (¬2) وسلفاً (¬3) وأجراً" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" -بالزيادة- والحاكم وقال: "إِسناده صحيح". (¬2) فَرَطاً: أي: أجراً يتقدّمنا. "النهاية". (¬3) قال في "النهاية": "قيل هو من سَلَف المال، كأنّه قد أسلَفَه، وجعله ثمناً للأجر والثواب الذى يُجازى على الصبر عليه، وقيل: سَلَفُ الإِنسان مَن تقدَّمه بالموت من آبائه وذوي قرابته، ولهذا سُمّي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح". (¬4) رواه البخاري معلقاً (كتاب الجنائز) (باب - 65) ووصله عبد الوهاب بن عطاء في "كتاب الجنائز" بإِسناد صحيح عنه، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 314) لشيخنا -رحمه الله-.

كم تسليمة يسلم الإمام؟

وقال شيخنا -رحمه الله- (ص160): "قال الشوكاني في "نيل الأوطار" (4/ 55): "إِذا كان المُصلَّى عليه طفلاً؛ استُحبّ أن يقول المصلي: اللهم اجعله لنا سلفاً وفَرَطاً وأجراً". روى ذلك البيهقيُّ من حديث أبي هريرة، وروى مثله سفيان في "جامعه" عن الحسن. قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: حديث أبي هريرة عند البيهقي إِسناده حسن، ولا بأس في العمل به في مثل هذا الموضع -وإِن كان موقوفاً- إِذا لم يُتّخذ سُنّة، بحيث يؤدي ذلك إِلى الظنّ أنه عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والذي أختاره: أن يدعو في الصلاة على الطفل بالنوع (الثاني) [اللهم اغفر لحيّنا وميّتنا]؛ لقوله فيه: "وصغيرنا .. اللهمّ لا تحرمنا أجره، ولا تُضِلَّنا بعده" ... ". والدُّعاء بين التكبيرة الأخيرة والتسليم مشروع؛ لحديث أبي يعفور عن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: "شهدته وكبر على جنازة أربعاً، ثمّ قام ساعةً -يعني- يدعو، ثمّ قال: أَتَرَوْنِي كنت أكبِّر خمساً؟ قالوا: لا. قال: إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُكبّر أربعاً" (¬1). كم تسليمةً يسلّم الإِمام؟ ثمّ يسلّم تسليمتين مثل تسليمه في الصلاة المكتوبة؛ إِحداهما عن يمينه والأخرى عن يساره. فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ثلاث خلالٍ كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعلُهُنّ -تركهُنّ الناس-: إِحداهنّ التسليم على الجنازة مثل التسليم في ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي بسندٍ صحيح.

جواز الاقتصار على التسليمة الأولى:

الصلاة" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله-: "وقد ثبت في "صحيح مسلم" (¬2) وغيره عن ابن مسعود: أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلّم تسليمتين في الصلاة. فهذا يُبيّن أنّ المراد بقوله في الحديث الأول: مثل التسليم في الصلاة؛ أي: التسليمتين المعهودتين". جواز الاقتصار على التسليمة الأولى: ويجوز الاقتصار على التسليمة الأولى فقط. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى على جنازة، فكبّر عليها أربعاً، وسلّم تسليمة واحدة" (¬3). الإِسرار في التسليم وإِسماع من يليه: والسّنة أن يُسلّم في الجنازة سرّاً: الإِمام ومن وراءه في ذلك سواءٌ. فعن أبي أُمامة: "أنّه أخبرَه رجل من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .. وفيه: .. ثمّ يسلّم سرّاً في نفسه حين ينصرف" (¬4)، والسّنة أن يفعل من وراءه مثلما فعل ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي بإِسناد حسن، وقال النووي: "إِسناده جيد". (¬2) برقم: 582. (¬3) أخرجه الدارقطني، والحاكم، وقال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 163): "وإسناده حسن، كما بينته في "التعليقات الجياد". (¬4) أخرجه الشافعي في "الأم" وغيره، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- (ص 155)، وتقدّم.

إِمامه" (¬1). وله شاهد موقوف عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنّه: "كان يسلّم في الجنازة تسليمة خفيّة" (¬2). وعن عبد الله بن عمر: أنّه "كان إِذا صلّى على الجنائز؛ يسلم حتى يُسمع من يليه" (¬3). وعن عقبة بن عامر الجُهَنِيِّ قال: "ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينْهانا أنْ نصلّيَ فيهنّ، أو أنْ نقبر فيهنّ موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تَضَّيَّفُ الشمس للغروب حتى تغرب" (¬4). وزاد البيهقي: "قال: قلت لعقبة: أَيُدْفَنُ بالليل؟ قال: نعم؟ قد دُفن أبو بكر بالليل" (¬5). قال شيخنا -رحمه الله تعالى- (ص165): "الحديث -بعمومه- يشمل الصلاة على الجنازة، وهو الذي فهمه الصحابة، فروى مالك في "الموطأ" ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعيّ في "الأمّ"، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 155)، وتقدّم. (¬2) أخرجه البيهقي وإسناده حسن. (¬3) أخرجه البيهقي، وإسناده صحيح. (¬4) أخرجه مسلم: 831، وغيره، وتقدم في "كتاب الصلاة" من "الموسوعة". (¬5) وإسناده صحيح.

المسبوق في صلاة الجنازة:

(1/ 228) ومن طريقه البيهقي عن محمد بن أبي حرملة: أن زينب بنت أبي سلمة توفّيت؛ وطارقٌ أمير المدينة، فأُتي بجنازتها بعد صلاة الصبح، فوضعت بالبقيع قال: وكان طارق يغلِّس بالصبح. قال ابن أبي حرملة: فسمعت عبد الله ابن عمر يقول لأهلها: إِمّا أن تُصلّوا على جنازتكم الآن، وإِما أن تتركوها حتى ترتفع الشمس. وسنده صحيح على شرط الشيخين. ثمّ روى مالك عن ابن عمر قال: يُصلّى على الجنارة بعد العصر وبعد الصبح إِذا صُلّيتا لوقتهما. وسنده صحيح أيضاً. وروى البيهقيُّ بسند جيد عن ابن جُريج: أخبرني زياد: أنّ عليّاً أخبره: أن جنازة وُضعت في مقبرة أهل البصرة حين اصفرّت الشمس، فلم يُصلَّ عليها حتى غربت الشمس، فأمر أبو برزة المناديَ ينادي بالصلاة، ثمّ أقامها، فتقدّم أبو برزة، فصلّى بهم المغرب؛ وفي الناس أنس بن مالك وأبو برزة من الأنصار من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ثمّ صلّوا على الجنازة". المسبوق في صلاة الجنازة: مسبوق صلاة الجنازة كمسبوق الصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " .. فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا" (¬1). قال الحسن: "إِذا انتهى إِلى الجنازة وهم يُصلّون؛ يدخل معهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 908، ومسلم: 602.

التيمم للصلاة على الجنازة:

بتكبيرة" (¬1). وقال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 263 - مسألة: 623): "ومن فاته بعض التكبيرات على الجنازة؛ كَبَّر ساعة يأتي، ولا ينتظر تكبيرة الإِمام، فإِذا سلم الإِمام أتم هو ما بقي من التكبير، يدعو بين تكبيرة وتكبيرة كما كان يفعل مع الإِمام؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيمن أتى إِلى الصلاة أن يصلّي ما أدرك، ويتم ما فاته؛ وهذه صلاة". التيمُّم للصلاة على الجنازة: قال الحسن -رحمه الله-: "إِذا أحدث يوم العيد أو عند الجنازة؛ يَطْلُبُ الماء ولا يتيمّم" (¬2). وجاء في "مجموع الفتاوى" (23/ 171): " .. وابن عباس جوّز التيمم للجنازة عند عدم الماء. وهذا قول كثير من العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إِحدى الروايتين، فدل على أن الطهارة تشترط لها عنده". وسألت شيخنا -رحمه الله- هل يتيمّم من خشي أن تفوته صلاة الجنازة مع الجماعة؟ فأجاب: نعم؛ يتيمّم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري معلقاً (كتاب الجنائز) (باب - 56)، ووصله ابن أبي شيبة بسند صحيح، والحسن: هو البصري، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 312). (¬2) رواه البخاري معلقاً (كتاب الجنائز) (باب 56).

الدفن وتوابعه

الدفن وتوابعه ويجب دفن الميت -أي: مواراة جيفته- في حفرة؛ بحيث لا تنبشه السباع، ولا تخرجه السيول المعتادة، ولا خلاف في ذلك، وهو ثابت في الشريعة ثبوتاً ضروريّاً" (¬1). وقال شيخنا -رحمه الله- في وجوب دفنه: " .. ولو كان كافراً"، وفي ذلك حديثان: الأول: عن جماعة من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -منهم أبو طلحة الأنصاري، والسياق له-: "أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش (¬2)، فقُذفوا في طَوِيٍّ (¬3) -من أطواء بدر- خبيث مُخِبث" (¬4). الثاني: عن علي -رضي الله عنه- قال: قلت للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنّ عمّك الشيخ الضال قد مات، قال: "اذهب فوارِ أباك، ثمّ لا تحْدِثَنَّ شيئاً حتى تأتيني. فذهبت فواريته وجئته، فأمرني فاغتسلت، ودعا لي" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "الروضة الندية" (1/ 439). (¬2) صناديد قريش: هم أشرافهم وعظماؤهم ورؤساؤهم. وكل عظيم غالب: صِنديد. "النهاية"، وتقدّم. (¬3) هي البئر المطوية بالحجارة. "النووي". (¬4) أخرجه البخاري: 3976، ومسلم: 2875. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2753)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1895) وغيرهما، وتقدّم.

إذا ماتت المرأة وفي بطنها ولد حي:

قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 174 - مسألة: 564): "ودفْن الكافر الحربي وغيره فرض". إِذا ماتت المرأة وفي بطنها ولد حيّ: إِذا ماتت امرأة حامل والولد حيّ يتحرّك؛ فإِنّه يجب إِخراجه (¬1)، قال الله - تعالى-: {ومَن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعاً} (¬2). ومن تركه عمداً حتى يموت؛ فهو قاتل نفس. لا يُدْفَنُ المسلم مع الكافر، ولا الكافر مع المسلم: ولا يدفن مسلم مع كافر، ولا كافر مع مسلم، بل يُدفن المسلم في مقابر المسلمين، والكافر في مقابر المشركين، كذلك كان الأمر على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستمر إِلى عصرنا هذا. فعن بَشِيرِ ابن الخَصَاصِيَةَ؟ قال: بينما أنا أمشي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمرَّ على مقابر المسلمين، فقال: أدرك هؤلاء خيراً كثيراً، ثمّ مرّ على مقابر المشركين، فقال: سبق هؤلاء خيراً كثيراً، قال: فالتفت فرأى رجلاً يمشي بين المقابر في نعليه، فقال: يا صاحب السِّبتيّتين! ألْقهما" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ما قاله ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 245 - تحت المسألة: 607). (¬2) المائدة: 32. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2767)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1935)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1274).

الدفن في المقبرة:

الدفن في المقبرة: والسّنّة الدفن في المقبرة؛ لأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن الموتى في مقبرة البقيع، كما تواترت الأخبار بذلك، وتقدّم بعضها في مناسبات شتى؛ أقربها حديث ابن الخصاصية، كما في المسألة السابقة، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه دُفِنَ في غير المقبرة؛ إِلا ما تواتر أيضاً أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُفِنَ في حجرته، وذلك من خصوصياته -عليه الصلاة والسلام-". فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما قُبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً ما نسيته قال: "ما قبض الله نبيّاً إلاَّ في الموضع الذي يحبّ أن يدفن فيه"، فدفنوه في موضع فراشه" (¬1). وجاء في "المغني" (2/ 388): "والدفن في مقابر المسلمين أعجب إِلى أبي عبد الله من الدفن في البيوت؛ لأنّه أقل ضرراً على الأحياء من ورثته، وأشبه بمساكن الآخرة، وأكثر للدعاء له والترحم عليه، ولم يزل الصحابة والتابعون ومن بعدهم يقبرون في الصحارى. فإِن قيل: فالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبر في بيته وقبر صاحباه معه؟ قلنا: قالت عائشة: إِنما فعل ذلك لئلا يتخذ قبره مسجداً: رواه البخاري. ولأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن أصحابه بالبقيع، وفعله أولى من فعل غيره، وإنما رأوا تخصيصه بذلك، ولأنّه روي: "يدفن الأنبياء حيث يموتون"، وصيانةً لهم عن كثرة الطُّرَّاق، وتمييزاً له عن غيره". ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (812)، وابن ماجه وغيرهما.

يدفن شهداء المعركة في مواطن استشهادهم:

يُدفن شهداء المعركة في مواطن استشهادهم: ويستثنى ممّا سبق الشهداء في المعركة؛ فإِنهم يُدفنون في مواطن استشهادهم، ولا يُنقلون إِلى المقابر. فعن جابر -رضي الله عنه- قال: "خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة إِلى المشركين ليُقاتلهم، وقال أبي -عبد الله-: يا جابر بن عبد الله! لا عليك أن تكون في نَِظاري أهل المدينة حتى تعْلَم إِلى ما يصير أمرنا؛ فإِنّي والله -لولا أنّي أترك بناتٍ لي بعدي؛ لأحببتُ أن تُقتل بين يديّ، قال: فبينما أنا في النِّظارين إِذ جاءت عمتي بأبي وخالي عَادِلَتَهُما (¬1) على ناضح، فدخلتْ بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا؛ إِذ لحِقَ رجل ينادي: ألا إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمركم أنْ تَرْجِعُوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قُتلت، فرجعنا بهما، فدفنّاهما حيث قُتلا" (¬2). الأوقات التي لا يجوز فيها الدفن: ولا يجوز الدفن في الأوقات الثلاثة الآتية أو الليل؛ إِلا لضرورة: أ- أمّا الدفن في الأوقات الثلاثة المشار إِليها؛ فلحديث عقبة بن عامر بلفظ: "ثلاثُ ساعاتٍ كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلّي فيهن، أو أن نقبر فيهنّ موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى ¬

_ (¬1) "أي: شادَّتهما على جنْبَي البعير كالعِدْلين". "النهاية". (¬2) أخرجه أحمد بسند صحيح، وبعضه عند أبي داود وغيره مختصراً، وتقدّم.

تميل الشمس، وحين تَضَّيَّفُ الشمس للغروب حتى تغرب" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله-: "والحديث ظاهر الدلالة على ما ذكرنا، وقد ذهب إِلى ذلك ابن حزم في "المحلّى" (5/ 114 - 115) وغيره من العلماء". ب- وأمّا النهي عن الدفن في الليل؛ فلحديث جابر بن عبد الله: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوماً، فذكر رجلاً من أصحابه قبض، فكُفّنَ في كفنٍ غير طائل (¬2) وقُبر ليلاً، فزجر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنْ يُقبر الرّجل بالليل حتى يُصَلِّى عليه (¬3)؛، إِلا أن يُضطرّ إِنسان إِلى ذلك، وقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذا كفّن أحدكم أخاه؛ فليُحسّن كفَنُه" (¬4). قال شيخنا -رحمه الله- (ص 177): "والحديث ظاهر الدلالة على ما ذكرنا، وهو مذهب أحمد -رحمه الله- في رواية عنه، ذَكَرها في "الإِنصاف" (2/ 547)، قال: "لا يفعله إِلا لضرورة، وفي أخرى عنه: يُكْرَه". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: والأوّل أقرب؛ لظاهر قوله: (زجر)؛ فإِنّه أبلغ في النهي من لفظ: (نهى) الذي يمكن حمْله على الكراهة، على أنّ الأصل فيه التحريم، ولا صارف له إِلى الكراهة. وقال -رحمه الله- في الصفحة نفسها: .. فإِنْ جاز ليلاً لضرورةٍ جاز نهاراً ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه. (¬2) غير طائل؛ أي: حقير غير كامل الستر. "شرح النووي". (¬3) أي: يصلّى عليه نهاراً؛ لكثرة الجماعة، كما قال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 178). (¬4) أخرجه مسلم: 943، وتقدّم.

جواز الدفن ليلا عند الاضطرار

من أجلها ولا فرق، فما فائدة التقييد بـ (الليل) حينئذ؟ لا شكّ أنّ الفائدة لا تظهر بصورة قويّةٍ إِلا إِذا رجّحنا ما استظهرناه أولاً من عدم جواز الدفن ليلاً. وبيان ذلك: أنّ الدفن في الليل مَظِنَّةٌ قلّة المُصلّين على الميت، فنهى عن الدفن ليلاً حتى يُصلّى عليه نهاراً؛ لأنّ الناس في النهار أنشط في الصلاة عليه، وبذلك تحصل الكثرة من المصلّين عليه، هذه الكثرة التي هي من مقاصد الشريعة، وأرجى لقبول شفاعتهم في الميت" انتهى. قلت: أمّا إِذا خِيف تغيُّر الميت؛ فإِنّه يُدفن في الأوقات التي تقدّم النهي عنها؛ كما ذكَر أهل العلم. وسألتُ شيخنا -رحمه الله-: إِذا خيف تغيّر الميت؛ فهل ترون دفنْه في الأوقات المنهيّ عنها للضرورة؛ رعاية لحرمته وعدم إِيذاء حامله؟ فأجاب: "نعم؛ إِذا غَلَب الظنّ على ذلك". جواز الدفن ليلاً عند الاضطرار فإِن اضطُرُّوا لدفنه ليلاً؛ جاز ولو مع استعمال المصباح والنّزول به في القبر، لتسهيل عملية الدفن. فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدخل رجلاً قبره ليلاً، وأسْرَج في قبره" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1234)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (178).

وجوب تعميق القبر وتوسيعه:

وجوب تعميق القبر وتوسيعه: ويجب إِعماق القبر وتوسيعه وتحسينه؛ وفيه حديثان: الأوّل: عن هشام بن عامر قال: جاءت الأنصار إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أُحد؛ فقالوا: أصابنا قَرْحٌ وجَهْد، فكيف تأمرنا؟ قال: "احفروا وأوسعوا، واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر. قيل: فأيُّهم يُقدّم؟ قال: أكثرهم قرآناً" (¬1). الثاني: عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جنازة، فرأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على القبر يوصي الحافر: "أوسع من قِبَل رجليه، أوسِعْ من قِبَل رأسه" (¬2). تفضيل اللحد على الشقّ: ويجوز في القبر اللحد (¬3) والشقّ (¬4)؛ لجَرَيان العمل عليهما في عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكنّ الأوّل أفضل. فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "لما توفي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ كان بالمدينة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2754)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1899)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1400)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1266). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2850) وغيره. (¬3) اللحد: الشقُّ الذي يُعمل في جانب القبر لموضع الميّت؛ لأنّه قد أُميل عن وسط القبر إِلى جانبه، وأصل الإِلحاد: الميل والعدول عن الشيء". "النهاية" ملتقطاً. (¬4) هو الحفر إِلى أسفل كالنّهر.

رجل يَلْحد وآخر يَضْرح (¬1)، فقالوا: نستخير ونبعث إِليهما، فأيُّهما سُبِق تركناه، فأرسل إِليهما، فسبق صاحب اللحد؛ فلحدوا للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬2). وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص: أن سعد بن أبي وقاص قال في مرضه الذي هلك فيه: "الحَدوا لي لحْداً، وانصِبُوا عليّ اللّبِنَ نَصْباً، كما صُنع برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللّحْدُ لنا، والشِّقُّ لغيرنا" (¬4). جاء في "الروضة الندية" (1/ 439): "ولا بأس بالضَّرح؛ واللحد أولى؛ لأنّ اللحد أقرب من إِكرام الميت. وإهالةُ التراب على وجهه من غير ضرورة سوءُ أدب". وجاء في "الأوسط" (5/ 451): "وكان الشافعيّ يقول: "إِذا كانوا بأرضٍ شديدة؛ لُحِد لهم، وإن كانوا ببلادٍ رقيقة؛ شُقّ لهم شقّاً". قال ابن المنذر -رحمه الله-: "الذي قال الشافعي حسن". ¬

_ (¬1) أي: يعمل الضريح وهو القبر، فعيل بمعنى (مفعول)، من (الضرح): الشقّ في الأرض. "النهاية". (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1264) وغيره. (¬3) أخرجه مسلم: 966. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2747)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1898)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (835)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1261).

في الحفار يجد العظم؛ هل يتنكب ذلك المكان؟

في الحفّار يجد العظم؛ هل يتنكّب ذلك المكان (¬1)؟ إِذا وجد الحفّار العظم؛ فيجب عليه أن يتنكبّ مكانه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ كَسْرَ عظم المؤمن مَيْتاً؛ مِثل كسْره حيّاً" (¬2). جواز دفن أكثر من واحد في القبر عند الضرورة: ولا بأس مِن أن يُدفَن فيه اثنان أو أكثر عند الضرورة، ويقدّم أفضلهم، وهدي السلف الذي جرى عليه العمل أن يدفن كل واحد في قبر، فإِنْ دفن أكثر من واحد كره ذلك؛ إِلا إِذا تعسر إِفراد كل ميت بقبر -لكثرة الموتى وقلّة الدافنين أو ضعفهم- فإِنه في هذه الحالة يجوز دفن أكثر من واحد في قبر واحد. فعن هشام بن عامر قال: جاءت الأنصار إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أُحُدٍ فقالوا: أصابنا قرح وجهد، فكيف تأمرنا؟ قال: احفروا وأوسعوا، واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر قيل: فأيُّهم يُقدّم؟ قال: أكثرهم قرآناً" (¬3). وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "سنن أبي داود". (¬2) أخرجه البخاري في "التاريخ" وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2746)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1310) وغيرهم. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2754) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1899)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1400)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1266)، وتقدّم غير بعيد.

بين الرجلين من قتلى أُحد في ثوب واحدٍ ثمّ يقول: أيُّهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإِذا أشير له إِلى أحد قدّمه في اللحد، وقال: أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يُصلِّ عليهم، ولم يُغسَّلوا" (¬1). وعن أبي قتادة: أنه حضر ذلك، قال: "أتى عمرو بن الجَمُوح إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! أرأيت إِنْ قُتلت في سبيل الله حتى أقتل؛ أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟! وكانت رجله عرجاء، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم. فقتلوا يوم أُحد؛ هو وابن أخيه ومولى لهم، فمرّ عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كأنّي أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحةً في الجنّة؛ فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهما وبمولاهما، فجعلوا في قبر واحد" (¬2). قال شيخنا -رحمه الله-: "قال الشافعي في "الأم" (1/ 245): "ويدفن - في موضع الضرورة من الضيق والعجلة- الميتان والثلاثة في القبر، ويكون الذي للقبلة منهم أفضلَهم وأسنّهم، ولا أحب أن تدفن المرأة مع الرجل على حال، وإن كانت ضرورة ولا سبيل إِلى غيرها؛ كان الرجل أمامها وهي خلفه، ويُجعل بين الرجل والمرأة في القبر حاجز من تراب" ... ". فائدة: سألت شيخنا -رحمه الله- عن دفْن الرجل مع المرأة؟ فقال: "إِذا فنيت". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4079. (¬2) أخرجه أحمد بسند حسن، كما قال الحافظ.

بدعية الدفن الجماعي:

وسألته: هل يستثنى الزوجان؟ فقال -رحمه الله-: "نعم". بِدْعِيَّةُ الدفن الجماعي: وما تقدّم من قول -حول جواز دفن الاثنين والثلاثة في قبر للحال المعروف- من باب رفْع الحرَج، وما يفعله كثير من الناس اليوم من الدفن الجماعي لعائلات معيّنة أو أُسَر محدّدة- وفيما يسمى في بعض البلاد (الفُسْتُقِيّة) (¬1) -فإِنه مخالِفٌ للسّنّة ومنهج سلف الأمّة. جاء في "الإِرواء" (تحت حديث 749) بتصرّف يسير: حديث: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفِن كل ميت في قبر". لا أعرفه، وإنْ كان معناه صحيحاً معلوماً بالتتبع والاستقراء، والمؤلف أخَذ ذلك من قول الرافعي: "الاختيار أن يدفن كل ميت في قبر، كذلك فعَل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال الحافظ في "تخريجه" (167): "لم أره هكذا، لكنه معروف بالاستقراء". وممّا يدل لصحة معناه: حديث هشام بن عامر [المتقدّم]: "لمّا كان يوم أُحد؛ شكَوا إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرح .. قال: " .. وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر". الحديث [المتقدّم أيضاً]: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كثر القتلى يوم أحد؛ كان ¬

_ (¬1) لم أجد هذه الكلمة في معاجم اللغة، وأقرب شيء وجَدُته كلمة (الفَسقِيّة) في "المعجم الوسيط": "حوض من الرخام ونحوه؛ مستدير غالباً، تمجّ الماء فيه نافورة، ويكون في القصور والحدائق والميادين ورمْز لها بـ (د)؛ أي: لفظ دخيل ليس عربياً".

الرجال هم الذين يتولون إنزال الميت:

يجمع بين الرجلين في القبر الواحد ... ". وسألت شيخنا -رحمه الله- عن ذلك- أي: الدفن بما يسمّى "الفستقيّة"-؟ فقال: "عادة فرعونية". الرجال هم الذين يتولّون إِنزال الميت: ويتولى إِنزالَ الميت -ولو كان أنثى- الرجالُ دون النساء؛ لأنّه المعهود في عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجرى عليه عمل المسلمين حتّى اليوم. عن عبد الرحمن بن أَبْزَى قال: "صلّيت مع عمر بن الخطاب على زينب بنت جحش بالمدينة، فكبّر أربعاً، ثمّ أرسل إِلى أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من يأمرن أن يُدخلها القبر؟ قال: وكان يُعجبه أن يكون هو الذي يلي ذلك، فأرسلْن إِليه: انظر من كان يراها في حال حياتها؛ فليكن هو الذي يُدخلها القبر، فقال عمر: صدقتُنّ" (¬1). يجوز للزوج أن يتولى بنفسه دفْن زوجته: ويجوز للزوج أن يتولى بنفسه دفن زوجته. فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخل عَلَيّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اليوم الذي بُدئ فيه، فقلت: وارأساه! فقال: ودِدْتُ أنّ ذلك كان وأنا حيٌّ، فهيأتُك ودفنتك! قالت: فقلت -غَيْرَى-: كأنّي بك في ذلك اليوم عروساً ببعض نسائك! ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي، وابن سعد، والبيهقي بسند صحيح.

لا يجوز لمن وطئ أهله تلك الليلة أن يتولى الدفن:

قال: وأنا وارأساه! ادْعي لي أباك وأخاك. حتى أكتب لأبي بكر كتاباً؛ فإِنّي أخاف أن يقول قائل، ويتمنى متمنّ: أنا أولى! ويأبى الله -عز وجلّ- والمؤمنون إلاَّ أبا بكر" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- (ص 188): "وقد ذهب إِلى جواز دفن الرجل لزوجته الشافعيةُ، بل قالوا: إِنه أحقُّ بذلك من أوليائها الذين ذكرنا، وعكَس ذلك ابن حزم، فجعله بعدهم في الأحقّية، ولعله الأقرب؛ لما سبق من عموم الآية". لا يجوز لمن وطئ أهله تلك الليلة أن يتولّى الدفن: لكنّ ذلك مشروط بما إِذا كان لم يطأ تلك الليلة؛ وإلاَّ لم يشرع له دفنها، وكان غيره هو الأولى بدفنها -ولو أجنبيّاً- بالشّرط المذكور. فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "شهدنا بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس على القبر- فرأيت عينيه تدمعان، فقال: هل فيكم من أحد لم يُقارف (¬2) الليلة؟ فقال أبو طلحة: أنا. قال: فأنزل في قبرها، فنزل في قَبْرها فَقَبَرَها" (¬3). وفي رواية عنه: "أن رُقية -رضي الله عنها- لما ماتت؛ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يدخل القبرَ رجلٌ قارف [الليلة] أهله؛ فلم يدخل عثمان بن عفان -رضي ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد بإِسناد صحيح على شرط الشيخين. وهو في "صحيح البخاري" (5666) بنحوه، ومسلم: 2387 مختصراً. (¬2) أي: يجامع. (¬3) أخرجه البخاري: 1342.

أولياء الميت أحق بإنزاله:

الله عنه- القبر" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله-: "قال النووي في "المجموع" (5/ 289): "هذا الحديث من الأحاديث التي يُحْتَجُّ بها في كون الرجال هم الذين يتولّون الدفن وإن كان الميت امرأة. قال: ومعلوم أن أبا طلحة -رضي الله عنه- أجنبي عن بنات النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكنّه كان من صالحي الحاضرين، ولم يكن هناك رجل مَحْرَمٌ إِلا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلعلّه كان له عذر في نُزول قبرها، وكذا زوجها، ومعلوم أنها كانت أختها فاطمة وغيرها من محارمها وغيرهنّ هناك؛ فدّل على أنه لا مدخل للنساء في إِدخال القبر والدفن" انتهى. وجاء في "المحلّى" (5/ 214 - تحت المسألة: 585): "وأحقُّ الناس بإِنزال المرأة في قبرها: من لم يطأ تلك الليلة، وإِن كان أجنبيّاً؛ حضر زوجها أو أولياؤها أو لم يحضروا، وأحقهم بإِنزال الرجل أولياؤه. أمّا الرجل؛ فلقول الله -تعالى-: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض}؛ وهذا عموم؛ لا يجوز تخصيصه إلاَّ بنص. وأمّا المرأة؛ فإِنّ عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا قال: ثنا إِبراهيم بن أحمد: ثنا الفربري: ثنا البخاري ... " ثمّ ذكر حديث أنس -رضي الله عنه-. أولياء الميت أحقّ بإِنزاله: أولياء الميت أحقّ بإِنزاله؛ لعموم قوله -تعالى-: {وأولوا الأرحام (¬2) بعضهم ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، والطحاوي، والحاكم وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم". (¬2) قال "شيخنا -رحمه الله- في التعليق (ص 186): "وهم الأب وآباؤه، والابن =

إدخال الميت من مؤخر القبر:

أولى ببعض في كتاب الله} (¬1)، ولحديث علي -رضي الله عنه- قال: غسَّلت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذهبت أنظر ما يكون من الميت، فلم أر شيئاً وكان طيّباً حياً وميتاً، وولي دفنه وإجنانه دون الناس أربعة: عليّ والعباس، والفضل، وصالح، مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولحدَ لرسول الله لحداً، ونصب عليه اللَّبِن نصباً" (¬2). إِدخال الميت من مؤخّر القبر: والسّنّة إِدخال الميت من مؤخر القبر؛ لحديث أبي إِسحاق قال: "أوصى الحارث أن يُصلّي عليه عبد الله بن يزيد، فصلى عليه، ثمّ أدخله القبر من قبل رجلي القبر، وقال: هذا من السّنّة" (¬3). وعن ابن سيرين قال: "كنتُ مع أنس في جنازة، فأمَرَ بالميت، فسُلَّ من قِبَل رجل القبر" (¬4). يوضع الميت على جنبه الأيمن ووجهه قُبالةَ القِبْلَة: قال شيخنا -رحمه الله-: "ويُجْعل الميت في قبره على جنبه اليمين، ووجهه قُبالةَ القبلة، ورأسه ورجلاه إِلى يمين القبلة ويسارها؛ على هذا جرى عمل أهل ¬

_ = وأبناؤه، ثم الإِخوة الأشقاء، ثمّ الذين للأب، ثمّ بنوهم، ثمّ الأعمام للأب والأم ثمّ للأب ثمّ بنوهم، ثمّ كل ذي رحم محرمة". كذا في "المحلّى" (5/ 143) ونحوه في "المجموع" (5/ 290). (¬1) الأنفال: 75. (¬2) أخرجه الحاكم، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2750). (¬4) أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة، وسنده صحيح.

هل تحل عقد الكفن؟

الإِسلام من عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى يومنا هذا، وهكذا كلُّ مقبرة على ظهر الأرض، كذا في "المحلّى" (5/ 173) وغيره" انتهى. وجاء في "الروضة الندية" (1/ 441): "ويوضَع على جنبه الأيمن مستقبِلاً؛ وهو ممّا لا أعلم فيه خلافاً". ويقول الذي يضعه في لَحْده: (بسم الله، وعلى سنّة رسول الله -أو ملّة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ--). فعن ابن عمر -رضي الله عنه-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا وضع الميت في القبر قال: بسم الله، وعلى سُنة رسول الله" (¬1). وعن البياضي -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "الميت إِذا وضع في قبره؛ فليقل الذين يضعونه حين يُوضع في اللّحد: بسم الله، وبالله، وعلى ملّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬2). هل تحلُّ عقد الكفن (¬3)؟ هناك العديد من الآثار ساقها ابن أبي شيبة عن بعض التابعين لا تخلو من ضعف، لكن مجموعها يلقي الاطمئنان في النفس أن حل عقد كفن الميت في القبر كان معروفاً عند السلف، فلعله لذلك قال به الحنابلة تبعاً للإِمام أحمد، فقد قال أبو داود في "مسائله" (158): "قلت لأحمد (أو سئل) ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2752)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (836)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1260). (¬2) أخرجه الحاكم، وإسناده حسن. (¬3) هذا الباب من اقتراح أخي (عمر الصادق) -حفظه الله-.

استحباب حثو ثلاث حثوات من التراب بعد سد اللحد:

عن العقد تحل في القبر؟ قال: نعم". وقال ابنه عبد الله في "مسائله" (144 - 538): "مات أخ لي صغير، فلما وضعته في القبر، وأبي قائم على شفير القبر، قال لي: يا عبد الله! حل العقد، فحللتها" (¬1). فائدة: سألت شيخنا -رحمه الله- عن وضْع الطين في القبر بين اللبنات لمنع تسرُّب التراب على الميت؟ فقال: "يبدو أنّه صحيح؛ لأنّ اللحد فُضّل على الشِّق". استحباب حَثْوِ ثلاث حَثَوات من التراب بعد سدّ اللحد: ويُستحبّ لمن عند القبر أن يحثو من التراب ثلاث حثوات بيديه جميعاً بعد الفراغ من سدّ اللحد. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى على جنازة، ثمّ أتى قبر الميت، فحثا (¬2) عليه من قِبَل رأسه ثلاثاً" (¬3). ويُسنّ بعد الفراغ من دفنه أمور: الأوّل: أن يُرفَع القبر عن الأرض قليلاً نحو شبرٍ، ولا يسوّى بالأرض، وذلك ليتميّز فيُصان ولا يُهان. فعن جابر -رضي الله عنه-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُلْحِد له لحد، ونُصِب عليه اللَّبْن ¬

_ (¬1) ذكره شيخنا -رحمه الله- في "الضعيفة" (1763). (¬2) أي: غرف بيده. (¬3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1271).

نصباً، ورُفع قبره من الأرض نحواً من شبر" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله-: "قال الشافعي في "الأم" (1/ 245 - 246) ما مختصره: "وأحبّ أن لا يُزاد في القبر تراب من غيره؛ لأنّه إِذا زيد ارتفع جداً، وإِنما أُحِبّ أن يُشْخَصَ على وجه الأرض شبراً أو نحوه". ونقل النووي في "المجموع" (5/ 296) اتفاق أصحاب الشافعي على استحباب الرفع بالقدر المذكور". الثاني: أن يجعل مُسنّماً (¬2). فعن سفيان التمّار: "أنّه رأى قبر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسنّماً" (¬3). الثالث: أنْ يُعَلّمه بحجرٍ أو نحوه؛ ليدفن إليه من يموت من أهله؛ لحديث المُطّلب -وهو ابن عبد الله بن المطلب بن حَنْطَبِ -رضي الله عنه- قال: "لمّا مات عثمان بن مظعون؛ أُخرج بجنازته فدُفن؛ أمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حمله، فقام إِليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحسَر عن ذراعيه. قال كثير: قال المُطلب: قال الذي يُخبرني [ذلك] عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ كأنّي أنظر إِلى بياض ذراعي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين حسر عنهما، ثمّ حملها ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" والبيهقي وإسناده حسن. (¬2) التسنيم: هو رفْع القبر عن وجه الأرض كالسّنام، وعدم تسطيحه، يُقال: سنّم القبر: ملأه حتى صار فوقه مثلُ السِّنام؛ [وهي كُتل من الشحم محدّبة على ظهر البعير والناقة]. وانظر "الوسيط". (¬3) أخرجه البخاري: 1390.

الاستغفار للميت والدعاء له بالتثبيت:

فوضعها عند رأسه، وقال: أتعلّم بها قبر أخي (¬1)، وأدفن إِليه من مات من أهلي" (¬2). ولا يشرع تلقينُ الميت التلقينَ المعروفَ اليوم (¬3)؛ لأنّ الحديث الوارد فيه لا يصح. الاستغفار للميت والدعاء له بالتثبيت: وينبغي للحاضرين حين يفرغون من دفْن الميت، أن يقفوا على القبر ويدعوا له بالتثبيت، وأن يستغفروا له، وكان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر الحاضرين بذلك؛ لحديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت؛ فإِنّه الآن يُسأل" (¬4). الموعظة عند القبر عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: خرجنا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جنازة ¬

_ (¬1) أرجح الأقوال -والله أعلم-: أنه أخوه من الرّضاعة، ذكره في "عون المعبود" (9/ 17) نقلاً عن "المرقاة" (4/ 192). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2745)، وترجم له أبو داود بـ "باب في جمع الموتى في قبر، والقبر يُعلّم". (¬3) وسيأتي التفصيل بإِذن الله -تعالى-. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2758)، والحاكم، والبيهقي وغيرهم.

رجل من الأنصار، فانتهينا إِلى القبر؛ ولمّا يُلحد (¬1)، فجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[مستقبل القبلة]، وجلسنا حوله، وكأنّ على روؤسنا الطّير، وفي يده عودٌ ينكت (¬2) في الأرض، [فجعل ينظر إِلى السماء، وينظر إِلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه، ثلاثاً]، فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً، [ثمّ قال: اللهم إِنّي أعوذ بك من عذاب القبر] [ثلاثاً]، ثمّ قال: إِنّ العبد المؤمن إِذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة؛ نزل إِليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأنّ وجوههم الشمس، معهم كفنٌ من أكفان الجنة، وحَنُوطٌ (¬3) من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مَدَّ البصر، ثمّ يجيء ملك الموت -عليه السلام- حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيّتها النفس الطيبة (وفي رواية: المطمئنة)! اخرجي إِلى مغفرة من الله ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السِّقَاءِ، فيأخذها (وفي رواية: حتى إِذا خرجت روحه؛ صلّى عليه كلُّ ملكٍ بين السماء والأرض، وكلّ ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء، ليس من أهلِ باب إلاَّ وهم يدْعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم)، فإِذا أخذها؛ لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، [فذلك قوله - تعالى-: {توفّته رُسُلنا وهم لا يفرِّطون}، ويخرج منها كأطيب نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدت على وجه الأرض. ¬

_ (¬1) أي: لم يوضْع في لحده بعْدُ. (¬2) أي: يضرب بطرفه الأرض، وذلك فِعل المفكّر المهموم "عون" (13/ 63). (¬3) بفتح المهملة: ما يُخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم خاصّة. "النهاية".

قال: فيصعدون بها؛ فلا يمرّون -يعني- بها على ملإٍ من الملائكة إلاَّ قالوا: ما هذا الروح الطيّب؟! فيقولون: فلان بن فلان -بأحسن أسمائه التي كانوا يُسمُّونه بها في الدنيا- حتى ينتهوا بها إِلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيّعه من كلّ سماء مُقرّبوها إِلى السماء التي تليها، حتى يَنتهيَ به إِلى السماء السابعة، فيقول الله -عزّ وجلّ-: اكتبوا كتاب عبدي في علّيّين، {وما أدراك ما عِلِّيُّون كتاب مرقوم * يشهده المُقرّبون}، فيكتب كتابه في عِلِّيِّين، ثمّ يقال]: أعيدوه إِلى الأرض؛ فإِنّي [وعدتهم أنّي] منها خلقتهم وفيها أُعيدهم ومنها أُخرجهم تارةً أخرى. قال: فـ[يُردّ إِلى الأرض، و] تُعاد روحه في جسده، [قال: فإِنّه يسمع خفق نعال أصحابه إِذا ولّوا عنه] [مدبرين]. فيأتيه ملكان [شديدا الانتهار]، فـ[ينتهرانه و] يُجلسانه، فيقولان له: من ربّك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؛ فيقول: ديني الإِسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فيقولان له: ما عَمَلُك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدّقت، فينتهره فيقول: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيُّك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن. فذلك حين يقول الله -عزّ وجلّ-: {يُثَبِّتُ الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا}، فيقول: ربي الله، وديني الإِسلام، ونبيّ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فينادي منادٍ في السماء: أنْ صدق عبدي، فأفرِشوه من الجنة، وألبِسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إِلى الجنّة، قال: فيأتيه من رَوْحِها وطِيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره.

قال: ويأتيه [وفي رواية: يُمَثَّلُ له] رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيّب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسُرُّك، [أبشر برضوانٍ من الله، وجنّاتٍ فيها نعيم مقيم]، هذا يومك الذي كُنت تُوعد، فيقول له: [وأنت -فبشّرك الله بخير]- من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير! فيقول: أنا عملك الصالح؛ [فوالله ما عَلِمْتُك إِلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً]. ثمّ يُفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإِذا رأى ما في الجنة قال: ربِّ! عجّل قيام الساعة؛ كيما أرجع إِلى أهلي ومالي! [فيقال له: اسكن]. قال: وإِنّ العبد الكافر (وفي رواية: الفاجر) إِذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة؛ نزل إِليه من السماء ملائكة [غلاظ شداد]، سُود الوجوه، معهم المُسُوح (¬1) [من النار]، فيجلسون منه مدّ البصر (¬2)، ثمّ يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة! أخرجي إِلى سَخَطٍ من الله وغضب، قال: فتفرَّق في جسده، فينتزعها كما يُنتزع السُّفُّود (¬3) [الكثير الشُّعب] من الصّوف المبلول، [فتَقطَّعُ معها العروق والعصب]، [فيلعنه كلُّ ملك بين السماء والأرض، وكلُّ ملك في السماء، وتغلَق أبواب السماء، ليس من أهل باب إِلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من ¬

_ (¬1) جمع مِسح: ثوب من الشعر غليظ. (¬2) أي: منتهى بصره. (¬3) السُّفود: هو عود من حديد يُنظّم فيه اللحم ليُشوى. "الوسيط".

قِبلهم]، فيأخذها، فإِذا أخذها لم يدَعوها في يده طرفة، عين حتى يجعلوها في تلك المُسوح، ويخرج منها كأنتن ريحٍ جيفةٍ وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرّون بها على ملأ من الملائكة إِلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟! فيقولون: فلان ابن فلان -بأقبح أسمائه التي كان يُسمّى بها في الدنيا، حتى يُنتَهى به إِلى السماء الدنيا، فيُستفتح له، فلا يُفتح له، ثمّ قرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {لا تُفَتَّحُ لهم أبواب السماء ولا يدْخلون الجنة حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سمِّ الخِياط (¬1)} (¬2) فيقول الله -عزّ وجلّ-: اكتبوا كتابه في سِجين (¬3)؛ في الأرض السُّفلى، [ثمّ يقال: أعيدوا عبدي إِلى الأرض، فإِنّي وعدتهم أنّي منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أُخرجهم تارةً أخرى)، فتُطرح روحه [من السماء] طرحاً [حتى تقع في جسده] ثمّ قرأ: {ومن يشرك بالله فكأنّما خرَّ من السماء فَتَخْطَفُهُ الطير أو تهوي به الريح في مكان سَحِيق}، فتعاد روحه في جسده، [قال: فإِنّه ليسمع خفق نعال أصحابه إِذا ¬

_ (¬1) قال الحسن البصري وغيره: "حتى يدخل البعير في خرق الإِبرة. وكذا روى علي بن أبى طلحة والعوفي عن ابن عباس. وقال مجاهد وعكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: إِنّه كان يقرأُها {يلج الجمل في سمّ الخياط} بضم الجيم وتشديد الميم -الجُمّل- يعني: الحبل الغليظ في خرق الإِبرة". عن "تفسير ابن كثير" بحذف. وهذا تعليق بالمستحيل؛ أي: أنهم لا يدخلون الجنة أبداً، وانظر -إِن شئت- ما قاله البغوي في "تفسيره". (¬2) الأعراف: 40. (¬3) قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "والصحيح أنّ سجّيناً مأخوذ من السِّجن، وهو الضيق"، وقال في موطن آخر: "وهو يجمع الضيق والسفول".

ولّوا عنه]. ويأتيه ملكان [شديدا الانتهار، فينتهرانه و] يُجلسانه، فيقولان له: من ربُّك؟ [فيقول: هاهْ هاهْ (¬1)! لا أدري! فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاهْ هاهْ! لا أدري]! فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيُقال: محمد! فيقول: هاه هاه! لا أدري! [سمعت الناس يقولون ذاك! قال: فيقال: لا دَرَيْتَ]، ولا تلوت]، فينادي مُنادٍ من السماء: أنْ كذب، فأفرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إِلى النار، فيأتيه من حرّها وسَمُومها (¬2)، ويُضيَّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه (وفي رواية: ويُمثل له) رجلٌ قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومُك الذي كنت توعد، فيقول: [وأنت فبشّرك الله بالشرِّ] من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشّر! فيقول. أنا عملك الخبيث؛ [فوالله ما علمت إِلا كنت بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إِلى معصية الله]، [فجزاك الله شرّاً! ثمّ يُقيّض له أعمى أصمُّ أبكم في يده مِرْزبَة (¬3) لو ضُرِبَ بها جبل كان تراباً، فيضربه ضربة حتى يصير بها تراباً، ثمّ يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كلّ شيء إِلا الثقلين، ثمّ يفتح له ¬

_ (¬1) جاء في "عون المعبود" (13/ 65): "هاهْ هاهْ -بسكون الهاء فيهما بعد الألف-: كلمة يقولها المتحيّر الذي لا يقدر -من حَيرته للخوف أو لعدم الفصاحة- أن يستعمل لسانه في فيه". (¬2) الريح الحارّة. (¬3) المِرزَبة -بالتخفيف-: المطرقة الكبيرة التي تكون للحّداد. "النهاية".

استحباب جمع الموتى الأقارب في أماكن متجاورة:

باب من النار، ويُمهَّد من فُرُش النار]، فيقول: ربِّ! لا تُقم الساعة" (¬1). استحباب جمع الموتى الأقارب في أماكن متجاورة (¬2): ويستحب جمع الموتى الأقارب في أماكن متجاورة؛ لأنّه أيسر لزيارتهم وأكثر للترحُّم عليهم، كما ذكَر بعض أهل العلم؛ لحديث المطلب -رضي الله عنه- قال: "لما مات عثمان بن مظعون؛ أُخرج بجنازته فدفن؛ أمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً أنْ يأتيه بحجر، فلم يستطع حمله، فقام إِليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحسر عن ذراعيه -قال المطلب: قال الذي يُخبرني [ذلك] عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ --؛ كأني أنظر إِلى بياض ذراعي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين حسر عنهما، ثمّ حملها فوضعها عند رأسه، وقال: أتعلّم بها قبر أخي، وأدفن إِليه من مات من أهلي" (¬3). ضَمَّة القبر: عن ابن عمر -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "هذا (¬4) الذي تحرَّك له العرش، وفُتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضُمّ ضمة، ثمّ فُرِّج عنه" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3979)، والحاكم، والطيالسي، وأحمد وغيرهم، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 198). (¬2) انظر "فقه السّنة" (1/ 550) تحت عنوان (تعليم القبر بعلامة). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2745)، وتقدّم. (¬4) هو سعد بن معاذ الأنصاري سيد الأنصار -رضي الله عنهم-. (¬5) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1942).

سؤال القبر وعذابه ونعيمه:

سؤال القبر وعذابه ونعيمه (¬1): وقد تقدّم في سؤال القبر عذابه ونعيمه: حديثُ البراء بن عازب -رضي الله عنه- الطويل. وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أيضاً عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا أُقعد المؤمن في قبره؛ أُتي ثمّ شهِدَ أن لا إِله إِلا الله وأنّ محمّداً رسول الله، فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت}، وفي رواية: نزلت في عذاب القبر" (¬2). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنّه حدّثهم أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنّ العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه -وإنه ليسمع قرع نعالهم-؛ أتاه ملكان فيُقعِدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذ الرجل -لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ --؟ فأمّا المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعًا. قال قتادة: وذُكِر لنا أنّه يُفسح له في قبره. ثمّ رجع إِلى حديث أنس قال: وأمّا المنافق والكافر فيُقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري! كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غيرَ الثقلين" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر للمزيد -إِن شئت- كتابي "القبر عذابه ونعيمه". (¬2) أخرجه البخاري: 1369، ومسلم: 2871. (¬3) أخرجه البخاري: 1374، ومسلم: 2870.

وعن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: بينما النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حائط لبني النجار على بغْلة له ونحن معه؛ إِذ حادَتْ به فكادت تلقيه، وإذا أَقْبُرٌ ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: "من يعرف أصحاب هذه الأَقْبُر؟ فقال رجل: أنا. قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإِشراك، فقال: إِن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يُسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه؛ ثمّ أقبل علينا بوجهه، فقال: تعوّذوا بالله من عذاب النّار، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النّار، فقال: تعوّذوا بالله من عذاب القبر، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر! قال: تعوّذوا بالله من الفتن: ما ظهر منها وما بطن، قالوا: نعوذ بالله من الفتن: ما ظهر منها وما بطن! قال: تعوّذوا بالله من فتنة الدّجال. قالوا: نعوذ بالله من فنتة الدّجال! " (¬1). وعن سمرة بن جندب قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا صلّى صلاة؛ أقبل علينا بوجهه فقال: من رأى منكم الليلة رؤيا؟ قال: فإِن رأى أحد قصّها، فيقول ما شاء الله، فسألَنا يوماً فقال: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قلنا: لا، قال: لكنّي رأيت الليلة رجلين؛ أتياني فأخذا بيدي، فأخرجاني إِلى الأرض المقدّسة؛ فإِذا رجل جالس، ورجل قائم بيده كَلُّوب من حديد -قال بعض أصحابنا عن موسى أنه- يدخل ذلك الكلوب في شِدْقِهِ حتى يبلغ قفاه، ثمّ يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويَلْتَئِمُ شدقه هذا، فيعود فيصنع مثله، قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا حتى أتينا على رجل مُضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 2867.

بفِهْرٍ (¬1) أو صخرة، فَيَشْدَخُ به رأسه، فإِذا ضربه تَدَهْدَه (¬2) الحجر، فانطلق إِليه ليأخذه؛ فلا يرجع إِلى هذا حتى يلتئم رأسه؛ وعاد رأسه كما هو، فعاد إِليه فضربه، قلت: من هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا إِلى ثُقْبٍ مثل التّنّور؛ أعلاه ضيّق وأسفله واسع، يتوقّد تحته ناراً؛ فإِذا اقترب ارتفعوا حتى كاد أن يخرجوا، فإِذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة، فقلت: من هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة -قال يزيد ووهب بن جرير عن جرير بن حازم: وعلى شطّ النهر رجل-؛ فأقبل الرجل الذي في النهر، فإِذا أراد أن يخرج؛ رمى الرجل بحجر في فيهِ؛ فردَّه حيث كان، فجعل كلّما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر، فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى انتهينا إِلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة، وفي أصلها شيخ وصِبيان، وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها، فصعِدا بي في الشجرة، وأدخلاني داراً لم أرَ قط أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان، ثمّ أخرجاني منها، فصعدا بي الشجرة؛ فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل، فيها شيوخ وشباب، قلت: طوّفتماني الليلة فأخبِراني عمّا رأيت؟ قالا: نعم. أمّا الذي رأيته يُشق شِدقه؛ فكذاب يحدِّث بالكذبة، فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به إِلى يوم القيامة. والذي رأيته يُشدخ رأسه؛ فرجل علّمه ¬

_ (¬1) الفِهْر: هو الحجر مِلءُ الكفِّ. وقيل: هو الحجر مطلقاً. "النهاية". (¬2) أي: تدحرج.

هل يجوز نبش القبر؟

الله القرآن، فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار، يُفعل به إِلى يوم القيامة، والذي رأيته في الثَّقب؛ فهم الزناة، والذي رأيته في النهر؛ آكِلُو الربا. والشيخ في أصل الشجرة؛ إِبراهيم -عليه السلام-، والصبيان حوله؛ فأولاد الناس. والذي يوقد النار؛ مالك خازن النار. والدار الأولى التي دخلت؛ دار عامّة المؤمنين. وأمّا هذه؛ الدار فدار الشهداء، وأنا جبريل، وهذا ميكائيل، فارفع رأسك، فرفعت رأسي فإِذا فوقي مثل السّحاب، قالا: ذاك منزلك، قلت: دَعَاني أدخلْ منزلي! قالا: إِنه بقي لك عُمُر لم تستكمله، فلو استكملت أتيت منزلك" (¬1). هل يجوز نبش القبر؟ لا يجوز نبش القبر إِلا لغرض صحيح. قال شيخنا -رحمه الله- (ص 203) -بتصرّف يسير-: "ويجوز إِخراج الميت من القبر لغرض صحيح، كما لو دفن قبل غسله وتكفينه ونحو ذلك. فعن جابر بن عبد الله قال: "أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن أُبي بعدما دفن، فأخرجه؛ فَنفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه" (¬2). والظاهر: أنّ هذا كان قبل نزول قوله -تعالى-: {ولا تُصلِّ على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تقُم على قبره} ". انتهى كلام شيخنا -رحمه الله-. وقال البخاري -رحمه الله- في "صحيحه" (¬3): "باب هل يخرج الميت من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1386. (¬2) أخرجه البخاري: 1270، ومسلم: 2773. (¬3) انظر (كتاب الجنائز) "باب - 77".

القبر واللحد لعلّة؟ ثمّ ذكر (برقم: 1351) حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "لما حضر أُحد دعاني أبي من الليل فقال: ما أُراني إِلا مقتولاً في أول من يُقتل من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإني لا أترك بعدي أعزّ عليّ منك؛ غير نفس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنّ عليّ ديناً، فاقض واستوص بأخواتك خيراً. فأصبحنا، فكان أوّل قتيل، ودفن معه آخر في قبر، ثمّ لم تَطِبْ نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر؛ فإِذا هو كَيَوْمَ وضَعْتُه هُنيَّة (¬1)؛ غيرَ أُذُنه". وجاء في "الأوسط" (5/ 343): "واختلفوا في النبش عمن دفن ولم يغسل: فقال أكثر أهل العلم: يخرج فيغسل. هكذا قال مالك والثوري والشافعي، إِلا أن مالكاً قال: ما لم يتغير. وقال أصحاب الرأي: إِذا وضع في اللحد ولم يغسل، ولم يُهَلْ عليه التراب؛ أخرج فغسل وصلّي عليه، وإن كانوا نصبوا اللبن، وأهالوا عليه التراب؛ لم يَنْبَغ لهم أن ينبشوا الميت من قبره". قال أبو بكر [وهو ابن المنذر -رحمه الله-]: يُخرج ويغسل ما لم يتغير، كما قال مالك" انتهى. ولقول مالك وأبي بكر -رحمهما الله- تطمئن نفسي. قال ابن حزم -رحمه الله- (5/ 169 - تحت المسألة: 559): "ومن لم يُغَسل ولا كُفِّن حتى دُفِن؛ وجب إِخراجه حتى يغسّل ويكفّن؛ ولا بُدّ". ¬

_ (¬1) أي: شيئاً يسيراً.

وجاء في "مجموع الفتاوى" (24/ 304): "وسئل -رحمه الله- عن قوم لهم تربة، وهي في مكان منقطع، وقتل فيها قتيل، وقد بنوا لهم تربة أخرى؛ هل يجوز نقل موتاهم إِلى التربة المُسْتَجَدَّةِ أم لا؟ فأجاب: لا يُنبش الميت لأجل ما ذُكِر. والله أعلم" انتهى. وسألت شيخنا -رحمه الله- عن قول بعض العلماء: "ولو حُفر القبر فوُجَد فيه عظام الميت باقية؛ لا يُتمّ الحافر حفره"؟ فقال: "به أقول". وسألته -رحمه الله-: هل يجوز نبش القبر لإِخراج مالٍ تُرك في القبر؟ فقال: "نعم". وسألته -رحمه الله-: إذا صار جسم الميت تراباً؛ فهل ينتفع من المكان بزرعٍ أو نحوه؟ فأجاب: هذا يُتصوّر في أرضٍ قَفْرٍ؛ دُفن فيها ميت، ثمّ أصَبَح هذا الميت تراباً ورميماً، فبهذا التصوّر الضيّق؛ نعم، كما يروى عن أبي العلاء المعرّي أنه قال: صَاحِ هذي قبورُنا تملأ الرَّحب (¬1) ... فأين القبور من عهد عادِ خفَف الوطء (¬2) ما أظنّ ... أديم الأرض إلاَّ من هذه الأجساد ¬

_ (¬1) و (¬2) الرّحب: الواسع، يقال: مكان رَحب ودار رَحبة؛ والرَّحبة: الأرض الواسعة. الوطء: الدوس بالقدم. "الوسيط" ملتقطاً.

فإِذا كان السؤال في ميِّت محدّد في هذا الوضْع الضّيق؛ فالجواب الجواز، ولكن إِذا كان القبر في مقبرة؛ فحينئذ يختلف الحُكم تماماً، وبهذا التحديد يجوز؛ وإلاَّ فلا. قلت: فإِذا كانت المقبرة كلها تراباً؛ هل يمكن الانتفاع بذلك؟ فقال -رحمه الله-: المسألة تأخذ طوراً آخر، فالمقابر بشكل عام موقوفة لموتى المسلمين، بمعنى أن أرض المقبرة لا يملكها أحد، فلا يستطيع أحد أن يشتريها؛ لأنّه لا مالك لها، فمن الأخطاء الشائعة أن تباع القبور! ومن هو المالك؟ والانتفاع بأرض المقبرة بعد أن صار أهلها رميماً؛ لا يرِدُ جوازه من هذه الحيثية، وعلى العكس من ذلك. لو قيل: هذه مقبرة عائلة؛ فهذه الأرض ملْك لهم؛ فإِذا أصبحَ الموتى تراباً؛ فباستطاعتهم استثمارها في بناية دار أو حديقة؛ لأنها ملْك لهم. فهنا شرطان: أن يتحول الموتى رميماً، وأن تكون الأرض مملوكة. وسألت شيخنا -رحمه الله- عن حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن أُبي بعد ما أُدخل قبره، فأمر به فأُخرج ووضع على رُكبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، فالله أعلم" (¬1)؛ هل يفيدنا في جواز إِخراج الميّت؟ فقال -رحمه الله-: وهو لا يزال سليماً؟ قلت: حديث عهد بدفن؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5795، وتقدّم غير بعيد.

هل يستحب للرجل حفر قبره قبل موته؟

فقال: نعم، يجوز. قلت: أهذا متعلّق بفناء الجسم أو عدمه؟ قال: نعم. قال أحد الإِخوة: هل يجوز النبش لمِثل هذا السبب؟ قال -رحمه الله-: يجوز إِذا غلب على ظنّه بقاء الجسم. وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل يَسُوغ وضْع العظام جانباً لدْفن ميت آخر؟ فقال: يمكن ذلك إِذا ضاقت المقبرة. هل يُستحبّ للرجل حفْر قبره قبل موته؟ ولا يُستحبّ للرجل أن يحفر قبره قبل أن يموت، فإِنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعل ذلك هو ولا أصحابه، والعبد لا يدري أين يموت، وإذا كان مقصود الرجل الاستعداد للموت، فهذا يكون من العمل الصالح. كذا في "الاختيارات العلمية " لشيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-. عدم مشروعية تلقين المقبور: ولا يشرع تلقين المقبور بأي صيغة من الصّيغ، أو عبارة من العبارات؛ لعدم وروده عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو الصحابة -رضي الله عنهم-. أما حديث: "لقنّوا موتاكم: لا إِله إِلا الله؛ من كان آخر كلامه لا إِله إِلا الله عند الموت دخل الجنة ... " (¬1). فقد تقدّم أنّ معناه تلقين المحتضر، ومن تأمّل ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه.

لفظ الحديث؛ من كان آخر كلامه لا إِله إِلا الله عند الموت؛ أيقَن أنّ المراد بذلك المحتضر ليقولها. وأمّا حديث أبي أمامة الباهلي وقوله في النّزع: "إِذا أنا مِتُّ فاصنعوا بي كما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إِذا مات أحد من إِخوانكم، فسوَّيتم التراب عليه؛ فليقم أحدكم على رأس قبره ثمّ ليقل: يا فلان بن فلان! فإِنه يسمع ولا يجيب. ثمّ يقول: يا فلان بن فلانة! فإِنّه يستوي قاعداً ثمّ يقول: يا فلان بن فلانة! فإِنه يقول: أَرْشِدْنا رحمك الله! ولكن لا تشعرون، فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة: أن لا إِله إِلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربّاً، وبالإِيسلام ديناً، وبمحمد نبيّاً، وبالقرآن إِمامًا؛ فإِن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا؛ ما نقعد عند من لُقِّنَ حجته؟! فيكون الله حجيجه دونهما. قال رجل: يا رسول الله! فإِن لم يعرف أمه؟ قال: فينسبه إِلى حواء: يا فلان بن حواء! ". فإِنه ضعيف؛ وانظره في "الإِرواء" (753). وجاء فيه (3/ 205): "وقال الأثرم: قلت لأحمد: هذا الذي يصنعونه إِذا دفن الميت؛ يقف الرجل ويقول: يا فلان بن فلانة!؟ قال: ما رأيت أحداً يفعله إِلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة، يروى فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه، وكان إِسماعيل بن عياش يرويه، يشير إِلى حديث أبي أمامة". قال شيخنا -رحمه الله-: وليت شعري؛ كيف يمكن أن يكون مثل هذا

التعزية

الحديث صالحاً ثابتاً، ولا أحد من السلف الأول يعمل به؟! وقد قال النووي في "المجموع" (5/ 304)، والعراقي في "تخريج الإِحياء" (4/ 420): إِسناده ضعيف. وقال ابن القيم في "زاد المعاد" (1/ 206): "حديث لا يصح". التعزية تعريفها: هي حمْل ذوي الميت على الصبر وفضْله، والابتلاء وأجره، والمصيبة وثوابها (¬1). مشروعية تعزية أهل الميت: وتشرع تعزية أهل الميت. فعن قُرَّةَ بن إيَاسٍ -رضي الله عنه- قال: "كان نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إِذا جلس؛ يجلس إِليه نفر من أصحابه، وفيهم رجل له ابن صغير، يأتيه من خلف ظهره، فيُقعده بين يديه، فهلك، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة (¬2) لذكر ابنه. فحزن عليه، ففقده النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما لي لا أرى فُلاناً؟! قالوا: يا رسول الله! بُنيُّهُ الذي رأيته هلك، فلقيه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسأله عن بُنَيِّه؟ فأخبره أنه هلك، فعزاه عليه ثمّ قال: يا فلان! أيُّما كان أحبَّ إليك: أنْ تمتّع به عُمُرك، أو لا تأتي غداً إِلى باب من أبواب الجنة؛ إِلا وجدته قد سبقك إِليه يفتحه لك. ¬

_ (¬1) ملتقطاً عن "فيض القدير". (¬2) الحَلْقة: مجلس العِلم.

ماذا يقول عند التعزية؟

قال: يا نبي الله! بل يسبقني إِلى باب الجنة فيفتحها لي، لهو أحبّ إِليّ! قال: فذاك لك" (¬1). وعن عمرو بن حزم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من مؤمن يُعزّي أخاه بمصيبة؛ إِلا كساه الله -عزّ وجلّ- من حُلل الجنّة" (¬2). ماذا يقول عند التعزية؟ ويُعزّيهم بما يظنُّ أنه يُسلّيهم، ويكفّ من حزنهم، ويحملهم على الرّضا والصبر، ممّا يثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -إِنْ كان يعلمه ويستحضره- وإلا فبما تيسرّ له من الكلام الحسن الذي يُحقق الغرض ولا يخالف الشرع، وفي ذلك أحاديث: الأول: عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: "أرسلت ابنة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِليه: إِنّ ابناً لي قُبض، فأْتِنا، فأرسل يُقرئ السلام ويقول: إِنّ لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجلٍ مسمًّى (¬3)، فلتصبر ولتحتسب (¬4) " (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1974) وغيره. (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1301)، وغيره، وحسّنه شيخنا - رحمه الله- في "الإِرواء" (764) -التحقيق الثاني-، وانظر "الصحيحة" (1/ 378) برقم (195). (¬3) أي: معلوم مُقدّر. (¬4) أي: لِتَنْوِ بصبرها طلب الثواب من ربّها؛ ليُحسب ذلك من عملها الصالح. "فتح". (¬5) أخرجه البخاري: 1284، ومسلم: 923.

قال شيخنا -رحمه الله- (ص 207): "وهذه الصِّيغة من التعزية؛ وإنْ وردت فيمن شارف الموت؛ فالتعزية بها فيمن قد مات أولى بدلالة النّصّ، ولهذا قال النوويّ في "الأذكار" وغيره: "وهذا الحديث أحسن ما يعزّى به". الثاني: عن بُرَيْدَة بن الحُصَيْبِ قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتعهّد الأنصار ويعودهم ويسأل عنهم، فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها وليس لها غيره، وأنها جزعت عليه جزعاً شديداً، فأتاها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[ومعه أصحابه، فلمّا بلغ باب المرأة قيل للمرأة: إِنّ نبيّ الله يريد أنْ يدخل يُعزِّيها. فدخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أما إِنّه بلغني أنّك جزعتِ على ابنك؛ فأمرها بتقوى الله وبالصّبر، فقالت: يا رسول الله! [ما لي لا أجزع]؛ وإنّي امرأة رَقُوبٌ لا ألد، ولم يكن لي غيره؟! فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الرقوب: الذي يبقى ولدها، ثمّ قال: ما من امرئٍ أو امرأةٍ مُسلمةٍ يموت لها ثلاثة أولاد [يحتسبهم]؛ إلاَّ أدخله الله بهم الجنّة. فقال عمر [وهو عن يمين النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]: بأبي أنت وأُمّي واثنين؟! قال: واثنين" (¬1). الثالث: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينما دخل على أمّ سلمة -رضي الله عنها- عقب موت أبي سلمة: "اللهمّ اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديّين، واخلُفْه في عَقِبه في الغابرين (¬2)، واغفِر لنا وله يا ربّ العالمين! وافسح له في قبره، ونوِّر له ¬

_ (¬1) أخرجه البزار والزيادات منه، والحاكم وقال: "صحيح الإِسناد"، ووافقه الذهبي، وانظر للمزيد من الفوائد الحديثية ما قاله شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 208). (¬2) أي: الباقين.

فيه" (¬1) وسألت شيخنا -رحمه الله- عن تعزية الذّمي إِذا أَمِنَ المعزّي الفتنة؟ فقال: "نعم يجوز، ويضاف إِلى ذلك: أحسن التعزية". يريد شيخنا: يجوز للمرء أن يعزّي الذمّي إِذا أمِن الفتنة وأحسَن التعزية. لكن قرأت في "أحكام الجنائز" (ص 169) كلاماً له -رحمه الله- يقول فيه -بعد حديث: "اذهب فواره"-: ومن الملاحظ في هذا الحديث أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُعزِّ علياً بوفاة أبيه المشرك، فلعله يصلح دليلاً لعدم شرعية تعزية المسلم بوفاة قريبه الكافر، فهو -من باب أولى- دليلٌ على عدم جواز تعزية الكفار بأمواتهم أصلاً". ثمّ ذكّرني أخي عمر الصادق -حفظه الله تعالى- بفائدة ذكَرها شيخنا - رحمه الله- في "صحيح الأدب المفرد" (847/ 1112) وهو تقييده جواز تعزية الكافر بأن لا يكون حربياً عدواً للمسلمين، فقد قال -رحمه الله- بعد إِيراد أثر عُقبة بن عامر الجُهني -رضي الله عنه-: "أنّه مرَّ برجل هيئته هيئة مسلم، فسلَّم فردَّ عليه: وعليك ورحمة الله وبركاته، فقال له الغلام: إِنّه نصراني! فقام عقبة فتبعه حتى أدركه فقال: إِنَّ رحمة الله وبركاته على المؤمنين، لكن أطال الله حياتك، وأكثر مالك وولدك" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 920، وتقدّم بتمامه. (¬2) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1112)، وحسن شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "الإِرواء" (1274).

لا تحد التعزية بثلاثة أيام:

قال -رحمه الله-: في هذا الأثر إِشارةٌ من هذا الصحابي الجليل إِلى جواز الدعاء بطول العمر ولو للكافر، فللمسلم أولى، ولكن لا بُدّ أن يلاحظ الداعي أن لا يكون عدوًّا للمسلمين، ويترشّح منه جواز تعزية مِثله لما في هذا الأثر". والخلاصة جواز تعزية الكافر غير الحربيّ أو المعادي للمسلمين أحسن المعزّي عزاءَه وأمِن الفتنة، والله -تعالى- أعلم. وسألته -رحمه الله-: هل ترون الذهاب إِلى بيوت التعزية للنهي عن المنكر؛ مع ما قد عَلِمنا من حُكمه؟! فقال: يحضر وينصح ويُذكّر، أمّا للتعزية فقط فلا. لا تُحدّ التعزية بثلاثة أيام: ولا تُحدّ التعزية بثلاثة أيام لا يتجاوزها؛ فإِن حديث: "لا عزاء فوق ثلاث" لا يُعرف له أصْل؛ كما قال شيخنا -رحمه الله-. بل متى رأى الفائدة في التعزية أتى بها؛ فقد ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه عزى بعد الثلاثة في حديث عبد الله بن جعفر -رضي الله تعالى عنهما- قال: "بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيشاً استعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: فإِنْ قُتل زيد أو استشهد؛ فأميركم جعفر، فإِنْ قتل أو استشهد، فأميركم عبد الله بن رواحة؛ فلقوا العدوّ، فأخذ الراية زيد، فقاتل حتى قُتل، ثمّ أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قُتل، ثمّ أخذها عبد الله، فقاتل حتى قُتل، ثمّ أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه. وأتى خبرهم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج إِلى الناس، فحمد الله وأثنى عليه وقال: إِنّ إِخوانكم لقوا العدوّ، وإِنّ زيداً أخذ الراية، فقاتل حتى قُتل واستشهد، ثمّ ..

ثم .. ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله: خالد بن الوليد؛ ففتح الله عليه، فأُمِهْل؛ ثمّ أَمْهَل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثمّ أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي ابْنَيْ أخ. قال: فجيء بنا كأنّا أفْرُخٌ، فقال: ادعوا لي الحلاق، فجيءَ بالحلاق، فحلق رؤوسنا ثمّ قال: أمّا محمد؛ فشبيه عمِّنا أبي طالب، وأما عبد الله؛ فشبيه خلْقي وخُلُقي، ثمّ أخذ بيدي فأشالها فقال: اللهمّ اخلف جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه، قالها ثلاث مرات. قال: فجاءت أُمنّا فذكرت له يُتْمَنا، وجعلت تُفْرِح (¬1) له، فقال: آلعَيْلَةَ تخافين عليهم؛ وأنا وليُّهم في الدنيا والآخرة؟! " (¬2). قال شيخنا -رحمه الله- (ص210): "وقد ذهب إِلى ما ذكرنا -من أنّ التعزية لا تُحدّ بحدّ-: جماعة من أصحاب الإِمام أحمد، كما في "الإِنصاف" (2/ 564)، وهو وجهٌ في المذهب الشافعي، قالوا: لأنّ الغرض الدعاء، والحمل على الصبر، والنهي عن الجزع، وذلك يحصل مع طول الزمان. حكاه إِمام الحرمين، وبه قطع أبو العباس ابن القاص من أئمتهم، وإن أنكره عليه بعضهم؛ فإِنما ذلك من طريق المعروف من المذهب لا الدليل، وانظر "المجموع" (5/ 306) ". ¬

_ (¬1) تُفرِحُه: مِن أفرَحه: إِذا غمّه وأزال عنه الفرَح، وأفرَحه الدّين إِذا أثقله. "النهاية". (¬2) أخرجه أحمد بإِسناد صحيح على شرط مسلم، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 209).

ينبغي اجتناب أمرين، وإن تتابع الناس عليهما:

ينبغي اجتناب أمرين، وإنْ تتابع الناس عليهما: 1 - الاجتماع للتعزية في مكانٍ خاصّ؛ كالدار أو المقبرة أو المسجد. 2 - اتخاذ أهل الميت الطعام؛ لضيافة الواردين للعزاء. فعن جرير بن عبد الله البَجَلي -رضي الله عنه- قال: "كنّا نعُدُّ (وفي رواية: نرى) الاجتماع إِلى أهل الميت، وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- (ص 210): "قال النووي في "المجموع" (5/ 306): وأمّا الجلوس للتعزية؛ فنصّ الشافعي -والمصنّف [أي: الشِّيرازيّ] وسائر الأصحاب على كراهته، قالوا: يعني بالجلوس لها: أن يجتمع أهل الميت في بيت، فيقصدهم من أراد التعزية. قالوا: بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم، فمن صادفهم عزّاهم، ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها". ونصُّ الإِمام الشافعي الذي أشار إِليه النووي: هو في كتاب "الأم" (1/ 248): "وأكره المآتم، وهي الجماعة، وإِنْ لم يكن لهم بكاءٌ؛ فإِنّ ذلك يُجدِّد الحزن، ويكلّف المُؤْنَة (¬2)، مع ما مضى فيه من الأثر. كأنّه يُشير إِلى حديث جرير هذا [كنّا نعد الاجتماع إِلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النّياحة]، قال النووي: "واستدلّ له المصَنِّف وغيره بدليل آخر؛ وهو أنّه مُحدَث". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1308). (¬2) المُؤْنَة: القوت.

وكذا نص ابن الهُمَام في "شرح الهداية" (1/ 473) على كراهية اتِّخاذ الضيافة من الطعام من أهل الميت؛ وقال: "وهي بدعة قبيحة". وهو مذهب الحنابلة كما في "الإِنصاف" (2/ 565). وإنما السّنة أن يصنع أقرباء الميت وجيرانه لأهل الميت طعاماً يُشبعهم. فعن عبد الله بن جعفر -رضي الله عنه- قال: "لما جاء نَعِيُّ جعفر حين قُتل؛ قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اصنعوا لآل جعفر طعاماً؛ فقد أتاهم أمر يَشْغَلُهم -أو أتاهم ما يَشْغَلُهم-" (¬1). وقد كانت عائشة تأمر بالتلبينةِ للمريض، وللمحزون على الهالك، وتقول: إِني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنّ التلبينة (¬2) مَجمَّة (¬3) لفؤاد المريض؛ تذهب ببعض الحزن" (¬4). قال الإِمام الشافعي في "الأم" (1/ 247): "وأحبّ لجيران الميت أو ذوي القرابة: أن يعملوا لأهل الميت في يوم يموت وليلته طعاماً يُشبعهم؛ فإِنّ ذلك سُنّة، وذكر كريم، وهو من فعل أهل الخير قبلنا وبعدنا". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2686)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (796)، وحسنه، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1306). (¬2) طعام يُتخّذ من دقيق أو نخالة، وربما جُعل فيها عسل، سمّيت بذلك؛ لشبهها باللبن في البياض والرّقة. "فتح". (¬3) مَجمّة -بفتح الميم-؛ أي: مكان الاستراحة. ورويت بضم الميم -مُجِمّة-؛ أي: مريحة. وانظر "الفتح". (¬4) أخرجه البخاري: 5417، ومسلم: 2216.

ما ينتفع به الميت

ما ينتفع به الميِّت وينتفع الميت من عَمَل غيره بأمور: أولاً: دعاء المسلم واستغفاره له، إِذا توفّرت فيه شروط القبول؛ لقول الله - تبارك وتعالى-: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإِخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا ربَّنا إِنّك رؤوف رحيم} (¬1). وأما الأحاديث؛ فهي كثيرة جدّاً؛ منها حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة؛ عند رأسه مَلَك مُوكّل؛ كلّما دعا لأخيه بخير؛ قال الملك المُوكّل به: آمين؛ ولك بمثل" (¬2). بل إِنّ صلاة الجنازة جلّها شاهد لذلك؛ لأنّ غالبها دعاء للميت، واستغفار له. ثانياً: قضاء وليّ الميت صومَ النّذر عنه؛ دون صوم رمضان (¬3)، وفيه أحاديث: 1 - عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من مات وعليه صيام؛ صام عنه وليُّه" (¬4). ¬

_ (¬1) الحشر: 10. (¬2) أخرجه مسلم: 2732، وغيره. (¬3) انظر "تلخيص أحكام الجنائز" (ص 75). (¬4) أخرجه البخاري: 1952، ومسلم: 1147.

2 - عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إِنّ أمّي ماتت وعليها صوم شهر؛ أفأقضيه عنها، قال: نعم؛ فدين الله أحقُّ أن يقضى. وعنه أيضاً: قالت امرأة: إِنّ أختي ماتت" (¬1). 3 - عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضاً: أنّ سعد بن عبادة -رضي الله عنه- استفتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إِنّ أُمّي ماتت وعليها نَذْر؟ فقال: اقضِه عنها" (¬2). قال شيخنا -رحمه الله- (ص 215): "وهذه الأحاديث صريحة الدلالة في مشروعية صيام الوليّ عن الميت صومَ النذر؛ إِلا أنّ الحديث الأول يدلُّ - بإِطلاقه- على شيء زائد على ذلك، وهو أنه يصوم عنه صوم الفرض أيضاً، وقد قال به الشافعية، وهو مذهب ابن حزم (7/ 2، 8) وغيرهم. وذهب إِلى الأول الحنابلة، بل هو نصُّ الإِمام أحمد، فقال أبو داود في "المسائل" (96): "سمعت أحمد بن حنبل قال: لا يُصام عن الميت إِلا في النذر". وحمل أتباعه الحديث الأول على صوم النذر، بدليل ما روت عمرة: أنّ أمها ماتت وعليها من رمضان؛ فقالت لعائشة: أقضيه عنها؟ قالت: لا؛ بل تصدّقي عنها -مكان كل يوم- نصف صاع على كل مسكين" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1953، ومسلم: 1148. (¬2) أخرجه البخاري: 2761، ومسلم: 1638. (¬3) أخرجه الطحاوي، وابن حزم -واللفظ له- بإِسناد قال ابن التركماني: "صحيح".

وبدليل ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إِذا مرض الرجل في رمضان، ثمّ مات ولم يصم؛ أطعم عنه، ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- (ص 215): "وهذا التفصيل الذي ذهبَت إِليه أم المؤمنين، وحَبْر الأمّة ابن عباس -رضي الله عنهما- وتابعهما إِمام السنّة أحمد ابن حنبل: هو الذي تطمئن إِليه النفس، وينشرح له الصدر، وهو أعدل الأقوال في هذه المسألة وأوسطها، وفيه إِعمال لجميع الأحاديث؛ دون ردٍّ لأيّ واحد منها، مع الفهم الصحيح لها؛ خاصة الحديث الأول منها، فلم تفهم منه أم المؤمنين ذلك الإِطلاق الشامل لصوم رمضان، وهي رَاوِيتُهُ، ومن المقرر أنّ راوي الحديث أدرى بمعنى ما روى، لا سيّما إِذا كان ما فَهِمَ هو الموافق لقواعد الشريعة وأصولها، كما هو الشأن هنا. وقد بيّن ذلك المُحقق ابن القيم -رحمه الله تعالى- فقال في "إِعلام الموقعين" (3/ 554) -بعد أن ذكر الحديث وصححه-: "فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه، وقالت: يُصام عنه النذر والفرض! وأبت طائفة ذلك، وقالت: لا يُصام عنه نذر ولا فرض! وفصّلت طائفة؛ فقالت: يُصام عنه النذر دون الفرض الأصلي. وهذا قول ابن عباس وأصحابه، وهو الصحيح؛ لأنّ فرض الصيام جارٍ مجرى الصلاة، فكما لا يُصلي أحد عن أحد، ولا يُسْلِمُ أحد عن أحد، فكذلك ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود بسند صحيح على شرط الشيخين، وله طريق آخر بنحوه عند ابن حزم، وصحح إِسناده.

الصيام. وأمّا النذر؛ فهو التزام في الذمة بمنزلة الدَّين، فيُقبل قضاء الوليّ له كما يقضي دَيْنه، وهذا محض الفقه. وطرد هذا أنه لا يُحَجُّ عنه، ولا يُزَكَّى عنه؛ إِلا إِذا كان معذوراً بالتأخير؛ كما يطعم الوليّ عمّن أفطر في رمضان لعذر. فأما المُفرّط من غير عذر أصلاً فلا ينفعه أداء غيره لفرائض الله التي فرّط فيها، وكان هو المأمور بها ابتلاءً وامتحاناً دون الوليّ، فلا تنفع توبة أحد عن أحد، ولا إِسلامه عنه، ولا أداء الصلاة عنه؛ ولا غيرها من فرائض الله -تعالى- التي فرّط فيها حتى مات". قال شيخنا -رحمه الله-: "وقد زاد ابن القيم -رحمه الله- هذا البحث توضيحاً وتحقيقاً في "تهذيب السنن" (3/ 279 - 282)، فليراجع؛ فإِنّه مهم. ثالثاً: قضاء الدّين عنه من أيّ شخص؛ وليّاً كان أو غيره، وفيه أحاديث كثيرة وقد سبق ذِكر الكثير منها. رابعاً: ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة؛ فإِنّ لوالديه مثلَ أجره، دون أن ينقص من أجره شيء؛ لأن الولد من سعْيهما وكسْبهما، والله -عزّ وجلّ- يقوله: {وأنْ ليس للإِنسان إِلا ما سعى} (¬1). وعن عمّة عمارة بن عمير: أنّها سألت عائشة -رضي الله عنها-: في حجري يتيم؛ أفآكل من ماله؟ فقالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ من أطيب ما أكل ¬

_ (¬1) النجم: 39.

الرجل من كسْبه، وولدهُ من كسْبه" (¬1). ويؤيد ما دلّت عليه الآية والحديث أحاديثُ خاصة وردت في انتفاع الوالد بعمل ولده الصالح؛ كالصدقة والصيام والعتق ونحوه، وهي هذه: الأول: عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنّ رجلاً قال للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنّ أميّ افتُلِتَت نفسها (¬2)، وأراها لو تكلّمت تصدّقت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، تصدّق عنها" (¬3). الثاني: عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنّ سعد بن عبادة -رضي الله عنه- أخا بني ساعدة -تُوفِّيت أُمه وهو غائب، فأتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3013)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4144)، والترمذي، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1738). (¬2) جاء في "النهاية": "أي: ماتت فجأة وأُخذت نفسها فلتة، يُقال: افتلته: إِذا استلبه، وافتُلِتَ فلان بكذا: إِذا فُوجئ به قبل أن يستعدّ له. ويروى بنصب النفس ورفعها: فمعنى النصب: افتَلَتَها الله نفسها، مُعدّى إِلى مفعولين، كما تقول: اختَلَسَه الشيء واستلبه إِيّاه، ثمّ بنى الفعل لما لم يُسمّ فاعله، فتحوّل المفعول الأوّل مضمراً وبقي الثاني منصوباً، وتكون التاء الأخيرة ضمير الأمّ؛ أي: افتلتت هي نفسها. وأمّا الرّفع؛ فيكون مُتعدياً إِلى مفعول واحد، أقامه مقام الفاعل، وتكون التاء للنفس؛ أي: أُخذت نفسها فلتة". قال القاضي: أكثر روايتنا فيه بالنصب. قاله النووي -رحمه الله-. (¬3) أخرجه البخاري: 2760، 1388، ومسلم: 1004.

إِنّ أمي توفِّيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إِن تصدَّقت به عنها؟ قال: نعم. قال: إِني أُشهِدك أنّ حائطى المِخْرَافَ (¬1) صدقة عليها" (¬2). الثالث: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ رجلاً قال للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنّ أبي مات وترك مالاً ولم يُوصِ، فهل يُكفّر عنه أن أتصدّق عنه؟ قال: نعم" (¬3). الرابع: عن عبد الله بن عمرو: "أنّ العاص بن وائل السَّهْمِي أوصى أن يُعتق عنه مائة رقبة، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة، فأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية. قال: حتى أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إِنّ أبي أوصى بعتق مئة رقبة، وإنّ هشاماً أعتق عنه خمسين، وبقيت عليه خمسون، أفأعتق عنه؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنه لو كان مسلماً فأعتقتم عنه أو تصدّقتم عنه، أو حججتم عنه؛ بلغه ذلك (وفي رواية: فلو كان أقرّ بالتوحيد فصمت وتصدّقت عنه؛ نفعه ذلك) " (¬4). قال شيخنا -رحمه الله- (ص 219): "قال الشوكاني في "نيل الأوطار" (4/ 79): "وأحاديث الباب تدّل على أنّ الصدقة من الولد تلحق الوالدين ¬

_ (¬1) أي: المثمر. قاله الكرماني (12/ 77). سمي بذلك لما يُخْرَفُ منه؛ أي: يجنى من الثمرة. قاله القسطلاني، كما في "عون المعبود" (8/ 63). (¬2) أخرجه البخاري: 2762. (¬3) أخرجه مسلم: 1630. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2507)، والبيهقي -والسياق له- وأحمد، -والرواية الأخرى له-، وإسنادهم حسن.

بعد موتهما بدون وصيّة منهما، ويصل إِليهما ثوابها، فيخصّص بهذه الأحاديثِ عمومُ قوله -تعالى-: {وأنْ ليس للإِنسان إِلا ما سعى}، ولكن ليس في أحاديث الباب إِلا لحوق الصدقة من الولد، وقد ثبت أنّ ولد الإِنسان من سعيه، فلا حاجة إِلى دعوى التّخصيص، وأمّا من غير الولد؛ فالظاهر من العموميّات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إِلى الميت، فيوقف عليها، حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها". قلت أي: شيخنا -رحمه الله-: "وهذا هو الحق الذي تقضيه القواعد العلمية: أنّ الآية على عمومها، وأن ثواب الصدقة وغيرها يصل من الولد إِلى الوالد؛ لأنّه من سعيه؛ بخلاف غير الولد". وقال -رحمه الله- (ص 222): "وإذا كان من المسلَّم به عند أهل العلم: أنّ لكلّ عقيدة أو رأي يتبناه أحد في هذه الحياة أثراً في سلوكه -إِن خيراً فخير؛ وإن شرّاً فشّر-؛ فإِن من المُسَلّم به أيضاً: أنّ الأثر يدلُّ على المُؤثّر، وأنّ أحدهما مرتبط بالآخر -خيراً أو شراً كما ذكرنا-، وعلى هذا؛ فلسنا نشكُّ أنّ لهذا القول أثراً سيئاً في من يحمله أو يتبناه، من ذلك مثلاً: أنّ صاحبه يتّكل في تحصيل الثواب والدرجات العاليات على غيره؛ لعلمه أنّ الناس يُهدون الحسنات مئات المرّات في اليوم الواحد إِلى جميع المسلمين: الأحياء منهم والأموات، وهو واحد منهم، فلماذا لا يستغني حينئذ بعمل غيره عن سعيه وكسْبه؟! ألست ترى -مثلاً- أنّ بعض المشايخ الذين يعيشون على كسْب تلامذتهم لا يَسْعَوْن بأنفسهم ليَحْصُلوا على قوت يومهم بعرق جبينهم وكَدِّ يمينهم؟!

وما السبب في ذلك؛ إِلا أنهم استغنوا عن ذلك بكسب غيرهم، فاعتمدوا عليه وتركوا العمل!! هذا أمر مشاهد في المادِّيّات، معقول في المعنويات، كما هو الشأن في هذه المسألة. وليت أنّ ذلك وقف عندها ولم يتعدّها إِلى ما هو أخطر منها، فهناك قول بجواز الحجّ عن الغير؛ ولو كان غير معذور؛ كأكثر الأغنياء التاركين للواجبات! فهذا القول يحملهم على التساهل في الحجّ والتقاعس عنه؛ لأنّه يتعلّل به ويقول في باطنه: يحجّون عنّي بعد موتي! بل إِنّ ثمّة ما هو أضرُّ من ذلك، وهو قول بوجوب إِسقاط الصلاة عن الميت التارك لها! فإِنّه من العوامل الكبيرة على ترك بعض المسلمين للصلاة؛ لأنّه يتعلل أيضاً بأنّ النّاس يُسقطونها عنه بعد وفاته! إِلى غير ذلك من الأقوال التي لا يخفى سوء أثرها على المجتمع! فمن الواجب على العالم الذي يُريد الإِصلاح: أن ينبذ هذه الأقوال؛ لمُخالفتها نصوص الشريعة ومقاصدها الحسنة. وقابِل أثر هذه الأقوال بأثر قول الواقفين عند النّصوص -لا يخرجون عنها بتأويل أو قياس-: تجد - الفرق كالشمس؛ فإِنّ من لم يأخذ بمثل الأقوال المشار إِليها؛ لا يُعقل أن يتّكل على غيره في العمل والثواب؛ لأنه يرى أنه لا يُنجّيه إِلا عمله، ولا ثواب له إِلا ما سعى إِليه هو بنفسه، بل المفروض فيه أن يسعى - ما أمكنه- إِلى أنْ يُخلِّف من بعده أثراً حسناً يأتيه أجره، وهو وحيد في قبره، بدل تلك الحسنات الموهومة، وهذا من الأسباب الكثيرة في تقدّم السلف وتأخُّرنا، ونَصْر الله إِيّاهم وخِذْلانه إِيّانا، نسأل الله -تعالى- أن يهدينا كما هداهم، وينصرنا كما نصرهم (¬1)! ¬

_ (¬1) أيُّ سبيلٍ لهدم الإِرجاء كهذا؟! فَرحم الله شيخنا رحمة واسعة على نشْرِهِ =

خامساً: ما خلّفه من بعده من آثارٍ صالحة وصدقات جارية، لقوله تبارك وتعالى-: {ونكتب ما قدّموا وآثارَهم}، وفيه أحاديث: 1 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا مات الإِنسان؛ انقطع عنه عمله إِلا من ثلاثة: إِلا من صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (¬1). 2 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضاً قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ ممّا يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علّمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومُصْحفاً ورّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته؛ يلحقه من بعد موته" (¬2). 3 - عن جرير بن عبد الله قال: "كنّا عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حُفاةً عُراةً مُجتابي (¬3) النِّمار (¬4) أو العباء (¬5) مُتقلِّدي السيوف، ¬

_ = عقيدة أهل السّنّة والجماعة. (¬1) أخرجه مسلم: 1631. (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (198) وغيره. (¬3) مجتابي النمار؛ أي: خرقوا وسطها. قاله النووي -رحمه الله-. (¬4) النمار -بكسر النون-: جمع نَمِرة؛ وهي ثياب صوف فيها تنمير. قاله النووي أيضاً. جاء في "النهاية": "كلّ شَمْلةٍ مخطّطة من مآزر الأعراب؛ فهي نَمِرة، وجمعها نمار؛ كأنها أُخذت من لون النّمِر؛ لما فيها من السواد والبياض، وهي من الصفات الغالبة، أراد أنه جاءه قوم لابسي أُزر مُخطّطة من صوف". (¬5) العباء: جمع عباءَة.

عامَّتهم من مُضَرَ -بل كلّهم من مضر- فتمعّر (¬1) وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثمّ خرج؛ فأمر بلالاً؛ فأذّن وأقام فصلّى؛ ثمّ خطب فقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ... } إِلى آخر الآية: {إِنّ الله كان عليكم رقيباً}، والآية التي في الحشر: {اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغدٍ واتقوا الله}؛ تصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّهِ، من صاع تمره (حتى قال)، ولو بشقِّ تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرّة كادت كفّه تَعْجِزُ عنها، بل قد عَجَزت. قال: ثمّ تتابع الناس، حتى رأيت كومين عن طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتهلَّل (¬2)؛ كأنّه مُذْهَبَة (¬3)، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من سنّ في الإِسلام سُنّة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها بعده؛ من غير أن ينقص من أُجورهم شيء. ومن سنّ في الإِسلام سنّة سيئةً؛ كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده؛ من غير أن ينقُص من أوزارهم شيء" (¬4). ¬

_ (¬1) تمعّر؛ أي: تغيّر. (¬2) يتهلّل؛ أي: يستنير فرحاً وسروراً. (¬3) مُذَهَبَة: من الشيء المذهب، وهو المُمَوَّه بالذهب، أو مِن قولهم: فرس مُذهَب: إِذا عَلَت حُمرتَه صَفرةٌ. "النهاية". (¬4) أخرجه مسلم: 1017.

زيارة القبور

زيارة القبور مشروعيّتها: وتُشرع زيارة القبور؛ للاتعاظ بها وتذكُّر الآخرة؛ شريطة أن لا يقول عندها ما يُغْضِبُْ الرَّبَّ -سبحانه وتعالى- كدعاء المقبور والاستغاثة به من دون الله -تعالى- أو تزكيته والقطع له بالجنّة، ونحو ذلك، وفيه أحاديث: 1 - عن بُرَيْدَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" (¬1). وفي زيادة: "فمن أراد أن يزور؛ فليزُر ولا تقولوا هُجْراً (¬2) " (¬3). قال شيخنا -رحمه الله-: "ولا يخفى أنّ ما يفعله العامّة وغيرهم عند الزيارة -من دعاء الميت، والاستغاثة به، وسؤال الله بحقِّه-: لهو من أكبر الهُجْرِ والقول الباطل، فعلى العلماء أن يبيّنوا لهم حُكم الله في ذلك، ويُفهِّموهم الزيارة المشروعة والغاية منها. وقد قال الصنعاني في "سبل السلام" (2/ 162) -عقب أحاديثَ في الزيارة والحكمة منها-: "الكُلُّ دالٌّ على مشروعية زيارة القبور، وبيان الحكمة فيها، وأنّها للاعتبار، فإِذا خلت من هذه؛ لم تكن مُرادةً شرعاً". 2 - وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّي نهيتكم عن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 977. (¬2) أي: فُحْشاً، يُقال: أهَجر في مَنطِقه يُهْجِرُ إِهجاراً: إِذا أفحش، وكذلك إِذا أكثر الكلام فيما لا ينبغي. "النهاية". (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1922).

ما يقول إذا زار القبور أو مر بها:

زيارة القُبور؛ فزوروها، فإِنّ فيها عبرة، [ولا تقولوا ما يُسْخِطُ الربّ] " (¬1). ما يقول إِذا زار القبور أو مرّ بها (¬2): عن بريدة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعلّمهم إِذا خرجوا إِلى المقابر، فكان قائلهم يقول: السّلام على أهل الدّيار، السّلام عليكم أهل الديّار؛ من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إِن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية" (¬3). عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلما كان ليلتها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ يخرج من آخر الليل إِلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين! وأتاكم ما توعدون؛ غداً مؤجّلون، وإنّا إِن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد (¬4) " (¬5). جواز زيارةِ النساءِ القبورَ: والنّساء كالرجال في استحباب زيارة القبور؛ لوجوه: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، والحاكم، وعنه البيهقي، ثمّ قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 228): "وهو كما قالا". (¬2) هذا العنوان من "سنن أبي داود". (¬3) أخرجه مسلم: 975. (¬4) ويدعو لأهل القبور الذين زارهم. (¬5) أخرجه مسلم: 974.

1 - عُموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " .. فزوروا القبور"؛ فيدخل فيه النساء، وبيانه: أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نهى عن زيارة القبور في أوّل الأمر؛ فلا شك أنّ النهي كان شاملاً للرجال والنساء معاً، فلمّا قال: "كُنتُ نهيتكم عن زيارة القبور"؛ كان مفهوماً أنّه كان يعني الجنسين؛ ضرورةَ أنّه يخبرهم عمّا كان في أول الأمر من نهي الجنسين. فإِذا كان الأمر كذلك؛ كان لزاماً أنّ الخطاب في الجملة الثانية من الحديث - وهو قوله: "فزوروها"-؛ إِنّما أراد به الجنسين أيضاً. ويؤيده أنّ الخطاب في بقية الأفعال المذكورة في زيادة مسلم في حديث بُريدة المتقدّم آنفاً: "ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث؛ فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النّبيذ إِلا في سقاءٍ؛ فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً". أقول [أي: شيخنا -رحمه الله-]: فالخطاب في جميع هذه الأفعال موجّه إِلى الجنسين قطعاً، كما هو الشأن في الخطاب الأوّل: "كنت نهيتكم"؛ فإِذا قيل بأنّ الخطاب في قوله: "فزوروها" خاصٌّ بالرجال؛ اختل نظام الكلام وذهبت طراوته! الأمر الذي لا يليق بمن أوتي جوامع الكلم. ويزيده تأييداً الوجوه الآتية: 2 - مُشاركتهنّ الرجالَ في العلّة التي من أجلها شُرعت زيارة القبور: "فإِنها تُرِقُّ القلبِ وتدمع العين، وتُذكّر الآخرة" (¬1). 3 - أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد رخص لهن في زيارة القبور في حديثين حَفِظْتهما لنا ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم بسند حسن، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 228).

أُمُّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: عن عبد الله بن أبي مُليكة: "أنّ عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقُلت لها: يا أمَّ المؤمنين! من أين أقبلتِ؟ قالت: مِنْ قَبْرِ عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن زيارة القبور؟! قالت: نعم، ثمّ أمر بزيارتها" (¬1). عن محمد بن قيس بن مَخْرَمَةَ بن المطلب أنّه قال يوماً: ألا أحدثكم عني وعن أمّي؟! قال: فظننا أنه يريد أمّه التي ولدته، قال: قالت عائشة: ألا أُحدّثكمَ عنيّ وعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! قلنا: بلى. قال: قالت: لمّا كانت ليلتي التي كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها عندى؛ انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إِزاره على فراشه، فاضطجع -فذكرت الحديث إِلى أن قالت-: فقال [أي: جبريل لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]: إنّ ربّك يأمُرك أنْ تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم. قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟! قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المُستقدمين منّا والمُستأخرين، وإنا إِن شاء الله بكم للاحقون" (¬2). 4 - إِقرار النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المرأة التي رآها عند القبور في حديث أنس -رضي الله عنه-: "مرّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ، فقال: اتّقي الله واصبري ... " (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 230)، وانظر "الإِرواء" (775). (¬2) أخرجه مسلم: 974. (¬3) أخرجه البخاري: 1283، ومسلم: 626، وتقدّم.

عدم جواز إكثار النساء من زيارة القبور:

عدم جواز إِكثار النساء من زيارة القبور: لا يجوز للنساء الإِكثار من زيارة القبور والتردد عليها؛ لأنّ ذلك قد يُفضي بهنّ إلى مخالفة الشريعة، من مثل الصّياح، والتبرّج، واتخاذ القبور مجالس للنزهة، وتضييع الوقت في الكلام الفارغ، كما هو مشاهد اليوم في بعض البلاد الإِسلامية، وهذا هو المراد -إِن شاء الله- بحديث أبي هريرة: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن زوّارات القبور" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله-: "فهذا اللفظ: "زوّارات" إِنما يدلُّ على لعن النساء اللاتي يكثرن الزيارة؛ بخلاف غيرهنّ؛ فلا يشملُهنّ اللعن ... قال القرطبي: "اللعن المذكور في الحديث إِنما هو للمكثرات من الزيارة؛ لِما تقتضيه الصّيغة من المبالغة، ولعلّ السبب ما يُفضي إِليه ذلك من تضييع حقّ الزوج والتبرج، وما ينشأ من الصّياح ونحو ذلك، وقد يُقال: إِذا أُمِنَ جميع ذلك فلا مانع من الإِذن لهنّ؛ لأنّ تذكُّر الموت يحتاج إِليه الرجال والنساء". جواز زيارة من مات على غير الإِسلام للعبرة: ويجوز زيارة قبر من مات على غير الإِسلام للعبرة فقط. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "زار النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبر أمه؛ فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنْتُ ربي في أن استغفر لها؛ فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها؛ فأذِن لي، فزوروا القبور؛ فإِنها تُذكّر الموت" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (843)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1281). (¬2) أخرجه مسلم: 976، وغيره.

المقصود من زيارة القبور:

وقال ابن حزم -رحمه الله-: "ونستحب زيارة القبور، وهو فرض ولو مرةً؛ ولا بأس بأن يزور المسلم قبر حميمه المشرك، الرجال والنساء سواءٌ. لما روينا من طريق مسلم ثمّ ساق إِسناده إِلى بريدة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها". ومن طريق مسلم وساق إِسناده إِلى أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّه قال: زار النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبر أمه؛ فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي أن أستغفر لها؛ فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها؛ فأذن لي؛ فزوروا القبور؛ فإِنها تذكر الموت". قال: وقد صح عن أم المؤمنين وابن عمر وغيرهما زيارة القبور. وروي عن عمر النهي عن ذلك، ولم يصح". انتهى. قلت: يزور للعبرة فقط؛ فيتعظ ويعتبر ويبكي؛ خوفاً من أن يموت مُشركاً. المقصود من زيارة القبور: المقصود من زيارة القبور شيئان: 1 - انتفاع الزائر بذِكر الموت والموتى، وأنّ مآلهم إِمّا إِلى جنة وإمّا إِلى نار، وهو الغرض الأول من الزيارة، كما يدلّ عليه ما سبَق من الأحاديث. 2 - نفع الميت والإِحسان إِليه: بالسلام عليه، والدعاء، والاستغفار له، وهذا خاصٌّ بالمسلم. فعن عائشة -رضي الله عنها- أيضاً أنها قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلما كان ليلتها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ يخرج من آخر الليل إِلى البقيع فيقول: السلام

عدم مشروعية قراءة القرآن عند زيارة القبور:

عليكم دار قومٍ مؤمنين! وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجّلون، وإنا إِن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" (¬1). وعنها أيضاً في حديثها الطويل قالت: "كيف أقول لهم يا رسول الله؟! قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنّا إِنْ شاء الله بكم للاحقون" (¬2). وعن بريدة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلّمهم إِذا خرجوا إِلى المقابر، فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإِنّا إِن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية" (¬3). عدم مشروعية قراءة القرآن عند زيارة القبور: وأمّا قراءة القرآن عند زيارتها؛ فمما لا أصل له في السُّنّة، بل الأحاديث المذكورة في المسألة السابقة تُشعر بعدم مشروعيتها؛ إِذ لو كانت مشروعة؛ لفَعلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلّمها أصحابه، لا سيّما وقد سألته عائشة -رضي الله عنها- وهي من أحبِّ الناس إليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمّا تقول إِذا زارت القبور؟ فعلّمها السلام والدعاء، ولم يُعلمها أن تقرأ الفاتحة أو غيرها من القرآن، فلو أن القراءة كانت مشروعة لما كتم ذلك عنها، كيف وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما تقرّر في علم الأصول، فكيف بالكتمان، ولو أنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علّمهم شيئاً من ذلك لنُقل إِلينا، فإِذا لم يُنقل بالسّند الثابت دلّ على أنه لم يقع. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 974، وتقدّم. (¬2) أخرجه مسلم: 974، وتقدّم. (¬3) أخرجه مسلم: 975، وتقدّم.

جواز رفع اليدين عند الدعاء:

ومّما يُقويّ عدم المشروعية حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ إِنّ الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة" (¬1). فقد أشار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى أنّ القُبور ليست موضعاً للقراءة شرعاً، فلذلك حضّ على قراءة القرآن في البيوت، ونهى عن جعلها كالمقابر التي لا يُقرأ فيها، كما أشار في الحديث الآخر إِلى أنّها ليست موضعاً للصلاة أيضاً. فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً" (¬2). جواز رفع اليدين عند الدعاء: ويجوز رفع اليدين في الدّعاء لها؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة، فأرسلتُ بَرِيرَة في إِثَرِهِ لتنظر أين ذهب؟ قالت: فسلك نحو بقيع الغرقد، فوقف في أدنى البقيع، ثمّ رفع يديه، ثمّ انصرف، فرجعت إِليّ بريرة، فأخبرتني، فلمّا أصبَحْتُ سألْته، فقلت: يا رسول الله! أين خرجت الليلة؟ قال: بُعثت إِلى أهل البقيع لأُصلّي عليهم" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 780. (¬2) أخرجه البخاري: 432، ومسلم: 777 بنحوه. (¬3) أخرجه أحمد، وهو في "الموطأ"، وعنه النسائي بنحوه، لكن ليس فيه رفع اليدين، وإسناده حسن.

عدم استقبال القبور حين الدعاء:

عدم استقبال القبور حين الدعاء: ولكنه لا يستقبل القبور حين الدعاء لها، بل الكعبة؛ لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة إِلى القبور؛ كما سيأتي -إِن شاء الله تعالى- والدعاء مخُّ الصلاة ولبُّها كما هو معروف؛ فله حُكمها، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الدعاء هو العبادة" وقرأ: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} إِلى قوله: {داخرين} " (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- (ص 247): "فإِذا كان الدعاء من أعظم العبادة؛ فكيف يُتَوَجَّهُ به إِلى غير الجهة التي أمر باستقبالها في الصلاة؟! ولذلك كان من المُقرّر عند العلماء المُحققين أنه "لا يُستقبل بالدّعاء إِلا ما يستقبل بالصلاة". قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" (ص 175): "وهذا أصل مستمرٌّ: أنه لا يستحبُّ للداعي أن يستقبل إِلا ما يُستحبُّ أن يُصلّي إِليه، ألا ترى أنّ الرجل لما نُهي عن الصلاة إِلى جهة المشرق وغيرها؛ فإِنّه يُنهى أن يتحرّى استقبالها وقت الدعاء؟! ومن الناس من يتحرى وقت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها الرجل الصالح، سواءً كانت في المشرق أو غيره، وهذا ضلال بيّن، وشرٌّ واضح، كما أنّ بعض الناس يمتنع من استدبار الجهة التي فيها بعض الصالحين، وهو يستدبر الجهة التي فيها بيت الله، وقبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! وكلُّ هذه الأشياء من البدع التي تُضارع دين النصارى". ¬

_ (¬1) أخرجه ابن المبارك في "الزهد"، والبخارى في "الأدب المفرد"، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1312)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (3086) وغيرهم.

عدم دخول مقابر الظالمين إلا وهو يبكي:

قال شيخنا -رحمه الله-: "وذكر قبل ذلك بسطور عن الإِمام أحمد وأصحاب مالك: أنّ المشروع استقبال القبلة بالدّعاء؛ حتى عند قبر النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد السلام عليه. ... قال شيخ الإِسلام في "القاعدة الجليلة في التوسّل والوسيلة" (ص 125): "ومذهب الأئمة الأربعة: مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة الإِسلام: أنّ الرجل إِذا سلم على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأراد أن يدعو لنفسه؛ فإِنّه يستقبل القبلة ... ". عدم دخول مقابر الظالمين إِلا وهو يبكي: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين؛ إِلا أن تكونوا باكين، فإِن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم؛ لا يصيبُكم ما أصابهم" (¬1). وذلك لما أرادوا دخول الحِجر مساكن ثمود. قال الحافظ في "الفتح" (1/ 531): "ووجه هذه الخشية؛ أنّ البكاء يبعثه على التفكر والاعتبار، فكأنه أمَرهم بالتفكر في أحوالٍ توجب البكاء من تقدير الله -تعالى- على أولئك بالكفر؛ مع تمكينه لهم في الأرض وإمهالهم مدة طويلة، ثمّ إِيقاع نقمته بهم وشدّة عذابه، وهو -سبحانه- مقلب القلوب؛ فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إِلى مِثل ذلك. والتفكر أيضاً في مقابلة أولئك نعمة الله بالكفر وإِهمالهم إِعمال عقولهم فيما يوجب الإِيمان به والطاعة له، فمن مرّ عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتباراً بأحوالهم؛ فقد شابههم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 433، ومسلم: 2980.

لا يمشي منتعلا بين قبور المسلمين:

في الإِهمال، ودل على قساوة قلبه وعدم خشوعه؛ فلا يأمن أن يجرّه ذلك إِلى العمل بمِثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم. وبهذا يندفع اعتراض من قال: كيف يصيب عذاب الظالمين من ليس بظالم؟ لأنّه بهذا التقرير لا يأمن أن يصير ظالماً؛ فيُعذَّب بظلمه". لا يمشي منتعلاً بين قبور المسلمين: ولا يمشي بين قبور المسلمين في نعليه؛ لحديث بشير بن الخصاصية قال: "بينما أُماشي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .. أتى على قبور المسلمين ... فبينما هو يمشي؛ إِذ حانت منه نظرة؛ فإِذا هو برجلٍ يمشي بين القبور عليه نعلان، فقال: يا صاحبَ السِّبْتيَّتيْن (¬1) ألقِ سِبتيّتيْك. فنظر، فلمّا عرف الرجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع نعليه، فرمى بهما" (¬2). قال الحافظ في "الفتح" (3/ 160): "والحديث يدلُّ على كراهية المشي بين القبور بالنّعال، وأغرب ابن حزم فقال: يحرم المشي بين القبور بالنّعال السّبّتية دون غيرها! وهو جمود شديد. قال شيخنا -رحمه الله- (ص 253): "وقد ثبت أن الإِمام أحمد كان يعمل بهذا الحديث، فقال أبو داود في "مسائله" (ص 158): "ورأيت أحمد إِذا تبع الجنازة فقرُب من المقابر؛ خلع نعليه". (وكذا في "العلل" (3091) - طبع بيروت). ¬

_ (¬1) جاء في "النهاية": "السّبت -بالكسر-: جلود البقر المدبوغة بالقَرَظ [ورق شجر له شوك]، يتخذ منها النعال، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنّ شعرها قد سُبت عنها؛ أي: حُلق. (¬2) أخرجه أصحاب "السنن" وغيرهم، وقد تقدّم.

تحريم وضع الرياحين والورود على القبور:

فرحمه الله، ما كان أتبعه للسّنة! ". تحريم وضع الرياحين والورود على القبور: ولا يُشرع وضع الآس ونحوها من الرياحين والورود على القبور؛ لأنّه لم يكن من فعل السّلف، ولو كان خيراً لسبقونا إِليه، وقد قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كلّ بدعةٍ ضلالة وإنْ رآها النّاس حسنة" (¬1). عدم وضع الجريدة على القبر: ورأى ابن عمر -رضي الله عنهما- فُسْطاطاً (¬2) على قبر عبد الرحمن، فقال: انزعه يا غلام! فإِنّما يُظلّه عمله" (¬3). نقْل الميت: لا يجوز نقْل الميت من بلد إلى بلد -ولو أوصى بذلك-؛ لأنّه ينافي الإِسراع الذي أمر به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أسرعوا بالجنازة؛ فإِن تكُ صالحة؛ فخير تقدمونها ... " (¬4). وسألت شيخنا -رحمه الله- عن قول بعض العلماء: "يحرم نقل الميت من بلد إِلى بلد؛ إِلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس، فإِنّه يجوز النقل إِلى إِحدى هذه البلاد لشرفها وفضلها"؟ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن بَطَّةَ في "الإِبانة عن أصول الديانة"، واللالكائي في "السنّة" موقوفاً بإِسناد صحيح. (¬2) الفسطاط: هو البيت من الشعر، وقد يطلق على غير الشعر. (¬3) أخرجه البخاري معلّقاً مجزوماً به (كتاب الجنائز) (81 - باب الجريد على القبر ... ). (¬4) أخرجه البخاري: 1315، ومسلم: 944، وتقدّم.

ما يحرم عند القبور

فأجاب: "نحن مع النصوص"؛ يشير -رحمه الله- إِلى عدم الجواز؛ لمنافاة الإِسراع الذي أَمَر به النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والله أعلم. ما يحرم عند القبور ويحرم عند القبور ما يأتي: 1 - الذبح والنّحر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا عَقْرَ في الإِسلام". قال عبد الرزّاق بن همام: "كانوا يَعْقِرون (¬1) عند القبر بقرة أو شاة" (¬2). قال شيخنا -رحمه الله-: "قال النووي في "المجموع" (5/ 320): "وأمّا الذبح والعقر عند القبر؛ فمذموم؛ لحديث أنس هذا، رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: "وهذا إِذا كان الذبح هناك لله -تعالى- وأمّا إِذا كان لصاحب القبر -كما يفعله بعض الجهال- فهو شرك صريح (¬3)، وأكله حرام وفسق ... ". 2 - رفْعها زيادة على التراب الخارج منها. ¬

_ (¬1) أي: ينحرونها ويقولون: إِنّ صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته، وأصل العقر: ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم". "النهاية". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2759) وغيره. (¬3) وهذا نقض الإِرجاء البدعي، وردٌّ على من يقول: إِن العمل بذاته لا يكون كُفراً، ولكنّه دالٌّ على الكفر!!

قال شيخنا -رحمه الله- (ص 261): " .. [قال] ابن حزم في "المحلَّى" (5/ 33): "ولا يحلُّ أن يُبنى القبر، ولا أن يُجصّص، ولا أن يُزادَ على ترابه شيء، ويُهدمُ كلُّ ذلك". وقال الإِمام محمد في "الآثار" (ص 45): "أخبرنا أبو حنيفة عن حمّاد عن إِبراهيم قال: كان يُقال: ارفعوا القبر حتى يُعرف أنه قبر فلا يُوطأ. قال محمد: وبه نأخذ، ولا نرى أن يزاد على ما خرج منه، ونكره أن يُجصّص، أو يُطيّن، أو يجعل عنده مسجداً أو علَماً، أو يكتب عليه، ويكره الآجُرُّ أن يبنى به، أو يدخله القبر، ولا نرى برش الماء عليه بأساً، وهو قول أبي حنيفة". قال شيخنا -رحمه الله- بتصرّف: "ويدّل الحديث بمفهومه على جواز رفع القبر بقدْر ما يساعد عليه التراب الخارج منه، وذلك يكون نحو شبر. ولعلّ النهي عن التجصيص -المراد الطلي به- من أجل أنه نوع زينة؛ كما قال بعض المتقدمين، وعليه فما حُكم تطيين القبر؟ ". للعلماء فيه قولان: الأول: الكراهة. والآخر: أنّه لا بأس به. قال شيخنا -رحمه الله- (ص 262): "ولعلّ الصواب التفصيل على نحو ما يأتي: إِن كان المقصود من التطيّين المحافظة على القبر وبقائه مرفوعاً قدر ما سَمحَ به الشرع، وأنْ لا تنسفه الرياح ولا تبعثره الأمطار؛ فهو جائز بدون شكّ لأنّه يحقّق غاية مشروعة، ولعلّ هذا هو وجه من قال من الحنابلة: إِنه يُستحبُّ، وإن كان المقصود الزينة ونحوها ممّا لا فائدة فيه؛ فلا يجوز؛ لأنّه مُحدَث.

3 - طَلْيُها بالكلس ونحوه. 4 - الكتابة عليها. قال شيخنا -رحمه الله-: "وأمّا الكتابة، فظاهر الحديث تحريمها، وهو ظاهر كلام الإِمام محمد، وصرّح الشافعية والحنابلة بالكراهة فقط! وقال النووي (5/ 298): "قال أصحابنا: وسواءٌ كان المكتوب على القبر في لوح عند رأسه -كما جرت عادة بعض الناس- أم في غيره؛ فكلّه مكروه؛ لعموم الحديث". واستثنى بعض العلماء كتابة اسم الميت لا على وجه الزخرفة، بل للتعرف؛ قياساً على وضع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحجر على قبر عثمان بن مظعون كما تقدّم. والذي أراه (¬1) -والله أعلم-: أنّ القول بصحة هذا القياس على إِطلاقه بعيد، والصواب تقييده بما إِذا كان الحجر لا يُحقّق الغاية التي من أجلها وضع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحجر، ألا وهي التعرّف عليه، وذلك بسبب كثرة القبور مثلاً، وكثرة الأحجار المُعرّفة؛ فحينئذ يجوز كتابة الاسم بقدر ما تتحقق به الغاية المذكورة". 5 - البناء عليها. 6 - القعود عليها. وفي ذلك أحاديث: الأول: عن جابر -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ¬

_ (¬1) الكلام لشيخنا -رحمه الله تعالى-.

يُجصّص (¬1) القبر، وأنْ يُقْعَدَ عليه، وأن يُبْنَى عليه، [أو يُزَاد عليه]، [أو يُكْتَبَ عليه] " (¬2). الثاني: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يبنى على القبر" (¬3). الثالث: عن أبي الهيّاج الأسَدي قال: "قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! أن لا تدع تمثالاً إِلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إِلا سوّيته (¬4) ". وفي رواية: "ولا صورة إِلا طمستها" (¬5). قال الشوكاني -رحمه الله- (4/ 72) في شرح هذا الحديث: "فيه أنّ السّنة أنّ القبرَ لا يُرفع رفعاً كبيراً؛ من غير فرْق بين من كان فاضلاً ومن كان غير فاضل، والظاهر أنّ رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرّم، وقد صرّح بذلك أصحاب أحمد، وجماعة، والشافعيّ، ومالك". قال: "ومن رفع القبور -الداخل تحت الحديث دُخولاً أوّليّاً-: القُبب والمشاهد المعمورة على القبور، وأيضاً هو من اتّخاذ القبور مساجد، وقد لعن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعل ذلك ... وكم قد نشأ عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من ¬

_ (¬1) يُجصّص؛ أي: يُطلى بالجصّ، وهو الكلس؛ من موادّ البناء. (¬2) أخرجه مسلم: 970، وانظر لأجل تخريج الزيادات "أحكام الجنائز" (ص 260). (¬3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1270). (¬4) أخرجه مسلم: 969. (¬5) أخرجه مسلم: 969.

وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه -تعالى- ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة.

مفاسد يبكي لها الإِسلام، منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكُفّار للأصنام، وعَظُم ذلك، فظنّوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج، وملجأً لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربّهم، وشدُّوا إِليها الرحال وتمسحوا واستغاثوا. وبالجملة: إِنّهم لم يَدَعُوا شيئاً ممّا كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إِلا فعلوه! فإِنّا لله وإنا إِليه راجعون! ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع؛ لا نجد من يغضب لله، ويغار حميّة للدين الحنيف، لا عالماً ولا مُتعلماً، ولا أميراً ولا وزيراً ولا ملكاً، وقد توارد إِلينا من الأخبار ما لا يُشّك معه أنّ كثيراً من هؤلاء القُبوريين أو أكثرهم -إِذا توجّهت عليه يمين من جهة خصْمِه- حلف بالله فاجراً، فإِذا قيل له بعد ذلك: احلِف بشيخك ومعتقدك الوليّ الفلاني! تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحقّ! وهذا من أبين الأدلة الدالة على أنّ شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إِنّه -تعالى- ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة (¬1). فيا عُلماء الدين! ويا ملوك المسلمين! أيُّ رُزْءٍ للإِسلام أشدُّ من الكفر؟! وأيُّ بلاء لهذا الدين أضرُّ عليه من عبادة غير الله؟! وأيّ مصيبة يُصاب بها ¬

_ (¬1) وهذا هو قول أهل السّنة والجماعة: أن المرء يكفُر بالفعل، وأنّ الفعل بذاته كُفر يدلّ على كُفر الباطن، لا كما تقوله المرجئة: أن الفعل ليس بكفر، لكنهَ يدلّ على كفر الباطن! وهذا من نقولات شيخنا -رحمه الله- القديمة التي تدلّ على نقضه عقيدة المرجئة وسائر العقائد الباطلة ونَصْرِه عقيدةَ السلف الصالح ومنهجهم، فرَحمه الله -تعالى- وجمعنا به مع النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقاً.

المسلمون تعدل هذه المصيبة؟! وأيّ منكرٍ يجب إِنكاره إِنْ لم يكن إِنكار هذا الشرك واجباً؟! لقد أسمعتَ لو ناديت حيّاً ... ولكن لا حياةَ لمن تُنادي ولو ناراً نَفَخْتَ بها أضاءَتْ ... ولكن أنت تنفخ في رَمادِ". الرابع: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لأَنْ يجلس أحدكم على جمرة فتُحرِقَ ثيابه، فتَخْلُصَ إِلى جلده: خير له من أن يجلس (وفي رواية: يطأ) على قبر" (¬1). الخامس: عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لأن أمشي على جمرة أو سيف، أو أخصف نعلي برجلي (¬2): أحبُّ إِليّ من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السّوق (¬3) " (¬4). السادس: عن أبي مَرْثَد الغَنَويّ قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلّوا إِليها" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 971، وغيره. (¬2) الخصف: الخرز، والمراد أنّه صعب شديد. (¬3) يريد أنهما في القبح سيّان، فمن أتى بأحدهما؛ فهو لا يبالي بأيهما أتى، قاله السندي في "شرح ابن ماجه" (1/ 474). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1273). (¬5) أخرجه مسلم: 972.

7 - الصلاة إِلى القبور؛ للحديث المتقدّم آنفاً: "لا تجلسوا على القبور، ولا تُصلّوا إِليها". قال شيخنا -رحمه الله- (ص 269): "وفيه دليل على تحريم الصلاة إِلى القبر؛ لظاهر النهي". انتهى. وجاء في "مجموع الفتاوى" (24/ 321): "وأمّا التمسُّح بالقبر، أو الصلاة عنده، أو قصْده لأجل الدعاء عنده، مُعتقِداً أنّ الدعاء هناك من الدعاء في غيره، أو النذر له ونحو ذلك؛ فليس هذا من دين المسلمين؛ بل هو مما أُحدث من البدع القبيحة، التي هي من شُعب الشرك، والله أعلم وأحكم". 8 - الصلاة عندها ولو بدون استقبال، وفيه أحاديث: الأوّل: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الأرض كلها مسجد؛ إِلا المقبرة والحمام" (¬1). الثاني: عن أنس -رضي الله عنه " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة بين القبور" (¬2). الثالث: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (463)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (262)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (606). (¬2) أخرجه البزار وغيره، وقال الهيثمي في "المجمع": "ورجاله رجال الصحيح". (¬3) أخرجه البخاري: 432، ومسلم: 777.

الرابع: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تجعلوا بُيوتكم مقابر؛ إِنّ الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- (ص 271): "وقد ترجم البخاري للحديث الثالث بقوله: "باب كراهية الصلاة في المقابر". وقال شيخنا -رحمه الله- (ص 274): " [و] كراهة الصلاة في المقبرة تشمل كلّ مكان منها؛ سواءً كان القبر أمام المُصلّي، أو خلفه، أو عن يمينه، أو عن يساره؛ لأنّ النهي مُطلق، ومن المقرّر في علم الأصول أن المطلق يجري على إِطلاقه حتى يأتي ما يُقيّده، ولم يَرِد هنا شيء من ذلك. وقد صرح بما ذكرنا بعض فقهاء الحنفية وغيرهم كما يأتي، فقال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "الاختيارات العلمية" (ص 25): "ولا تصحُّ الصلاة في المقبرة ولا إِليها، والنهي عن ذلك إِنما هو سدّ لذريعة الشّرك، وذكر طائفة من أصحابنا أنّ القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة؛ لأنّه لا يتناوله اسم المقبرة، وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعداً! وليس في كلام أحمد وعامّة أصحابه هذا الفرق؛ بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور، وهو الصواب، والمقبرة كلّ ما قُبر فيه، لا أنّه جمع قبر. وقال أصحابنا: وكلُّ ما دخل في اسم المقبرة ممّا حول القبور لا يُصلّى فيه، فهذا يعيَّن أنّ المنع يكون مُتناولاً لحرمة القبر المنفرد وفِنائه المضاف إِليه. وذكر الآمديّ وغيره: أنه لا تجوز الصلاة فيه -أي: المسجد الذي قبلته إِلى ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 780، وتقدّم.

القبر- حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر، وذكر بعضهم: هذا منصوص أحمد". 9 - بناء المساجد عليها؛ وفيه أحاديث: الأوّل: عن عائشة وابن عباس -رضي الله عنهم- قالا: "لما نُزِل برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ طفِق (¬1) يَطرَحُ خَمِيصةً (¬2) على وجهه، فإِذا اغتمّ كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ يحذّرُ ما صنعوا" (¬3). الثاني: عن عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مسجداً؟ قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره؛ غير أنّي أخشى أنْ يُتَّخَذَ مسجداً" (¬4). الثالث: عن أبي هريرة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "اللهم لا تجعل قبري وثَناً، لعَن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬5). الرابع: عن عائشة -رضي الله عنها-: أنّ أمّ حبيبة وأمّ سَلَمة ذكرتا كنيسةً ¬

_ (¬1) طَفِق -بكسر الفاء وفتحها-؛ أي: جعل، والكسر أفصح وأشهر، وبه جاء القرآن. "شرح النووي". (¬2) الخميصة: كساء له أعلام. (¬3) أخرجه البخاري: 3453، 3454، ومسلم: 531. (¬4) أخرجه البخاري: 1330، ومسلم: 929، وتقدّم بعضه غير بعيد. (¬5) أخرجه أحمد، وابن سعد في "الطبقات"، وأبو يعلى، والحميدي، وأبو نعيم في "الحلية" بإِسناد صحيح.

رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "إِنّ أولئك إِذا كان فيهم الرجل الصالح فمات؛ بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصّور، فأولئك شِرار الخلق عند الله يوم القيامة" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- (ص 279): "وهي تدلّ دلالة قاطعة على أنّ اتّخاذ القبور مساجد حرام؛ لما فيها من لعن المتّخذين، ولذلك قال الفقيه الهيتمي في "الزواجر" (1/ 120 - 121): "الكبيرة الثالثة والتّسعون: اتخاذ القبور مساجد"؛ ثمّ ساق بعض الأحاديث المتقدّمة -وغيرها مما ليس على شرطنا- ثمّ قال: "وعدُّ هذه من الكبائر؛ وقع في كلام بعض الشافعية، وكأنّه أخذ ذلك ممّا ذكره من هذه الأحاديث، ووجهه واضح؛ لأنّه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه، وجعل من فعل ذلك بقبور صُلحائه شرّ الخلق عند الله يوم القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية: "يحذّر ما صنعوا"، أي: يُحذّر أمّته -بقوله لهم ذلك- من أنْ يصنعوا كصنع أولئك، فيُلعَنُوا كما لُعِنُوا .. قال بعض الحنابلة: قَصْدُ الرّجل الصلاةَ عند القبر متبركاً بها: عين المُحادَّة لله ورسوله، وإيداع دين لم يأذن به الله؛ للنهي عنها، ثمّ إِجماعاً؛ فإِنّ أعظم المحرمات وأسباب الشرك: الصلاة عندها، واتّخاذها مساجد، أو بناؤها عليها، والقول بالكراهة محمول على غير ذلك؛ إِذ لا يظنُّ بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن فاعله، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور؛ إِذ هي أضر من مسجد الضّرار لأنها أسست على معصية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنّه نهى عن ذلك، وأمر بهدم القبور المشرفة، وتجب إِزالة كلّ قنديل أو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 427، ومسلم: 528.

سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره". انتهى كلام شيخنا -رحمه الله-. وجاء في "مجموع الفتاوى" (17/ 463): " .. كذلك قال العلماء: يحرم بناء المساجد على القبور، ويجب هدم كل مسجد بني على قبر، وإن كان الميت قد قُبِر في مسجدٍ وقد طال مكثه؛ سُوَّيَ القبر حتى لا تظهر صورته؛ فإِن الشرك إِنما يحصل إِذا ظهرت صورته، ولهذا كان مسجد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولا مقبرة للمشركين، وفيها نخل وخَرِبٌ، فأمر بالقبور فنبشت، وبالنخل فقطع، وبالخرب فسويت، فخرج عن أن يكون مقبرة، فصار مسجداً". قال شيخنا -رحمه الله تعالى-: "هذا .. والاتخاذ المذكور في الأحاديث المتقدّمة يشمل عدّة أمور: الأول: الصلاة إِلى القبور مُستقبلاً لها. الثاني: السّجود على القبور. الثالث: بناء المساجد عليها. والمعنى الثاني ظاهر من الاتّخاذ، والآخران -مع دخولهما فيه- فقد جاء النصُّ عليهما في بعض الأحاديث المتقدّمة". 10 - اتخاذها عيداً، تُقصد في أوقات معينة، ومواسم معروفة للتعبد عندها أو لغيرها؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قُبوراً، وحيثما كنتم فصلّوا عليّ؛ فإِنّ صلاتكم تبلغني" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1796)، وأحمد بإسناد حسن، وهو على شرط مسلم، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 280).

قال شيخنا -رحمه الله- (ص 284): "وممّا يدخل في ذلك دخولاً أوّلياً: ما هو مشاهد اليوم في الدينة [النبوية]، من قصد الناس -دُبُرَ كلّ صلاة مكتوبة- قبر- النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للسلام عليه والدُّعاء عنده وبه، ويرفعون أصواتهم لديه، حتى ليضجّ المسجد بهم، ولا سيّما في موسم الحجّ، حتى لكأنّ ذلك من سنن الصلاة! بل إِنهم يحافظون عليه أكثر من محافظتهم على السّنن! وكلّ ذلك يقع على مرأىً ومسمعٍ من ولاة الأمر، ولا أحد منهم يُنكر، فإِنّا لله وإنّا إِليه راجعون! وأسفاً على غُربة الدين وأهله، وفي مسجد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي ينبغي أن يكون أبعد المساجد -بعد المسجد الحرام- عمّا يخالف شريعته عليه الصلاة والسلام". وقال شيخنا -رحمه الله- (ص 285): "ويجوز لمن بالمدينة إِتيان القبر الشريف للسلام عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحياناً؛ لأنّ ذلك ليس من اتخاذه عيداً؛ كما هو ظاهر. والسلام عليه وعلى صاحبيه -رضي الله عنهما- مشروع بالأدلة العامة، فلا يجوز نفي المشروعية مطلقاً لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اتّخاذ قبره عيداً؛ لإِمكان الجمع بملاحظة الشّرط الذي ذكَرْنا. ولا يَخْدِجُ عليه أننا لا نعلم أنّ أحداً من السلف كان يفعل ذلك؛ لأنّ عدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه كما يقول العلماء، ففي مثل هذا؛ يكفي لإِثبات مشروعيته الأدلة العامّة؛ ما دام أنّه لا يثبت ما يُعارضها فيما نحن فيه. على أنّ شيخ الإِسلام قد ذكر في "القاعدة الجليلة" (ص 80 - طبع المنار) عن نافع أنه قال: كان ابن عمر يُسلم على القبر، رأيته -مائة مرة أو أكثر-

يجيء إِلى القبر فيقول: السلام على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ثمّ ينصرف؛ فإِنّ ظاهره أنّه كان يفعل ذلك في حالة الإِقامة لا السفر؛ لأنّ قوله: "مائة مرة"؛ ممّا يُبعد حمل هذا الأثر على حالة السفر". 11 - السفر إِليها؛ وفيه أحاديث: الأول: عن أبي هريرة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تُشدّ الرحال إِلا إِلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومسجد الأقصى" (¬1). الثاني: عن أبي بَصْرَةَ الغِفَاري: أنه لقي أبا هريرة وهو جاءٍ من الطُّور، فقال: من أين أقبلْتَ؟ قال: أقبلت من الطُّور، صلّيت فيه. قال: أما إِنّي لو أدركتك لم تذهب إِنّي سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا تُشدُّ الرحال إِلا إِلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" (¬2). قال شيخنا -رحمه الله-: "ومّما يَحْسُنُ التنبيه عليه ... أنّه لا يدخل في النهي السّفر للتجارة وطلب العلم؛ فإِنّ السّفر إِنّما هو لطلب تلك الحاجة حيث كانت، لا لخُصوص المكان، وكذلك السّفر لزيارة الأخ في الله؛ فإِنّه ليس هو المقصود، كما قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (2/ 186) ". 12 - إِيقاد السُّرُجِ عندها؛ والدليل على ذلك عدّة أمور: أولاً: كونه بدعة محدثة لا يعرفها السلف الصالح، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1189. (¬2) أخرجه الطيالسي، وأحمد، -والسياق له- وغيرهما، وإسناده صحيح.

بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار" (¬1). ثانياً: أنّ فيه إِضاعة للمال، وهو منهيٌّ عنه، كما في حديث المغيرة بن شعبة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنّ الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال" (¬2). ثالثاً: أنّ فيه تشبهاً بالمجوس عُبّاد النار، قال ابن حجر الفقيه في "الزواجر" (1/ 134): "صرّح أصحابُنا بحرمة السّراج على القبر وإِنْ قلّ؛ حيث لم ينتفع به مقيم ولا زائر، وعلّلوه بالإِسراف، وإضاعة المال، والتشبه بالمجوس، فلا يبعد في هذا أن يكون كبيرة". قال شيخنا -رحمه الله- (ص 294): "ولم يورد -بالإِضافة إِلى ما ذكر من التعليل- دليلنا الأوّل، مع أنه دليل وارد، بل لعلّه أقوى الأدلة؛ لأنّ الذين يوقدون السّرج على القبور إِنما يقصدون بذلك التقرّب إِلى الله -تعالى زعموا! - ولا يقصدون الإِنارة على المقيم، بدليل إِيقادهم إِياها والشمس طالعة في رابعة النهار! فكان من أجل ذلك بدعة ضلالة". 13 - كسر عظامها: والدليل عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حيّاً" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1487)، وابن خزيمة في "صحيحه" بسند صحيح، وتقدّم. (¬2) أخرجه البخاري: 1477، ومسلم: 1715، وتقدّم. (¬3) أخرجه البخاري في "التاريخ"، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2746)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1310)، وغيرهم وتقدّم.

قال شيخنا -رحمه الله- (ص 296): "والحديت دليل على تحريم كسر عظم الميت المؤمن، ولهذا جاء في كتب الحنابلة: "ويحرم قطع شيء من أطراف الميت، وإِتلاف ذاته، وإحراقه، ولو أوصى به". كذا في "كشّاف القناع" (2/ 127). ونحو ذلك في سائر المذاهب، بل جزم ابن حجر الفقيه في "الزّواجر" (1/ 134) بأنّه من الكبائر، قال: "لما علمت من الحديث أنه ككسر عظم الحيّ". قال شيخنا -رحمه الله- (ص 297): ويستفاد من الحديث السابق شيئان: الأول: حُرمة نبش قبر المسلم؛ لما فيه من تعريض عظامه للكسر، ولذلك كان بعض السلف يتحرّج من أن يُحفر له في مقبرة يكثر الدفن فيها، قال الإِمام الشافعي في "الأم" (1/ 245): "أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما أُحبُّ أن أُدفن بالبقيع! لأنْ أُدفن في غيره أحبُّ إِليّ؛ إِنّما هو أحد رجلين: إِمّا ظالم؛ فلا أُحبُّ أن أكون في جواره، وأمّا صالح؛ فلا أُحبُّ أن ينبش في عظامه، قال: وإِنْ أُخرجت عظام ميّت أحببت أن تعاد فتدفن". وقال النووي في "المجموع" (5/ 303) ما مختصره: "ولا يجوز نبش القبر لغير سبب شرعي باتفاق الأصحاب، ويجوز بالأسباب الشرعية كنحو ما سبق (في المسألة: 109)، ومختصره: "أنه يجوز نبش القبر إِذا بلي الميت وصار تُراباً، وحينئذ يجوز دفن غيره فيه، ويجوز زرع تلك الأرض وبناؤها، وسائر وجوه الانتفاع والتصرف فيها باتفاق الأصحاب، وهذا كلّه إِذا لم يَبْقَ للميت أثر من عظم وغيره، ويختلف ذلك باختلاف البلاد والأرض، ويعتمد فيه قول

أهل الخبرة بها". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: ومنه تعلم تحريم ما ترتكبه بعض الحكومات الإِسلامية من درس بعض المقابر الإِسلامية ونبشها؛ من أجل التنظيم العمراني، دون أي مبالاة بحرمتها، أو اهتمام بالنهي عن وطئها وكسر عظامها ونحو ذلك! ولا يتوهّمنّ أحد أنّ التنظيم المشار إِليه يُسوغّ مثل هذه المُخالفات! كلا؛ فإِنّه ليس من الضّروريّات، وإنما من الكماليات التي لا يجوز بمثلها الاعتداء على الأموات، فعلى الأحياء أن يُنظِّموا أمورهم، دون أن يؤذوا موتاهم. ومن العجائب التي تلفت النّظر: أن ترى هذه الحكومات تحترم الأحجار والأبنية القائمة على بعض الموتى أكثر من احترامها للأموات أنفسهم؛ فإِنّه لو وقف في طريق التنظيم المزعوم بعض هذه الأبنية -من القباب أو الكنائس ونحوها-؛ تركتها على حالها، وعدّلت من أجلها خارطة التنظيم؛ إِبقاءً عليها؛ لأنّهم يعتبرونها من الآثار القديمة! وأمّا قبور الموتى أنفسهم؛ فلا تستحق عندهم ذلك التعديل! بل إِنّ بعض تلك الحكومات لتسعى -فيما علمنا- إِلى جعل القبور خارج البلدة، والمنع من الدفن في القبور القديمة؛ وهذه مخالفة أخرى في نظري؛ لأنها تُفوِّت على المسلمين سُنّة زيارة القبور؛ لأنّه ليس من السّهل على عامّة الناس أن يقطع المسافات الطويلة حتى يتمكن من الوصول إِليها، ويقوم بزيارتها والدّعاء لها! والحامل على هذه المُخالفات -فيما أعتقد-: إِنّما هو التقليد الأعمى لأوروبّا الماديّة الكافرة، التي تريد أن تقضي على كلّ مظهر من مظاهر الإِيمان

بالآخرة، وكلّ ما يذكّر بها، وليس هو مراعاةَ القواعد الصِّحّيّة كما يزعمون! ولو كان ذلك صحيحاً؛ لبادروا إِلى مُحاربة الأسباب التي لا يشكُّ عاقل في ضررها، مثل بيع الخمور وشربها، والفسق والفجور؛ على اختلاف أشكاله وأسمائه، فعدم اهتمامهم بالقضاء على هذه المفاسد الظاهرة، وسعيُهم إِلى إِزالة كلّ ما يُذكّر بالآخرة وإِبعادها عن أعينهم: أكبر دليل على أنّ القصد خلاف ما يزعمون ويعلنون، وما تُكنّه صدورهم أكبر. الثاني: أنه لا حرمة لعظام غير المؤمنين؛ لإِضافة العظم إِلى المؤمن في قوله: "عظم المؤمن"، فأفاد أنّ عظم الكافر ليس كذلك، وقد أشار إِلى هذا المعنى الحافظ في "الفتح" بقوله: "يُستفاد منه أنّ حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في حياته". ومن ذلك يُعرف الجواب عن السؤال الذي يتردّد على ألسنة كثيرٍ من الطُّلاّب في كلّيّات الطب، وهو: هل يجوز كسر العظام لفحصها وإِجراء التحرّيات الطبية فيها؟ والجواب: لا يجوز ذلك في عظام المؤمن، ويجوز في غيرها. ويؤيده ما يأتي في المسألة التالية: يجوز نبش قُبور الكفار؛ لأنّه لا حرمة لها؛ كما دلَّ عليه مفهوم الحديث السابق، ويشهد له حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "قدم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، فنزل أعلى المدينة في حيّ -يقال لهم: بنو عمرو بن عوف- فأقام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم أربع عشرة ليلة، ثمّ أَرسل إِلى بني النجّار، فجاءوا متقلّدي السيوف، كأنّي أنظر إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على راحلته وأبو بكر رِدْفَهُ وملأُ بني النجار

حوله، حتى ألقى (¬1) بفِناء (¬2) أبي أيوب، وكان يُحبّ أن يصلّي حيث أدركته الصلاة، ويُصلّي في مرابض الغنم (¬3)، وإنّه أمر ببناء المسجد، فأرسل إِلى ملإٍ من بني النجار: ثامنوني (¬4) بحائطكم هذا. قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إِلا إِلى الله. فقال أنس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خَرِب (¬5)، وفيه نخل، فأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقبور المشركين فنُبِشَتْ، ثمّ بالخَرب فسُوِّيَتْ، وبالنخل فقُطِع، فصفّوا النخل قِبلة المسجد، وجعلوا عِضادتيه (¬6) الحجارة، وجعلوا ينقلون الصّخر وهم يرتجزون، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم وهو يقول: اللهم لا خيرَ إِلا خيرُ الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجِرَة" (¬7). عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كسر عظم الميت ¬

_ (¬1) أي: ألقى رحله. (¬2) هو الناحية المتسعة أمام الدار. (¬3) مرابض الغنم: هي مباركها ومواضع مبيتها ووضْعها أجسادها على الأرض للاستراحة، وتقدّم معناها في "كتاب الطهارة". (¬4) ثامنوني؛ أي: اذكروا لي ثمنه؛ لأذكر لكم الثمن الذي أختاره، قال ذلك على سبيل المساومة. "فتح". (¬5) خَرِب؛ قال القاضي: رُوِّيناه هكذا؛ ورويناه بكسر الخاء وفتح الراء، وكلاهما صحيح، وهو ما تخرّب من البناء. "شرح النووي". (¬6) العِضادة -بكسر العين-: هي جانب الباب. (¬7) أخرجه البخاري: 428، ومسلم: 524.

تحريم جعل المصاحف عند القبور للقراءة:

ككسره حيّاً" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله-: "قال الحافظ في "الفتح": وفي الحديث جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة والبيع، وجواز نبش القبور الدارسة إِذا لم تكن محترمة، وجواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها؛ وإِخراج ما فيها؛ وجواز بناء المساجد في أماكنها". تحريم جعْل المصاحف عند القبور للقراءة: جاء في "مجموع الفتاوى" (ص 301): " .. وأما جعل المصاحف عند القبور لمن يقصد قراءة القرآن هناك وتلاوته؛ فبدعة منكرة، لم يفعلها أحد من السلف، بل هي تدخل في معنى "اتخاذ المساجد على القبور" وقد استفاضت السنن عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[في النهي] عن ذلك، حتى قال: "لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يُحَذِّرُ ما صنعوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً. وقال: "إِن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإِني أنهاكم عن ذلك"، ولا نزاع بين السلف والأئمة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد. ومعلوم أن المساجد بنيت للصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، فإِذا اتخذ القبر لبعض ذلك؛ كان داخلاً في النهي، فإِذا كان هذا مع كونهم يقرؤون فيها؛ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2746)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1310) وتقدّم.

فكيف إِذا جعلت المصاحف بحيث لا يقرأ فيها، ولا ينتَفع بها لا حيٌّ ولا ميتٌ؟! فإِن هذا لا نزاع في النهي عنه. ولو كان الميت ينتفع بمثل ذلك؛ لفعله السلف؛ فإِنهم كانوا أعلم بما يحبه الله ويرضاه، وأسرع إِلى فعل ذلك وتَحرِّيهِ". وسألت شيخنا -رحمه الله- عن قراءة القرآن عند القبر؟ فقال: لا أراها. فقلت له: من أيّ باب؟ فأجاب: لعدم وجود مصلحةٍ تستوجب هذا التكلّف.

الحج

الحج تعريفه: الحج -لغةً-: القصد، قال الله -تعالى-: {ولله على الناس حِجّ البيت} (¬1). أي: قصد البيت. وفي الشرع: القصد إِلى أماكن مخصوصة للقيام بأعمال مخصوصة. فضله والترغيب فيه: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "العمرة إِلى العمرة كفّارة لما بينهما، والحج المبرور (¬2) ليس له جزاءٌ إلاَّ الجنة" (¬3). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تابِعوا بين الحج والعمرة؛ فإِنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ (¬4) الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب دون الجنة" (¬5). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِل: أي العمل أفضل؟ ¬

_ (¬1) آل عمران: 97. (¬2) المبرور: هو الذي لا يخالطه شيء من الإِثم. وقيل: هو المقبول المقابَل بالبرّ، وهو الثواب. "النهاية". (¬3) أخرجه البخاري: 1773، ومسلم: 1349. (¬4) الخَبَث: هو ما تُلقيه النار من وسخ الفضّة والنحاس وغيرهما إذا أُذيبا. "النهاية". (¬5) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (650)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2468)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2334)، وانظر "المشكاة" (2524) و"الصحيحة" (1200).

فقال: "إِيمان بالله ورسوله. قيل: ثمّ ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثمّ ماذا؟ قال: حج مبرور" (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من حج لله، فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ؛ رجع كيومَ ولدته أمه (¬2) " (¬3). عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: "يا رسول الله! ألا نغزو ونجاهد معكم؟! فقال: لَكُنَّ أحسنُ الجهاد وأجمله: الحج حج مبرور، فقالت عائشة: فلا أدَعُ الحج بعد إِذ سمعت هذا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬4). عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: "لمّا جعل الله الإِسلام في قلبي؛ أتيتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: ابسُطْ يمينك فلأبايعك؛ فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: ما لك يا عمرو؟! قال: قلت: أردت أن أشترط! قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت أنّ الإِسلام يهدم ما كان قبله؟ وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله؟ " (¬5). عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفْد (¬6) الله: دعاهم فأجابوه، وسألوه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 26، ومسلم: 83. (¬2) أي: بغير ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتَّبِعَات. "فتح". (¬3) أخرجه البخاري: 1521، ومسلم: 1350. (¬4) أخرجه البخاري: 1861. (¬5) أخرجه مسلم: 121. (¬6) قال في "النهاية": "قد تكرّر ذِكر الوفد في الحديث، وهم القوم يجتمعون =

الحج جهاد لا شوكة فيه:

فأعطاهم" (¬1). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما ترفع إِبل الحاج رِجْلاً، ولا تضع يداً؛ إلاَّ كتبَ الله له بها حسنة، أو محا عنه سيئة، أو رفعه بها درجة" (¬2). الحج جهادٌ لا شوكة فيه: عن الحسين بن علي -رضي الله عنهما- قال: "جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إِني جبان، وإني ضعيف، قال: هلمّ إِلى جهاد لا شوكة فيه: الحج" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "جهاد الكبير، والصغير، والضعيف، والمرأة: الحج والعمرة" (¬4). وعن أمّ سلمة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الحجّ جهادُ كل ¬

_ = ويَرِدُون البلاد، واحدهم وافد، وكذلك الذين يقصدون الأمراء؛ لزيارةٍ واسترفادٍ وانتجاع وغير ذلك". (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2339)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2462)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1108). (¬2) أخرجه البيهقي في "الشعب"، وابن حبان في "صحيحه"، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1106). (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير"، و"الأوسط"، وصححّه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 152)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (1098). (¬4) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2463)، وحسنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1100).

أجر الحاج والمعتمر على قدر نصبه ونفقته:

ضعيف" (¬1). أجر الحاج والمعتمر على قدر نَصَبِهِ ونفقته: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "يا رسول الله! يصدُرُ الناس بنُسُكين وأصدُر بنُسُك؟ فقيل لها: انتظري فإِذا طهُرْتِ فاخرجي إِلى التنعيم؛ فأهلِّي ثمّ ائتينا بمكان كذا، ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك" (¬2). وفي رواية: "إِنما أجرك في عمرتك على قدْر نفقتك" (¬3). من خرَج حاجّاً فمات: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من خرج حاجّاً فمات؛ كُتب له أجر الحاج إِلى يوم القيامة، ومن خرج معتمراً فمات؛ كُتِب له أجر المعتمر إِلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً فمات؛ كُتب له أجر الغازي إِلى يوم القيامة" (¬4). وجوب الحجّ مرّة واحدة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال؛ خطَبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أيها ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1102). (¬2) أخرجه البخاري: 1787، ومسلم: 1211. (¬3) أخرجه الحاكم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1116). (¬4) رواه أبو يعلى من رواية محمد بن إِسحاق، وبقية رواته ثقات، وصححه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1114).

وجوبه على الفور:

الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحُجّوا. فقال رجل: أكُلَّ عام يا رسول الله؟! فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم. ثمّ قال: ذروني ما تركتكم؛ فإِنما هلك من كان قبلكم بكثرة سُؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإِذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ الأقرع بن حابس سأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! الحج في كل سنة أو مرّةً واحدةً؟ قال: بل مرّة واحدة، فمن زاد [فتطوَّع] فهو تطوُّع" (¬2). وجوبه على الَفْورِ: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أراد الحج فليتعجّل؛ فإِنّه قد يمرض المريض، وتَضِلُّ الضالّة، وتعرضُ الحاجة" (¬3). قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- كما في "الاختيارات" (ص 115): "والحج واجب على الفور عند أكثر العلماء". وسألت شيخنا -رحمه الله- عمن يقول: لا يجب الحجّ على الفور؛ لأنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخّر الحج إِلى سنة عشرة، وكان معه أزواجه وكثير من أصحابه، فلو كان واجباً على الفور؛ لَما أخره- عليه الصلاة والسلام-؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 7288، ومسلم: 1337 - واللفظ له-. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1514)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2457)، وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (980). (¬3) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2331)، وانظر "الإِرواء" (990).

فأجاب -رحمه الله-: "هذا تعليل ظنّي، ومن الظنّ المنهيّ عنه؛ لأنّ أيّ إِنسان لم يحجّ فور وجوب الحجّ عليه؛ يُحتمل أن يكون له عذر غير عُذر آخر مثله، من حيث إِنّه لم يحج فوراً، وهذا أمرٌ لا يناقش فيه الإِنسان، وبخاصة فيما يتعلّق برجل دولة كالرسول- عليه الصلاة والسلام- حينما يقال: إِنه لم يحج على الفور لأنّه كان مستطيعاً أن يحج على الفور؛ من أين لهذا المدعي أنه كان مستطيعاً هذا؟! فلا سبيل إِليه إِلا بنص من الرسول -عليه الصلاة والسلام- يخبر فيه أنه ما حج فوراً؛ لأنّ الحج فوراً ليفرض عين، هذا لا سبيل إِليه إِطلاقاً. وهذا نحن نقوله فيما لو لم يكن لدينا نصٌّ يوجب علينا الحج فوراً، ولا شكّ أن الاستدلال على فورية الحج الواجب له عدة أدلة؛ فبعضها من الأدلة العامة، كمِثل قوله -تعالى-: {وسارعوا إِلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أُعدَّت للمتقين}؛ لأنّ المعنى: سارعوا إِلى الأخذ بالأسباب التي تستحقون بها مغفرته، فالأمر بالمسارعة يؤكد الفورية التي نحن نبحث فيها الآن. ونص صريح هو قوله -عليه السلام-: "من أراد الحجّ فليتعجّل"، فمع وجود هذين الدليلين وردّ الاحتمال الظنّي؛ لا يصحّ أن يقولوا: إِن الحجّ ليس على الفور؛ لا سيما أنّ الحج عبادة في السَّنَة مرة واحدة. فحين تكون هناك مسافة زمنية بعيدة بين الإِنسان وبين وقت العبادة؛ فهنا يقع احتمال عارض المرض، وفِقدان المال ونحو ذلك، فحين تعرض مِثل هذه الأعذار لبعد المسافة الزمنية؛ فإِنها أقوى من أن يعرض عُذرٌ في الصلاة المحدّدة

حكمه:

الوقت. لذلك هذه ملاحظة توجب على الإِنسان -حينما يشعر أثناء السَّنَة بالاستطاعة- أنه يجب عليه الحج، وأن يُعِدّ نفسه لذلك، ولا يتمهّل بحُجَّة أنّه لا يجب عليه على الفور، وما يدريه أنه سيعيش إِلى السّنة القادمة؟ ". حكمه: الحج رُكن من أركان الإِسلام وفرض من فرائضه. قال الله -تعالى-: {ولله على الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِليه سبيلاً ومن كفر فإِنّ الله غنيٌّ عن العالمين} (¬1). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُني الإِسلام على خمس: شهادة أن لا إِله إِلا الله وأنّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزّكاة، والحجّ، وصوم رمضان" (¬2). على من يجب؟ يجب الحج على كل مسلم بالغ عاقل حُرٍّ مستطيع. عن علي -رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل" (¬3). ¬

_ (¬1) آل عمران: 97. (¬2) أخرجه البخاري: 8، ومسلم: 16. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3703)، وابن ماجه "صحيح سنن =

بم تتحقق الاستطاعة؟

وأمّا الاستطاعة؛ فلقول الله -تعالى-: {ولله على النّاس حِجّ البيت من استطاع إِليه سبيلاً ومن كفر فإِنّ الله غنيّ عن العالمين} (¬1). بِمَ تتحقق الاستطاعة (¬2)؟ تتحقق الاستطاعة بما يأتي: 1 - أن يكون المكلّف صحيح البدن، فإِن عجَز عن الحج لشيخوخته، أو مرض لا يرجى شفاؤه؛ لزمه إِحجاج غيره عنه إِن كان له مال، كما سيأتي إِن شاء الله -تعالى-. 2 - أن تكون الطريق آمنة، بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله؛ فلو خاف على نفسه من قُطّاع الطريق، أو وباء، أو خاف على ماله من أن يُسْلَبَ منه؛ فهو ممن لم يستطع إِليه سبيلاً. 3، 4 - أن يكون مالكاً للزاد والراحلة. والمعتبر في الزاد: أن يملك ما يكفيه مما يصحّ به بدنه، ويكفي من يعوله كفاية فاضلة عن حوائجه الأصلية؛ من ملبس ومسكن ومركب، حتى يؤدي الفريضة ويعود. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإِذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل ¬

_ = ابن ماجه" (1660) وغيرهما، وانظر "الإرواء" (297)، وتقدّم. (¬1) آل عمران: 97. (¬2) عن "فقه السّنة" (1/ 630) بتصرّف وزيادة حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

حج الصبي والعبد:

-تعالى-: {وتزوَّدوا فإِنّ خير الزاد التقوى (¬1)} " (¬2). والمعتبر في الراحلة؛ أن تمكِّنه من الذهاب والإِياب، سواءٌ أكان ذلك عن طريق البر، أو البحر، أو الجو. وهذا بالنسبة لِمَنْ لا يمكنه المشي لبعده عن مكة، فأمّا القريب الذي يمكنه المشي؛ فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه؛ لأنها مسافة قريبة يمكنه المشي إِليها. 5 - أن لا يوجد ما يمنع من الذهاب إِلى الحج؛ كالحبس أو الخوف من سلطان جائر يمنع الناس. حجّ الصبيّ والعبد: لا يجب على الصبيّ والعبد حجٌّ، وإذا حجّا صحّ منهما، لكن عليهما أن يحجّا حجَّة أخرى؛ إِذا بلغ الصبي، وأعتق العبدُ. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "أيّما صبيّ حجّ ثمّ بلَغ؛ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حجَّ ثمّ عُتق؛ فعليه حجّة أخرى" (¬3). وعن السائب بن يزيد قال: "حُجَّ بي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا ابن سبع سنين" (¬4). ¬

_ (¬1) البقرة: 197. (¬2) أخرجه البخاري: 1523، وانظر "الفتح" (3/ 384) -إن شئت- للمزيد من الفوائد الحديثية. (¬3) أخرجه الشافعي، والطحاوي وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (986). (¬4) أخرجه البخاري: 1858.

وجوب اصطحاب المرأة ذا محرم:

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه لقي ركْباً (¬1) بالرَّوْحَاءِ (¬2) فقال: "من القوم؟ قالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال: رسول الله. فرفعت إِليه امرأة صبيّاً، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر" (¬3). وجوب اصطحابِ المرأةِ ذا مَحْرَمٍ: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّه سمع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يخلُوَنّ رجل بامرأة، ولا تسافرنّ امرأة إلاَّ ومعها محرم. فقام رجل فقال: يا رسول الله! اكتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا، وخرَجَت امرأتي حاجّة؟ قال: اذهب فاحجُج مع امرأتك" (¬4). عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يحِلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً؛ إِلا ومعها أبوها، أو ابنها، أو زوجها، أو أخوها، أو ذو محرم منها" (¬5). جاء في "فيض القدير" (6/ 398) (¬6): "إلاَّ مع ذي محرم: بنسب أو رضاع أو مصاهرة، وفي رواية: "إِلا ومعها ذو محرم"؛ أي: من يحرُم عليه ¬

_ (¬1) الرّكب: أصحاب الإِبل خاصّة، وأصله أن يستعمل في عشرة فما دونها. "نووي". (¬2) الروحاء: مكان على ستة وثلاثين ميلاً من المدينة. "نووي". (¬3) أخرجه مسلم: 1336. (¬4) أخرجه البخاري: 3006، ومسلم: 1341. (¬5) أخرجه مسلم: 1340. (¬6) ملتقطاً.

استئذان المرأة زوجها:

نكاحها من الأقارب؛ كأخ وعمّ وخال، ومن يجري مجراهم؛ كزوج، كما جاء مصرحاً به في روايةٍ ... والمحرم: من حَرُم نكاحه على التأبيد بسبب مُباح لحرمتها. قال ابن العربي: النساء لحم على وضَم (¬1)، كلُّ أحد يشتهيهن، وهنّ لا مدفع عندهنّ، بل الاسترسال فيهن أقرب من الاعتصام، فحصَّن الله عليهن بالحجاب وقطْع الكلام، وحرّم السلام، وباعد الأشباح إِلا مع من يستبيحها وهو الزوج، أو يُمنع منها وهو أولو المحارم، ولما لم يكن بُدٌّ من تصرفّهن؛ أُذن لهن فيه بشرط صحبة من يحميهن، وذلك في مكان [مخافة استمالتهن وخديعتهنّ]، وهو السفر، مقر الخلوة ومعْدن الوحدة". استئذانُ المرأةِ زوجَها (¬2): يُسنّ للمرأة أن تستأذن زوجها في الخروج إِلى الحجّ المفروض، فإِن أَذِن لها خرجت، وإن لم يأذن لها خرجت بغير إِذنه؛ لأنّه ليس للرجل مَنْعُ امرأة من حجّ الفريضة؛ لأنها عبادة واجبة عليها، ولا طاعة لخلوق في معصية الخالق -سبحانه - وعليها أن تعجل به لتُبْرِئ ذمّتها. وأمّا حجّ التطوُّع فله منْعُها منه. قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- كما في "الاختيارات" (ص 115): "وليس للزوج منع زوجته من الحج الواجب مع ذي محرم، وعليها أن تحج وإن لم يأذن في ذلك؛ حتى إِن كثيراً من العلماء أو أكثرهم؛ يوجبون لها النفقة عليه مدةَ الحج". ¬

_ (¬1) الوضَم: كل ما يوضَع عليه اللحم من خشب أو حصير أو نحو ذلك. "الوسيط". (¬2) عن "فقه السنة" (1/ 636) بتصرّف.

من مات أو عجز وعليه حج:

من مات أو عجَز وعليه حجّ: من مات ولم يحج حجة الإِسلام، أو نذر أن يحجّ، أو عجَز لمرض أو شيخوخة؛ وجب على أبنائه الحجّ عنه، أو توكيل من يحجّ عنه. عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن امرأة من جُهينة جاءت إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: "إنّ أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحجّ عنها؟ قال: نعم؛ حُجّي عنها؛ أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قَاضِيَتَهُ؟! اقضوا الله؛ فالله أحقّ بالوفاء" (¬1). وعنه -رضي الله عنه- قال: "جاءت امرأة من خَثْعَمٍ فقالت: يا رسول الله! إِنّ فريضة الله على عباده في الحجّ أدرَكت أبي شيخاَ كبيراً لا يثبت على الراحلة؛ أفأحجّ عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجّة الوداع" (¬2). وجاء في "مجموع الفتاوى" (26/ 12): "وسُئل عن شيخ كبير وقد انحلت أعضاؤه، لا يستطيع أن يأكل أو يشرب، ولا يتحرك، هل يجوز أن يستأجر من يحج عنه الفرض؟ فأجاب: أمّا الحج؛ فإِذا لم يستطع الركوب على الدابة؛ فإِنه يستنيب من يحجّ عنه". انتهى. واختلف العلماء هل يُحَجّ عنه سواءٌ أوصى أم لم يوصِ؟ فمنهم من رأى أنه يُحجّ عنه أوصى أو لم يوصِ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1852. (¬2) أخرجه البخاري: 1513.

ومنهم من اشترط الوصيّة أو عدم القدرة. قال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله- عقب حديث الخثعمية: "وقد صحّ عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الباب غير حديث، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم، وبه يقول الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق؛ يرون أن يحج عن الميت. وقال مالك: إِذا أوصى أن يُحَجّ عنه حُجَّ عنه. وقد رخص بعضهم أن يحج عن الحيّ، إِذا كان كبيراً، وبحال لا يقدر أن يحج، وهو قول ابن المبارك والشافعي" (¬1). جاء في "المنتقى شرح موطأ مالك" (3/ 470): "والعبادات على ثلاثة أضرب: عبادة مختصة بالمال كالزكاة، فلا خلاف في صحة النيابة فيها. وعبادة مختصة بالجسد كالصوم والصلاة، فلا خلاف في أنه لا تصح النيابة فيها. ولا خلاف في ذلك نعلمه؛ إلاَّ ما يروى عن داود أنه قال: من مات وعليه صوم يصوم عنه وليه. وعبادة لها تعلق بالبدن والمال كالجهاد والحج، فقد أطلق القاضي أبو محمد أنه تصح النيابة فيها. وقد كره ذلك مالك -رحمه الله- قال: ولا يحج أحد عن أحد ولا يصلّي أحد عن أحد، ورأى أنّ الصدقة على الميت أفضل من استئجار من يحجّ عنه؛ إِلا أنه إِن أوصى بذلك نُفّذت وصيته. ¬

_ (¬1) انظر "صحيح سنن الترمذي" (1/ 275).

وقال القاضي أبو الحسن: لا تصح النيابة، وإنما للميت المحجوج عنه نفقته إِن أوصى أن يستأجر من ماله على ذلك، وإن تطوع عنه بذلك أحد؛ فله أجر الدعاء وفضله؛ وهذا وجه انتفاع الميت بالحج". وسألت شيخنا -رحمه الله- عن مطلق عمل الخير للوالدين؛ أو الصدقة ... إِلى آخره؟ فأجاب بالجواز. قلت: أيعتمر ويتصدّق ويعمل كلّ أعمال الخير؟ قال: نعم. قلت: والحج؟ فقال -رحمه الله-: "إِذا أراد الابن أن يحجّ عن أحد والديه؛ فإِن كان يقصد حجّ الفريضة؛ فلا بُدّ من التفصيل، ولماذا لم يحجّ؟ فإِنْ كان معذوراً حجّ عنه، أمّا التطوع فلا تفصيل". وسألت شيخنا -رحمه الله- مرّة أخرى عن الحجّ عمّن توفّي؟ فأجاب: "نريد أن نفهم من الذي طلب الحجّ عنه؟ هل هذا قبل الوفاة أم بعدها؟ ثمّ قال -رحمه الله-: لو أنّ المتوفّى كلّفه وأوصى بذلك؛ فله أن يحجّ، أمّا أن يكلّفه غير المكلّف فلا. ويُنظر أيضاً إِلى السبب الذي من أجله لم يحجّ المتوفّى، فإِن شغلَته الدنيا ولم يكن له عُذر؛ فلا يُحجّ عنه؛ إِذ لا يُحجّ عنه إلاَّ في حالة العذر وعدم

هل يوكل في الحج غير الأبناء؟

الاستطاعة (¬1). وسألته -رحمه الله- ذات يوم: هل التوكيل في الحجّ عن العاجز؟ فقال: نعم وذكر الشروط السابقة. هل يوكّل في الحجّ غير الأبناء؟ بعد تقدّم الشروط السابقة أقول: لا شك أن حجّ الأبناء عن آبائهم وأمهاتهم هو الأولى، لكن يجوز توكيل غير الأبناء؛ إِذ التوكيل باب معروف من أبواب الفقه الإِسلامي. وسألت شيخنا -رحمه الله-: إِن كان له أبناء؛ هل يسوغ له أن يوكّل غيرهم؟ فقال: نعم؛ يجوز، لكن إِذا كان مريضاً، أو تنفيذاً لوصية. قلت: والعمرة؟ فأجاب -رحمه الله-: نفس الشيء. وقال شيخنا -رحمه الله- في بعض إِجاباته: "يبحث عن الأصلح والأفضل، فإِذا لم يكن في الأبناء؛ فلا مانع من التعدي إِلى غيرهم". اشتراط الحج عن الغير: وينبغي فيمن يحجّ عن غيره أن يكون حاجّاً عن نفسه. ¬

_ (¬1) وسألته -رحمه الله- عن أخذ النقود إِذا عُرضت على من يحجّ؟ فقال -رحمه الله- بالجواز، وسيأتي إِن شاء الله -عزّ وجلّ- كلام شيخ الإِسلام -رحمه الله- في ذلك.

هل يحج الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل؟

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلاً يقول: "لبيك عن شبرمة، قال: من شُبْرُمة؟ قال: أخ لي -أو قريب لي-. قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حُجّ عن نفسك، ثمّ حُجّ عن شبرمة" (¬1). هل يحج الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل؟ إذا تحققت الشروط السابقة؛ جاز للمرأة أن تحجّ عن الرجل، والعكس كذلك. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "جاءت امرأة من خثعم، فقالت: يا رسول الله! إِن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة؛ أفأَحج عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجة الوداع" (¬2). وقال البخاري -رحمه الله-: "باب الحج والنذور عن الميت، والرجل يحجّ عن المرأة" (¬3). وقال -رحمه الله-: "باب حج المرأة عن الرجل" (¬4). ويرى شيخ الإِسلام -رحمه الله- جواز حج المرأة عن الرجل؛ وذكر حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- المتقدّم عن المرأة الخثعمية. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1596)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2347)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (994). (¬2) أخرجه البخاري: 1513، وتقدّم غير بعيد. (¬3) انظر "كتاب جزاء الصيد" (باب - 22). (¬4) انظر "كتاب جزاء الصيد" (باب - 24).

أخذ النفقة في الحج عن الميت:

ونقل -رحمه الله- جواز هذا عن الأئمة الأربعة وجمهور العلماء (¬1). أخذ النفقة في الحجّ عن الميت: قال شيخ الإِسلام -رحمه الله: "حقيقة الأمر في ذلك: أن الحاج يستحب له ذلك إِذا كان مقصوده أحد شيئين: الإِحسان إِلى المحجوج عنه، أو نفس الحج لنفسه. وذلك أن الحج عن الميت إِن كان فرضاً؛ فذِمَّته متعلقة به، فالحج عنه إِحسان إِليه بإِبراء ذمته؛ بمنزلة قضاء دينه؛ كما قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه؛ أكان يجزي عنه؟ قالت: نعم. قال: فالله أحقّ بالقضاء"، وكذلك ذكر هذا المعنى في عدة أحاديث، بين أنّ الله -لرحمته وكرمه- أحق بأن يقبل قضاء الدين عمن قضي عنه، فإِذا كان مقصود الحاج قضاء هذا الدين الواجب عن هذا، فهذا مُحسن إليه، والله يحب المحسنين؛ فيكون مستحبّاً، وهذا غالباً إِنما يكون لسببٍ يبعثه على الإِحسان إِليه، مِثل رَحِم بينهما، أو مودةٍ وصداقة، أو إِحسان له عليه يجزيه به، ويأخذ من المال ما يستعين به على أداء الحج عنه، وعلامة ذلك أن يطلب مقدار كفاية حجِّه، ولهذا جوّزنا نفقة الحج بلا نزاع، وكذلك لو وصى بحجة مستحبة، وأحب إِيصال ثوابها إِليه. والموضع الثاني: إِذا كان الرجل مُؤْثراً أن يحج؛ محبةً للحج وشوقاً إِلى المشاعر، وهو عاجز؛ فيستعين بالمال المحجوج به على الحجّ، وهذا قد يُعطى المال ليحجَّ به لا عن أحد، كما يعطى المجاهد المال ليغزو به، فلا شبهة فيه، فيكون ¬

_ (¬1) وانظر "مجموع الفتاوى" (26/ 13).

ما الأفضل؛ الحج عن نفسه أو والده أم الصدقة؟

لهذا أجر الحج ببدنه، ولهذا أجر الحج بماله، كما في الجهاد؛ فإِنه من جهز غازياً فقد غزا، وقد يعطى المال ليحج به عن غيره، فيكون مقصود المعطى الحج عن المعطى عنه، ومقصود الحاج ما يحصل له من الأجر بنفس الحج لا بنفس الإِحسان إِلى الغير ... وهذا أيضاً إِنما يأخذ ما ينفقه في الحج؛ كما لا يأخذ إلا ما ينفقه في الغزو، فهاتان صورتان مستحبتان، وهما الجائزتان من أن يأخذ نفقة الحج ويردَّ الفضل، وأما إِذا كان قصده الاكتساب بذلك، وهو أن يستفضل مالاً؛ فهذا صورة الإِجارة والجعالة، والصواب أنّ هذا لا يستحب -وإِن قيل بجوازه- لأنّ العمل المعمول للدنيا ليس بعمل صالح في نفسه، إِذا لم يقصد به إلاَّ المال، فيكون من نوع المباحات، ومن أراد الدنيا بعمل الآخرة؛ فليس له في الآخرة من خلاق (¬1) " (¬2). ما الأفضل؛ الحجّ عن نفسه أو والده أم الصدقة؟ "وسئل شيخ الإِسلام -رحمه الله-: ماذا يقول أهل العلم في رجل ... آتاه ذو العرش مالاً حَجَّ واعتمرا فهزَّه الشوقُ نحو المصطفى (¬3) طرباً ... الحجُّ أفضلُ أم إِيثارُه الفُقَرا ¬

_ (¬1) أي: حظّ ونصيب. (¬2) "مجموع الفتاوى" (26/ 14) -بحذف-. (¬3) قلت: شد الرّحال إِلى قبْرٍ -أخي- حَرُما ... عنه الحبيبُ رسولُ الله قد زَجَرا =

التكسب في الحج:

أم حجه عن أبيه ذاك أفضل أم ... ماذا الذي يا سادتي ظهرا أفتوا مُحبّاً لكم نفسي فديتكمو ... وذكركم دأْبُه إِن غاب أو حضرا فأجاب -رضي الله عنه-: نقول فيه بأن الحج أفضل من ... فِعل التصدّق والإِعطاء للفُقَرا والحج عن والديه فيه بِرُّهما ... والأم أسبق في البر الذي ذُكِرا لكن إِذا الفرضُ خَصَّ الأَبَّ كان إِذًا ... هو المقدَّمَ فيما يمنع الضررا كما إِذا كان محتاجاً إِلى صِلَةٍ ... وأمُّهُ قد كفاها من بَرَا البشرا هذا جوابك يا هذا موازنةً ... وليس مفتيك معدودًا من الشعرا (¬1) ". التكسُّب في الحجّ: قال الله -تعالى-: {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيّام معلُومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعِموا البائس الفقير * ثمّ لْيَقضُوا تَفَثَهُم ولْيُوفوا نُذورهم ولْيطَوَّفوا بالبَيت العِتيق} (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "قال ابن عباس: {ليشهدوا منافع لهم} قال: منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة؛ فرضوان الله -تعالى- وأما منافع الدنيا؛ فما يصيبون من منافع البُدْن والذبائح والتجارات. وكذا قال مجاهد، وغير واحد: إِنها منافع الدنيا والآخرة، كقوله: {ليس عليكم جُناحٌ ¬

_ = لكن لمسجده بالنّص قد شُرِعا ... هذا بيانيَ قد سَطَّرْتُ مختصرا (¬1) "مجموع الفتاوى" (26/ 10). (¬2) الحج: 28 - 29.

أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة: 198] ". قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان ذو المجاز وعُكاظ مَتْجَرَ الناس في الجاهلية، فلمّا جاء الإِسلام؛ كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت: {ليس عليكم جُناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} (¬1): في مواسم الحج" (¬2). وعن مجاهد عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قرأ هذه الآية: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} قال: كانوا لا يتّجرون بمنى، فأُمروا بالتجارة إِذا أفاضوا من عرفات" (¬3). وعن أبى أُمامة التيمي قال: "كنت رجلا أَكْرِي (¬4) في هذا الوجه، وكان ناس يقولون: إِنه ليس لك حج، فلقيت ابن عمر فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إِني رجل أَكْرِي في هذا الوجه، وإِن ناساً يقولون: إِنه ليس لك حج؟ فقال ابن عمر: أليس تُحْرِمُ، وتلبِّي، وتطوف بالبيت، وتفيض من عرفات، وترمي الجمار؟ قال: قلت: بلى! قال: فإِن لك حجّاً، جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن مثل ما سألتني عنه، فسكت عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يجبه، حتّى نزَلت هذه الآية: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم}، فأرسل إِليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقرأ عليه هذه الآية، وقال: لك حج" (¬5). ¬

_ (¬1) البقرة: 198. (¬2) أخرجه البخاري: 1770. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1523). (¬4) أي: أؤجّر دابتي. وانظر "النهاية". (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1525).

ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره؟

جاء في "الاختيارات" (ص 115): "والتجارة ليست محرَّمة، لكن ليس للإِنسان أن يفعل ما يَشْغَلُهُ عن الحج". ما يقول إِذا ركب إِلى سفر الحج وغيره (¬1)؟ عن ابن عمر: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا استوى على بعيره خارجاً إِلى سفر؛ كبّر ثلاثاً، ثمّ قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنّا له مقرنين (¬2)، وإنا إِلى ربّنا لَمُنقلبون. اللهمّ! إِنّا نسألك في سفرنا هذا البرّ والتّقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهمّ! هوّن علينا سفرنا هذا، واطوِ عنّا بعده، اللهمّ! أنت الصّاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهمّ! إِني أعوذ بك من وعثاء السفر (¬3)، وكآبة المنظر (¬4)، وسوء المنقلب (¬5) في المال والأهل". وإذا رجع قالهنّ وزاد فيهنّ: "آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون" (¬6). ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "صحيح مسلم" (كتاب الحج) (باب - 75). (¬2) أي مطيقين، أي: ما كنا نطيق قهره واستعماله لولا تسخير الله تعالى إِياه لنا". "شرح النووي". (¬3) وعثاء السفر؛ أي: شدّته ومشقّته، وأصله من الوعث، وهو الرمل، والمشي فيه يشتدّ على صاحبه ويشقّ. "النهاية". (¬4) كآبة المنظر: هي تغير النفس من حزن ونحوه. "شرح النووي". (¬5) المنقلب؛ أي: الانقلاب من السفر والعود إِلى الوطن، يعني: أنه يعود إِلى بيته فيرى ما يحزنه، والانقلاب: الرجوع مطلقاً. "النهاية". (¬6) أخرجه مسلم: 1342.

ماذا يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره؟

ماذا يقول إِذا قَفَلَ من سفر الحج وغيره (¬1)؟ عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قَفَلَ (¬2) من الجيوش أو السّرايا أو الحج أو العمرة، إِذا أوفى (¬3) على ثنيّة (¬4) أو فدفد (¬5)؛ كبر ثلاثاً، ثمّ قال: لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربّنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده (¬6) " (¬7). حَجّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برواية جابر -رضي الله عنه- (¬8) قال جابر -رضي الله عنه-: ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "صحيح مسلم" (كتاب الحج) (باب - 76). (¬2) أي: رجع. (¬3) أوفى: ارتفع وعلا. (¬4) الثنية في الجبل؛ كالعقبة فيه. وقيل: هو الطريق العالي فيه. وقيل: أعلى المسيل في رأسه. "النهاية". (¬5) الفدفد: هو الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع. وقيل: هو الفلاة التي لا شيء فيها. وقيل: غليظ الأرض ذات الحصى. وقيل: الجَلَدُ من الأرض في ارتفاع، وجمعه فدافد. (¬6) المراد: الأحزاب الذين اجتمعوا يوم الخندق وتحزبوا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأرسل الله عليهم ريحاً وجنوداً لم يروها. "شرح النووي". (¬7) أخرجه البخاري: 1797، ومسلم: 1344. (¬8) عن كتاب "حجة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لشيخنا -رحمه الله- بتصرُّف.

1 - إِن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث [بالمدينة] تسع سنين لم يحج. 2 - ثمّ أذّن في الناس في العاشرة: إِن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجٌّ [هذا العامَ]. 3 - فقدم المدينة بشر كثير (وفي رواية: فلم يبق أحد يقدر أن يأتيَ راكباً أو راجلاً إِلا قَدِم) [فتدارَك الناس (¬1) ليخرجوا معه]؛ كلهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويعمل مِثل عمَله. 4 - [وقال جابر -رضي الله عنه-: سمعت -قال الراوي: أحسبه رفع إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- (وفي رواية قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فقال: "مُهَلُّ أهل المدينة من ذي الحُلَيْفَةِ (¬2)، و [مهلّ أهل] الطريق الآخر الجُحفة، (¬3) ومهل أهل العراق من ذات عِرْقٍ (¬4)، ومهل أهل نجد قَرْنٌ، ومهلّ أهل اليمن من ¬

_ (¬1) أي: تلاحقوا ووصلوا. (¬2) موضع على ستة أميال من المدينة، كما في "القاموس"، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" (5/ 114): "على ثلاثة أميال"، وقال ابن القيم في "الزاد" (2/ 178): "ميل أو نحوه"، وهذا اختلاف شديد. (¬3) موضع بينه وبين مكة نحو ثلاث مراحل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في (مناسك الحج" (2/ 356) من "مجموعة الرسائل الكبرى": "هي قرية كانت قديمة معمورة، وكانت تسمى (مهيعة)، وهي اليوم خراب، ولهذا صار الناس يحرمون قبلها من المكان الذي يسمى (رابغاً)، وهذا ميقات لمن حج من ناحية المغرب، كأهل الشام ومصر، وسائر المغرب؛ إذا اجتازوا بالمدينة النبوية كما يفعلونه في هذه الأوقات؛ أحرموا من ميقات أهل المدينة؛ فإِنّ هذا هو المستحب لهم بالاتفاق، فإِن أخروا الإِحرام إِلى الجحفة ففيه نزاع". قال شيخنا -رحمه الله-: "والأشبه الجواز؛ لهذا الحديث". (¬4) مكان بالبادية، وهو الحد الفاصل بين نجد وتِهَامة، كما في "القاموس" و"معجم البلدان"، والمسافة بينه وبين مكة اثنان وأربعون ميلاً، كما في "الفتح".

يَلَمْلَمَ (¬1)]. 5 - [قال: فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] [لخمس بقين من ذي القَعْدة أو أربع]. 6 - [وساق هدياً] (¬2). 7 - فخرجنا معه [معنا النساء والولدان]. 8 - حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماءُ بنت عُمَيْسِ محمّدَ بنَ أبي بكر. 9 - فأرسَلَت إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف أصنع؟ 10 - [فـ] قال: "اغتسلي واستثفري (¬3) بثوب وأحرمي". 11 - فصلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد [وهو صامت] (¬4). 12 - ثمّ ركب القصواء (¬5)، حتى إِذا استوت به ناقته على البيداء؛ [أهلّ بالحجّ (وفي رواية: أفرَد بالحج) هو وأصحابه]. 13 - [قال جابر]: فنظرت إِلى مدّ بصري [من] بين يديه من راكب وماشٍ، ¬

_ (¬1) مكان على مرحلتين من مكة، بينهما ثلاثون ميلاً. (¬2) والأفضل: ترْك سوق الهدي والتمتع بالعمرة إِلى الحج، كما في الحديث المتقدّم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلّوا"، وانظر ما قاله شيخنا -رحمه الله- في الأصل. (¬3) أمْرٌ من الاستثفار. قال ابن الأثير في "النهاية": "هو أن تشد فرجها بخرقة عريضة بعد أن تحتشي قطناً، وتوثق طرفيها في شيء تشدّه على وسطها، فتمنع بذلك سيل الدم". (¬4) يعني: أنه لمّا يلبِّ بعدُ. (¬5) هي بفتح القاف وبالمد: اسم ناقته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولها أسماء أخرى مثل: العضباء والجدعاء، وقيل: هي أسماء لنوق له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انظر "شرح مسلم" للنووي.

وعن يمينه مِثْل ذلك، وعن يساره مِثْل ذلك، ومن خلفه مِثل ذلك، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أظهرنا؛ وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به. 14 - فأهلّ بالتوحيد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إِنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". 15 - وأهلّ الناس بهذا الذي يُهلّون به (وفي رواية: ولبّى الناس [والناس يزيدون]): [لبيك ذا المعارج لبيك! ذا الفواضل!]، فلم يرُدّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم شيئاً منه. 16 - ولَزِم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلبيته. 17 - قال جابر: [ونحن نقول: [لبيك اللهم] لبيك بالحج] [نَصْرُخُ صراخاً]؛ لسنا ننوي إِلا الحجّ [مفرداً] [لا نخلطه بعمرة] (وفي رواية: لسنا نعرف العمرة) (¬1) (وفي أخرى: أهللنا أصحابَ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحجّ خالصاً ليس معه غيره، خالصاً وحده). 18 - [قال: وأقبلت عائشة بعمرة، حتى إِذا كانت بـ "سَرِف" (¬2) ¬

_ (¬1) قال شيخنا -رحمه الله-: "كان هذا في أوّل هذه الحجة، وقَبْلَ أن يعلمهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مشروعية العمرة في أشهر الحج، وفي ذلك أحاديث منها حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عام حجة الوداع) فقال: من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل، قالت عائشة: .. وكنت فيمن أهل بالعمرة". رواه البخاري، ومسلم، -واللفظ له-. (¬2) بكسر الراء. موضع قرب التنعيم. قال في "النهاية": "وهو من مكة على عشرة أميال. وقيل: أقل. وقيل أكثر".

عَرَكت (¬1)]. 19 - حتى إِذا أتينا البيت معه [صُبْحَ رابعة مضت من ذي الحجة]، (وفي رواية: دخلنا مكة عند ارتفاع الضحى). 20 - فأتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باب المسجد، فأناخ راحلته ثمّ دخل المسجد. 21 - استلم الرُّكْنَ (¬2) (وفي رواية: الحجر الأسود). 22 - [ثمّ مضى عن يمينه]. 23 - فرمل (¬3)، [حتى عاد إِليه] ثلاثاً، ومشى أربعاً [على هيّنته]. 24 - ثمّ نفذ إِلى مقام إِبراهيم -عليه الصلاة والسلام- فقرأ: {واتخِذوا من مقام إِبراهيم مُصلّى}، [ورفَع صوته يُسمِع الناس]. 25 - فجعل المقام بينه وبين البيت، [فصلّى ركعتين]. 26 - [قال:] فكان يقرأ في الركعتين: {قل هو الله أحد} و {قل يا أيها الكافرون} (وفي رواية: {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد}). 27 - [ثمّ ذهب إِلى زمزم؛ فشرب منها، وصبّ على رأسه]. 28 - ثمّ رجع إِلى الركن فاستلمه. 29 - ثمّ خرج من الباب (وفي رواية: باب الصفا) إِلى الصفا، فلما دنا من ¬

_ (¬1) أي: حاضت. (¬2) أي: مسَحه بيده. (¬3) قال العلماء: الرمَل: هو أسرع المشي مع تقارب الخطى؛ وهو الخَبَبُ. "نووي".

الصفا قرأ: " {إِنّ الصفا والمروة من شعائر الله}. أَبْدَأُ (وفي رواية: نبدأ) بما بدأ الله به"؛ فبدأ بالصفا فَرَقِيَ عليه حتى رأى البيت. 30 - فاستقبَل القبلة فوحّد الله وكبّره [ثلاثاً] و [حَمِده] وقال: "لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، [يحيي ويميت]، وهو على كل شيء قدير، لا إِله إِلا الله وحده [لا شريك له]، أنجز وعده، ونصَر عبده، وهزم الأحزاب وحده؛ ثمّ دعا بين ذلك، وقال مِثل هذا ثلاث مرات. 31 - ثمّ نزل [ماشياً] إِلى المروة، حتى إِذا انصبّت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إِذا صعِدتا [يعني]: [قدماه] [الشق الآخر]؛ مشى حتى أتى المروة، [فَرَقِيَ عليها حتى نظر إِلى البيت]. 32 - ففعل على المروة كما فعل على الصفا. 33 - حتى إِذا كان آخر طوافه (وفي رواية: كان السابع) على المروة؛ فقال: [يا أيها الناس!] لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت؛ لم أسق الهدي، و [لَـ] جعَلْتها عُمرة، فمن كان منكم لَيْسَ معه هدي؛ فليُحلّ وليجعلها عُمرة، (وفي رواية: فقال: أحلّوا من إِحرامكم، فطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقصّروا (¬1) وأقيموا حلالاً، حتى إِذا كان يوم التروية فأهلوا بالحجّ، واجعلوا التي قدمتم بها متعة) (¬2). ¬

_ (¬1) هذا هو السُّنّة والأفضل بالنسبة للمتمع؛ أن يقصر من شعره ولا يحلقه، وإنما يحلقه يوم النحر بعد فراغه من أعمال الحج، كما قال شيخ الإِسلام ابن تيمية وغيره، فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهم اغفر للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين مرة واحدة؛ محمول على غير المتمتع كالقارن والمعتمر عمرة مفردة. (¬2) أي: اجعلوا الحَجّة المفردة التي أهللتم بها عمرة، وتحللوا منها؛ فتصيروا متمتعين ... "فتح".

34 - فقام سراقة بن مالك بن جُعشُم (وهو في أسفل المروة:) فقال: يا رسول الله! [أرأيت عمرتنا (وفي لفظ: متعتنا) هذه؛ ألِعامِنا هذا أم لأبد [الأبد]؟ [قال:] فشبَّك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصابعه واحدة في أخرى، وقال: دخَلَت العمرة في الحج [إِلى يوم القيامة]، [لا، بل لأبد أبد]، [لا، بل لأبد أبد]؛ [ثلاث مرات]. 35 - [قال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنّا خُلِقنا الآن، فيما العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؛ أو فيما نستقبل؟ قال: لا؛ بل فيما جفّت به الأقلام وجرَت به المقادير. قال: ففيم العمل [إِذن]؟! قال: اعملوا فكُلٌّ مُيسَّر] [لما خُلِق له]. 36 - [قال جابر: فأمرنا إِذا حللنا أن نُهْدي (¬1)، ويجتمع النفر منا في الهَدِيَّة، [كل سبعة منا في بدنة] [فمن لم يَكن معه هدي، فليصم ثلاثة أيام؛ وسبعة إِذا رجع إِلى أهله]. 37 - [قال: فقلنا: حلّ ماذا؟ قال: الحلّ كلَّه] (¬2). 38 - [قال: فكبُر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا]. 39 - [قال: فخرجنا إِلى البطحاء (¬3)، قال: فجعل الرجل يقول: عهدي ¬

_ (¬1) من الهَدِيِّ؛ بالتشديد والتخفيف، وهو ما يهدى إِلى البيت الحرام من النعم لتنحر. "نهاية". (¬2) يعني: الذي يَحْرُم على المحرم. قال الحافظ: "كأنهم كانوا يعرفون أن للحج تحلّلين، فأرادوا بيان ذلك، فبيّن لهم أنهم يتحللّون الحلّ كله لأنّ العمرة ليس لها إلاَّ تحلُّل واحد". (¬3) يعني: بطحاء مكة، وهو الأبطح، وهو سيل واسع فيه دقاق الحصى، كما في "القاموس" وغيره، وموقعه شرقي مكة.

بأهلي اليوم] (¬1)! 40 - [قال: فتذاكَرنا بيننا فقلنا: خرجنا حُجّاجاً لا نريد إِلا الحجّ، ولا ننوي غيره، حتى إِذا لم يكن بيننا وبين عرفة إِلا أربع]. (وفي رواية: خمس) [ليالٍ] أمرنا أن نفضي إِلى نسائنا، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني (¬2) [من النساء]!! قال: يقول جابر بيده، (قال الراوي:) كأني أنظر إِلى قوله بيده يحركها، [قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمَّينا الحج؟!] 41 - قال: [فبلغ ذلك النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فما ندري أشيء بلغه من السماء، أم شيء بلغه من قبل الناس]؟!. 42 - [فقام] [فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه] فقال: " [أبالله تعلّموني أيها الناس؟!، قد علمتم أني أتقاكم لله، وأصدقكم وأبرّكم، [افعلوا ما آمركم به؛ فإِني] لولا هديي لحللت كما تَحلّون، [ولكن لا يحلّ مني حرام (¬3) حتى يبلغ الهدي مَحِلَّهُ] (¬4)، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ لم أسق الهدي، فَحِلُّوا] ". 43 - [قال: فواقَعنا النساء، وتطيّبنا بالطيب، ولبِسنا ثيابنا]. ¬

_ (¬1) كأنهم يستنكرون ذلك، وهذا يدّل على أنّ بعضهم قد تحلّل بعد أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، ولكن لم يزل في نفوسهم شيء من ذلك، وأمّا الآخرون فإِنهم تأخروا، حتى خطبهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخطبة الآتية، وأكّد لهم فيها الأمر بالفسخ، فتحللوا -رضي الله عنهم- جميعاً. (¬2) هو إِشارة إِلى قرب العهد بوطء النساء. "نووي". (¬3) أي: شيء حرام، والمعنى: لا يحل مني ما حرم. "فتح". (¬4) أي: إِذا نحر يوم منى.

44 - [فحَلّ الناس كلّهم وقصّروا؛ إِلا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه هدي]. 45 - [قال: وليس مع أحد منهم هدي غيرَ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطلحة]. 46 - وقدم عليٌّ [من سعايته (¬1)] من اليمن ببُدْن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 47 - فوجد فاطمة -رضي الله عنها- ممن حلّ، ولبستَ ثياباً صبيغاً واكتحَلَت، فأنكَر ذلك عليها، [وقال: من أمرك بهذا؟!] فقالت: إِنّ أبي أمَرني بهذا. 48 - قال: فكان عليّ يقول بالعراق: فذهبْتُ إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحرشاً (¬2) على فاطمة؛ للذي صنعَت مُستفتياً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما ذكَرت عنه، فأخبْرته أنّي أنكرْتُ ذلك عليها [فقالت: أبي أمرني بهذا]؟ فقال: صدقَت، صدقَت، [صدقَت]! [أنا أمرتها به]. 49 - قال جابر: وقال لعليّ: ماذا قلت حين فَرَضْتَ الحجّ؟ قال: قلت: اللهمّ! إِني أهلّ بما أهلّ به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 50 - قال: فإِنّ معي الهدي فلا تُحلّ، [وامكث حراماً كما أنت]. 51 - قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به عليّ من اليمن، والذي أتى به النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[من المدينة] مائة [بَدَنَةٍ]. 52 - قال: فحلّ الناس كلهم (¬3) وقصّروا؛ إِلا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه هدي. ¬

_ (¬1) أي: من عمله في السعي في الصدقات. (¬2) التحريش: الإغراء، والمراد هنا: أنْ يذكر ما يقتضي عتابها. "نووى". (¬3) قال النووي: "فيه إِطلاق اللفظ العام وإرادة الخصوص؛ لأنّ عائشة لم تحلّ، ولم =

53 - فلما كان يوم التروية [وجعلنا مكة بظهر]؛ توجهوا إِلى منى (¬1)، فأهلوا بالحج] [من البطحاء]. 54 - قال: ثمّ دخَل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عائشة -رضي الله عنها-، فوجدَها تبكي فقال: ما شأنك؟ قالتْ شأني أني قد حضت، وقد حلّ الناس ولم أحْلِلْ، ولم أطُف بالبيت، والناس يذهبون إِلى الحجّ الآن، فقال: إِنّ هذا أَمْرٌ كتَبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثمّ أهلِّي بالحجّ [ثمّ حُجّي واصنعي ما يصنع الحاجّ؛ غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تُصلّي] (¬2). ففعَلت (وفي رواية: فنسَكَت المناسك كلها؛ غير أنها لم تطُف بالبيت). 55 - وركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلّى بها (يعني: منى، وفي رواية: بنا) الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر. 56 - ثمّ مكث قليلاً حتى طلعت الشمس. 57 - وأمر بقُبّة [له] من شعر تضرب له بنمرة. 58 - فسار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا تشكّ قريش إِلا أنه واقف عند المشعر الحرام [بالمزدلفة]، [ويكون منزله ثَمَّ]؛ كما كانت قريش تصنع في الجاهلية؛ ¬

_ = تكن ممن ساق الهدي. والمراد بقوله: حلّ الناس كلّهم؛ أي: معظمهم". (¬1) قال النووي: "وفي هذا بيان أنّ السُّنّة أن لا يتقدّم أحد إِلى منى قبل يوم التروية، وقد كره مالك ذلك، وقال بعض السلف: لا بأس به، ومذهبنا أنّه خلاف السُّنّة". (¬2) قال شيخنا -رحمه الله-: "فيه دليل على جواز قراءة الحائض القرآن؛ لأنها بلا ريب من أفضل أعمال الحجّ".

فأجاز (¬1) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى أتى عرفة (¬2)؛ فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها. 59 - حتى إِذا زاغت الشمس؛ أمر بالقصواء فرُحِلت له، فـ[ركب، حتى] أتى بطن الوادي (¬3). 60 - فخطب الناس وقال: "إِنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا [إِن] كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميّ [هاتين] موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإنّ أول دم أضع من دمائنا: دم ابن ربيعة بن الحارث [بن المطلب]-كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل-، وربا الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضع ربانا: ربا عباس ابن عبد المطلب؛ فإِنّه موضوع كلّه؛ فاتقوا الله في النساء، فإِنكم أخذتموهن بأمانـ[ـة:] الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله (¬4)، و [إِن] لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإِن فعلن ذلك؛ فاضربوهن ضرباً غير مبرِّح (¬5)، ولهن عليكم رَزْقُهُنَّ وكسوتهن بالمعروف، و [إِني] قد تركت فيكم ما لن ¬

_ (¬1) أي: جاوزَها، كما قال النووي. (¬2) قال النووي: "هذا مجاز، والمراد: قارب عرفات؛ لأنّه فسره بقوله: فوجد القبة ضربت بنمرة فنزل بها؛ [وهي] ليست من عرفات [كما لا يخفى] ". (¬3) هو وادي عُرنة -بضم العين وفتح الراء-؛ وليست من عرفات. "نووي". (¬4) في معناه أربعة أقوال؛ ذكرَها في "شرح مسلم"، وقال: إِنّ الصحيح منها: أن المراد قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النّساء}. (¬5) الضرب المبرح: هو الضرب الشديد الشّاق، ومعناه: اضربوهنّ ضرباً ليس بشديد ولا شاقّ.

تضلوا بعده إِن اعتصمتم به: كتاب الله؛ وأنتم تسألون (وفي لفظ: مسؤولون) عنّي، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت [رسالات ربك] وأدّيت، ونصحْتَ [لأمّتك، وقضيت الذي عليك]، فقال بأصبعه السبابة -يرفعها إِلى السماء ويَنْكُتُها إِلى الناس-: اللهم! اشهد، اللهم! اشهد " ثلاث مرات. 61 - ثمّ أذّن [بلال] [بنداء واحد]. 62 - ثمّ أقام؛ فصلّى الظهر، ثمّ أقام؛ فصلّى العصر. 63 - ولم يُصلّ بينهما شيئاً. 64 - ثمّ رَكِب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[القصواء]، حتى أتى الموقف، فجعَل بَطن ناقته القصواء إِلى الصخرات (¬1)، وجعل حَبْلَ المشاة (¬2) بين يديه، واستقبل القبلة (¬3). 65 - فلم يزل واقفاً، حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص. 66 - [وقال: "وقفت هاهنا؛ وعرفة كلها موقف"]. 67 - وأردف أسامة [بن زيد] خلفه. ¬

_ (¬1) هي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذى بوسط أرض عرفات، قال النووي: "فهذا هو الموقف المستحب، وأمّا ما اشتهر بين العوام من الأغبياء بصعود الجبل، وتوهمهم أنّه لا يصح الوقوف إِلا فيه؛ فغلط". (¬2) أي: مجتمعهم. (¬3) وجاء في غير حديث أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف يدعو رافعاً يديه.

68 - ودفَع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وفي رواية: أفاض وعليه السكينة) (¬1)؛ وقد شنق (¬2) للقصواء الزِّمام، حتى إِنّ رأسها ليصيب مَورِك (¬3) رَحْله، ويقول بيده اليمنى [هكذا -وأشار بباطن كفه إِلى السماء]-: "أيها الناس! السكينة السكينةَ". 69 - كلما أتى حبلاً (¬4) من الحبال: أرخى لها قليلاً حتى تصعد. 70 - حتى أتى المزدلفة؛ فصلّى بها، [فجمع بين] المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين. 71 - ولم يُسبِّح (¬5) بينهما شيئاً. 72 - ثمّ اضطجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ حتى طلع الفجر. 73 - وصلّى الفجر -حين تبيّن له الفجر- بأذان وإقامة. 74 - ثمّ ركب القصواء؛ حتى أتى المشعر الحرام (¬6) [فَرَقِيَ عليه]. ¬

_ (¬1) هي الرفق والطمأنينة. (¬2) أي: ضم وضيَّق. (¬3) هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قُدّام واسطة الرحل إِذا ملّ من الركوب. (¬4) في "النهاية": "الحبل: المستطيل من الرمل. وقيل: الضخم منه؛ وجمعه حبال. وقيل: الحبال في الرمل كالجبال في غير الرمل". (¬5) أي: لم يُصلّ سبحة؛ أي: نفْلاً. (¬6) المراد به هنا. قُزح -بضم القاف وفتح الزاي وبحاء مهملة-، وهو جبل معروف في المزدلفة، وهذا الحديث حجة الفقهاء في أن المشعر الحرام هو قزح. وقال جماهير المفسرين وأهل السير والحديث: المشعر الحرام جميع المزدلفة. "نووي".

75 - فاستقبل القبلة، فدعاه (وفي لفظ: فحمد الله) وكبّره وهلّله ووحّده. 76 - فلم يزل واقفاً حتى أسفر جدّاً. 77 - وقال: "وقفت هاهنا، والمزدلفة كلها موقف"]. 78 - فدفع [من جَمْعٍ] قبل أن تطلع الشمس [وعليه السكينة]. 79 - وأردف الفضل بن عباس -وكان رجلاً حسن الشعر أبيضَ وسيماً-. 85 - فلما دفَع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّتْ به ظُعُنٌ (¬1) تَجْرِينَ، فطفِقَ الفضل ينظر إِليهن، فوضع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدَه على وجه الفضل، فحوّل الفضلُ وجهه إِلى الشقّ الآخر، فحوّل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده من الشقّ الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر! 81 - حتى أتى بطن مُحَسِّر (¬2)، فحرّك قليلاً (¬3) [وقال: "عليكم السكينةَ"]. 82 - ثمّ سلَك الطريق الوسطى (¬4) التي تخرج على الجمرة الكبرى [حتى ¬

_ (¬1) بضم الظاء والعين، ويجوز إِسكان العين: جمع ظعينة، كسفينة وسفن، وأصل الظعينة: البعير الذي عليه امرأة، ثمّ تسمّى به المرأة مجازاً لملابستها البعير. (¬2) سمي بذلك؛ لأنّ فيل أصحاب الفيل حَسَّرَ فيه، أي: أعيا وكلّ. (¬3) أي: أسرع السير، كما في غير هذا الحديث. قال النووي -رحمه الله-: "فهي سنة من سنن السير في ذلك الموضع". قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهذه كانت عادته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه، وكذلك فعل في سلوكه الحجر وديار ثمود، تقنع بثوبه وأسرع السير". (¬4) قال النووي: "فيه أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة، وهو غير =

أتى الجمرة التي] عند الشجرة. 83 - فرماها [ضحى] بسبع حصيات (¬1). 84 - يُكبّر مع كل حصاة منها، مِثل حصى الخَذْف (¬2). 85 - [فـ] رمى من بطن الوادي [وهو على راحلته [وهو] يقول: "لتأخذوا مناسككم؛ فإِني لا أدري لعلي لا أحج بعد حَجّتي هذه"]. 86 - [قال: ورمى بعد يوم النحر [في سائر أيام التشريق] إِذا زالت الشمس]. 87 - [ولقيه سُراقة وهو يرمي جمرة العقبة، فقال: يا رسول الله! ألنا هذه خاصة؟ قال: "لا، بل لأبد"]. 88 - ثمّ انصرف إِلى المنحر، فنَحَر ثلاثاً وستين [بَدَنةً] بيده. 89 - ثمّ أعطى عليّاً، فنحَر ما غَبَرَ [يقول: ما بقي]، وأشركه في هديه. 90 - ثمّ أمر من كل بدنة ببَضْعة (¬3)؛ فجُعِلت في قِدر فطُبخت، فأكلا من ¬

_ = الطريق الذي ذهب فيه إِلى عرفات". (¬1) وحينئذ قطع؛ أي: تلبيته، كما في حديث الفضل وغيره. (¬2) قال النووي: "وهو نحو حبة الباقلاء، وينبغي أن لا يكون أكبر ولا أصغر، فإن كان أكبر أو أصغر أجزأه". قال شيخنا -رحمه الله- في موطن آخر: "وهو فوق الحِمِّصِ ودون البندق". (¬3) قال النووي -رحمه الله-: "البَضعة: بفتح الباء لا غير، وهي قطعة من اللحم، وفيه استحباب الأكل من هدى التطوع وأُضحيته".

لحمها، وشربا من مرقها. 91 - (وفي رواية قال: نحَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نسائه بقرة). 92 - (وفي أخرى قال: فنحَرنا البعير (وفي أخرى: نحر البعير) عن سبعة، والبقرة عن سبعة) (وفي رواية خامسة عنه قال: فاشتركنا في الجزور سبعة، فقال له رجل: أرأيت البقرة؛ أيشترك؟ فقال: ما هي إِلا من البُدْنِ). 93 - (وفي رواية: قال جابر: كنا لا نأكل من البدن إِلا ثلاث منى، فأرخص لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كلوا وتزوّدوا") [قال: فأكَلْنا وتزوّدنا] [حتى بلَغنا بها المدينة] (¬1). 94 - (وفي رواية: نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فحلق] (¬2)). 95 - وجلس [بمنى يوم النحر] للناس، فما سئل [يومئذ] عن شيء [قُدِّمَ قبل شيء] إِلا قال: لا حرج، لا حرج (¬3) حتى جاءه رجل فقال: حلْقتُ قبل أن ¬

_ (¬1) وكانت السيدة عائشة -رضي الله عنها- قد طيبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمسك، وذلك عقب رمْيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجمرة العقبة يوم النحر. (¬2) فيه أنّ السّنّة الحلق بعد النحر، وأنّ النحر بعد الرمي، ومن السّنّة أن يبدأ الحالق بيمين المحلوق؛ لحديث أنس بن مالك: أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثمّ أتى منزله بمنى ونحر، ثمّ قال للحلاق: خذ؛ وأشار إِلى جانبه الأيمن، ثمّ الأيسر، ثمّ جعل يعطيه الناس. رواه مسلم. (¬3) معناه: افعل ما بقي عليك، وقد أجزأك ما فعلته، ولا حرج عليك في التقديم والتأخير. واعلم أن أفعال يوم النحر أربعة: رمي جمرة العقبة، ثمّ الذبح، ثمّ الحلق، ثمّ طواف الإِفاضة، والسنّة ترتيبها هكذا كما سبق في الأعلى، فلو خالف وقدّم بعضها على =

أنحر؟ قال: لا حرج. 96 - ثمّ جاءه آخر فقال: حلْقتُ قبل أن أرمي؟ قال: لا حرج. 97 - [ثمّ جاءه آخر فقال: طُفت قبل أن أرمي؟ قال: لا حرج]. 98 - [قال آخر: طُفت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج]. 99 - ثمّ جاءه آخر فقال: إِنّي نحرْتُ قبل أن أرمي؟ قال: [ارْمِ و] لا حرج]. 100 - [ثمّ قال نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد نحرْتُ هاهنا، ومنى كلّها مَنحر]. 101 - [وكُلّ فِجاج (¬1) مكة طريق ومَنحَر] (¬2). 102 - [فانحروا من رحالكم]. 103 - [وقال جابر -رضي الله عنه-: خطَبنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر فقال: أيُّ يوم أعظم حرمة؟ فقالوا: يومنا هذا، قال: فأيُّ شهر أعظم حُرمة؟ قالوا: شهرنا هذا. قال: أي بلد أعظم حُرمة؟ قالوا: بلدنا هذا، قال: فإِنّ دماءَكم وأموالكم ¬

_ = بعض؛ جاز ولا فدية عليه؛ لهذا الحديث وغيره مما في معناه. قال النووي: "وبهذا قال جماعة من السلف، وهو مذهبنا". (¬1) الفِجاج: جمع فَجّ، وهو الطريق الواسع. "النهاية". (¬2) فيه جواز نحر الهدي في مكة، كما يجوز نحرها في منى، وقد روى البيهقي في "سننه" (5/ 239) بسند صحيح عن ابن عباس قال: إِنما النحر بمكة، ولكن نزهت عن الدماء، ومكة من منى. كذا وفي رواية: ومنى من مكة، ولعلها الصواب. زاد في الرواية الأولى عن عطاء: أن ابن عباس كان ينحر بمكة، وأن ابن عمر لم يكن ينحر بمكة، كان ينحر بمنى.

عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، هل بلّغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهَدْ]. 104 - ثمّ ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأفاض إِلى البيت [فطافوا (¬1). 105 - ولم يطوفوا بين الصفا المروة] (¬2). 106 - فصلّى بمكة الظهر. 107 - فأتى بني عبد المطلب [وهم] يسقُون على زمزم (¬3)، فقال: انْزِعوا (¬4) بني عبد المطلب! فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم؛ لنزعت معكم (¬5). 108 - فناولوه دلواً، فشرب منه". 109 - [وقال جابر -رضي الله عنه-: وإنّ عائشة حاضت، فنسَكَت المناسك كلها؛ غير أنها لم تطف بالبيت]. 110 - [قال: حتى إِذا طهُرت؛ طافت بالكعبة (¬6) والصفا والمروة، ثمّ قال: ¬

_ (¬1) ثمّ حل منهم كل شيء حرم منهم، كما في "الصحيحين" عن عائشة وابن عمر. (¬2) انظر الفائدة التي ذكرها شيخنا -رحمه الله- في كتاب "حجة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (ص 88 - 90). (¬3) معناه: يغرفون بالدلاء ويصبونه في الحياض ونحوها، ويُسَبِّلونه للناس. (¬4) أي: استقوا بالدلاء وانزعوها بالرشاء. (¬5) معناه: لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحموا عليه بحيث يغلبونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء. "نووي". (¬6) أي: طواف الإِفاضة والصدر. قال الحافظ (3/ 480): "واتفقت الروايات كلها على أنها طافت طواف الإِفاضة من يوم النحر".

قد حلَلْتِ من حجك وعُمرتك جميعاً]. 111 - [قالت: يا رسول الله! أتنطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟!] [قال: إِن لك مثل ما لَهُم]. 112 - [فقالت: إِني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حجَجت]! 113 - [قال: وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً سهلاً، إِذا هوِيَتِ الشيء تابعَها عليه] (¬1). 114 - [قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن! فأعمِرها من التنعيم. 150 - [فاعتمرت بعد الحج]، [ثمّ أقبلت] وذلك ليلة الحَصْبة (¬2)]. 116 - [وقال جابر: طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالبيت في حَجّة الوَداع على راحلته، يستلم الحجر بمحجنه لأن يراه الناس، وليَشْرُفَ وليسألوه؛ فإِنّ الناس غَشُوه]. 117 - [وقال: رفعَت امرأة صبيّاً لها إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله! ألهذا حجٌّ؟ قال: نعم، ولكِ أجر]. ¬

_ (¬1) معناه: إِذا هويت شيئاً لا نقص فيه في الدين -مثل طلبها الاعتمار وغيره؛ أجابها إِليه. وفيه حُسن معاشرة الأزواج، قال الله تعالى: {وعاشروهنّ بالمعروف}؛ لا سيما فيما كان من باب الطاعة. "نووي". (¬2) بفتح الحاء وإسكان الصاد المهملة، وهي التي بعد أيام التشريق، وسميت بذلك؛ لأنهم نفروا من منى فنزلوا في المُحَصَّب وباتوا به. "نووي". والمُحَصَّب: هو الشِّعب الذي مخرجه إِلى الأبطح بين مكة ومنى. كما في "النهاية".

المواقيت

المواقيت المواقيت: جمع ميقات؛ كمواعيد وميعاد، وأصل التوقيت: أن يُجعل للشيء وقت يختصّ به، ثمّ اتسع فيه؛ فأطلق على المكان أيضاً (¬1). وبهذا؛ فالمواقيت نوعان: زمانية ومكانية. المواقيت الزمانيّة: قال الله -تعالى-: {يسألونك عن الأهلة (¬2) قل هي مواقيتُ للنّاس والحج} (¬3). وقال الله -تعالى-: {الحجّ أشهر معلومات} (¬4). فلا يصح الحجّ إلاَّ في أشهر الحجّ. قلت: وأيّ مدلول لكلمة {معلومات} المذكورة في الآية الكريمة إِذا أهلّ بالحجّ وأحرم قبل وقته؟! وهي على الراجح -والله أعلم-: شَوَّالٌ وذو القَعْدَةِ وصدر ذي الحِجَّةِ. جاء في "المحلّى" (7/ 62): "ورُوِّينا عن الحسن: شوال وذو القعدة وصدر ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (3/ 383 و3/ 385) ملتقطاً. (¬2) أي: عدم بقاء الهلال على حالة واحدة. قال البغوي -رحمه الله-: "سُمّي هلالاً؛ لأنّ الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته، مِن قولهم: استهلّ الصبي؛ إذا صرخ حين يولد، وأهلّ القوم بالحجّ؛ إِذا رفعوا أصواتهم بالتلبية". (¬3) البقرة: 189. (¬4) البقرة: 197.

المواقيت المكانية:

ذي الحجة" (¬1). عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: "أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة" (¬2). وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: "من السّنّة: أن لا يحرم بالحج إِلا في أشهر الحج" (¬3). المواقيت المكانية (¬4): هي الأماكن التي يحرم منها من يريد الحج أو العمرة، ولا يجوز لحاج أو معتمر أن يتجاوزها، دون أن يحرم، وقد بيّنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فجعل ميقات أهل المدينة "ذا الحليفة": موضع يقع في شمال مكّة. ووقت لأهل الشام "الجُحْفَةَ": موضع في الشمال الغربي من مكة، وهي قريبة من "رابغ"، وقد صارت "رابغ" ميقات أهل مصر والشام ومن يمر عليها بعد ذهاب معالم "الجحفة". وميقات أهل نجد "قرن منازل": جبل شرقيّ مكة، يطلُّ على عرفات. ¬

_ (¬1) يرجّح ابن حزم -رحمه الله- أنها ثلاثة أشهر كما في "المحلّى" (7/ 62). (¬2) رواه البخاري معلقاً في "كتاب الحج" (باب - 23)، ووصله الطبري والدارقطني بسند صحيح، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 372). (¬3) رواه البخاري معلقاً في "كتاب الحجّ" (باب - 23)، ووصَلَه ابن خزيمة والدارقطني والحاكم بسند صحيح عنه، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 372). (¬4) عن "فقه السّنّة" (1/ 652) بتصرّف.

وميقات أهل اليمن "يَلَمْلَم": جبل يقع جنوب مكة. وميقات أهل العراق "ذاتَ عِرْقٍ": موضع في الشمال الشرقي لمكة. عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجُحفة (¬1)، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم" (¬2). وعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: "لما فُتح هذان المصران؛ أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين! إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدّ لأهل نجد قرْناً؛ وهو جَوْرٌ (¬3) عن طريقنا، وإِنا إِن أردنا قرْناً شَقّ علينا؟! قال: فانظروا حذْوَها من طريقكم، فحدّ لهم ذات عرق" (¬4). وقد نظمها بعضهم فقال: عِرْقُ العراقِ يَلَمْلَمُ اليَمَنِ ... وبذِي الحُلَيفةِ يُحرمُ المدَنِي والشامُ جحفةُ إِنْ مَرَرْتَ بها ... ولأهلِ نَجْد قَرْنُ فاسْتَبِنِ هذه هي المواقيت التي عيّنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي مواقيت لأهل البلاد ¬

_ (¬1) سُمّيت الجُحفة؛ لأًنَّ السيل أجحف بها. قاله النووي ونحوه المنذري، انظر "صحيح الترغيب والترهيب" (2/ 58). (¬2) أخرجه البخاري: 1530، ومسلم: 1181. (¬3) قال الحافظ -رحمه الله-: "أي مَيْل، والجور: الميل عن القصد، ومنه قوله -تعالى-: {ومنها جائر} ". (¬4) أخرجه البخاري: 1531.

الإحرام قبل الميقات:

المذكورة، ولمن مرّ بها. عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرناً؛ فهنّ لهنّ، ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ، ممنّ كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهنّ؛ فمن أهله؛ حتى إِنّ أهل مكة يهلّون منها" (¬1). وإن لم يكن من أهل تلك الآفاق المعينة؛ فإِنه يحرم منها إِذا أتى مكة قاصداً النسك. ومن كان بمكة وأراد الحج، فميقاته منازل مكة. ومن كان بين الميقات وبين مكة، فميقاته من منزله. قال ابن حزم -رحمه الله -تعالى- في "المحلّى" (7/ 64): "ومن كان طريقه لا تمرّ بشيء من هذه المواقيت؛ فليحرم من حيث شاء، برّاً أو بحراً". الإِحرام قبل الميقات: إِذا أحرم المرء قبل الميقات فإِنّه يجزئ، لكنه مخالف للسُّنّة. قال شيخنا -رحمه الله-: "وقد روى البيهقي كراهة الإِحرام قبل الميقات عن عمر وعثمان -رضي الله عنهما-، وهو الموافق لحكمة تشريع المواقيت. وما أحسن ما ذكر الشاطبي -رحمه الله- في "الاعتصام" (1/ 167)، ومن قبله الهروي في "ذم الكلام" (3/ 54/1) عن الزُّبيْرِ بن بَكَّارٍ قال: حدثني سفيان بن عيينة قال: "سمعت مالك بن أنس، وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1529، ومسلم: 1181.

أنواع الإحرام

الله! من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال: إِني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر؟! قال: لا تفعل؛ فإِني أخشى عليك الفتنة! قال: وأي فتنة في هذه؟ إِنما هي أميال أزيدها! قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إِلى فضيلة قصّر عنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! إِني سمعت الله يقول: {فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم (¬1)} (¬2). أنواع الإِحرام (¬3) الإِحرام ثلاثة أنواع: *1 - تمتُّع: وهو أن يحرم الآفاقي (¬4) بالعمرة وحدها في أشهر الحج من الميقات، ويقول عند التلبية: "لبيك اللهم بعمرة". ثمّ يدخل مكة ويتم عمرته، فيطوف ويسعى ويقصّر، ويخرج من إِحرامه، ثمّ يبقى حلالاً حتى يحج، وعليه أن يذبح ما استيسر من الهدي. وسمّي بالتمتُّع؛ لأنّه يتمتّع بعد ¬

_ (¬1) النور: 63. (¬2) "الضعيفة" (1/ 377 تحت الحديث 210)، وانظر "الإِرواء" (4/ 181/تحت الحديث (1002). (¬3) ما بين نجمتين ملتقط من "الروضة الندية" (1/ 590) و"المنهج لمريد العمرة والحجّ" للإِمام العثيمين -رحمه الله- (ص 9). بتصرّف وزيادة. (¬4) نسبة إِلى الآفاق؛ وهي نواحي الأرض والأقطار، مفردها: أُفق. والمراد أنه ليس من أهل مكة أو ممّن يقيمون فيها.

التحلُّل من إِحرامه بما يتمتع به غير المحرم من لُبس الثياب والطيب وغير ذلك. 2 - قِران: وهو أن يحرم الآفاقي بالحج والعمرة معاً، ويقول عند التلبية: "لبيك اللهمّ بحجّ وعمرة"، ثمّ يدخل مكة، ويبقى على إِحرامه حتى يفرغ من أفعال الحج والعمرة، ثمّ يذبح ما استيسر من الهدي، فإِذا أراد أن ينفر من مكة طاف للوداع. وقد ذهب الجمهور من العلماء إِلى أنّه يكفيه عمل الحجّ؛ فيطوف طوافاً واحداً -وهو طواف الإِفاضة- بعد الوقوف بعرفة، ويسعى سعياً واحداً للحج والعمرة. 3 - الإِفراد: أن يُحرم -من يريد الحجّ- من الميقات بالحجّ وحده، ويقول في التلبية: "لبيك اللهمّ بحجّ"؛ ويبقى مُحرماً حتى تنتهي أعمال الحج. وعمل القارِن كعمل المفرد سواءً؛ إِلا أن القارن عليه الهدي، والمفرد لا هدي عليه*. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحج على أنواع ثلاثة: فمنا من أهَلَّ بحج وعمرة معاً، ومنّا من أهل بحج مفرد، ومنّا من أهل بعمرة مفردة، فمن كان أهل بحج وعمرة معاً؛ لم يَحْلِل من شيء مما حرم منه حتى يقضي مناسك الحج، ومن أهل بالحج مفرداً؛ لم يَحْلل من شيء مما حرُم منه، حتى يقضي مناسك الحج، ومن أهل بعمرة مفردة فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة؛ حل ما حرم عنه حتى يستقبل حجّاً" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2495).

أي أنواع النسك أفضل؟

أيّ أنواع النُّسك أفضل؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب، والراجح فيها نسك التمتع، كما هو مذهب الإِمام أحمد وغيره، بل ذهب بعض العلماء المحققين إِلى وجوبه إِذا لم يَسق معه الهدي، منهم ابن حزم وابن القيم؛ تبعاً لابن عباس وغيره من السلف (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- في "حجّة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (ص 11): "لا شّك أنّ الحجّ كان -في أول استئنافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِياه- جائزاً بأنواعه الثلاثة المتقدّمة، وكذلك كان أصحابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ منهم المتمتع، ومنهم القارن، ومنهم المفرد؛ لأنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيّرهم في ذلك كما في حديث عائشة -رضي الله عنها-: "خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: من أراد منكم أن يهلّ بحجّ وعُمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهلّ ... " الحديث؛ رواه مسلم (¬2). وكان هذا التخيير في أول إِحرامهم عند الشجرة (¬3)؛ كما في رواية لأحمد (6/ 245)، ولكن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستمر على هذا التخيير، بل نَقَلهم إِلى ما هو أفضل؛ وهو التمتع، دون أن يعزم بذلك عليهم أو يأمرهم به، وذلك في مناسبات شتّى في طريقهم إِلى مكة. فمن ذلك: حينما وصلوا إِلى (سَرِف)، وهو موضع قريب من التنعيم، وهو من مكة على نحو عشرة أميال، فقالت عائشة -رضي الله عنها- في رواية ¬

_ (¬1) انظر "حجّة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (ص 10) بتصرّف. (¬2) برقم: 1211. (¬3) أي: عند ذي الحليفة.

عنها: " .. فنزلنا سَرِف، قالت: فخرج إِلى أصحابه فقال: من لم يكن منكم أهدى، فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا. قالت: فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه [ممن لم يكن معه هدي] ... " الحديث؛ متفق عليه، والزيادة لمسلم. ومن ذلك لما وصل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى (ذي طُوى)، وهو موضع قريب من مكة، وبات بها، فلمّا صلّى الصّبح قال لهم: "من شاء أن يجعلها عمرة؛ فليجعلها عمرة" أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس. ولكنّا رأيناه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخل مكّة وطاف هو وأصحابه طواف القدوم؛ لم يدَعْهم على الحكم السابق وهو الأفضلية؛ بل نقَلهم إِلى حُكم جديد وهو الوجوب؛ فإِنّه أمَر من كان لم يَسُق الهدي منهم أن يفسخ الحج إِلى عمرة ويتحلل، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: "خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا نرى إِلا أنّه الحج، فلما قدمنا مكة تطوَّفنا بالبيت، فأَمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من لم يكن ساق الهدي أن يحل، قالت: فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن الهدي، فأحللن (¬1)." الحديث، متفق عليه. وعن ابن عباس نحوه بلفظ: ¬

_ (¬1) في رواية عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: "خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرمين فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كان معه هدي؛ فليُقم على إِحرامه، ومن لم يكن معه هدي فليحلل. قالت: ولم يكن معي هدي فأحللت، وكان مع الزبير هدى، فلم يَحِلَّ، فلبست ثيابي وجئت إِلى الزبير فقال: قومي عني، فقلت: أتخشى أن أثب عليك؟! أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2416).

"فأَمَرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله! أيّ الحلّ؟ قال: الحلّ كلّه"؛ متفق عليه. وفي حديث جابر نحوه وأوضح منه؛ كما يأتي فقرة (33 - 45) (¬1). قلت [أي: شيخنا]: فمن تأملّ في هذه الأحاديث الصحيحة؛ تبيّن له - بياناً لا يشوبه ريب- أن التخيير الوارد فيها إِنما كان منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإِعداد النفوس وتهيئتها؛ لتقبُّل حُكمٍ جديدٍ، قد يصعب ولو على البعض تقبّله بسهولة لأول وَهْلَةٍ، ألا وهو الأمر بفسخ الحج إِلى العمرة، لا سيّما وقد كانوا في الجاهلية كما هو ثابت في "الصحيحين" - يرون أن العمرة لا تجوز في أشهر الحج، وهذا الرأي -وإن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أبطله باعتماره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث مرات في ثلاث سنوات كلها في شهر ذي القعدة-؛ فهذا وحده وإن كان كافياً في إِبطال تلك البدعة الجاهلية؛ فإِنه لا يكفي -والله أعلم- لإِعداد النفوس لتقبل الحكم الجديد، فلذلك مهّد له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتخييرهم بين الحج والعمرة مع بيان ما هو الأفضل لهم، ثمّ أتبع ذلك بالأمر الجازم بفسخ الحج والعمرة. فإِذا عرفنا ذلك؛ فهذا الأمر للوجوب قطعاً، ويدل على ذلك الأمور الآتية: الأول: أن الأصل فيه الوجوب إِلا لقرينة، ولا قرينة هنا، بل والقرينة هنا تؤكده، وهي الأمر التالي وهو: الثاني: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أمرهم تعاظم ذلك عندهم، كما تقدّم آنفاً، ولو لم يكن للوجوب لم يتعاظموه، ألم تر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمرهم من قَبْلُ ثلاث مرات أَمْرَ تخيير، ومع ذلك لم يتعاظموه، فدل على أنهم فهموا من الأمر الوجوب، وهو ¬

_ (¬1) انظر (ص 60) منه بعنوان "الأمر بفسخ الحجّ إِلى العمرة".

المقصود. الثالث: أن في رواية في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: " .. فدخل عليّ وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله! أدخله الله النار! قال: أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر؛ فإِذا هم يترددون؟! ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدي معي حتى أشتريه، ثمّ أحل كما حلوا". رواه مسلم والبيهقي وأحمد (6/ 175). ففي غضبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دليل واضح على أن أمره كان للوجوب، لا سيّما وأن غضبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنما كان لترددهم، لا من أجل امتناعهم من تنفيذ الأمر، وحاشاهم من ذلك، ولذلك حلوا جميعاً؛ إِلا من كان معه هدي كما يأتي في الفقرة (44) (¬1). الرابع: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سألوه عن الفسخ الذي أمرهم به: ألعامنا هذا أم لأبد الأبد؟ فشبَّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصابعه واحدة في أخرى وقال: "دخَلَت العمرة في الحجّ إِلى يوم القيامة، لا بل لأبد أبد، لا بل لأبد أبد". فهذا نص صريح على أن العمرة أصبحت جزءاً من الحج لا يتجزأ، وأن هذا الحكم ليس خاصّاً بالصحابة كما يظنّ البعض، بل هو مستمر إِلى الأبد. [الخامس]: أن الأمر لو لم يكن للوجوب؛ لكفى أن ينفذه بعض الصحابة، فكيف وقد رأينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يكتفي بأمر الناس بالفسخ أمراً عامّاً، فهو تارة يأمر بذلك ابنته فاطمة -رضي الله عنه- كما يأتي (فقرة 48) (¬2)، وتارة ¬

_ (¬1) انظر (ص 65) منه بعنوان "خطبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتأكيد الفسخ وإطاعة الصحابة له". (¬2) انظر (ص 67) منه.

يأمر به أزواجه، كما في "الصحيحين" عن ابن عمر: أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع، قالت حفصة: فقلت: ما يمنعك أن تحل؟ قال: "إِني لبَّدت رأسي ... " الحديث. ولما جاءه أبو موسى من اليمن حاجّاً، قال له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بم أهللت؟ ". قال: أهللت بإِهلال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: هل سقت من هدي؟ قال: لا، قال: "فطُفْ بالبيت وبالصفا والمروة، ثمّ حِلّ ... " الحديث. فهل هذا الحرص الشديد من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على تبليغ أمره بالفسخ إِلى كل مكلف لا يدل على الوجوب؟ اللهم إِن الوجوب ليثبت بأدنى من هذا! انتهى. وجاء (ص 19) منه: "وخلاصة القول: أن على كل من أراد الحج أن يلبي عند إِحرامه بالعمرة، ثمّ يتحلل منها بعد فراغه من السعي بين الصفا والمروة؛ بقص شعره، وفي اليوم الثامن من ذي الحجة يحرم بالحج، فمن كان لبَّى بالقران أو الحج المفرد؛ فعليه أن يفسخ ذلك بالعمرة؛ إِطاعةً لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ والله -عزّ وجلّ- يقول: {من يُطع الرسول فقد أطاع الله} (¬1)، وعلى المتمتع بعد ذلك أن يقدم هدياً يوم النحر، أو في أيام التشريق، وهو من تمام النسك، وهو دم شُكْران وليس دم جُبْران، وهو -كما قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- بمنزلة الأضحية للمقيم، وهو من تمام عبادة هذا اليوم، فالنسك المشتمل على الدم بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية، وهو من أفضل الأعمال، فقد جاء من طرق أن النّبيّ سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: العجُّ (¬2) والثجّ (¬3)؛ وصححه ¬

_ (¬1) النساء: 80. (¬2) رفْع الصوت بالتلبية. (¬3) الثجّ: سيلان دم الهدي والأضاحي. "النهاية".

باب ما جاء في التمتع:

ابن خزيمة وحسّنه المنذري". باب ما جاء في التمتع: عن سالم بن عبد الله؛ أنه سمع رجلاً من أهل الشام وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إِلى الحج؟ فقال عبد الله بن عمر: هي حلال، فقال الشامي: إِن أباك قد نهى عنها! فقال عبد الله بن عمر: أرأيت إِن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أَمْرُ أبي يُتبع، أم أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال الرجل: بل أَمْرُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال: لقد صنعها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬1). قال أبو عيسى: "واختار قوم من أهل العلم، من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم: التمتع بالعمرة. والتمتع: أن يدخل الرجل بعمرة في أشهر الحج، ثمّ يقيم حتى يحج، فهو متمتع، وعليه دم ما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إِذا رجع إِلى أهله، ويستحب للمتمتع إِذا صام ثلاثة أيام في الحج أن يصوم في العشر، ويكون آخرها يوم عرفة، فإِن لم يصم في العشر؛ صام أيام التشريق في قول بعض أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم: ابن عمر، وعائشة. وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال بعضهم: لا يصوم أيام التشريق، وهو قول أهل الكوفة. قال أبو عيسى: وأهل الحديث يختارون التمتع بالعمرة في الحج. وهو قول ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (658)، وانظر "صفة الصلاة" (ص 54).

من اعتمر بعد الحج بغير هدي:

الشافعي وأحمد وإسحاق" (¬1). من اعتمر بعد الحجّ بغير هدي (¬2): فيه قصة عائشة -رضي الله عنها- المعروفة حين نفست في حجّها، وفيه: "فأهلّت بعمرة مكان عمرتها، فقضى الله حجّها وعُمرتها. [ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم] " (¬3). وليس هذا على إِطلاقه، وإنما في أحوال ضيّقة وأمّا فِعله للتهرب من الهدي فلا يجوز. ليس لحاضري المسجد الحرام إِلاّ الإِفراد: عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنه سُئل عن متعة الحجّ؟ فقال: أهلَّ المهاجرون والأنصار وأزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة؟ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجعلوا إِهلالَكم بالحجّ عمرة؛ إِلا من قلّد الهدي (¬4). فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، وقال: من قلّد الهدي؛ فإِنه لا يحلّ له حتى يبلغ الهدي محِلَّه (¬5). ثمّ أمرنا عشية التّروية أن ¬

_ (¬1) انظر "صحيح سنن الترمذي" (1/ 248). (¬2) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب العمرة) (باب - 7). (¬3) أخرجه البخاري: 1786، ومسلم: 1211 - 117، وما بين معقوفين من كلام هشام بن عروة، كما في "صحيح مسلم". (¬4) جاء في "الوسيط": "قلّد البَدَنة: علَّقَ في عُنُقها شيئاً ليُعْلَمَ أنّها هدي. (¬5) وهو يوم النحر، انظر "تفسير العلامة السعدي" -رحمه الله- وما فيه من فوائد في هذه الآية.

من هم حاضرو المسجد الحرام؟

نهل بالحجّ، فإِذا فرغنا من المناسك؛ جئنا فطفنا بالبيت وبالصّفا والمروة، وقد تمَّ حجُّنا وعلينا الهدي كما قال الله -تعالى-: {فما استيسر (¬1) من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحجِّ وسبعة إِذا رجعتم} [البقرة: 196] إِلى أمصاركم، الشاة تجزي، فجمعوا نُسكين في عام بين الحجّ والعمرة؛ فإِنّ الله -تعالى- أنزله في كتابه وسنّة نبيّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأباحه للناس؛ غير أهل مكة، قال الله: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}، وأشهر الحجّ التي ذكر الله -تعالى-؛ "شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم" (¬2). من هم حاضرو المسجد الحرام؟ جاء في "تفسير ابن كثير" -رحمه الله- بحذف: "في قوله -تعالى-: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} قال ابن جرير: واختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله: {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} بعد إجماع جميعهم على أنّ أهل الحرم معنيّون به، وأنه لا متعة لهم: فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الحرم خاصّة دون غيرهم. ثمّ ساق بإِسناده إِلى سفيان الثوري قال: قال ابن عباس ومجاهد: هم أهل الحرم. وقال عبد الرزاق: حدثنا معْمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: المتعة للناس -لا ¬

_ (¬1) أي: فاذبحوا ما استيسر من الهدي، وهو سُبع بدنة، أو سُبع بقرة، أو شاة يذبحها المحصِر. "تفسير السعدي" أيضاً. (¬2) أخرجه البخاري: 1572.

لأهل مكة- من لم يكن أهله من الحرم. وذلك قول الله -عزّ وجلّ-: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}. قال: وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاوس. وقال آخرون: هم أهلُ الحرم ومن بينه وبين المواقيت، كما قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن رجل عن عطاء قال: من كان أهل دون المواقيت؛ فهو كأهل مكة، لا يتمتع. وقال عبد الله بن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مكحول في قوله: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} قال: من كان دون الميقات. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر: سمعت الزهري يقول: من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع. وفي رواية عنه: اليوم واليومين. واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي: أنهم أهل الحرم، ومن كان منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة؛ لأنّ من كان كذلك يعد حاضراً لا مسافراً، والله أعلم". وهذا الذي يترجّح -والله أعلم-؛ لأنّ الذين ذُكروا في تفسير الآية هم: أهل الحرم، وأَهل مكة، ودون الميقات، ومن كان أهله على يوم ويومين، ومن كان منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة. فأهل الحرم وأهل مكة ومن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة؛ قد

أيما أفضل للمكي؛ العمرة أم الطواف؟

دخلوا في المعنى المراد. وبقي من كان على مسيرة يوم أو يومين أو يوم وبعض يوم؛ فهذا ارتباطه بالسفر نفياً وإثباتاً. وبقي كذلك من كان دون الميقات، وهذا قول ليس بالقوي؛ لأنّ المواقيت متفاوتة في بعدها وقُربها من المسجد الحرام، وأبعدها ذو الحليفة فهل من كان منزله بعد هذا الميقات بشيء يسير يقال: إِنه من حاضري المسجد الحرام؟! والحاصل أن حاضري المسجد الحرام هم أهل الحرم، ومن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة. والله -تعالى- أعلم. أَيُّما أفضل للمكي؛ العمرة أم الطواف؟ جاء في "مجموع الفتاوى" (26/ 248): "وسئل أبو العباس: أيما أفضل لمن كان بمكة: الطواف بالبيت أو الخروج إِلى الحل ليعتمر منه ويعود؟ وهل يستحب لمن كان بمكة كثرة الاعتمار في رمضان أو في غيره، أو الطواف بدل ذلك؟ وكذلك كثرة الاعتمار لغير المكي: هل هو مستحب؟ وهل في اعتمار النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الجعرانة وفي عمرة الحديبية مستند لمن يعتمر من مكة، كما في أمره لعائشة أن تعتمر من التنعيم؟ وقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عمرة في رمضان تعدل حجة"؛ هل هي عمرة الأفقي؟ أو تتناول المكي الذي يخرج إِلى الحل ليعتمر في رمضان؟ فأجاب: أمّا من كان بمكة من مستوطن، ومجاور وقادم وغيرهم؛ فإِنّ طوافه بالبيت أفضل له من العمرة، وسواء خرج في ذلك إِلى أدنى الحل -وهو التنعيم الذي أحدث فيه المساجد التي تسمى: مساجد عائشة -أو أقصى الحل من أي

جوانب الحرم، سواء كان من جهة "الجعرانة" أو "الحديبية" أو غير ذلك، وهذا المتفق عليه بين سلف الأمة، وما أعلم فيه مخالفاً من أئمة الإِسلام في العمرة المكية. وأمّا العمرة من الميقات: بأن يذهب إِلى الميقات فيُحرم منه، أو يرجع إِلى بلده، ثمّ يُنِشئ السفر منه للعمرة؛ فهذه ليست عمرة مكية بل هذه عمرة تامة، وليس الكلام هنا فيها. وهذه فيها نزاع: هل المقام بمكة أفضل منها، أم الرجوع إِلى بلده أو الميقات أفضل؟ وسيأتي كلام بعض من رجح المقام بمكة للطواف على الرجوع للعمرة من الميقات. وإِنما النزاع في أنه هل يكره للمكي الخروج للاعتمار من الحل أم لا؟ وهل يكره أن يعتمر مَنْ تشرع له العمرة -كالأفقي- في العام أكثر من عمرة أم لا؟ وهل يستحب كثرة الاعتمار أم لا؟ فأما كون الطواف بالبيت أفضل من العمرة لمن كان بمكة؛ فهذا مما لا يستريب فيه من كان عالماً بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسنة خلفائه، وآثار الصحابة، وسلف الأمة وأئمتها، وذلك أن الطواف بالبيت من أفضل العبادات والقربات التي شرعها الله في كتابه وعلى لسان نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو من أعظم عبادة أهل مكة؛ أعني: من كان بمكة مستوطناً أو غير مستوطن، ومن عباداتهم الدائمة الراتبة التي امتازوا بها على سائر أهل الأمصار، وما زال أهل مكة على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه وأصحابه -رضي الله عنهم- يطوفون بالبيت في كل وقت ويُكْثِرون ذلك ... ".

وقال -رحمه الله- (ص 252): "وأمّا الاعتمار للمكي بخروجه إِلى الحل؛ فهذا لم يفعله أحد على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إِلا عائشة في حجة الوداع، مع أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمرها به، بل أذن فيه بعد مراجعتها إِياه ... فأمّا أصحابه الذين حجوا معه حجة الوداع كلهم من أولهم إِلى آخرهم؛ فلم يخرج أحد منهم؛ لا قبل الحجة ولا بعدها؛ لا إِلى التنعيم ولا إِلى الحديبية ولا إِلى الجعرانة، ولا غير ذلك لأجل العمرة، وكذلك أهل مكة [المستوطنون]؛ لم يخرج أحد منهم، إِلى الحل لعمرة، وهذا متفق عليه، معلوم لجميع العلماء الذين يعلمون سنته وشريعته. وكذلك أيضاً أصحابه الذين كانوا مقيمين بمكة من حين فَتْحِهِ مكة من شهر رمضان سنة ثمان، وإلى أن توفي؛ لم يعتمر أحد منهم من مكة، ولم يخرج أحد منهم إِلى الحل ويهل منه، ولم يعتمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بمكة قط، لا من الحديبية، ولا من الجعرانة، ولا من غيرهما، بل قد اعتمر أربع عمر: ثلاث منفردة، وواحدة مع حجته، وجميع عمره كان يكون فيها قادماً إِلى مكة، لا خارجاً منها إِلى الحل. فأمّا عمرة الحديبية؛ فإِنه اعتمر من ذي الحليفة -ميقات أهل المدينة- هو وأصحابه الذين بايعوه في تلك العمرة تحت الشجرة، ثمّ إِنهم لما صدهم المشركون عن البيت، وقاضاهم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على العمرة من العام القابل، وصالحهم الصلح المشهور؛ حل هو وأصحابه من العمرة بالحديبية، ولم يدخلوا مكة ذلك العام ... ". وجاء في "الاختيارات" (ص 115): "والقول بوجوب العمرة على أهل

القارن يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا:

مكة: قول ضعيف جدّاً، مخالف للسنة الثابتة، ولهذا كان أصح الطريقين عن أحمد: أن أهل مكة لا عمرة عليهم، رواية واحدة، وفي غيرهم روايتان، وهي طريقة أبي محمد المقدسي. وطريقة المجد أبي البركات في العمرة ثلاث روايات، ثالثها: تجب على غير أهل مكة". القارن يطوف طوافاً واحداً ويسعى سعياً واحداً: عن عائشة -رضي الله عنها-: أنها حاضت بِسَرِف، فتطهّرت بعرفة، فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك (¬1) " (¬2). عن جابر -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرن الحج والعمرة، فطاف لهما طوافاً واحداً" (¬3). وعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أحرم بالحج والعمرة؛ أجزأه طواف واحد وسعْي واحد منهما؛ حتى يحلّ منهما جميعاً" (¬4). ¬

_ (¬1) قال النووي -رحمه الله- (8/ 140): "وأمّا عائشة -رضي الله عنها- فإِنّما حصل لها عمرةٌ مندرجة في حجة بالقِران؛ فقال لها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النفر: "يسعُك طوافك لحجّك وعمرتك"؛ أي: وقد تمّا وحُسِبا لك جميعاً ... ". (¬2) أخرجه مسلم: 1211. (¬3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (755)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2407). (¬4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (756)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2409).

من لم يجد هديا:

من لم يجد هدْياً: من لم يجد هدْياً؛ فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إِذا رجع إِلى أهله، قال الله -تعالى-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬1). متى يصوم الأيام الثلاثة؟ قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" -بحذف-: "يقول -تعالى-: فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحجّ؛ أي: في أيام المناسك. قال العلماء: والأولى أن يصومها قبل يوم عرفة في العشر؛ قاله عطاء، أو من حين يحرم؛ قاله ابن عباس وغيره؛ لقوله: {في الحجّ}. ومنهم من يُجوِّز صيامها من أول شوال، قاله طاوس ومجاهد وغير واحد. وجوّز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين، وكذ اقال مجاهد، وسعيد بن جبير، والسدي، وعطاء، وطاوس، والحكم، والحسن وحماد، وإبراهيم، وأبو جعفر الباقر، والربيع، ومقاتل بن حيّان. وقال العوفي عن ابن عباس: إِذا لم يجد هدْياً؛ فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإِذا كان يوم عرفة الثالث؛ فقد تمّ صومه، وسبعة إِذا رجع ¬

_ (¬1) البقرة: 196.

إِلى أهله وكذا روى أبو إِسحاق عن وبرة عن ابن عمر قال: يصوم يوماً قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة. وكذا روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أيضاً. فلو لم يصمها أو بعضها قبل يوم العيد؛ فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق؟ فيه قولان للعلماء؛ هما للإِمام الشافعي - أيضاً: القديم منهما: أنه يجوز له صيامها؛ لقول عائشة وابن عمر -رضي الله عنهم- في "صحيح البخاري": لم يرخّص في أيام التشريق أن يُصمن إِلا لمن لم يجد الهدي (¬1). وكذا رواه مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة وعن سالم عن ابن عمر، وإِنما قالوا ذلك لعموم، قوله: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة} وقد روي من غير وجه عنهما. ورواه سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه. وبهذا يقول عبيد بن عمير الليثي، وعكرمة، والحسن البصري، وعروة بن الزبير، وإنما قالوا ذلك لعموم قوله: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} ... ". اهـ وعن هشام قال: أخبرني أبي: "كانت عائشة -رضي الله عنها- تصوم أيّام منى، وكان أبوهُ (¬2) يصومها" (¬3). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "الصيام لمن تمتّع بالعمرة إِلى الحجّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1997. (¬2) قال الحافظ -رحمه الله-: "قوله: (وكان أبوه يصومها): هو كلام القطان لهشام ابن عروة، وفاعل يصومها هو عروة، والضمير فيه لأيام التشريق، ووقع في رواية كريمة: (وكان أبوها)؛ وعلى هذا فالضمير لعائشة، وفاعل يصومها هو أبو بكر الصديق". (¬3) أخرجه البخاري: 1996.

متى يبطل الحج بالجماع؟ وما جزاء الوطء؟

إِلى يوم عرفة، فإِن لم يجد هدْياً ولم يصم؛ صام أيّام منى" (¬1). متى يبطل الحج بالجماع؟ وما جزاء الوطء؟ إِذا وطئ المرء في الحجّ قبل التحلُّل الأوّل؛ يبطَل حجُّه وعليه بدنة. أمّا إِذا وطئ بعد التحلُّل الأول وقبل التحلُّل الثاني؛ فعليه شاة؛ ولا يبطل حجُّه. عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنه سُئل عن رجل وقَع بأهله وهو بمنى؛ قبل أن يفيض؟ فأمره أن ينحر بدنة" (¬2). وفي رواية: "الذي يصيب أهله قبل أن يفيض؛ يعتمر ويهدي" (¬3). عن سعيد بن جبير: "أنّ رجلاً أهلّ هو وأمرأته جميعاً بعمرة، فقضت مناسكها إِلا التقصير، فغشيها قبل أن تقصر، فسئل ابن عباس عن ذلك؟ فقال: إِنها لشَبِقَةٌ (¬4)، فقيل له: إِنها تسمع. فاستحيا من ذلك وقال: ألا أعلمتموني؟! وقال لها: أهريقي دماً، قالت: ماذا؟ قال: انحري ناقة أو بقرة أو شاة، قالت: أي ذلك أفضل؟ قال: ناقة" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1999. (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1044). (¬3) انظر "الإرواء" تحت الأثر السابق. (¬4) أي: شديدة الشهوة. (¬5) أخرجه البيهقي. وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1041): "وسنده صحيح".

الدماء في الحج

عن عمرو بن شعيب عن أبيه: "أنّ رجلاً أتى عبد الله بن عمرو يسأله عن مُحرِم وقع بامرأة، فأشار إِلى عبد الله بن عمر؟ فقال: اذهب إِلى ذلك فسله، قال: فلم يعرفه الرجل، فذهبت معه، فسأل ابن عمر، فقال: بطل حجك، فقال الرجل: فما أصنع؟ قال: اخرج مع الناس، واصنع ما يصنعون، فإِذا أدركت قابلاً؛ فَحُجَّ وأهْدِ فرجع إِلى عبد الله بن عمرو، وأنا معه، فأخبره، فقال: اذهب إِلى ابن عباس فسله، قال شعيب: فذهبت معه إِلى ابن عباس فسأله، فقال له كما قال ابن عمر: فرجع إِلى عبد الله بن عمرو وأنا معه، فأخبره بما قال ابن عباس، ثمّ قال: ما تقول أنت؟ فقال: قوْلي مثل ما قالا" (¬1). وإذا لم يجد الهدي؛ فإِنه يصوم ثلاثة أيام في الحجّ، وسبعة إِذا رجع إلى أهله (¬2). الدماء في الحجّ لم يرد في دماء الحجّ إلاَّ خمس حالات: 1 - دم التمتع والقِران. قال -تعالى-: {فَمَنْ تمتع بالعمرة إِلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعةٍ إِذا رجعتم} (¬3). 2 - دم الفدية. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "الإِرواء" (1043). (¬2) انظر "منار السبيل" (1/ 257)، و"الإِرواء" (4/ 964، 1042). (¬3) البقرة: 196.

3 - دم الجزاء

وهو الدم الذي يجب على الحاج إِذا حلق شعره لمرض أو شيء يؤذيه. قال -تعالى-: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نُسُكٍ} (¬1). وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل صحّ معنى أو مبنى ما يُذكر عن عطاء أنه قال: إذا نتف المحرم ثلاث شعرات فصاعداً؛ فعليه دم؟ فأجاب -رحمه الله-: روايةً لا أدري، ودرايةً ندَعُه له. قلت: فلو صحّ سنداً فهل تقولون: ندعه له؟ فقال -رحمه الله-: نعم. 3 - دم الجزاء. قال- تعالي-: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتُلوا الصيد وأنتم حُرُمٌ ومن قتَله منكم متعمداً فجزاءٌ مِتلُ ما قتَل من النَّعَم (¬2) يحكم به ذَوَا عدلٍ منكم هدياً بالغَ الكعبة (¬3) أو كفّارةٌ طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال (¬4) أمره عفا الله عمّا سلف ومن عاد فينتقمُ الله منه والله عزيزٌ ذو انتقام} (¬5). ¬

_ (¬1) البقرة: 196. (¬2) هو المال السائم. (¬3) أي: واصلاً إِلى الكعبة، والمراد وصوله إِلى الحرم؛ بأن يذبح هناك، ويفرّق لحمه على مساكين الحرم، وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة. "تفسير ابن كثير". (¬4) أي: أوجبنا عليه الكفّارة ليذوق عقوبة فِعله الذى ارتكب فيه المخالفة. "تفسير ابن كثير". (¬5) المائدة: 95.

4 - دم الوطء

وهذا في صيد البّر. وأمّا صيد البحر؛ فجائز كما تقدّم، فليس فيه جزاء. 4 - دم الوطء. وهو دمٌ يجب على الحاج إِذا جامع أهله أثناء حجّه. 5 - دم الإِحصار. وهو الدم الذي يجب لانحباسه عن إِتمام المناسك، وعدم تمكُّنه من أدائها؛ لمرض أو عدوّ أو نحو ذلك، إِذا لم يكن قد اشترط عند إِحرامه بقوله: "اللهم! مَحِلِّي حيث حبستني". قال الله -تعالى-: {فإِن أُحصرتم فما استيسر من الهدي} (¬1)؛ وسيأتي بعد قليل -إِن شاء الله تعالى-. قال شيخنا -رحمه الله- لنا في بعض مجالسه: "ليس لموجبي الدماء أيّ مستند من الكتاب والسّنّة، اللهم إِلا أثر عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- يرويه الإِمام أبو بكر البيهقي في كتابه "السنن الكبرى" بالسند الصحيح عنه أنّه قال: "مَن نسي أو أخطأ في نُسك؛ فعليه دم" (¬2). وقد روي هذا الأثر موقوفاً، وهو صحيح وروي مرفوعاً؛ ولا يصح؛ مع أنّ ابن عباس تفرّد في هذا الرأي، ولا نعلم من وافقه من أصحاب آخرين. فنحن نجد فيه توسعاً يخالف بعض الأحاديث الصحيحة، كمثل حديث ¬

_ (¬1) البقرة: 196. (¬2) وسيأتي الكلام عليه -إِن شاء الله تعالى- بعد سطور.

أثر ابن عباس -رضي الله عنهما-: من نسي من نسكه شيئا أو تركه؛ فليهرق دما".

ذلك الأعرابي الذي سمعه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبّي بالعمرة، وهو متضمّخ بالطيب وعليه جبّة؛ فأمره - عليه الصلاة والسلام- بأن يخلع الجبّة أو القميص وأن يغسل عنه الطيب، وقال له: "اصنع في عمرتك ما تصنع في حجّك" (¬1)؛ ولم يأمره بدم، مع أنّ الذي فعَله يدخل في كلام ابن عباس -رضي الله عنهما- ولا نجد ما يوجب الدّم إِلا ما هو معلوم بالأدلّة الصحيحة من الكتاب والسنّة ... " انتهى. أثر ابن عباس -رضي الله عنهما-: من نسي من نسكه شيئاً أو تركه؛ فليهرِق دماً" (¬2). ولا بُد لنا من التأمّل في مسألة عظيمة كهذه - نسيان أو ترك مناسك مِن نسك الحج، لا يَرد فيها حديث مرفوع، والحاجة تقتضي ذلك؛ لكثرة وقوعها وملابستها من الناس، مع ما قد علمنا من أمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأخذ المناسك عنه؛ ومع ما لا يخفى من حِرص الصحابة -رضي الله عنهم- على التأسي والاقتداء به ¬

_ (¬1) يشير شيخنا -رحمه الله- إِلى الحديث الذي رواه صفوان بن يعلى: أنّ يعلى قال لعمر -رضي الله عنه-: "أرني النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين يوحى إِليه، قال: فبينما النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجعرانة -ومعه نفر من أصحابه-؛ جاءه رجل فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمّخ بطيب؟ فسكت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساعة، فجاءه الوحي، فأشار عمر -رضي الله عنه- إِلى يعلى، فجاء يعلى -وعلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثوب قد أُظلّ به-؛ فأدخل رأسه، فإِذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محمرُّ الوجه وهو يَغطُّ، ثمّ سُرِّيَ عنه، فقال: أين الذي سأل عن العمرة؟ فأتي برجل فقال: اغسل الطّيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجُبّة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجّتك". أخرجه البخاري: 1536، ومسلم: 1180. (¬2) وهو ضعيف مرفوعاً، وثابت موقوفاً كما في "الإِرواء" (1100).

الإحصار

-عليه الصلاة والسلام- وكثرتهم واجتماعهم - ما لا يكون في أيّ عبادة أُخرى، لا في جمعة، ولا جماعة، ولا صلاة عيد، ولا جهاد في سبيل الله -تعالى-. والصحابة -رضي الله عنهم- قد نقلوا أحكام الوضوء والصلاة بدقّة بلغت الغاية. فماذا يعني عدم ورود حديث مرفوع، أو نقولات مستفيضة من الصحابة - رضي الله عنهم- في هذا الأمر، مع ما سبق بيانه من النصوص البيّنة المتعلّقة بالدماء؟! والذبح مُكْلِفٌ كما لا يخفى؛ أو الصيام -على التفصيل المعلوم-؛ وهو يحتاج إِلى صبرٍ ومجاهدة. فهذا يجعلنا نقدّم الآيات والنصوص -التي بيّنت متى يهراق الدم- على أثر ابن عباس -رضي الله عنهما-؛ لعدم علمنا مَن وافقه من الصحابة -رضي الله عنهم-؛ كما أشار شيخنا -رحمه الله- في تحديد المواطن التي تجب فيها الدماء؛ مع احترامنا لمن يأخذ بهذا الأثر. والله -تعالى- أعلم. الإِحصار الإِحصار: هو المنع والحبس. والمراد: المنع عن الطواف في العمرة أو أداء الأركان أو بعضها، كالوقوف بعرفة وطواف الإِفاضة. قال الله -تعالى-: {فإِن أُحصرتم فما استيسر من الهدي} (¬1). ¬

_ (¬1) البقرة: 196.

جاء في "تفسير ابن كثير": "ذكروا أنّ هذه الآية نزلت في سنة ست؛ أي: عام الحديبية، حين حال المشركون بين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين الوصول إِلى البيت ... ". *واختلف العلماء هل يختصّ الحصر بالعدوّ، دون المرض أو غيره؟ وذكروا عن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: لا حصر إِلا حصر العدوّ، فأمّا من أصابه مرض أو وجع أو ضلال؛ فليس عليه شيء؛ إِنما قال الله: {فإذا أمِنتم}، فليس الأمن حصراً. القول الثاني: أنّ الحصر أعمّ من أن يكون بعدوّ أو مرض أو ضلال عن الطريق أو نحو ذلك. عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من كُسِرَ أو عَرِج؛ فقد حلّ، وعليه حجة أخرى. فحدثت به ابن عباس، وأبا هريرة فقالا: صدق" (¬1). وفي رواية عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال: "سألت الحجاج بن عمرو عن حبس المُحرم؟ فقال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من كُسرَ أو مرض أو عرِج فقد حل، وعليه الحجُّ من قابل. قال عكرمة: فحدثت به ابن عباس وأبا هريرة فقالا: صدق" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1639)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2497). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1640)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2498).

يذبح المحصر ما استيسر من الهدي:

وأفتى ابن مسعود -رضي الله عنه- رجُلاً لُدغ بأنه مُحْصَرٌ (¬1). القول الثاني هو الراجح -والله أعلم- لذلك جاء تبويبه في "سنن أبي داود" تحت (باب في الإِحصار)، وفي "سنن ابن ماجه" تحت (باب المحصر)، وفي "المشكاة" (2/ 828): (باب الإِحصار وفوت الحج). والحديث صريح فيمن مُنع وحُبس في غير العدّو، والثمرة هي الحبس؛ سواءٌ أكان من عدوٍ أم مرض أم ضلال طريق. وبالله -تعالى- التوفيق. وجاء في "الاختيارات" (ص 119): "والمحصر بمرض أو ذهاب نفقة: كالمحصر بعدّو، وهو إِحدى الروايتين عن أحمد". يذبح المحصر ما استيسر من الهدي: قال الله -تعالى-: {فإِن أُحصرتم فما استيسر من الهدي} (¬2). عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قد أُحصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحلق رأسه، وجامع نساءه، ونحر هديه، حتى اعتمر عاماً قابلاً" (¬3). وذهب الجمهور إِلى إِجزاء الشاة في الإِحصار. قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إِليه من إِجزاء ذبح الشاة في الإِحصار: أنّ الله أوجب ذبح ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير بإِسناد صحيح عنه. قاله الحافظ في "الفتح" في أول كتاب المحصر. (¬2) البقرة: 196. (¬3) أخرجه البخاري: (1809).

مكان ذبحها:

ما استيسر من الهدي؛ أي: مهما تيسر مما يسمى هدياً، والهدي من بهيمة الأنعام، وهي الإِبل والبقر والغنم، كما قاله الحَبْر البحر ترجمان القرآن وابن عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد ثبت في "الصحيحين" عن عائشة أمّ المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: "أهدى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرة غنماً" (¬1). مكان ذبْحها: اختلف العلماء في موضع ذبح هدي الإِحصار: فقال الجمهور: يَذبَحُ هديَه حيث يحل في الحرم أو الحل. وقال بعضهم: لا ينحره إلاَّ في الحرم. وقيل غير ذلك. والراجح: ما قاله الجمهور: أنه يذبح حيث هو؛ لأنّ هذا ظاهر النص، وهو الشيء الممكن. والله أعلم. وسألت شيخنا -رحمه الله- عن ذلك. فقال: "يذبحه حيث هو". إِذا أخطأ العِدّة في الحج ولم يقم ببعض الأركان؛ فإِنه يُحلّ بعمرة وعليه الحج من قابل: عن سليمان بن يسار: "أنّ هَبَّار بن الأسود جاء يوم النحر، وعمر بن الخطاب ينحر هديه، فقال: يا أمير المؤمنين! أخطأنا العِدّة، كنّا نُرى أن هذا اليوم يوم عرفة، فقال عمر: اذهب إِلى مكة، فطُف أنت ومن معك، وانحروا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1701، ومسلم: 1321.

ما يفعل بالمحرم إذا مات:

هدياً إِن كان معكم، ثمّ احلقوا أو اقصروا وارجعوا، فإِذا كان عام قابل فحُجّوا وأَهدوا! فمن لم يجد؛ فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إِذا رجع" (¬1). وفي رواية: "أن أبا أيوب الأنصاري خرج حاجاً، حتى إِذا كان بالنازية من طريق مكة؛ أضل رواحله، وأنه قدم على عمر بن الخطاب يوم النحر، فذكر ذلك له؟ فقال عمر: اصنع كما يصنع المعتمر، ثمّ قد حللت، فإِذا أدركك الحج قابلاً؛ فاحجج، وأهد ما تيسر من الهدي" (¬2). ما يُفعَل بالمحرم إِذا مات (¬3): عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "بينما رجل واقف بعرفة؛ إِذ وقع عن راحلته فوقصته (¬4) -أو قال: فأوقصته-؟ قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه (¬5)، ولا تخمِّروا (¬6) رأسه؛ فإِنَّه يُبعث يوم القيامة مُلبياً" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه مالك، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1068): "وهذا سند صحيح، والهبار صحابي معروف له ترجمة في "الإِصابة" وغيره". (¬2) صححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1132). (¬3) هذا العنوان من "صحيح مسلم". (¬4) وقصته: أي: كَسَرتْ عنقه. (¬5) لا تحنطوه: هو بالحاء المهملة؛ أي: لا تُمسّوه حَنوطاً؛ والحَنوط: بفتح الحاء -ويقال له: الحِناط؛ بكسر الحاء- وهو أخلاط من طيب تجمع للميت خاصة؛ لا تستعمل في غيره. "نووي". (¬6) أي: لا تغطّوا. (¬7) أخرجه البخاري: 1265، ومسلم: 1206، وتقدّم.

جزاء قتل الصيد

جزاء قتْل الصّيد قال الله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا (¬1) الصيد وأنتم حُرُم ومن قَتَله منكم مُتعمداً فجزاءٌ مِثلُ ما قَتَلَ من النَّعَم يحكُم به ذَوَا عدلٍ منكم هدياً بالغَ الكعبة أو كفّارةٌ طَعَامُ مساكينَ أو عَدْلُ ذلك صِياماً ليذوقَ وبال أمره عفا الله عمّا سلف ومن عادَ فينتقمُ الله منه والله عزيزٌ ذو انتقام} (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" -بحذف- بعد أن ذكر بعض أقوال السلف في المتعمدّ والنّاسي: " {هدياً بالغ الكعبة}؛ أي: واصلاً إِلى الكعبة، والمراد وصوله إِلى الحرم بأن يذبح هناك، ويُفرّق لحمه على مساكين الحرم، وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة. ... والذي عليه الجمهور (¬3) أن العامد والناسي سواءٌ في وجوب الجزاء عليه. قال الزهري: دل الكتاب على العامد، وجرَت السّنّة على الناسي. ومعنى هذا: أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله: {ليذوق وبال أمره عفا الله عمّا سلف ومن عاد فينتقم الله منه}، وجاءت السُّنّة من أحكام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ، كما دل ¬

_ (¬1) لا يجوز للمحرم قتْل الصيد إِلا إِن صال عليه فقَتَله دفعاً؛ فيجوز ولا ضمان عليه. والله أعلم، قاله الحافظ في "الفتح" (4/ 31). (¬2) المائدة: 95. (¬3) سألت شيخنا -رحمه الله- إِذا قتل المحرم صيداً ناسياً أو جاهلاً بالتحريم؛ فهل أنتم مع من يوجب عليه الجزاء؟ فأجاب: نعم.

الكتاب عليه في العمد. وأيضاً؛ فإِنَّ قتل الصيد إِتلاف، والإِتلاف مضمون في العمد وفي النسيان، لكن المتعمد مأثوم، والمخطئ غير ملوم. وقوله: {فجزاءٌ مِثل ما قَتَل من النَّعَم}، قرأ بعضهم بالإِضافة، وقرأ آخرون بعطفها: (فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النَّعَم}، وحكى ابن جرير: أن ابن مسعود قرأها: "فجزاؤه مثل ما قتل من النعم". وفي قوله: {فجزاءٌ مِثلُ ما قَتَل من النَّعَم} -على كل من القراءتين- دليل لما ذهب إِليه مالك والشافعي وأحمد والجمهور من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم، إِذا كان له مثل من الحيوان الإِنسي، خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله-؛ حيث أوجب القيمة، سواءً كان الصيد المقتول مثليّاً أو غير مثليّ، قال: وهو مخير؛ إن شاء تصدق بثمنه، وإن شاء اشترى به هدياً. والذي حكم به الصحابة في المِثْل أولى بالاتباع، فإِنهم حكموا في النعامة ببدنة، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الغزال بعنز. وذِكْرُ قضايا الصحابة وأسانيدها مقررٌ في كتاب "الأحكام". وأمّا إِذا لم يكن الصيد مثليّاً؛ فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه يحمل إِلى مكة. رواه البيهقي. وقوله: {يحكم به ذوا عدلٍ منكم}؛ يعني: أنه يحكم بالجزاء -في المثل -أو بالقيمة - في غير المثل-: عدلان من المسلمين. وقوله: {أو كفارةٌ طعام مساكين أو عدْل ذلك صياماً}، أي: إِذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم، أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال، أو قلنا بالتخيير في هذا المقام بين الجزاء والإِطعام والصيام ... لظاهر "أو"؛ فإِنها

ما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف في هذا المقام:

للتخيير، والقول الآخر: أنها على الترتيب. فصورة ذلك: أن يعدل إِلى القيمة، فيقوم الصيد المقتول عند مالك، وأبي حنيفة وأصحابه، وحماد وإبراهيم. وقال الشافعي: يقوم مثله من النَّعم لو كان ْموجوداً، ثمّ يشتري به طعام ويتصدّق به، فيُصرف لكل مسكين مُد منه عند الشافعي، ومالك وفقهاء الحجاز، واختاره ابن جرير. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يُطعَم كل مسكين مُدّين. وهو قول مجاهد. وقال أحمد: مُدٌّ من حنطة، أو مُدان من غيره، فإِن لم يجد، أو قلنا بالتخيير؛ صام عن إِطعام كل مسكين يوماً. وقال ابن جرير: وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يوماً، كما في جزاء المترفَّه بالحلق ونحوه؛ فإِنّ الشارع أمر كَعْبَ بن عُجْرَةَ أن يقسم فَرْقاً بين ستة، أو يصوم ثلاثة أيام، والفرق ثلاثة آصُعِ". انتهى. ما قضى به النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والسلف في هذا المقام: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضَّبُع؟ فقال: "هو صيدٌ، ويُجعل فيه كَبش إِذا صاده المُحرِم" (¬1). وفي رواية: قال أبو عمّار: "قلت لجابر بن عبد الله: الضَّبُعُ أصيدٌ هي؟ قال: نعم. قلت: آكلها؟ قال: نعم. قال: قلت: أقاله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3226)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2504)، وصححّه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1050). (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (676)، والنسائي "صحيح سنن =

صيد الحرم وقطع شجره، وهل في ذلك جزاء أو قيمة؟

وعن جابر -رضي الله عنه- أيضاً: "أنّ عمر بن الخطاب قضى في الضّبُع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعَناق (¬1)، وفي اليربوع (¬2) بجَفْرة" (¬3). وفي رواية: "قال أبو عبيد: قال أبو زيد: الجَفْر من أولاد المعز: ما بلَغ أربعة أشهر، وفُصل عن أمه (¬4) " (¬5). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنه جعل في حَمام الحرم على المحرم والحلال في كل حمامةٍ شَاة" (¬6). وفي روايهَ: "ما كان سوى حمام الحرم؛ ففيه ثمنه إِذا أصابه المحرم" (¬7). صيد الحرم وقطْع شجره، وهل في ذلك جزاءٌ أو قيمة؟ يحرُم على المُحرم والحلال -وهو غير المحرم- صيد الحرم، وتنفيره، وقطْع شجرِهِ وشوكِهِ ورَطْبِ نباتِهِ؛ إلاَّ الإِذخِرَ. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنّ الله حرَّم مكة، فلم ¬

_ = النسائي" (2659)، وانظر "المشكاة" (2703). (¬1) العَناق: الأنثى من أولاد المعيز والغنم من حين الولادة إِلى تمام حول، وحيوان من رتبة اللواحم، ومن فصيلة السنانير، أكبر من القط قليلاً، لونها أحمر ... "الوسيط". (¬2) دُوَيبة فوق الجُرَذ؛ الذكر والأنثى فيه سواء. "اللسان". (¬3) أخرجه مالك وغيره، وصححّه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1051). (¬4) جاء في "النهاية": "نحو ما قال أبو عبيد عن أبي زيد. (¬5) أخرجه البيهقي، وانظر "الإِرواء" (1053). (¬6) أخرجه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1056). (¬7) صححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1056).

تحلّ لأحد قبلي، ولا تحلّ لأحد بعدي، وإنما أُحلّت لي ساعةً من نهار، لا يُختلى (¬1) خلاها (¬2)، ولا يُعضد (¬3) شجرها، ولا يُنفّر صيدها، ولا تُلتقط لُقطتها إِلا لمعرّف. وقال العباس: يا رسول الله! إلاَّ الإِذخِر لِصاغتنا (¬4) وقُبورنا؟ فقال: إِلا الإِذخِر" (¬5). وفي رواية: "فقال العباس: إِلا الإِذخِر يا رسول الله! فإِنّه لا بُدّ منه للقَين (¬6) والبيوت؟ فسكَت، ثمّ قال: إِلا الإِذخِر؛ فإِنه حلال" (¬7). وجاء في "الروضة الندية" (1/ 614) في مناقشة الجزاء والقيمة: "أقول: عندي أنه لا يجب على من قتل صيداً، أو قطع شجراً من حرم المدينة لا جزاءٌ ولا قيمة؛ بل يأثم فقط، ويكون لمن وجده يفعل ذلك أخذ سَلَبِهِ؛ ولا يجب على الحلال في صيد حرم مكة ولا شجره شيء إِلا مجرد الإِثم؛ وأما من كان محرماً؛ فعليه الجزاء الذي ذكَره الله -عزّ وجلّ- إِذا قتل صيداً، وليس عليه شيء ¬

_ (¬1) أي: لا يُقطع. (¬2) خلاها؛ أي: الرّطبُ من النبات. (¬3) يُعضد؛ أي: يُقطع. (¬4) لصاغتنا: جمع الصائغ، وهو الذي يعمل الحُليّ من الفضة والذهب ونحوهما. (¬5) أخرجه البخاري: 1833، ومسلم: 1353. (¬6) القَين: -بفتح القاف-: هو الحداد والصائغ، ومعناه: يحتاج إِليه القين في وقود النار، ويحتاج إِليه في القبور لتسد به فُرج اللحد المتخللة بين اللَّبِنَاتِ، ويحتاج إليه في سقوف البيوت فيجعل فوق الخشب". "شرح النووي". (¬7) أخرجه البخاري: 4313، ومسلم: 1353.

في شجر مكة؛ لعدم ورود دليل تقوم به الحجة، وما يروى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أنه قال في الدوحة الكبيرة إِذا قطعت من أصلها بقرة- لم يصح، وما يروى عن بعض السلف لا حجة فيه. والحاصل: أنه لا ملازمة بين النهي عن قتل الصيد وقطع الشجر، وبين وجوب الجزاء أو القيمة، بل النهي يفيد بحقيقته التحريم، والجزاء والقيمة لا يجبان إِلا بدليل، ولم يرد دليل إِلا قول الله -تعالى-: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرم} الآية، وليس فيها إِلا ذكر الجزاء فقط؛ فلا يجب غيره". وعن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "في بيض النّعام ثمنه" (¬1). وفي طريق أخرى: "أنه جعل في كلّ بيضتين من بيض حمام الحرم درهماً" (¬2). عن القاسم قال: "كنت جالساً عند ابن عباس، فسأله رجل عن جرادة قتلها وهو محرم؟ فقال ابن عباس: فيها قبضة من طعام، ولتأخذن بقبضة جرادات، ولكن ولو". قال الشافعي: "قوله: ولتأخذن بقبضة جرادات؛ إِنما فيها القيمة، وقوله (ولو) يقول: تحتاط، فتخرج أكثر مما عليك بعدما أعلمتك أنه أكثر مما ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1029)، وقال: وهذا سند موقوف، صحيح على شرط الشيخين. (¬2) أخرجه البيهقي، وصحح شيخنا -رحمه الله تعالى- اِسناده في "الإِرواء" (1029).

تحريم صيد حرم المدينة وقطع شجره:

عليك" (¬1). تحريم صيد حرم المدينة وقطع شجره: وما مضى في تحريم صيد حرم مكة وشجره ... إِلى غير ذلك؛ فإِنه ماضٍ في حرم المدينة. عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ إِبراهيم حرّم مكة، وإنيّ حرّمت المدينة ما بين لابتيها (¬2)، لا يقطع عِضاهُهَا (¬3) ولا يُصاد صيدها" (¬4). وعن علي -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يُختلى خلاها، ولا يُنفّر صيدها، ولا تُلتقط لُقطتها؛ إلاَّ لمن أشاد بها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجرة؛ إِلا أن يعلف رجل بعيره" (¬5). وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أيضاً قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المدينة حرم ما بين عَيْرٍ إِلى ثَوْرِ" (¬6). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "حرّم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بين لابَتَيِ ¬

_ (¬1) ذكره شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" وقال: إِسناده جيد. (¬2) اللابتان: الحرّتان، واحدتهما لابة، وهي الأرض الملبّسة حجارة سوداء، وللمدينة لابتان شرقية وغربية، وهي بينهما. "شرح النووي". (¬3) العِضاة: كل شجر فيه شوك. "شرح النووي" أيضاً. (¬4) أخرجه مسلم: 1362. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1790)، وانظر "الإِرواء" (1058). (¬6) أخرجه البخاري: 6755، ومسلم: 1370.

ليس في قتل صيد الحرم المدني ولا قطع شجره جزاء:

المدينة، قال أبو هريرة: فلو وجدتُ الظّبَاءَ ما بين لابتيها ما ذَعَرْتُها (¬1)، وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حِمى" (¬2). وفي رواية عن أبي هريرة أنه كان يقول: "لو رأيت الظباء ترتع (¬3) بالمدينة ما ذَعَرْتها، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما بين لابتيها حرام" (¬4). ليس في قتْل صيد الحرم المدني ولا قطع شجره جزاء: مَن قتَل صيد الحرم المدني أو قطع شجره؛ فإِنه آثم، ولا جزاء عليه؛ لعدم ورود الدليل في ذلك. عن أنس -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المدينة حرم من كذا إِلى كذا، لا يُقطع شجرها، ولا يُحْدَثُ فيها حدث (¬5)، من أحدث حَدَثاً؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" (¬6). مَن وجد أحداً يقطع شجر المدينة فَلْيَسْلَبْهُ: وعن عامر بن سعد: أنّ سعداً ركب إِلى قصره بالعقيق، فوجد عبداً يقطع ¬

_ (¬1) أي: أفزعتها. وقيل: نفّرتها. "شرح النووي". (¬2) أخرجه البخاري: 1873، ومسلم 1372 - واللفظ له-. (¬3) ترتع؛ أي: ترعى. وقيل: معناه: تسعى وتبسط. "شرح النووي" أيضاً. (¬4) أخرجه البخاري: 1873، ومسلم: 1372. (¬5) الحَدَث: الأمر الحادث المنكر، الذى ليس بمعتاد ولا معروف في السّنة. "النهاية". (¬6) أخرجه البخاري: 1867، ومسلم: 1366.

مكة أحب أرض الله إلى الله -تعالى-:

شجراً أو يخبطه؛ فسَلَبَه (¬1)، فلمّا رجع سعد جاءه أهل العبد؛ فكلّموه أن يردّ على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أنْ أرُدَّ شيئاً نفّلنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! وأبى أنْ يَرُدّ عليهم" (¬2). وفي رواية عن سليمان بن أبي عبد الله قال: رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلاً يصيد في حرم المدينة -الذي حرّم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ --، فسلبه ثيابه، فجاء مواليه فكلّموه فيه، فقال: إِن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرّم هذا الحرم وقال: "من وجد أحداً يصيد فيه؛ فليسلبه، فلا أرد عليكم طُعْمَةً أطعَمنيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن إِن شئتم دفعت إِليكم ثمنه (¬3) " (¬4). وفي رواية: "سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى أن يُقطَع من شجر المدينة شيء، وقال: ن قطع منه شيئاً؛ فلمن أخذه سَلَبُه" (¬5). مكّة أحب أرض الله إلى الله -تعالى-: عن عبد الله بن عدي بن حمراء -رضي الله عنه- قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واقفاً على الحَزْوَرَة (¬6)، فقال: والله إِنك لخير أرض الله، وأحبّ أرض الله إِلى الله، ¬

_ (¬1) سَلَبُه؛ أي: [أخَذْ] ما عليه من الثياب وغيره. "المرقاة" (5/ 628). (¬2) أخرجه مسلم: 1364. (¬3) أي: تبرعاً. قاله الطيبي -رحمه الله-. أو احتياطاً للاختلاف فيه. "المرقاة" (5/ 627). (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1791)، وانظر "المشكاة" (2747). (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1792)، وانظر "المشكاة" (2748). (¬6) الحَزوَرة: موضع بمكة. "تحفة الأحوذي" (10/ 426).

جواز دخول مكة بغير إحرام

ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت" (¬1). عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكة: "ما أَطيَبَكِ من بلد، وأَحَبَّكِ إِليّ! ولولا أنّ قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك" (¬2). جواز دخول مكّة بغير إِحرام عن جابر بن عبد الله الأنصاري: أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "دخل مكّة وعليه عمامة سوداء بغير إِحرام" (¬3). وقال البخاري -رحمه الله-: "باب دخول الحرم ومكّة بغير إِحرام". ودخل ابن عمر، وإنما أمر النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإِهلال لمن أراد الحج والعمرة (¬4). ثمّ ذكر برقم (1845) حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هنّ لهنّ ولكلِّ آتٍ أتى عليهنّ من غيرهم؛ ممنّ أراد الحجّ والعمرة، فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (3082)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2523)، وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "المشكاة" (2725). (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (3083)، وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "المشكاة" (2724). (¬3) أخرجه مسلم: 1358. (¬4) انظر "كتاب جزاء الصيد" (باب - 18). (¬5) وأخرجه مسلم: 1181، وتقدّم.

ثمّ ذكر برقم (1846) حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عام الفتح وعلى رأسه مِغفَر (¬1)، فلمّا نزعه جاء رجل فقال: إنّ ابن خَطَلٍ متعلّق بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه" (¬2). قال الحافظ في "الفتح" (4/ 59) في قول البخاري -رحمهما الله-: "ودخل ابن عمر": ووصله مالك في "الموطا" عن نافع قال: "أقبل عبد الله بن عمر من مكة، حتى إِذا كان بقُديد -يعني: بضم القاف-؛ جاءه خبر عن الفتنة، فرجع فدخل مكة بغير إِحرام" (¬3). ولعلّ مراد الإِمام البخاري -رحمه الله-: أن دخول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى رأسه المغفر؛ يدلّ على جواز دخول مكّة بغير إِحرام؛ لأنّ المحرم لا يغطيّ رأسه. والله أعلم. وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هُنّ لهنّ ولكلّ آتٍ أتى عليهنّ من غيرهم، ممن أراد الحجّ والعمرة": دليل على تخصيص الإِحرام بمن أراد الحج والعمرة، ومفهومه: أن التردّد إِلى مكة لغير قصد الحج والعمرة لا يلزمه الإِحرام (¬4). ¬

_ (¬1) جاء في "الفتح": "زرد يُنسج من الدروع على قدر الرأس ... وفي "المشارق": هو ما يجعل من فضل دروع الحديد على الرأس مثل القلنسوة". (¬2) وأخرجه مسلم: 1357. (¬3) وصححّ شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "مختصر البخاري" (1/ 432). (¬4) انظر "الفتح" (4/ 59) بتصرّف يسير.

بين يدي الإحرام:

بين يدي الإِحرام (¬1): يستحب لمن عزم على الحج أو العمرة المفردة؛ أن يغتسل للإِحرام، ولو كانت حائضاً أو نُفَساءَ. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الحائض والنفساء إِذا أتتا على الوقت؛ تغتسلان وتحرمان، وتقضيان المناسك كلها؛ غيرَ الطواف بالبيت" (¬2). ثمّ يلبس الرجل ما شاء من الألبسة التي لم تفصّل على قدر الأعضاء، وهي المسماة عند الفقهاء بـ (غير المخيط)، فيلبس الإِزار فيلفُّ به النصف الأسفل من البدن، والرداء يلف به النصف الأعلى منه، ونحوهما، والنعلين؛ وهما كل ما يلبس على الرجلين لوقايتهما مما لا يستر الكعبين. ولا يلبس القلنسوة والعمامة ونحوهما مما يستر الرأس مباشرة (¬3). هذا للرجل. وأما المرأة؛ فلا تنزع شيئاً من لباسها المشروع؛ إلاَّ أنها لا تشد على وجهها النقاب (¬4) والبرقع أو اللثام أو المنديل ولا تلبس القُفَّازين (¬5) وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ¬

_ (¬1) عن كتاب "مناسك الحج والعمرة" لشيخنا -رحمه الله- بتصرّف وزيادة. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1534)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (754)، وانظر "الصحيحة" (1818). (¬3) وسيأتي بإِذن الله -تعالى-. (¬4) قال شيخنا -رحمه الله-: "هو القناع على مارن الأنف، وهو على وجوه: إِذا أدنَت المرأة نقابها إِلى عينها فتلك الوصوصة، أو البرقع، فإِن أنزلته دون ذلك إِلى المحْجِر فهو النقاب، فإِن كان على طرف الأنف فهو اللغام. وسمي نقاب المرأة، لأنه يستر نقابها؛ أي: لونها بلون النقاب. انتهى ملخصاً من "لسان العرب". (¬5) قال شيخنا -رحمه الله-: "قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "منسكه" (ص 365): =

يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البُرنُس (¬1)، ولا السراويل، ولا ثوباً مسّه ورس ولا زعفران، ولا الخفين؛ إِلا أن لا يجد نعلين [فيلبس الخُفّين] " (¬2). "لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين" (¬3). ويجوز للمرأة أن تستر وجهها بشيء؛ كالخمار أو الجلباب؛ تلقيه على رأسها وتسدله على وجهها، وإِن كان يمس الوجه على الصحيح، ولكنها لا تشدّه عليها؛ كما قال شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-. وله أن يلبس الإِحرام قبل الميقات ولو في بيته، كما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه -رضي الله عنهم-؛ وفي هذا تيسير على الذين يحجّون بالطائرة، ولا يمكنهم لبس ملابس الإِحرام عند الميقات، فيجوز لهم أن يصعدوا الطائرة في لباس الإِحرام، ولكنهم لا يُحرمون إِلا قبل الميقات بيسير حتى لا يفوتهم الميقات وهم غير محرمين. وأن يدّهن ويتطيب في بدنه بأي طيب شاء؛ له رائحة ولا لون له؛ إِلا النساء؛ فطيبهنّ ما له لون ولا رائحة له. ¬

_ = "والقفازات: غلاف يصنع لليد كما يفعله حملة البزاة". والبزاة: جمع بازٍ، وهو نوع من الصقور يستخدم في الصيد. (¬1) جاء في "النهاية": "هو كلّ ثوب رأسه منه ملتزق به، من دُرّاعة أو جُبّة ... قال الجوهري: هو قَلَنسُوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإِسلام، وهو من البِرس -بكسر الباء-: القطن، والنون زائدة. وقيل: إِنه غير عربي". (¬2) أخرجه البخاري: 1542، ومسلم: 1177، 1178. (¬3) أخرجه البخاري: 1838.

الإحرام ونيته:

عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "انطلق النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة بعد ما ترجّل وادّهن ولبس إِزاره ورداءه هو وأصحابه" (¬1). عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كأني انظر إِلى وَبِيص (¬2) الطّيب في مفارق (¬3) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم" (¬4). وعنها -رضي الله عنها- قالت: "كنت أُطيِّب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإِحرامه حين يحرم، ولِحِلِّه قبل أن يطوف بالبيت" (¬5). وعنها -رضي الله عنها- قالت: "كنّا نخرج مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى مكة؛ فنُضمّد جباهنا بالسُّكِّ (¬6) المطيَّب عند الإِحرام، فإِذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فلا ينهاها" (¬7). وهذا كلّه قبل أن ينوي الإِحرام عند الميقات ويلبّي به. وأمّا بعده فحرام. الإِحرام ونيّته: فإِذا جاء ميقاته؛ وجب عليه أن يُحرم، ولا يكون ذلك بمجرد ما في قلبه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1545. (¬2) الوبيص: البريق واللمعان. "نووي". (¬3) مفارق: جمع مَفرِق [بفتح الميم وكسر الراء]، وهو المكان الذي يفترق فيه الشعر في وسط الرأس. "فتح". (¬4) أخرجه البخاري: 1538، ومسلم: 1190. (¬5) أخرجه البخاري: 1539، ومسلم: 1191. (¬6) السُّكّ: هو طيب معروف؛ يضاف إِلى غيره من الطيب ويُستعمل. "النهاية". (¬7) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1615).

ما يباح للمحرم:

من قصد الحج ونيّته؛ فإِن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده، بل لا بد من قول أو عمل يصير به محرماً، فإِذا لبّى قاصداً للإِحرام؛ انعقد إِحرامه اتفاقاً (¬1). ما يباح للمحرم (¬2): 1 - الاغتسال لغير احتلام، ودلك الرأس. عن عبد الله بن حنين: أنّ عبد الله بن العباس والمِسْوَرَ بن مَخْرَمَةَ اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله بن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، فأرسَلني عبد الله بن العباس إِلى أبي أيوب الأنصاري؛ فوجدته يغتسل بين القرنين؛ وهو يستتر بثوب، فسلّمت عليه، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله ابن حنين، أرسلني إليك عبد الله بن العباس أسألك: كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب؛ فطأطأه حتى بدا لي رأسه؛ ثمّ قال لإِنسان يصُبُّ عليه: اصبُبْ؛ فَصَبَّ على رأسه، ثمّ حرّك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، وقال: هكذا رأيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل" (¬3). وفي رواية: "فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبداً" (¬4). ¬

_ (¬1) وهكذا لا تكفي النيّة؛ كما كان يعلمنا شيخنا -رحمه الله-؛ بل لا بُدّ من العمل، ولا يجزئ عن الإنسان نيّة إِيمانه دون التلفُّظ بالشهادتين والإِيمان بما يجب الإيمان به؛ مع ما يتبعه من العمل. (¬2) من (1 - 6) عن كتاب "حجة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" لشيخنا -رحمه الله - بتصرّف. (¬3) أخرجه البخاري: 1840، ومسلم: 1205. (¬4) أخرجه مسلم: 1205.

وعن ابن عباس قال: "ربما قال لي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ونحن محُرمون بالجحفة: تعالَ أباقيك أيُّنا أطول نفساً في الماء" (¬1). وعن عبد الله بن عمر: أن عاصم بن عمر وعبد الرحمن بن زيد وقعا في البحر يتمالقان (¬2)؛ يغيِّب أحدهما رأس صاحبه، وعمر ينظر إِليهما، فلم ينكر ذلك عليهما". 2 - حكّ الرأس والجسد، ولو سقط منه بعض الشعر، وحديث أبي أيوب المتقدّم آنفاً دليل عليه. وعن أمّ علقمة بن أبي علقمة أنها قالت: سمعت عائشة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُسأل عن المحرم: أيحك جسده؟ فقالت: نعم؛ فليحكه وليشدُد، ولو رُبِطت يداي، ولم أجد إِلا رجلي لحككت (¬3). ولم ير ابن عمر وعائشة -رضي الله عنهم- بالحكّ بأساً (¬4). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "المجموعة الكبرى" (2/ 368): "وله أن يحك بدنه إِذا حكَّه، وكذلك إِذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك؛ لم يضره". ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي وغيره، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وانظر "الإِرواء" (1021). (¬2) أي: يتغاطسان. (¬3) أخرجه مالك، وسنده حسن في الشواهد. (¬4) رواه البخاري معلقاً "كتاب الصيد" (باب الاغتسال للمحرم)، وانظر "الفتح" (4/ 55).

3 - الاحتجام ولو بحلق الشعر مكان الحجم؛ لحديث ابن بُحينة -رضي الله عنه- قال: "احتجم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم بـ (لَحْيَيْ جمل) (¬1) في وسط رأسه" (¬2). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "مناسكه" (2/ 338): "وله أن يحك بدنه إِذا حكه، ويحتجم في رأسه وغير رأسه، وإِن احتاج أن يحلق شعر الذّكر جاز؛ فإِنّه قد ثبت في "الصحيح" ... " ثمّ ساق هذا الحديث، ثمّ قال: ولا يمكن ذلك إِلا مع حلق بعض الشعر، وكذلك إِذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك؛ لم يضره، وإن تيقن أنه انقطع بالغسل". وهذا مذهب الحنابلة؛ كما في "المغني" (3/ 306)، ولكنه قال: "وعليه الفدية". وبه قال مالك وغيره. ورده ابن حزم بقوله: (7/ 257) -عقب الحديث-: "لم يخبر -عليه السلام- أن في ذلك غرامة ولا فدية، ولو وجبت لما أغفل ذلك، وكان -عليه السلام- كثير الشعر أفرع (¬3) وإنما نهينا عن حلق الرأس في الإِحرام". 4 - شم الريحان وطرح الظفر إِذا انكسر. قال ابن عباس -رضي الله عنه-: والمحرم يدخل الحمام، وينزع ضرسه، ويشم الريحان، وإذا انكسر ظفره طرحه، ويقول: أميطوا عنكم الأذى، فإِن الله -عزّ وجلّ- لا يصنع بأذاكم شيئاً (¬4). ¬

_ (¬1) موضع بصريق مكّة. (¬2) أخرجه البخاري: 1836، ومسلم: 1203. (¬3) الأفرع: التام الشعر. (¬4) رواه البيهقي بسند صحيح، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 365).

إِلى هذا ذهب ابن حزم (7/ 246). وروى مالك عن محمد بن عبد الله ابن أبي مريم: أنه سأل سعيد بن المسيب عن ظفر له انكسر وهو محرم؟ فقال سعيد: اقطعه. 5 - الاستظلال بالخيمة أو المظلة (¬1) (الشمسية) وفي السيارة. ورفع سقفها من بعض الطوائف تشدد، وتنطع في الدين، لم يأذن به رب العالمين، فقد صحّ أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بنصْب القُبَّة له بـ (نمرة)، ثمّ نزل بها (¬2). وعن أمّ الحصين -رضي الله عنها- قالت: "حججتُ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجّة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً؛ وأحدهما آخذ بخطام ناقة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والآخر رافعٌ ثوبَه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة" (¬3). 6 - وله أن يشد المنطقة والحزام على إِزاره، وله أن يعقده عند الحاجة، وأن ¬

_ (¬1) وأما ما روى البيهقي عن نافع قال: أبصر ابن عمر -رضي الله عنه- رجلاً على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس، فقال له: ضح لمن أحرمت له. وفي رواية من طريق أخرى: أنه رأى عبد الله بن أبي ربيعة جعل على وسط راحلته عوداً، وجعل ثوباً يستظل به من الشمس وهو محرم، فلقيه ابن عمر فنهاه! قال شيخنا -رحمه الله-: "فلعل ابن عمر -رضي الله عنه- لم يبلغه حديث أم الحصين المذكور؛ وإلا فما أنكره هو عين ما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولذلك قال البيهقي: "هذا موقوف، وحديث أم الحصين صحيح". يعني: فهو أولى بالأخذ به، وترجم له بقوله: "باب المحرم يستظل بما شاء ما لم يمس رأسه" ... ". (¬2) وسيأتي -إِن شاء الله تعالى-. (¬3) أخرجه مسلم: 1298.

يتختم، وأن يلبس ساعة اليد، ويضع النظارة؛ لعدم النهي عن ذلك، وورود بعض الآثار بجواز شيء من ذلك. فعن عائشة -رضي الله عنها-: "أنها سُئلت عن الهِميان (¬1) للمحرم؟ فقالت: وما بأس؟ ليستوثق من نفقته" (¬2). قال عطاء: يتختمّ ويلبس الهِميان" (¬3). قال شيخنا -رحمه الله-: "ولا يخفى أن الساعة والنظارة في معنى الخاتم والمنطقة، مع عدم ورود ما ينهى عنهما، {وما كان ربك نسيًّا} (¬4) {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولِتُكملوا العِدّةَ ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} (¬5). 7 - تبديل الرداء والإِزار. قال إِبراهيم النَّخعِيُّ: "لا بأس أن يبدل ثيابه" (¬6). ¬

_ (¬1) الهِميان -بكسر الهاء-: معرّب، يشبه تكّة السراويل، يجعل فيها النفقة ويشدّ في الوسط. "فتح" (3/ 397). (¬2) وسنده صحيح. (¬3) رواه البخاري معلقاً في "كتاب الحج" "باب الطيب عند الإِحرام"، وانظر "الفتح" (3/ 396). (¬4) مريم: 64. (¬5) البقرة: 185. (¬6) رواه البخاري معلقاً "كتاب الحج" (باب - 23)، وانظر "الفتح" (3/ 405).

8 - نقض الشعر وتمشيطه. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قدمت مكة وأنا حائض، لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: انقُضي رأسك وامتشطي" (¬1). 9 - لُبس الخُفّين للمحرم إذا لم يجد النعلين، والسراويل لمن لم يجد الإِزار. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "سمعت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب بعرفات: مَن لم يجد النعلين؛ فليلبس الخُفّين، ومن لم يجد إِزاراً؛ فليلبس سراويلَ؛ للمُحرم" (¬2). وفي رواية: " .. وإن لم يجد نعلين فليلبس الخفّين، وليقطعْهما حتى يكونا أسفل من الكعبين" (¬3). جاء في "مناسك الحج والعمرة" (ص 13): "قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "منسكه": "وليس عليه أن يقطعهما دون الكعبين؛ فإِن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالقطع أولاً؛ ثمّ رخص بعد ذلك في عرفات في لبس السراويل لمن لم يجد إِزاراً، ورخص في لبس الخفين لمن لم يجد نعلين، هذا أصح قولي العلماء". 10 - قتل القمل. عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّ رجلاً أتاه فقال: إِني قتلت ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1211. (¬2) أخرجه البخاري: 1841، ومسلم: 1178. (¬3) أخرجه البخاري: 1842، ومسلم: 1177.

قملة وأنا محرم؟ فقال ابن عمر -رضي الله عنه-: أهون قتيل" (¬1). وعن ميمون بن مهران قال: كنت عند ابن عباس -رضي الله عنهما- وسأله رجل فقال: أخذْتُ قملةً فألقيتها، ثمّ طلبتُها، فلم أجدها، فقال له ابن عباس - رضي الله عنهما-: تلك ضالة لا تبتغى" (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قتل القملة: " .. وما نُهيتُم إِلا عن قتل الصيد" (¬3). 11 - قتْل الفواسق الخمس ونحوها. عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خمس من الدواب كلهنّ فاسق (¬4) يُقْتَلْن في الحرم: الغراب والحِدَأة (¬5) والعقرب والفأرة والكلب ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي. وقال شيخنا -رحمه الله-: "وهذا إِسناد جيد رجاله كلهم ثقات رجال البخاري". وانظر "الإِرواء" (1034). (¬2) أخرجه الشافعي. وقال شيخنا -رحمه الله-: "وهذا سند صحيح، وانظر "الإرواء" (1035) ". (¬3) أخرجه البيهقي. وقال شيخنا -رحمه الله-: "وإسناده جيد". وانظر "الإِرواء" (1035). (¬4) قال الإِمام النووي -رحمه الله- (8/ 114): "وأمّا تسمية هذه المذكورات فواسق؛ فصحيحة جارية على وفْق اللغة، وأصْل الفسْق في كلام العرب: الخروج، وسمّي الرجل الفاسق لخروجه على أمر الله -تعالى- وطاعته، فسمّيت هذه فواسق لخروجها -بالإِيذاء والإِفساد- عن طريق معظم الدواب. وقيل: لخرجها عن حكم الحيوان في تحريم قتْله في الحرم والإِحرام". (¬5) الحِدَأة: طائر من الجوارح.

العَقور (¬1) " (¬2). وفي لفظ: "الحية" (¬3). 12 - دفْع الصائل من الآدمييّن. يجوز للمحرم أن يدفع عن نفسه أذى الآدمييّن؛ سواءً كان هذا الإِيذاء في العرض أو المال أو النفس. عن سعيد بن زيد عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله أو دون دمه، أو دون دينه فهو شهيد" (¬4). *13 - ولا بأس من المجادلة بالتي هي أحسن حين الحاجة؛ فإِنّ الجدال المحظور في الحجّ؛ إِنما هو الجدال بالباطل المنهي عنه في غير الحج أيضاً؛ كالفسق المنهي عنه في الحج أيضاً؛ فهو غير الجدال المأمور به في مثل قوله -تعالى-: {ادع إِلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي ¬

_ (¬1) العقور والعاقر: الجارح، قال الإِمام النووي -رحمه الله-: "واختلفوا في المراد به [أي: الكلب العقور]: فقيل: هذا الكلب المعروف خاصة حكاه القاضي عن الأوزاعي وأبي حنيفة والحسن بن صالح وألحقوا به الذئب وحمَل زفر معنى الكلب على الذئب وحده. وقال جمهور العلماء: ليس المراد بالكلب العقور تخصيص هذا الكلب المعروف، بل المراد هو كل عادٍ مفترس غالباً؛ كالسبع والنمر والذئب والفهد نحوها ... ". (¬2) أخرجه البخاري: 1829، ومسلم: 1198. (¬3) أخرجه مسلم: 1198. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3993)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1148) وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (708).

محظورات الإحرام:

أحسن}، ومع ذلك فإِنه ينبغي على الداعية أن يلاحظ أنه إذا تبين له أنه لا جدوى من المجادلة مع المخالف -لتعصبه لمذهبه أو رأيه- وأنه إِذا صابره في الجدال؛ فلربما ترتب عليه ما لا يجوز أنه من الخير له حينئذ؛ أن يدَع الجدال معه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنا زعيم ببيت في رَبَض الجنة (¬1) لمن ترك المراء وإن كان مُحقّاً ... " الحديث (¬2) * (¬3). محظورات الإِحرام (¬4): 1 - لباس المخيط، وهو ما كان على قدْر العضو؛ كالقميص والبرنس (¬5) والسراويل والعمامة ونحوها. وكذلك يحرم لُبس الثوب الذي مسّه ورس -وهو نبت أصفر يُصبغ به- أو زعفران. فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "يا رسول الله! ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يلبس القُمُصَ ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانِس ولا الخفاف؛ إِلا أحد لا يجد نعلين؛ فليلبس خفين وليقطعهما ¬

_ (¬1) ما حولها خارجاً عنها، تشبيهاً بالأبنية التي تكون حول المدن وتحت القلاع. "النهاية". (¬2) أخرجه أبو داود وغيره، وهو حديث حسن، خرّجه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (273). (¬3) ما بين نجمتين من "مناسك الحج والعمرة" (ص 8). (¬4) من "فقه السنة" بتصرّف وزيادة. (¬5) البُرنس: كلّ ثوب رأسه منه ملتزَق به. "النهاية".

أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسّه زعفران أو ورس" (¬1). أمّا المرأة؛ فإِنها تلبس جميع ذلك، ولكن يَحْرم عليها الثوب -الذي مسّه الطيب- والنقاب والقفازان. قال شيخنا -رحمه الله- في التعليق على "الروضة الندية": "وأما سدْلها على وجهها فجائز، وهو غير التنقيب، والتسوية بينهما خطأ، كما بيّنه ابن القيم في "إِعلام الموقّعين" (1/ 269) ". فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تنتقب (¬2) المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين (¬3) " (¬4). وعنه -رضي الله عنه-: أنّه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى النساء في إِحرامهن عن القفازين، والنقاب، وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب؛ مُعَصفراً أو خزّاً (¬5)، أو حلياً أو سراويل أو قميصاً أو خفاً" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1542، ومسلم: 1177، وتقدّم. (¬2) النقاب، قال الحافظ: "الخمار الذي يشدّ على الأنف، أو تحت المحاجر. والمحاجر: جمع مَحجر: ما أحاط بالعين". (¬3) شيء يلبسه نساء العرب في أيديهنّ، يغطّي الأصابع والكف والساعد من البرد، ويكون فيه قطن محشو. "النهاية". (¬4) أخرجه البخاري: 1838، وتقدّم. (¬5) الخَزّ: ثياب تُنسج من صوف وإبْرَيسَم. "النهاية". والإِبرَيسَم: الحرير. (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1612).

ولبست عائشة -رضي الله عنها- الثياب المعصفرة (¬1) وهي محرمة، وقالت: لا تَلَثَّمْ ولا تتبرقعْ (¬2)، ولا تلبس ثوباً بورس ولا زعفران. وقال جابر: لا أرى المعصفر طيباً. ولم تر عائشة بأساً بالحُلي والثوب الأسود والمورّد والخُفّ للمرأة (¬3). ومن لم يجد الإِزار والرداء؛ فله أن يلبس السراويل. ولا يلبس الخُفّين؛ إِلا إِذا لم يجد النعلين؛ فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين، وتقدّم دليل هذا في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. جاء في "مناسك الحج والعمرة" (ص 12): "قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "منسكه": وليس عليه أن يقطعهما دون الكعبين؛ فإِن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالقطع أولاً، ثمّ رخصّ بعد ذلك في عرفات في لبس السراويل لمن لم يجد إِزاراً، ورخص في لبس الخفين لمن لم يجد نعلين، هذا أصح قولي العلماء" ... ". انتهى. وتقدّم. قلت: يشير -رحمه الله- إِلى حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خطبنا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات فقال: "من لم يجد الإِزار فليلبس السراويل، ومن لم يجد النّعلين فليلبس الخُفين" (¬4). ¬

_ (¬1) عصْفر الثوب وغيره: صبغه بالعُصفر. "الوسيط". (¬2) أي: تلبس البُرقع، وهو قناع فيه خرَقان للعينين. (¬3) رواه البخاري معلقاً في "كتاب الحج" (23 - باب ما يلبس المحرم من الثياب ... )، وانظر "الفتح" (3/ 405) لبيان وصْل هذين الأثرين. (¬4) أخرجه البخاري: 1843، ومسلم: 1178.

قال الحافظ -رحمه الله-: "وجزم المصنف بالحكم في هذه المسألة دون التي قبلها؛ لقوة دليلها، وتصريح المخالف بأن الحديث لم يبلغه، فيتعين على من بلغه العمل به". 2 - الجماع ودواعيه؛ كالتقبيل، واللمس بشهوة، وخطاب الرجل المرأة فيما يتعلّق بالوطء. 3 - اقتراف المعاصي والمنكرات. 4 - المخاصمة والمجادلة مع الرفقاء والخدم وغيرهم. والأصل تحريم هذه الأمور في غير الحجّ؛ وهي ها هنا آكد، ولبيان خطرها في الحجّ. ودليل ما تقدّم قوله -تعالى- {فمن فرَض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الرفث: الإِعرابة (¬2) والتعريض للنساء بالجماع. والفسوق: المعاصي كلّها. والجدال: جدال الرجل صاحبه" (¬3). *وقال عطاء بن أبي رباح: الرفث: الجماع وما دونه من قول الفحش. ¬

_ (¬1) البقرة: 197. (¬2) الإعرابة: الإِفحاش في القول والرفث: اسم موضوع من التعريب والإِعراب، يقال: عرّب وأعرب: إِذا أفحش، وقيل: أراد به الإيضاح والتصريح بالهجْرِ مْن الكلام. "النهاية" بحذف يسير. (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير"، والضياء في "المختارة"، وهو ثابت موقوفاً، ضعيف مرفوعاً، وانظر "الضعيفة" (1313).

وقال طاوس: هو أن تقول للمرأة: إِذا حلَلْت أصبتك. وقال ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهم-: الرفث: غشيان النساء.* (¬1) وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل ترون أنّ لمس الزوجة بشهوة من محظورات الإِحرام؟ فأجاب: "إِنه محظورٌ لغيره، من باب سدّ الذريعة". وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجّاجاً، حتى إِذا كنا بالعرْج؛ نزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونزلنا، فجلست عائشة إِلى جنب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجلست إِلى جنب أبي، وكانت زِمالة (¬2) أبي بكر وزمالة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدة مع غلام لأبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع وليس معه بعيره، قال: أين بعيرك؟ قال: أضللته البارحة. قال: فقال أبو بكر: بعير واحد تُضله؟ قال: فطفق يضربه ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبسم، ويقول: انظروا إِلى هذا المحرم ما يصنع! قال ابن أبي رِزْمَةَ: فما يزيد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن يقول: انظروا إِلى هذا المحرم ما يصنع! ويتبسم" (¬3). وهذا ليس فيه إِقرار؛ بل هو كهيئة الإِنكار اللطيف، كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره. لذلك جاء في "سنن ابن ماجه" تحت (باب التوقّي في الإِحرام). ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "تفسير ابن كثير". (¬2) زِمالة؛ أي: مركوبُهما وأداتهما وما كان معهما في السفر. "النهاية". (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1602) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2373) وغيرهما.

وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل يفهم من الحديث السابق جواز تأديب الخادم ونحوه، كما قال بعضهم؟ فقال: "لا بل هو للإِنكار". 5 - عقْد النّكاح لنفسه أو لغيره، بولايةٍ أو وكالة. عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يَنِكحُ المحرم ولا يُنكَح ولا يخطُب" (¬1). وأمّا ما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو محرم" (¬2). فهو معارض بما ورد عن يزيد بن الأصمّ -رضي الله عنهما-: حدثتني ميمونة بنت الحارث -رضي الله عنها-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها وهو حلال" (¬3)! قال شيخنا -رحمه الله- في "مختصر مسلم" (ص 212): "والحديث [أي: تزوج ميمونة وهو مُحْرِم] شاذ عند المحقّقين؛ لمخالفته للحديث الذي بعده [أي: حديث يزيد بن الأصمّ] انظر مقدّمة "آداب الزفاف" ... وقد أشار الإِمام الشافعي في "الأم" (5/ 160) إِلى شذوذه فراجعه؛ فإِنّه مهمّ". وسألت شيخنا -رحمه الله- هل ترون بطلان عقْد نكاح المحرم؟ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1409. (¬2) أخرجه البخاري: 1837، ومسلم: 1410. (¬3) أخرجه مسلم: 1411.

فقال: "نعم؛ نكاحه باطل". ويرى صديق خان صاحب "الروضة" عدم بطلان الحج بالجماع قبل وقوف عرفة. وردّ عليه شيخنا -رحمه الله- متعقباً: "قلت: قد نقل الحافظ في "الفتح" (4/ 42) الإِجماع على إِفساد الحج والعمرة بالجماع، وسبقه إِلى ذلك ابن حزم في "مراتب الإِجماع" (ص 42)، وقيده بأن يكون ذاكراً؛ ما لم يَقْدم المعتمر مكة، ولم يأت وقت الوقوف بعرفة للحاج. ولم يتعقبه شيخ الإِسلام بشيء؛ فالظاهر صحة هذا الإِجماع، فإِذا صحّ؛ فهو الدليل على الفساد، والله أعلم". ثمّ أشار شيخنا إِلى ما ذكره شيخ الإِسلام -رحمهما الله تعالى- في "رسالة الصيام" حول ذلك. وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل ترون إِبطال حج أو عمرة من جامع أهله (¬1)؟ فأجاب -رحمه الله-: "نعم". 6 - تقليم الأظفار وإِزالة الشعر أو غيره بالحلق أو القصّ أو بأي طريقة. قال الله -تعالى-: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي مَحِلَّهُ} (¬2). قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ المحرم ممنوع من ... أخْذ الشعر وتقليم ¬

_ (¬1) يعني: قبل التحلُّل المعروف. (¬2) البقرة: 196.

الأظفار" (¬1). وتقدّم جواز طرح الظفر إِذا انكسر. ويجوز إِزالة الشعر إِذا تأذّى ببقائه، مع وجوب الفدية؛ لقول الله -تعالى-: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نُسُك} (¬2). وسيأتي التفصيل بإِذن الله -تعالى-. 7 - التطيّب في الثوب أو البدن سواءً أكان رجلاً أم امرأة. عن صفوان بن يعلى: أنّ يعلى قال لعمر -رضي الله عنه-: "أرني النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين يوحى إِليه، قال: فبينما النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجعرانة -ومعه نفر من أصحابه-؛ جاءه رجل فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو مُتَضَمِّخٌ بطيب؟ فسكت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساعة، فجاءه الوحي، فأشار عمر -رضي الله عنه- إِلى يعلى، فجاء يعلى؛ وعلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثوب قد أُظِلّ (¬3) به، فأدخل رأسه؛ فإِذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْمَرُّ الوجه وهو يَغِطُّ (¬4)، ثمّ سُرًّي (¬5) عنه فقال: ¬

_ (¬1) "الإِجماع" (ص 49). (¬2) البقرة: 196. (¬3) أي: جُعل عليه كالظلّة. "فتح". (¬4) يَغِطّ؛ أي: ينفخ. والغطيط: صوت النفس المتردّد من النائم أو المغمى، وسبب ذلك شدّة ثِقل الوحي. "فتح". (¬5) سُرّي عنه: أي؛ أُزيل ما به وكشف عنه؛ والله أعلم. "نووي".

التعرض للصيد:

أين الذي سأل عن العمرة؟ فأُتي برجلٍ فقال: اغسل الطّيب الذي بك ثلاث مراتٍ، وانزع عنك الجُبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك" (¬1). وفي رواية: "اغسل عنك أثر الصُّفرة -أو قال: أثر الخلوق (¬2) -" (¬3). وإذا مات المحرم؛ فإِنّه لا يوضع الطيب في غسْله ولا في كفنه. عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنّ رجلاً وقَصه (¬4) بعيره -ونحن مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- وهو محرم، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تُمسوه طيباً، ولا تخمروا (¬5) رأسه؛ فإِن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً" (¬6). وتقدّم جواز شم الريحان ونحوه للمحرم. 8 - لبس الثوب الذي مسّه ورس أو زعفران أو نحو ذلك. للحديث المتقدّم: "ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسّه زعفران أو ورس". التعرض للصيد (¬7): يجوز للمحرم أن يصيد صيد البحر، وأن يتعرض له، وأن يشير إِليه، وأن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1536، ومسلم: 1180، وتقدّم. (¬2) الخلوق: نوع من الطيب مركّب فيه الزعفران. "فتح". (¬3) أخرجه مسلم: 1180. (¬4) الوقْص: كسر العنق. "النهاية". (¬5) أي: تغطّوا. (¬6) أخرجه البخاري: 1267، ومسلم: 1206. (¬7) عن "فقه السّنّة" (1/ 678) -بتصرّف-.

الأكل من الصيد:

يأكل منه. ويحرم التعرّض لصيد البرِّ بالقتل أو الذبح، أو الإِشارة إِليه، وإنْ كان مرئيّاً، أو الدلالة عليه؛ إِنْ كان غير مرئي، أو تنفيره. والدليل على هذا قول الله -تعالى-: {أُحلّ لكم صيد البحر وطعامه (¬1) متاعاً لكم وللسيارة (¬2) وحُرّم عليكم صيد البَرّ ما دمتم حُرُماً} (¬3). الأكل من الصيد (¬4): يحرُم على المحرم الأكل من صيدَ البر الذي صيد من أجله، أو صيد بإِشارته إِليه، أو بإِعانته عليه. عن أبي قتادة: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج حاجّاً فخرجوا معه، فصرَف طائفة منهم فيهم أبو قتادة فقال: خُذوا ساحل البحر حتى نلتقي، فأخذوا ساحل البحر، فلمّا انصرفوا أحرموا كُلُهم إِلا أبا قتادة (¬5) لم يُحرم، فبينما هم يسيرون؛ إِذ رأوا حُمُر وحش، فحمل أبو قتادة على الحُمُر فعقر منها أتاناً (¬6)، فنزلوا ¬

_ (¬1) وطعامه: ما لفَظه ميِّتاً. " تفسير ابن كثير". (¬2) السيّارة: جمْع سيّار. وقال عكرمة: لمن كان بحضرة البحر ... "تفسير ابن كثير" أيضاً. (¬3) المائدة: 96. (¬4) عن "فقه السّنّة" (1/ 678) بتصرّف. (¬5) كذا للكشميهني. ولغيره: "إلاَّ أبو قتادة" بالرفع، وانظر "الفتح" للمزيد من الفوائد اللغوية. (¬6) الأتان: الحمار؛ يقع على الذكر والأنثى، والأتان الحمارةُ الأنثى خاصة. "النهاية".

فأكلوا من لحمها، وقالوا: أنأكل لحم صيدٍ ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحم الأتان، فلمّا أتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: يا رسول الله! إِنّا كنّا أحرمنا، وقد كان أبو قتادة لم يحرم، فرأينا حُمُر وحَش، فحمل عليها أبو قتادة، فعقر منها أتاناً، فنزلنا فأكلنا من لحمها، ثمّ قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها، قال: منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها، أو أشار إِليها؟ قالوا: لا. قال: فكلوا ما بقي من لحمها" (¬1). ويجوز له أن يأكل من لحم الصيد الذي لم يَصِدْه هو، أو لم يُصَدْ من أجله أو لم يُشر إِليه، أو يُعِنْ عليه للحديث السابق: " ... منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها أو أشار إِليها؟ قالوا: لا قال: فكلوا ما بقي من لحمها". وعن عثمان التيميّ قال: كنّا مع طلحة بن عبيد الله ونحن حُرُم، فأُهدي له طير وطلحة راقد؛ فمنّا من أكل، ومنّا من تورع، فلمّا استيقظ طلحة وفَّقَ (¬2) من أكله، وقال: أكلناه مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). قال الترمذي -رحمه الله-: "والعمل على هذا عند أهل العلم؛ لا يَرون بأكل الصيد للمحرم بأساً، إِذا لم يصده أو يُصَد من أجله". وما جاء في الأحاديث المانعة مِن أكل لحم الصّيد؛ فهي محمولة على ما صادَه الحلال من أجل المحرم؛ جمعاً بين الأحاديث، كحديث الصعب بن جَثّامة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1824، ومسلم: 1196. (¬2) أي: دعا له بالتوفيق، واستصوَب فعِله. (¬3) أخرجه مسلم: 1197.

جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية عليه:

الليثي: أنه أهدى لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حماراً وحشيّاً وهو بالأبواء (¬1) -أو بودَان (¬2) - فردّه عليه، فلمّا رأى ما في وجهه قال: إِن لم نردّه عليك إِلا أنّا حُرُم (¬3) " (3). جواز حلق الرأس للمحرم إِذا كان به أذى، ووجوب الفدية عليه (¬4): عن كعب بن عُجرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "لعلك آذاك هوامُّك (¬5)؟ قال: نعم يا رسول الله! فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسُك بشاة" (¬6). وفي رواية: "وقف عَليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية؛ ورأسي يتهافت قملاً (¬7). فقال: يُؤذيك هوامّك؟ قلت: نعم. قال: فاحلق رأسك -أو قال: احلق- قال: فيّ نزلت هذه الآية: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ... } إِلى آخرها، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صم ثلاثة أيام، أو تصدّق بفرق (¬8) بين ستةٍ، أو انسُك ¬

_ (¬1) مكانان بين مكة والمدينة. (¬2) أي: محرمون. (¬3) أخرجه البخاري: 1825، ومسلم: 1193. (¬4) هذا العنوان من تبويب الإِمام النووي -رحمه الله- لـ "صحيح مسلم". (¬5) الهوامّ: جمع هائة، وهو ما يدبّ من الحشرات. وقال النووي -رحمه الله-: القمل. (¬6) أخرجه البخاري: 1814، ومسلم: 1201. (¬7) يتهافت قملاً؛ أي: يتساقط شيئاً فشيئاً. "فتح". (¬8) فرْق: بفتح الراء وإسكانها، لغتان. قال الحافظ في "الفتح": " .. ووقع في رواية ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عند أحمد وغيره: "والفَرَق ثلاثة آصع". ولمسلم [1201] من طريق أبي قلابة عن ابن أبي ليلى: "أو أطعم ثلاثة أرطال من تمر على ستة مساكين". =

بما تيسّر" (¬1). وفي رواية: "تجد شاة؟ فقلت: لا. فقال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مِسكين نصف صاع" (¬2). قال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 231) -بحذف-: " .. لكن رواه الدارقطني (288) بلفظ: "أمعك نسك؟ قال: لا. قال: فإِن شئت فصم ... " الحديث. وهو رواية لأبي داود (1858). فهذا يدل على أن التخيير إِنما كان بعد أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِياه بالنسيكة، واعتذر كعب بأنّه لا يجدها، ويشهد له ما يأتي: 1 - عن عبد الله بن معقل قال: "قعدت إِلى كعب -رضي الله عنه- وهو في المسجد، فسألته عن هذه الآية: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}؟ فقال كعب -رضي الله عنه-: نزلت فيَّ؛ كان بي أذى من رأسي، فحُملت إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى! أتجد شاة؟ فقلت: لا. فنزلت هذه الآية: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}. قال: صوم (وفي رواية: فصم) ثلاثة أيام، أو إِطعام (وفي الرواية الأخرى: أو أطعم) ستة مساكين نصف صاع طعاماً لكل مسكين. قال: فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامّة". ¬

_ = وإذا ثبت أن الفَرَق ثلاثة آصع؛ اقتضى أن الصاع خمسة أرطال وثلث؛ خلافاً لمن قال: إِنّ الصاع ثمانية أرطال". (¬1) أخرجه البخاري: 1815، ومسلم: 1201. (¬2) أخرجه البخاري: 1816.

أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتمتع:

أخرجه البخاري (1/ 454) ومسلم (4/ 21 - 22) والسياق له والترمذي ... 2 - عن محمد بن كعب القُرَظي عن كعب بن عجرة قال: "أمَرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين آذاني القمل أن أحلق رأسي، ثمّ أصوم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، وقد علم أنه ليس عندي ما أنسك به". أخرجه الشافعي (1017) وابن ماجه (3080). وإسناده حسن. أمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتمتع: إِذا أراد المرء الإِحرام: فإِن كان قارناً قد ساق الهدي؟ قال: "لبيك اللهم! بحجة وعمرة". وإِن لم يسُق الهدي -وهو الأفضل-؛ لبّى بالعمرة وحدَها ولا بد، فقال: "لبيك اللهم! بعمرة". فإِن كان لبّى بالحج وحده؛ فسخه وجعلَه عمرة؛ لأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، وقوله: "دخلت العمرة في الحج إِلى يوم القيامة"؛ وشبك بين أصابعه" (¬1). وقوله: "يا آل محمد! من حج منكم؛ فليهل بعمرة في حَجّة" (¬2)، وهذا هو التمتع بالعمرة إِلى الحج". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1218، وأبو داود وغيرهما، ولفظ مسلم: " .. لا بل لأبدٍ أبدٍ"، وانظر "الإِرواء" (982). (¬2) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، وابن حبّان، وأحمد وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2469).

الاشتراط:

الاشتراط: وإن أحبّ قَرَن مع تلبيته الاشتراط على ربه -تعالى- خوفاً من العارض من مرض أو خوف، فيقول كما جاء في تعليم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهمّ! محِلّي حيث حبستني" (¬1)؛ فإِنه إِن فعل ذلك، فحبس أو مرض؛ جاء له التحلّل من حجه أو عمرته، وليس عليه دم ولاحج من قابل؛ إِلا إِذا كانت حجة الإِسلام، فلا بُدّ من قضائها. يشير شيخنا -رحمه الله- بهذا الحديث إِلى حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ضُبَاعة بنت الزبير فقال لها: لعلك أردت الحج؟! قالت: والله لا أجدني إِلا وجعة، فقال لها: حُجي واشترطي، قولي: اللهم! محِلّي حيث حبستني؛ وكانت تحت المقداد بن الأسود" (¬2). جاء في "شرح النووي" (8/ 131): " .. فيه دلالة لمن قال: يجوز أنْ يشترط الحاج والمعتمر في إِحرامه؛ أنه إِن مرض تحلّل؛ وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وآخرين من الصحابة -رضي الله عنهم- وجماعة من التابعين وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو الصحيح من مذهب الإِمام الشافعي؛ وحجّتهم هذا الحديث الصحيح الصريح. وقال أبو حنيفة ومالك وبعض التابعين: لا يصحّ الاشتراط، وحملوا الحديث على أنها قضية عين، وأنّه مخصوص بضُبَاعة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5089، ومسلم: 1207. (¬2) أخرجه البخاري: 5089، ومسلم: 1207.

الصلاة بوادي العقيق:

قال أبو عيسى -رحمه الله- عقب حديث ضباعة -رضي الله عنها-: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم؛ يرون الاشتراط في الحج ويقولون: إِن اشترط فعرض لى مرض أو عذر؛ فله أن يحل ويخرج من إِحرامه. وهو قول الشافعي، وأحمد، وإِسحاق. ولم ير بعض أهل العلم الاشتراط في الحج، وقالوا: إِن اشترط؛ فليس له أن يخرج من إِحرامه، ويرونه كمن لم يشترط". فقولهم: (إِن اشترط فعرض له مرض) بيّنٌ في جوازه لمن لم يكن به مرض من قبل، وأنّ الاشتراط عام. والله -تعالى- أعلم. وليس للإِحرام صلاة تخصّه، لكن إِن أدركته الصلاة قبل إِحرامه، فصلّى ثمّ أحرم عَقب صلاته؛ كان له أسوة برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حيث أحرم بعد صلاة الظهر (¬1). الصلاة بوادي العقيق: لكن من كان ميقاته ذا الحليفة؛ استُحبّ له أن يصلّيَ فيها، لا لخصوص الإِحرام، وإنما لخصوص المكان وبركته. فعن عمر -رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوادي العقيق يقول: أتاني الليلة آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرةٌ في حَجّة" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "صحيح مسلم" (1218). (¬2) أخرجه البخاري: 1534.

استقبال القبلة قائما:

وفي رواية: "عمرةٌ وحجة" (¬1). وعن ابن عمر عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنّه رُئي (وفي رواية: أُرِيَ) (¬2) وهو مُعَرِّسُ (¬3) بذي الحليفة ببطن الوادي، قيل له: إِنك ببطحاء مباركة" (¬4). وفي رواية: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يركع بذي الحُليفة ركعتين" (¬5). استقبال القبلة قائماً: ثمّ يستقبل القبلة قائماً؛ عن نافع قال: "كان ابن عمر -رضي الله عنهما- إِذا صلّى بالغداة بذي الحليفة؛ أمر براحلته فرُحلَتْ، ثمّ ركب، فإِذا استوت به؛ استقبل القبلة قائماً، ثمّ يلبّي حتى يبلغ المحرَم، ثمّ يمسك، حتى إِذا جاء ذا طوى (¬6)؛ بات به حتى يصبح، فإِذا صلّى الغداة اغتسل، وزعم أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 7343. (¬2) أخرجه البخاري: 2336، قال الحافظ (3/ 393): "بضمّ الهمزة؛ أي: في المنام، وفي رواية كريمة "رُئي" بتقديم الراء، أي: رآه غيره". (¬3) التعريس: نزول المسافر آخر الليل نزلةً للنوم والاستراحة. "النهاية". (¬4) أخرجه البخاري: 1535. (¬5) أخرجه مسلم: 1184. (¬6) ذا طوى: وادٍ معروف بقرب مكة. (¬7) رواه البخاري معلّقاً (1553)؛ والبيهقي موصولاً بسند صحيح، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 370).

التلبية:

التلبية (¬1): ثمّ يلبّي بالعمرة أو الحج والعمرة، ويقول: اللهمّ! هذه حجة؛ لا رياء فيها ولا سمعة (¬2). مشروعيتها: عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: يا آل محمد! من حج منكم فليهلَّ بعمرة في حجة" (¬3). ¬

_ (¬1) جاء في "النهاية": التلبية: [هي] إِجابة المنادي؛ أي: إِجابتي لك يا رب! وهو مأخوذ من لبَّ بالمكان وألبّ: إِذا أقام به، وألبّ على كذا: إِذا لم يُفارقه، ولم يستعمل إِلا على لفظ التثنية [لبيك اللهمّ لبيك] في معنى التكرير: أي: إِجابة بعد إِجابة؛ وهو منصوب على المصدر بعامل - رضي الله عنه - لا يظهر، كأنك قلت: ألبُّ إِلباباً بعد إِلباب، والتلبية من لبيك؛ كالتهليل من لا إِله إِلا الله. وقيل: معناه: اتجاهي وقصدى يا رب! إِليك، من قولهم: دارِي تَلّبُّ دارك؛ أي: تُواجهها. وقيل: معناه: إِخلاصي لك، من قولهم: حَسَبٌ لُبَابٌ: إِذا كان خالصاً محضاً، ومنه لُبُّ الطعام ولُبابه". انتهى. قال ابن عبد البر: "قال جماعة من أهل العلِم معنى التلبية إِجابة دعوة إِبراهيم حين أذن في النّاس بالحجّ". "عون المعبود" (5/ 175). وبيّن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- ثمانية أقوال في معنى التلبية؛ كما في "تهذيب السنن". (¬2) أخرجه الضياء بسند صحيح. (¬3) أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني والآثار"، وابن حبّان، وأحمد، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2469).

حكمها:

حكمها: والتلبية واجبة؛ للحديث المتقدّم: "فليهل بعمرة في حجة"؛ ولام الأمر للوجوب، ولم يرد -فيما علمت- عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- ترْك التلبية. لفظها: عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنه-: أن تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لبيك اللهم! لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إِن الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك؛ لا يزيد على هؤلاء الكلمات" (¬1). قال نافع: وكان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يزيد فيها: "لبيك لبيك وسعديك (¬2) والخير بيديك لبيك، والرغباء (¬3) إِليك والعمل" (¬4). وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "أهلّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فذكر التلبية مثل حديث ابن عمر-؟ قال: والناس يزيدون: "ذا المعارج! " (¬5)، ونحوه من الكلام والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمع، فلا يقول لهم شيئاً" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1184. (¬2) وسعديك؛ أي: مساعدة لطاعتك بعد مساعدة. "شرح النووي". (¬3) والرغباء -بالمدّ-: من الرغبة، كالنُّعمى والنعماء من النّعمة. "النهاية". (¬4) أخرجه البخاري: 1549، ومسلم: 1184 - واللفظ له-. (¬5) أي: لبيّك ذا المعارج! جاء في "النهاية": المعارج: المصاعد والدّرج، واحدها مَعرَج، يريد معارج الملائكة إلى السماء. وقيل: المعارج: الفواضل العالية. (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1598).

رفع الصوت في التلبية:

وفي رواية: "لبيك ذا المعارج! لبيّك ذا الفواضل! (¬1) " (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان من تلبية النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لبيّك إِله الحق! " (¬3). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب بعرفات، فلمّا قال: لبيّك اللهم! لبيك؟ قال: إِنما الخير خير الآخرة" (¬4). والتزام تلبيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل، وإنْ كانت الزيادة عليها جائزة؛ لإِقرار النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك. رفع الصوت في التلبية: ويؤمر المُلبي بأن يرفع صوته بالتلبية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتاني جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية" (¬5)، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ¬

_ (¬1) الفواضل في اللغة: الأيادي الجميلة كما في "اللسان" فالمراد: عظيم الإِنعام والإِحسان والتفضل. والله أعلم. (¬2) أخرجه أبو داود، وأحمد في "مسنده"، والبيهقي، وانظر "حجة النّبيّ" (ص 55). (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2579)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2362)، وابن خزيمة وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2146). (¬4) أخرجه البيهقي، وحسّنه شيخنا -رحمه الله في "الصحيحة" (2146). (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1599)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (663)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2364)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2580)، وانظر "المشكاة" (2549).

تلبية النساء:

"أفضل الحج: العجُّ (¬1) والثج (¬2) " (¬3)، ولذلك كان أصحاب النن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجته يصرخون بها صُراخاً. وقال أبو حازم: كان أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا أحرموا؛ لم يبلغوا (الروحاء) حتى تبحّ أصواتهم وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كأني أنظر إِلى موسى -عليه السلام- هابطاً من الثّنية، وله جُؤَارٌ (¬4) إِلى الله بالتلبية" (¬5). تلبية النساء: والنساء في التلبية كالرجال، لعموم الحديثين السابقين؛ فيرفعن أصواتهنّ؛ ما لم تُخْش الفتنة، ولأنّ عائشة كانت ترفع صوتها حتى يسمعها الرجال، فقال أبو عطية: سمعت عائشة تقول: إِني لأعلم كيف كانت تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ سمعْتها تلبّي بعد ذلك: "لبيّك اللهم! لبيّك ... " (¬6) إِلخ. وقال القاسم بن محمد: خرج معاوية ليلة النفر، فسمع صوت تلبية، فقال: من هذا؟ قيل: عائشة أم المؤمنين؛ اعتمرت من التنعيم؛ فذكر ذلك لعائشة؟ فقالت: لو سألني لأخبرْتُه (¬7). ¬

_ (¬1) العج: رفع الصوت بالتلبية. (¬2) سيلان دماء الهدي والأضاحي. (¬3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (661)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2366)، وانظر "الصحيحة" (1500). (¬4) الجؤار: رفع الصوت والاستغاثة. "النهاية". (¬5) أخرجه البخاري: 3355، ومسلم: 166. (¬6) أخرجه البخاري: 1550، وتقدّم. (¬7) رواه ابن أبي شيبة، كما في "المحلّى" (7/ 94 - 95)، وسنده صحيح، وقال =

ماذا إذا أطلق الإحرام ولم يعينه؟

ويلتزم التلبية؛ لأنها "من شعائر الحج" (¬1)، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من مُلبٍّ يلبي إِلا ولبّى ما عن يمينه وعن شماله من شجر وحجر، حتى تنقطع الأرض من هنا وهنا -يعني- عن يمينه وشماله" (¬2)؛ وبخاصة كلما علا شرفاً، أو هبط وادياً؛ للحديث المتقدّم قريباً: "كأني انظر إِلى موسى -عليه السلام- هابطاً من الثّنية، له جُؤار إِلى الله تعالى بالتلبية"، وفي حديث آخر: "كأني أنظر إِليه إِذا انحدر في الوادي يلبي" (¬3). وله أن يخلطها بالتكبير والتهليل؛ لقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فما ترَك التلبية حتى رمى جمرة العقبة؛ إلاَّ أن يخلطها بتكبير أو تهليل" (¬4). ماذا إِذا أطلق الإِحرام ولم يعيّنه؟ من أحرم إِحراماً مطلقاً من غير تعيين؛ فإِنّه يحوّل إِلى عمرة الحج؛ وهو التمتّع، وبه يقول شيخنا -رحمه الله- في بعض إِجاباته لي. ¬

_ = شيخ الإسلام -رحمه الله- في "منسكه": "والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع رفيقاتها، ويستحب الإِكثار منها عند اختلاف الأحوال ... ". (¬1) هو جزء من حديث صحيح مخرج في "الصحيحة" (830) بلفظ: "أمرني جبريل برفع الصوت في الإِهلال؛ فإِنه من شعائر الحج". (¬2) رواه ابن خزيمة، والبيهقي بسند صحيح، كما في تخريج "الترغيب والترهيب" (2/ 118). (¬3) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "وأمّا موسى ... كأني أنظر إِليه انحدر في الوادي "أخرجه البخاري: 3355، ومسلم: 166، وتقدّم. (¬4) أخرجه أحمد بسند جيد، وصححه الحاكم، والذهبي، كما في "الحج الكبير".

الاغتسال لدخول مكة:

وسأله أحد الإِخوة عن ذلك؟ فقال شيخنا -رحمه الله-: "متى تذكّر؟ فأجاب السائل: في مكة وقد اعتمر. فقال -رحمه الله-: يتحلّل ويَعدّ هذا تمتُّعاً، وإذا أنهى الحج؛ فلا حرج عليه بالذي أتى به". فإِذا بلغ الحرم المكي، ورأى بيوت مكة؛ أمسك عن التلبية (¬1)؛ ليتفرغ للانشغال بغيرها مما يأتي (¬2). الاغتسال لدخول مكة: ومن تيسَّر له الاغتسال قبل الدخول؛ فليغتسل، وليدخل نهاراً؛ أسوة برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1573. (¬2) عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: "سئل عطاء: متى يقطع المعتمر التلبية؟ فقال: قال ابن عمر: إِذا دخل الحرم. وقال ابن عباس: حتى يمسح الحجر. قلت: يا أبا محمد! أيهما أحب إِليك؟ قال: قول ابن عباس". أخرجه البيهقي. وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 297): "وسنده صحيح". وعن مجاهد قال: "كان ابن عباس -رضي الله عنه- يلبي في العمرة حتى يستلم الحجر ثمّ يقطع. قال: وكان ابن عمر -رضي الله عنه- يلبي في العمرة حتى إِذا رأى بيوت مكة ترك التلبية، وأقبل على التكبير والذكر؛ حتى يستلم الحجر". سنده صحيح أيضاً، قاله شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 298). (¬3) انظر "صحيح البخاري" (1574).

وليدخل من الناحية العليا التي فيها اليوم باب المعلاة؛ فإِنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلها من الثنية العليا؛ ثنية (كَدَاءَ)، المشرفة على المقبرة، ودخل المسجد من باب بني شيبة؛ فإِن هذا أقرب الطرق إِلى الحجر الأسود. فعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء، ويخرج من الثنية السفلى" (¬1). وله أن يدخلها من أي طريق شاء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل فجاج مكة طريق ومنحر" (¬2). وفي حديث آخر: "مكة كلها طريق: يدخل من هاهنا، ويخرج من هاهنا" (¬3). فإِذا دخلت المسجد؛ فلا تنس أن تقدّم رجلك اليمنى (¬4)، وتقول: "اللهم! صلّ على محمد وسلم، اللهمّ! افتح لي أبواب رحمتك" (¬5). أو: "أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1576، ومسلم: 1257. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1707)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2473)، وانظر "الصحيحة" (2464). (¬3) رواه الفاكهي بسند حسن. (¬4) فيه حديث حسن مخرج في "الصحيحة" (2478). (¬5) انظر "الكلم الطيب" لشيخ الإِسلام ابن تيمية، بتحقيق شيخنا -رحمهما الله- (ص 51، 52).

تحريم المرور أمام المصلي في الحرمين:

الرجيم" (¬1). فإِذا رأى الكعبة؛ رفع يديه إِن شاء؛ لثبوته عن ابن عباس -رضي الله عنهما- (¬2). ولم يثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هنا دعاء خاص، فيدعو بما تيسير له، وإن دعا بدعاء عمر: "اللهم! أنت السلام، ومنك السلام فحيّنا ربّنا بالسلام" فحسن؛ لثبوته عنه -رضي الله عنه- (¬3). تحريم المرور أمام المصلّي في الحرمين: *احذر يا أخي! مِن أنْ تمرّ بين يدي أحد من المصلّين في المسجد الحرام وفي غيره من المساجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو يعلم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه؛ لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه". قال الراوى: لا أدري قال: أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة؟! رواه الشيخان في "صحيحيهما"، وكما لا يجوز لك هذا؛ فلا يجوز لك أيضاً أن تصلّي إِلى غير سترة؛ بل عليك أن تصلي إِلى أي شيء يمنع الناس من المرور بين يديك، فإِن أراد أحد أن يجتاز بينك وبين سترتك؛ فعليك أن تمنعه، وفي ذلك أحاديث وآثار، أذكر منها: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (441)، وانظر "تخريج الكلِم الطيب" برقم (65). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عنه. (¬3) أخرجه البيهقي بسند حسن عن سعيد بن المسيب قال: سمعت من عمركلمة ما بقي أحد من الناس سمعها غيرى، سمعته يقول إِذا رأى البيت ... فذكره. ورواه بإِسناد آخر حسن أيضاً عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول ذلك، ورواه ابن أبي شيبة عنهما.

1 - "إِذا وَضَع أحدكم بين يديه مثل مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ فَلْيُصَلِّ ولا يبالي من مرَّ وراء ذلك" (¬1). 2 - إِذا صلّى أحدكم إِلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه؛ فليدفع في نحره، وليدرأ ما استطاع، فإِن أبى فليقاتله؛ فإِنما هو شيطان" (¬2). 3 - قال يحيى بن أبي كثير: "رأيت أنس بن مالك دخل المسجد؛ فركز شيئاً أو هيّأ شيئاً يصلّي إِليه". رواه ابن سعد (7/ 18) بسند صحيح. 4 - عن صالح بن كيسان قال: "رأيت ابن عمر يصلّي في الكعبة ولا يدع أحداً يمر بين يديه". رواه أبو زرعة الدمشقي في "تاريخ دمشق"، وكذا ابن عساكر في "تاريخ دمشق" بسند صحيح. ففي الحديث الأول: إِيجاب اتخاذ السترة، وأنه إِذا فعل ذلك فلا يضره من مرّ من ورائها. وفي الحديث الثاني: إِيجاب دفع المار بين يدي المصلي إِذا كان يصلّي إِلى سترة، وتحريم المرور عمداً؛ وأن فاعل ذلك شيطان. وليت شعري ما هو الكسب الذي يعود به الحاج إِذا رجع وقد استحق هذا الاسم: "الشيطان"؟! ¬

_ (¬1) تقدّما في "كتاب الصلاة". (¬2) تقدّما في "كتاب الصلاة".

والحديثان وما في معناهما مطلقان لا يختصان بمسجد دون مسجد، ولا بمكان دون مكان، فهما يشملان المسجد الحرام والمسجد النبوي من باب أولى؛ لأن هذه الأحاديث إِنما قالها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجده، فهو المراد بها أصالةً، والمساجد الأخرى تبعاً. والأثران المذكوران نصان صريحان على أن المسجد الحرام داخل في تلك الأحاديث، فما يقال من بعض المطوفين وغيرهم؛ أن المسجد المكي والمسجد النبوي مستثنيان من النهي؛ لا أصل له في السنة، ولا عن أحد من الصحابة، اللهم! سوى حديث واحد، روي في المسجد المكي لا يصح إِسناده، ولا دلالة فيه على الدعوى ... ".* (¬1) أمّا ما روُي عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وِدَاعَةَ، عن بعض أهله عن جده: "أنه رأى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلّي ممّا يلي باب بني سَهْمٍ، والناس يمرُّون بين يديه، وليس بينهما سُترة". قال سفيان: ليس بينه وبين الكعبة سترة! فإِنّه ضعيف (¬2). وعلى أي حال؛ فالكلام يطول في هذا الموضوع؛ فأقول مختصراً: إِنّ ممّا يُؤْسَفُ له: أن لا تعظَّم حُرمات الحرمين من قِبَل الكثير الكثير في حالات عديدة يستطيعون أن يتفادوا المرور بين يدي المصلّي، حتى إِنهم فيما ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين عن كتاب "حجّة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (ص 21). (¬2) انظر "ضعيف سنن أبي داود" (437).

هل يلزم من يدخل البيت الحرام الطواف؟

استطاعوا اجتنابه في المساجد الأُخرى لا يجتنبونه في الحرمين؛ بزعم جواز المرور! ففهموا أنّ الأصل الجواز، وليتهم فهموا أنّ ذلك في حالة الاضطرار التي لا محيص عنها! والله المستعان. هل يلزم من يدخل البيت الحرام الطوافُ؟ ليس هناك من دليل على هذا. أما حديث: "تحية المسجد الطواف": فقد قال شيخنا -رحمه الله- في شأنه في "السلسلة الضعيفة" (1012): "لا أعلم له أصلاً، وإن اشتهر على الألسنة، وأورده صاحب "الهداية" من الحنفية بلفظ: "من أتى البيت فليُحيِّه بالطواف". وقد أشار الحافظ الزيلعي في تخريجه إِلى أنه لا أصل له بقوله (2/ 51): "غريب جدّاً". وأفصح عن ذلك الحافظ ابن حجر فقال في "الدراية" (ص 192): "لم أجده". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: ولا أعلم في السنة القولية أو العملية ما يشهد لمعناه، بل إِن عموم الأدلة الواردة في الصلاة قبل الجلوس في المسجد تشمل المسجد الحرام أيضاً، والقول بأن تحيته الطواف مخالف للعموم المشار إليه، فلا يقبل إِلا بعد ثبوته؛ وهيهات! لاسيما وقد ثبت بالتجربة أنه لا يمكن للداخل إِلى المسجد الحرام الطواف كلما دخل المسجد في أيام المواسم، فالحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، {وما جعل عليكم في الدين من حرج}. وإنّ مما ينبغي التنبيه له: أن هذا الحكم إِنما هو بالنسبة لغير المحرم؛ وإلا فالسُّنّة في حقّه أن يبدأ بالطواف، ثمّ بالركعتين بعده".

فضل الطواف:

فضل الطواف: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: من طاف بالبيت وصلّى ركعتين؛ كان كَعتق رقَبة" (¬1). شروط الطواف (¬2) 1 - الطهارة من الحَدَثين والنجاسة: عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الطواف حول البيت مثل الصلاة؛ إِلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إِلا بخير" (¬3). وفي طريق أُخرى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قال الله لنبيّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {طَهِّرْ بَيْتِيَ للطائفين والعاكفين والرّكع السجود}؛ فالطواف قبل الصلاة، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الطواف بالبيت بمنزلة الصلاة؛ إِلا أن الله قد أحل فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق إِلا بخير" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2393) وغيره، وصححه شيخنا - رحمه الله- في "الصحيحة" (2725). (¬2) ملتقطاً من "فقه السُّنّة"، و"الروضة الندية"، و"منار السبيل" بتصرّف، وانظر "الوجيز" (ص 249). (¬3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (767)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2735)، والدارمي وغيرهم، وصححّه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (121). (¬4) أخرجه الحاكم، وصححّه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1/ 157).

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرجنا لا نُرَى إلاَّ الحج، فلمّا كنا بِسَرِفَ حِضتُ، فدخل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، قال: أَنَفِسْتِ؟ قلت: نعم. قال: إِنّ هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاجُّ؛ غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي" (¬1). وعنها- أيضاً: "أنّ أوّل شيء بدأ به حين قدم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أنه توضأ ثمّ طاف" (¬2). وجاء في "المغني" (3/ 390): مسألة (ويكون طاهراً في ثياب طاهرة): "يعني: في الطواف؛ وذلك لأنّ الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف في المشهور عن أحمد، وهو قول مالك والشافعي. وعن أحمد أن الطهارة ليست شرطاً للزيارة غير متطهر أعاد ما كان بمكة، فإِن خرج إِلى بلده جبره بدم. وكذلك يخرج في الطهارة من النجس والستارة. وعنه فيمن طاف للزيارة وهو ناسٍ الطهارةَ: لا شيء عليه. وقال أبو حنيفة: ليس شيء من ذلك شرطاً. واختلف أصحابه، فقال بعضهم: هو واجب. وقال بعضهم: هو سنة؛ لأنّ الطواف ركن الحج، فلم يشترط له الطهارة كالوقوف. ولنا ما روى ابن عباس أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الطواف بالبيت صلاة؛ إِلا أنكم تتكلمون فيه"؛ رواه الترمذي والأثرم. وعن أبي هريرة: أن أبا بكر الصديق بعثه في الحَجّة التي أمَّرَه عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل حَجّة الوداع يوم النحر في رهطٍ يؤذِّن في الناس: ألا لا يَحُجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 294، ومسلم: 1211. (¬2) أخرجه البخاري: 1614، 1615، ومسلم: 1235.

2 - ستر العورة:

عُريان (¬1). ولأنها عبادة متعلقة بالبيت؛ فكانت الطهارة والستارة فيها شرطاً كالصلاة. وعكس ذلك الوقوف". 2 - سَتْر العورة: قال الله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجد} (¬2). عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عُريانة، فتقول: من يُعيرُني تِطوافاً (¬3) تجعله على فَرْجها، وتقول: اليومَ يبدو بعضُهُ أوكلُّهُ ... فما بدا منه فلا أحِلُّهُ فنزلت هذه الآية: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}. ولحديث أبي بكر -رضي الله عنه- المتقدّم؛ وفيه: "ولا يطوف بالبيت عُريان". 3 - أن يكون سبعة أشواط كاملة: ويجب أن يطوف الطائف سبعة أشواط كاملة؛ فإِنْ ترَك شيئاً من السبع -ولو قليلاً- لم يُجزئه. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قَدِم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة، فطاف وسعى بين الصفا والمروة، ولم يقرَب الكعبة بعد طوافه بها، حتى رجع من عرفة" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1622، ومسلم: 1347. (¬2) الأعراف: 31. (¬3) جاء في "النهاية": "هذا على حذف المضاف؛ أي: ذا تَطْواف. ورواه بعضهم بكسر التاء [تِطوافاً]، وقال: هو الثوب الذي يُطافُ به". (¬4) أخرجه البخاري: 1625.

4 - أن يبدأ الطواف من الحجر الأسود، وينتهي إليه، ويجعل البيت عن يساره:

فمن شكّ في العدد؛ فليطرح الشكّ وليتحرَّ الصواب، وإن لم يمكنه؛ فَلْيَبْنِ على الأقلّ. جاء في "الروضة الندية" (1/ 616): "الأقرب -والله أعلم-: أنّ الطواف يوافق الصلاة، فمن شكّ هل طاف ستة أشواط أو سبعة؛ فليطرح الشك وليتحر الصواب، فإِن أمكنه ذلك عمل عليه، وإن لم يمكنه فَلْيَبْنِ على الأقل، كما ورد بذلك الدليل الصحيح". 4 - أن يبدأ الطواف من الحجر الأسود، وينتهي إِليه، ويجعل البيت عن يساره: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم مكة؛ أتى الحجر فاستلمه، ثمّ مشى على يمينه؛ فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً" (¬1). وعن سفيان عن عمرو قال: "سألْنا ابن عمر -رضي الله عنهما-: أيقع الرجل على امرأته في العمرة قبل أن يطوف بين الصفا والمروة؟ قال: قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فطاف بالبيت سبعاً، ثمّ صلّى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفّا والمروة، وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬2) " (¬3). 5 - أن يكون الطواف خارج البيت، وقد قال الله تعالى: {وليطَوَّفوا بالبيت العتيق}، فالله تعالى أمر بالطواف بالبيت؛ لا في البيت". فلو طاف في الحِجْرِ لا يصحّ طوافه؛ إِذ الحِجْرُ من البيت. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1218. (¬2) الأحزاب: 21. (¬3) أخرجه البخاري: 1623، ومسلم: 1234.

6 - الموالاة:

عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الجَدْر (¬1): أمِن البيت هو؟ قال: نعم. قلت: فَلِمَ لَمْ يدخلوه في البيت؟ قال: إِنّ قومك قصُرت بهم النفقة. قلت: فما شأنُ بابه مرتفعاً؟ قال: فعل ذلك قومك لِيدخِلُوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أنّ قومك حديثٌ عهدُهم في الجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم؛ لنظرت أن أدخل الجدار في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قلت: يا رسول الله! ألا أدخل البيت؟! قال: ادخلي الحِجر؛ فإِنه من البيت" (¬3). 6 - الموالاة: لأنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف كذلك، وقد قال: "لتأخذوا مناسككم" (¬4). وجاء في "صحيح البخاري" (¬5): (باب إِذا وقف في الطواف)، قال عطاء فيمن يطوف فتقام الصلاة، أو يدفع عن مكانه: "إِذا سلّم يرجع إِلى حيث قُطع عليه، فيبني (¬6). ¬

_ (¬1) يريد الحِجر؛ لما فيه من أصول حائط البيت. "النهاية". (¬2) أخرجه البخاري: 1584، ومسلم: 1333. (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2725)، وانظر "الإِرواء" (4/ 307). (¬4) أخرجه مسلم: 1297. (¬5) انظر "كتاب الحج" (باب - 68). (¬6) وصله عبد الرزاق بسند صحيح عنه نحوه. "مختصر البخاري" (1/ 386).

عدم مخالطة الرجال النساء في الطواف

ويُذْكَرُ نحوه عن ابن عمر (¬1)، وعبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهم (¬2) -. وإذا أعيا في الطواف؛ فلا بأس أن يستريح. قاله الإِمام أحمد -رحمه الله-". عدم مخالطة الرجال النساء في الطواف قال ابن جريج: أخبرني عطاء -إِذ مَنَعَ ابنُ هشام النساءَ الطوافَ مع الرجال- قال: كيف يمنعهنّ وقد طاف نساء النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع الرجال؟! قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إِي لعمري؛ لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يُخالطن الرجال؟ قال: لم يَكْنَّ يخالطْنَ، كانت عائشة -رضي الله عنه- تطوف حَجْرة (¬3) من الرّجال لا تخالطهم. فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أمّ المؤمنين! قالت: عَنْكِ! وأبَتْ، يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهنّ كنّ إِذا دخلن البيت؟ قُمن حتى يدخلن وأُخرج الرجال" (¬4). هل يركب الطائف؟ اختلف العلماء في هذه المسألة واستدلّ المجوّزون بحديث ابن عباس - ¬

_ (¬1) وصله سعيد بن منصور عن جميل بن زيد عن ابن عمر نحوه، وجميل هذا ضعيف، "مختصر البخاري" (1/ 386) أيضاً. (¬2) وصله عبد الرزاق بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي بكر. "مختصر البخاري" (1/ 386) كذلك. (¬3) حَجْرةً؛ أي: ناحية. "فتح". (¬4) أخرجه البخاري: 1618.

رضي الله عنهما- قال: "طاف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمِحجَن (¬1) " (¬2). واستدلّوا كذلك بحديث جابر -رضي الله عنه- قال: "طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالبيت في حجة الوداع على راحلته؛ يستلم الحجر بمحجنه؛ لأن يراه الناس وَلِيَشْرُفَ وليسألوه؛ فإِنّ الناس غَشُوه" (¬3). ومنهم من منَع ذلك (¬4) إِلا لمرض أو سبب؛ وهو الراجح -والله أعلم- لما يأتي: 1 - إِن حديث جابر وضّح سبب الركوب، وهو قوله -رضي الله عنه-: "لأن يراه الناس، وليشرف، وليسألوه؛ فإِن الناس غَشُوه". فماذا إِذا لم تكن حاجة لأن يُرى الطائف أو يشرف؟! وماذا إِذا لم يَغْشَهُ الناس؟! 2 - إِن المتأمّل في النصوص الواردة في الركوب لا يراها تعدو وجود مرض أو سبب، وما أُجمل؛ فالروايات الأخرى تفصّله. ومن ذلك: حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "شكوت إِلى رسول ¬

_ (¬1) المِحْجن: عصا مُعقفة؛ يتناول بها الراكب ما سقط له، ويحرّك بطرفها بعيره للمشي. "شرح النووي". (¬2) أخرجه البخاري: 1607، ومسلم: 1272. (¬3) أخرجه مسلم: 1273. (¬4) انظر ما قاله الحافظ -إِن شئت- في ترجيحه المنع.

استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة فيها، والدعاء في نواحيها كلها

الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّي أشتكي؟ فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ... " (¬1). لذلك ذكر الإِمام البخاري -رحمه الله- حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- السابق تحت (باب المريض يطوف راكباً)، قال الحافظ -رحمه الله- تحت الحديث (1633): " ... وقد تقدّم الكلام عليهما [أي: حديث ابن عباس وأم سلمة -رضي الله عنهم-] في (باب إِدخال البعير المسجد للعلّة). وأنّ المصنّف حمل سبب طوافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكباً على أنّه كان عن شكوى". وجاء في "منار السبيل" (1/ 253): " .. فلا يجزئ طواف الراكب لغير عُذر ... "؛ ونقل الأقوال المخالفة. استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة فيها، والدعاء في نواحيها كلها (¬2) عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل الكعبة، هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة الحَجَبي (¬3) فأغلقها عليه، ثمّ مكث فيها. قال ابن عمر: فسألت بلالاً حين خرج: ما صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: جعل عمودين عن يساره، وعموداً عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثمّ صلّى" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1633. (¬2) هذا العنوان من "صحيح مسلم" (كتاب الحج" (باب-68). (¬3) الَحَجبي: منسوب إِلى حجابة الكعبة، وهي: ولايتها وفتحها وإغلاقها وخدمتها، ويقال له ولأقاربه: الحجبيون. "شرح النووي". (¬4) أخرجه البخاري: 505، ومسلم: 1329.

يبادر المرء إِلى الحجر الأسود، فيستقبله استقبالاً فيكبّر، والتسميةُ قبله صحت عن ابن عمر موقوفاً. ثمّ يستلمه بيده ويقبِّله بفمه؛ فعن عمر -رضي الله عنه-: "أنه جاء إِلى الحجر الأسود فقبله فقال: إِني أعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقبلّك؛ ما قبّلتك" (¬1). ويسجد عليه أيضاً، فقد فعَله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعمر وابن عباس (¬2). فإِن لم يمكنه تقبيله؛ استلمه بيده ثمّ قبّل يَدَه. عن نافع قال: "رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده، ثمّ قبّل يده؛ وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله" (¬3). فإِن لم يمكنه الاستلام؛ أشار إِليه بيده. ويفعل ذلك في كلّ طَوْفَةٍ. ولا يزاحم عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا عمر! إِنك رجل قوي، فلا تُؤْذِ الضعيف، وإذا أردت استلام الحجر؛ فإِنْ خلا لك فاستلِمْه؛ وإلا فاستقبله وكبّر" (¬4). وفي استلام الحجر فضْل كبير؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليبعثنّ الله الحجر يوم القيامة، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1597، ومسلم: 1270. (¬2) أخرجه الشافعي، وأحمد وغيرهما، وهو حديث قوي؛ كما بينّه شيخنا -رحمه الله- في "الحج الكبير"، وانظر "الإِرواء" (1112) ففيه تحقيق وتخريج مفيد. (¬3) أخرجه مسلم: 1268. (¬4) صححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والذهبي.

وله عينان يُبصِر بهما، ولسانٌ ينطق به، ويشهد على من استلمَه بحقّ"، وقال: "مسْح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطاً" (¬1). وقال: "الحجر الأسود من الجنة، وكان أشدّ بياضاً من الثلج، حتى سوَّدته خطايا أهل الشرك" (¬2). ثمّ يبدأ بالطواف حول الكعبة يجعلها عن يساره، فيطوف من وراء الحجر سبعة أشواط، من الحجر إِلى الحجر شوط، يضطبع (¬3) فيها كلها، عن يعلى بن أميّة: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف بالبيت مضطبعاً؛ وعليه بُرد" (¬4). ويرمل في الثلاثة الأُوَل منها، من الحجر إِلى الحجر، ويمشي في سائرها. عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه اعتمروا من الجِعرّانة، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، قد قذفوها على عواتقهم اليسرى" (¬5). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "رَمَل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحجر إلى الحجر ثلاثاً، ومشى أربعاً" (¬6). ¬

_ (¬1) حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، والحاكم، والذهبي. (¬2) صححه الترمذي، وابن خزيمة. (¬3) الاضطباع: أن يدخل الرداء من تحت إِبطه الأيمن، ويردَّ طرفه على يساره، ويبدي مَنكِبه الأيمن، ويغطي الأيسر، وهو بدعة قبل هذا الطواف وبعده. (¬4) أخرجه ابن ماجه والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (682). (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1659)، وانظر "المشكاة" (2585). (¬6) أخرجه مسلم: 1262.

حكمة الرمل:

حكمة الرَّمَلِ: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حُمَّى يثرب، قال المشركون: إِنّه يَقْدَمُ عليكم غداً قوم وهنتهم الحمّى، ولقوا منها شدّة، فجلسوا ممّا يلي الحِجْرَ، وأمرهم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الرّكنين، ليرى المشركون جَلَدَهُمْ، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أنّ الحمى قد وهنتهم؟! هؤلاء أجلد من كذا وكذا! قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها؛ إِلا الإِبقاء عليهم" (¬1). ومع حدوث هذا الأمر لسبب؛ إِلا أنّ العلماء قالوا بعدم زوال حُكمه، وإن كان قد زال سببه. عن أسلم أنّ عمر بن الخطاب قال: "ما لنا وللرَّمَل؟! إِنما كنّا راءينا به المشركين، وقد أهلكَهم الله! ثمّ قال: شيء صنَعه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فلا نحبّ أن نتركه" (¬2). وفي رواية: "يقول [أي: عمر]: فِيمَ الرَّمَلان -اليوم- والكشف عن المناكب؟! وقد أطّأ (¬3) الله الإِسلام، ونفى الكفر وأهله! مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1602، ومسلم: 1266 - واللفظ له-. (¬2) أخرجه البخاري: 1605. (¬3) أطّأ الله الإِسلام: أي: ثبتّه وأرساه. والهمزة فيه بدل من واو وطّأ. "النهاية". (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1662)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2389).

ويستلم الركن اليماني بيده في كل طوفة، ولا يقبّله، فإِن لم يتمكنّ من استلامه؛ لم تشرع الإِشارة إِليه. عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لم أرَ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستلم من البيت إِلا الركنين (¬1) اليمانيين" (¬2). وعن ابن عمر قال: "ما تركت استلام هذين الركنين اليماني والحَجَرَ -مُذْ رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستلمهما- في شدّة ولا رخاء" (¬3). ويقول بينهما: " {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وَقِنَا عذاب النّار} " (¬4). ولا يستلم الركنين الشاميين؛ اتباعاً للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬5). ¬

_ (¬1) قال النووي -رحمه الله-: " .. فالركنان اليمانيان: هما الركن الأسود والركن اليماني؛ وإنما قيل لهما: اليمانيان للتغليب، كما قيل في الأب والأم: الأبوان، وفي الشمس والقمر: قمران، وفي أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-: العمران، وفي الماء والتمر: الأسودان، ونظائره مشهورة. واليمانيان بتخفيف الياء؛ هذه اللغة الفصيحة المشهورة. وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما فيها لغة أخرى؛ بالتشديد". (¬2) أخرجه البخاري: 1609، ومسلم: 1267. (¬3) أخرجه مسلم: 1267. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1666) وغيره. (¬5) قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والاستلام هو مسْحه باليد، وأمّا سائر جوانب البيت ومقام إِبراهيم، وسائر ما في الأرض من المساجد وحيطانها، ومقابر الأنبياء والصالحين -كحجرة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومغارة إِبراهيم، ومقام نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كان يصلّي فيه- وغير =

مشروعية التزام الملتزم في الطواف:

مشروعية التزام الملْتزم في الطواف (¬1): ويشرع التزام الملتزم في الطواف؛ لثبوت ذلك عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإِنّه "كان يضع صدره ووجهه وذراعيه وكفّيه بين الركن والباب؛ يعني: في الطواف" (¬2). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في "منسكه" (ص 387): "وإن أحب أن يأتي الملتزم -وهو ما بين الحجر الأسود والباب - فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه وكفّيه، ويدعو، ويسأل الله تعالى حاجته-؛ فعَل ذلك. وله أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع؛ فإِنّ هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال الوداع أو غيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة .. ولو وقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت، كان حسناً". موضعه: مكان الملتزم بين الركن والباب؛ للحديث السابق، ولقول ابن عباس -رضي ¬

_ = ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، وصخرة بيت المقدس؛ فلا تستلم ولا تقبّل باتفاق الأئمة. وأمّا الطواف بذلك؛ فهو من أعظم البدع المحرّمة، ومن اتخذه ديناً يُستتاب؛ فإِنْ تاب وإلا قُتِل". قال شيخنا -رحمه الله-: وما أحسن ما روى عبد الرزاق (8945)، وأحمد، والبيهقي عن يعلى بن أميّة قال: طُفت مع عمر بن الخطاب (وفي رواية: مع عثمان) -رضي الله عنه- فلمّا كنت عند الركن الذي يلي الباب مما يلي الحجر؛ أخذت بيده ليستلمه، فقال: أما طُفت مع رسول الله؟! قلت: بلى. قال: فهل رأيته يستلمه؟ قلت: لا. قال: فانْفُذْ عنك؛ فإِنّ لك في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسوة حسنة". (¬1) هذه العنوان من "الصحيحة" (5/ 170). (¬2) حسنه شيخنا -رحمه الله- من طريقين؛ كما في "الصحيحة" (2138).

متى يلتزمه؟

الله عنهما-: "هذا الملتزم بين الركن والباب" (¬1). وعن مجاهد: قال جئتُ ابن عباس وهو يتعوّذ بين الركن والباب (¬2). وعن عروة: "أنه كان يلصق بالبيت: صدره ويده وبطنه" (¬3). متى يلتزمه؟ يأتي الملتزم حين يفرغ من السبع؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه (¬4) قال: "طفت مع عبد الله بن عمرو، فلما فرغنا من السبع؛ ركعنا في دُبُر الكعبة، فقلت: ألا نتعوذ بالله من النّار؟! قال: أعوذ بالله من النّار، قال: ثمّ مضى فاستلم الركن، ثمّ قام بين الحجر والباب، فألصق صدره ويديه وخده إِليه، ثمّ قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل" (¬5). وليس للطواف ذِكْر خاصٌّ، فله أن يقرأ من القرآن أو الذكر ما شاء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الطواف بالبيت صلاة، ولكنّ الله أحلّ فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "الصحيحة" تحت الحديث (2138). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"، وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "الصحيحة" تحت الحديث (2138) أيضاً. (¬3) أخرجه عبد الرزاق أيضاً، وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "الصحيحة" (5/ 171). (¬4) في بعض الكتب عن جدّه، وانظر "الصحيحة" (2138). (¬5) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2397)، وانظر "الصحيحة" (2138).

صلاة ركعتين بعد الطواف:

إِلا بخير"، وفي رواية: "فأقلّوا فيه الكلام" (¬1). ولا يجوز أن يطوف بالبيت عريان ولا حائض؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولا يطوف بالبيت عريان" (¬2). وقوله لعائشة حين قدمت معتمرة في حَجّة الوداع: "افعلي كما يفعل الحاج؛ غير أن لا تطوفي بالبيت [ولا تصلّي] حتى تطهري" (¬3). صلاة ركعتين بعد الطَّواف: وينطلق إِلى مقام إِبراهيم؛ وقد غطّى كتفه الأيمن، ويقرأ: {واتخذوا من مقام إِبراهيم مصلّى}، ويجعل المقام بينه وبين الكعبة، ويصلّي عنده ركعتين. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: " .. قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فطاف بالبيت سبعاً، ثمّ صلّى خلف المقام ركعتين" (¬4). وعن جابر قال: "لما قدم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة؛ دخل المسجد فاستلم الحجر، ثمّ مضى على يمينه؛ فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثمّ أتى إِلى المقام فقال: {واتخذوا من مقام إِبراهيم مصلّى}، فصلّى ركعتين، والمقام بينه وبين البيت، ثمّ أتى ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي وغيره، والرواية الأخرى للطبراني، وهو حديث صحيح، كما حققه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (121). قال شيخ الإسلام: "وليس فيه ذكر محدود عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه؛ بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية". (¬2) أخرجه البخاري: 1622، ومسلم: 1347، وتقدّم. (¬3) أخرجه البخاري: 1650، ومسلم: 1211. (¬4) أخرجه البخاري: 1623، ومسلم: 1234.

جواز تأديتهما أوقات النهي:

الحجر بعد الركعتين فاستلمه، ثمّ خرج إِلى الصفا -أظنه قال-: {إِنّ الصفا والمروة من شعائر الله} " (¬1). جواز تأديتهما أوقات النهي: وتؤدّيان في جميع الأوقات؛ حتى أوقات النهي. عن جبير بن مُطعِمٍ أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلّى أيّةَ ساعة شاء من ليل أو نهار" (¬2). وعن عبد العزيز بن رُفيع قال: "رأيت عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- يطوف بعد الفجر ويصلّي ركعتين" (¬3). إذا صلّى المكتوبة؛ هل تجزئه؟ وإذا صلّى المكتوبة بعد الطواف؛ أجزأته عن الركعتين؛ بشرطين: 1 - أن يكون عند المقام؛ بحيث يمضي فيه قوله تعالى: {واتخذوا من مقام إِبراهيم مصلّى}. 2 - أن ينوي ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1218 من حديث جابر الطويل، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (679) -وهذا لفظه-. (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (688)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1036)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (570)، وانظر "الإِرواء" (481). (¬3) أخرجه البخاري: 1630. (¬4) أفادنيه شيخنا -رحمه الله- إجابةً عن بعض سؤالاتي.

إذا وقف في الطواف:

وقرأ فيهما: " {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} " (¬1). وينبغي أن لا يمرّ بين يدي المصلّي هناك، ولا يدع أحداً يمرُّ بين يديه وهو يصلّي؛ لعموم الأحاديث الناهية عن ذلك، وعدم ثبوت استثناء المسجد الحرام منها، بله مكة كلها! ثمّ إِذا فرغ من الصلاة؛ ذهَب إِلى زمزم فشرب منها، وصبَّ على رأسه، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ماء زمزم لما شرب له" (¬2). وقال: "إِنها مباركة، وهي طعام طُعْم، [وشفاء سُقْمٍ] " (¬3). وقال: "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم؛ فيه طعام من الطُّعم (¬4)، وشفاء من السقم" (¬5). ثمّ يرجع إِلى الحجر الأسود؛ فيكبّر ويستلمه على التفصيل المتقدّم. إِذا وقف في الطواف (¬6): قال عطاء فيمن يطوف، فتقام الصلاة أو يدفع عن مكانه: إِذا سلّم يرجع ¬

_ (¬1) انظر"صحيح مسلم" (1218). (¬2) حديث صحيح؛ كما قال جمع من الأئمة، وقد خرّجه شيخنا -رحمه الله- وتكلم على طُرقه في "الإِرواء" (1123)، وأحدها في "الصحيحة" (883). (¬3) حديث صحيح، رواه الطيالسي وغيره، وهو مخرج في "الصحيحة" تحت الحديث (1056) وغيرها. (¬4) أي: يشبع الإِنسان إِذا شرب ماءها، كما يشبع من الطعام. (النهاية). (¬5) أخرجه الضياء في "المختارة" وغيره، وهو مخرج في المصدر السابق (1056). (¬6) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الحج) (باب - 68).

السعي بين الصفا والمروة:

إِلى حيث قطع عليه فيبني (¬1). ويُذكر نحوه عن ابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهم- (¬2) السعي بين الصفا والمروة: ثمّ يعود أدراجه ليسعى بين الصفا والمروة. حُكْمه: اختلف العلماء في حُكم السعي بين الصفا والمروة: فمنهم من قال بركنيته، ومنهم قال بوجوبه، ومنهم من قال بسنّيته. والراجح -والله أعلم- الركنّية؛ لحديث عروة قال: "سألت عائشة -رضي الله عنها- فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: {إِنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما}؛ فوالله ما على أحدٍ جناح أن لا يطوف بالصّفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي! إِنّ هذه لو كانت كما أوّلتها عليه كانت لا جناح عليه أن لا يتطّوف بهما)! ولكنها أُنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يُهِلُّون لِمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلَّل، فكان من أهلّ يتحرّج أن يطوف بالصّفا والمروة، فلمّا أسلموا سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك؛ قالوا: يا رسول الله! إِنّا كنّا نتحرّج ¬

_ (¬1) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به، ووصله عبد الرزاق بسند صحيح عنه، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 386). (¬2) رواه البخاري معلّقاً، وجاء في "مختصر البخاري" (1/ 386): "وصله سعيد بن منصور عن جميل بن زيد عن ابن عمر نحوه، وجميل هذا ضعيف. ووصله عبد الرزاق بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي بكر".

أصل مشروعيته:

أن نطوف بين الصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى: {إِنّ الصفا والمروة من شعائر الله} الآية، قالت عائشة -رضي الله عنها-: وقد سنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطواف بينهما؛ فليس لأحدٍ أن يترك الطواف بينهما" (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطاف المسلمون؛ فكانت سُنّة، فلعمري ما أتمّ الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة" (¬2). وعن حبيبة بنت أبي تِجْرَأة قالت: "دخلتْ على دار أبي حسين نسوةٌ من قريش، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطوف بين الصفا والمروة وهو يسعى، يدور به إِزاره من شدة السعي، وهو يقول لأصحابه: اسعوا فإِن الله كتب عليكم السعي" (¬3). وسألت شيخنا -رحمه الله-: ماذا ترون حُكم السعي بين الصفا والمروة؟ فقال -رحمه الله-: "رُكن". أصل مشروعيته: قال ابن عباس: "أول ما اتخذ النساء المِنطَق (¬4) من قِبل أم إِسماعيل؛ اتخذت مِنطقاً لتُعفّي (¬5) أثرها على سارة، ثمّ جاء بها إِبراهيم وبابنها إِسماعيل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1643، ومسلم: 1277. (¬2) أخرجه مسلم: 1277. (¬3) أخرجه أحمد، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1072). (¬4) المِنْطَق: هو ما يشدّ به الوسط. (¬5) أي: لتُخفي، وانظر ما قاله الحافظ -رحمه الله- في شرح هذا الأمر.

-وهي تُرضعه- حتى وضعها عند البيت عند دوحة (¬1) فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جراباً (¬2) فيه تمر وسقاءً فيه ماء، ثمّ قفّى (¬3) إِبراهيم منطلقاً، فتبعته أمّ إِسماعيل فقالت: يا إِبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إِنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إِليها، فقالت له: آللهُ الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إِذن لا يُضيعنا، ثمّ رجعت. فانطلق إِبراهيم حتى إِذا كان عند الثّنيّة حيث لا يرونه؛ استقبل بوجهه البيت ثمّ دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: {ربنا إِني أسكنتُ من ذرّيّتي بوادٍ غير ذي زرع} حتى بلغ: {يشكرون}؛ وجعلت أمّ إِسماعيل ترضع إِسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إِذا نفد ما في السقاء؛ عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إِليه يتلوّى -أو قال: يتلبّط (¬4)؛ فانطلقت كراهية أن تنظر إِليه، فوجدت الصّفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثمّ استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً؟ فلم ترَ أحداً، فهبطت من الصفا، حتى إِذا بلغت الوادي؛ رفعت طرف دِرعها، ثمّ سعت سعي الإِنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثمّ أتت المروة فقامت عليها؛ فنظرت هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً، ¬

_ (¬1) الدوحة: الشجرة الكبيرة. (¬2) وعاء يحفظ فيه الزاد ونحوه. "الوسيط". (¬3) أي: ولّى راجعاً إِلى الشام. (¬4) أي: يتمرّغ ويضرب بنفسه الأرض ويقرب منها. ملاحظة: استفدت من "فتح الباري" في شرح غريب ألفاظ هذا الحديث.

هل يشرع الركوب في السعي؟

ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فذلك سعي النّاس بينهما" (¬1). هل يشرع الركوب في السعي؟ وما قيل في الركوب في الطواف؛ يقال في السعي بين الصفا والمروة؛ فإِنه يجوز لمرض أو حاجة. فعن جابر -رضي الله عنه- قال: "طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالبيت في حجة الوداع على راحلته، يستلم الحجر بمحجنه؛ لأن يراه الناس، وليشرف، وليسألوه؛ فإِنّ الناس غَشُوه" (¬2). وعن أبي الطفيل قال: "قلت لابن عباس -رضي الله عنهما-: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكباً؛ أسنّة هو؟ فإِنّ قومك يزعمون أنّه سُنّة! قال: صدقوا وكذبوا. قال: قلت: وما قولك: صدقوا وكذبوا؟! قال: إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثر عليه الناس، يقولون: هذا محمّد، هذا محمّد، حتى خرج العواتق (¬3) من البيوت، قال: وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يضرب النّاس بين يديه، فلمّا كثر عليه ركب؛ والمشي والسّعي أفضل" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3364. (¬2) أخرجه مسلم: 1273، وتقدّم. (¬3) العواتق: جمع عاتق، وهي البكر البالغة، أو المقاربة للبلوغ، وقيل: التي تتزوّج، سُمّيت بذلك لأنّها عتقت من استخدام أبويها وابتذالها في الخروج والتصرّف التي تفعله الطفلة الصغيرة. "شرح النووي". (¬4) أخرجه مسلم: 1264.

السعي بين الميلين:

السعي بين الميلين: يسنّ المشي بين الصفا والمروة؛ إِلا ما كان بين الميلين؛ فإِنّه يشتد سعيه. عن جابر -رضي الله عنه-: " .. حتى إِذا انصبّت (¬1) قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إِذا صَعِدتا (¬2) مشى" (¬3). عن أم ولد شيبة -رضي الله عنها- قالت: "رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول: لا يُقطع الأبطح (¬4) إِلا شدّاً" (¬5). الرُّقِيُّ على الصفا والمروة والدعاء عليهما مع استقبال البيت: عن جابر -رضي الله عنه- في حديثه الطويل: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمّا دنا من الصفا قرأ: {إِنّ الصفا والمروة من شعائر الله}، أَبَدأُ بما بدأ الله به، فبدأ بالصّفا فرقي عليه، حتّى رأى البيت فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبّره وقال: لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير، لا إِله إِلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثمّ دعا بين ¬

_ (¬1) أي: انحدرت في المسعى. "النهاية". (¬2) أي: ارتفعت قدماه عن بطن الوادي. "شرح النووي". (¬3) أخرجه مسلم: 1218. (¬4) الأبطح: المكان المتّسِع يمرّ به السيل فيترك فيه الرمل والحصى الصغار". "الوسيط". (¬5) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2419)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2789) وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (2437) وتقدّم دون ذِكر المناسبة.

ما يقوله الساعي بين الصفا والمروة:

ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثمّ نزل إِلى المروة .. حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصّفا" (¬1). ما يقوله الساعي بين الصفا والمروة: يسنّ للساعي بين الصفا والمروة أن يدعو الله -سبحانه وتعالى- ويذكره ويستغفره، ويقرأ القرآن الكريم. ويحرص في سعيه -كما يحرص في طوافه- على جوامع الدعاء، والمأثور عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلف الأُمّة. كما يحرص على التفقّه في آداب الدعاء؛ حتى لا يقع في المخالفات الشرعية. ولا بأس أن يدعو بما ثبت عن جمع من السلف، فيقول: "ربّ اغفر وارحم، إِنّك أنت الأعز الأكرم" (¬2). الموالاة في السعي: لا بُدّ من الموالاة في السعي؛ إِلا لعُذر أو استراحة ونحو ذلك. وما قيل في الموالاة في الطواف عند البيت؛ يقال في الطواف بين الصفا والمروة، والله -تعالى- أعلم. وسألت شيخنا -رحمه الله- عن ذلك! ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1218. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود وابن عمر -رضي الله عنهم- بإِسنادين صحيحين، وانظر "مناسك الحج والعمرة" (ص 27) وتقدّم.

فقال: "تجب الموالاة إلاَّ لعذر" (¬1). فإِذا دنا من الصفا؟ قرأ قوله تعالى: {إِنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما ومن تطوع خيراً فإِنّ الله شاكر عليم} ويقول: نبدأ بما بدأ الله به". ثمّ يبدأ بالصفا فيرتقي عليه حتى يرى الكعبة (¬2)، فيستقبل الكعبة، فيوحد الله ويكبره فيقول: الله أكبر؛ الله أكبر؛ الله أكبر، (ثلاثاً). لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كلّ شيء قدير. لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، أنجَز وعدَه، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، يقول ذلك ثلاث مرات. ويدعو بين ذلك. ثمّ ينزل ليسعى بين الصفا والمروة، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اسعوا؛ فإِن الله كتَب عليكم السعي" (¬3). فيمشي إِلى العلم (الموضوع) عن اليمين واليسار، ¬

_ (¬1) وما قاله شيخنا يشبه ما قاله شيخ الإِسلام -رحمهما الله تعالى- في وجوب الموالاة في الوضوء؛ فإِنه -رحمه الله- أوجبها إِلا من عُذر، وتقدّم في "كتاب الوضوء". (¬2) ليس من السهل الآن رؤية البيت إِلا في بعض الأماكن من الصفا؛ فإِنه يراه من خلال الأعمدة التي بني عليها الطابق الثاني من المسجد، فمن تيسر له ذلك فقد أصاب السنّة؛ وإلا فليجتهد ولا حرج. (¬3) وهو حديث صحيح، مخرّج في "الإِرواء" (1072).

وهو المعروف بالميل الأخضر، ثمّ يسعى منه سعياً شديداً (¬1) إِلى العلم الآخر الذي بعده، وكان في عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وادياً أبطح فيه دِقاق الحصا". وتقدّم الحديث في ذلك. ثمّ يمشي صُعُداً حتى يأتي المروة فيرتقي عليها، ويصنع فيها ما صَنع على ¬

_ (¬1) فائدة: جاء في "المغني" لابن قدامة المقدسي (3/ 394) ما نصه: "وطواف النساء وسعيهن مشي كلّه، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه لا رمل على النساء حول البيت، ولا بين الصفا والمروة، وليس عليهن اضطباع، وذلك لأن الأصل فيه إِظهار الجلد، ولا يقصد ذلك في حقّ النّساء؛ لأن النساء يقصد فيهن الستر، وفي الرمل والاضطباع تعرُّضٌ للكشف". وفي "المجموع" للنووي (8/ 75) ما يدل على أنّ المسألة خلافية عند الشافعية؛ فقد قال: "إِنّ فيها وجهين: الأول -وهو الصحيح، وبه قطع الجمهور-: أنها لا تسعى؛ بل تمشي جميع السافة ليلاً ونهاراً. والوجه الئاني: أنها إِن سعت في الليل حال خلو المسعى؛ استحب لها السعي في موضع السعي كالرجل". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله تعالى-]: ولعل هذا هو الأقرب؛ فإِن أصل مشروعية السعي إِنما هو سعي هاجر أم إِسماعيل تستغيث لابنها العطشان، كما في حديث ابن عباس: "فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إِذا بلغت الوادي؛ رفعت درعها ثمّ سعت سعي الإِنسان المجهود، حتى إِذا جاوزت الوادي، ثمّ أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فذلك سعي الناس بينهما". أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء).

الإهلال بالحج يوم التروية

الصفا؛ من استقبال القبلة، والتكبير، والتوحيد، والدعاء، وهذا شوط. ثمّ يعود حتى يرقى على الصفا، يمشي موضع مشْيه، ويسعى موضع سعْيه، وهذا شوط ثانٍ. ثمّ يعود إِلى المروة، وهكذا حتى يتم له سبعة أشواط نهاية آخرها على المروة. ويجوز أن يطوف بينهما راكباً، والمشي أعجب إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1). فإِذا انتهى من الشوط السابع على المروة؛ قصّ شعر رأسه (¬2)؛ وبذلك تنتهي العمرة، ويحلُّ له ما حرُم عليه بالإِحرام، ويمكث هكذا حلالاً إِلى يوم التروية. ومن كان أحرم بغير عمرة الحج، ولم يكن ساق الهدي من الحل؛ فعليه أن يتحلل؛ اتباعاً لأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واتقاءً لغضبه. وأمّا من ساق الهدي؛ فيظلّ في إِحرامه، ولا يتحلّل إِلا بعد الرمي يوم النحر. الإِهلال بالحج يوم التروية فإِذا كان يوم التروية -وهو اليوم الثامن من ذي الحجة- أحرم وأهلّ بالحج، فيفعل كما فعَل عند الإِحرام بالعمرة من الميقات؛ من الاغتسال، والتطيب، ولبُسْ الإِزار والرداء، والتلبية، ولا يقطعها إلاَّ عَقِب رمي جمرة العقبة. ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "مستخرجه على صحيح مسلم". (¬2) أو حلق إِذا كان بين عمرته وحجه فترة كافية يطول الشعر خلالها. "راجع "الفتح" (3/ 444) ".

التوجه إلى منى:

التوجه إِلى منى (¬1): يتوجه الحاج إِلى منى يوم التروية (¬2) ويصلّي فيها الظهر ويبيت فيها حتى يصلّي سائر الصلوات الخمس قصراً دون جمع. فإِنْ كانْ الحاجّ قارناً أو مفرداً؛ توجه إِليها بإِحرامه، وإن كان متمتعاً؛ أحرم بالحجّ، وفعل كما فعل عند الميقات. والسُّنّة أن يحرم من الموضع الذى هو فيه، حتى أهْل مكّة يحرمون من مكة. عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ... فمن كان دون ذلك فمِن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة" (¬3). ويُكْثِرُ الحاج من الدعاء والتلبية عند التوجُّه إِلى منى، ولا يخرج منها حتى تطلع شمس يوم التاسع؛ اقتداءً بالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الانطلاق إِلى عرفة: فإِذا طلعت شمس يوم عرفة؛ انطلق إِلى عرفة، وهو يُلبّي أو يُكبّر، كلَّ ذلك فعَل أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم معه في حَجّته، يُلبّي الملبّي فلا يُنكر عليه، ¬

_ (¬1) عن "فقه السّنّة" (1/ 716) بتصرّف. (¬2) سُمّي به لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بَعْدَه؛ أي: يَسقُون ويَسْتقون. "النهاية". (¬3) أخرجه البخاري: 1530، ومسلم: 1181.

ويكبر المكبر فلا يُنكر عليه. فعن محمد بن أبي بكر الثقفي: أنه سأل أنس بن مالك -وهما غاديان من منى إِلى عرفة-: كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: كان يُهلُّ منّا المُهلّ؛ فلا ينكر عليه، ويكبّرمنا المكبّر؛ فلا ينكر عليه" (¬1). ثمّ ينزل في نَمِرَةَ (¬2)، وهو مكان قريب من عرفات، وليس منها، ويظلّ بها إِلى ما قبل الزوال. فإِذا زالت الشمس؛ رحل إِلى عُرنة ونزل فيها، وهي قبيل عرفة، وفيها يخطب الإِمام الناس خطبة تناسب المقام. ثمّ يصلّي بالناس الظهر والعصر قصراً وجمعاً في وقت الظهر. عن ابن شهاب قال: "أخبرني سالم: أنّ الحجاج بن يوسف -عام نزل بابن الزبير -رضي الله عنهما- سأل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إِن كنت تُريد السُّنّة فهجّر بالصلاة يوم عرفة، فقال عبد الله بن عمر: صدق، إِنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السُّنّة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1659، ومسلم: 1285. (¬2) هذا النزول والذى بعده قد يتعذر اليوم تحقيقه لشدة الزحام، فإِذا جاوزهما إِلى عرفة؛ فلا حرج إِن شاء الله. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (26/ 168): "وأمّا ما تضمّنته سُنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المقام بمنى يوم التروية، والمبيت بها الليلة التي قبل يوم عرفة، ثمّ المقام بـ "عُرَنة" -التي بين المشعر الحرام وعرفة- إِلى الزوال، والذهاب منها إِلى عرفة، والخطبة والصلاتين في أثناء الطريق ببطن عرنة؛ فهذا كالمُجمع عليه بين الفقهاء، وإن كان كثير من المصنّفين لا يميزه، وأكثر الناس لا يعرفه لغلبة العادات المُحدثة".

الوقوف بعرفة:

فقلت لسالم: أفعل ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال سالم: وهل يتبعون بذلك إِلا سنته؟! " (¬1). عن حارثة بن وهب الخُزاعي -رضي الله عنه- قال: "صلّيت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى -والناس أكثر ما كانوا-؛ فصلّى بنا ركعتين في حجة الوداع. قال أبو داود: حارثة من خزاعة ودارهم بمكة" (¬2). ويؤذن لهما أذاناً واحداً وإقامتين. ولا يُصلّي بينهما شيئاً (¬3). ومن لم يتيسر له صلاتهما مع الإِمام؛ فليصلّهما كذلك وحده، أو مع من حوله من أمثاله (¬4). الوقوف بعرفة: ثمّ ينطلق إِلى عرفة، فيقف عند الصخرات عند أسفل جبل الرحمة، إِن تيسّر له ذلك؛ وإلا فعرفة كلّها موقف. عن جابر -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " .. ووقفت هاهنا وعرفة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1662. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1728). (¬3) قال شيخنا -رحمه الله-: "وكذلك لم ينقل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه تطوع قبل الظهر وبعد العصر هنا وفي سائر أسفاره؛ ولم يثبت أنّه صلّى شيئاً من الرواتب فيها؛ إِلا سنتي الفجر والوتر". (¬4) رواه البخاري عن ابن عمر تعليقاً.

كلّها موقف، ووقفت هاهنا وجَمْعٌ كلها موقف" (¬1). وعن يزيد بن شيبان قال: "أتانا ابن مربع الأنصاري ونحن بعرفة -في مكان يباعده عمرو عن الإِمام- فقال: أما إِني رسولُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِليكم، يقول لكم: قفوا على مشاعركم؛ فإِنكم على إِرثٍ من أرث أبيكم إِبراهيم" (¬2). ويقف مستقبلاً القبلة، رافعاً يديه يدعو ويُلبي. عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: "كنت رديف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات، فرَفَع يديه يدعو" (¬3). وفي حديث جابر -رضي الله عنه-: "واستقبل القبلة" (¬4). ويكثر فيها من التهليل؛ فإِنّه خير الدعاء يوم عرفة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل ما قلت أنا والنبيون عشية عرفة: لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1218. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1688)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (700)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2438)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2820)، وجوّد شيخنا -رحمه الله- إسناده في "المشكاة" (2595). وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- كما في "الاختيارات" (ص 118): "ولا يشرع صعود جبل الرحمة إِجماعاً". (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2817). (¬4) أخرجه مسلم: 1218. (¬5) حديث حسن أو صحيح، له طرق خرّجها شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (1503).

إفطار الحاج يوم عرفة:

وعن عبد الله بن عمروٍ أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" (¬1). وإِن زاد في التلبية أحياناً: "إِنما الخير خير الآخرة"؛ جاز (¬2). إِفطار الحاج يوم عرفة: عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يوم عرفة (¬3) ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإِسلام، وهي أيام أكْل وشُرب" (¬4). ويفطر الحاجّ هذا اليوم؛ لأنّه أقوى له على أداء النّسك، ولأنّه هو الثابت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِن فِعله في حجّة الوداع (¬5). وتقدّم في "كتاب الصيام" (3/ 257) حديث ميمونة في "الصحيحين": أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرب من حلاب لبن يوم عرفة. ولا يزال هكذا ذاكراً ملبياً داعياً بما شاء، راجياً من الله -تعالى- أن يجعله من عتقائه الذين يباهي بهم الملائكة، كما سيأتي -إِن شاء الله تعالى-. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2837)، وانظر "المشكاة" (2598). (¬2) لثبوت ذلك عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما هو مبيّن في "حجة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" لشيخنا -رحمه الله-. (¬3) وقد ورد صيام يوم عرفة لغير الحاج؛ كما تقدّم في "كتاب الصيام". (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2114)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (620)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2810)، وانظر "الإِرواء" (4/ 130). (¬5) قاله شيخنا -رحمه الله- تحت الحديث (404) من "الضعيفة" بتصرّف يسير.

فضل يوم عرفة:

فضل يوم عرفة: عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النّار من يوم عرفة، وإِنه ليدنو ثمّ يباهي بهم الملائكة؛ فيقول: ما أراد هؤلاء؟! " (¬1). وفي زيادة: "اشهدوا ملائكتي! أني قد غفرت لهم" (¬2). عن أنس بن مالك قال: "وقف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ (عرفات)؛ وقد كادت الشمس أن تؤوب، فقال: يا بلال! أنصت لي الناس. فقام بلال، فقال: أنصتوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأنصت الناس، فقال: معاشر الناس! أتاني جبرائيل آنفاً، فأقرأني من ربي السلام، وقال: إِنّ الله -عزّ وجلّ- غفر لأهل عرفات، وأهل المشعر، وضمن عنهم التبعات. فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله! هذا لنا خاصة؟ قال: هذا لكم، ولمن أتى من بعدكم إِلى يوم القيامة. فقال عمر بن الخطاب: كثر خير الله وطاب! " (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنّ الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إِلى عبادي؛ جاءوني شُعْثاً (¬4) ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1348. (¬2) انظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1154). (¬3) صحيح لغيره؛ كما في "صحيح الترغيب والترهيب" (1151). (¬4) أي: متغيّري الأبدان والشعور والملابس، لقلة تعهدّهم بالادهان والإِصلاح. والشعث: الوسخ في بدن أو شعر. "فيض القدير". وتقدّم.

الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم:

غُبْراً (¬1) " (¬2) وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "إِنّ الله -عزّ وجلّ- يباهي ملائكته عَشيَّة عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إِلى عبادي شُعثاً غُبراً" (¬3). وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- الطويل: " .. فإِذا وقف بـ (عرفة)؛ فإِنّ الله -عزّ وجلّ- ينزل إِلى سماء الدنيا فيقول: انظروا إِلى عبادي شُعثاً غبراً، اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم، وإِن كانت عدد قطر السماء ورمل عالج (¬4) " (¬5). الوقوف بعرفة رُكن الحجِّ الأعظم: عن عبد الرحمن بن يعمر الدَّيْلي قال: "أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بعرفة، فجاء ناس -أو نفر- من أهل نجد، فأمروا رجلاً فنادى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف ¬

_ (¬1) أي: من غير استحداد ولا تنظُّف؛ قد رَكبهم غبار الطريق. "فيض القدير" أيضاً، وتقدّم. (¬2) أخرجه أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وقال: "صحيح على شرطهما"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1152). (¬3) رواه أحمد والطبراني في "الكبير" و"الصغير" وإسناد أحمد لا بأس به، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1153). (¬4) هو ما تراكم من الرمل، ودخَل بعضه في بعض. "النهاية". (¬5) أخرجه البزار، والطبراني، وابن حبان في "صحيحه"، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1155).

الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة:

الحج؟ فأمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[رجلاً] فنادى: الحجّ الحجُّ، يوم عرفة، من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع؛ فتمّ حجة، أيام منى ثلاثة، {فمن تعجل في يومين فلا إِثم عليه ومن تأخر فلا إِثم عليه} قال: ثمّ أردف رجلاً خلفه فجعل ينادي بذلك" (¬1). الإِفاضة من عرفات إِلى المزدلفة: ويبقى حتى غروب الشمس كما في حديث جابر: "فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرصُ" (¬2). فإِذا غربت الشمس؛ أفاض من عرفات إِلى المزدلفة وعليه السكينة والهدوء، لا يزاحم الناس بنفسه أو دابته أو سيارته، فإِذا وجد خلوة أسرع. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّه دفع مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة، فسمع النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وراءه زجراً شديداً وضرباً وصوتاً للإِبل، فأشار بسوطه إِليهم وقال: أيها الناس! عليكم بالسكينة؛ فإِن البر ليس بالإِيضاع (¬3) " (¬4). عن عروة قال: سئل أسامة وأنا جالس: كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسير في ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1717)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (705)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2441)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2822)، وانظر "الإِرواء" (1064). (¬2) أخرجه مسلم: 1218. (¬3) الإِيضاع: الإِسراع. وقال البخاري -رحمه الله-: {أوضعوا}: أسرعوا. (¬4) أخرجه البخاري: 1671.

حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العَنق (¬1)، فإِذا وجد فجوة نصّ (¬2) " (¬3). ثمّ يأخذ الطريق الوسطى التي تخرجه على الجمرة الكبرى. فإِذا وصَلها؛ أذَّن وأقام وصلّى المغرب ثلاثاً، ثمّ أقام وصلّى العشاء قصراً، وجمَع بينهما. عن جابر -رضي الله عنه-: أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد وإقامتين، ولم يُسّبح (¬4) بينهما شيئاً" (¬5). وإن فصَل بينهما لحاجة لم يضرّه ذلك (¬6). ولا يصلّي بينهما ولا بعد العشاء شيئاً (¬7). ¬

_ (¬1) العَنق -بفتح المهملة والنون-: هو السير الذي بين الإِبطاء والإِسراع. قال في "المشارق": هو سير سهل في سرعة. وقال القزاز: العَنَق: سير سريع. وقيل: المشي الذى يتحرك به عنق الدابة. وفي "الفاءق": العنق: الخطو الفسيح. "فتح". (¬2) نصّ؛ أي: أسرع. قال أبو عبيد: النص: تحريك الدابة حتى يستخرج به أقصى ما عندها، وأصل النص: غاية المشي ومنه نصصت الشيء: رفعته، ثمّ استعمل في ضرب سريع من السير. "الفتح" أيضاً. (¬3) أخرجه البخاري؛ 1666، ومسلم: 1286. (¬4) أي: لم يصلِّ النافلة. (¬5) أخرجه مسلم [في حديث جابر الطويل]: 1218، وتقدّم. (¬6) قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "لثبوت ذلك عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه في "صحيح البخاري" (25/ 94/801) -، من "مختصر البخاري". (¬7) قال شيخ الإِسلام: "فإِذا وصل المزدلفة؛ صلّى المغرب قبل تبريك الجمال إِن أمكن، ثمّ إِذا برّكوها صلّوا العشاء، وإنْ أخّر العشاء لم يضّره ذلك".

المبيت بالمزدلفة وصلاة الفجر فيها:

ثمّ ينام حتى الفجر. فإِذا تبيّن له الفجر؛ صلّى في أوّل وقته بأذان وإِقامة. المبيت بالمزدلفة وصلاة الفجر فيها: ولا بُدّ من صلاة الفجر في المزدلفة لجميع الحجاج؛ إِلا الضعفَة والنساء؛ فإِنّه يجوز لهم أن ينطلقوا منها بعد نصف الليل؛ خشية حَطَمة الناس. "والسّنّة أن يبت بمزدلفة إِلى أن يطلع الفجر، فيصلّي بها الفجر في أوّل الوقت، ثمّ يقف بالمشعر الحرام إِلى أن يسفر جدّاً قبل طلوع الشمس، فإِن كان من الضعفة كالنساء والصبيان ونحوهم -فإِنّه يتعجل من مزدلفة إِلى منى إِذا غاب القمر، ولا ينبغي (¬1) لأهل القوة أن يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع الفجر، فيصلّوا بها الفجر، ويقفوا بها، ومزدلفة كلها موقف، لكن الوقوف عند قزح أفضل، وهو جبل الميقدة، وهو المكان الذي يقف فيه الناس اليوم، وقد بني عليه بناءٌ، وهو المكان الذي يخصه كثير من الفقهاء باسم المشعر الحرام" (¬2). أجابنا شيخنا -رحمه الله- عن حدّ المبيت في المزدلفة قائلاً: "المبيت: هو كما فعَلَه الرسول -عليه السلام- الأمر واضح جدّاً ... حَجَّةُ الرسول -عليه السلام- معلومة تماماً، حتى أفاض من عرفات عندما غربت الشمس، فيجب على الجميع أن ينطلقوا من عرفات حينما يرون ¬

_ (¬1) قلت: ولا يخفى مدلول كلمة (لا ينبغي)، قال الله تعالى: {وما علّمناه الشعر وما ينبغي له}. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ينبغي لمؤمن أن يُذّل نفسه ... ". (¬2) "مجموع الفتاوى" (26/ 135).

الشمس قد غربت، هنا قد تختلف الظروف كما يقع في كثير من الأحيان في الازدحام؛ قد لا يَصِلون إِلا مع الفجر مثلاً، وقد يصلون بربع ساعة أو نصف ساعة حسبما يتيّسر، إِذاً فبمجرّد وصول من أفاض من عرفات إِلى مزدلفة يبدأ وقت المبيت، ومبيت الليلة يعني يشمل الليل، فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماذا فعَل الليل كله؟ ... وقد يقول القائل: البيات بعد نصف الليل! نقول له أولاً: هذا مخالف لفعل الرسول -عليه السلام- الذي نعتبره بياناً لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لتأخذوا مناسككم" هذا أولاً. ثانياً: اللغة لا تساعد على هذا التعديل، لأنَّ بات يبدأ من بعد الغروب، إِذاً يبقى من حيث اللغة البيات على عمومه؛ والسُّنّة العملية تؤيده أو تقيّده ... ". ومزدلفة كلها موقف، فحيثما وقف فيها جاز. ثمّ ينطلق قبل طلوع الشمس إِلى منى؛ وعليه السكينة وهو يلبي. فإِذا أتى بطن مُحَسِّر؛ أسرع السير إِذا أمكنه، وهو من منى. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ارفعوا عن بطن مُحسِّر، وعليكم بمثل حصى الخَذَف " (¬1). وعن علي -رضي الله عنه- قال: "لما أصبح النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وقف على قُزَح فقال: هذا قُزَح وهو الموقف، وجمْعٌ كلها موقف" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "الصحيحة" (1534). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1705)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (702).

حكم ذلك:

حُكم ذلك: وأريد أن أفرّق بين حُكم المبيت بالمزدلفة -وهو واجب على الراجح من أقوال العلماء؛ ومن العلماء من يرى الركنية-؛ وبين حُكم صلاة الفجر -والذي نحن بصدده-. فأقول -وبالله تعالى أستعين-: جاء في "زاد المعاد" (2/ 253) في ذِكر من يرى ركنية المبيت في المزدلفة: " .. وهو مذهب اثنين من الصحابة، ابن عباس، وابن الزبير -رضي الله عنهم-. وإِليه ذهب إِبراهيم النّخعي، والشعبي، وعلقمة، والحسن البصري، وهو مذهب الأوزاعي، وحماد بن أبي سليمان (¬1)، وداود الظاهري، وأبي عُبيد القاسم بن سلاّم، واختاره المحمّدان: ابن جرير وابن خزيمة، وهو أحد الوجوه للشافعية (¬2). انتهى. وكذا ابن العربي المالكي (¬3). ويرى ابن حزم -رحمه الله- ركنية صلاة الفجر. وقال لي شيخنا -رحمه الله- في بعض الإِجابات: "نحن لا نقول بركنية المبيت، نحن نقول بركنية صلاة الفجر ووجوب ¬

_ (¬1) وذكر الحافظ ابن العربي المالكي -رحمه الله-: الثورىَّ في "عارضة الأحوذي" (4/ 118). (¬2) منهم القفّال. قاله ابن كثير -رحمه الله- في تفسير سورة البقرة الآية (198). (¬3) انظر "عارضة الأحوذي" (4/ 118).

المبيت، يجب التفريق بين الأمرين، والحديث الواضح الصريح: أنّه مَن صلّى صلاتنا هذه" معنا في جمع، وكان قد وقف على عرفة ساعةً من الليل أو النهار؛ فقد تمّ حجُّه وقضى تَفَثَهُ" (¬1). فجعل صلاة الصبح في مزدلفة والوقوف في عرفة أوّلاً شيئاً واحداً؛ ثمّ رتَّب على مجموع الأمرين بأنّه قد تمّ حَجُّهُ. ومعنى ذلك: أنّه إِذا أخلّ بأحد الأمرين المذكورين في هذا الحديث الصحيح؛ فحجّه لم يتمّ". انتهى. أقول: صلاة الفجر في المزدلفة لغير النساء والضعفة رُكن على الراجح، والله أعلم، وذلك لقول الله تعالى: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} ولقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لتأخذوا مناسككم" (¬2). ولحديث عروة بن مضرِّس -رضي الله عنه- قال: "أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالموقف -يعني: الجمع- قلت: يا رسول الله! من جبل طَيءٍ، أكللت مَطِيَّتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من حَبْل (¬3) إِلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو ¬

_ (¬1) ذكر شيخنا -رحمه الله- حديث عروة بن المضرِّس بمعناه، وسيأتي في الصفحة الآتية إِن شاء الله تعالى. (¬2) تقدّم تخريجه. (¬3) حَبل: المستطيل من الرمل، وقيل: الضخم منه. وقيل: الحبال في الرمل؛ كالجبال في غير الرمل". "النهاية". وفي بعض النسخ (جبل) بالجيم.

نهاراً؛ فقد تمّ حجُّه، وقضى تفَثه (¬1) " (¬2). وفي لفظ: "من أدرك جمْعاً مع الإِمام والناس حتى يُفيض منها؛ فقد أدرك الحج، ومن لم يُدرك مع الناس والإِمام؛ فلم يُدرك" (¬3). قال ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (2/ 253) -بعد حديث عروة بن المضرّس -رضي الله عنه-: "وبهذا احتجّ من ذهب إِلى أنّ الوقوف بمزدلفة والمبيت بها ركن كعرفة ... " ثمّ ذكر من يرى هذا من الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم، وقال: ولهم ثلاث حجج، هذه إحداها. والثانية: قوله تعالى: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} (¬4). والثالثة: فِعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي خرَج مخرج البيان لهذا الذّكر المأمور به. حُجج من يرد على الركنية: *1 - احتج بعضهم بقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الحج عرفة". ويرد عليهم: ¬

_ (¬1) التفَث: هو ما يفعله المحرم بالحج إِذا حلّ؛ كقص الشارب، والأظفار، ونتْف الإِبط، وحلق العانة. وقيل: هو إِذهاب الشعَث والدَّرَن والوسخ مطلقاً. "النهاية". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1718)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (707)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2442)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2845). (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2846). (¬4) البقرة: 198.

أ- أنّ عندهم فرائض يبطل الحجّ بتركها سوى عرفة؛ كترك الإِحرام، وترك طواف الإِفاضة، وترك الصفا والمروة. ب- ليس قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الحج عرفة" بمانع من أن يكون غيرُ عرفة الحجَّ أيضاً، إِذا جاء بذلك نصّ، وقد قال تعالى: {ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إِليه سبيلاً} (¬1)؛ والبيت غير عرفة بلا شكّ. .. وقد قال تعالى: {وأذان من الله ورسوله إِلى الناس يوم الحج الأكبر} (¬2). وأخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ يوم الحج الأكبر هو يوم النحر؛ ولا يكون يوم الحج الأكبر إِلا وغيره يوم الحج الأصغر، ومحال ممتنع أن يكون هو يوم الحج الأكبر ولا يكون فيه من فرائض الحج شيء، ويكون فرض الحج في غيره. فصحّ أن جملة فرائض الحج الأكبر، وهي الوقوف بمزدلفة الذي لا يكون في غيره، ورمي الجمرة، والإفاضة؛ وقد يكونان فيما بعده كما عرفة فيما قبله* (¬3). وذكر ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (7/ 170) بإِسناده إِلى ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّه قال: "من أفاض من عرفة؛ فلا حجّ له". وقال (ص 171): "وقد ذكرنا عن ابن الزبير أنّه كان يقول في خطبته: ألا ¬

_ (¬1) آل عمران: 97. (¬2) التوبة: 3. (¬3) ما بين نجمتين من "المحلّى" (7/ 169) بتصرّف.

لا صلاة إِلا بجمع! فإِذا أبطل الصلاة إِلا بمزدلفة؛ فقد جعَلها من فرائض الحج. ومن طريق شعبة عن داود بن يزيد الأزدي عن أبي الضحى قال: سألت علقمة عمن لم يدرك عرفات أو جمعاً أو وقع بأهله يوم النحر قبل أن يزور؟ فقال: عليه الحج. ومن طريق شعبة عن المغيرة بن مقسم عن إِبراهيم النخعي قال: كان يقال: من فاته جمع أو عرفة؛ فقد فاته الحج. ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي قال: من فاته عرفة أو جمع أو جامع قبل أن يزور؛ فقد فسد حجه. ومن طريق سفيان الثوري أيضاً عن عبد الله بن أبي السَّفَرِ عن الشعبي أنه قال: من فاته جمع؛ جعلها عمرة. وعن الحسن البصري: من لم يقف بجمع؛ لا حجّ له. وعن حمّاد بن أبي سليمان قال: من فاته الإِفاضة من جمع؛ فقد فاته الحج؛ فليحلّ بعمرة ثمّ ليحج من قابل. ومن طريق شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: يوم الحج الأكبر هو يوم النحر، ألا ترى أنه إِذا فاته عرفة لم يفته الحج، وإذا فاته يوم النحر فاته الحج؟! قال أبو محمد: صدق سعيد؛ لأنّ من فاتته عرفة يوم عرفة؛ لم يفته الحج؛ لأنّه يقف بعرفة ليلة النحر يوم النحر؛ وأمّا يوم النحر فإِنما سماه الله تعالى:

{يوم الحج الأكبر} (¬1)؛ لأنّ فيه فرائض ثلاثاً من فرائض الحج، وهو الوقوف بمزدلفة لا يكون جازئاً إِلا غداة يوم النحر، وجمرة العقبة وطواف الإِفاضة؛ ويجوز تأخيره؛ فصح أن مزدلفة أشد فروض الحج تأكيداً وأضيقها وقتاً؛ وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا. 2 - واحتجّ بعضهم بأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مدّ وقت الوقوف بعرفة إِلى طلوع الفجر، وهذا يقتضي أنّ من وقف بعرفة قبل طلوع الفجر بأيسر زمان صحّ حجّه، ولو كان الوقوف بمزدلفة ركناً؛ لم يصحّ حجّه (¬2). قال ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (2/ 254): "وأمّا توقيت الوقوف بعرفة إِلى الفجر؛ فلا ينافي أن يكون المبيت بمزدلفة رُكناً، وتكون تلك الليلة وقتاً لهما كوقت المجموعتين من الصلوات (¬3)، وتضييق الوقت لأحدهما لا يُخرجه عن أن يكون وقتاً لهما حال القدرة". 3 - واحتجّ بعضهم بأنّه لو كان ركناً لاشترك فيه الرجال والنّساء، فلمّا قدَّم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النساء بالليل؛ عُلم أنه ليس بركن! فأقول: ¬

_ (¬1) التوبة: 3. (¬2) قلت: وإذا قلنا بركنية صلاة الفجر دون ركنية المبيت لأهل القوّة؛ في حال يضيق عليه الوقت؛ فإِنه يتمكن من الجمع بين الوقوف في عرفة قبل الفجر وشهود صلاة الفجر بالمزدلفة. وتأمّل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الحج عرفة، فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمْع؛ فقد تمّ حجّه". أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1717)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2822)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (705)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2441)، وانظر "الإِرواء" (1064). (¬3) يعني: كوقت آخر الظهر وأول العصر مثلاً.

أ- قال ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (2/ 254): "وفي [هذا] نظر؛ فإِنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنما قدّمهنّ بعد المبيت بمزدلفة، وذكر الله تعالى بها لصلاة عشاء الآخرة؛ والواجب هو ذلك". ب- إِنما يكون الأمر بحسب القدرة؛ فعند الضعف يكون التخفيف أو رفع التكليف، فالقيام في الصلاة من أركانها؛ كما في قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} (¬1). وفي الحديث: "صلِّ قائماً، فإِن لم تستطِع فقاعداً ... " (¬2). *4 - وأجابوا .. عن حديث عروة: بأنّ الإِتمام يكون على وجوه: تارة يكون إِتماماً لا يصح الشيء إِلا به، وتارة يكون إِتماماً يصح الشيء بدونه مع التحريم، وتارة يكون إِتماماً يصح الشيء به مع نفي التحريم، والمراد بالإِتمام في حديث عروة بالنسبة للمزدلفة: إِتمام الواجب الذي تصح العبادة بدونه، وهذا هو رأي الجمهور* (¬3). فأقول: 1 - ما هو الدليل على هذا الاختيار في تفسير مدلول الإِتمام؛ فإِن هذا يتقرّر من خلال مجموع أفراد المسائل الأُخرى! وقد بيّنت الردّ عليها. 2 - إِن النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكر كلّ أعمال الحج حتى يقال هذا القول فإِنّه لم ¬

_ (¬1) البقرة: 238. (¬2) تقدّم تخريجه. (¬3) ما بين نجمتين عن كتاب "الشرح الممتع" (7/ 415) للشيخ الوالد محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-.

يذكر إِلا شهود صلاة الفجر والوقوف بعرفة، فبهما يتمّ الحج ويُقضى التفث، والحاج مُعرَّض للتمام الذي يصحّ الحج به؛ سواءً أكان مع التحريم أو بدونه؛ بالأعمال التي تأتي بعد هذه العبارة. ج- إِنّ الله -تعالى- قد أوجب على الرجال أموراً لم يوجبها على النساء؛ كصلاة الجمعة والجماعة ... فإِن قالوا: لكن هناك البدل والمبدل منه. قلنا: فالجهاد؟! وما الدليل على البدل والمبدل منه؟ فهذه أمور تُستقرأ من النصوص ولا تُؤصّل. والحاصل أنّ هناك أموراً يسقط وجوبها بالكلية، وهناك من الأمور ما يكون فيه البدل منه. أقول: إِنّ تقديم ما فيه الاختيار للركنية (¬1) وبراءة الذّمة أولى. جاء في كتاب "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار" للحازمي -رحمه الله- (ص 37): "الوجه الرابع والأربعون في ترجيح أحد الحديثين على الآخر: أن يكون في أحدهما احتياط للفرض وبراءة الذمة بيقين، ولا يكون في الآخر ذلك؛ فتقديم ما فيه الاحتياط للفرض وبراءة الذمة بيقين أولى (¬2). ¬

_ (¬1) أمّا مَن ترجح لديه الوجوب دون الركنية من خلال بحثه الموضوعي بتجرّد؛ فله عدم الأخذ بهذا الاحتياط. وعلى أي حال: فثمرة هذا الحكم يتعلّق بأهل القوّة، فينبغي التأني في إِطلاق القول بالوجوب ارتجالاً. (¬2) وتقدّم.

فضل الوقوف في المشعر الحرام:

ولا يجوز لنا أن نخرج عن موضوعية البحث العلمي، أو أن يُفضي الأمر بنا إِلى الخصومة والعداء؛ فإِنّ المراد هو وجه الله -تعالى- عند القائلين بأيّ رأيٍ من الرأيَيْن، وهو بين الأجر والأجرين، فلا يجوز أن نتخطّى دائرة الأجر والأجرين إِلى الإِثم، أو ما يبلغنا إِليه! ونسأل الله الهدى والسداد. ثمّ يأتي المشعر الحرام (وهو جبل في المزدلفة)، فيرقى عليه ويستقبل القبلة، فيحمد الله ويكبّره ويهلّله ويوحّده ويدعو، ولا يزال كذلك حتى يُسفر (¬1) جدّاً. عن جابر -رضي الله عنه- في حديثه الطويل: "أتى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يُسبح بينهما شيئاً، ثمّ اضطجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى طلع الفجر، وصلّى الفجر حين تبيّن له الصبح بأذان وإِقامة، ثمّ ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام (¬2)، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبّره وهلله ووحدّه، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جدّاً، فدفع قبل أن تطلع الشمس" (¬3). فضل الوقوف في المشعر الحرام: روى ابن المبارك عن سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال: "وقف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ (عرفات) وقد كادت الشمس أن تؤوب؛ فقال: يا بلال! أنصت لي الناس، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنصت الناس ¬

_ (¬1) الإِسفار: إِضاءة الفجر إِضاءة تامّة. (¬2) جبل معروف في المزدلفة. (¬3) أخرجه مسلم: 1218، وتقدّم.

هل التحصيب سنة؟

فقال: معاشر الناس. أتاني جبرائيل آنفاً، فأقرأني من ربي السلام، وقال: إِنّ الله -عزّ وجلّ- غفر لأهل عرفات، وأهل المشعر، وضمن عنهم التبعات. فقام عمر ابن الخطاب فقال: يا رسول الله! هذا لنا خاصة؟ قال: هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إِلى يوم القيامة. فقال عمر بن الخطاب: كثُر خير الله وطاب" (¬1)! هل التحصِيب (¬2) سُنّة؟ عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "من السّنّة النزول بـ (الأبطح) (¬3) عشية النَّفْر" (¬4). قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (2675): ولقد بادرت إِلى تخريج هذا الحديث فور حصولي على نسخة مصوّرة من "المعجم الأوسط" لعزّته، وقلّة من أورده من المخرجين وغيرهم، ولكونه شاهداً قوياً لما ¬

_ (¬1) انظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1151)، وتقدّم. (¬2) التحصيب: النزول بـ (المحصَّب) وهو الشعب الذي مخرجه إِلى الأبطح بين مكة ومنى. وهو أيضاً (خيف بني كنانة). قاله شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة". وقال الخطابي -رحمه الله-: التحصيب: هو أنّه إذا نفَر من منى إِلى مكة للتوديع؛ يقيم بالمحصّب حتى يهجع به ساعة ثم يدخل مكّة. "عمدة القارئ" (10/ 100). وقال النووي -رحمه الله-: والمحصّب والحصْبة والأبطح والبطحاء وخَيْف بني كنانة اسم لشيء واحد. (¬3) الأبطح: يعني أبطح مكّة، وهو مسيل واديها، ويجمع على البطاح والأباطح، ومنه قيل: قريش البطاح، هم الذين ينزلون أباطح مكّة وبطحاءها. "النهاية". (¬4) أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"، وانظر "الصحيحة" (2675).

رواه مسلم (4/ 85) عن نافع أنّ ابن عمر كان يرى التحصيب سنّة. فكأنّ ابن عمر تلقّى ذلك من أبيه -رضي الله عنهما- فتقوّى رأيه بهذا الشاهد الصحيح عن عمر. وليس بخافٍ على أهل العلم أنّه أقوى في الدلالة على شرعية التحصيب من رأي ابنه؛ لما عُرف عن هذا من توسّعه في الاتباع له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى في الأمور التي وقعت منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتفاقاً لا قصداً، والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد ذكر بعضها المنذري في أول "ترغيبه" بخلاف أبيه عمر كما يدلّ على ذلك نهيه عن اتباع الآثار، فإِذا هو جزم أنّ التحصيب سنّة؛ اطمأن القلب إِلى أنه يعني أنّها سنّة مقصودة أكثر من قول ابنه بذلك، لا سيّما ويؤيّده ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة قال: قال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن بمنى: "نحن نازلون غداً بخيفٍ بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر". وذلك أنّ قريشاً وبني كنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلّموا إِليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. يعني بذلك التحصيب. والسياق لمسلم. قال ابن القيم في "زاد المعاد": "فقصد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِظهار شعائر الإِسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر، والعداوة لله ورسوله. وهذه كانت عادته -صلوات الله وسلامه عليه-: أن يقيم شعار التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك كما أمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبني مسجد الطائف موضع اللات والعزّى". وأما ما رواه مسلم عن عائشة أنّ نزول الأبطح ليس بسنّة، وعن ابن عباس

أنّه ليس بشيء (¬1)، فقد أجاب عنه المحقّقون بجوابين: الأول: أنّ المثبت مقدّم على النافي. والآخر: أنّه لا منافاة بينهما، وذلك أنّ النافي أراد أنّه ليس من المناسك فلا يلزم بتركه شيء، والمثبت أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا الإِلزام بذلك، قال الحافظ عقبه (3/ 471): "ويستحب أن يصلّي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت به بعض الليل كما دلّ عليه حديث أنس وابن عمر". قلت -أي: شيخنا رحمه الله-: وهما في "مختصري لصحيح البخاري" (كتاب الحج/83 - باب و 148 - باب). انتهى. وجاء في "الفتح" (3/ 591): "وروى مسلم وأبو داود وغيرهما من طريق سليمان بن يسار. عن أبي رافع قال: "لم يأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكن جئت فضربْتُ قبته فجاء فنزل". لكن لما نزله النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان النزول به مستحباً اتباعاً له لتقريره على ذلك، وقد فعَله الخلفاء بعده كما رواه مسلم من طريق عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر ينزلون الأبطح"، وسيأتي للمصنف في الباب الذي يليه (¬2) لكن ليس فيه ذكر أبي بكر، ومن طريق أخرى عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى التحصيب سنّة، قال ¬

_ (¬1) أي: ليس بنُسك من مناسك الحجّ كما قال عدد من العلماء. (¬2) أي: باب 148 - باب النزول بذي طوُى والنزول بالبطحاء ...

الرمي

نافع: "وقد حصب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده". فالحاصل أن من نفى أنّه سنّة كعائشة وابن عباس أراد أنّه ليس من المناسك فلا يلزم بتركه شيء. ومن أثبته كابن عمر أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لا الإِلزام بذلك، ويستحب أن يصلّي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت به بعض الليل؛ كما دل عليه حديث أنس، ويأتي نحوه من حديث ابن عمر في الباب الذي يليه. ويأتي زمزم، فيشرب منها. فائدة: سألت شيخنا -رحمه الله- عن النزول في المُحصب حين ينفر الحاج من منى إِلى مكة؟ فقال -رحمه الله-: "مسألة خلافية بين الصحابة -رضي الله عنهم- منهم من رآها سنة، ومنهم من لم يرها". قلت: وما تقدّم في "السلسلة" زيادة بيان وفائدة. الرمي مشروعيته: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- رفعه إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لما أتى إِبراهيم خليل الله المناسك؛ عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثمّ عرض له عند الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات

وجوبه:

حتى ساخ في الأرض، ثمّ عرض له عند الجمرة الثالثة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض. قال ابن عباس: الشيطان ترجمون، وملة أبيكم إِبراهيم تتبعون" (¬1). وسألت شيخنا -رحمه الله- عن قصّة ظهور الشيطان لصرف إِبراهيم -عليه الصلاة والسلام- قبل الاطلاع على تصحيحه. فأجاب: نعم، لكن ليس هناك شيطان قابع ليرميَه الحُجَّاج، ولكنه تذكير بتلك الحادثة الجليلة". وجوبه: عن جابر بن عبد الله -رضي لله عنه- قال: رأيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: لتأخذوا مناسككم؛ فإِني لا أدري لعلي لا أحجُّ بعد حَجّتي هذه" (¬2). وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل ترون وجوب رمي الجمار،؟ فأجاب: نعم. صفته: ويلتقط الحصيات (¬3) التي يريد أن يرمي بها جمرة العقبة في منى، وهي ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم -واللفظ له-، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1156). (¬2) أخرجه مسلم: 1297. (¬3) جاء في كتاب "حجة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (ص 81): " .. يجوز له أن يلتقط الحصى =

الرفق في رمي الجمار وصفتها:

آخر الجمرات وأقربهن إِلى مكة. ويستقبل الجمرة، ويجعل مكة عن يساره، ومنى عن يمينه. ويرميها بسبع حصيات مثل حصى الخَذْف، وهو أكبر من الحِمِّصَة قليلاً. الرفق في رمي الجمار وصفتها: عن أم سليمان بن عمرو بن الأحوص قالت: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب، يُكبّر مع كلّ حصاة، ورجل من خلفه يستره، فسألت عن الرجل، فقالوا: الفضل بن العباس، وازدحم الناس، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا أيها الناس! لا يقتل بعضكم بعضاً، وإذا رميتم الجمرة؛ فارموا بمثل حصى الخَذْف" (¬2). ¬

_ = من حيث شاء، كما قال ابن تيمية -رحمه الله-؛ وذلك لأن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحدد لذلك مكاناً، وغاية ما جاء فيه حديث ابن عباس (وفي رواية: الفضل بن عباس) قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة العقبة (وفي رواية: غداة النحر، وفي أخرى: غداة جمع) وهو على راحلته: هاتِ القُطْ لي. فلقطت له حصيات نحواً من حصى الخذف، فلمّا وضعتهنّ في يده قال: مثل هؤلاء -ثلاث مرات-؛ وإياكم والغلو في الدين؛ فإِنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين". أخرجه النسائي، وابن ماجه، وابن الجارود في "المنتقى" -والسياق له-، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي، وأحمد بسند صحيح. فهذا مع كونه لا نص فيه على المكان؛ فهو يشعر بأن الالتقاط كان عند جمرة العقبة، على الرواية الثانية، وكذا الأولى وعليها أكثر الرواة .. فما يفعله كثير من الحجاج -من التقاط الحصيات من المزدلفة وحين وصولهم إِليها- خلاف السُّنّة، مع ما فيه من التكلّف لحمل الحصيات لكل يوم". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1729) وغيره، وانظر "الصحيحة" (2445).

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة العقبة- وهو على ناقته-: أُلقُطْ لي حصًى. فلقطت له سبع حصيات، هنّ حصى الخذْف، فجعل ينفضهنّ في كفه ويقول: أمثال هؤلاء فارموا. ثمّ قال: يا أيها الناس! إِياكم والغلوّ في الدّين؛ فإِنه أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين" (¬1). ويكبر مع كلّ حصاة. ْفعن جابر -رضي الله عنه-: "أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبّر مع كلّ حصاة" (¬2). ويقطع التلبية مع آخر حصاة. عن الفضل -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة" (¬3). ولا يرميها إِلا بعد طلوع الشمس، ولو كان من النساء أو الضعفة الذين أبيح لهم الانطلاق من المزدلفة بعد نصف الليل، فهذا شيء، والرمي شيءآخر. عن جابر -رضي الله عنه- قال: "رمى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمرة يوم النحر ضُحى، وأمّا بعدُ (¬4)؛ فإِذا زالت الشمس" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2455)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2863)، وانظر "الصحيحة" (1283). (¬2) أخرجه مسلم: 1218، وانظر حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في "صحيح البخاري" (1750)، و"صحيح مسلم" (1296). (¬3) أخرجه البخاري: 1670، ومسلم: 1281. (¬4) أي: أيام التشريق الثلاثة. (¬5) أخرجه مسلم: 1299.

وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قَدَّمَنَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة المزدلفة أُغَيْلِمَة (¬1) بني عبد المطلب على حُمُرات (¬2)؛ فجعل يَلْطَخُ (¬3) أفخاذنا ويقول: أُبَينِيَّ! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" (¬4). قال شيخنا -رحمه الله- في كتاب "حجة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (ص 80) -بتصرُّفٍ يسير-: وهنا تنبيهات: الأول: أنّه لا يجوز الرمي يوم النحر قبل طلوع الشمس، ولو من الضعفة والنساء الذين يرخص لهم أن يرتحلوا من المزدلفة بعد نصف الليل، فلا بد لهم من الانتظار حتى تطلع الشمس ثمّ يرمون، لحديث ابن عباس -رضي الله عنه-: "أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَ أهله وأمَرهم أن لا يرموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس؛ وهو حديث صحيح بمجموع طرقه وصححه الترمذي، وابن حبان، وحسنه الحافظ في "الفتح" (3/ 422)، ولا يصلح أن يعارض بما في البخاري (¬5): أنّ أسماء بنت أبي بكر رمت الجمرة ثمّ صلت الصبح بعد وفاة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ¬

_ (¬1) أُغيلمَة: تصغير أغلِمة، جمع غلام. "النهاية". (¬2) حُمُرات: جمع حُمُر، وحُمُر: جمع حمار. "عون المعبود" (5/ 289). (¬3) قال الجوهري: اللطخ: الضرب اللين على الظهر ببطن الكف. "عون المعبود" (5/ 289) أيضاً. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1710)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (709)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2451)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2870)، وانظر "الإِرواء" (4/ 246). (¬5) 1679، ومسلم: 1291.

لأنه ليس صريحاً أنها فعلت ذلك بإِذن منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بخلاف ارتحالها بعد نصف الليل؛ فقد صرحت بأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن بذلك للظُّعن (¬1)، فمن الجائز أنها فهمت -من هذا الإِذن- الإِذن أيضاً بالرمي بليل، ولم يبلغها نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي حفظه ابن عباس -رضي الله عنه-. الثاني: أن هناك رخصةً بالرمي في هذا اليوم بعد الزوال ولو إِلى الليل، فيستطيع أن يتمتع بها من يجد المشقة في الرمي ضحى، والدليل حديث ابن عباس أيضاً قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسألُ يوم النحر بمنى؟ فيقول: لا حرج. فسأله رجل، فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال اذبح ولا حرج. قال: رميت بعد ما أمسيت؟ فقال: "لا حرج" (¬2). وإلى هذا ذهب الشوكاني، ومن قبله ابن حزم، قال في "المحلّى": "إِنما نهى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رميها ما لم تطلع الشمس من يوم النحر، وأباح رميها بعد ذلك، وإن أمسى، وهذا يقع على الليل والعشي معاً". فاحفظ هذه الرخصة؛ فإِنها تنجيك من الوقوع في ارتكاب نهي الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتقدّم عن الرمي قبل طلوع الشمس، الذي يخالفه كثير من الحجاج بزعم الضرورة. انتهى كلام شيخنا -رحمه الله-. قلت: وذكر بعض العلماء حديث عائشة أنها قالت: "أرسل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأمّ سلمة ليلة النحر؛ فرمت الجمرة قبل الفجر، ثمّ مضت فأفاضت، وكان ذلك ¬

_ (¬1) قال في "الفتح": "جمع ظعينة، وهي المرأة في الهودج؛ ثمّ أطلق على المرأة مطلقاً. وانظر "النهاية" -إِن شئت- للمزيد من الفوائد اللغوية. (¬2) أخرجه البخاري: 1735، ومسلم: 1306.

اليومُ اليومَ الذي يكون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -تعني: عندها-!! وقد ضعّفه شيخنا -رحمه الله- في "ضعيف سنن أبي داود" (423). قال الحافظ شمس الدين ابن القيم -رحمه الله- في "تهذيب السنن": "قال ابن عبد البر: كان الإِمام أحمد يدفع حديث أم سلمة هذا ويضعفه. قال ابن عبد البر: وأجمع المسلمون على أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنما رماها ضحى ذلك اليوم. وقال جابر: "رأيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمي الجمرة ضحى يوم النحر وحده، ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس". أخرجه مسلم. وقال أبو داود: اختلفوا في رميها قبل طلوع الشمس، فمن رماها قبل طلوع الشمس لم يجزِهِ وعليه الإِعادة. قال ابن عبد البر: وحجته أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رماها بعد طلوع الشمس، فمن رماها قبل طلوع الشمس كان مخالفاً للسنة، ولزمه إِعادتها. قال: زعم ابن المنذر أنه لا يعلم خلافاً فيمن رماها قبل طلوع الشمس وبعد الفجر أنّه يجزئه، قال: ولو علمتُ أن في ذلك خلافاً لأوجبت على فاعل ذلك الإِعادة. قال: ولم يعلم قول الثوري؛ يعني: أنه لا يجوز رميها قبل طلوع الشمس، وهو قول مجاهد، وإبراهيم النخعي. فمقتضى مذهب ابن المنذر: أنه يجب الإِعادة على من رماها قبل طلوع الشمس، وحديث ابن عباس صريح في توقيتها بطلوع الشمس، وفعِله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متفق عليه بين الأمّة. فهذا فعله وهذا قوله، وحديث أم سلمة قد أنكره الإِمام أحمد وضعفه. وقال مالك: لم يبلغنا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص لأحد في الرمي قبل طلوع الفجر. قال الحافظ شمس الدين ابن القيم -رحمه الله-: "والحديث الذي أشار

تأخير الرمي بعد الزوال ولو إلى الليل:

إِليه: هو ما في "الصحيحين" عن عبد الله مولى أسماء: أنها نزلت ليلة جَمْعٍ عند المزدلفة، فقامت تصلّي، فصلّت ساعة ثمّ قالت: يا بُنَيَّ! هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: فارتحلوا؛ فارتحلنا، فمضينا حتى رمت الجمرة، ثمّ رجعت فصلّت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هَنْتاه (¬1)! ما أرانا إِلا قد غَلَّسْنَا؟! قالت: يا بني! إِن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن للظعن -وفي لفظ لمسلم: لظعنه-. وليس في هذا دليل على جواز رميها بعد نصف الليل، فإِن القمر يتأخر في الليلة العاشرة إِلى قبيل الفجر، وقد ذهبت أسماء بعد غيابه من مزدلفة إِلى منى، فلعلها وصلت مع الفجر أو بعده، فهي واقعة عين، ومع هذا فهي رخصة للظُّعن، وإِن دلت على تقدّم الرمي؛ فإِنما تدل على الرمي بعد طلوع الفجر. وهذا قول أحمد في رواية، واختيار ابن المنذر، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما". انتهى. تأخير الرمي بعد الزوال ولو إِلى الليل: وله أن يرميها بعد الزوال ولو إِلى الليل؛ إِذا وجد حرجاً في رميها قبل الزوال. عن ابن عباس -رضي الله عنه-: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَل يوم النحر بمنى؟ فيقول: لا حرج. فسأله رجل، فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج. وقال: رميت بعدما أمسيت؟ فقال: لا حرج" (¬2). قال أبو عيسى: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح، والعمل على ¬

_ (¬1) أي: يا هذه. "فتح". (¬2) أخرجه البخاري: 1735، ومسلم: 1306، وتقدّم.

جواز رميها راكبا:

هذا الحديث عند أهل العلم، لم يروا بأساً أن يتقدّم الضعفة من المزدلفة بليل يصيرون إِلى منى. وقال أكثر أهل العلم بحديث النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنهم لا يرمون حتى تطلع الشمس، ورخص بعض أهل العلم في أن يرموا بليل، والعمل على حديث النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وهو قول الثوري والشافعي" (¬1). جواز رميها راكباً: عن قدامة بن عبد الله قال: "رأيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمي الجمار على ناقته، ليس ضَرْبٌ ولا طَرْدٌ ولا: إِليك (¬2) إِليك" (¬3). فوائد في الرمي: 1 - سأل أحد الإِخوة شيخنا -رحمه الله- عن مكان الرجم؟ فأجاب: في الحوض، لا العمود. 2 - وسألته -رحمه الله- قائلاً: إِذا رمى بعض الجمرات، ثمّ وجد زحاماً عند أخرى؛ وقد يكون ذلك لساعات، فهل يلزمه الإِعادة؟ فأجاب: لا يلزمه الإِعادة. 3 - وسألته عن عدم ترتيب الجمرات جهلاً؟ ¬

_ (¬1) انظر "صحيح سنن الترمذي" (1/ 266). (¬2) أي: لا يقول: إِليك إِليك، أي: ابتعد ابتعد. وإليك: اسم فعِل أمر. (¬3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (7118)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2461)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2864)، وقال شيخنا -رحمه الله- في "المشكاة" (2623): وإسناده صحيح.

التحلل الأول:

فأجاب -رحمه الله-: لا يؤثر. التحلل الأوّل: فإِذا انتهى من رمي الجمرة؛ حلّ له كلّ شيء إِلا النساء؛ ولو لم ينحر أو يحلق؛ فيلبس ثيابه ويتطيب. الطِّيب بعد رمي الجمار (¬1): عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: طيَّبْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيديّ هاتين حين أحرم، ولحلّه حين أحلّ قبل أن يطوف -وبَسطت يديها-" (¬2). وهذا هو التحلل الأوّل. لكنْ عليه أن يطوف طواف الإِفاضة -وهو ركن- في اليوم نفسه، إِذا أراد أن يستمر في تمتعه المذكور؛ وإلا فإِنه إِذا أمسى ولم يطف؛ عاد محرماً كما كان قبل الرمي، فعليه أن ينزع ثيابه ويلبس ثوبي الإِحرام، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ هذا يوم رُخّص لكم -إِذا أنتم رميتم الجمرة- أن تَحلّوا من كُلّ ما حُرِمتم منه إِلا النساء، فإِذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت، صرتم حُرُماً كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة، حتى تطوفوا به" (¬3). ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (باب-143). (¬2) أخرجه البخاري: 1754، ومسلم: 1189، وانظر -للمزيد من النصوص والآثار- "الإِرواء" (4/ 236 - 240). (¬3) وهو حديث صحيح، وقد قواه جمع، منهم الإِمام ابن القيّم، كما بيّنه شيخنا - رحمه الله- في "صحيح سنن أبي داود" (1745). ثمّ قال -رحمه الله-: "ولما اطلع على هذا الحديث بعض أفاضل أهل العلم قبل ذيوع =

الذبح والنحر

الذبح والنحر ثمّ يأتي المنحر في منى فينحر هديه، وهذا هو السُّنّة. لكن يجوز له أن ينحر في أي مكان آخر من منى، وكذلك في مكة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قد نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ¬

_ = الرسالة؛ استغربوه، وبعضهم بادر إِلى تضعيفه -كما كنت فعلت أنا نفسي في بعض مؤلفاتي بناءً على الطريق التي عند أبي داود! وهذه مع أنها قواها الإِمام ابن القيم في "التهذيب" والحافظ في "التلخيص" بسكوته عليه؛ فقد وجدت له طريقاً أخرى يقطع الواقف عليها بانتفاء الضعف عنه، وارتقائه إِلى مرتبة الصحة، ولكنها لما كانت في مصدر غير متداول عند الجماهير -وهو "شرح معاني الآثار" للإِمام الطحاوي- خفيت عليه كما خفيت عليّ من قبل، فلذلك بادروا إلى الاستغراب أو التضعيف. وشجّعهم على ذلك: أنهم وجدوا من قال من العلماء فيه: "لا أعلم أحداً من الفقهاء قال به"! وهذا نفي، وهو ليس علماً؛ فإِن من المعلوم عند أهل العلم؛ أن عدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه، فإِذا ثبت الحديث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان صريح الدلالة كهذا؛ وجبت المبادرة إِلى العمل به، ولا يتوقف ذلك على معرفة موقف أهل العلم منه، كما قال الإِمام الشافعي: "يُقْبَلُ الخبر في الوقت الذي يثبت فيه، وإن لم يَمْضِ عمل من الأئمة بمثل الخبر الذى قبلوا، إِن حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يثبت بنفسه، لا يعمل غيره بعده". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: "فحديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَلُّ من أن يستشهد عليه بعمل الفقهاء به؛ فإِنه أصْل مستقل حاكم غير محكوم! ومع ذلك؛ فقد عمل بالحديث جماعة من أهل العلم؛ منهم عروة بن الزبير التابعي الجليل، فهل بعد هذا لأحد عذر في ترْك العمل به؟ {إِن في ذلك لِذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.

هاهنا؛ وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا، وجَمع كلها موقف" (¬1). وفي رواية: "وكلّ فجاج مكة طريق ومنحر" (¬2). والسّنّة: أن يذبح أو ينحر بيده إِن تيسر له؛ وإلا أناب عنه غيره. عن أنس -رضي الله عنه- قال: " .. ونحر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده سبع بُدْنٍ قياماً" (¬3). ويذبحها مستقبلاً بها القبلة (¬4)، فيُضْجِعُها على جانبها الأيسر، ويضع قدمه اليمنى على جانبها الأيمن (¬5). وأمّا الإِبل؛ فالسّنّة أن ينحرها وهي قائمة معقولة اليسرى، قائمةً على ما بقي من قوائمها. عن زياد بن جبير قال: "رأيت ابن عمر -رضي الله عنهما- أتى على رجل ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1218، وتقدّم. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1707)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2473). (¬3) أخرجه البخاري: 1712. (¬4) فيه حديث مرفوع عن جابر: عند أبي داود وغيره، مخرج في "الإرواء" (1138). وآخر عند البيهقي. وروي عن ابن عمر: أنه كان يستحب أن يستقبل القبلة إِذا ذبح. وروى عبد الرزاق بإِسناد صحيح عنه: أنه كان يكره أن يأكل ذبيحة ذبحت لغير القبلة. (¬5) قال الحافظ (10/ 16): "ليكون أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين، وإمساك رأسها بيده اليسار".

قد أناخ بدنته ينحرها، قال: ابعثها قياماً مقيدة؛ سنةَ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬1). وعن عبد الرحمن بن سابط: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها" (¬2). ووجهها قِبَل القبلة (¬3). ويقول عند الذبح أو النحر: بسم الله، والله أكبر، اللهم! إِن هذا منك ولك (¬4)، اللهم! تقبل مني (¬5). ووقت الذبح أربعة أيام العيد: يوم النحر -وهو يوم الحج الأكبر (¬6) - وثلاثة أيام التشريق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل أيام التشريق ذبح" (¬7). وله أن يأكل من هديه، وأن يتزود منه إِلى بلده كما فعَل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1713، ومسلم: 1320. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1553). (¬3) رواه مالك بسند صحيح عن ابن عمر موقوفاً. وعلقه البخاري بصيغة الجزم رقم (330) من "مختصر البخاري". (¬4) أخرجه أبو داود وغيره من حديث جابر. وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري رواه أبو يعلى، كما في "المجمع"، وهو مخرج في "الإِرواء" (1118). (¬5) انظر "صحيح مسلم" (1967). (¬6) علقه البخاري، ووصله أبو داود وغيره، "صحيح سنن أبي داود" 1700 و (1701). (¬7) أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان، قال شيخنا -رحمه الله-: "وهو قوي عندى بمجموع طرقه، ولذلك خرجته في "الصحيحة" (2476) ".

لا يعطى الجزار الأجرة من الهدي:

وعليه أن يُطعِم منها الفقراء وذوي الحاجة؛ لقوله تعالى: {والبُدْنَ جعلناها لكم من شعائر الله (¬1) لكم فيها خير فاذكروا الله عليها صوافَّ (¬2) فإِذا وجَبَت جنوبُها فكُلوا منها وأطعموا القانع (¬3) والمعْتَرَّ (¬4)}. ويجوز أن يشترك سبعة في البعير أو البقرة. عن جابر -رضي الله عنه- قال: "حججنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنحرنا البعير عن سبعة، والبقرة عن سبعة" (¬5). لا يُعطى الجزّار الأجرة من الهدي: عن علي -رضي الله عنه- قال: "أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقوم على بُدْنه، وأن أتصدّق بلحمها وجلودها وأجِلَّتها، وأن لا أُعطي الجزار منها، قال: نحن نعطيه من عندنا" (¬6). من لم يجد هدياً: فمن لم يجد هدياً؛ فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إِذا رجَع إِلى أهله. ¬

_ (¬1) وهو أنه جعَلها تُهدى إِلى بيته الحرام. "ابن كثير". (¬2) أي: تصف بين يديها. "ابن كثير". (¬3) القانع: السائل. (¬4) المعتر: الذي يعترّ بالبُدن يطيف بها معترضاً لها من غني أو فقر. (¬5) أخرجه مسلم 1318، وفي بعض الرويات الشاذّة: البدنة عن عشرة! أشار الى ذلك الذهبي في "تلخيصه"؛ وأفاده شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 253). (¬6) أخرجه البخاري: 1716، ومسلم: 1317 - واللفظ له-.

الحلق أو التقصير:

ويجوز له أن يصوم في أيام التشريق الثلاثة؛ لحديث عائشة وابن عمر - رضي الله عنهما- قالا: "لم يُرخَّص في أيام التشريق أن يُصَمن؛ إلاَّ لمن لم يجد الهدي" (¬1). الحلق أو التقصير: ثمّ يحلق رأسه كله أو يقصّره، والأول أفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهمّ! ارحم المحلّقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: اللهم! ارحم المحلّقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: والمقصرين" (¬2). والسُّنّة أن يبدأ الحالق بيمين المحلوق. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى منى فأتى الجمرة فرماها، ثمّ أتى منزله بمنى ونحر، ثمّ قال للحلاق: خذ. وأشار إِلى جانبه الأيمن ثمّ الأيسر، ثمّ جعل يعطيه للناس" (¬3). والحلق خاصٌّ بالرجال دون النساء، وإنما عليهنّ التقصير؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس على النساء حلق؛ إِنما على النساء التقصير" (¬4). فتجمع شعرها فتقص منه قدر الأنملة؛ وهي عقدة الإِصبع، أو المفْصِل الأعلى من الإِصبع الذي فيه الظُّفْر (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري 1997، 1998. (¬2) أخرجه البخاري: 1727، ومسلم: 1301. (¬3) أخرجه مسلم: 1305. (¬4) وهو حديث صحيح مخرج في "الصحيحة" (605)، وأورده شيخنا -رحمه الله- في "صحيح سنن أبي داود" (1747). (¬5) "المعجم الوسيط" بحذف.

طواف الإفاضة

فائدة: سألت شيخنا -رحمه الله- عن إِمرار الموسى على رأس الأصلع؛ كما يرى بعض العلماء؟ فأجاب: "إِذا كان يريد أن يفلق رأسه نصفين؛ فليفعل! ". ويُسنّ للإِمام أن يخطب يوم النحر بمنى (¬1) بين الجمرات (¬2) حين ارتفاع الضحى (¬3)، يعلِّم الناس مناسكهم (¬4). طواف الإِفاضة ثمّ يُفيض من يومه إِلى البيت -وهو ركن- فيطوف به سبعاً كما تقدّم في طواف القدوم؛ إِلا أنه لا يضطبع ولا يرمل. عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمل في السبع الذي أفاض فيه" (¬5). ومن السُّنّة أن يصلّي ركعتين عند المقام، كما قال الزهري (¬6)، وفعله ابن ¬

_ (¬1) انظر "صحيح البخاري" (1739). (¬2) رواه البخاري تعليقاً، ووصله أبو داود، انظر "صحيح سنن أبي داود" (1700)، و "الإِرواء" (1064). (¬3) رواه أبو داود وغيره، انظر "صحيح سنن أبي داود" (1709). (¬4) رواه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1710)، وغيره. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1762)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2483). (¬6) علقه البخاري، ووصله ابن أبي شيبة وغيره، راجع "مختصر البخاري" (1/ 386) رقم (319).

البيات في منى:

عمر (¬1)، وقال: على كل سَبْع (¬2) ركعتان (¬3). ثمّ يطَّوَّف ويسعى بين الصفا والمروة كما تقدّم أيضاً؛ خلافاً للقارن والمفرد، فيكفيهما السعي الأول. وبهذا الطواف يحلّ له كلّ شيء حرُم عليه بالإِحرام، حتى نساؤه. ويصلّي الظهر بمكة، وقال ابن عمر: بمنى (¬4). البيات في منى: ثمّ يرجع إِلى منى؛ فيمكث بها أيام التشريق بلياليها. ويرمي فيها الجمرات الثلاث كلَّ يوم بعد الزوال، بسبع حصيات لكل جمرة، كما تقدّم في الرمي يوم النحر. عن جابر -رضي الله عنه- قال: "رمى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعدُ فإِذا زالت الشمس" (¬5). ¬

_ (¬1) علقه البخاري، ووصله عبد الرزاق، "مختصر البخاري" (1/ 386) رقم (318). (¬2) بضم السين وفتحها. (¬3) رواه عبد الرزاق بسند صحيح عنه. (¬4) قال شيخنا -رحمه الله-: "والله أعلم أيهما فعَل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! ويُحتمل أنه صلى بهم مرّتين: مرةً في مكة، ومرّة في منى، الأولى فريضة، والثانية نافلة، كما وقَع له في بعض حروبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". (¬5) أخرجه مسلم: 1299، وتقدّم.

القيام والدعاء ورفع اليدين بعد الرمي أيام التشريق:

القيام والدعاء ورفع اليدين بعد الرمي أيام التشريق: ويبدأ بالجمرة الأولى، وهي الأقرب إِلى مسجد الخيف، فإِذا فرَغ من رميها، تقدّم قليلاً عن يمينه، فيقوم مستقبلاً القبلة قياماً طويلاً، ويدعو ويرفع يديه. ثمّ يأتي الجمرة الثانية، فيرميها كذلك، ثمّ يأخذ ذات الشمال، فيقوم مستقبلا القبلة قياماً طويلاً، ويدعو، ويرفع يديه. عن سالم عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّه كان يرمي الجمرة الدُّنيا بسبع حصيات؛ يُكبّر على إِثر كلّ حصاة، ثمّ يتقدّم؛ حتى يُسهل (¬1) فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً، ويدعو ويرفع يديه، ثمّ يرمي الوسطى، ثمّ يأخذ ذت الشمال فيُسهل (¬2) ويقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً، ويدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً، ثمّ يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثمّ ينصرف فيقول: هكذا رأيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله" (¬3). ثمّ يأتي الجمرة الثالثة -وهي جمرة العقبة- فيرميها كذلك، ويجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ولا يقف عندها. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا رمى جمرة العقبة؛ مضى ولم يقف" (¬4). ¬

_ (¬1) أي: يقصد السهل من الأرض وهو المكان المصطحب الذي لا ارتفاع فيه. "فتح". (¬2) في بعض النُّسخ: فيستهلّ. (¬3) أخرجه البخاري: 1751. (¬4) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2459)، وانظر "الصحيحة" (2073).

ثمّ يرمي اليوم الثاني، واليوم الثالث كذلك. وإن انصرف بعد رميه في اليوم الثاني، ولم يبت للرمي في اليوم الثالث جاز؛ لقوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إِثم عليه ومن تأخر فلا إِثم عليه لمن اتقى} (¬1)، لكن التأخر للرمي أفضل؛ لأنّه السُّنّة (¬2). والسّنّة الترتيب بين المناسك المتقدّمة: الرمي، فالذبح أو النحر، فالحلق، فطواف الإِفاضة، فالسعي للمتمتع؛ لكن إِنْ قدّم شيئاً منها أو أخَّر جاز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا حرج، لا حرج". عن عبد الله بن عمر: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف في حجة الوداع؛ فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج. فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارمِ ولا حرج. فما سُئل ¬

_ (¬1) البقرة: 203. (¬2) قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "فإِذا غربت الشمس وهو بمنى؛ أقام حتى يرمي مع الناس في اليوم الثالث". قال شيخنا -رحمه الله-: وعليه جماهير العلماء، خلافاً لما ذهب إِليه ابن حزم في "المحلى" (7/ 185)! واستدل لهم النووي بمفهوم قوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إِثم عليه} فقال في "المجموع" (8/ 283): "واليوم اسم للنهار دون الليل"؛ وبما ثبت عن عمر وابنه عبد الله قالا: من أدركه المساء في اليوم الثاني بمنى؛ فليقم إِلى الغد حتى ينفر مع الناس. ولفظ "الموطإِ" عن ابن عمر: لا ينفرون حتى يرمي الجمار من الغد". وأخرجه عن مالك الإِمام محمد في "موطَّئه" (ص 233 - "التعليق الممجد") وقال: "وبهذا نأخذ، وهو قول أبي حنيفة والعامة".

يومئذ عن شيء قُدّم ولا أخّر إِلا قال: افعل ولا حرج" (¬1). وفي رواية له: "قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وأتاه رجل يوم النحر، وهو واقف عند الجمرة- فقال: يا رسول الله! إِني حلقت قبل أن أرمي؟ فقال: ارمِ ولا حرج. وأتاه آخر فقال: إِني ذبحت قبل أن أرمي؟ قال: ارمِ ولا حرج. وأتاه آخر فقال: إِني أفضت إِلى البيت قبل أن أرمي؟ قال: ارمِ ولا حرج، قال: فما رأيته سُئل يومئذٍ عن شيء؟ إلاَّ قال: افعلوا ولا حرج" (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل له في الذبح، والحلق، والرمّي، والتقديم، والتأخير؟ فقال: لا حرج" (¬3). ويجوز للمعذور في الرمي ما يأتي: 1 - أن لا يبيت في منى؛ لحديث ابن عمر: "استأذن العباس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته؛ فأَذِن له" (¬4). 2 - وأن يجمع رمي يومين في يوم واحد؛ لحديث عاصم بن عدي قال: "رخّص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرعاء الإِبل في البيتوتة: أن يرموا يوم النحر، ثمّ يجمعوا رمي يومين بعد النحر، فيرمونه في أحدهما" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1736، ومسلم: 1306، وتقدّم. (¬2) أخرجه مسلم: 1306، وتقدّم. (¬3) أخرجه مسلم: 1307. (¬4) أخرجه البخاري: 1745، ومسلم: 1315. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1975)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (763)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2874)، وابن ماجه "صحيح =

3 - وأن يرميَ في الليل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الراعي يرمي بالليل، ويرعى بالنهار" (¬1). ويشرع له أن يزور الكعبة، ويطوف بها كل ليلة من ليالي منى؛ لأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعَل ذلك (¬2). ويجب على الحاج في أيام منى أن يحافظ على الصلوات الخمس مع الجماعة، والأفضل أن يصلّي في مسجد الخَيف إِنْ تيسّر له؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلّى في مسجد الخَيف سبعون نبيّاً" (¬3). فإِذا فرَغَ من الرمي في اليوم الثاني أو الثالث من أيام التشريق؛ فقد انتهى من مناسك الحج، فينفر إِلى مكة، ويقيم فيها ما كتب الله له، وليحرص على أداء الصلاة جماعة، ولا سيما في المسجد الحرام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه؛ إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" (¬4). ¬

_ = سنن ابن ماجه" (2463)، وهو مخرج في "الإِرواء" (1080). (¬1) حديث حسن؛ أخرجه البزار، والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس، وحسن إِسناده الحافظ، وله شواهد خرّجها شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2477). (¬2) علقه البخاري (287 - "مختصر البخاري")، ووصله جمع ذكرهم شيخنا - رحمه الله- في "الصحيحة" (804). (¬3) أخرجه الطبراني، والضياء المقدسي في "المختارة" وحسّن إِسناده المنذري، وانظر "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد" (ص 106 - 107 - الطبعة الثانية- المكتب الإِسلامي). (¬4) أخرجه أحمد وغيره من حديث جابر مرفوعاً بإِسناد صحيح، وصححه جمع =

طواف الوداع

ويُكثر من الطواف والصلاة في أي وقت شاء من ليل أو نهار؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الركنين الأسود واليماني: "مَسْحُهما يحطّ الخطايا، ومن طاف بالبيت؛ لم يرفع قدماً ولم يضع قدماً؛ إِلا كتَب الله له حسنة، وحطّ عنه خطيئة، وكتَب له درجة، ومن أحصى أسبوعاً؛ كان له كعتق رقبة" (¬1). وقوله: يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة من ليل أو نهار" (¬2). طواف الوداع سمّي بهذا الاسم؛ لأنّه لتوديع البيت، وهو طواف لا رمل فيه؛ وهو آخر ما يفعله الحاج -غير المكي- عند إِرادة السفر من مكة. أمّا المكي فإِنّه لا يشرع في حقّه. وأمّا الحائض؛ فإِنه يرخّص لها تركه، ولا يلزم بتركها له شيء (¬3). حُكمه: وهو واجب؛ لأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، كما في الحديث المتقدّم: "أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت". ¬

_ = ذكرهم شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1129). (¬1) أخرجه الترمذي وغيره، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم وغيرهم، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1139). (¬2) رواه أصحاب "السنن" وغيرهم، وصححه الترمذي والحاكم والذهبي، وهو مخرج في "الإِرواء" (481). (¬3) "فقه السّنّة" (1/ 752) -بتصرّف-.

وكذلك نهي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينفر أحد من غير طواف، وقوله: "لا يَنْفرنّ ... ". وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتقدّم: "رُخّص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف ... ". ولو كان الطواف مستحبّاً؛ لما كان ثمّة فائدة من هذه الرُّخصة. وكذلك قوله: "أحابستنا هي"؛ لأنّ التطوّع لا يَحبِس أحداً. فإِذا انتهى من قضاء حوائجه، وعزَم على الرحيل؛ فعليه أن يُودّع البيت بالطواف؛ لحديث ابن عباس قال: "كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ينفرنّ أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" (¬1). وكانت المرأة الحائض قد أُمِرت أن تنتظر حتى تطهر لتطوف طواف الوداع (¬2)، ثمّ رخص لها أن تنفر ولا تنتظر؛ لحديث ابن عباس أيضاً: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف، إِذا كانت قد طافت طواف الإِفاضة" (¬3). وفي لفظ: "أمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت؛ إلاَّ أنه خُفّف عن الحائض" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1327 وغيره، والبخاري نحوه: 1755. (¬2) ثبت هذا في حديث الحارث بن عبد الله بن أوس عند أحمد وغيره، وهو مخرج في "صحيح سنن أبي داود" (1748). (¬3) أخرجه أحمد بإِسناد صحيح على شرط الشيخين، وقد أخرجاه بنحوه، كما هو مبين في "الإِرواء" (1086) [سيأتي عقب هذا الحديث -إِن شاء الله تعالى-]، وله شاهد من حديث عائشة عندهما، وهو مخرّج في "صحيح سنن أبي داود" (1748). (¬4) أخرجه البخاري: 1755، ومسلم: 1328.

وعن عائشة -رضي الله عنها-: "أنّ صفية بنت حُيَيٍّ زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاضت، فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: "أحابستنا هي؟! قالوا: إِنها قد أفاضت؟ قال: فلا إِذاً" (¬1). وله أن يحمل معه من ماء زمزم ما تيسر له؛ تبركاً به؛ فقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحمله معه في الأدَواى (¬2) والقِرَب، وكان يصبّ على المرضى ويسقيهم (¬3). بل إِنّه كان يرسل وهو بالمدينة -قبل أن تفتح مكة- إِلى سهيل بن عمرو؛ أن: أهدِ لنا من ماء زمزم، ولا تترك؛ فيبعث إِليه بمزادتين (¬4) " (¬5). فإِذا انتهى من الطواف؛ خرج كما يخرج الناس من المساجد؛ فلا يمشي القهقرى، ويخرج مقدماً رجله اليسرى (¬6) قائلاً: اللهم! صلِّ على محمّد وسلّم، اللهمّ! إِني أسألك من فضلك". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1757، ومسلم: 1211. (¬2) الأداوى: جمع الإِداوة: إِناء صغير من جلد؛ يتخذ للماء. "النهاية" بحذف. (¬3) أخرجه البخاري في "التاريخ"، والترمذي -وحسنّه- من حديث عائشة -رضي الله عنها- وهو مخرج في "الصحيحة" (883). (¬4) المزادَة: وعاء يحمل فيه الماء في السفر؛ كالقربة ونحوها، جمعها مَزاد". "الوسيط". (¬5) أخرجه البيهقي بإِسناد جيد عن جابر -رضي الله عنه- وله شاهد مرسل صحيح في "مصنف عبد الرزاق"، وذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن السلف كانوا يحملونه. (¬6) تقدّم.

خلاصة جامعة في الحج

خلاصة جامعة في الحجّ (¬1) 1 - الإِحرام في إِزار ورداء. 2 - لُبْسهما والتطيب قبله. 3 - الإِحرام من الميقات. 4 - إِحرام النفساء والحائض بعد الاغتسال. 5 - الإِحرام بحج وعمرة. 6 - الحج راكباً. 7 - الحج بالنّساء والصبيان. 8 - التلبية بتلبية النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورفع الصوت بها. 9 - فسْخ الحج ممن نواه مفرداً، أو قَرَن إِليه عمرة ولم يسُقِ الهدي. 10 - طواف القدوم سبعة أشواط. 11 - الاضطباع فيها. 12 - الرمل في الثلاث الأولى منه. 13 - التكبير عند الحجر. 14 - تقبيل الحجر الأسود أو استلام الركن اليماني في كل شوط. 15 - صلاة ركعتين بعد الفراغ من الأشواط. ¬

_ (¬1) عن كتاب "حجّة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" لشيخنا -رحمه الله- (ص 94).

16 - القراءة فيها بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد}. 17 - صلاتهما خلف المقام. 18 - الشرب من زمزم والصبّ منها على الرأس. 19 - العود إِلى استلام الحجر الأسود. 20 - الوقوف على الصفا مستقبل القبلة. 21 - ذِكْر الله عليها وتوحيده وتكبيره وتحميده وتهليله ثلاثاً. 22 - المشي بينها وبين المروة سبعاً. 23 - السعي بينهما في بطن الوادي في كل شوط. 24 - الوقوف على المروة. 25 - الذكر عليها كما فعَل على الصفا. 26 - ختم السعي على المروة. 27 - التحلل من الإِحرام من المتمتّع أو القارن الذي لم يسق الهدي؛ بقصّ الشعر وبلبس الثياب وغير ذلك. 28 - تحلل المتمتّع بقص الشعر لا الحلق. 29 - الإِهلال بالحج يوم التروية. 30 - الذّهاب إِلى منى والبيات فيها. 31 - أداء صلاة الظهر وبقية الصلوات الخمس بها. 32 - التوجه منها بعد طلوع شمس يوم عرفة إِلى عرفات.

33 - النزول بنمرة عند عرفات. 34 - الجمع بين الظهر والعصر عندها جمع تقديم. 35 - الوقوف على عرفة مفطراً. 36 - الخطبة في عرفة. 37 - استقبال القبلة رافعاً يديه يدعو على عرفة. 38 - التلبية على عرفة. 39 - الإِفاضة من عرفة بعد الغروب وعليه السكينة. 40 - الجمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير في المزدلفة. 41 - الأذان فيه بإِقامتين. 42 - ترْك السنة بين الصلاتين. 43 - البيات بها بدون إِحياء الليل. 44 - صلاة الفجر حين يتبيّن الفجر. 45 - الوقوف على المشعر الحرام منها مستقبل القبلة؛ داعياً حامداً مكبراً مهللاً حتى الإِسفار جدّاً. 46 - الدفع منها قبل أن تطلع الشمس. 47 - الإِسراع قليلاً في بطن محسِّر. 48 - الذّهاب إِلى الجمرة من طريق أخرى غير طريق الذّهاب إِلى عرفات. 49 - رمي الجمرة الكبرى يوم النحر من بطن الوادي بسبع حصيات ضحى.

50 - الرمي بحصى الخذْف. 51 - جواز رميها بعد الزوال. 52 - الرمي من بطن الوادي. 53 - التكبير مع كلّ حصاة. 54 - قطع التلبية عند رمي الجمرة. 55 - التحلُّلُ الحلَّ الأصغر بالرمي. 56 - الرمي في أيام التشريق بعد الزوال. 57 - نحْر القارن والمتمتع للهدي، فمن لم يجد؛ صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إِذا رجع. 58 - نحر البعير وكذلك البقرة عن سبعة. 59 - النحر في منى ومكة. 65 - الأكل من الهدي. 61 - التطيب بعد الرمي. 62 - الحلق. 63 - البدء بيمين المحلوق. 64 - الخطبة يوم النحر. 65 - الإِفاضة لطواف الصدر (¬1) بدون رمل. ¬

_ (¬1) سمّي هكذا لأنّ الناس يصدرون إِلى مكة المكرّمة.

العمرة المفردة

66 - سعي المتمتع بعد طواف الإِفاضة؛ خلافاً للقارن. 67 - ترتيب المناسك يوم النحر. 68 - الإِحلالُ بعده الحلَّ كلَّه. 69 - الشرب من زمزم عقب الفراغ من الطواف. 70 - الرجوع إِلى منى والمكث فيها أيام التشريق الثلاثة. 71 - رمي الجمرات الثلاث في كل يوم منها بعد الزوال. 72 - الطواف للوداع بدون رمل. العمرة المُفردَة العمرة في اللغة: الزيارة، وقيل: إِنها مشتقة من عمارة المسجد الحرام (¬1). وفي الشرع: زيارة البيت الحرام بشروط مخصوصة مذكورة في الفقه (¬2). فضلها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "العمرة إِلى العمرة كفّارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إِلا الجنة" (¬3). عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تابعوا ¬

_ (¬1) "الفتح" (3/ 597). (¬2) "النهاية". (¬3) أخرجه البخاري: 1773، ومسلم: 1349، وتقدّم.

حكمها:

بين الحج والعمرة؛ فإِنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إِلا الجنّة" (¬1). حكمها: العمرة سُنّة، وذكر بعض العلماء أنها فرض! ولا دليل على ذلك (¬2). وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (26/ 5): "والعمرة في وجوبها قولان للعلماء؛ هما قولان في مذهب الشافعي وأحمد، والمشهور منها وجوبها، والقول الآخر: لا تجب، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. وهذا القول أرجح؛ فإِن الله بما أوجب الحج بقوله: {ولله على الناس حج البيت} لم يوجب العمرة، وإنما أوجب إِتمامهما، فأوجب إِتمامهما لمن شرع فيهما، وفي الابتداء إِنما أوجب الحج، وهكذا سائر الأحاديث الصحيحة ليس فيها إِلا ايجاب الحج ... ". جوازها قبل الحجّ وفي أشهره: يجوز للمرء أن يعتمر في أي شهر من العام، كما يجوز له الاعتمار في أشهر الحج من غير أن يحجّ. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (650)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2334)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2467 و2468)، وانظر "الصحيحة" (1200)، و"المشكاة" (2524 و2525)، وتقدّم. (¬2) أمّا حديث جابر -رضي الله عنه-: أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: لا، وأن يعتمروا هو أفضل"! فإِنه ضعيف، انظر "ضعيف سنن الترمذي" (161).

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كانوا (¬1) يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صَفَراً (¬2)، ويقولون: إِذا برأ الدَّبْر (¬3)، وعفا الأثر (¬4)، وانسلخ صَفَرْ، حلت العمرة لمن اعتمرْ! قدم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه صبيحة رابعةٍ مُهلّين بالحجّ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله! أيُّ الحل؟ قال: حلٌّ (¬5) كلّه" (¬6). وذهب بعض العلماء إِلى كراهتها في خمسة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق الثلاثة! وسألت شيخنا -رحمه الله- عن ذلك. فقال: لا دليل على المنع. ¬

_ (¬1) أي: أهل الجاهلية. (¬2) هذا من النسيء الذي كانوا يفعلونه، فكانوا يؤخرون المحرم إِلى ما بعد صفر؛ لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرّمة تُضيِّق علِيهم أمورهم من الغارة وغيرها. "نووي" بتصرّف وحذف. (¬3) يعنون: دبر ظهور الإبل بعد انصرافها من الحج؛ فإنها كانت تدبر بالسير عليها للحج. "نووي" أيضاً. (¬4) وعفا الأثَر: أي: درس وامّحى والمراد: أثر الإِبل وغيرها في سيرها؛ عفا أثرها لطول مرور الأيام. هذا هو المشهور. وقال الخطابي: المراد أثر الدبر. والله أعلم، وهذه الألفاظ تقرأ كلها ساكنة الآخر، ويُوقَّف عليها؛ لأن مرادهم السجع". "نووي" كذلك. (¬5) وفي لفظ: الحِلُّ. (¬6) أخرجه البخاري: 1564، ومسلم: 1240.

فضل العمرة في رمضان:

فضل العمرة في رمضان: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "عمرة في رمضان تقضي (¬1) حجة معي" (¬2). عمرة التنعيم: عن عبد الرحمن بن أبي بكر: أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: "أردف أُختك عائشة فَأعْمرها من التنعيم، فإِذا هبطت الأكَمة فمُرها فلتُحرم؛ فإِنّها عُمرة متقبّلة" (¬3). قال شيخنا -رحمه الله في "الصحيحة" (6/ 260) تحت الحديث (2626) -بحذف-: "وقد أخرجه البخاري (3/ 478)، ومسلم (4/ 35) من طريق أخرى عن عبد الرحمن بن أبي بكر مختصراً. وكذلك أخرجاه من حديث عائشة نفسها. وفي رواية لهما عنها قالت: فاعتمرت، فقال: هذه مكان عمرتك". وفي أخرى بنحوه قال: "مكان عمرتي التي أدركني الحج ولم أحْلِلْ منها". وفي أخرى: "مكان عمرتي التي أمسكت عنها". وفي أخرى: "جزاءً بعمرة الناس التي اعتمروا". رواها مسلم. وفي ذلك إِشارة إِلى سبب أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها بهذه العمرة بعد الحج، وبيان ذلك: ¬

_ (¬1) أي: تقوم مقامها في الثواب. "شرح النووي". (¬2) أخرجه البخاري: 1863، ومسلم: 1256. (¬3) أخرجه الحاكم وأحمد وأبو داود وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (2626).

أنها كانت أهلّت بالعمرة في حجتها مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِما ابتداءً أو فسخاً للحج إِلى العمرة (على الخلاف المعروف) (¬1)، فلما قدمتْ (سَرِفَ) -مكان قريب من مكة- حاضت، فلم تتمكن من إِتمام عمرتها والتحلل منها بالطواف حول البيت؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها -وقد قالت له: إِني كنت أهللت بعمرة فكيف أصنع بحجتي؟ - قال: "انقضي رأسك، وامتشطي، وأمسكي عن العمرة، وأهلّي بالحجّ، واصنعي ما يصنع الحاج؛ غير أن لا تطوفي ولا تصلّي حتى تطهري (وفي رواية: فكوني في حجّك، فعسى الله أن يرزقكيها) ". ففعلت، ووقفت المواقف، حتى إِذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، وقال لها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. -كما في حديث جابر-: "قد حللتِ من حجَّك وعمرتك جميعاً"، فقالت: يا رسول الله! إِنّي أجد في نفسي؛ أنّي لم أطف بالبيت حتى حججت، وذلك يوم النفر، فأبت، وقالت: أيرجع الناس بأجرين وأرجع بأجر؟ وفي رواية عنها: يصدر الناس بنسكين وأصدُر بنسك واحد؟! (وفي أخرى: يرجع الناس (وعند أحمد (6/ 219): صواحبي، وفي أخرى له (6/ 165 و266): نساؤك بعمرة وحجة، وأرجع أنا بحجة؟!). وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً سهلاً إِذا هويت الشيء تابعَها عليه، فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن، فأهلت بعمرة من التنعيم. فقد تبيّن مما ذكرنا من هذه الروايات -وكلها صحيحة- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنما أمرها بالعمرة عقب الحج بديل ما فاتها من عمرة التمتع بسبب حيضها، ولذلك قال العلماء في تفسير قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتقدّم: "هذه مكان عمرتك": أي: ¬

_ (¬1) ورجّح شيخنا -رحمه الله- الأول، وانظر المصدر المذكور -إِن شئت-.

العمرة المنفردة التي حصل لغيرها التحلل منها بمكة، ثمّ أنشأوا الحج مفرداً. إِذا عرفْتَ هذا؛ ظهر لك جليّاً أنّ هذه العمرة خاصة بالحائض التي لم تتمكن من إِتمام عمرة الحج، فلا تشرع لغيرها من النساء الطاهرات، فضلاً عن الرجال. ومن هنا يظهر السرّ في إِعراض السلف عنها، وتصريح بعضهم بكراهتها، بل إِنّ عائشة نفسها لم يصحّ عنها العمل بها، فقد كانت إِذا حجّت تمكث إِلى أن يهلّ المحرم ثمّ تخرج إِلى الجُحْفَةِ فتحرم منها بعمرة، كما في "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (26/ 92). وقد أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 344) بمعناه عن سعيد بن المسيب: أنّ عائشة -رضي الله عنها- كانت تعتمر في آخر ذي الحجة من الجحفة. وإسناده صحيح. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "الاختيارات العلمية" (ص 119): "يكره الخروج من مكة لعمرة تطوّع، وذلك بدعة لم يفعله النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا أصحابه على عهده، لا في رمضان ولا في غيره، ولم يأمر عائشة بها، بل أذن لها بعد المراجعة؛ تطييباً لقلبها، وطوافه بالبيت أفضل من الخروج اتفاقاً، ويخرج عند من لم يكرهه على سبيل الجواز". وهذا خلاصة ما جاء في بعض أجوبته المذكورة في "مجموع الفتاوى" (26/ 252 - 263)، ثمّ قال (26/ 264): "ولهذا كان السلف والأئمة ينهون عن ذلك، فروى وسعيد بن منصور في "سننه" عن طاوس -أجلّ

أصحاب ابن عباس- قال: "الذين يعتمرون من التنعيم؛ ما أدري أيؤجزون عليها أم يعذبون؟! قيل: فلِمَ يعذبون؟! قال: لأنّه يَدَع الطواف بالبيت، ويخرج إِلى أربع أميال ويجيء، وإلى أن يجيء من أربعة أميال [يكون] قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء". وأقرّه الإِمام أحمد. وقال عطاء بن السائب: "اعتمرنا بعد بالحج، فعاب ذلك علينا سعيد ابن جبير". وقد أجازها آخرون، لكن لم يفعلوها ... ". وقال ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (1/ 243): "ولم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عُمره عمره واحدة خارجاً من مكة كما يفعل كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عُمَره كلها داخلاً إِلى مكة، وقد أقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة، لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجاً من مكة في تلك المدة أصلاً، فالعمرة التي فعَلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشرعها فهي عمرة الداخل إِلى مكة، لا عمرة من كان بها فيخرج إِلى الحل ليعتمر. ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إِلا عائشة وحدها من بين سائر من كان معه؛ لأنّها كانت قد أهلّت بالعمرة فحاضت، فأمرها فأدخلت الحج على العمرة وصارت قارنة، وأخبرها أنّ طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة وقع عن حجّتها وعمرتها، فوجدت في نفسها أن ترجع صواحباتها بحجّ وعمرة مستقلين -فإِنهن كنّ متمتعات ولم يحضْنَ ولم يَقْرِنّ- وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يُعْمِرَها من التنعيم تطييباً لقلبها، ولم يعتمر هو من التنعيم في تلك الحجة ولا أحد ممن كان معه".

العمرة الرجبية!

العمرة الرَّجَبِيَّة! لم يَرد دليل في تخصيص العمرة في رجب، ويجوز من غير تخصيص؛ كما هو الشأن في سائر الشهور، لكن هناك من يعظّم العمرة في رجب إِلى حدٍّ كبير ويحرص ألا تفوته، وذلك نابع عن اعتقادِ أجرٍ خاصّ! عن مجاهد قال: "دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد؛ فإِذا عبد الله بن عمر جالس إِلى حُجْرة عائشة، والنّاس يُصلّون الضحى في المسجد، فسألناه عن صلاتهم؟ فقال: بدعة (¬1). فقال له عروة: يا أبا عبد الرحمن! كم اعتمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: أربع عُمَر، إِحداهُنَّ في رجب. فكرهنا أنْ نكذّبه ونرُدَّ عليه، وسمعنا اسْتِنان عائشة في الحجرة، فقال عروة: ألا تسمعين يا أمّ المؤمنين! إِلى ما يقول أبو عبد الرحمن؟! فقالت: وما يقول؟ قال: يقول: اعتمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع عمرٍ إِحداهنّ في رجب؟ فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن! ما اعتمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قطّ! " (¬2). وهذا لا يعني المنع في ضوء ما سبق في كلامي من جواز العمرة في كلّ الشهور، لكن القول بالأجر الخاص لا بد له من دليل خاص كأجر العمرة في رمضان. ¬

_ (¬1) هذا قد حمله القاضي وغيره على أن مراده أن إِظهارها في المسجد والاجتماع لها هو البدعة؛ لا أن أصل صلاة الضحى بدعة ... والله أعلم. "نووي". (¬2) أخرجه البخاري: 1776، 1777، ومسلم: 1255.

العمرة عن الرجل الذي لا يستطيع:

العمرة عن الرجل الذي لا يستطيع (¬1): عن أبي رزين العقيلي: "أنّه أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إِن أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظَّعْنَ؟ قال: "حُجَّ عن أبيك واعتمِر" (¬2). قال أبو عيسى -رحمه الله-: "هذا حديث حسن صحيح، وإنما ذُكرت العمرة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث: أن يعتمر الرجل عن غيره. وأبو رزين العقيلي اسمه: لَقِيطُ بن عامر". فضائل المدينة النبويّة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِن الإِيمان ليأرِزُ (¬3) إِلى المدينة، كما تأرز الحية إِلى جحرها" (¬4). فضل الموت بالمدينة النبوية: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها؛ فإِني أشفع لمن يموت بها" (¬5). ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "سنن النسائي". (¬2) أخرجه ابن ماجه، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (738). (¬3) يأرز: أي: ينضمّ إِليها ويجتمع بعضه إِلى بعض فيها". "النهاية". (¬4) أخرجه البخاري: 1876، ومسلم: 147. (¬5) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (3076)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2526).

استحباب شد الرحال إلى المساجد الثلاثة:

وعن عمر أنّه قال: "اللهمّ! ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك" (¬1). قلت: وقد كان ذلك بحمد الله -تعالى- وتوفيقه (¬2). استحباب شدّ الرحال إِلى المساجد الثلاثة: عن أبي هريرة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تشدّ الرحال إِلا إِلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومسجد الأقصى" (¬3). وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: "قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلت: ثمّ أيّ؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثمّ أينما أدركتك الصلاة بعد فصلّه؛ فإِن الفضل فيه" (¬4). فضل الصلاة في المسجد النبوي: عن جابر -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه؛ إِلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1890. (¬2) وانظر "صحيح البخاري" برقم (3700) (باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان؛ وفيه مقتل عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-. (¬3) أخرجه البخاري: 1189، ومسلم: 1397. (¬4) أخرجه البخاري: 3366، ومسلم: 520. (¬5) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1155)، وتقدّم.

فوائد متعلقة بالمسجد النبوي الشريف:

فوائد متعلّقة بالمسجد النبوي الشريف: 1 - لا يجوز شدّ الرّحال إِلى قبر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ للحديث المتقدّم: "لا تشدّ الرحال إلاَّ إِلى ثلاثة مساجد ... ". 2 - لا يجوز التقبيل أو التمسح بالقبر الشريف. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً (¬1)، وصلّوا عليّ؛ فإِن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" (¬2). 3 - إِذا بلغ المرء قبر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبيه -رضي الله عنهما-، قال: "السلام عليك يا رسول الله! ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا أبا بكر! السلام عليك يا عمر! كما كان ابن عمر يفعل، فإِن زاد شيئاً يسيراً مما يُلْهَمُهُ ولا يلتزمه؛ فلا بأس -إِن شاء الله تعالى-" (¬3). فضل ما بين القبر والمنبر (¬4): عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما بين بيتي ومنبري ¬

_ (¬1) قال ابن القيم -رحمه الله-: " .. نهي لهم أن يجعلوه مجمعاً، كالأعياد التي يقصد الناس الاجتماع إِليها للصلاة، بل يزار قبره -صلوات الله وسلامه عليه- كما كان يزوره الصحابة -رضوان الله عليهم- على الوجه الذي يرضيه ويحبه، -صلوات الله وسلامه عليه-". "عون" (6/ 23). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1796)، وأحمد، وانظر "المشكاة" (926)، و"تحذير الساجد" (ص 96). (¬3) انظر "مناسك الحج والعمرة" (ص 58). (¬4) هذا العنوان من "صحيح البخاري".

لا يصح أن نقول: حرم المقدس أو حرم الخليل.

روضة من رياض الجنّة، ومنبري على حوضي" (¬1). لا يصح أن نقول: حرم المقدس أو حرم الخليل. جاء في "مجموع الفتاوى" (26/ 117): "وليس في الدنيا حرم -لا بيت المقدس، ولا غيره إلاَّ هذان الحرمان، ولا يسمى غيرهما حرماً كما يسمي الجهال، فيقولون: حرم المقدس، وحرم الخليل؛ فإِن هذين وغيرهما ليسا بحرم باتفاق المسلمين، والحرم المجمع عليه: حرم مكة، وأمّا المدينة فلها حرم أيضاً عند الجمهور، كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث: إِلا في "وَجٍّ"، وهو وادٍ بالطائف، وهو عند بعضهم حرم، وعند الجمهور ليس بحرم". استحباب إتيان مسجد قباء والصلاة فيه: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً" (¬2). وعن سهل بن حُنيف قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من تطهر في بيته، ثمّ أتى مسجد قباء، فصلّى فيه صلاة؛ كان له كأجر عمرة" (¬3). مشاركة حاضري المسجد الحرام في الجمع والقصر: قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (26/ 168): "ومن سُنَّة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1196، ومسلم: 1390. (¬2) أخرجه البخاري: 1193، ومسلم: 1399. (¬3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1160)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (675).

استحباب التعجيل إلى الأهل:

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنّه جمع بالمسلمين جميعهم بعرفة بين الظهر والعصر، وبمزدلفة بين المغرب والعشاء، وكان معه خلق كثير ممن منزله دون مسافة القصر من أهل مكة وما حولها، ولم يأمر حاضري المسجد الحرام بتفريق كل صلاة في وقتها، ولا أن يعتزل المكيّون ونحوهم فلم يصلوا معه العصر، وأن ينفردوا فيصلوها في أثناء الوقت دون سائر المسلمين؛ فإِن هذا مما يعلم بالاضطرار -لمن تتبع الأحاديث- أنه لم يكن، وهو قول مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، وعليه يدل كلام أحمد". استحباب التعجيل إِلى الأهل: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "السفر قطعة من العذاب؛ يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإِذا قضى نَهْمَتَهُ (¬1)؛ فليُعجِّل إِلى أهله" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا قضى أحدكم حجه؛ فليُعجِّل إِلى أهله؛ فإِنّه أعظم لأجره" (¬3). ¬

_ (¬1) النّهْمَة: بلوغ الهمّة في الشيء. "النهاية". (¬2) أخرجه البخاري: 1804، ومسلم: 1927. (¬3) أخرجه الدارقطني، والحاكم، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (1379).

الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الجزء الخامس كتاب النكاح والطلاق والحضانة بقلم حسين بن عودة العوايشة المكتبة الإسلامية دار ابن حزم

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1425 هـ - 2004 م الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها المكتبة الإسلامية ص ب: (113) الجبيهة؛ هاتف 5342887 عمَّان - الأردن دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص ب: 6366/ 14 - تليفون: 701974

الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

بسم الله الرحمن الرحيم

النكاح

النِّكاح

النكاح

النِّكاح تعريفه -في اللغة-: الضمّ والتداخُل (¬1). وفي الشرع: التزويج وربُّما عُبِّر به عن الغِشْيان نفسه (¬2). التَّرغيب في النكاح (¬3): لقد رغَّب الإِسلام في الزواج بصورٍ مُتعدِّدة للترغيب: فتارة يذكر أنَّه من سُنن الأنبياء، وهَدْي المرسلين، وأنّهم القادة الذين يجب علينا أن نقتدي بهُداهم: {ولقد أَرْسَلنا رُسُلاً من قَبْلِك وجَعَلنا لهم أزواجاً وذُرِّيَّة} (¬4). وتارةً يذكره في معرض الامتنان: {واللهُ جَعَلَ لكُم مِنْ أَنْفُسكُم أزواجاً وجَعَلَ لكم من أزواجكم بَنِينَ وحَفَدَةً وَرَزَقَكم من الطيِّبات} (¬5). وأحياناً يتحدّث عن كونه آيةً من آيات الله: {ومن آياته أن خَلَقَ لَكُم من أَنْفُسِكم أزواجاً لِتَسْكُنُوا إِليها وجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً ورَحْمَة إِنَّ في ذلك ¬

_ (¬1) "فتح" (9/ 103). (¬2) "حلية الفقهاء" (ص 165). (¬3) عن "فقه السُّنّة" (2/ 326) بتصرّف. (تنبيه): من هذا العنوان حتى آخر كتابي "الموسوعة الفقهية"؛ سأعتمد -إِن شاء الله تعالى- في عَزْوِي إلى "فقه السنة" -طبعة "الفتح للإِعلام العربي"- مصر. (¬4) الرعد: 38. (¬5) النحل: 72.

لآياتٍ لقوم يتفكرون} (¬1). وقد يتردّد المرء في قَبول الزواج، فيُحْجِمُ عنه؛ خوفاً من الاضطلاع بتكاليفه، وهروباً من احتمال أعبائه، فَيَلْفِتُ الإِسلام نظره إِلى أنّ الله سيجعل الزواج سبيلاً إِلى الغنى، ويمده بالقوة، التي تجعله قادراً على التغلُّب على أسباب الفقر: {وأَنْكِحُوا الأَيَامَى (¬2) مِنْكُمْ والصَّالِحين من عِبَادكُمْ (¬3) وإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِه (¬4) واللهُ واسعٌ عليم} (¬5). عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثة حقٌّ على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتَب (¬6) الذي يريد الأداء، والناكح الذي ¬

_ (¬1) الروم: 21. (¬2) الأيامى: جمع أيّم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا زوجة له، وسواء كان قد تزوج ثمّ فارق، أو لم يتزوج واحد منهما. حكاه الجوهرى عن أهل اللغة، يقال: رجل أيّم، وامرأة أيّم أيضاً. "تفسير ابن كثير". (¬3) أي: عبيدكم. (¬4) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: رغبهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعَدهم عليه الغنى، فقال: {إِنْ يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}. "تفسير ابن كثير". (¬5) النور: 32. (¬6) المكاتَب: من الكتابة: وهي أن يكاتِب الرجل عبده على مال يؤدّيه إِليه مُنجْماً، فإِذا أدّاه صار حرّاً، وسُمّيت كتابة لمصدر كَتَب، كأنه يكْتُب على نفسه لمولاه ثمنه، ويكتب مولاه له عليه العِتق، وقد كاتبه مُكاتبة، والعبد مكاتَب. وانظر "النهاية".

يريد العفاف" (¬1). وجاء في "سنن النسائي": (باب معونَةِ اللهِ الناكحَ الذي يُريد العفاف (¬2)) وذكر الحديث السابق. وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة" (¬3). وعن ثوبان قال: لمّا نزلت: {والذين يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ} (¬4)، قال: كنّا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره، فقال بعض الصحابة: أُنزلت في الذهب والفضة، لو عَلِمنا أيُّ المال خيرٌ فَنتَّخِذَهُ؟ فقال: "أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تعينه على إِيمانه" (¬5). ْوعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مِن سعادة ابن آدم ثلاثة، ومِن شِقْوَةِ ابن آدم ثلاثة. مِن سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح. ومِن شِقْوة ابن آدم: المرأة السوء، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1352)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2041)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3017)، وانظر "غاية المرام" (210). (¬2) انظر "صحيح سنن النسائي" (2/ 677). (¬3) أخرجه مسلم: 1467. (¬4) التوبة: 34. (¬5) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2470)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1505)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1913).

والمسكن السوء، والمركب السوء" (¬1). وعنه -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاث من السَّعادة: المرأة تراها تعجبك، وتغيب عنها فتأمنها على نفْسها ومالك، والدابّة تكون وَطِيئةً، فتُلحِقُك بأصحابك، والدار تكون واسعة كثيرة المرافق. وثلاث من الشقاء: المرأة ترأها فتسوؤك، وتحمل لسانها عليك، وإنْ غِبت لم تأمنها على نفسها ومالك، والدابّة تكون قَطُوفاً (¬2)، فإِن ضربتها أتعبتك، وإِن تركتها لم تُلْحِقْك بأصحابك، والدار تكون ضيّقة قليلة المرافق" (¬3). وعن أنس -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي" (¬4). وفي رواية: "إِذا تزوّج العبد؛ فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد بإِسناد صحيح، والطبراني وغيرهما، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1914)، و"الصحيحة" (1047). (¬2) القَطُوف من الدواب: التي تُسيء السير وتُبطئ، وقد يوصف بها الإنسان فيقال: هذا غلام قطوف. "الوسيط". (¬3) أخرجه الحاكم وغيره، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1915)، وانظر "الصحيحة" (1047). (¬4) أخرجه الطبراني في "الأوسط" وغيره، وحسنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1916)، وانظر "الصحيحة" تحت الحديث (625). (¬5) أخرجه البيهقي، وحسنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب =

حكم الزواج:

حُكم الزواج: يجب الزواج على كل شخص يخشى العنَت -وهو الوقوع في الزنى والفجور-. عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة (¬1) فليتزوج، فإِنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإِنه له وجاء (¬2) " (¬3). ¬

_ = والترهيب" (1916). (¬1) قال النووي -رحمه الله-: "واختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين، يرجعان إِلى معنى واحد، أصحهما أن المراد معناها اللغوي، وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مُؤَنِهِ، وهي مُؤَنُ النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه؛ فعليه بالصوم ليدفع شهوته، ويقطع شرَّ منيِّه كما يقطعه الوجاء. وعلى هذا القول؛ وقع الخطاب مع الشبَّان الذين هم مَظِنَّة شهوة النساء، ولا ينفكّون عنها غالباً. والقول الثاني: أن المراد هنا بالباءة مُؤَنُ النكاح، سُمّيت باسم ما يلازمها. وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطعها فليصم؛ ليدفع شهوته. والذي حمل القائلين بهذا على أنهم قالوا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. "ومن لم يستطع فعليه بالصوم"، قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إِلى الصوم لدفع الشهوة، فوجب تأويل الباءة على المؤن. وأجاب الأولون بما قدّمناه في القول الأول وهو أن تقديره من لم يستطع الجماع؛ لعجزه عن مؤنه وهو محتاج إلى الجماع؛ فعليه بالصوم. والله أعلم". (¬2) جاء في "النهاية": "الوجَاء: أن تُرَضّ أنثيا الفحل رضّاً شديداً يُذهب شهوة الجماع ... ". وفي "الفتح" (9/ 110): " ... وجأه بالسيف: إِذا طعنه به؛ ووجأ أنثييه؛ غمزهما حتى رضّهما". وقال النووي -رحمه الله-: "المراد هنا: أنّ الصوم يقطع الشهوة، ويقطع شر المنيّ كما يفعله الوجاء". (¬3) أخرجه البخاري: 5066، ومسلم: 1400.

الزواج الحرام:

قال الحافظ ابن كثير بعد قوله -تعالى-: {وأنكحوا الأيامى ... }: "وقد ذهب طائفة من العلماء إِلى وجوبه، على كلّ من قدر عليه، واحتجوا بظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا معشر الشباب ... " ... ". ومن لم يستطع الباءة التي تقدّم ذِكرها فعليه بالصوم؛ لحديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- المتقدّم: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإِنّه له وجاء". الزواج الحرام (¬1): يحرُم الزواج في حق من يُخِلّ بالزوجة في الوطء والإِنفاق، مع عدم قدرته عليه وتَوَقَانِهِ إِليه، قال الطبري: فمتى علم الزوج أنّه يعجز عن نفقة زوجته، أو صَداقها، أو شيء من حقوقها الواجبة عليه، فلا يحلّ له أن يتزوجها، حتى يُبيّن لها، أو يعلم من نفسه القدرة على أداء حقوقها. وكذلك لو كانت به علة تمنعه من الاستمتاع، كان عليه أن يبيّن؛ كيلا يغرَّ المرأة من نفسه، وكذلك لا يجوز أن يغرّها بنسب يدّعيه؛ ولا مال ولا صناعة يذكرها وهو كاذب فيها. وكذلك يجب على المرأة، إِذا علِمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج، أو كان بها علّة تمنع الاستمتاع؛ من جنون، أو جذام، أو برص، أو داءٍ في الفرج، لم يجُز لها أن تغرّه، وعليها أن تبيّن له ما بها في ذلك، كما يجب على بائع السلعة أن يبيّن ما بسلعته من العيوب. ¬

_ (¬1) هذا العنوان وما يتضمّنه من "فقه السُّنّة" (2/ 334) بتصرّف.

النهي عن التبتل للقادر على الزواج:

ومتى وجَد أحد الزوجين بصاحبه عيباً، فله الردّ، فإِنْ كان العيب بالمرأة ردّها الزوج، وأخذ ما كان أعطاها من الصَّداق. وسألتُ شيخنا -رحمه الله-: إِذا اكتشف الرجل عيباً بالمرأة يمنعه الاستمتاع، فهل له أخْذ ما أعطاها من الصّداق؟ فأجاب -رحمه الله-: إِذا جامعها؛ لا، وإِذا لم يجامعها فله ذلك. النهي عن التبتّل (¬1) للقادر على الزواج: عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: "ردّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عثمان بن مظعون التبتل (1)، ولو أذِن له لاختصينا" (¬2). هل يقدّم الزواج على الحجّ؟ إِذا احتاج الشخص إِلى الزواج وخشي العنت؛ فإِنه يقدّمه على حجّة الإِسلام التي تجب عليه، وإلا قدّم الحجّ عليه. ¬

_ (¬1) قال النووي -رحمه الله-: "قال العلماء: التبتل هو الانقطاع عن النساء وترك النكاح؛ انقطاعاً إِلى عبادة الله. وأصل التبتل القطع، ومنه: مريم البتول، وفاطمة البتول؛ لانقطاعهما عن نساء زمانهما ديناً وفضلاً ورغبة في الآخرة. ومنه صدقة بتلة؛ أي: منقطعة عن تصرف مالكها. قال الطبري: التبتل هو ترك لذَّات الدنيا وشهواتها، والانقطاع إِلى الله -تعالى- بالتفرغ لعبادته. وقوله: "رد عليه التبتل" معناه: نهاه عنه. وهذا عند أصحابنا محمول على من تاقت نفسه إِلى النكاح ووجد مؤنه، وعلى من أضرّ به التبتل بالعبادات الكثيرة الشاقّة. أمّا الإِعراض عن الشهوات واللذات؛ من غير إِضرار بنفسه، ولا تفويت حق لزوجة ولا غيرها؛ ففضيلة ... ". (¬2) أخرجه البخاري: 5073، ومسلم: 1402.

في ذم العشق:

عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "غزا نبيٌّ من الأنبياء، فقال لقومه: لا يَتبعْني رجل قد ملَك بُضع (¬1) امرأة وهو يُريد أن يبنيَ بها ولمّا يَبْنِ بها، ولا آخرُ قد بنى بُنياناً ولمّا يرفَعْ سقُفَها ... " (¬2). جاء في "الصحيحة" تحت هذا الحديث (202): "قال ابن المنيِّر: يستفاد منه الردّ على العامّة في تقديمهم الحجّ على الزواج، ظنّاً منهم أنّ التعفّف إِنّما يتأكّد بعد الحجّ، بل الأولى أن يتعفّف ثمّ يحجّ". وسألتُ شيخنا -رحمه الله-: هل يقدّم الزواج على الحج؟ فأجاب: إِذا خشي العنَت قدّمه، وإلا فلا. في ذمِّ العِشْق: قال ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (4/ 265) -بحذف-: "هذا مرض من أمراض القلب، مخالف لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعلاجه، وإذا تمكّن واستحكم، عزّ على الأطباء دواؤه، وأعْيَا العليلَ داؤُه، وإنما حكاه الله -سبحانه- في كتابه عن طائفتين من النّاس؛ من النّساء، وعُشّاق الصبيان المُردان، فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسف، وحكاه عن قوم لوط، فقال -تعالى- إِخباراً عنهم لمّا جاءت الملائكة لوطاً: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (¬3). ¬

_ (¬1) البُضع: فرج المرأة. (¬2) أخرجه مسلم: 1747. (¬3) الحجر: 67 - 72.

نعم؛ كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحبُّ نِساءه، وكان أحبهنّ إِليه عائشة -رضي الله عنها- ولم تكن تبلُغُ محبتُه -لها ولا لأحد سوى ربه- نهايةَ الحبّ. وعِشق الصور إِنما تُبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله -تعالى-، المُعرضة عنه، المتعوّضة بغيره عنه، فإِذا امتلأ القلب من محبة الله والشوق إِلى لقائه، دفع ذلك عنه مَرَضَ عِشْق الصور، ولهذا قال -تعالى- في حقّ يوسف: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إِنّه من عبادنا المُخلَصين} (¬1)، فدل على أن الإِخلاص سبب لدفع العشق؛ وما يترتّب عليه من السوء والفحشاء التي هي ثمرته ونتيجته، فصرف المسبَّب صرف لسَبَبِهِ، ولهذا قال بعض السلف: العشق حركة قلب فارغ، يعني: فارغاً مما سوى معشوقه. قال -تعالى-: {وأصبح فؤاد أمّ موسى فارغاً إِن كادت لتبدي به} (¬2) أي: فارغاً من كل شيء إِلا من موسى؛ لِفَرْطِ محبتها له، وتعلّق قلبها به. والمحبة أنواع متعددة: فأفضلها وأجلها: المحبة في الله ولله، وهي تستلزم محبة ما أحبّ الله، وتستلزم محبة الله ورسوله. ومنها: محبة الاتفاق في طريقةٍ، أو دينٍ، أو مذهب، أو نِحلة، أو قرابة، أو صناعة، أو مرادٍ ما. ومنها: محبة لنيل غرض من المحبوب، إِمّا مِن جاهه أو من ماله أو مِن تعليمه وإرشاده، أو قضاء وَطَرٍ منه، وهذه هي المحبة العَرَضِيَّةُ التي تزول بزوال مُوجِبِها، فإِنَّ مَنْ ودَّك لأمرٍ ولّى عنك عند انقضائه. ¬

_ (¬1) يوسف: 24. (¬2) القصص: 11.

وأمّا محبةُ المشاكلة والمناسبة التي بين المحب والمحبوب، فمحبة لازمة لا تزول إِلا لعارض يُزيلها، ومحبة العشق من هذا النوع، فإِنها استحسان روحاني، وامتزاج نفساني، ولا يَعْرِضُ في شيء من أنواع المحبة -من الوسواس والنحول، وشغل البال، والتلف- ما يَعْرِضُ من العشق". انتهى. قلت: وبهذا؛ فالعِشق مَشْغَلةٌ عن الله -سبحانه- الذي ينبغي أن يكون أحبَّ إِليك من نفسك ومالك والناس أجمعين. وهو عذابٌ لا يُؤجر المرء عليه، وقد يدفع بعضَ الناس إِلى الشرك بالله، وتقديم ذلك المحبوب على الله -تعالى- أو رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولو قيل لبعضهم: لو طُلب منك الكُفر لِنَيْلِ محبوبك، أكنتَ فاعلَهُ؟ لقال: نعم! نعوذ بالله -تعالى- من الخِذلان. قال الشاعر: فما في الأرض أشقى من مُحِبٍّ ... وإِنْ وجَدَ الهوى حُلْوَ المذاقِ تراه باكياً في كلّ حينٍ ... مخافةَ فُرقةٍ أو لاشتياقِ والعِشق يوقع صاحبه في الذُّل؛ فإِنه لا يرضى إِلا بالمعشوق، فكلما تقدّم الخُطّاب -ومهما كانوا متحلّين بحُسن الدين والخُلُق-؛ كان الكذب في إِبداء المعاذير وردّهم. وخيرُ ما يفعله الشابُّ أو الشابّة؛ عدم التعلّق بمعشوق، والجِدّ والمثابرة في النكاح الصحيح؛ في ضوء قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه" (¬1). مع إضافة ما يمكن الحصول عليه من الرغبة في الجمال ونحوه. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه -إِن شاء الله تعالى-.

الرغبة عن الزواج:

وأنت تَرى أنّ كلّ عاشق يزعم أن عشيقته هي ملكة الجمال في كلّ من خلَق الله -تعالى- من نساء الأرض! وذلك لأنه صادف قلباً خالياً فتمكّن؛ كما في قول الشاعر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكّنا فليت أوّل لحظة من هذا تكون في فتاة فاضلة، بعد خِطبة شرعيّة وموافقة من الوليّ؛ ليكون تعلّقهما صحيحاً، وبذا يشعران بالغبطة والحبور والسرور والسعادة؛ عند المحادثة وعند اللقاء ونحو ذلك، فحَذارِ أن تعيش في سراب، ولا تتخيّر العذاب! جعلني الله وإِياك من أولي الألباب. ومع رغبتي في الإِفاضة في الموضوع؛ أكتفي بهذا، ففي هذا ذكرى و {الذكرى تنفع المؤمنين} (¬1). الرغبة عن الزواج: ومن المصائب الكُبرى التي ابتُلِيَتْ بها أمّتنا؛ الاستهتار بالنكاح، ولا تجدُ ثمّة تفكير عند الشباب فيه، والأسباب كثيرة؛ من أبرزها الحرص على الحصول على الشهادة -ولا أقول: الحرص على تلقّي العلم-، والكلام في هذا يطول، ولكن ملخّصه: إِنّ مناهج الحياة قد صُنعت لنا وفُرضت علينا من قِبَل الكَفرة والمشركين، وحَرص كثير من الناس على أخْذها بحبّ وقناعة، ومن ذلك النظام التعليمي، فالشباب والشابّات قد أَقْصَوْا عن تفكيرهم أمر الزواج؛ حتى يُنْهوا الدراسة الجامعية، واشترط بعضهم التخصص! واشترط كثيرٌ منهم ممارسة العمل والحصول ¬

_ (¬1) الذاريات: 55.

على الأموال الكثيرة، وماذا يكون من شأنهم وشأنهنّ خلال فترة الدراسة؟! أَيَقْضُونَهَا في غَضِّ بصرٍ وحِفْظ فرجٍ، أم صومٍ ليكون لهم وجاءً؟! وهناك من يلجأ إِلى الاستمناء (العادة السرية) ليطفئ حرارة شهوته. وقال لنا شيخنا -رحمه الله- في بعض مجالسه: العادة السرّية [الاستمناء] حرام، ولو خشي الزنى، والحَلُّ هو الزواج! وتلا قوله -تعالى-: { ... فَمَن ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلكَ فأولئِك هُمُ العَادُون} (¬1). أقول: إِنّ في بلاد الكُفر إِباحة جنسية، ففي السنة السادسة الدراسية؛ تُدرّس الموادّ الجنسية، مع التطبيق العملي والوسائل المُعِينَةِ في ذلك! الجنس مُشاعٌ ميسَّر في كل وقت؛ فهم لا يعرفون الحرام. فكيف بنا نقلّدهم؟ ونكبِتُ الشباب والشابّات -هذا للعفيفين والعفيفات-؟! أما من ضعُف إِيمانه؛ فلا يسأل كيف يقضي شهوته؟ وبذلك تكون المعاهد والمجتمعات ملتقى العُشّاق والفُسَّاق!! كل هذا، وهذه التخصّصات الدراسية والعلمية؛ لم تُؤتِ أكُلها كما ينبغي، وكثير من الرّجال والنساء حصلوا على الشهادات، وأَنْهَوْا دراساتهم، ولكنْ هم أنفسهم على قناعةٍ أنهم لم يُفِيدُوا من دراساتهم ما يستحقّ الذِّكر. ولكن أصبح من المُخزي -زعموا- ألا يُدرِّس الرجلُ ولدَه أو ابنتَهُ، وأمسى الرياءُ، وحبُّ الظهور، ومداراةُ المجتمع أمراً بيِّناً جليّاً. وأرجو أن يُيسَّر لهذه الأمّة من يجمع بين العِلم النافع وتيسير النكاح. ¬

_ (¬1) المؤمنون: 7، المعارج: 31.

اختيار الزوجة:

وعلى كلّ حال: أريد أن أُذكّر بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مِن حُسن إِسلام المرء ترْكه ما لا يعنيه" (¬1). فالإِنسان مسؤول أمام الله -تعالى- عن إِضاعة الوقت، وعن تأخير الزواج، وعن إِيقاع نفسه في الفتنة. ولعلّنا نستطيع أن نتّخذ الشهادة والدراسة حُجَّةً أمام الناس. أمّا أمام الله -تعالى- فلا، وقد قال -سبحانه-: {بَل الإِنْسَانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلقَى مَعَاذِيرَهُ} (¬2). اختيار الزّوجة: ومَنْ أقبَلَ على النكاح؛ فعليه أن يتحرّى في اختياره الزوجة ما يأتي: 1 - أن تكون ذات دين؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولِحسبها (¬3)، ولجمالها، ولدينها، فأظفر بذات الدين تربت يداك (¬4) " (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1886)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (3211)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "العقيدة الطحاوية" (268). (¬2) القيامة: 14 - 15. (¬3) "أي: لشرفها، والحسب في الأصل: الشرف بالآباء وبالأقارب، مأخوذ من الحساب، لأنهم كانوا إِذا تفاخروا عدّوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها؛ فيُحكم لمن زاد عدده على غيره ... ". "فتح" (9/ 135). (¬4) "تربت يداك؛ أي: لصقتا بالتراب، وهي كناية عن الفقر، وهو خبر بمعنى الدعاء، لكن لا يُراد به حقيقته ... ". "فتح". (¬5) أخرجه البخاري: 5090، ومسلم: 1466.

وفي الحديث: "الحسب: المال" (¬1). وفي رواية: "إِنّ أحساب النّاس بينهم هذا المال" (¬2). 2 - أن تكون وَلُوداً وَدُوداً: لحديث معقل بن يسار -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تزوّجوا الوَدُودَ الوَلوُدَ، فإِني مُكاثر بكم الأمم" (¬3). 3 - أن تكون حانية على ولدها، وراعية على زوجها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خير نساء ركبن الإِبل: صالحُ (¬4) نساءِ قريش، أحناه (¬5) على ولد في صِغره، وأرعاه على زوج (¬6) في ذات يد" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1870). (¬2) انظر "الإِرواء" (1871). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1805)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3026)، والحاكم، وانظر "الإِرواء" (1784)، و"آداب الزفاف" (ص 132). (¬4) قال الحافظ -رحمه الله-: "المراد بالصلاح هنا: صلاح الدين وحُسن المخالطة مع الزوج ونحو ذلك". (¬5) الحانية: التي تقيم على ولدها، ولا تتزوّج شفقة وعطفاً. "النهاية". (¬6) "أرعاه على زوج؛ أي: أحفظ وأصون لماله بالأمانة فيه، والصيانة له وترك التبذير في الإِنفاق". "فتح". (¬7) أخرجه البخاري: 5082، ومسلم: 2527.

وهذا -وما قبله من معرفتها وَدُوداً وَلُوداً- إِنما يتمُّ بالاستفسار عن بيئتها وأهل بيتها. وفي بعض مجالس شيخنا -رحمه الله- كان أحد الإِخوة من المغرب يتكلّم مُبالِغاً حول لقاء الخطيبَين وحوارهما ومناقشتهما ... إِلخ فقال له شيخنا -رحمه الله-: كيف تعرف أنها وَلُود، هل تقول لها: هل أنتِ وَلُود؟! قال: لا؛ أسأل عن أمّها وأخواتها، قال شيخنا -رحمه الله-: وكذلك هل تقول لها: هل أنت وَدُود؟! انتهى. قلت: ولا مانع من اللقاء فيما لا بُدَّ منه؛ وممّا فيه مصلحة النّكاح، دون مبالغة وإِسراف. 4 - ويفضّل أن تكون بِكراً: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "هَلَكَ أبي، وترك سبع بنات -أو تسع بنات-، فتزوجتُ امرأة ثيِّباً، فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تزوجتَ يا جابر؟! فقلت: نعم، فقال: بكراً أم ثيّباً؟ قلت: بل ثيّباً، قال: فهلا جارية تُلاعِبها وتُلاعِبك، وتُضاحكهَا وتُضاحكك؟ قال: فقلت له: إِنّ عبد الله هَلَكَ وترك بنات، وإِني كَرِهْتُ أنْ أجِيئهنّ بمثلهن، فتزوجتُ امرأة تقوم عليهن وتُصلحهن، فقال: بارك الله لك -أو خيراً-" (¬1). وللإِنسان اختيار الزوجة الجميلة أو اشتراطها عند النكاح، لأنه يعمل عملَهُ في غضّ البصر وتحصين الفرج. عن عبد الله بن مسعود عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنّ الله جميل يحب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5367، ومسلم: 715.

التقارب في السن:

الجمال" (¬1). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليكم بالأبكار؛ فإِنهنّ أعذبُ أفواهاً، وأنتقُ أرحاماً، وأرضى باليسير" (¬2). التقارُب في السِّنِّ: عن بريدة قال: خطب أبو بكر وعمر فاطمة -رضي الله عنهم-، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنها صغيرة. فخطبها عليّ، فزوّجها منه" (¬3). ولكن؛ لا نجعل هذا التقارُب عائقاً إِن لم يتيسّر؛ فالموازنة في المصالح أمرٌ لا بُدّ منه. وهذا لا يمنع من تزويج الصغيرة من الكبير! واقرأ العنوان الآتي: تزويج الصغار من الكبار (¬4): عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "تزوّجني النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا بنتُ ستِّ سنين، فقدمنا المدينة، فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج، فوُعِكتُ، فتمزّق شعري (¬5)، فوَفَى جُمَيْمَةً (¬6)، فأتتني أمّي أمُّ رومان -وإني لفي أرجوحة ومعي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 91. (¬2) أخرجه ابن ماجه وغيره، وانظر "الصحيحة" (623). (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (3020)، وغيره. (¬4) هذا العنوان من "صحيح البخاري". (¬5) فتمزّق شعري؛ أي: تقطع. "فتح". (¬6) فوفى جُمَيْمَةً؛ أي: كثر. وجُمَيْمَة: مجتمع شعر الناصية، ويقال للشعر إذا سقط على المنكبين: جُمّة. "فتح".

صواحب لي -فصرخَت بي، فأتيتها- لا أدري ما تريد بي؟ -، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأنْهَجُ، حتى سكن بعض نَفَسِي، ثمّ أخذت شيئاً من ماء، فمسحت به وجهي ورأسي، ثمّ أدخلتني الدار، فإِذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائرٍ، فأسلمتني إليهنّ، فأصلحن من شأني، فلم يرُعني إِلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضُحىً، فأسلمتني إِليه، وأنا يومئذ بنت تسع سنين" (¬1). وعنها -رضي الله عنها- أيضاً: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها وهي بنت ست سنين، وأُدخلت عليه وهي بنت تسع، ومكثت عنده تسعاً" (¬2). وفي لفظ عند مسلم (¬3): "ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة". وهذا فيه حكمة بالغة، فليس هناك من اضطرار للصغيرة لانعدام الكبيرات مثلاً، ولكن ليكون حكماً شرعيّاً يُفِيُد منه المسلمون، فتدبّر. واستدلّ البخاري -رحمه الله- على نكاح الصغار بقوله -تعالى-: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬4)، وقال: "فجعَل عدتها ثلاثة أشهر قبل البلوغ" (¬5). قال الحافظ في "الفتح" (9/ 190): "فدلّ على أنّ نكاحها قبل البلوغ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3894، ومسلم: 1422. (¬2) أخرجه البخاري: 5133. (¬3) برقم: 1422. (¬4) الطلاق: 4. (¬5) انظر "صحيح البخاري" (كتاب النكاح) "باب - 38".

أي النساء خير؟

جائز، وهو استنباط حَسَن .. ". وقال لي شيخنا -رحمه الله- عن نكاح الصغار -مجيباً عن سؤالي-: هل المقصود بالصغيرة التي لا تصلح للاستبضاع والتمتّع بها، أم المقصُود التي لم تبلغ سنّ الرُّشد؟ وأنا أُفرِّق بين الأمرين؛ فإِذا كان السؤال متوجهاً إِلى من لا تصلح أن يتمتّع بها الزوج العاقد عليها لصِغَر سنّها؛ فيمكن أن يُقال بأنّ العقد ليس صحيحاً. أمّا إِذا كانت عاقلة وراشدة، لكنها لَمْ تَحِض؛ فعندنا أدلَّة كثيرة على الجواز. أيّ النساء خير؟ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيّ النساء خير؟ قال: "التي تسُرّه إِذا نظر، وتطيعه إِذا أمر، ولا تخالفه فى نفسها ومالها بما يكره" (¬1). اختيار الزوج: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أتاكم مَن ترضون خُلُقه ودينه فزوّجوه، إِلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد عريض" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3030) وغيرهما، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1786). (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي، (866)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1601)، والحاكم وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (1022)، و"الإِرواء" (1868).

عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير:

عرْض الإِنسان ابنتَه أو أختَه على أهل الخير (¬1): عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّ عمر بن الخطاب حين تأيّمت (¬2) حفصة بنت عمر من خُنيس بن حُذافة السهميّ -وكان من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتوفِّي بالمدينة-، فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضتُ عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثتُ لياليَ، ثمّ لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا! قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إِن شئت زوجتُك حفصة بنت عمر، فصَمَتَ أبو بكر، فلم يرجع إِليّ شيئاً، وكنت أَوْجَدَ عليه منِّي على عثمان، فلبثتُ لياليَ، ثمّ خطَبها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأنكحْتُها إِياه، فلقيني أبو بكر، فقال: لعلك وجدتَ عليّ حين عرضتَ عليّ حفصة فلم أرجع إِليك شيئاً (¬3)؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإِنه لم يمنعني أن أرجع إِليك فيما عرضت عليّ إلاَّ أني كنت علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ذكرها، فلم أكن لأُفْشِيَ سِرَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو تركها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلْتُها" (¬4). قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (9/ 178): " ... وفيه أنه لا بأس ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب النكاح) "باب - 33". (¬2) "تأيمّت؛ أي: صارت أيّماً، وهي التي يموت زوجها أو تبين منه وتنقضي عدتها، وأكتر ما تُطْلَق على من مات زوجها، وقال ابن بطال: العرب تُطْلِق على كل امرأة لا زوج لها وكل رجل لا امرأة له أيِّماً". "فتح". (¬3) أي: أعدْ عليك الجواب. "فتح". (¬4) أخرجه البخاري: 5122.

التزيين للتنفيق والترغيب في النكاح:

بعرضها عليه، ولو كان متزوّجاً؛ لأنّ أبا بكر كان حينئذ متزوّجاً". التَّزْيين للتنفيق والتّرغيب في النكاح: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "عَثَرَ أسامةُ بِعَتَبَةِ الباب، فشُجّ في وجهه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أميطي عنه الأذى، فتقذَّرته! فجعل يمصُّ عنه الدم ويمجّه عن وجهه، ثمّ قال: لو كان أسامة جاريةً؛ لحلّيته وكسوته حتى أُنفِّقه" (¬1). وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: "أنّ أباه كتب إِلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهرى؛ يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية، فيسألها عن حديثها، وعمّا قال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين استفتته؟ فكتب عمر بن عبد الله ابن الأرقم إِلى عبد الله بن عتبة، يخبره أن سبيعة بنت الحارث أخبرته: أنها كانت تحت سعد بن خَوْلَةَ -وهو من بني عامر بن لؤي؛ وكان ممن شهد بدراً-، فتوفي عنها في حَجّة الوداع وهي حامل، فلم تَنْشَبْ (¬2) أن وضعت حمْلها بعد وفاته، فلما تعلّت (¬3) من نفاسها تجمّلت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعْكك -رجل من بني عبد الدار-، فقال لها: ما لي أراك تجمّلتِ للخُطّاب؟ تَرْجيِنَ النكاح؟ فإِنك والله ما أنت بناكحٍ، حتى تمرّ عليك ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1607)، وانظر "الصحيحة" (1019). (¬2) فلم تنشب؛ أي: لم تمكث. "نووي". (¬3) أي: ارتفعت وطهُرت. ويجوز أن يكون من قولهم: تعلّى الرجل مِن علّته: إِذا برَأ؛ أي: خَرجَتْ مِن نفاسها وسَلِمت. "النهاية".

صلاة المرأة إدا خطبت واستخارتها ربها:

أربعةُ أشهر وعشر! قالت سُبيعة: فلما قال لي ذلك؛ جمعْتُ عليّ ثيابي حين أمسيت، وأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسألته عن ذلك؛ فأفتاني بأني قد حللتُ حين وضعْت حملي، وأمَرني بالتزوّج إِنْ بدا لي" (¬1). وفي الحديث فوائد فقهية أخرى؛ ساق الحافظُ الكثيرَ الطيّبَ منها؛ كقوله: "وفيه جواز تجمُّل الموأة بعد انقضاء عدّتها لمن يخطُبها، لأنّ في رواية الزهري عند البخاري: فقال: ما لي أراك تجمّلت للخُطّاب؟ وفي رواية ابن إِسحاق: فتهيأتُ للنكاح واختضبت. وفي رواية معمر عن الزهري: وقد اكتحلت". صلاة المرأة إِدْا خُطِبَت واستخارتُها ربَّها (¬2): عن أنس -رضي الله عنه- قال: "لما انقضت عدَّةُ زينب؛ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لزيد: فاذكُرها عليّ؛ قال: فانطلق زيد فقلت: يا زينب! أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكرك. قالت: ما أنا بصانعةٍ شيئاً حتى أُوامِرَ (¬3) ربي! فقامت إِلى مسجدها (¬4)، ونزل القرآن، وجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدخل عليها بغير إِذن" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3991، ومسلم: 1484. (¬2) هذا العنوان من سنن النسائي "صحيح سنن النسائي" (2/ 686). (¬3) أي: أستخيره، وأنظر أمره على لسانِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قاله القرطبي في "المفهم" (4/ 147). (¬4) قال النووي -رحمه الله- (9/ 228): "أي: موضع صلاتها من بيتها. وفيه استحباب صلاة الاستخارة لمن همّ بأمر، سواء كان ذلك الأمر ظاهر الخير أم لا". (¬5) أخرجه مسلم: 1428.

الخطبة

الخِطبة (¬1) الخِطبة: فِعْلة، كقِعدة وجِلسة، يقال: خَطب المرأة يَخْطُبها، خَطْباً وخِطْبَةً، أي: طلبها للزواج بالوسيلة المعروفة بين الناس، ورجل خطّاب: كثير التصرّف في الخطبة، والخطيب، والخاطب، والخطب؛ الذي يخطب المرأة، وهي خطبة، وخطبته، وخطب يخطب: قال كلاماً يعظ به، أو يمدح غيره، ونحو ذلك. والخِطبة من مقدمات الزواج، وقد شرعها الله قبل الارتباط بعقد الزوجية؛ ليتعرّف كلّ من الزوجين صاحبه، ويكون الإِقدام على الزواج على هدى وبصيرة. ماذا يقول إِذا دُعي ليزوِّج؟ عن أبي بكر بن حفص قال: "كان ابن عمر إِذا دعي إِلى تزويج قال: لا تفضِّضوا (وفي نسخة: تعضضوا) علينا الناس، الحمد لله، وصلّى الله على محمد، إِن فلاناً خطب إِليكم فلانة، إِنْ أَنكحتموه فالحمد لله، وإنْ رددتموه فسبحان الله" (¬2). خِطبة معتدَّة الغير (¬3): تحرُم خِطبة المعتدَّة؛ سواء أكانت عدتها عدة وفاة، أم عدة طلاق، وسواء أكان الطلاق طلاقاً رجعياً أم بائناً، فإِن كانت معتدة من طلاق رجعي، حرمت ¬

_ (¬1) عن كتاب "فقه السّنة" (2/ 343). (¬2) أخرجه البيهقي، وصحّح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "الإِرواء" (1822). (¬3) عن "فقه السّنة" (2/ 344) بتصرّف.

خطبتها؛ لأنها لم تخرج عن عصمة زوجها، وله مراجعتها في أي وقت شاء. وإِن كانت معتدة من طلاق بائن، حرُمت خطبتها بطريق التصريح، إِذ حقّ الزوج لا يزال متعلّقاً بها، وله حقّ إِعادتها بعقد جديد، ففي تقدُّم رجل آخر لخطبتها اعتداء عليه. واختلف العلماء في التعريض بخطبتها، والصحيح جوازه. وإن كانت معتدة من وفاة، فإِنه يجوز التعريض لخطبتها أثناء العدة دون التصريح (¬1)؛ قال الله -تعالى-: {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خِطبة النّساء أو أكننتم في أنفسكم عَلِم الله أنَّكم ستذكُرُونهنّ ولكن لا تُواعدوهنّ سرّاً إِلاّ أن تقولوا قولاً معروفاً ولا تعزِمُوا عُقْدة النّكاح حتّى يبلغ الكتاب أَجَلَه واعلموا أنّ الله يَعْلَم ما في أنفسكُم فاحذَروه} (¬2). والمراد بالنساء المعتدات لوفاة أزواجهن؛ لأن الكلام في هذا السياق، ومعنى التعريض؛ أن يذكر المتكلم شيئاً؛ يدل به على شيء لم يذكره، مِثل أن يقول: إِني أريد التزوج، أو: لَودِدْتُ أن يُيسّر الله لي امرأة صالحة، أو يقول: إِن ¬

_ (¬1) سألت شيخنا عن قول الشيخ السيد سابق -رحمهما الله تعالى-: وإن كانت معتدة من وفاة فإِنه يجوز التعريض لخطبتها أثناء العدة دون التصريح؛ لأن صلة الزوجية قد انقطعت بالوفاة، فلم يبق للزوج حق يتعلق بزوجته التي مات عنها. وإنما حرمت خطبتها بطريق التصريح؛ رعاية لحزن الزوجة وإحدادها من جانب، ومحافظة على شعور أهل الميت وورثته من جانب آخر؟ فقال -رحمه الله-: لا أرى صحّة هذا التعليل! (¬2) البقرة: 235.

الله لسائق لكِ خيراً. عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: " {فيما عرّضتم به من خِطبة النساء} يقول: إِني أريد التزويج، ولوددت أنه ييسر لي امرأة صالحة. وقال القاسم: يقول: إِنك عليّ كريمة، وإني فيك لراغب، وإنّ الله لسائق إِليك خيراً، أو نحو هذا. وقال عطاء: يُعرّض ولا يبوح، يقول: إِنّ لي حاجة، وأبشري، وأنتِ بحمد الله نافقة" (¬1). وخلاصة الآراء: أن التصريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات، والتعريض مباح للبائن، وللمعتدة من الوفاة، وحرام في المعتدة من طلاق رجعي. وإذا صرَّح بالخِطبة في العدة، ولكن لم يعقد عليها إلاَّ بعد انقضاء عدتها، فقد اختلف العلماء في ذلك؛ قال مالك: يفارقها؛ دخَل بها أم لم يدخل. وقال الشافعي: صح العقد، وإن ارتكب النهي الصريح المذكور؛ لاختلاف الجهة. واتفقوا على أنه يُفرّق بينهما لو وقع العقد في العدة، ودخل بها. وهل تحل له بعد، أم لا؟ قال مالك والليث والأوزاعي: لا يحل له زواجها بعد. وقال جمهور العلماء: بل يحلّ له إِذا انقضت العدة أن يتزوجها، إِذا شاء. وسألت شيخنا -رحمه الله-: "إِذا صرّح بالخِطبة في العدّة، ولكن لم يعقد عليها إِلا بعد انقضاء عدّتها، فهل أنتم مع من قال بصحّة العقد، وإن ارتكب النهي الصريح؟ ¬

_ (¬1) انظر "صحيح البخاري" (5124).

تحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه:

فأجاب: نعم، أرى صحّة العقد، مع القول بارتكاب النهي". ثمّ رأيت قول عطاء: ولا يواعِد وليّها بغير علمها، وإن واعَدَت رجُلاً في عدّتها ثمّ نكحها بعد، لم يفرّق بينهما (¬1). تحريم خِطبة الرجل على خِطبة أخيه: عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المؤمن أخو المؤمن؛ فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطُب على خِطبة أخيه حتى يَذَرَ" (¬2). وإنْ أذِن الأول للثاني جاز. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول: "نهى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطُب الرجل على خِطبة أخيه، حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب" (¬3). قال أبو عيسى الترمذي: "قال مالك بن أنس: إِنما معنى كراهيهّ أن يخطب الرجل على خِطبة أخيه: إِذا خطبَ الرجلُ المرأة فرضيت به، فليس لأحدٍ أن يخطب على خِطبته. وقال الشافعي معنى هذا الحديث: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، هذا عندنا إِذا خطب الرجل المرأة، فرضيت به وركنَت إِليه، فليس لأحد أن يخطب ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5124). (¬2) أخرجه مسلم: 1414. (¬3) أخرجه البخاري: 5142، ومسلم: 1412.

تفسير ترك الخطبة:

على خطبته. فأمّا قبل أن يعلم رضاها أو ركونها إِليه، فلا بأس أن يخطبها، والحُجّة في ذلك حديث فاطمة بنت قيس، حيث جاءت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكَرت له أنّ أبا جهم بن حذيفة، ومعاوية بن أبي سفيان خطباها. فقال: "أمّا أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأمّا معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد" (¬1). فمعنى هذا الحديث عندنا -والله أعلم-: أن فاطمة لم تخبره برضاها بواحد منهما، فلو أخبرته، لم يشر عليها بغير الذي ذكرت" (¬2). تفسير ترْك الخِطبة (¬3): عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّ عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة قال عمر: لَقيت أبا بكر فقلت: إِن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فلبثت لياليَ، ثمّ خطبها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلقيني أبو بكر فقال: إِنه لم يمنعني أن أرجع إِليك فيما عرضت؛ إِلا أني قد علمتُ أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ذكَرها، فلم أكن لأُفْشِيَ سِرَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو ترَكها لَقَبِلتُها" (¬4). قال ابن بَطّال ما ملخصه: "تقدّم في الباب الذي قبله تفسير ترك الخِطبة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1480. (¬2) انظر "سنن الترمذي" (كتاب النكاح) "باب أن لا يخطب الرجل على خطبة أخيه". (¬3) هذا من تبويب الإِمام البخاري -رحمه الله- (كتاب النكاح) "باب - 46". (¬4) أخرجه البخاري: 5145، وتقدّم.

إذا استشارت المرأة رجلا فيمن يخطبها؛ هل يخبرها بما يعلم؟

صريحاً في قوله: حتى ينكح أو يترك، وحديث عمر في قصة حفصة لا يظهر منه تفسير ترك الخِطبة؛ لأن عمر لم يكن عَلِمَ أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب حفصة، قال: ولكنه قصد معنى دقيقاً يدلّ على ثقوب ذهنه ورسوخه في الاستنباط، وذلك أن أبا بكر علم أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خطب إِلى عمر أنه لا يردُّه، بل يرغب فيه ويشكر الله على ما أنعم عليه به من ذلك، فقام عِلْم أبي بكر بهذا الحال مقام الركون والتراضي، فكأنه يقول: كلّ من عُلِمَ أنه لا يُصرَف إِذا خطب؛ لا ينبغي لأحد أن يخطب على خِطبته" (¬1). والحاصل: أنّ تفسير ترْك الخِطبة في الحديث السابق أن تُذكَر المرأة مِن قِبَل شخص لأخيه، ويعلم رغبته في النكاح منها، ويُرجّح قبول الوليّ، فهذا كلّه يدعو إِلى ترْك الخِطبة، والله أعلم. إِذا استشارت المرأة رجلاً فيمن يخطبها؛ هل يخبرها بما يعلم (¬2)؟ عن فاطمة بنت قيس: أنّ أبا عمرو بنَ حفصٍ طلّقها البتة ... فذكرت الحديث إِلى أن قالت: فلمّا حللتُ؛ ذكرت له أنّ معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمّا أبو جهم؛ فلا يضع عصاه عن عاتقه (¬3)، وأمّا معاوية فصعلوك (¬4) لا مال له، انكحي أسامة بن زيد. فكرهته، ¬

_ (¬1) انظر "الفتح" (9/ 201). (¬2) هذا العنوان من سنن النسائي "صحيح سنن النسائي" (2/ 684). (¬3) لا يضع العصا عن عاتقه؛ العاتق: ما بين العنق والمنكب، والمراد أنه كثير الضرب للنساء. (¬4) الصعلوك: قليل المال جداً. "نووي".

إذا استشار رجل رجلا في المرأة هل يخبره بما يعلم؟

ثمّ قال: انكحي أسامة، فنكحته. فجعل الله فيه خيراً واغتبطتُ" (¬1). إِذا استشار رجلٌ رجلاً في المرأة هل يخبره بما يعلم (¬2)؟ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كنت عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتاه رجل فأخبره أنه تزوّج (¬3) امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنظرْتَ إِليها؟ قال: لا. قال: فاذهب فانظر إِليها، فإِن في أعين الأنصار شيئاً" (¬4). النظر إِلى المخطوبة: عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-: "أنّ امرأة جاءت إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله! جئت لأهبَ لك نفسي، فنَظر إِليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصعَّد النظر إِليها وصوّبه ... " (¬5). وعن المغيرة بن شعبة: أنّه خطب امرأة، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "انظر إِليها؛ فإِنه أحرى أن يُؤْدَمَ (¬6) بينكما" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1480، وتقدّم. (¬2) هذا العنوان من سنن النسائي "صحيح سنن النسائي" (2/ 685). (¬3) وفي "صحيح سنن النسائي" (3046): "أراد أنْ يتزوّجها". (¬4) أخرجه مسلم: 1424، وتقدّم. (¬5) أخرجه البخاري: 5126، ومسلم: 1425. (¬6) يُؤدم؛ أي: تكون بينكما المحبّة والاتفاق، يقال: أدَمَ الله بينهما يأدِم أدْماً -بالسكون-؛ أي: ألّف ووفّق. "النهاية". (¬7) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (868)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1511)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3034)، وانظر "الصحيحة" (96).

قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن. وقد ذهب بعض أهل العلم إِلى هذا الحديث، وقالوا: لا بأس أن ينظر إِليها ما لم ير منها محرّماً، وهو قول أحمد وإسحاق. ومعنى قوله: "أحرى أن يؤدم بينكما"؛ قال: أحرى أن تدوم المودة بينكما". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كنت عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنظرتَ إِليها؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إِليها، فإِنّ في أعيُن الأنصار شيئاً" (¬1)، يعني: الصغر. ويجوز النظر إِليها، ولو لم تعلم أو تشعر به (¬2)، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا خطب أحدكم امرأة؛ فلا جناح عليه أن ينظر إِليها، إِذا كان إِنَّما ينظر إِليها لِخطبتهِ، وإِن كانت لا تعلم" (¬3). قال شيخنا -رحمه الله-: "وقد عمل بهذا الحديث بعض الصحابة، وهو محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال سهل بن أبي حثمة: رأيت محمد بن مسلمة يطارد بُثَيْنَةَ بنت الضَّحَّاك -فوق إِجّار (¬4) لها- ببصره طرداً شديداً، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1424، وتقدّم. (¬2) قاله شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (96)، ثمّ ذكر الدليل في الحديث الذي يليه. (¬3) أخرجه الطحاوي، وأحمد، والطبراني وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (97). (¬4) الإِجّار -بالكسر والتشديد-: السطح الذي ليس حواليه ما يردّ الساقط عنه. "النهاية".

إلام ينظر؟

فقلت: أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! فقال: إِني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِذا أُلْقي في قلب امرئٍ خِطبةُ امرأة فلا بأس أن ينظر إِليها" (¬1). روى عبد الرزاق في "الأمالي" (2/ 46/1) بسند صحيح عن ابن طاوس قال: أردت أن أتزوج امرأة، فقال لي أبي: اذهب فانظر إِليها. فذهبت، فغسلت رأسي وترجَّلت، ولبِسْتُ من صالح ثيابي، فلمّا رآني في تلك الهيئة؛ قال: لا تذهب! إِلامَ ينظُر؟ ويجوز له أن ينظر منها إِلى أكثر من الوجه والكفّين؛ لإِطلاق الأحاديث المتقدّمة (¬2)، ولحديث جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا خطب أحدكم المرأة؛ فإِن استطاع أن ينظر إِلى ما يدعوه إِلى نكاحها فليفعل، قال جابر: فخطبْتُ جارية، فكنت أتخبأ لها، حتى رأيتُ منها ما دعاني إِلى نكاحها، وتزوجتُها" (¬3). وقد صنَع مثله محمد بن مسلمة، كما تقدّم، وكفى بهما حُجّة (¬4). ¬

_ (¬1) رواه سعيد بن منصور في "سننه"، وعبد الرزاق في "المصنف"، وابن ماجه والطحاوي وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (98). (¬2) هذا كلام شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (98). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1832)، وانظر "الإِرواء" (1791)، و"الصحيحة" (99). (¬4) انظر "الصحيحة" تحت الحديث (99).

وجاء في "الصحيحة" تحت الحديث (99): "قال ابن القيم في "تهذيب السنن" (3/ 25 - 26): "وقال داود: ينظر إِلى سائر جسدها، وعن أحمد ثلاث روايات: إِحداهن: ينظر إِلى وجهها ويديها. والثانية: ينظر ما يظهر غالباً كالرقبة والساقين ونحوهما. والثالثة: ينظر إِليها كلها عورةً وغيرَها؛ فإِنه نص على أنه يجوز أن ينظر إِليها متجردة! ". قلت: والرواية الثانية هي الأقرب إِلى ظاهر الحديث، وتطبيق الصحابة له، والله أعلم. وقال ابن قدامة في "المغني" (7/ 454): "ووجه جواز النظر [إِلى] ما يظهر غالباً: أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أَذِنَ في النظر إِليها من غير عِلمها؛ عُلِمَ أنه أذن في النظر إِلى جميع ما يظهر عادة، إِذ لا يمكن إِفراد الوجه بالنظر مع مشاركة غيره له في الظهور، ولأنّه يظهر غالباً، فأبيح النظر إِليه كالوجه، ولأنها امرأة أبيح له النظر إِليها بأمر الشارع، فأبيح النظر منها إِلى ذلك كذوات المحارم". انتهى. قلت: وخلاصة القول جواز النظر من غير اتفاق إِلى ما يظهر غالباً بما يزيد عن الوجه والكفين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتقدّم: "ما يدعوه إِلى نكاحها"، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإن كانت لا تعلم" وعَمَلِ بعض الصحابة بذلك. أمّا بالاتفاق؛ فلا يكون إِلا للوجه والكفّين. والله -تعالى- أعلم. وسألت شيخنا -رحمه الله-: ما هو آخر ما تقولونه في المواضع التي ينظر

نظر المرأة إلى الرجل:

إِليها الخاطب؛ أهي الوجه والكفّان فحسب؟ فأجاب -رحمه الله-: نعم. قلتُ: ومِن غير اتفاق؛ ألَهُ أن يحاول رؤية ما يدعوه إِلى نكاحها؟ فأجاب -رحمه الله-: نعم. قال شيخنا -رحمه الله- بعد أن ذكَر عدداً من الأحاديث في النظر إِلى الخطوبة: "هذا؛ ومع صحة الأحاديث في هذه المسألة، وقول جماهير العلماء بها ... فقد أعرض كثير من المسلمين في العصور المتأخرة عن العمل بها؛ فإِنهم لا يسمحون للخاطب بالنظر إِلى فتاتهم -ولو في حدود القول الضيق! - تورُّعاً منهم -زعموا-! ومن عجائب الورع البارد أن بعضهم يأذن لابنته بالخروج إِلى الشارع سافرة بغير حجاب شرعي! ثمّ يأبى أنْ يراها الخاطب في دارها وبين أهلها بثياب الشارع! وفي مقابل هؤلاء بعض الآباء المستهترين الذين لا يغارون على بناتهم -تقليداً منهم لأسيادهم الأوروبين-، فيسمحون للمصوِّر أن يصوّرهنّ وهنّ سافرات سفوراً غيرَ مشروع، والمصور رجل أجنبيّ عنهم، وقد يكون كافراً، ثمّ يُقدِّمْنَ صورَهن إِلى بعض الشُّبَّان؛ بزعم أنهم يريدون خِطبتهن، ثمّ ينتهي الأمر على غير خطبة، وتظل صور بناتهم معهم ليتغزلوا بها، وليطفئوا حرارة الشباب بالنظر إِليها! ألا فتعساً للآباء الذين لا يغارون، وإنا لله وإنا إِليه راجعون". نظر المرأة إِلى الرجل: وما مضى من القول في أهمية النظر في الوفاق والتآلف؛ فإِنه ينسحب على

محادثة الرجل المرأة:

المرأة كذلك، فلها الحقّ أن تنظر إِلى من جاء يخطبها. محادثة الرجل المرأة: تشرع المحادثة بينهما دون خلوة فيما لا بُدّ منه. أمّا المبالغة في ذلك فلا. تحريم الخلوة بالمخطوبة: ولا يجوز الخلوة بالمخطوبة قبل العقد، وغاية ما في الأمر جواز النظر؛ ليقرِّرا هذا الزواج أو يرفضاه. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يخلونّ رجل بامرأة إِلا مع ذي محرم" (¬1). وعن عقبة بن عامر أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يخلون رجل بامرأة إِلا كان ثالثهما الشيطان" (¬2). العدولُ عن الخِطْبة وأثره (¬3): الخِطبة مقدمة تسبق عقد الزواج، وكثيراً ما يعقبها تقديم المهر كلّه أو بعضه، وتقديم هدايا وهِبات؛ تقويةً للصلات، وتأكيداً للعلاقة الجديدة. وقد يحدُث أن يعدل الخاطب أو المخطوبة -أو هما معاً- عن إِتمام العقد، فهل يجوز ذلك، وهل يُرَدُّ ما أُعطِي للمخطوبة؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5233، ومسلم: 1341. (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (934)، وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "المشكاة" (3118). (¬3) عن "فقه السنّة" بتصرّف (1/ 350).

إِن الخطبة مجرد وَعْدٍ بالزواج، وليست عقداً ملزماً، والعدول عن إِنجازه حقّ من الحقوق التي يملكها كل من المتواعِدَين، ولم يجعل الشارع لإِخلاف الوعد عقوبة مادية، يجازي بمقتضاها المُخْلِف، وإنْ عَدَّ ذلك خُلقاً ذميماً، ووصَفه بأنه من صفات المنافقين، إِلا إِذا كانت هناك ضرورة ملزمة، تقتضي عدم الوفاء. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "آية المنافق ثلاث: إِذا حدّث كذب، وإِذا وعد أخلف، وإذا ائتُمِن خان" (¬1). وأمّا الهدايا إذا تمّت الموافقة على الزوج، وحصَل الزواج بشروطه؛ فحُكمها حُكم الهبة، والصحيح أنّ الهبة لا يجوز الرجوع فيها إِذا كانت تبرعاً محضاً، لا لأجل العِوَض؛ *لأنّ الموهوب له -حين قَبَضَ العينَ الموهوبة- دخلت في ملكه، وجاز له التصرف فيها؛ فرجوع الواهب فيها انتزاع لملكه منه بغير رضاه، وهذا باطل شرعاً وعقلاً * (¬2) [والله -تعالى- أعلم]. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يحل لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها، إِلا الوالد فيما يعطي ولده" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 33، ومسلم: 59. (¬2) ما بين نجمتين نقَله المؤلف -رحمه الله- عن "إِعلام الموقعين" (2/ 314). (¬3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1044)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1924)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3451)، وانظر "الإِرواء" (3/ 63).

أركان عقد النكاح:

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "العائد في هبته؛ كالكَلب يقيء ثمّ يعودُ في قيئه" (¬1). أركان عقد النكاح: وعقْد النكاح له رُكنان: الإِيجاب والقَبول -وهو رضا الطرفين وتوافُقُهما-. ويُشترط لصحّته: 1 - موافقة الولي (¬2) -الذي يلي أمر الزوجة- أو إِذْنه. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيُّما (¬3) امرأةٍ نُكِحَت بغير إِذن مواليها، فنكاحها باطلٌ -ثلاث مرات-، فإِن دخَل بها؛ فالمهر لها بما أصاب منها، فإِن تشاجروا (¬4)، فالسلطان وليُّ من لا وليّ له (¬5) " (¬6). والأولياء: هم قرابة المرأة الأدنى فالأدنى؛ الذين يلحقهم الغضاضة إِذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2589، ومسلم: 1622. (¬2) وانظر مبحث "الولاية على الزواج". (¬3) أيُّما: كلمة استيفاء واستيعاب؛ فيشمل البِكر والثيب والشريفة والوضيعة. "فيض القدير". (¬4) أي: تنازع الأولياء وتخاصموا. (¬5) أي: من ليس له وليٌّ خاصّ. "فيض القدير". (¬6) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1835)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (880)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1524)، وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (1840).

ما يشترط في الشهود:

تزوّجت بغير كُفْءٍ وكان المزوِّجُ لها غيرَهم (¬1). 2 - حضور شاهِدَيْ عدل. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا نكاح إِلا بولي وشاهِدَيْ عدل" (¬2). "قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النّبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- ومن بعدهم من التابعين وغيرهم قالوا: "لا نكاح إِلا بشهود" لم يختلفوا في ذلك عندنا من مضى منهم إِلا قوماً من المتأخرين من أهل العلم، وإِنما اختلف أهل العلم في هذا إِذا شَهِدَ واحدٌ بعد واحد، فقال أكثر أهل العلم من الكوفة وغيرهم: لا يجوز النكاح حتى يشهد الشاهدان معاً عند عُقْدَةِ النكاح، وقد رأى بعض أهل المدينة إِذا شَهِدَ واحد بعد واحد أنه جائز إِذا أعلنوا ذلك، وهو قول مالك بن أنس وغيره. وقال بعض أهل العلم: يجوز شهادة رجل وامرأتين في النكاح. وهو قول أحمد وإِسحاق ... " (¬3). ما يُشترط في الشهود: 1 - الإِسلام: ويُشترط الإِسلام ولا بُدّ في الشاهِدَين، ولفظ: "شاهِدَي ¬

_ (¬1) انظر "الروضة الندية" (2/ 27). (¬2) أخرجه أحمد، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (879)، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1836)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1526)، وغيرهم، وكلمة: "شاهدين" من رواية البيهقي، وانظر "صحيح الجامع" (7433)، و"الإِرواء" (1858) لزاماً. (¬3) "النيل" (6/ 260).

شهادة النساء:

عدل" يدّل على ذلك. 2 - العدالة: للحديث المتقدّم المشار إِليه: "لا نكاح إِلا بوليّ وشاهدي عدل". 3 - العقل والبلوغ: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر" (¬1). *وبهذا فشهادة الصبي أو المجنون أو الأصم أو السكران لا تصح؛ فإِنّ وجود هؤلاء كعدمه* (¬2). شهادة النساء: اختلف الفقهاء في جواز شهادة المرأتين بدل الرجل (¬3)، فمنهم من لم يُجِزها أخْذاً بالحديث المتقدّم: "لا نكاح إِلا بوليّ وشاهِدَي عدل"، ومنهم من أجازها لقول الله -تعالى-: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهيدَينِ مِنْ رِجَالكُم فَإِنْ لَمْ يَكونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشَّهَدَاء} (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3698)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1150)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1660)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (297). (¬2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (2/ 378) بتصرّف. (¬3) واستدل المانعون بما رُوي عن الزهري أنه قال: "جَرت السُّنة من عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا تُقبل شهادة النساء في الحدود". أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وضعّفه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2682). (¬4) البقرة: 282.

ألفاظ الإيجاب والقبول:

وبشهادة رجل وامرأتين يقول ابن حزم -رحمه الله-؛ بل ويقول بشهادة أربع نسوة كما في "المحلّى" تحت (المسألة 1832)؛ فانظر تفصيله -إِن شئت-. وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل ترون انعقاد الزواج بشهادة: رجل وامرأتين؟ فقال: نعم. ألفاظ الإِيجاب والقَبول: يقع عقْد الزواج بالألفاظ التي يفهمها المتعاقدان بما يدلّ على إِرادة النكاح مع فَهْم الشاهِدَين لذلك، كأن يقول في الموافقة: وافقت، قبلت، رضيت، أو يقول في الإِيجاب: أَنكحتك، أو زوّجتك ... قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "وينعقد النكاح بما عدّه الناس نكاحاً بأي لغة ولفظ وفِعْل كان، ومثله كل عقْد" (¬1). وسألتُ شيخنا -رحمه الله- هل ترون صحة النكاح إِذا وقَع الإِيجاب والقبول وفهمه الشهود، هل ترونه يكفي مهما كانت اللغة التي أُدّي بها؟ فأجاب -رحمه الله-: نعم. *وينعقد بألفاظ الهِبة أو البيع أو التمليك؛ إِذا كان المخاطب يعقله؛ لأنّه عقْد لا يُشترط في صحته لفْظ مخصوص، بل أي لفظٍ إِذا اتفق فهم المعنى الشرعي منه؛ أي: إِذا كان بينه وبين المعنى الشرعي مشاركة* (¬2). ¬

_ (¬1) "الاختيارات"، ونقَله السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنّة" (2/ 355). (¬2) ما بين نجمتين عن "فقه السُّنّة" (2/ 355) بتصرُّف.

الخطبة قبل الزواج

عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوّج رجلاً امرأة فقال: "اذهب، فقد أنكحتُكها بما معك من القرآن" (¬1). وجاء في تبويب سنن النسائي: (باب الكلام الذي ينعقد به النكاح)، بمعنى انعقاد النكاح بكلمة: "أنكحتُكَها". الخُطبة قبل الزواج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كل خُطبة ليس فيها تشهّد؛ فهي كاليد الجذماء (¬2) " (¬3). قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: علَّمنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبة الحاجة (¬4): "إِنّ الحمْدَ لله، [نحمَدُهُ و] نستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذ بالله من شرورِ أَنْفسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلل فلا هاديَ لهُ. وأَشهَدُ أنْ لا إِله إلاَّ الله، وحدَه لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ مُحمَّداً عَبدهُ ورَسولهُ. {يا أَيّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِنْ نَّفْسٍ وَاحدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالاً كثِيراً ونِساءً واتَّقُوا الله الَّذِي تساءَلُونَ بِهِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5149، ومسلم: 1425. (¬2) أي: المقطوعة ... يعني: أن كل خطبة لم يؤتَ فيها بالحمد والثناء على الله؛ فهي كاليد المقطوعة التي لا فائدة بها لصاحبها". "فيض القدير". (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (4052)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (883)، وانظر "المشكاة" (3150)، و"الصحيحة" (168). (¬4) جاء في "سُبل السلام" (3/ 217): "وقوله: (في الحاجة) عام لكل حاجة، ومنها النكاح".

نية الطلاق عند العقد:

والأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُم رَقِيباً} (¬1). {يا أيّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حقَّ تُقَاتِهِ ولاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسْلِموُن} (¬2). {يا أيّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سدِيداً يُصْلحْ لَكُم أَعْمَالكُمْ ويَغْفِرْ لَكُم ذُنُوبكُمْ وَمَنْ يُطِع الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (¬3) " (¬4). نيّة الطلاق عند العقد: إِذا عقَد الرجل على المرأة وفي نيّته الطلاق منها حين العقد، فإِنّ الزواج يكون صحيحاً، ولكنّه غاشٌّ مخادِع. وسألت شيخنا -رحمه الله-: مَن تزوّج ونوى الطلاق؛ دون إِظهار ذلك؛ هل ترون صحّة نكاحه، ولكنّه غاشٌّ مخادِع؟ فقال: نعم، يصح الزواج. وأراد شيخنا -رحمه الله- الاطمئنان فسأل: هل هو نكاح متعة؟ فقلت: لا. فقال: نيّة الطلاق غير مستقرّة. ثمّ ضرَب مثالاً لشخصٍ كنت قد سألته عن حاله، وكان قد طلّق قبل الدخول، ولم يكن ذلك في نيّته عند ¬

_ (¬1) النساء: 1. (¬2) آل عمران: 102. (¬3) الأحزاب: 70 - 71. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1860)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (882)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1535)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3070)، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الكلم الطيب" (برقم 205).

العقد، ثمّ حاول إِرجاعها. مسألة: جاء في "الفتاوى" (32/ 106): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن رجل "ركَّاض" يسير في البلاد في كل مدينة شهراً أو شهرين ويعزل عنها، ويخاف أن يقع في المعصية: فهل له أن يتزوج في مدة إِقامته في تلك البلدة؛ وإِذا سافر طلقها وأعطاها حقها؛ أو لا؟ وهل يصح النكاح أم لا؟ فأجاب: له أن يتزوّج، لكن ينكح نكاحاً مُطلقاً؛ لا يشترط فيه توقيتاً؛ بحيث يكون إِنْ شاء مسكها، وإِن شاء طلّقها، وإن نوى طلاقها حتماً عند انقضاء سفره كُرِه في مثل ذلك، وفي صحة النكاح نزاع. ولو نوى أنه إِذا سافر وأعجبته أمسكها وإِلا طلّقها؛ جاز ذلك. فأمّا أن يشترط التوقيت فهذا "نكاح المتعة" الذي اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على تحريمه، وإنْ كان طائفة يرخِّصون فيه، إِما مطلقاً، وإمّا للمضطر، كما قد كان ذلك في صدر الإِسلام، فالصواب أنّ ذلك منسوخ، كما ثبت في "الصحيح" أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن رخص لهم في المتعة عام الفتح قال: "إِنّ الله قد حرَّم المتعة إِلى يوم القيامة" (¬1) والقرآن قد حرّم أن يطأ الرجل إِلا زوجة أو مملوكة بقوله: {والذين هم لفروجهم حافظون إِلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإِنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} (¬2). وهذه المستمتَعُ بها ليست من الأزواج، ولا ما ملكت اليمين؛ فإِنّ الله قد جعل للأزواج أحكاماً: من الميراث، والاعتداد بعد الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وعدَّة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1406، وتقدّم. (¬2) المؤمنون: 5 - 7، المعارج: 29 - 31.

زواج الأخرس:

الطلاق ثلاثة قروء، ونحو ذلك من الأحكام التي لا تثبت في حق المستمتَع بها، فلو كانت زوجة لثبت في حقها هذه الأحكام؛ ولهذا قال مَن قال من السلف: إِنّ هذه الأحكام نَسخَت المتعة. وبسْط هذا طويل، وليس هذا موضعه". زواج الأخرس (¬1): يصح زواج الأخرس بإِشارته إِن فُهمت، كما يصح بيعه؛ لأنّ الإِشارة معنى مُفهم. وإِن لم تفهم إِشارته، لا يصح منه؛ لأنّ العقد بين شخصين، ولا بد من فهْمِ كل واحد منهما ما يصدر من صاحبه. قال لي شيخنا -رحمه الله-: "اللفظ المحدّد في الزواج لا يُشترط، ولكن يجب أن نفهم ذلك اللفظ، ويقع دون لفظٍ إِذا فُهم". جاء في "السيل الجرّار" (2/ 266): "وأمّا صحة العقد بالرسالة والكتابة ومن المُصْمِت (¬2) والأخرس بالإِشارة؛ فلا نزاع في مِثله، ولم يَرِدْ ما يدل على أنه لا بدّ أن يكون لفظاً". تزويج الصغير: عن سليمان بن يسار: "أنّ ابن عمر -رضي الله عنهما- زوّج ابناً له ابنة أخيه، وابنه صغيرٌ يومئذ" (¬3). توثيق الزواج بالكتابة: يمضي الزواج بلا كتابة بشروطه؛ كما هو معلومٌ من حال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) عن "فقه السّنة" (2/ 357). (¬2) أي: الساكت. "القاموس المحيط". (¬3) أخرجه البيهقي، وإسناده صحيح كما في "الإرواء" (1827).

الأنكحة المحرمة

وأصحابه -رضي الله عنهم-! غير أنّ رقّة الدّين التي أصابت كثيراً من الناس؛ تدعو إِلى هذه الكتابة؛ كما هو شأن المحاكم الآن. وليس يخفى ما يتبع هذا من تحقيق المصالح؛ التي لا تتمّ في عصرنا الحاضر إِلا بالتدوين؛ كالحصول على وثائق السفر وشهادات الميلاد وغير ذلك. ومن فوائد الكتابة؛ حِفظ حقوق المرأة إِذا ساء دين زوجها، فقد يأكل حقوقها ويطلّقها، فالكتابة تضمن الحقوق. الأنكحة المحرّمة 1 - نكاح المتعة: هو النكاح إِلى أجل مُعيَّن، وهو من التمتُّع بالشيء: الانتفاع به (¬1). وقد كان رخّص فيها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيّاماً، ثمّ نهى عنها. عن سَبْرة الجُهني: أنه غزا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتح مكة قال: فأقمنا بها خمس عشرة -ثلاثين بين ليلة ويوم-، فأَذِن لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في متعة النساء ... فلم أخرج حتى حرّمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2). وفي رواية: "يا أيها الناس! إِنّي قد كنت أذِنْت لكم في الاستمتاع من النساء، وإِنّ الله قد حرَّم ذلك إِلى يوم القيامة" (¬3). وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مُتعة ¬

_ (¬1) "النهاية". (¬2) أخرجه مسلم: 1406. (¬3) أخرجه مسلم: 1406.

النساء يوم خيبر، وعن أكْل لحوم الحُمُرِ الإِنسية" (¬1). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لما وَلي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خطب الناس فقال: إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِن لنا في المتعة ثلاثاً ثمّ حرّمها. والله لا أعلم أحداً يتمتع وهو مُحصَن إلاَّ رجمته بالحجارة، إِلا أن يأتيني بأربعة يشهدون أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحلّها بعد إِذ حرَّمها" (¬2). وعن عروة بن الزبير: "أنّ عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال: إِنّ ناساً أعمى الله قُلُوبهم، كما أعمى أبصارهم، يُفتون بالمتعة -يُعرِّض برَجُل-، فناداهُ فقال: إِنَك لَجِلْفٌ جاف (¬3)! فَلَعَمْري! لقد كانت المتعة تُفعلُ على عهد إِمام المتقين (يريد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)، فقال له ابن الزبير: فجرِّب بنفسك؛ فوالله! لئن فعلتَها لأرجمنَك بأحجارك. قال ابن أبي شهاب: فأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف الله؛ أنه بيْنا هو جالس عند رجل؛ جاءه رجلٌ فاستفتاه في المُتعة، فأمره بها، فقال له ابن أبي عمرة الأنصاري: مهلاً! قال: ما هي؟ والله لقد فُعلت في عهد إِمام المتقين! قال ابن أبي عمرة: إِنها كانت رُخصةً في أول الإِسلام لمن اضطُرَّ إِليها، كالميتة والدّم ولحم الخنزير، ثمّ أحكَم الله الدّين ونهى عنها" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4216، ومسلم: 1407. (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1598). (¬3) قال ابن السكّيت وغيره: الجلف هو الجافي. وعلى هذا قيل: إِنما جمَع بينهما توكيداً لاختلاف اللفظ. والجافي. هو الغليظ الطبع القليل الفهم والعلم والأدب لبُعده عن أهل ذلك. "شرح النووي". (¬4) أخرجه مسلم: 1406.

وجاء في "السيل الجرّار" (2/ 268): "ثمّ قد أجمع المسلمون على التحريم، ولم يبق على الجواز إِلا الرافضة، وليسوا ممن يُحتاج إِلى دفع أقوالهم، ولا هم ممّن يقدح في الإِجماع، فإِنهم في غالب ما هم عليه مخالفون للكتاب والسنة ولجميع المسلمين. قال ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرخصة فيها -يعني المتعة-، ولا أعلم اليوم أحداً يجيزها إِلا بعض الرافضة. وقال القاضي عياض: أجمع العلماء على تحريمها إِلا الروافض ... ". 2 - نكاح التحليل: وهو أن يتزوج المطلّقة ثلاثاً بعد انقضاء عدَّتها، أو يدخل بها، ثمّ يطلقها؛ ليُحلّها للزوج الأول، وهذا النوع من الزواج كبيرة من كبائر الإِثم والفواحش، حرّمه الله، ولعَن فاعله (¬1). عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَعَن الله المحلِّلَ والمحلَّلَ له" (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لعَن رسولا الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحلِّل والمحلَّل له" (¬3). وعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا أُخبِركم ¬

_ (¬1) "فقه السنة" (2/ 364). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1827)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (894)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1571)، وانظر "الإِرواء" (1897). (¬3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1570)، والترمذي وغيرهما، وانظر "الإرواء" (1897).

بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: هو المحلّل والمحلّل له" (¬1). وعن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال: "جاء رجل إِلى ابن عمر -رضي الله عنهما-، فسأله عن رجل طلّق امرأته ثلاثاً، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليُحلّها لأخيه، هل تحلّ للأول؟ قال: لا، إِلا نكاح رغبة، كنا نعدّ هذا سِفاحاً (¬2) على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). جاء في "الروضة الندية" (2/ 38): "وصحّ عن عمر أنه قال: لا أوتى بمحلّل ومحلّل له إِلا رجمتهما. رواه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، في "مصنّفيهما"، وابن المنذر في "الأوسط". وروى ابن أبي شيبة، عن ابن عمر: أنه سئل عن ذلك؟ فقال: كلاهما زانٍ. والكلام في ذلك عن الصحابة والتابعين طويل، قد أطال شيخ الإِسلام تقي الدين ابن تيمية الكلام عليه، وأفرده مصنفاً سماه: (بيان الدليل على إِبطال التحليل) ". انتهى. وجاء فيه أيضاً (ص 38 - 39): "أقول [أي: صاحب الروضة]: حديث ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1572)، والبيهقي وغيرهم، وانظر "الإرواء" (6/ 309). (¬2) سفاحاً؛ أي: زنىً. (¬3) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، والحاكم، والبيهقي ... وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1898).

لعْن المحلّل: مرويٌّ من طريق جماعة من الصحابة بأسانيد بعضها صحيح، وبعضها حسن، واللعن لا يكون إِلا على أمر غير جائز في الشريعة المطهرة، بل على ذنب هو من أشد الذنوب. فالتحليل غير جائز في الشرع، ولو كان جائزاً لم يلعن فاعله والراضي به. وإذا كان لعْن الفاعل لا يدل على تحريم فِعْله؛ لم تبق صيغة تدل على التحريم قطّ، وإذا كان هذا الفعل حراماً غير جائز في الشريعة؛ فليس هو النكاح الذي ذكَره الله في قوله: {حتى تَنْكِحَ زوجاً غيره} (¬1)، كما أنه لو قال: لعَن الله بائع الخمر، لم يلزم من لفظ: (بائع) أنه قد جاز بيعه، وصار من البيع الذي أَذِن فيه بقوله: {وأحلَّ اللهُ البيعَ} (¬2). والأمر ظاهر. قال ابن القيم: ونكاح المحلّل لم يُبَح في مِلّة من المِلَل قطّ، ولم يفعله أحد من الصحابة، ولا أفتى به واحد منهم. ثمّ سَلْ من له أدنى اطلاع على أحوال الناس: كم من حُرَّة مصونة، أنشب فيها المحلل مخالب إِرادته؛ فصارت له بعد الطلاق من الأخدان. وكان بعلها منفرداً بوطئها، فإِذا هو والمحلل ببركة التحليل شريكان! فلعمر الله كم أخرج التحليل مخَدَّرةً من سترها إِلى البغاء، ولولا التحليل لكان منال الثريا دون منالها، والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها، وعناق القنا دون عناقها، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها. وأمّا هذه الأزمان التي شَكَتِ الفروجُ فيها إِلى ربها من مفسدة التحليل، وقُبح ما يرتكبه المحلِّلون، مما هو رمد -بل عمَى- في عين الدين، وَشَجاً في حلوق المؤمنين، من ¬

_ (¬1) البقرة: 230. (¬2) البقرة: 275.

الزواج الذي تحل به المطلقة للزوج الأول:

قبائحَ تُشْمِت أعداء الدين به، وتمنع كثيراً ممن يريد الدخول فيه بسببه؛ بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح، ويعدّونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رسمه، وغيرت منه اسمه، وضَمَّخَ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل، وزعم أنه قد طيَّبها للتحليل، فيالله العجب أيَّ طيبٍ أعارها هذا التيس الملعون؟ وأيُّ مصلحة حصلت لها ولمطلِّقها بهذا الفعل الدون؟ .. إِلى غير ذلك". قال صاحب "الروضة": "وقد أطال -رحمه الله تعالى- في تخريج أحاديث التحليل في "إعلام الموقعين" إِطالة حسنة، فليراجع". الزواج الذي تحلُّ به المطلقة للزوج الأول (¬1): إِذا طلَّق الرجل زوجته ثلاث تطليقات، فلا تحلّ له مراجعتها، حتى تتزوج بعد انقضاء عدتها زوجاً آخر زواجاً صحيحاً، لا بقصد التحليل. فإِذا تزوجها الثاني زواج رغبة، ودخل بها دخولاً حقيقياً، حتى ذاق كل منهما عُسَيْلَةَ الآخر، ثمّ فارقها بطلاق أو موت، حلّ للأول أن يتزوجها بعد انقضاء عدتها. عن عائشة -رضي الله عنها-: أن امرأة رِفاعة القُرَظيِّ جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله! إِن رِفاعة طلقني فَبَتَّ طلاقي، وإني نكحتُ بعدهُ عبد الرحمن بن الزبير القُرظي، وإنما معهُ مثل الهدبة (¬2)؟! قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لعلك تريدين أن ترجعي إِلى رِفاعة؟ لا حتى يذوق عُسَيلتك وتذوقي ¬

_ (¬1) عن "فقه السنة" (2/ 368) -بتصرّف يسير-. (¬2) أرادت متاعه، وأنه رِخْوٌ مثل طرَف الثوب، لا يُغني عنها شيئاً. "النهاية".

عُسَيلته" (¬1). وذوق العُسَيلة كناية عن الجماع، ويكفي في ذلك التقاء الختانين، الذي يوجب الحد والغسل. ونزل في ذلك قول الله -تعالى-: {فإنْ طلقها فلا تحلّ له من بعْدُ حتى تنكح زوجاً غيره فإِن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إِن ظنَّا أن يقيما حدودَ الله} (¬2). وعلى هذا، فإِن المرأة لا تحل للأول، إِلا بهذه الشروط: أولاً: أن يكون زواجها بالزوج الثاني صحيحاً. ثانياً: أن يكون زواج رغبة؛ لا بقصد تحليلها للأول. ثالثاً: أن يدخُل بها دخولاً حقيقياً بعد العقد، ويذوق عُسَيلتها، وتذوق عُسَيلته. 3 - نكاح الشِّغار: وهو نِكاح معروف في الجاهلية، كان يقول الرجل للرّجل: شاغرني؛ أي: زوّجني أختك أو بنتك أو من تَلِي أمرها، حتى أزوّجك أختي أو بنتي أو من أَلِي أمرها، ولا يكون بينهما مهر، ويكون بُضْعُ كل واحدةٍ منهما في مقابلة بُضع (¬3) الأخرى (¬4). عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا شغار في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5260، ومسلم: 1433. (¬2) البقرة: 230. (¬3) البُضع: يطلق على عقد النكاح والجماع معاً، وعلى الفرج. "النهاية". (¬4) "النهاية" وجاء في تتمَّته: "وقيل له: شغار لارتفاع [أي: لسقوط] المهر بينهما، من شَغَر الكلب: إِذا رفع إحدى رجليه ليبول. وقيل الشغر: البعد. وقيل: الاتّساع".

الإِسلام" (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الشغار. والشغار أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك وأُزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأُزوجك أختي" (¬2). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الشغار. والشّغار أن يُزوِّج الرجل ابنته على أن يزوّجه الآخر ابنته، وليس بينهما صَداق" (¬3). وهناك بعض الآثار الدالّة على بُطلان هذا النكاح وإن كان هناك صَداق. فعن الأعرج: "أنّ العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وكانا جعلا صَداقاً، فكتب معاوية إِلى مروان يأمره أن يُفرِّق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬4) وجاء في "السيل الجرّار" (2/ 267): "ولا يختص الشغار بالبنات والأخوات، بل حُكْم غيرهن من القرائب حُكْمهن، وقد حكى النووي الإِجماع على ذلك". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1415. (¬2) أخرجه مسلم: 1416. (¬3) أخرجه البخاري: 5112، ومسلم: 1415. (¬4) أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن حبان، وحسّن إِسناده شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1896).

قال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحته: فالجمهور على البطلان. وفي رواية عن مالك يُفْسَخُ قبل الدخول لا بعده، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي. وذهب الحنفية إِلى صحته ووجوب مهر المِثْل ... " (¬1). وجاء في "الفتح" (9/ 163): "قال القرطبي: ... تفسير الشغار صحيح مُوافِق لما ذكَره أهل اللغة؛ فإِن كان مرفوعاً فهو المقصود، وإن كان من قول الصحابي فمقبول أيضاً؛ لأنه أعلم بالمقال وأقعد بالحال. وقد اختلف الفقهاء هل يُعتبر في الشغار الممنوع ظاهر الحديث في تفسيره، فإِن فيه وصفين: أحدهما: تزويج كل من الوليين وليّته للآخر بشرط أن يزوجه وليّته، والثاني: خلو بضع كل منهما من الصَّداق. فمنهم من اعتبرهما معاً؛ حتى لا يمنع مثلاً إِذا زوَّج كل منهما الآخر بغير شرط؛ وإن لم يذكر الصَّداق، أو زوَّج كل منهما الآخر بالشرط وذكر الصَّداق. وذهب أكثر الشافعية إِلى أن علة النهي الاشتراك في البضع؛ لأن بُضع كل منهما يصير مورد العقد، وجعْلُ البُضع صَداقاً مخالف لإِيراد عقد النكاح، وليس المقتضي للبطلان ترك ذِكر الصَّداق؛ لأن النكاح يصح بدون تسمية الصَّداق ... ". قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 131) تحت المسألة (1856): "ولا يحل نكاح الشغار: وهو أن يتزوج هذا وليَّة هذا على أن يزوجه الآخر وليَّته أيضاً، سواء ذكَرا في كل ذلك صَداقاً لكل واحدة منهما أو ¬

_ (¬1) انظر "الفتح" (9/ 163).

فائدة:

لإِحداهما دون الأخرى، أو لم يذكرا في شيء من ذلك صداقاً، كل ذلك سواء يفسخ أبداً، ولا نققة فيه؛ ولا ميراث، ولا صَداق، ولا شيء من أحكام الزوجية، ولا عدة". وجاء في "السيل الجرّار" (2/ 267): "والنهي حقيقة في التحريم المقتضي للفساد المرادف للبُطلان". وسألت شيخنا -رحمه الله- قائلاً: "يرى جمهور العلماء أن عقد الشغار باطل، وأنه لا ينعقد أصلاً، وخالف في ذلك أبو حنيفة -رحمه الله- فهو يرى أنه يقع صحيحاً؛ ويجب لكل واحدةٍ من البنتين مهر مِثلها على زوجها. فماذا تقولون؟ فقال -رحمه الله-: "الصحيح هو القول الأول، لورود النّهي عن الشغار، والنهي يقتضي البُطلان". فائدة: قال الإِمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلى" (11/ 136): "فإِن خطب أحدهما إِلى الآخر فزوجه، ثمّ خطب الآخر إِليه فزوّجه، فذلك جائز -ما لم يشترط أن يزوّج أحدهما الآخر- فهذا هو الحرام الباطل". 4 - نكاح السِّرِّ: وجاء في "الفتاوى" (32/ 102): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن رجل تزوّج امرأة "مصافحةً" (¬1) على صَداق خمسة دنانير كل سنة نصف دينار، وقد ¬

_ (¬1) المصافحة: نكاح السر.

دخل عليها وأصابها: فهل يصح النكاح أم لا؟ وهل إِذا رُزق بينهما ولد يرث أم لا؟ وهل عليهما الحدّ أم لا؟ فأجاب: الحمد لله. إِذا تزوجها بلا ولي ولا شهود، وكتما النكاح: فهذا نكاح باطل باتفاق الأئمة؛ بل الذي عليه العلماء أنه: "لا نكاح إِلا بولي" (¬1) و"أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل" (¬2). وكلا هذين اللفظين مأثور في "السنن" عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال غير وأحد من السلف: لا نكاح إِلا بشاهدين، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. ومالك يوجب إِعلان النكاح. "ونكاح السرّ" هو من جنس نكاح البغايا؛ وقد قال الله -تعالى-: {مُحْصَنات غير مُسَافِحَاتٍ ولا مُتَّخذَات أَخْدَان} (¬3). فنكاح السرّ من جنس ذوات الأخدان؛ وقال -تعالى-: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامى مِنْكُم} (¬4)، وقال -تعالى-: {ولا تُنْكِحُوا المُشركين حتى يُؤمنوا} (¬5)، فخاطَب الرجال بتزويج النساء؛ ولهذا قال من قال من السلف: إِن المرأة لا تُنْكِحُ نفسَها، وإنَّ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (879)، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1836)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1526) وغيرهم، وتقدّم. (¬2) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1835)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (880)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1524) وغيرهم، وانظر "الإرواء" (1840)، وتقدّم. (¬3) النساء: 25. (¬4) النور: 32. (¬5) البقرة: 221.

الشروط في النكاح

البَغِيَّ هي التي تُنْكِحُ نفسَها. لكن إِن اعتقد هذا نكاحاً جائزاً؛ كان الوَطْءُ فيه وَطْءَ شبهة، يلحق الولد فيه، ويرث أباه، وأما العقوبة فإِنهما يستحقان العقوبة على مثل هذا العقد". الشروط في النكاح (¬1) 1 - ما يجب الوفاء به، وهو ما أمَر الله به من إِمساك بمعروف أو تسريحٍ بإِحسان، وما كان من مُقتضَيات العقد ومقاصده، ولم يتضمّن تغييراً لحُكم الله -تعالى- ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ كاشتراط العشرة بالمعروف، والإِنفاق عليها، وكسوتها، وألا يقصّر في شيء من حقوقها، وأنها لا تخرج من بيته إِلا بإِذنه، ولا تصوم تطوُّعاً بغير إِذنه ... وعليه حمَل بعضهم حديث عقبة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أحقّ ما أوفيتم من الشروط (¬2)؛ أن توفوا به ما استحلَلتُم به الفروج" (¬3). ¬

_ (¬1) ملتقطٌ من "المغني" و"مجموع الفتاوى" و"فقه السّنة" وغيرها بتصرّف وزيادة. (¬2) قال في "فيض القدير" (2/ 418): "يعني الوفاء بالشروط حق، وأحق الشروط بالوفاء الذي استحللتم به الفروج، وهو المهر والنفقة ونحوهما، فإِن الزوج التزمها بالعقد، فكأنها شرطت. هذا ما جرى عليه القاضي في تقريره. ولا يخفى حُسنه. قال الرافعي -رحمه الله-: وحمَله الأكثر على شرط لا ينافي مقتضى العقد؛ كشرط المعاشرة بالمعروف، ونحو ذلك مما هو من مقاصد العقد ومقتضياته، بخلاف ما يخالف مقتضاه؛ كشرط أن لا يتزوج أو يتسرى عليها، فلا يجب الوفاء به. وأخذ أحمد -رضي الله عنه- بالعموم، وأوجب الوفاء بكل شرط". (¬3) أخرجه البخاري: 5151، ومسلم: 1418.

جاء في "سبل السلام" (3/ 242): "والحديث دليل على أن الشروط المذكورة في عقد النكاح يتعين الوفاء بها، سواء كان الشرط عرضاً (¬1) أو مالاً، حيث كان الشرط للمرأة، لأنّ استحلال البضع إِنما يكون فيما يتعلق بها أو ترضاه لغيرها". 2 - ما لا يُوفّى به، وهو ما لا يجب الوفاء به مع صحّة العقد، وهو ما كان منافياً لمقتضى العقد؛ كاشتراط ترْك الإِنفاق، والوطء، أو اشتراط عدم إِعطائها المهر، أو اشتراط إِنفاقها عليه، أو لا يكون عندها في الأسبوع إِلا ليلة، أو أن يكون لها النهار دون الليل. فهذه الشروط كلّها باطلة في نفسها؛ لأنّها تُنافي العقد، ولأنّها تتضمّن إِسقاط حقوقٍ تجب بالعقد قبل انعقاده". قلت: لكن هذا إِنْ كان بلا سبب. أمّا إِنْ كان هناك ما يدعو إِليه، فلا بأس. وسألتُ شيخنا -رحمه الله- قائلاً: هناك من يقول: لا يجب الوفاء في اشتراط ترْك الإِنفاق. فسأل شيخنا -رحمه الله-: قبل الزواج؟ قلت: نعم. قال -رحمه الله-: وقَبِل وليّ الأمر والزوجة؟ قلت: نعم. قال -رحمه الله-: فهل الفقر الذي حمَل على عدم الإِنفاق مثلاً؟ ¬

_ (¬1) العَرْض: كلّ شيء سوى الدَّراهم والدَّنانير.

قلت: هل أفهم منكم -شيخنا- إِن كان ثمّة مسوّغ جاز؛ وإلا فلا. قال -رحمه الله-: نعم. وسألته -رحمه الله- عن اشتراط ترْك الوطء، أو عدم تقديم المهر، فقال -رحمه الله-: نفس الجواب. وسألته عمن يشترط ألا يكون عندها في الأسبوع إِلا ليلة؟ فقال -رحمه الله-: إِنْ كان لعجز أو سبب جاز. انتهى. وسألته -رحمه الله- في موضع آخر عمّن يرى من العلماء فسْخ نكاح من تزوّج بغير ذِكر المهر، أو من اشترط أن لا مهر عليه؟ فأجاب -رحمه الله-: هذا زنى، أمّا إِذا كان هناك مهْر لم يسمَّ ولم يُحدّد؛ فلا بأس. وممّا لا يُوفّى به كذلك؛ ما كان ممّا نهى الشرع عنه؛ كاشتراط المرأة عند الزواج طلاق ضرّتها. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها؛ لتستفرغ صحفتها (¬1)، فإِنما لها ما قُدّر لها" (¬2). 3 - ما اختُلف فيه؛ كاشتراط أن لا يتزوّج عليها، أو ألا يتسرّى، أو لا ينقلها من منزلها إِلى منزله، أو لا يسافر بها ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) الصحفة: إِناءٌ كالقصعة المبسوطة ونحوها. وهذا مثل يريد به الاستئثار عليها بحظّها، فتكون كمن استفرغ صحفة غيره، وقلب ما في إِنائه إِلى إِناء نفسه. "النهاية". (¬2) أخرجه البخاري: 5152، ومسلم: 1413.

واستدلّ الأحناف والشافعية وكثير من أهل العلم بما يأتي: أ- إِن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المسلمون على شروطهم؛ إِلا شرطاً حرّم حلالاً، أو أحل حراماً" (¬1). ب- قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل، وإنْ كان مائةَ شرط" (¬2). ولا بُد من بيان بعض الأمور دفْعاً للالتباس، فأقول -وبالله التوفيق-: المراد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس كتاب الله"؛ أي: ليس فيه جوازُه أو وجوبه، فالمراد في الحديث: الشروط الجائزة؛ لا المنهيّ عنها، كما بيّن ذلك العلماء. وقال القرطبي -رحمه الله-: "قوله: "ليس في كتاب الله"؛ أي: ليس مشروعاً فيه تأصيلاً ولا تفصيلاً، فإِنّ من الأحكام ما لا يوجد تفصيله في الكتاب -كالوضوء-، ومنها ما يوجد تأصيله دون تفصيله -كالصلاة-، ومنها ما أُصّل أصْله -كدلالة الكتاب على أصلية السنّة والإِجماع والقياس-" (¬3). ويجب أن نعلم أن الشرط الذي يحل الحرام أو يحرّم الحلال ليس في كتاب الله -تعالى- وليس المراد من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس في كتاب الله" أنّ كتاب الله -تعالى- قد نطَق به لفظاً ونصّاً؛ فإِن كثيراً من الشروط على هذا النحو غير منطوقٍ بها، ومع ذلك فهي مشروعة؛ لأنها لا تخالف الكتاب ولا السُّنهّ. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1089) وغيره، والجملة الأولى رواها البخاري معلّقة بصيغة الجزم، وانظر "الفتح" (4/ 451) و"الإرواء" (5/ 144). (¬2) أخرجه البخاري: 2729، ومسلم: 1504. (¬3) انظر "فيض القدير" (5/ 22).

وجاء في "المغني" (7/ 448): "وإذا تزوَّجها وشرّط لها أن لا يخرجها من دارها وبلدها؛ فلها شرطها؛ لما روي عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أحق ما أوفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج". وإن تزوجها وشرط لها أن لا يتزوج عليها؛ فلها فراقه إِذا تزوج عليها، وجملة ذلك أن الشروط في النكاح تنقسم أقساماً ثلاثة ... ". ثمّ فصّل القول في ذلك. وجاء في "الفتاوى" (32/ 164): "وسئل -رحمه الله- عن رجل تزوَّج بامرأةٍ؛ فشُرِط عليه عند النَّكاح أنه لا يتزوج عليها، ولا ينقُلُها من منزلها. وكانت لها ابنةٌ، فشرط عليه أن تكون عند أمّها، وعنده ما تزال، فدخل على ذلك كله، فهل يلزمه الوفاء؟ وإذا أخلف هذا الشرط، فهل للزوجة الفسخ، أم لا؟ فأجاب: الحمد لله. نعم تصحّ هذه الشروط وما في معناها في مذهب الإِمام أحمد، وغيره من الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ كعمر بن الخطاب وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، وشريح القاضي، والأوزاعي، وإسحاق، ولهذا يوجد في هذا الوقت صَداقات أَهل المغرب القديمة -لمَّا كانوا على مذهب الأوزاعي- فيها هذه الشروط. ومذهب مالك: إِذا شرط أنه إِذا تزوج عليها أو تسرّى أن يكون أمرها بيدها ونحو ذلك: صح هذا الشرط أيضاً، وملكت الفُرقة به. وهو في المعنى نحو مذهب أحمد في ذلك؛ لما أخرجاه في "الصحيحين" عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إِنّ أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" (¬1). وقال عمر بن الخطاب: "مقاطع الحقوق عند الشروط" (1). ¬

_ (¬1) تقدّم.

فجعل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يستحل به الفروج من الشروط أحق بالوفاء من غيره، وهذا نص في مِثل هذه الشروط؛ إِذ ليس هناك شرط يُوفّى به بالإِجماع غير الصَّداق والكلام. فتعيَّن أن تكون هي هذه الشروط. وأمّا شرط مُقامِ ولدِها عندها، ونفقته عليه؛ فهذا مِثل الزيادة في الصَّداق، والصّداق يحتمل من الجهالة فيه -في المنصوص عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة ومالك- ما لا يحتمل في الثمن والأجرة. وكل جهالة تنقص على جهالة مهر المثل تكون أحق بالجواز؛ لا سيما مثل هذا يجوز في الإِجارة ونحوها في مذهب أحمد وغيره: إِن استأجر الأجير بطعامه وكسوته، ويُرْجَعُ في ذلك إِلى العرف، فكذلك اشتراط النفقة على ولدها يُرْجَعُ فيه إِلى العرف بطريق الأولى. ومتى لم يُوفِ لها بهذه الشروط فتزوج، وتسرّى، فلها فسْخ النكاح، لكن في توقُّف ذلك على الحاكم نزاع؛ لكونه خياراً مجتهداً فيه، كخيار العنّة والعيوب؛ إِذ فيه خلاف ... " (¬1). وجاء (ص 167) منه: "وسئل شيخ الإِسلام -رحمه الله- عن رجل تزوج بنتاً عمرها عشر سنين، واشترط عليه أهلها أنه يسكن عندهم، ولا ينقلها عنهم، ولا يدخل عليها إِلا بعد سنة، فأخذها إِليه، واختلف ذلك، ودخل عليها، وذكر الدايات: أنه نقلها، ثمّ سكن بها في مكان يضربها فيه الضَّرْبَ المُبرِّح، ثمّ بعد ذلك سافر بها، ثمّ حضر بها، ومنع أن يدخل أهلها عليها مع مداومته على ضرْبها: فهل يحل أن تدوم معه على هذا الحال؟ ¬

_ (¬1) وانظر للمزيد -إن شئت- فيما يتعلق بالشروط في "الفتاوى" (29/ 175 - 176) و (29/ 350 - 354) و (32/ 169 - 170).

فأجاب: إِذا كان الأمر على ما ذكَر؛ فلا يحل إِقرارها معه على هذه الحالة؛ بل إِذا تعذر أن يعاشرها بالمعروف فُرّق بينهما؛ وليس له أن يطأها وطأ يضرُّ بها؛ بل إِذا لم يمتنع من العدوان عليها فُرّق بينهما، والله أعلم". وجاء (ص 168) منه: "وسئل -رحمه الله- عن رجل شرط على امرأته بالشهود أن لا يُسكنها في منزل أبيه، فكانت مدة السكنى منفردة، وهو عاجز عن ذلك: فهل يجب عليه ذلك؟ وهل لها أن تفسخ النكاح إِذا أراد إِبطال الشرط؟ وهل يجب عليه أن يمكّن أمها أو أختها من الدخول عليها والمبيت عندها، أو لا؟ فأجاب: لا يجب عليه ما هو عاجز عنه؛ لا سيما إِذا شرطت الرضا بذلك؛ بل [إِذا] كان قادراً على مسكن آخر؛ لم يكن لها عند كثير من أهل العلم -كمالك وأحد القولين في مذهب أحمد وغيرهما- غير ما شرط لها، فكيف إِذا كان عاجزاً؟ وليس لها أن تفسخ النكاح عند هؤلاء وإنْ كان قادراً. فأمّا إِذا كان ذلك للسكن، ويصلح لسكنى الفقير، وهو عاجز عن غيره؛ فليس لها أن تفسخ بلا نزاع بين الفقهاء، وليس عليه أن يمكِّن من الدخول إِلى منزله: لا أمّها ولا أختها، إِذا كان معاشراً لها بالمعروف، والله أعلم". وجاء في تعليق شيخنا على "الروضة الندية" (2/ 175) بعد نقْل كلام شيخ الإِسلام -رحمهما الله-: "وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجباً بدونه، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجباً ولا حراماً، وعدم الإِيجاب ليس نفياً للإِيجاب، حتى يكون المشترط مناقضاً للشرع، وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجباً، ويباح أيضاً لكل منهما ما

لم يكن مباحاً، ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراماً، وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين، وكذلك إِذا اشترط صفة في المبيع أو رهناً، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مِثلها؛ فإِنه يجب ويحرُم ويباح بهذا الشرط؛ ما لم يكن كذلك؛ كذا في "الفتاوى" (3/ 333) ". وقال الإِمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 139) بعد حديث: "إِنّ أحق الشروط أن توفّوا ... ": "فقد صحّ أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُرِدْ قط في هذا الخبر شرطاً فيه تحريم حلال، أو تحليل حرام، أو إِسقاط فرض، أو إِيجاب غير فرض، لأنّ كل ذلك خلاف لأوامر الله -تعالى- ولأوامره -عليه الصلاة والسلام-. واشتراط المرأة أن لا يتزوج، أو أن لا يتسرى، أو أن لا يغيب عنها، أو أن لا يرحِّلها عن دارها؛ كل ذلك تحريم حلال، وهو وتحليل الخنزير والميتة سواء في أنّ كلّ ذلك خلاف لحكم الله -عزّ وجلّ-". وخلاصة القول التي بدت لي: إِنّ الأعمال إِمّا أن تكون واجبة، وإِمّا أن تكون حراماً، وإمّا أن تكون جائزة. فاشتراط المرأة ترْك الواجب باطل، واشتراطها فِعْل الحرام باطل كذلك، فيبقى البحث في الأمور الجائزة؛ فيجوز ذلك. والله -تعالى- أعلم. مسألة: جاء في "الفتاوى" (32/ 42): "وسئل -رحمه الله- عن بنت زالت بكارتها بمكروه، ولم يُعْقَدْ عليها عَقْدٌ قطّ، وطلبها من يتزوّجها؛ فذكر له ذلك فرضي: فهل يصح العقد بما ذكر إِذا شهد المعروفون أنها بنت؛ لتسهيل الأمر في ذلك؟ فأجاب: إِذا شهدوا أنها ما زُوجت؛ كانوا صادقين، ولم يكن في ذلك

هل يحق فسخ العقد إذا ثبت العيب؟

تلبيس على الزّوج؛ لعلِمه بالحال. وينبغي استنطاقها بالأدب؛ فإِنّ العلماء متنازعون: هل إِذنها -إِذا زالت بكارتها بالزنى- الصمت، أو بالنطق؟ والأول مذهب الشافعي وأحمد كصاحبي أبي حنيفة. وعند أبي حنيفة ومالك: إِذنها الصمات، كالتي لم تزَلْ عذرتها". هل يحقّ فسْخُ العقد إِذا ثبَتَ العيب؟ * اختلف الفقهاء في ذلك، فقال داود، وابن حزم، ومن وافَقَهما: لا يُفْسَخ النكاح بعيب ألبتة. وقال أبو حنيقة: لا يفسخ إِلا بالجَبِّ والعُنّة (¬1) خاصة. وقال الشافعي ومالك: يُفْسَخ بالجنون والبرص، والجُذام والقَرَن (¬2)، والجَبِّ والعُنّة خاصة. وزاد الإِمام أحمد عليهما: أن تكون المرأة فتقاء منخرقة ما بين السبيلين. ولأصحابه في نَتَن الفرج والفم، وانخراق مخرجي البول والمني في الفرج، والقروح السيالة فيه، والبواسير، والنّاصور، والاستحاضة، واستطلاق البول، والنجو (¬3)، والخصي -وهو قطع البيضتين- والسَّل -وهو سَلُّ البيضتين-، والوَجء -وهو رضُّهما-، وكون أحدهما خُنثى مشكلاً، والعيب الذي بصاحبه ¬

_ (¬1) العُنّة: العجز عن وطء النّساء. (¬2) القرناء من النساء: التي في فرجها مانع يمنع من سلوك الذكر فيه، إِمّا غدّة غليظة، أو لحمة مُرْتَتِقة أو عظم، يقال لذلك كله: القرَن. "لسان العرب". (¬3) النجو: ما يخرج من البطن من ريحٍ وغائط. "القاموس المحيط".

مثله من العيوب السبعة، والعيب الحادث بعد العقد: وجهان. وذهب بعض أصحاب الشافعي إِلى ردّ المرأة بكُلِّ عيبٍ تُردُّ به الجارية في البيع، وأكثرهم لا يَعرف هذا الوجه ولا مظنّته، ولا مَن قاله. وممن حكاه: أبو عاصم العباداني في كتاب "طبقات أصحاب الشافعي"، وهذا القول هو القياس، أو قول ابن حزم ومن وافقه. وأما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية، دون ما هو أولى منها أو مساوٍ لها، فلا وجه له ... * (¬1). أقول: يحقّ فسْخ العقد إِذا ثبَت -عيب عند الرجل أو المرأة- في الفرج؛ يمنع الوطء والاستمتاع، أو كان به مرض مُنفّر، كالجنون أو البرص أو الجذام ... وهناك آثار عن عمر وعثمان وابن مسعود والمغيرة بن شعبة -رضي الله عنهم- أن العِنّين (¬2) يؤجّل سَنة (¬3). وجاء في "الإِرواء" (6/ 324): " ... وأمّا أثر ابن مسعود، فيرويه سفيان عن الركين عن أبيه وحصين بن قبيصة عن عبد الله أنه قال: "يؤجل العنّين سنة، فإِنْ جامع، وإِلا فرّق بينهما" (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "زاد المعاد" (5/ 182). (¬2) هو الذي لا يأتي النساء ولا يريدهنّ. "اللسان". (¬3) انظر "الإِرواء" (1911). (¬4) قال شيخنا -رحمه الله- في الكتاب المذكور: "أخرجه ابن أبي شيبة: وكيع عن سفيان به. وتابعه شعبة: حدثني الركين عن حصين به؛ لم يذكر عن أبيه. =

وجاء في "سُبُل السلام" (3/ 263): "قال ابن المنذر: اختلفوا في المرأة تطالب الرجل بالجماع، فقال الأكثرون: إِنْ وطِئها بعد أنْ دخَل بها مرة واحدة؛ لم يؤجل أجل العِنِّين، وهو قول الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق. وقال أبو ثور: إِنْ ترَك جماعها لعِلّة؛ أُجِّلَ لها سنة، وإنْ كان لغير عِلّة فلا تأجيل. وقال عياض: اتفق كافة العلماء على أنّ للمرأة حقّاً في الجماع، فيثبت الخيار لها إِذا تزوجت المجبوب والممسوح جاهلة بهما، ويضرب للعِنِّين أجل سنة؛ لاختبار زوال ما به". انتهى. قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (28/ 383): "ومن الحقوق الأبضاع، فالواجب الحُكم بين الزوجين بما أمَر الله -تعالى- به، من إِمساكٍ بمعروف أو تسريحٍ بإِحسان، فيجب على كلٍّ من الزوجين أن يؤدي إِلى الآخر حقوقه، بطيب نفس وانشراح صدر؛ فإِنّ للمرأة على الرجل حقّاً في ماله؛ وهو الصَّداق والنفقة بالمعروف، وحقّاً في بدنه؛ وهو العشرة والمتعة؛ بحيث لو آلى منها استحقت الفرقة بإِجماع المسلمين، وكذلك لو كان مجبوباً أو عنّيناً لا يمكنه جماعها فلها الفرقة؛ ووطؤها واجب عليه عند أكثر العلماء". وقال -رحمه الله- (29/ 175): "وكذلك يوجب العقدُ المُطْلَق: سلامةَ الزوج من الجَبِّ والعُنَّةِ عند عامة الفقهاء، وكذلك يوجب عند الجمهور: سلامتها من موانع الوطء كالرتق (¬1)، وسلامتها من الجنون، والجذام، والبرص، ¬

_ = قلت: وهذا إِسناد صحيح على شرط مسلم، فإِن رجاله كلهم ثقات من رجاله سوى حصين بن قبيصة، لكن روايته متابعة، ثم هو ثقة". (¬1) المرأة الرتقاء: هي المرأة المنضمّة الفرج، التي لا يكاد الذّكر يجوز فرجها؛ لشدّة انضمامه. "لسان العرب".

وكذلك سلامتهما من العيوب التي تمنع كماله، كخروج النجاسات منه أو منها، ونحو ذلك في أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره". وجاء فيه (32/ 173): "وسئل -رحمه الله- عن رجل تزوج امرأة على أنها بِكر، فبانت ثيباً؛ فهل له فسخ النكاح ويرجع على مَن غرَّه أم لا؟ فأجاب: له فسْخ النكاح، وله أن يطالب بأرش (¬1) الصَّداق -وهو تفاوُتُ ما بين مهر البِكر والثيب؛ فينقص بنسبته من المسمّى-، وإذا فسخ قبل الدخول سقط المهر، والله أعلم". وجاء فيه (32/ 171): "وسئل -رحمه الله- عن امرأة تزوجت برجل، فلما دخل رأت بجسمه برصاً: فهل لها أن تفسخ عليه النكاح؟ فأجاب: إِذا ظهر بأحد الزوجين جنون، أو جذام، أو برص: فللآخر فسْخ النكاح؛ لكن إِذا رضي بعد ظهور العيب فلا فسْخ له. وإذا فسخت فليس لها أن تأخذ شيئاً من جهازها، وإنْ فسخت قبل الدخول سقط مهرها. وإنْ فسخت بعده لم يسقط". وجاء (ص 171) منه: "وسئل -رحمه الله- عن رجل متزوج بامرأة فظهر مجذوماً: فهل لها فسْخ النكاح؟ فأجاب: الحمد لله. إِذا ظهر أن الزوج مجذوم، فللمرأة فسْخ النكاح بغير اختيار الزوج. والله أعلم". ¬

_ (¬1) الأرش: هو اسم للمال الواجب على ما دون النفس، كما في "التعريفات". هذا في القصاص. وهو ما يستردّ من ثمن المبيع إذا ظهر فيه عيب. وهذا في البيوع. والمراد هنا: ما يسترد من المهر بعد ظهور العيب.

وقال ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (5/ 184): " ... وأمّا إِذا اشترط السلامة، أو شرَط الجمال، فبانت شوهاء، أو شرَطها شابة حديثة السن، فبانت عجوزاً شمطاء، أو شرَطها بيضاء، فبانت سوداء، أو بِكراً فبانت ثيِّباً، فله الفسْخُ في ذلك كلّه. فإِنْ كان قبل الدخول، فلا مهر لها. وإنْ كان بعده، فلها المهر، وهو غُرْمٌ على وليها إِنْ كان غرّه، وإنْ كانت هي الغارّهّ، سقط مهرها، أو رجع عليها به إِن كانت قبضته. ونص على هذا أحمد في إِحدى الروايتين عنه، وهو أقيسهما وأولاهما بأصوله فيما إذا كان الزوج هو المشترط". وقال -رحمه الله- (ص 183): " [إِنّ] كُلّ عيب يُنفّر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة يوجب الخيار، وهو أولى من البيع، كما أن الشروط المشترطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع، وما ألزم الله ورسوله مغروراً قطُّ، ولا مغبوناً بما غُرَّ به وغُبن به، ومن تدبّر مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدْله وحكمته، وما اشتمل عليه من المصالح؛ لم يَخْفَ عليه رجحان هذا القول، وقُربه من قواعد الشريعة". وقال -رحمه الله- (ص 185): "وإذا كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرّم على البائع كِتمان عيب سلعته، وحرّم على مَن علمه أن يكتمه من المشتري، فكيف بالعيوب في النكاح، وقد قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس حين استشارته في نكاح معاوية، أو أبي الجهم: "أمّا معاوية، فصعلوك لا مال له، وأمّا أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه" (¬1)، فعُلم أنّ بيان العيب في النكاح أولى وأوجب، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1480.

فائدة:

فكيف يكون كتمانه وتدليسه والغشُّ الحرام به سبباً للزومه، وجعل ذا العيب غُلاًّ لازماً في عُنق صاحبه، مع شدّة نُفرته عنه، ولا سيّما مع شرط السلامة منه، وشرط خلافه؟! وهذا مما يُعلم يقيناً أن تصرفات الشريعة وقواعدها وأحكامها تأباه. والله أعلم". وقال -رحمه الله- (ص 186): "وقد ذهب أبو محمد ابن حزم إِلى أن الزوج إِذا شرط السلامة من العيوب، فوجد أيّ عيب كان، فالنكاح باطل من أصله غير منعقد، ولا خيار له فيه، ولا إجازة ولا نفقة، ولا ميراث، قال: لأن التي أدخلت عليه غير التي تزوج، إِذ السالمة غير المعيبة بلا شك، فإِذا لم يتزوجها فلا زوجية بينهما". وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل ترون انفساخ العقد إِذا غرّر الرجل بالمرأة أو العكس؟ قال: ما نوع الغرر؟ قلت: يريد شيخنا -رحمه الله- أنّ هناك غرراً يَسوغ فيه انفساخ العقد، وغرراً لا يسوغ فيه، وذلك على النحو الذي فصّله العلماء. فائدة: سألت شيخنا -رحمه الله-: ماذا إِذا كان الرجل عنّيناً، ووافقت المرأة على الزواج منه؟ فأجاب -رحمه الله-: مقصود الزواج الإِحصان، فإِن كانت مُطلّقة أو أرملة وذاقت العسيلة، وليس عندها شَبَقٌ فلا مانع، وإلا فلا. انتهى.

المحرمات من النساء

المحرّمات من النّساء (¬1) ليس كلُّ امرأةٍ صالحةً للعقد عليها، بل يُشترط في المرأة التي يراد العقد عليها، أن تكون غير محرّمة على من يريد التزوج بها؛ سواء أكان هذا التحريم مؤبداً، أم مؤقتاً. والتحريم المؤبد يمنع المرأة أن تكون زوجةً للرجل؛ في جميع الأوقات. والتحريم المؤقت يمنع من التزوج بها، ما دامت على حالة خاصة قائمة بها، فإِنْ تغير الحال، وزال التحريم الوقتي، صارت حلالاً. المُحَرَّمات مُؤبَّداً وأسباب التحريم المؤبد هي: 1 - النسب. 2 - المصاهرة. 3 - الرضاع. وهي المذكورة في قول الله -تعالى-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (¬2). ¬

_ (¬1) عن "فقه السنّة" بتصرّف وزيادة. (¬2) النساء: 23.

أولا: المحرمات من النسب هن:

أولاً: المحرمات من النسب هنّ: 1 - الأمّهات. 2 - البنات. 3 - الأخوات. 4 - العمات. 5 - الخالات. 6 - بنات الأخ. 7 - بنات الأخت. والأم: اسم لكل أنثى لها عليك ولادة؛ فيدخل في ذلك الأمّ، وأمّهاتها، وجدّاتها، وأمّ الأب. وجدّاته، وإن عَلَوْن. والبنت: اسم لكل أنثى لك عليها ولادة، أو كل أنثى يرجع نسَبُها إِليك بالولادة بدرجة أو درجات. فيدخل في ذلك بنت الصُّلب، وبناتها. والأخت: اسم لكل أنثى جاورتك في أَصْلَيْكَ، أو في أحدهما. والعمّة: اسم لكل أنثى شاركَت أباك أو جدَّك في أصليه، أو في أحدهما. وقد تكون العمّة من جهة الأمّ، وهي أخت أبي أمّك. والخالة: اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها، أو في أحدهما. وقد تكون من جهة الأب، وهي أخت أمّ أبيك. وبنت الأخ: اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة، بواسطة أو مباشرة،

ثانيا: المحرمات بسبب المصاهرة:

وكذلك بنت الأخت. ثانياً: المحرّمات بسبب المصاهرة: وهي القرابة الناشئة بسبب الزواج. 1 - أمّ زوجته، وأم أمّها، وأمّ أبيها وإن علَت؛ لقول الله -تعالى-: {وأُمّهات نسائكم}، ولا يُشترط في تحريمها الدخول بابنتها، بل مجرّد العقد على ابنتها يحرّمها. وجاء في "الفتاوى" (32/ 77): "وسئل -رحمه الله- عن رجل تزوج بامرأة من مدة سنة ولم يدخل بها، وطلّقها قبل الإِصابة: فهل يجوز له أن يدخل بالأمّ بعد طلاق البنت؟ فأجاب: لا يجوز تزويج أمّ امرأته؛ وإن لم يدخل بها. والله أعلم". 2 - وابنة زوجته التي دخَل بها، ويدخل في ذلك بنات بناتها، وبنات أبنائها، وإنْ نزلن؛ لأنهنّ مِن بناتها؛ لقول الله -تعالى-: {وربائبكم اللاّتي في حُجُورِكُم من نسائكم اللاَّتي دَخَلتم بِهِنّ فإِن لم تكونوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فلا جُنَاحَ عَلَيْكُم}. والربائب جمع ربيبة، وربيب الرجل: ولَدُ امرأته من غيره؛ سُمّي ربيباً له؛ لأنه يَرُبّه، كما يَرُبّ ولده؛ أي: يَسُوسُه. وقوله: {اللاّتي في حُجُورِكُم}: وصْف لبيان الشأن الغالب في الربيبة، وهو أن تكون في حجر زوج أمّها، وليس قيداً. وذَكر ابن كثير -رحمه الله- أنّ هذا قول جمهور الأئمة. وعند الظاهرية: أنه قيد، وأنّ الرجل لا تحرُم عليه ربيبته -أي: ابنة امرأته- إِذا لم تكن في حجره.

عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: "كانت عندي امرأة، فتوُفّيت، وقد ولَدت لي، فوَجَدْتُ عليها، فلقيني علي بن أبي طالب فقال: ما لك؟ فقلت: تُوفِّيت المرأة، فقال عليّ: لها ابنة؟ قلت: نعم، وهي بالطائف. قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، قال: فانْكِحْها، قلت: فأين قول الله: {وربائِبُكم اللاتي في حُجُورِكُم}؟! قال: إِنها لم تكن في حجرك، إِنما ذلك إِذا كانت في حجرك" (¬1). وجاء في "الإِرواء" (6/ 287)؛ "وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (2/ 394): "هذا إِسناد قوي ثابت إِلى علي بن أبي طالب، على شرط مسلم، وهو قول غريب جداً. وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه، وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك -رحمه الله-، واختاره ابن حزم، وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإِمام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله-؟ فاستشكله، وتوقف في ذلك". وكذلك صحح إِسناده السيوطي في "الدر" (2/ 136)، ومن قبله الحافظ في "الفتح". وأمّا عن عمر، فلم أقف عليه الآن (¬2) ". ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"، وابن أبي حاتم في "التفسير"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1880). (¬2) وفي التحقيق الثانى "للإِرواء" تفصيلاتٌ طيبة لشيخنا -رحمه الله-، ذكَر فيها أنه رآه في "مصنّف عبد الرزاق" برقم (10835)، وقال: "وإسناده جيّد".

قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "أمّا أمّ المرأة؛ فإِنها تحرُم بمجرد العقد على ابنتها، سواءٌ دخل بها أو لم يدخل. وأمّا الربيبة -وهي بنت المرأة- فلا تحرم بمجرد العقد على أمّها حتى يدخل بها، فإِنْ طلق الأم قبل الدخول بها؛ جاز له أن يتزوّج بنتها". قال أبو عيسى (¬1): "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، قالوا: إِذا تزوّج الرجل امرأة ثمّ طلّقها قبل أن يدخل بها، حَلَّ له أن ينكح ابنتها، وإِذا تزوّج الرجل الابنة فطلّقها قبل أن يدخل بها؛ لم يحلَّ له نكاح أمها؛ لقول الله -تعالى-: {وأمّهاتُ نسائكم}، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق". وجاء في "المحلّى" (11/ 155) تحت المسألة (1864): "وأمّا من تزوّج امرأة ولها ابنة، أو ملَكَها ولها ابنة، فإِن كانت الابنة في حجره ودخل بالأم مع ذلك -وطئ أو لم يطأ، لكن خلا بها بالتلذذ-: لم تحل له ابنتها أبداً، فإِنْ دخل بالأمّ، ولم تكن الابنة في حجره، أو كانت الابنة في حجره ولم يدخل بالأمّ، فزواج الابنة له حلال. وأمّا من تزوّج امرأة لها أمّ، أو ملَك أمة تحلَّ له ولها أمّ؛ فالأمّ حرام عليه بذلك أبد الأبد -وطئ في كل ذلك الابنة أو لم يطأها-. برهان ذلك: قول الله -تعالى-: {وربائِبُكُم اللاتي في حُجُورِكُم من نسائِكُم ¬

_ (¬1) قاله -رحمه الله- بعد حديث ضعيف: "أيما رجل نكح امرأة فدخل بها، فلا يحل له نكاح ابنتها، فإِن لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها، وأيما رجل نكح امرأة فدخل بها، أو لم يدخل بها؛ فلا يحلّ له نكاح أمّها". أخرجه الترمذي "ضعيف سنن الترمذي" (191) وغيره، وانظر "الإِرواء" (1879).

اللاتي دَخَلْتُم بِهِنَّ فإِن لم تكونوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فلا جُنَاحَ عَلَيْكُم} (¬1)، فلم يُحرِّم الله -عزّ وجلّ- الربيبة بنت الزوجة أو الأمَة إِلا بالدخول بها، وأن تكون هي في حجره، فلا تحرم إِلا بالأمرين معاً، لقوله -تعالى- بعد أن ذكَر ما حرم من النّساء-: {وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم} (¬2)، {وما كان ربك نَسِيّاً} (¬3). وكونها في حجره ينقسم قسمين: أحدهما: سكناها معه في منزله، وكونه كافلاً لها. والثاني: نظره إِلى أمورها نحو الولاية لا بمعنى الوكالة، فكل واحد من هذين الوجهين يقع به عليها كونها في حجره. وأمّا أمّها؛ فيحرِّمها عليه بالعقد جملةً: قولُ الله -تعالى-: {وأمّهات نسائكم}، فأجملها -عزّ وجلّ- فلا يجوز تخصيصها، وفي كلّ ذلك اختلاف قديم وحديث ... ". ثمّ ذكر -رحمه الله- هذا الاختلاف وناقشه مع بيان الأدلّة. 3 - زوجة الابن، وابن ابنه، وابن بنته، وإِنْ نزل؛ لقول الله -تعالى-: {وحلائِلُ أبنائِكُم الذين من أَصْلابِكُم}. والحلائل جمع حليلة، وحليلة الرجل: امرأته، والرجل حليلها؛ لأنها تحُلّ معه ويحل معها. وقيل: لأنّ كلّ واحد منهما يحل للآخر (¬4). ¬

_ (¬1) النساء: 23. (¬2) النساء:24. (¬3) مريم: 64. (¬4) "النهاية".

4 - زوجة الأب: لقول الله -تعالى-: {ولا تنكحوا ما نكَحَ آباؤُكم من النساء} (¬1). ويحرم على الابن التزوج بحليلة أبيه، بمجرد عقْد الأب عليها، ولو لم يدخل بها. وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "مرّ بي عمّي الحارث بن عمرو، ومعه لواء قد عقَده له النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقُلت له: أي عمّ! أين بعثك النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: بعثني إِلى رجل تزوّج امرأة أبيه، فأمَرني أن أضرب عنقه" (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: {ولا تنكحوا ما نكَحَ آباؤُكم من النّساء}: "وقد أجمع العلماء على تحريم من وَطِئَها الأب بتزويج أو ملك أو بشبهة أيضاً. واختلفوا فيمن باشرَها بشهوة دون الجماع، أو نظر ما لا يحلّ له النظر إِليه منها، لو كانت أجنبيية". ثمّ ذَكر أثراً في ذلك. ويرى بعض الفقهاء أنّ مَن زنى بامرأة، أو لمسها، أو قبَّلها، أو نظر إِلى فرجها بشهوة، حرُم عليه أصولها وفروعها، وتحرُم هي على أصوله وفروعه؛ إِذ إِنّ حرمة المصاهرة تثبت عندهم بالزنى، ومِثله مقدماته ودواعيه؛ قالوا: ولو زنى الرجل بأمّ زوجته أو بنتها، حرمت عليه حرمة مؤبّدة. ويرى [المخالفون] أنّ الزنى لا تثبت به حرمة المصاهرة، وممّا استدلّوا به: ¬

_ (¬1) النساء: 22. (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1098)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2111) وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2351).

1 - قول الله -تعالى-: {وأُحلَّ لكم ما وَرَاءَ ذلكم} (¬1). فهذا بيان عما يحلّ من النساء بعد بيان ما حُرّم منهن، ولم يذكر أن الزنى من أسباب التحريم. 2 - أن ما ذكروه من الأحكام في ذلك: هو مما تمس إِليه الحاجة، وتعمُّ به البلوى أحياناً، وما كان الشارع ليسكت عنه، فلا ينزل به قرآن، ولا تمضي به سنة، ولا يصح فيه خبر، ولا أثر عن الصحابة، وقد كانوا قريبى عهد بالجاهلية التي كان الزنى فيها فاشياً بينهم، فلو فهم أحد منهم أن لذلك مدركاً في الشرع، أو تدل عليه عِلّهَ وحكمة لسألوا عن ذلك، وتوفّرت الدواعي على نقل ما يفتنون به (¬2). واستدلوا بحديث لا يثبت ولا يصح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "سُئِل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يتبع المرأة حراماً؛ أينكح ابنتها؟ أو يتبع الابنة حراماً؛ أينكَح أمّها؟ قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يُحَرِّمُ الحرام؛ إِنما يُحرم ما كان بنكاحٍ حلال". قال شيخنا -رحمه الله- في "الضعيفة" (388): "باطل"؛ وأفاض في تخريجه، ثمّ قال -رحمه الله-: "وقد استدل بالحديث الشافعية وغيرهم على أنه يجوز للرجل أن يتزوج ابنته من الزنى، وقد علمتَ أنه ضعيف؛ فلا حُجّة فيه. ¬

_ (¬1) النساء: 24. (¬2) انظر "المنار" (4/ 479).

ثالثا: المحرمات بسبب الرضاع:

والمسألة اختلف فيها السلف، وليس فيها نصٌّ مع أحد الفريقين، وإنْ كان النظر والاعتبار يقتضي تحريم ذلك عليه، وهو مذهب أحمد وغيره، ورجّحه شيخ الإِسلام ابن تيمية، فانظر "الاختيارات" له (123 - 124)، وتعليقنا على الصفحة (36 - 39) من كتابنا "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد". ثالثاً: المحرّمات بسبب الرضاع: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، والذي يحرم من النسب -كما تقدّم-: الأمّ، والبنت، والأخت، والعمّة، والخالة، وبنات الأخ، وبنات الأخت. كما في الآية المتقدّمة: {حُرِّمت عليكم أمّهاتُكُم وبناتُكُم وأَخَواتُكُم وعمّاتُكُم وخَالاتُكُم وبَنَاتُ الأخِ وبَنَاتُ الأخْت وأمّهاتُكُم الَّلاتي أَرْضَعْنَكُم وأخَوَاتُكُم من الرَّضَاعَة} (¬1). وعلى هذا، فَتُنَزَّلُ المرضعة منزلة الأمّ، وتحرم على الرضيع؛ هي وكلّ من يحرم على الابن من قبل أمّ النسب؛ فتحرم: 1 - المرأة المرضعة؛ لأنها لإِرضاعها تُعَدُّ أمّاً للرضيع. 2 - أمّ المرضعة؛ لأنها جدّة له. 3 - أم زوج المرضعة -صاحب اللبن- لأنها جدّة كذلك. 4 - أخت الأمّ؛ لأنها خالة الرضيع. 5 - أخت زوجها -صاحب اللبن- لأنها عمّته. 6 - بنات بنيها وبناتها؛ لأنهن بنات إِخوته، وأخواته. ¬

_ (¬1) النساء: 23.

الرضاع الذي يثبت به التحريم:

7 - الأخت؛ سواء أكانت أختاً لأب وأمّ، أو أختاً لأمّ، أو أختاً لأب. الرِّضاع الذي يثبُت به التحريم: يثبت التحريم بخمس رضعات معلومات. عن عائشة أنها قالت: "كان فيما أُنزل من القرآن: (عشر رضعات معلومات يُحرِّمن)، ثمّ نُسخْن بخمس معلومات، فتوُفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهنّ فيما يُقرأ من القرآن (¬1) " (¬2). عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لا رضاع إِلا ما شدّ العظم وأنبت اللحم" (¬3). عن أمّ سلمة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يحرم من الرضاعة إِلا ما فتق (¬4) الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام" (¬5). ¬

_ (¬1) قال النووي (10/ 29) في "شرحه": "معناه: أنّ النسخ بخمس رضعات تأخّر إِنزاله جداً؛ حتى إِنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفّي، وبعض الناس يقرأ: "خمس رضعات" ويجعلهما قرآناً متلواً؛ لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده؛ فلمّا بلغهم النسخ بعد ذلك؛ رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أنّ هذا لا يُتلى". (¬2) أخرجه مسلم: 1452. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1814)، وانظر "الإِرواء" (2153). (¬4) أصل الفَتق: الشقّ والفتح. وجاء في "الوسيط": "يُقال: فتِق فَتَقاً: تفتّح جسمه سِمَناً، فهو فَتِق". (¬5) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (921)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1582)، وانظر "الإِرواء" (2150).

وأمّا قول من قال: إِنّ قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم؛ أخْذاً بإِطلاق الإِرضاع في الآية، فجوابه أنّ السنّة المطهرّة مُفصِّلة مُبيِّنة للقرآن الكريم. وأمّا استدلالهم بحديث عقبة بن الحارث قال: "تزوجتُ امرأة، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت: أرضعتكما! فأتيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: تزوجت فلانة بنت فلان، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت لي: إِني قد أرضعتكما! وهي كاذبة؟! فأعرض عني، فأتيته من قِبَل وجهه؛ قلت: إِنها كاذبة! قال: كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما؟! دعها عنك" (¬1). وقولهم: إنّ ترْك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السؤالَ عن عدد الرضعات دليل على عدم اعتبار العدد! فجوابه؛ أنّه ينبغي حمْله على الجمع مع النصوص الأُخرى. وأمّا قول من قال: إنّ التحريم يثبثُ بثلاث رضعات فأكثر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تحرِّمُ المصَّةُ والمصّتَان" (¬2). وقولهم: هذا الحديث يثبت التحريم فيما زاد على ثلاث رضعات. فجوابه أنّ ذِكْر هذا؛ على سبيل البيان وتفسير حديث الخَمْس، وهو أقوى عند أهل اللغة من قوله: "لا تُحرّم المصّة، ولا المصّتان، ولا الثلاث، ولا الأربع"؟! قال في "فيض القدير" -بحذف-: " ... وإِلا فالتحريم بالثلاث إِنما يُؤخَذ منه بالمفهوم. ومفهوم العدد ضعيف؛ على أنه قد عارضه مفهوم حديث الخَمْس فيرجع إِلى الترجيح بين المفهومين" انتهى. ولك أن تقول: إِنّ مفهوم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5104. (¬2) أخرجه مسلم: 1450.

اللبن المختلط بغيره:

الثلاث عارض منطوق الخَمْس والله -تعالى- أعلم. وسألتُ شيخنا -رحمه الله- عن ذلك؟ فقال: خَمْسُ رضعات مُشبعات تجعل النّسب محرماً. اللبن المختلط بغيره: إِذا اختلط لبن المرأة بطعام أو شراب أو دواء أو لبن شاة أو غيره، وتناوله الرضيع؛ فإِنْ كان الغالب لبنَ المرأة؛ حرم. وإن لم يكن غالباً؛ فلا يثبت به التحريم. وبه يقول شَيخنا -رحمه الله- في إِجابة أجابنيها. ويشترط أن يكون الرّضاع في الحولين، وهي المدّة التي بيّنها الله -تعالى- في قوله: {والوالداتُ يُرْضعْنَ أولادَهنَّ حَوْلَين كامِلَين لِمن أراد أن يتِمَّ الرَّضاعة} (¬1). وفي حديث أُمّ سلمة المتقدّم: "لا يحرم من الرضاعة إِلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الطعام". ولو فُطم الرضيع قبل الحولين؛ واستغنى بالغذاء عن اللبن، ثمّ أرضعته امرأة؛ فإِنّ ذلك الرضاع لا تثبت به الحُرمة. وعن عائشة -رضي الله عنها-: "أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها وعندها رجل، فكأنه تغيّر وجهه -كأنه كره ذلك-، فقالت: إِنه أخي! فقال: انظرن ما إِخوانكنّ؟ فإِنما الرضاعة من المجاعة" (¬2). ¬

_ (¬1) البقرة: 233. (¬2) أخرجه البخاري: 5102، ومسلم: 1455.

رضاع الكبير:

رضاع الكبير: وبما تقدّم من الأدلّة؛ يتبيّن لنا أن رضاع الكبير لا يُحرِّم؛ بيْد أنّ بعض النصوص تدلّ على جوازه لحاجة. عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس -وكان ممّن شهد بدراً مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- تبنّى سالماً، وأنكحه بنت أخيه هنداً بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة -وهو مولى لامرأة من الأنصار-، كما تبنّى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زيداً، وكان من تبنّى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إِليه، وورث من ميراثه، حتى أنزل الله {ادْعُوهُم لآبَائِهِم} إِلى قوله: {وَمَوَالِيْكُم}، فرُدُّوا إلى آبائهم، فمن لم يُعلم له أب، كان مولى وأخاً في الدّين، فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثمّ العامري -وهي امرأة أبي حذيفة بن عتبة- النّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله! إِنّا كنّا نرى سالماً ولداً، وقد أنزل الله فيه ما قد علِمتَ ... " (¬1) فذكر الحديث. وساق الحديثَ بتمامه أبو داود بلفظ: " ... فكيف ترى فيه؟ فقال لها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرضعيه. فأرضعته خَمْس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة" (¬2). وفي رواية عن عائشة: "أنّ سالماً مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فأتت (تعني ابنة سهيل) النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إِنّ سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوا، وإنه يدخل علينا، وإني أظنّ أنّ في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً؟! فقال لها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5088. (¬2) "صحيح سنن أبي داود" (1815).

الذي في نفس أبي حذيفة. فرجعت فقالت: إِنّي قد أرضعته، فذهب الذي في نفس أبي حذيفة" (¬1). وعن أمّ سلمة -رضي الله عنها- قالت لعائشة -رضي الله عنها-: إِنه يدخل عليك الغلام الأيْفع (¬2) الذي ما أحب أن يدخل عليّ! فقالت عائشة: أما لك في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسوة؟ قالت: إِنّ امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله! إِنّ سالماً يدخل عليّ وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء؟! فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أرضعيه حتى يدخل عليك" (¬3). وقال الحافظ في "الفتح" (9/ 149): " ... وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: قال رجل لعطاء: إِنّ امرأة سقتني من لبنها بعدما كبِرْتُ؛ أَفَأَنْكِحُهَا؟ قال: لا. قال ابن جريج: فقلت له: هذا رأيك؟ قال: نعم. كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها. وهو قول الليث بن سعد. وقال ابن عبد البر: لم يختلف عنه في ذلك. قلت: وذكر الطبري في "تهذيب الآثار" في "مسند عليٍّ" هذه المسألة، وساق بإِسناده الصحيح عن حفصة مثل قول عائشة ... ". جاء في "الروضة الندية" (2/ 179): "ويجوز إِرضاع الكبير -ولو كان ذا لحية-، لتجويز النظر، ثمّ حديث أم سلمة المتقدّم؛ وفيه: "أرضعيه حتى يدخل عليك". قال: "وقد أخرج نحوه البخاري من حديث عائشة أيضاً -وقد تقدّم كذلك-". ¬

_ (¬1) انظر "صحيح مسلم" (1453). (¬2) هو الذي قارب البُلوغ ولم يبلُغ. "شرح النووي". (¬3) أخرجه مسلم: 1453.

ثمّ قال: "وقد روى هذا الحديث من الصحابة أمّهات المؤمنين، وسهلة بنت سهيل، وزينب بنت أم سلمة. ورواه من التابعين جماعة كثيرة، ثمّ رواه عنهم الجمع الجمّ. وقد ذهب إِلى ذلك علي وعائشة وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وابن عُلَيَّةَ وداود الظاهري وابن حزم. وهو الحقّ. وذهب الجمهور إِلي خلاف ذلك. قال ابن القيّم: "أخذ طائفة من السلف بهذه الفتوى، منهم عائشة. ولم يأخذ به أكثر أهل العلم، وقدَّموا عليها أحاديث توقيت الرّضاع المحرِّم بما قبل الفطام وبالصغر وبالحولين؛ لوجوه: أحدها: كثرتها، وانفراد حديث سالم. الثاني: أن جميع أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -سوى عائشة- في شِقِّ المنع. الثالث: أنه أحوط. الرابع: أنّ رضاع الكبير لا يُنبِت لحماً ولا يُنشِز عظماً؛ فلا يحصل به البعضية التي هي سبب التحريم. الخامس: أنه يحتمل أن هذا كان مختصاً بسالم وحده، ولهذا لم يجئ ذلك إِلا في قصته. السادس: "أن وسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على عائشة وعندها رجل قاعد، فاشتدَّ ذلك عليه وغضب، فقالت: إِنه أخي من الرّضاعة! فقال: انظرن مَن إِخوانكن من الرّضاعة؟ فإِنما الرّضاعة من المجاعة". متفق عليه واللفظ لمسلم. وفي قصة سالم مسلك، وهو أن هذا كان موضع حاجة، فإِنّ سالماً كان قد تبنّاه أبو حذيفة وربّاه، ولم يكن له منه ومن الدخول على أهلهِ بدٌّ، فإِذا دعَت الحاجة إِلي مِثل ذلك؛ فالقول به مما يسوغ فيه الاجتهاد. ولعل هذا المسلك

قبول قول المرضعة:

أقوى المسالك، وإِليه كان شيخنا يجنح. والله -تعالى- أعلم"، انتهى. أقول [أي: صاحب الروضة]: الحاصل: أن الحديث المتقدّم صحيح، وقد رواه الجمّ الغفير عن الجمّ الغفير سلفاً عن خلف، ولم يقدح فيه مِن رجال هذا الشأن أحد، وغاية ما قاله من يخالفه أنه ربما كان منسوخاً! ويجاب بأنه لو كان منسوخاً لوقع الاحتجاج على عائشة بذلك، ولم ينقل أنه قال قائل به؛ مع اشتهار الخلاف بين الصحابة. وأما الأحاديث الواردة بأنه لا رضاع إِلا في الحولين وقبل الفطام -فمع كونها فيها مقال (¬1) - لا معارضة بينها وبين رضاع سالم؛ لأنها عامّة، وهذا خاصّ، والخاصّ مُقدَّم على العامّ، ولكنه يختصُّ بمن عرض له من الحاجة إِلى إِرضاع الكبير ما عرض لأبي حذيفة وزوجته سهلة، فإِنّ سالماً لمّا كان لهما كالابن، وكان في البيت الذي هما فيه، وفي الاحتجاب مشقّة عليهما؛ رخص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرضاع على تلك الصفة، فيكون رخصة لمن كان كذلك. وهذا لا محيص عنه". قلت: وبه يقول شيخنا -رحمه الله-، كما في بعض مجالسه؛ مقيِّداً ذلك بالحاجة؛ كما في الحديث المتقدّم. قَبول قول المرضعة: عن عقبة بن الحارث قال: "تزوجت امرأة، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت: أرضعتكما! فأتيتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلتُ: تزوجت فلانة بنت فلان، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت لي: إِني قد أرضعتكما! وهي كاذبة؟! فأعرض عني، فأتيته من ¬

_ (¬1) وقد تقدّم تخريجها مختصراً غير بعيد. والمقال الذى فيها لا يؤثِّر!!

لبن الفحل:

قِبَل وجهه قلت: إِنها كاذبة! قال: كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما؟! دعها عنك" (¬1). قال البخاري -رحمه الله-: "باب شهادة المرضعة". وقال الحافظ في "الفتح": "أي: وحدها". جاء في "الروضة الندية" (2/ 179) -بعد ذِكْر الحديث السابق-: "وقد ذهب إِلى ذلك عثمان، وابن عباس، والزهري، والحسن، وإسحاق، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وأبو عبيد، ورُوي عن مالك ... ". لبن الفحل: والمراد بالفحل: الرجل (¬2) تكون له امرأة، ولَدت منه ولداً، ولها لبن، فكُلّ من أرضعَتْه من الأطفال بهذا اللبن؛ فهو مُحرّم على الزوج وإِخوته، فيكونون أعمامه وأولاده (¬3). عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: استأذن عليّ أفْلَحُ [أخو أبي القُعيس] (¬4)، فلم آذَنْ له، فقال: أتحتجبين منّي وأنا عمّك؟! فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: أرضعتكِ امرأة أخي بلبن أخي. فقالت: سألت عن ذلك رسول الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5104، وتقدّم. (¬2) ونسبة اللبن إِليه؛ لكونه سبباً فيه. (¬3) "النهاية" بتصرّف. (¬4) هذه الزيادة من "صحيح البخاري" (4796)، وفي رواية "لمسلم" (1445): وكان أبو القُعيس أبا عائشة من الرضاعة.

المحرمات مؤقتا

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: "صدق أفْلَح، ائذني له" (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنه سئل عن رجل له جاريتان (¬2)، أرضعت إِحداهما جارية، والأخرى غلاماً: أيحل للغلام أن يتزوج الجارية؟ فقال: لا، اللقاح واحد" (¬3). المحرمات مؤقَّتاً 1 - الجمع بين الأُختين: قال الله -تعالى-: {وأنْ تَجمَعوا بين الأُخْتَين إِلا ما قد سَلَفَ} (¬4). وعن فيروز قال: قلت: يا رسول الله! إِني أسلمتُ وتحتي أُختان، قال: "طلق أيتهما شئت" (¬5). 2 - الجمع بين المرأة وعمّتها أو خالتها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يُجمع بين المرأة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2644، ومسلم: 1445. (¬2) أي: أمَتان. (¬3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (918). (¬4) النساء: 23. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1962)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1587)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (902)، وانظر "الإِرواء" (6/ 334).

نكاح الكفار:

وعمّتها، ولا بين المرأة وخالتها" (¬1). 3 - زوجة الغير ومعتدّته -رجعيّاً-؛ إِلا المسبيّة، فإِنّها تحلّ لسابيها بعد الاستبراء، وإِنْ كانت متزوّجة. فعن أبي سعيد الخدري. "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين بعث جيشاً إِلى أوطاس، فلَقُوا عدُوّاً، فقاتلوهم فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكأنّ ناساً من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحرّجوا من غشيانهنّ من أجل أزواجهنّ من المشركين! فأنزل الله -عزّ وجلّ- في ذلك: {والمحصنات من النّساء إلاَّ ما ملكَت أيمانكم}؛ أي: فهنّ لكم حلال إذا انقضت عدّتهن" (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "أي: وحُرّم عليكم الأجنبيّات المحصنات؛ وهنّ المزوّجات {إِلا ما ملكت أيمانكم} يعني: إِلا ما ملكتموهنّ بالسبي؛ فإِنه يحلّ لكم وطؤُهنّ إذا استبرأتموهنّ، فإِنّ الآية نزلت في ذلك". 4 - المطلّقة ثلاثاً: لا تحلّ المطلّقة ثلاثاً لزوجها الأوّل؛ حتى تنكح زوجاً غيره. قال الله -تعالى-: {فإِنْ طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} (¬3). نكاح الكفار (¬4): قال الله -تعالى-: {وامرأته حمّالةَ الحطب}، {وامرأة فرعون} ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5109، ومسلم: 1458. (¬2) أخرجه مسلم: 1456. (¬3) البقرة: 230. (¬4) عن "منار السبيل في شرح الدليل" (2/ 166) بحذف.

فأضاف النّساء إِليهم، وحقيقة الإِضافة تقتضي زوجيّة صحيحة. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وُلدْتُ من نكاح لا سفاح" (¬1). [قلت: فميّز النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين النكاح والسفاح في أنكحة الكُفّار، وأثبت النكاح]. وإذا ثبتت الصحّة؛ ثبتت أحكامها *ولأنهْ أسلم خلْقٌ كثير في عصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأقرّهم على أنكحتهم، ولم يكشف عن كيفيّتها* (¬2). وإنْ أسلم الزوجان معاً، أو أسلم زوج الكتابية، فهما على نكاحهما، ولم تتعرض لكيفية عقده، لما تقدّم. قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أنّ الزوجين إِذا أسلما معاً في حال واحدة؛ أنِّ لهما المُقَامَ على نكاحهما؛ ما لم يكن بينهما نسب أو رضاع. ¬

_ (¬1) حديث حسن، خرّجه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1914). (¬2) قال شيخنا -رحمه الله- عن الكلام الذى بين نجمتين: "صحيح المعنى، وليس له ذِكر بهذا اللفظ في شيء من كتب الحديث التي وقفْتُ عليها، وإنما استنبط المصنف معناه من جملة أحاديث، منها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغيلان: "أمسِك أربعاً وفارِق سائرهن". أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (901)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1589)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1883) ". ومنها حديث الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله! إني أسلمتُ وتحتي أُختان، قال: طلِّق أيتهما شئت، وفى لفظ: اختر أيتهما شئت". أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1962)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1587)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (902)، وانظر "الإرواء" (6/ 334).

نكاح الزانية:

" ... فإِن أنكحة الكفار لم يتعرض لها النّبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- كيف وقعت؟ وهل صادفت الشروط المعتبرة في الإِسلام فتصحّ؛ أو لم تصادفها فتبطل؟ وإنما اعتبر حالها وقت إِسلام الزوج؛ فإِن كان ممن يجوز له المقام مع امرأته أقرّهما، ولو كان في الجاهلية؛ وقد وقع على غير شرطه من الولي والشهود وغير ذلك. وإِن لم يكن الآن ممن يجوز له الاستمرار؛ لم يقرّ عليه، كما لو أسلم وتحته ذات رحم محرم، أو أختان، أو أكثر من أربع، فهذا هو الأصل الذي أصّلَتْه سُنّة رسول الله -صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم-. وما خالفه فلا يُلتفت إِليه، والله الموفق" (¬1). نكاح الزانية: لا يحلّ للرجل التزوّج بزانية. وكذا المرأة لا يحل لها التزوّج بزانٍ، إِلا إِذا أحدثا توبةً نصوحاً. والله -سبحانه وتعالى- جعَل العفاف شرطاً ينبغي وجوده في كلٍّ من الزوجين قبل النكاح، قال الله -سبحانه-: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": " {مُحْصِنِينَ غيْرَ مُسَافِحِينَ ولا مُتَّخِذِي أَخْدَان}: فكما شرَط الإِحصان في النساء -وهي العِفّة عن الزنى- ¬

_ (¬1) "التعليقات الرضية" (2/ 205 - 206). (¬2) المائدة: 5.

كذلك شرَطَها في الرجال وهو أن يكون الرجل -أيضاً- محصناً عفيفاً؛ ولهذا قال: {غير مُسافحين} وهم: الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية، ولا يردُّون أنفسهم عَمَّن جاءهم، {ولا متخذي أخدان}؛ أي: ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إِلا معهنّ". وقال -سبحانه-: {الزَّاني لا يَنْكِح إِلا زانيةً أو مُشْرِكةً والزَّانية لا يَنْكِحُهَا إِلا زانٍ أو مُشْرِكٌ وحُرِّم ذلك على المؤمنين} (¬1). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" -بحذف-: "هذا خبرٌ من الله -تعالى- بأنّ الزاني لا يطأ إِلا زانيةً أو مشركة، أي: لا يطاوعه على مراده من الزنى إِلا زانية عاصية أو مشركة، لا ترى حُرمةَ ذلك، وكذلك: {الزانية لا ينكحها إِلا زان}؛ أي: عاص بزناه، {أو مُشْرِك}: لا يعتقد تحريمه. قال سفيان الثوري: عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: {الزَّاني لا يَنْكِحُ إِلا زانيةً أو مُشْرِكةً} قال: ليس هذا بالنكاح، إِنما هو الجماع، لا يزني بها إِلا زانٍ أو مشرك. وهذا إِسناد صحيح عنه. وقد روي عنه من غير وجه -أيضاً-. وقوله -تعالى-: {وحُرِّم ذلك على المؤمنين}؛ أي: تعاطيه والتزويج بالبغايا، أو تزويج العفائف بالفُجّار من الرجال. وقال قتادة، ومقاتل بن حيان: حَرَّم الله على المؤمنين نكاح البغايا، وتقدّم في ذلك فقال: {وحُرِّم ذلك على المؤمنين}. وهذه الآية كقوله -تعالى-: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ولا مُتَّخِذَاتِ ¬

_ (¬1) النور: 3.

أخْدَان} (¬1)، وقوله: {مُحصنين غير مُسافحين ولا مُتَخِذي أخْدَان} (¬2). ومن ها هنا ذهب الإِمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- إِلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب، فإِن تابت صحّ العقد عليها؛ وإِلا فلا، وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحُرّة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح، حتى يتوب توبة صحيحة، لقوله -تعالى-: {وحُرّم ذلك على المؤمنين} ... " ثمّ ذكر الحديث الآتي: عن عبد الله بن عمرو: "أن مرثد بن أبي مرثد الغَنَوِيِّ كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغيٌّ يقال لها: عَنَاقُ، وكانت صديقَتَه، قال: جئت النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقاً؟ قال: فسكت عني، فنزلت: {والزَّانية لا يَنْكِحُهَا إِلا زانٍِ أو مُشْرِكٍ}، فدعاني فقرأها عليّ، وقال: لا تنكحها" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ينكح الزاني المجلود إِلا مثله" (¬4). وقال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (5/ 572): "قوله: "المجلود"؛ ¬

_ (¬1) النساء: 25. (¬2) المائدة: 5. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1806)، والنسائي "صحيح سنن النسائي) (3027) وغيرهما، وانظر "الإرواء" (1886). (¬4) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1807)، والحاكم وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (2444).

فائدة:

قال الشوكاني (6/ 124): هذا الوصف خرج مخرج الغالب، باعتبار من ظهر منه الزنى. وفيه دليل على أنه لا يحل للمرأة أن تتزوج من ظهر منه الزنى، وكذلك لا يحل للرجل أن يتزوج بمن ظهر منها الزنى، ويدل على ذلك قوله -تعالى-: {والزَّانية لا يَنْكِحُهَا إِلا زانٍ أو مُشْرِك} ". انتهى (¬1). قال شيخنا -رحمه الله- في "التعليقات الرضية" (2/ 176): "ومعنى الآية: أن الزاني المعروف بالزنى لا ترتضيه زوجاً لها إِلا زانية أو مشركة في نظر الشرع، وكذلك القول في الزانية، وبيان ذلك في "إِغاثة اللهفان" (1/ 66): أنّ المتزوّج أُمِرَ أن يتزوّج المحصنة العفيفة، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط، والحكم المعلَّق على الشرط ينتفي عند انتفائه؛ والإِباحة قد علقت على شرط الإِحصان، فإِذا انتفى الإِحصان؛ انتفت الإِباحة المشروطة، فالمتزوّج إِما أن يلتزم حُكم الله وشَرعه، أو لا يلتزم، فإِن لم يلتزِمه؛ فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إِلا من هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه ونكح ما حرم عليه؛ لم يصح النكاح؛ فيكون زانياً". فائدة: وقال لي شيخنا -رحمه الله- حول نكاح الزانية في معرض التوضيح لسؤالٍ سابق: إِذا كان يعلم أنها زانية ولا يعلم أنها تائبة؛ فلا يجوز أن يتزّوجها، ولكنه إِذا تزوّجها وهو لا يعلم أنّها زانية؛ فزواجه صحيح. وسأَل شيخَنا -رحمه الله- أحدُ الإِخوة عن رجل زنى بامرأة؛ هل يحقّ له الزواج منها؟ ¬

_ (¬1) انظر للمزيد من المسائل والفوائد -إِن شئت- "الفتاوى" (32/ 112 - 125).

عقد المحرم

فأجاب الشيخ -رحمه الله- بعدم الجواز. ثمّ قال السائل: وإنْ تابا؟ فأجاب: لا يجوز. وقد لمسْتُ من شيخنا -رحمه الله- أنه يشكُّ في صحّة التوبة. فقلتُ له: إِذا عُلِم صدق توبتهما من خلال بعض القرائن؟ فقال: يجوز. وسُئل شيخنا -رحمه الله- في بعض مجالسه: رجل فعَل الفاحشة بامرأة، ثمّ حملت، هل يستطيع أن يتزوجها؟ فأجاب: لا أرى هذا؛ لأنّه بالتالي تخطيط لإِلحاق الولد بهما. عقد المُحرم *يحرُم على المُحْرِمِ أن يعقد النكاح لنفسه أو لغيره؛ بولاية أو وكالة، ويقع العقد باطلاً* (¬1). عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يَنكِح المحرم ولا يُنْكَح ولا يخطُب" (¬2). وما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو محرم" (¬3)؛ فهو معارض بحديث ميمونة -رضي الله عنها- نفسها: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها وهو حلال" (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين عن "فقه السّنّة" (2/ 412). (¬2) أخرجه مسلم: 1409. (¬3) أخرجه البخاري: 1837، ومسلم: 1410. (¬4) أخرجه مسلم: 1411.

وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 237): "تنبيه: أخرج الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو محرم". قال الحافظ في "الفتح" (4/ 45): "وصحّ نحوه عن عائشة وأبي هريرة وجاء عن ميمونة نفسها أنه كان حلالاً. وعن أبي رافع مثله، وأنه كان الرسول إِليها (¬1). واختلف العلماء في هذه المسألة، فالجمهور على المنع لحديث عثمان (يعني: هذا)، وأجابوا عن حديث ميمونة بأنه اختلف في الواقعة كيف كانت، فلا تقوم بها الحجة، ولأنها تحتمل الخصوصية، فكان الحديث في النهي عن ذلك أولى بأن يؤخَذ به. وقال عطاء وعكرمة وأهل الكوفة: يجوز للمحرم أن يتزوج، كما يجوز له أن يشتري الجارية للوطْءِ؛ فتعقب بالتصريح فيه بقوله: (ولا يُنكح) بضم أوله. وبقوله فيه (ولا يخطُب) ". وقال الحافظ ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (2/ 104/1) -وقد ذكر حديث ابن عباس-: "وقد عُدَّ هذا من الغلطات التي وقعت في "الصحيح"، وميمونة أخبرت أن هذا ما وقع، والإِنسان أعرف بحال نفسه، قالت: "تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا حلال بعدما رجعنا من مكة". رواه أبو داود عن موسى بن إِسماعيل نحوه: "تزوجني النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن حلال بِسَرِفَ". ¬

_ (¬1) قال شيخنا -رحمه الله- في التعليق: "في إِسناد حديث أبي رافع: مطر الوراق، وهو ضعيف، وقد خالفه مالك فأرسله، كما يأتي بيانه في "النكاح"، في أول الفصل الذي يلي "باب النكاح وشروطه". رقم (1849) ".

قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: وسند أبي داود صحيح على شرط مسلم، وقد أخرجه في "صحيحه" (4/ 137 - 138) دون ذكر سَرِفَ، وأخرجه أحمد (6/ 332، 335) باللفظ الأول الذي في "التنقيح"، وهو على شرط مسلم أيضاً". وأضاف -رحمه الله- في التحقيق الثاني على "الإِرواء" (4/ 228): "وذكر ابن القيّم في "الزاد" (5/ 112 - 113) سبعة أوجه لترجيح حديث ميمونة -رضي الله عنها-؛ منها: أن الصحابة -رضي الله عنهم- غلّطوا ابن عباس، ولم يغلّطوا أبا رافع، كذا قال. وانظر "الفتح" (9/ 165) ". وجاء في "الإِرواء" تحت الحديث (1038): "وعن أبي غطفان عن أبيه: أنّ عمر -رضي الله عنه- فرّق بينهما؛ يعني: رجلاً تزوّج وهو مُحْرِم". وقال شيخنا -رحمه الله-: "صحيح، أخرجه مالك وعنه البيهقي والدارقطني. ... وهذا سند صحيح على شرط مسلم. ثمّ روى مالك عن نافع أنّ عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول: "لا ينكح المُحْرِم، ولا يخطب على نفسه، ولا على غيره". وسنده صحيح. وروى البيهقي عن علي قال: "لا ينكح المحرم؛ فإِن نكح رُدّ نكاحه"، وسنده صحيح أيضاً". ثمّ قال شيخنا -رحمه الله-: "واتفاق هؤلاء الصحابة على العمل بحديث عثمان -رضي الله عنه- مما يؤيد صحته. وثبوت العمل به عند الخلفاء الراشدين يدفع احتمال خطأ الحديث أو نسْخه، فذلك يدلّ على خطأ حديث ابن عباس -رضي الله عنه-، وإليه ذهَب الإِمام الطحاوي في كتابه "الناسخ والمنسوخ"؛ خلافاً لصنيعه في "شرح المعاني". انظر "نصب الراية" (3/ 174). انتهى.

نكاح الملاعنة:

جاء في "سبل السلام" (3/ 240): "قال ابن عبد البر: اختلفت الآثار في هذا الحكم، لكن الرواية أنه تزوّجها وهو حلال جاءت من طرق شتى، وحديث ابن عباس صحيح الإِسناد، لكن الوهم إِلى الواحد أقرب من الوهم إِلى الجماعة؛ فأقل أحوال الخبرين أن يتعارضا؛ فتطلب الحجة من غيرهما، وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم، فهو معتمد. انتهى. وقال الأثرم: قلت لأحمد: إِن أبا ثور يقول: بأي شيء يدفع حديث ابن عباس -أي: مع صحته-؟ قال: الله المستعان! ابن المسيب يقول: وهم ابن عباس، وميمونة تقول: تزوجني وهو حلال". وسألت شيخنا -رحمه الله-: يَحْرُمُ على المُحْرِم أن ينكح، فإِذا فَعَل هل يكون العقد باطلاً؟ قال: هو كذلك. نكاح الملاعِنَة: اللِّعانُ والمُلاعَنَةُ والتَّلاعُنُ: ملاعنة الرجل امرأته، يُقال: تلاعنَا والْتَعَنَا ولاعَن القاضي بينهما، وسمّي لِعاناً؛ لقول الزوج: "عليّ لعنة الله إِن كنتُ من الكاذبين" (¬1). قال الله -تعالى-: {والذين يَرمُون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إِلا أنفُسُهُم فشهادة أحدِهم أربعُ شهادات بالله إِنَّه لمن الصَّادقين * والخامِسَةَ أنَّ لعنةَ الله عليه إِن كان من الكاذبين * ويدرأُ عنها العذابَ أن تشهد أربع شهادات بالله إِنّه لَمِنَ الكاذبين * والخامِسَةَ أنَّ غَضَبَ الله عليها إِن كان من ¬

_ (¬1) "شرح النووي" (10/ 119).

الصَّادقين * ولولا فَضْل الله عليكم ورحمته وأنّ الله توَّابٌ حكيم} (¬1). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "هذه الآية الكريمة فيها فرَج للأزواج، وزيادة مَخرج، إِذا قذَف أحدهم زوجته، وتعسّر عليه إقامة البيّنة، أن يلاعنها، كما أمر الله -عزّ وجلّ-، وهو أن يُحضِرها إِلى الإِمام، فيدّعي عليها بما رماها به، فيحلّفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء: {إِنه لمن الصادقين}، أي: فيما رماها به من الزنى، {والخامِسَةَ أنّ لعنةَ الله عليه إنْ كان من الكاذبين}، فإِذا قال ذلك، بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وحَرُمت عليه أبداً، ويعطيها مهرَها، ويتوجه عليها حدّ الزنى، ولا يدرأ عنها إِلا أن تُلاعِن، فتشهد أربع شهادات بالله إِنه لمن الكاذبين، أي: فيما رماها به، {والخامِسَةَ أنّ غَضَبَ الله عليها إِنْ كان من الصادقين}، ولهذا قال: {ويدرأ عنها العذاب} يعني: الحد {أنْ تشهد أربع شهادات بالله إِنه لمن الكاذبين * والخامِسَةَ أنّ غَضَبَ الله عليها إِنْ كان من الصادقين}. فخصّها بالغضب، كما أنّ الغالب أن الرجل لا يتجشم فضيحة أهله ورمْيها بالزنى؛ إِلا وهو صادق معذور، وهي تعلم صِدقه فيما رماها به. ولهذا كانت الخامسة في حقّها أنّ غضب الله عليها؛ والمغضوب عليه: هو الذي يعلم الحقّ ثمّ يحيد عنه". وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أيضاً قال: "لاعَنَ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين رجلٍ وامرأة من الأنصار، وفرّق بينهما" (¬2). ¬

_ (¬1) النور: 6 - 10. (¬2) أخرجه البخاري: 5314.

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أيضاً: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعَنَ بين رجل وامرأتِه، فانتفى من ولدها، ففرّق بينهما، وألحق الولَد بالمرأة" (¬1). عن ابن جريج قال: أخبرني ابن شهاب عن المتلاعِنَين وعن السُّنَّة فيهما عن حديث سهل بن سعد أخي بني ساعِدَة: أنّ رجُلاً من الأنصار جاء إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً ... وذكر الحديث بقصّته (¬2). وزاد فيه: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد. وقال في الحديث: فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ففارقها عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذاكم التّفريق بين كلّ مُتلاعِنَين" (¬3). وجاء في "الصحيحة" -بحذف- برقم (2465): "المتلاعنان إِذا تفرّقا، لا يجتمعان أبداً" ... وفيه: "وأمّا حديث سهل -رضي الله عنه- في حديث المتلاعِنَين قال: " ... فمضت السُّنَّة بعد في المتلاعِنَين أن يفرق بينهما، ثمّ لا يجتمعان أبداً" أخرجه أبو داود، والبيهقي ... ... وعن عاصم عن زر عن علي قالا: "مضت السُّنَّة في المتلاعِنَين أن لا يجتمعا أبداً". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5315، ومسلم: 1494. (¬2) انظر الرواية التي قبل هذه في "صحيح مسلم"، وهي في أول كتاب اللعان. (¬3) أخرجه مسلم: 1492.

نكاح المشركة:

أخرجه عبد الرزاق، والبيهقي؛ وإسناده حسن في المتابعات". ثمّ قال شيخنا -رحمه الله-: " ... إِذا علمت ما تقدّم؛ فالحديث صالح للاحتجاج به على أنّ فُرْقَة اللّعان إِنما هي فَسخ، وهو مذهب الشافعي، وأحمد وغيرهما، وذهب أبو حنيفة إِلى أنه طلاق بائن، والحديث يردُّ عليه، وبه أخذ مالك أيضاً والثوري وأبو عبيدة وأبو يوسف، وهو الحق الذي يقتضيه النظر السليم في الحكمة من التفريق بينهما، على ما شرحه ابن القيّم -رحمه الله تعالى- في "زاد المعاد"؛ فراجعه (4/ 151 و153 - 154)، وإِليه مال الصنعاني في "سبل السلام" (3/ 241) ". قال النووي -رحمه الله- في "شرحه" (10/ 123): " ... وأمّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذاكم التفريق بين كل متلاعِنَين"؛ فمعناه عند مالك والشافعي والجمهور: بيان أن الفرقة تحصل بنفس اللعان بين كل متلاعِنَين. وقيل: معناه تحريمها على التأبيد، كما قال جمهور العلماء". نكاح المشرِكة: لا يحل للمسلم أن يتزوج من غير الكتابيّات -على ما سيأتي تفصيله إِن شاء الله تعالى-؛ كالوثنية أو الشيوعيّة أو الملحدة أو المرتدَّة عن الإِسلام أو عابدة النّار أو الفرج ... ونحو ذلك. قال الله -تعالى-: {ولا تُمسِكُوا بعِصَم الكَوَافِر} (¬1). قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله -تعالى-: {ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِر} تحريمٌ من الله -عزّ وجلّ- على عباده المؤمنين نكاحَ المشركات والاستمرارَ معهنّ. ¬

_ (¬1) الممتحنة: 10.

وفي "الصحيح" عن الزهري، عن عروة، عن المسور، ومروان بن الحكم: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمّا عاهد كفار قريش يوم الحديبية، جاءه نساء من المؤمنات، فأنزل الله -عزّ وجلّ-: {يا أيها الذين آمنوا إِذا جاءَكم المؤمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} إِلى قوله: {ولا تُمْسِكُوا بِعِصَم الكَوَافِر}، فطلّق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين، فتزوّج إِحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية (¬1) " (¬2). وقال -سبحانه-: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (¬3). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "هذا تحريم من الله -عزّ وجلّ- على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبَدة الأوثان. ثمّ إِنْ كان عمومها مراداً، وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إِذا آتيتموهنّ أجورهنّ مُحْصنينَ غير مُسَافحينَ ولا مُتَّخِذِي أخْدَان} (¬4). ¬

_ (¬1) وكانا كافرين يومئذ. (¬2) بعض حديث أخرجه البخاري: 2731، 2732. (¬3) البقرة: 221. (¬4) المائدة: 5.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {ولا تَنكحوا المشركات حتّى يؤمِنّ}: استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب. وهكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومكحول، والحسن، والضحاك، وزيد بن أسلم، والربيع بن أنس، وغيرهم. وقيل: بل المراد بذلك (¬1) المشركون من عبَدة الأوثان، ولم يُردْ أهل الكتاب بالكلية، والمعنى قريب من الأول، والله أعلم. ثمّ قال -رحمه الله-: "قال أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- بعد حكايته الإِجماع على إِباحة تزويج الكتابيات: وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني، كما حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن إِدريس، حدثنا الصلت بن بهرام، عن شقيق؛ قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إِليه عمر: خلِّ سبيلها، فكتب إِليه: أتزعم أنها حرام؛ فأُخلّيَ سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تَعَاطَوُا المومسات منهن. وهذا إِسناد صحيح. وروى الخلال عن محمد بن إِسماعيل، عن وكيع، عن الصلت. نحوه. ثمّ ساق ابن جرير بإِسناده إِلى زيد بن وهب؛ قال: قال لي عمر بن الخطاب: المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة (¬2). قال: وهذا أصح إِسناداً من الأول". ¬

_ (¬1) أي: في عدم النكاح. (¬2) أخرجه الطبراني، والبيهقي، قال أحمد شاكر: "هذا إِسناد صحيح متصل إلى عمر". قاله محقق "ابن كثير" - ط الفتح.

وهناك آثار عديدة عن السلف في نكاح نساء أهل الكتاب (¬1)؛ منها: أن حذيفة -رضي الله عنه- نكَح يهودية، وعنده عربيّتان. عن أبي وائل قال: "تزوج حذيفة يهودية، فكتب إِليه عمر أن: خلِّ سبيلها، فكتب إِليه: إِنْ كان حراماً خليتُ سبيلها، فكتب إِليه: إِني لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تَعَاطَوُا المومساتِ منهن" (¬2). ومنها: عن أبي عياض قال: لا بأس بنكاح اليهوديات والنصرانيات إِلا أهل الحرب (¬3). ومع القول بجواز نكاح الكتابيات أصلاً؛ ولكن لا بُدّ من أمْن الفتنة، والنظر إِلى عاقبة الأمور وخواتيمها، فإِنّ من تزَوّج من السلف منهنّ كانت لديهم القُدرة على هدايتهنّ للإِسلام بتوفيق الله -سبحانه-، وكذلك إِحسان تربية الأبناء. ونحن نرى الآن أن الزّواج من المسلمة العاصية له أثره السَّيِّئُ في الزوج، وانتكاسه ونقْص إِيمانه، فكيف إِذا تزوّج من كتابيّة! وسألت شيخنا -رحمه الله- عن الزواج من الكتابيات؟ فقال: أرى عدم الزواج من الكتابيات؛ من باب سدّ الذرائع، وإنْ وقَع لا نُبطِله. ¬

_ (¬1) انظرها -إِن شئت- في "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 463). (¬2) قال شيخنا -رحمه الله-: "وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البيهقي وقال: "وهذا من عمر -رضي الله عنه- على طريق التنزيه والكراهة ... ". وانظر "الإِرواء" (1889). (¬3) المصدر نفسه.

نكاح المسلمة بغير المسلم:

وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (32/ 182): "إِن نكاح المجوسيات لا يجوز، كما لا يجوز نكاح الوثنيات، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وذكره الإِمام أحمد عن خمسة من الصحابة في ذبائحهم ونسائهم، وجعل الخلاف في ذلك من جنس خلاف أهل البدع ... ". وسألت شيخنا -رحمه الله- عن زواج المجوس؟ فقال: يحرُم ذلك. وسألته -رحمه الله- عن قول بعضهم في جواز الزواج ممّن لهم كتاب غير اليهود والنّصارى؟ فقال -رحمه الله-: لا نعلم أهل الكتاب إِلا اليهود والنصارى. وجاء في "الإِرواء" (5/ 90): "وروى البيهقي (9/ 192) عن الحسن بن محمد بن علي قال: كتَب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى مجوس هجَر يَعرِض عليهم الإِسلام، فمن أسلَم قُبِل منه، ومن أبى ضُربت عليه الجزية، على أن لا تؤكل لهم ذبيحة، ولا تُنكَح لهم امرأة. وقال: هذا مرسل، وإِجماع أكثر المسلمين عليه يؤكده، ولا يصح ما روي عن حذيفة في نكاح مجوسية". قال شيخنا -رحمه الله-: "ورجال إِسناده ثقات" انتهى. نكاح المسلمة بغير المسلم: قال الله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا إِذا جاءَكُمُ المؤمناتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بإِيمانِهِنّ فإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤمِنَاتٍ فلا تَرْجِعُوهنّ إِلى

الكُفّار لا هُنّ حِلٌّ لهم ولا هم يَحِلّونَ لهُنَّ} (¬1). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "وقوله -تعالى-: {فإن عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤمِنَاتٍ فَلا تَوْجِعُوهُنَّ إِلى الكُفَّار}؛ فيه دلالة على أن الإِيمان يمكن الاطلاع عليه يقيناً. وقوله -تعالى-: {لا هُنَّ حِلٌّ لهم ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}: هذه الآية هي التي حَرّمت المسلماتِ على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء الإِسلام أن يتزوج المشركُ المؤمنةَ، ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوجَ ابنة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زينب -رضي الله عنها-، قد كانت مسلمة، وهو على دين قومه، فلمّا وقع في الأسارى يوم بدر؛ بَعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمّها خديجة، فلمّا رآها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ رقّ لها رقّة شديدة، وقال للمسلمين: "إِنْ رأيتم إِن تُطْلقوا لها أسيرها فافعلوا ... " (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ردّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأوّل، ولم يُحدِث نكاحاً" (¬3). وجاء في "الإِرواء" (6/ 340): " ... قال قتادة: ثمّ أُنزلت سورة {براءة} بعد ذلك، فإِذا أسلمت المرأة قبل زوجها؛ فلا سبيل له عليها إِلا ¬

_ (¬1) الممتحنة: 10. (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2341)، والحاكم وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (1921). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1957)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (913).

بخطبة، وإسلامها تطليقة بائنة. وإسناده صحيح مرسل". انتهى. وقال الله -تعالى-: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} (¬1). فما كان للكافرِ من سلطانٍ على مسلمة، ونكاحه منها أعظم سلطان عليها؛ عياذاً بالله -تعالى-. وقد جاء إِليّ من خارج البلاد سؤالٌ مِن أحد الإِخوة وهذا نصُّه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: فقد هداني الله -سبحانه وتعالى- وعن طريق أحد الإِخوة المؤمنين. ... وحصلتُ على عنوانكم طالباً منكم المساعدة في سبيل مرضاة الله، والسير على طريق الشرع الإِسلامي الحنيف. والأمرُ كالآتي: لقد تزوجتُ من امرأة مسلمة بعد طلب يدها للزواج من ذويها، وبعد استئذانها، ثمّ بعد سنتين من الزواج سافرنا إِلى بريطانيا للدراسة، وفي تلك البلاد انشقّت زوجتي عني، وحصل بيننا شِقاق في أمور يسيرة، إِلا أنها أخذت الأمر حُجة لطلب الطلاق من المحكمة البريطانية التي لا تدين بدين الإِسلام، ورفضَت كل طلبٍ للوساطة والصلح؛ من طريق أهل الخير من المسلمين الذين يعرفوننا هناك .. وحتى إِنّها رفضت أن تتحدث -ولو بشكل وُدِّي غير ملزِم- إِلى المركز الإِسلامي (بلندن)، ولمّا كنت أرفض التحاكم إِلى القضاء غير المسلم، ورغم عدم ثبوت أي صحة تُبيح تطليقها منّي بحكم القانون البريطاني؛ مِثل ثبوت سوء المعاملة، أو الضرب، أو الخيانة الزوجية، أو فقدان العقل .. لذلك حكموا بالفراق ومن ثمّ بالطلاق، وفي كل مرة كنّا نتواجه بها في المحكمة أو عن طريق محاميها؛ كانت ترفض دعوتي لها بإِرجاع ¬

_ (¬1) النساء: 141.

الأمر إِلى قضاءٍ مسلم، وهددتني برفع الأمر إِلى الشرطة البريطانية إِذا حاولتُ الاتصال بها، أو محادثتَها، فأوكلت أمري إِلى الله الواحد الأحد! وعلمتُ فيما بعد أنها تزوّجت من رجل غيرِ مسلم في تلك البلاد دون إِذن مني، إِني أرجوكم أن تساعدوني بتقديم البيان لي في شرع الله -سبحانه وتعالى-، وسنة نبيّه الكريم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولحاجتي الماسّة إِلى البيان أرجو منكم استعجالَ الجواب. أولاً: هل يجوز لقاضٍ غير مسلم تطليق امرأة مسلمة من زوجها المسلم؟ ثانياً: هل يقع الطلاق برغم تمسُّك الزوج وطلبه من زوجته الرجوع في الأمر إِلى قضاء مسلم، وكان ذلك ميسّراً؟ ثالثاً: هل يحِلّ للمرأة في هذه الحالة أن تعدّ نفسها مطلقة من زوجها الأول المسلم؟ وهل يحقُّ لها الزواج من غيره؛ مع العلم أنها مبلّغة بالحذر من اعتبار طلاقها من القضاء البريطاني، وأنّ الأَولى أن يصلح بينهما، أو يطلقها قاضٍ مسلم؟ وطوال هذا الوقت تعلم تلك المرأة عِلم اليقين مكان وعنوان الاتصال المباشر مع زوجها الأول المسلم، ولكنها آثَرت البلاد غير المسلمة، ورفضت العودة إِلى بلادها أو الاتصال به. أرجو منكم استعجال الجواب، وبإِذن الله، وعسى أن يَرِدَني منكم الجوابُ بفتوى خطية، وعسى أن تبحثوا الأمر مع صاحب العِلم الجليل فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -حفظه الله وأبقاه-. وإِني سوف أسعى لإِبلاغها ونُصحها بالعودة إِلى الصراط المستقيم؛ قبل أن تلقى ربّها وهي مذنبة غير تائبة.

فائدة:

هذا .. ووفقّكم الله لكل خير. انتهى. وعرضتُ السؤال على شيخنا -رحمه الله-؛ فأجاب. الحمد لله: الجواب عن الأسئلة الثلاثة: لا يجوز، لا يقع، لا يحلّ. وأنصح السائل أن يَنْفُضَ يده من هذه المرأة، ولا يسأل عنها، ولا يذهب نفسه حسراتٍ عليها، وأن لا يفكِّر أن يعيدها إِلى عصمته ولو رغبت، بعد أن ارتكبت ذينك الذنبين الكبيرين: 1 - تحاكَمت إِلى الطاغوت، ورَضِيت بحكمه، وهذا خُلُق من يزعمون أنهم آمنوا، وقد قال الله فيهم. {يُريدون أن يَتَحَاكمُوا إِلي الطَّاغُوت وقد أُمِروا أن يكفروا به ويُرِيُد الشَّيطانُ أن يُضِلّهم ضلالاً بعيداً} (¬1). 2 - رضيت أن يعلوها زوج كافر، والله -تعالى- يقول: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} (¬2). وكتب: محمد ناصر الدين الألباني. فائدة: جاء في "الفتاوى" (32/ 61): "وسئل عن "الرافضة" هل تزوّج؟ فأجاب: الرافضة المحضة هم أهل أهواء وبدع وضلال، ولا ينبغي للمسلم أن يزوّج موليته من رافضي، وإِنْ تزوج هو رافضية صح النكاح، إِنْ كان يرجو أن تتوب؛ وإلا فترْك نكاحها أفضل؛ لئلا تُفسد عليه ولده، والله أعلم". ¬

_ (¬1) النساء: 60. (¬2) النساء: 141.

تحريم الزيادة على الأربع:

تحريم الزيادة على الأربع: لا يحلّ للرجل أن يجمع في نكاحه أكثر من أربع زوجات في وقت واحد؛ لقوله -تعالى-: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكم مِنَ النِّسَاءِ مثنَى وثلاثَ ورُبَاعَ} (¬1). وهذا عدا ما ملكَت يمينه من الإِماء. عن ابن عمر -رضي الله عنه-: "أن غَيلان بن سلمة الثقفي أسلم، وله عشر نسوة في الجاهلية، فأسلَمْن معه، فأمَره النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتخير منهنّ أربعاً" (¬2). وعن قيس بن الحارث قال: "أسلمتُ وعندي ثمانِ نسوة، فذكرتُ ذلك للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اختر منهن أربعاً" (¬3). قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال الشافعي: وقد دلّت سُنّة رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- المبيّنة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة. وهذا الذي قاله الشافعي -رحمه الله- مُجمَع عليه بين العلماء؛ إِلا ما حُكي عن الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إِلى تسع ... ". تعدُّد الزوجات: أباح ديننا الحنيف تعدّد الزوجات، على ألا يزيد على أربع؛ خلا ملك ¬

_ (¬1) النساء: 3. (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (901)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1589)، وانظر "الإرواء" (1883). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1960)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1588)، وانظر "الإِرواء" (1885).

اليمين من الإِماء؛ كما تقدّم. وأوجب العَدْل بينهنّ في الطعام والكسوة والسكن والمبيت. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من كانت له امرأتان فمال إِلى إِحداهما، جاء يوم القيامة وشِقّه مائل" (¬1). ومن خاف ألا يعدل فعليه أن يقتصر على واحدة؛ لقول الله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ فإِنْ خفْتُم ألا تَعْدلُوا فَوَاحدَةً أو مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُم ذلك أدْنَى ألا تَعُولُوا} (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: فإِنْ خشيتم من تعداد النساء أن لا تعدلوا بينهن؛ كما قال -تعالى-: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حَرَصتم}، فمن خاف من ذلك؛ فليقتصر على واحدة، أو على الجواري السراري؛ فإِنه لا يجب قسم بينهن، ولكن يستحبّ، فمن فعَل فحسَن، ومن لا فلا حرج". انتهى. وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله -تعالى-: {ذلك أدنى أن لا تعولوا} قال: "أن لا تجوروا" (¬3). والمراد من قوله -تعالى-: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1867)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (912)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1603)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3682)، وانظر "الإرواء" (2017). (¬2) النساء: 3. (¬3) أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" وغيره، وانظر "الصحيحة" (3222).

حَرَصْتُم} (¬1) - كما قال ابن كثير -بحذف-: "أي: لن تستطيعوا أيها الناس! أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإِنه وإن حصَل القسم الصوري: ليلة وليله، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع؛ كما قاله ابن عباس، وعبَيِدة السلماني، ومجاهد، والحسن البصري، والضحاك بن مزاحم". ثمّ ساق بإِسناد ابن أبي حاتم إِلى ابن أبي مليكة قال: "نزلت هذه الآية: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرَصتم} في عائشة. يعني: أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحبها أكثر من غيرها (¬2) ". ثمّ قال -رحمه الله-: "وقوله: {فلا تميلوا كلّ الميل}؛ أي: فإِذا مِلتم إلى واحدة منهنّ، فلا تُبالِغوا في الميل بالكلِّية {فتذروها كالمعلّقة}؛ أي: فتبقى الأخرى مُعلّقة. قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، والربيع بن أنس، والسُّدِّيُّ، ومقاتل بن حيان: معناه: لا ذات زوج ولا مطلقة". ثمّ ذكر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كانت له امرأتان فمال إِلى إِحداهما، جاء يوم القيامة وأحد شقّيه ساقط" (¬3). ثمّ قال -رحمه الله-: " {وإِنْ تُصلحوا وتتقوا فإِنّ الله كان غفوراً ¬

_ (¬1) النساء: 129. (¬2) وقد سأل عمرو بن العاص -رضي الله عنه- رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "أيّ الناس أحبّ إِليك؟ قال: عائشة". أخرجه البخاري: 3662، ومسلم: 2384. (¬3) تقدّم.

ماذا يشترط على من يريد التعدد؟

رحيماً}؛ أي: وإنْ أصلحتم في أموركم، وقسَمتم بالعدل فيما تملكون، واتقيتم الله في جميع الأحوال، غفَر الله لكم ما كان من مَيْل إِلى بعض النساء دون بعض". انتهى. والحاصل: أن المرء لا يستطيع المساواة بين النساء مِن جميع الوجوه، فلا بُدّ من التفاوت في المحبّة والشهوة والجماع، وقد تقدّم أن عائشة -رضي الله عنها- كانت أحبَّ النساء إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وجاء التوجيه الرّباني بالإِصلاح والتقوى في الأمور؛ لتكون المغفرة على ما كان من ميل إِلى بعض النساء دون بعض. وهذا يعني مراعاة الضعف البشري، وليس معنى قوله -تعالى-: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حَرَصْتُم} تحريم التعدّد! وهذا الفَهْم السقيم فيه اتهام لربّ العالمين؛ أنه يعلم عدم استطاعة العدل بين النساء؛ ثمّ يأمر -سبحانه- بالتعدُّد!! تعالى الله عن هذا علوّاً كبيراً. فلا بدّ ابتداءً أن ينوي المرء العدل ويتحرّاه -كما ينوي عدم الوقوع في أي ذنبٍ آخر؛ ولكنه يُذنب، وأينا لا يظلم نفسه؟! - فإِذا وقعَ منه الميل أو عدم العدل؛ استغفر وأناب، واتقى وأصلح. ماذا يُشترط على من يريد التعدّد؟ 1 - القدرة عليه مالياً وبدنياً. 2 - القدرة على العدل الممكن؛ في ضوء التفصيل السابق، والله -تعالى- يقول: {فإنْ خِفْتُمْ ألا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة}.

من محاسن التعدد:

فمن لم يخف عدم العدل فقد حلّ له ذلك، وإلا حرُم عليه، فلا بُدّ من الإِيمان والتقوى وقوة الشخصيّة؛ لضبط الأمور بين النّساء. فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يُفضّل بعضنا على بعض في القسم" (¬1). من محاسن التعدّد: ومحاسن التعدّد كثيرة، منها: 1 - أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكاثر بأُمّته الأمم يوم القيامة، والتعدّد من الأبواب الموصلة إِلى ذلك. عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تزوّجوا؛ فإِنّي مُكاثِرٌ بكم الأمم يوم القيامة" (¬2). 2 - أنّ خير الناس أكثرهم نساءً، عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: "هل تزوجتَ؟ قلت: لا. قال: فتزوَّجْ؛ فإِنّ خير هذه الأمّة أكثرها نساءً" (¬3). 3 - أنّ الأمّة المجاهدة تفتقر إِلى عدد كبير؛ يقوم بهذا الأمر العظيم. 4 - إِنّ الأعداد الكثيرة في أيّ دولة -حين يلي أمورها أمراء متقون وولاةٌ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "الإِرواء" (2020). (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى". وله شواهدُ يتقوى بها؛ ذَكرها شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (1782). (¬3) أخرجه البخاري: 5068. وبوّب الإمام البخاري -رحمه الله- بقوله: (باب كثرة النساء).

عادلون- لهي الأولى بالرفعة والسمّو والعزّ. 5 - أنّ في ذلك علاجاً ناجعاً للنّساء في حالات عديدة؛ فهناك الكثير من النسوة لا تُرْتَضَى زوجة أولى؛ لِكبرها أو لنقصٍ في جمالها، أو لكونها مطلّقة، أو مريضة، أو لا تلِد. 6 - أنّ قدرة الرجل على الوطء والجماع؛ لا كالمرأة، والله -تعالى- بحكمته وعلِمه خلَقه كذلك. ولا يخفى ما يصيب المرأة من حيض ونفاس، تؤثّر في حالتها النفسية والبدنية، فماذا يكون من شأن الرجل خلال هذه المُدّة؟! وكيف إِذا كان لدى بعض الرجال رغبة جنسيّة قويّة؟! 7 - أنّ الفُجّار والفُسّاق ينفّسون عن شهواتهم -على اختلاف درجاتها- بالزنى والفجور والمحرّمات، أمّا المتّقون الذين يحوصون على غضّ البصر وحِفظ الفرج؛ فإِنّ ملاذَهم -بفضل الله- هو التعدّد. وكلّ ما نقوله في محاسن التعدّد؛ لا يعني أن لا تكون معاناةٌ عند المرأة، أو أن لا ترى ما تكره. ولكن؛ هل في عدم التعدّد قد ارتاحت من المعاناة، ولم تَرَ إِلا ما تحبّ؟! وليس يخفى أن الأمور بمجموعها؛ لا بأفرادها، وماذا إِذا زنى زوجها -عياذاً بالله-؟! فلا بُدّ أن تعلم أنّ ما يكون من ضررٍ للرجل أو المرأة من إِباحة التعدد؛ لهو أخفّ من منْعه. وللعلماء في الأضرار والمنافع كلام طيّب، فقد بيّنوا -مثلاً- أنه يحصل في

توجيهات وكلمات مضيئة في التعدد

الجهاد نقصٌ في الأموال والأنفس والثمرات ... ولكن لا يخفى ما يكون من حال الأُمّة التي لا تجاهد؛ ممّا يركبها من ذِلّةٍ وهوانٍ وطمع الأعداء، فالأموال والأنفس والثمرات كلها تحت تصرف الأعداء إِلا ما شاء الله. هذا؛ وفي حوارٍ بين زوجين، قال الزوج: لماذا تحاربين هذا الأمر؟! أتريدين أن أزني؟! فقالت: ازْنِ؛ ولا تتزوّج!!! توجيهات وكلمات مضيئة في التعدّد 1 - إِن كثيراً من النّاس يضربون الأمثلة على فشل زيد وعمرو في التعدّد! فأقول: إِنّ ضرْب الأمثلة على فشل زيد وعمرو في التعدّد: لهو الفشل في الفقه والعلم! فالأمثلة لا تُلغي الأحكام الشرعيّة، لأنه قد يقول جاهل: لقد أسلم ملحد ذات يوم، وبعد إِسلامه ابتُلي بالفقر والمرض النفسي؛ ثمّ قام بسرقة ألوف الدنانير من بعض المسلمين! فهذا المثال -على ما فيه من فساد- أشبه ما يكون بظلمات بعضها فوق بعض؛ فهل نتوقّف عن الدعوة إِلى الإِسلام. بل إنّ المرأة قد تتمنّى الوطء الحلال، ولو لمرَّةٍ واحدة، حتى لو طُلّقت، وكم من الرجال والنساء من يشتهي هذا الوطء، ولكن لم ييسّر لهم ذلك، وعدمُه يُفضي إِلى الحرام؛ عياذاً بالله -تعالى-! ولو أنّ تلك المرأة -بعد ذلك الوطء الحلال- قد أنجبت ولداً صالحاً ينفعها؛ فهو خير لها من أن تموت من غير نكاح.

2 - ولا بُدّ أن يعلم هؤلاء المعترضون أنهم بآيات الله يجحدون، وأنّهم يُعارضون الدّين، فليحذروا من هذا كلّه. وأقول: هل اعتراضهم على الحُكم الشرعي في أمر التعدّد؛ أم على سوء تطبيق بعض الناس؟! فهل سوء استخدام السيارة يحرّمها؟! وهل سوء استخدام الهاتف يحرّمه؟! وهل سوء استخدام المال يحرمه؟! وكذلك الأمر في التعدّد. 3 - إِنّ كثيراً من النّساء؛ لا يمنعهن الموافقة على هذا الأمر إِلا النّاس! فالمرأة تخشى القيل والقال، وألسنة النّاس! ولو أنها أمِنَت ذلك، ورأت من المجتمع إِقراراً؛ لما عارضَت هذا الأمر. ولو جئتَ تستحلفها بالله -سبحانه-: ألَيس الأتقى لربك -عزّ وجلّ- أن يعدّد زوجك؛ لقالت: نعم؛ لأنها تعلم أنها لا تستطيع إِشباع غريزته الجنسية مثلاً -ولو ادعت ذلك-، ولأنها تعلم أنه لا يلبّي حاجات زوجها الكثيرة إلاَّ الزّواج. فإِلى كلّ من خشي النّاس -من ذَكَر وأنثى- أقول: اخشَ رب النّاس، ملك النّاس، إِله النّاس -سبحانه وتعالى-. 4 - وأمّا بعض الرجال -وهم أشباه النّساء مع الأسف- الذين شنّوا الحرب على التعدّد؛ فإِنّك لو استحلفتهم بالله -سبحانه-: ألا تتمنّون التعدّد في أفئدتكم؟ وتشتهونه في قلوبكم؟! لما سمعت منهم إِلا الإِقرار.

5 - ولا بُدّ للمرأة المسلمة أن تثق بربّها -سبحانه- ودينها الحنيف، وألا تخضع للموازين الفاسدة، فلا بُدّ لها أن تُوازِن بين عدم زواجها إِرضاءً للناس، وبين زواجها بما فيه من إِعفاف وإحصان، ومنافع في الدارَين. 6 - ومع الأسف أن تكون الحرب الشعواء من نساءٍ مسلمات سُمّين بـ (الملتزمات)!! فإِذا سمعن بشيء من هذا؛ غلَت صدورهنّ، وبدأن بإِشعال النيران، وإطالة ألسنتهن طعناً وافتراءً على العروسين؛ دون تقوى أو مراقبة لله -تعالى-! وبينهنّ حبل التواصي بالباطل ممدود، حتى إِنّ إِحداهنّ (من الداعيات)! سمعت أن فلاناً خطب فلانة، فقالت: أنا التى سأقف ضدّه. وليست هذه القضيّة -والله- حرباً ومعركة بين فريقين؛ ليحشد كلٌّ منهما ما عنده من الأسلحة الفتّاكة ليحرق الآخر! ولا هي بالمنافسة الشريفة والمسابقة المشروعة؛ ليسارع كلٌّ للانتصار لما عنده! بل إِن الأمر يحتاج إِلى الاحتكام إِلى العلماء وَرَثة الأنبياء -عليهم السلام-؛ وقد قال -سبحانه-: {فاسألوا أهل الذِّكر إِن كنتم لا تعلمون} (¬1). وقال -سبحانه-: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُون حتَّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَرَ بينهم ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهم حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ ويُسَلِّموا تَسْلِيماً} (¬2). وبهذا يكون معنى الآية: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموا ورثتك فيما شجرَ بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قَضَوْا ويسلّموا تسليماً". أما أن ترى المرأة نفسها فقيهة مجتهدة في هذا الأمر، فتُفتي من عندها بما ¬

_ (¬1) النحل: 43، الأنبياء: 7. (¬2) النساء: 65.

تهوى؛ فهذا هو العجَب. وأنا أعجب من هؤلاء النّسوة اللاتي يُطِلن ألسنتهنّ خوضاً وطعناً في النّاس، وكأنّ الله -تعالى- قد أحلّ لهنّ هذا الخوض، أو كأنّ الإِجماع في تحريم الغيبة قد صار إِلى سراب؛ فأصبحت غِيبةُ المعدّدين من أفضل القُربات إِلى الله -تعالى-. وأنا أستحلف هؤلاء النسوة بالله ربّ العالمين: هل استغفرن من هذه الذنوب؟! وهل طلبن التحلُّل ممّن طَعَنَّ فيهم أو فيهنّ؟! هل دعون لهم أو لهنّ في ظهر الغيب؟! هل تُبْن توبةً نصوحاً؟! هل استحضَرن قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِني لأرى لحمه بين أنيابكما"؟! هل استشعرن في أنفسهنّ عذاب النّار، والمُثُولَ بين يدي العزيز الجبّار؟! هل تدبّرْن قوله -تعالى-: {يومئذٍ تُعرضون لا تَخفى منكم خافية} (¬1). وهل خَشِينَ على أنفسهنّ أن تُعرض فضائحهن أمام الخلق؟! وهل تدبّرن قوله -تعالى-: {يوم تجد كلّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ مُحضراً وما عملت من سوء تودُّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً} (¬2)؟! وهل خِفْن على أنفسهنّ أن يجدن ما عملن من سوء وطعنٍ في النّاس مُحضَراً؟! كم أُشْفق على هؤلاء النسوة، وعلى ما فيهنّ من حالٍ؛ في محاربة الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -شعرْنَ أو لم يشعرن-! ¬

_ (¬1) الحاقة: 18. (¬2) آل عمران: 30.

فائدة:

كم أرثي لحالهنّ وهنّ يَعِثن في الأرض فساداً! كم يتفطّر القلب عليهنّ؛ وهن يُمسِكْن معاول الهدم للإِسهام في هدم المجتمع -وإن زَعمنَ غير ذلك-! كم يتلوَّع الفؤاد عليهنّ في الجزم بالعِلم والمعرفة والخبرة والمصلحة؛ وهنّ أبعد النّاس من هذا كلّه! كم أرقُّ لهؤلاء المفلسات اللائي يضيّعن الثواب يوم القيامة؛ وقد اغْتَبْنَ هذا، وطَعَنَّ في هذا، وشَتَمْنَ هذا ... والثمن كله من الحسنات: يوم لا درهم ولا دينار! فهلمّ إِلى التوبة والإِنابة والاستغفار والندم {من قبل أن يأتي يوم لا مردّ له من الله} (¬1). فائدة: إِنّ ما جرى عند أُمّهات المؤمنين -رضي الله عنهنّ- من غَيرةٍ -والنصوص في ذلك كثيرة-: إِنّما هو توجيه وإرشاد للنّساء -ولا سيّما في زماننا- أن هذا حال البشر، وأنّ أمْر التعدّد لا يخلو ممّا تكرهه المرأة، ولا يعنى أنها إِذا لقيت أدنى ما تكره قذِرت التعدّد وجَحدته -عياذاً بالله تعالى-. وكأنّ ما جرى بين أزواج النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: هذا هو التعدّد، وهذه هي بشريّة الإِنسان غير المعصوم، فَلَكُنّ في أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونساء السلف أسوة وقدوة في قَبوله وتحمُّله، مع ورود ما ذكَرْت. وهناك أمْرٌ هامّ؛ وهو أنّ ما جاء في مِثل هذه الأمور لا يعدو أن يكون بين ¬

_ (¬1) الشورى: 47.

مسائل في التعدد:

أزواج النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا كحال أكثر النساء اليوم -مع الأسف- مِن تعدّي هذا؛ إِلى المجتمع: غيبةً ونميمةً وقدحاً وطعناً، وركوباً للهوى، بل إِنّك قد ترى من الكلام حول التعدُّد ما قد تحكمُ بِكفر بعضهنّ؛ عياذاً بالله -سبحانه-! 7 - وندائي إِلى كلّ من يسعى إِلى مرضاة الله -تعالى-، ومن يرغب في التعدّد ويسعى إِليه؛ أن يتقي الله -تعالى-؛ ليمحو كثيراً من الصور المظلمة عن المعدّدين، فالقدوة العملية لها أثرها الكبير. مسائل في التعدّد: 1 - مَن أَوْلَمَ على بعض نسائه أكثر من بعض (¬1): عن ثابت قال: "ذُكر تزويج زينب بنت جحش عند أنس، فقال: ما رأيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَمَ على أحد من نسائه ما أولم عليها، أولم بشاة" (¬2). قال الحافظ -رحمه الله-: " ... وأشار ابن بطال إِلى أن ذلك لم يقع قصداً لتفضيل بعض النساء على بعض، بل باعتبار ما اتفق، وأنه لو وجد الشاة في كل منهن لأولم بها، لأنه كان أجود الناس، ولكن كان لا يبالغ فيما يتعلّق بأمور الدنيا في التأنق. وجوَّز غيره أن يكون فعل ذلك لبيان الجواز". 2 - إِذا تزوّج البكر على الثيّب، والثيب على البكر: عن أنس -رضي الله عنه- قال: "من السّنّةَ إِذا تزوّج الرجلُ البكرَ على ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب النكاح) "باب - 69". (¬2) أخرجه البخاري: 5171، ومسلم: 1428.

3 - القرعة بين النساء إذا أراد سفرا:

الثيب، أقام عندها سبعاً وقَسَم، وإذا تزوّج الثيّب على البكر؛ أقام عندها ثلاثاً ثمّ قَسَم. قال أبو قِلابة: ولو شئت لقلت. إِن أَنَسَاً رفعه إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬1). 3 - القُرْعة بين النّساء إِذا أراد سفراً (¬2): عن عائشة -رضي الله عنها- " أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا أراد سفراً أقرع بين نسائه" (¬3). 4 - النهي عن افتخار الضَّرَّة (¬4): عن أسماء: "أن امرأة قالت: يا رسول الله! إِن لي ضَرَّة، فهل عليَّ جُناحٌ إِن تَشبّعتُ من زوجي غير الذي يعطيني؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: المتشبّع (¬5) بما لم يُعطَ كلابس ثَوبيْ زور" (¬6). 5 - استئذانُ الرجلِ نساءَهُ في أن يُمرَّض في بيت بعضهنّ: عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ يريد يوم عائشة، فأذِنَ له أزواجه يكون ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5214، ومسلم: 1461. (¬2) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (باب - 97). (¬3) أخرجه البخاري: 5211، ومسلم: 2445. (¬4) من تبويب الإمام البخاري -رحمه الله - في "كتاب النكاح" (باب - 106). (¬5) المتشبّع؛ أي: المتزين بما ليس عنده، يتكثر بذلك، ويتزين بالباطل، كالمرأة تكون عند الرجل ولها ضرّة، فتدّعي من الحظوة عند زوجها أكثر مما عنده، تريد غيظ ضَرّتها. "الفتح". (¬6) أخرجه البخاري: 5219، ومسلم: 2130.

فائدة:

حيث شاء، فكان في بيت عائشة، حتى مات عندها، قالت عائشة: فمات في اليوم الذي كان يدور عليّ فيه في بيتي، فقبضه الله؛ وإنّ رأسه لبَين نحري (¬1) وسَحري (¬2)، وخالط ريقه ريقي" (¬3). فائدة: جاء في "الفتاوى" (32/ 269) -بحذف-: "وسئل -رحمه الله تعالى- عن رجل متزوّج بامرأتين، وإحداهما يحبُّها، ويكسوها، ويعطيها، ويجتمع بها أكثر من صاحبتها؟ فأجاب: الحمد لله، يجب عليه العدل بين الزوجتين باتفاق المسلمين"، وأشار إِلى الحديث: "من كانت له امرأتان ... "، ثمّ قال: "فعليه أن يعدل في القَسم، فإِذا بات عندها ليلة أو ليلتين أو ثلاثاً بات عند الأخرى بقدر ذلك، ولا يُفضّل إِحداهما في القَسم. لكن إِنْ كان يحبها أكثر، ويطأها أكثر فهذا لا حرج عليه فيه؛ وفيه أنزل الله -تعالى-: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} (¬4)، أي: في الحب والجماع ... وأمّا العدل في النفقة والكسوة، فهو السنة أيضاً، اقتداءً بالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإِنه كان يعدل بين أزواجه في النفقة؛ كما كان يعدل في القسمة". ¬

_ (¬1) النحر: هو أعلى الصدر. (¬2) السَّحر: الرئة؛ أي: أنه مات وهو مُستند إِلى صدرها وما يحاذي سَحرها منه. وقيل: السَّحْر: ما لصق بالحلقوم من أعلى البطن ... أي: أنه مات وقد ضمته بيديها إِلى نحرها وصدرها. "النهاية". (¬3) أخرجه البخاري: 5217، ومسلم: 2443. (¬4) النساء: 129.

الولاية على الزواج

الولاية على الزّواج معنى الولاية (¬1): الولاية: حقٌّ شرعي، يُنفّذ بمقتضاه الأمر على الغير، جبراً عنه. وهي ولاية عامّة، وولاية خاصّة. والولاية الخاصّة؛ ولاية على النفس، وولاية على المال. والولاية على النفس هي المقصودة هنا، أي: ولاية على النفس في الزواج. من هو الوليّ؟ الوليّ: هو قرابة المرأة؛ الأدنى فالأدنى الذين يلحقهم الغضاضة إِذا تزوّجت بغير كفء؛ وكان المزوّج لها غيرهم ... (¬2). وأدلّة اشتراط الولي كثيرة؛ منها (¬3): قوله -تعالى-: {فلا تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ} (¬4). قالى الإِمام الشافعي -رحمه الله-: "هي أصرح آية في اعتبار الولي، وإلا لما كان لعضله معنى" (¬5). ¬

_ (¬1) عن "فقه السنة" (2/ 447). (¬2) انظر "الروضة الندية" (2/ 28) بتصرّف يسير. (¬3) وقد تقدّم بعضها في (أركان عقد النكاح). (¬4) البقرة: 232. (¬5) انظر "سبل السلام" (3/ 233)، وسيأتي الكلام قريباً -إن شاء الله- حول هذه الآية الكريمة.

وجاء في "سبل السلام" (3/ 233): "ويدلّ لاشتراط الولي ما أخرجه البخاري، وأبو داود، من حديث عروة، عن عائشة: أنها أخبرته أنّ النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاحٌ منها نكاح النّاس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فَيُصْدِقها، ثمّ ينكحها ... ثمّ قالت في آخره: فلمّا بُعث محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحق هدَم نكَاح الجاهلية كله إِلا نكاح النّاس اليوم (¬1). فهذا دالٌّ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرَّر ذلك النكاح المعتبر فيه الولي، وزاده تأكيداً بما قد سمعت من الأحاديث، ويدلّ له نكاحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم سلمة، وقولها: إِنه ليس أحد من أوليائها حاضراً، ولم يقل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنكحي أنت نفسك، مع أنه مقام البيان. ويدل له قوله -تعالى-: {ولا تُنْكِحُوا المشركين} (¬2) فإِنه خطاب للأولياء بأن لا يَنْكحوا المسلماتِ المشركين ... ". وجاء في "الروضة الندية" (2/ 29): " ... ولا شكّ أن بعض القرابة أَدْخَلُ في هذا الأمر من بعض، فالآباء والأبناء أولى من غيرهم، ثمّ الإِخوة لأبوين، ثمّ الإِخوة لأب أو لأمّ، ثمّ أولاد البنين وأولاد البنات، ثمّ أولاد الإِخوة وأولاد الأخوات، ثمّ الأعمام والأخوال، ثمّ هكذا من بعد هؤلاء. ومن زعَم الاختصاص بالبعض دون البعض؛ فليأتنا بحُجّة، وإن لم يكن بيده إِلا مجرد أقوال من تقدمه؛ فلسنا ممن يُعَوِّل على ذلك، وبالله التوفيق". وقال الإِمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلى" (11/ 35): "وأمّا قولنا: إنه لا يجوز إِنكاح الأبعد من الأولياء مع وجود الأقرب، فلأن الناس كلّهم يلتقون ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5127. (¬2) البقرة: 221.

*شروط الولي:

في أب بعد أب إِلى آدم -عليه السلام- بلا شكّ، فلو جاز إِنكاح الأبعد مع وجود الأقرب؛ لجاز إِنكاح كلّ من على وجه الأرض؛ لأنه يلقاها بلا شك في بعض آبائها! فإِنْ حَدُّوا في ذلك حدّاً كُلّفوا البرهان عليه -ولا سبيل إِليه-. فصحّ يقيناً أنه لا حقّ مع الأقرب للأبعد. ثمّ إِنْ عُدِمَ فَمَنْ فَوْقَهُ بِأَبٍ .. هكذا أبداً؛ ما دام يُعْلَمُ لها وليّ عاصب؛ كالميراث ولا فرق". وسألت شيخنا -رحمه الله-: "هل ينعقد نكاح المرأة بوليّ؛ مع وجود من هو أولى منه؟ ". فأجاب: "إِذا كان بإِذنه جاز؛ وإلا فلا". *شروط الوليّ: ويشترط في الولي: الحرية، والعقل، والبلوغ؛ سواء كان المُولَّى عليه مسلماً أو غير مسلم، فلا ولاية لعبد، ولا مجنون، ولا صبي؛ لأنه لا ولاية لواحد من هؤلاء على نفسه، فأولى ألا تكون له ولاية على غيره. ويزاد على هذه الشروط شرط رابع، وهو الإِسلام، إِذا كان المُولَّى عليه مسلماً؛ فإِنه لا يجوز أن يكون لغير المسلم ولاية على السلم؛ لقول الله -تعالى-: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} (¬1). عدم اشتراط العدالة: ولا تشترط العدالة في الولي؛ إِذ الفسق لا يسلب أهلية التزويج، إِلا إِذا خرج به الفسق إِلى حد التهتُّك؛ فإِنّ الولي في هذه الحالة لا يؤتمن على ما تحت ¬

_ (¬1) النساء: 141.

المرأة لا تزوج نفسها:

يده، فَيُسْلَبُ حقّه في الولاية؛ [وللسلطان في ذلك شأن وتدبير] * (¬1). جاء في "الفتاوى" (32/ 101): "وسئل -رحمه الله- عن رجل تزوّج بامرأة، وليها فاسق يأكل الحرام ويشرب الخمر؛ والشهود أيضاً كذلك، وقد وقع به الطلاق الثلاث: فهل له بذلك الرخصة في رجعتها؟ فأجاب: إِذا طلقها ثلاثاً وقع به الطلاق. ومن أخذ ينظر بعد الطلاق في صفة العقد، ولم ينظر في صفته قبل ذلك: فهو من المتعدين لحدود الله، فإِنه يريد أن يستحل محارم الله قبل الطلاق، وبعده. والطلاق في النكاح الفاسد المختلف فيه عند مالك وأحمد وغيرهما من الأئمة، والنكاح بولاية الفاسق: يصح عند جماهير الأئمة، والله أعلم". المرأة لا تزوّج نفسها: ليس للمرأة أن تزوّج نفسها؛ لأنّ الولاية شرط في صحّة العقد. ومن الأدلّة على ذلك: قوله -سبحانه-: {وأنْكحُوا الأيَامَى منكم والصَّالحين مِن عبَادكُم وإِمَائِكم} (¬2). فكان الخطاب هنا للأولياء. وكذلك قوله -سبحانه-: {وإِذا طلَّقتم النّساء فَبَلَغْنَ أجلهُنَّ فلا تَعضُلوهنّ أن يَنْكِحْنَ أزواجَهنَّ إِذا تَراضَوا بينهم بالمعروف ذلك يُوعَظُ به ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين عن "فقه السّنّة" (2/ 447). (¬2) النور: 32.

من كان مِنْكُم يُؤمن بالله واليوم الآخر ذلكُم أزكى لكُم وأطْهَر والله يَعْلم وأنتم لا تعلمون} (¬1). قال ابن كثير -رحمه الله- بحذف: " ... عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثمّ يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها. وكذا روى العوفي عنه. وكذا قال مسروق، وإِبراهيم النخعي، والزهري والضحاك أنها نزلت في ذلك. وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية. وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تُزوِّج نفسها، وأنه لا بدّ في تزويجها مِن وليّ؛ كما قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الآية، كما جاء في الحديث: "لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها ... " (¬2). ثمّ أشار إِلى ما ورد عن الحسن قال: {فلا تَعْضُلُوْهُنّ} قال: حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه، قال: "زوجتُ أختاً لي من رجل فطلَّقها، حتى إِذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشْتُك وأكرمتُك، فطلقتَها، ثمّ جئتَ تخطبها! لا والله لا تعود إِليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إِليه، فأنزل الله هذه الآية: {فلا تَعْضُلُوْهُنّ}؛ فقلتُ: الآن أفعل يا رسول الله! قال: فزَوجها إِيّاه" (¬3). ¬

_ (¬1) البقرة: 232. (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1527) وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1841). (¬3) أخرجه البخاري: 5130.

وعن أبى موسى أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا نكاح إِلا بوليّ" (¬1). وفي رواية: "لا نكاح إلاَّ بِوَلِيٍّ وشاهِدَيْ عدل" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيّما امرأة نُكحت بغير إِذن مواليها؛ فنكاحها باطل -ثلاث مرات-. فإِنْ دخَل بها؛ فالمهر لها بما أصاب منها، فإِنْ تشاجروا فالسلطان وليُّ من لا وليّ له" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كُنّا نعدُّ التي تنكح نفسها هي الزانية" (¬4). وأمّا استدلال بعض الفقهاء بقول الله -تعالى-: {فإنْ طَلّقَهَا فلا تَحِلُّ له من بَعْد حتَّى تًنْكِح زوجاً غَيْرَه} (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1836)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (879)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1526)، وانظر "الإرواء" (1858)، و"المشكاة" (3130). (¬2) أخرجه أحمد، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1858، 1860)، وتقدّم. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1835)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (880)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1524)، وانظر "الإروإء" (1840)، وتقدّم. (¬4) أخرجه الدارقطني، والبيهقي، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (6/ 249): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬5) البقرة: 230.

إذا كان الولي هو الخاطب:

وقوله -سبحانه-: {وإِذا طَلَّقتُم النِّساء فبلَغْن أجَلَهُنّ فلا تَعْضُلُوهُنَّ أن يَنْكِحْنَ أزواجَهُنّ} (¬1). وقولهم: في هاتين الآيتين إِسناد الزواج إِلى المرأة؛ فهو دليل على أنها تلي أمر نفسها في الزواج!! فالردّ عليه من وجوه كثيرة، أبرزها ما تقدّم من أدلّة، ثمّ إِن المعنى: حتى تنكح زوجاً غيره في ضوء الشروط المنصوص عليها؛ لا بمعزلٍ عنها، فلا ينبغي أن نضرب بعض النصوص ببعض. وفي الآية الأخرى في قوله: فـ {لا تَعْضُلُوُهنَّ} ما يدلّ على أن الخطاب للأولياء كما تقدّم. وجاء في "الفتاوى" (32/ 31 - 32): "وسئل -رحمه الله- عن امرأة خلاها أخوها في مكان لتوفي عدة زوجها، فلمّا انقضت العدة هربت إِلى بلد مَسيرةَ يوم، وتزوّجت بغير إِذن أخيها، ولم يكن لها ولي غيره: فهل يصح العقد أم لا؟ فأجاب: إِذال يكن أخوها عاضلاً لها، وكان أهلاً للولاية: لم يصح نكاحها بدون إِذنه، والحال هذه، والله أعلم". إِذا كان الوليّ هو الخاطب (¬2): قال الإِمام البخاري -رحمه الله-: "وخطب المغيرة بن شعبة امرأة هو أوْلى ¬

_ (¬1) البقرة: 232. (¬2) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب النكاح) "باب - 37".

النّاس بها، فأمَر رجلاً فزوّجه (¬1). وقال عبد الرحمن بن عوف لأم حكيم بنت قارظ: أتجعلين أمرك إِليّ؟ قالت: نعم، فقال: قد تزوجتك (¬2). وقال عطاء: ليُشهد أني قد نكحتكِ، أو ليأمر رجلاً من عشيرتها (¬3) ". قال شيخنا -رحمه الله- في "مختصر البخاري" (3/ 366): "المفهوم من كلام الشارح أنّ عطاء بن أبي رباح قاله في امرأة خطبها ابن عمّ لها؛ لا رجل لها غيره، قال حين سألوه عنها: "فلتشهد أنّ فلاناً خطبها، وإني أشهدكم أني قد نكحته"، أو تفوض الأمر إِلى الوليّ الأبعد، وهو معنى قوله بعد هذا: "أو ليأمر رجلاً من عشيرتها"، والكلام جرى على التذكير في ضبط الشارح، ونحن أتينا البيوت من أبوابها". قال الحافظ في "الفتح" بعد تبويب الإِمام البخاري -رحمهما الله تعالى-: "الذي يظهر من صنيعه أنه يرى الجواز، فإِنّ الآثار التي فيها أمر الولي غيره أن يزوجه ليس فيها التصريح بالمنع من تزويجه نفسه، وقد أورد في الترجمة أثر عطاء الدالّ على الجواز، وإنْ كان الأولى عنده أن لا يتولى أحد طرفَي العقد. وقد اختلف السلف في ذلك، فقال الأوزاعي وربيعة والثوري ومالك وأبو حنيفة وأكثر أصحابه والليث: يزوج الولي نفسه، ووافقهم أبو ثور: وعن ¬

_ (¬1) رواه البخاري معلّقاً، ووصله وكيع في "مصنفه"، وعنه البيهقي وسعيد بن منصور، وانظر "الفتح"، و"مختصر البخاري" (3/ 366). (¬2) رواه البخاري معلقاً، ووصله ابن سعد. (¬3) رواه البخاري معلقاً، ووصله عبد الرزاق بسند صحيح عنه، وانظر "مختصر البخاري" (3/ 366).

مالك: لو قالت الثيب لوليها: زوِّجني بمن رأيت، فزوَّجها من نفسه أو ممن اختار؛ لَزِمها ذلك، ولو لم تعلم عين الزوج. وقال الشافعي: يزوجهما السلطان، أو ولي آخر مثله، أو أقعد منه. ووافقه زفر وداود. وحُجّتهم أنّ الولاية شرط في العقد، فلا يكون الناكح مُنكحاً كما لا يبيع من نفسه". انتهى. وقال ابن حزم -رحمه الله-: "وأمّا قولهم: إِنه لا يجوز أن يكون الناكح هو المُنْكِح! ففي هذا نازعناهم، بل جائز أن يكون الناكح هو المُنْكِح، فدعوى كدعوى. وأمّا قولهم: كما لا يجوز أن يبيع من نفسه! فهي جملة لا تصحّ كما ذكروا، بل جائز إِن وُكِّل ببيع شيء أن يبتاعه لنفسه، إن لم يُحابها بشيء". ثمّ ساق البرهان على صحة ما رجّحه (¬1)، من أن البخاري روى عن أنس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية، وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، وأولم عليها بِحيس (¬2). قال: "فهذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوَّج مولاته من نفسه، وهو الحُجّة على من سواه". ثمّ قال: "قال الله -تعالى-: {وأنْكحُوا الأيَامَىَ منكم والصَّالحين من عِبَادِكُم وإِمَائِكُم إِن يَكُونوا فُقَرَاء يُغْنهم الله من فضله والله واسعٌ عليم} (¬3). فمن أنكح أيّمة من نفسه برضاها، فقد فعل ما أمره الله -تعالى- به، ولم يمنع ¬

_ (¬1) هذا كلام السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (2/ 457). (¬2) أخرجه البخاري: 5169، ومسلم: 1365. و (الحَيْسُ): "هو الطعام المتخذ من التمر والأقط والسّمْن. وقد يجعل عوض الأقط: الدقيق أو الفتيت". "النهاية". (¬3) النور: 32.

غيبة الولي:

الله -عزّ وجلّ- من أن يكون المنكح لأيمة هو الناكح لها، فصح أنه الواجب" (¬1). غَيْبَةُ الوليّ: لا ولاية للبعيد مع وجود الوليّ الأقرب؛ فبحضور الأب لا ولاية للأخ أو العمّ؛ فضلاً عن غيرهما، وعقد هؤلاء موقوف على صاحب الولاية: الأب. وفي حالة غياب الأقرب يأتي من يليه؛ لعموم قوله -تعالى-: {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬2). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬3). فلا يمكن تعطيل الزواج لغيابه وصعوبة الاتصال به وأخْذِ رأيه، وذلك حين لا يترجّح أوان عودته، ولا يخفى ما يترتّب على ذلك من تفويت مصالح النكاح العامّة والخاصّة، وليس لهذا الوليّ الغائب أن يعترض على ما كان. ولاية غير الآباء على الصغار: عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنه حين هلَك عثمان بن مظعون ترك ابنة له. قال ابن عمر: فزوّجنيها خالي قُدامة -وهو عمها- ولم يشاورها، وذلك بعدما هلك أبوها، فكرهت نكاحه، وأحبت الجارية أن يزوجها المغيرة بن شعبة، فزوجها إِياه" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "المحلّى" (11/ 63)، وذكره الشيخ السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (2/ 457). (¬2) التغابن: 16. (¬3) أخرجه البخاري: 7288، ومسلم: 1337. (¬4) أخرجه أحمد، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1523) وغيرهما، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1835).

السلطان ولي من لا ولي له:

وجاء في تبويب "سنن ابن ماجه": (باب نكاح الصغار يزوّجهن غير الآباء). وجاء في "الفتاوى" (32/ 19): "وسئل -رحمه الله- عن وجل له بنت، وهي دون البلوغ، فزوَّجوها في غَيبة أبيها، ولم يكن لها ولي؛ وجعلوا أن أباها توفي -وهو حي- وشهدوا أن خالها أخوها؛ فهل يصح العقد أم لا؟ فأجاب: إِذا شهد وا أن خالها أخوها؛ فهذه شهادة زور، ولا يصير الخال ولياً بذلك؛ بل هذه قد تزوّجت بغير ولي، فيكون نكاحها باطلاً عند أكثر العلماء والفقهاء، كالشافعي وأحمد وغيرهما، وللأب أن يجدده، ومن شهد أن خالها أخوها وأن أباها مات؛ فهو شاهد زور، يجب تعزيره، ويعزر الخال، وإِن كان دخل بها فلها المهر، ويجوز أن يزوجها الأب في عدة النكاح الفاسد عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه، والله أعلم". السلطانُ وليُّ من لا ولي له: إذا لم يكن للمرأة وليّ؛ فوليّها السلطان. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيّما امرأة نُكحت بغير إِذن مواليها؛ فنكاحها باطل -ثلاث مرات-، فإِنْ دخَل بها، فالمهر لها بما أصاب منها، فإِنْ تشاجروا فالسلطانُ وليُّ من لا وليّ له" (¬1). وقال الإِمام البخاري -رحمه الله-: (باب السلطان وليّ؛ لقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "زوّجناكها بما معك من القرآن") (¬2). ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه. (¬2) انظر كتاب النّكاح (باب - 40).

عضل الولي:

قال القرطبي -رحمه الله-: "وإذا كانت المرأة بموضع لا سلطان فيه، ولا وليّ لها، فإِنها تُصيِّرُ أمرها إِلى من يوثَق به من جيرانها، فيزوجها ويكون هو وليّها في هذه الحال؛ لأن الناس لا بد لهم من التزويج، وإِنما يعملون فيه بأحسن ما يمكن. وعلى هذا، قال مالك في المرأة الضعيفة الحال: إِنه يزوجها مَن تُسند أمرها إِليه؛ لأنها ممن تضعُف عن السلطان، فأشبهت من لا سلطان بحضرتها، فرجعت في الجملة إِلى أن المسلمين أولياؤها" (¬1). وجاء في "المحلّى" (11/ 30): "وصح عن ابن سيرين في امرأة لا ولي لها، فولت رجلاً أمرها، فزوّجها، قال ابن سيرين: لا بأس بذلك، المؤمنون بعضهم أولياء بعض". عضْل الوليّ: عضْل المرأة: هو منْعها من التزوّج ظُلماً. وليس للولي أن يعضل من يلي أمرها دون مسوّغ، أو سبب شرعي، فتقدُّم من يُرضى عن دينه وخُلُقه -حين يدفع مهر المِثل- لا يجوز ردّه، ومن حقّها أن تشكو وليّها إِلى القاضي. قال الله -تعالى-: {وإِذا طلَّقْتُم النَّسَاء فَبَلَغْن أجلهُنّ فلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزواجَهنّ إِذا تراضَوا بينهم بالمعروف} (¬2). ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 76)، وذَكَرْهُ الشيخ السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (2/ 459). (¬2) البقرة: 232.

وقد نزلت هذه الآية في معقل بن يسار -كما تقدّم-. فعن الحسن قال: {فلا تَعْضُلُوهُنّ} قال: حدثني معقل بن يسار أنها نزَلَت فيه قال: "زوجْتُ أختاً لي من رجل فطلَّقها، حتى إِذا انقضت عدّتها جاء يخطُبُها، فقلت له: زوجْتُك وأفرشتُك وأكرمتُك، فطلقتَها، ثمّ جئت تخطبها! لا والله لا تعود إِليك أبداً! وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إِليه، فأنزل الله هذه الآية: {فلا تَعْضُلُوهُنّ}، فقلت: الآن أفعل يا رسول الله! قال: فزوجها إِيّاه" (¬1). جاء في "المحلّى" (11/ 61) تحت المسألة (1841): "ولا يكون الكافر وليّاً للمسلمة، ولا المسلم وليّاً للكافرة، الأب وغيره سواء، والكافر ولي للكافرة التي هي وليّته، يُنكحها من المسلم والكافر. برهان ذلك قول الله -عزّ وجلّ- {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} (¬2)، وقال -تعالى-: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} (¬3)، وهو قول من حفِظْنا قوله، إِلا ابن وهب صاحب مالك قال: إِن المسلم يكون ولياً لابنته الكافرة في إِنكاحها من المسلم أو من الكافر! وهذا خطأ لما ذكرنا. وبالله -تعالى- التوفيق". وجاء فيه أيضاً (43 - 44) تحت المسألة (1828): "وإذا أسلمت البكر ولم يسلم أبوها، أو كان مجنوناً؛ فهي في حُكم التي لا أب لها؛ لأن الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5130، وتقدّم. (¬2) التوبة: 71. (¬3) الأنفال: 73.

-تعالي- قطع الولاية بين الكفار والمؤمنين، قال -تعالى-: {يا أيّها الذين آمنوا لا تَتَولَّوا قوماً غَضِبَ الله عليهم} (¬1). وقال -تعالى-: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} (¬2). وصح في المجنون قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رفع القلم عن ثلاثة"؛ فذكر منهم: "المجنون حتى يفيق" (¬3). وقد صحّ أنه غير مخاطب باستئمارها ولا بإِنكاحها، وإنما خاطب -عزّ وجلّ- أولي الألباب، فلها أن تنكح من شاءت بإِذن غيره من أوليائها، أو السلطان". جاء في "الفتاوى" (32/ 35): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن رجل أسلم: هل يبقى له ولاية على أولاده الكتابيِّين؟ فأجاب: لا ولاية له عليهم في النكاح، كما لا ولاية له عليهم في الميراث، فلا يزوج المسلم الكافرة، سواء كانت بنته أو غيرها، ولا يرث كافر مسلماً ولا مسلم كافراً، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وأصحابهم من السلف والخلف ... (¬4) ". ¬

_ (¬1) الممتحنة:13. (¬2) التوبة: 71. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3698)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1660) واللفظ له وغيرهما، وانظر "الإرواء" (297)، وتقدّم. (¬4) انظر تتمّة الإِجابة للمزيد من الفائدة -إن شئت-.

اليتيمة تستأمر في نفسها:

اليتيمة تُستأمر في نفسها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تُسْتأمر (¬1) اليتيمة في نفسها، فإِنْ سكتت فهو إِذنها، وإن أبت فلا جواز عليها (¬2) " (¬3). وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "توفي عثمان بن مظعون، وترك ابنة له من خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، قال: وأوصى إِلى أخيه قدامة بن مظعون، قال عبد الله: وهما خالاي، قال: فخطبت إِلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون، فزوَّجنيها، ودخل المغيرة بن شعبة، يعني: إِلى أمّها، فأرغبها في المال، فحطَّتْ إِليه (¬4)، وحطَّتْ الجارية إِلى هوى أمّها، فأبيا حتى ارتفع أمرهما إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال قدامة بن مظعون: يا رسول الله! ابنة أخي أوصى بها إِليّ، فزوجتها ابنَ عمتها عبدَ الله بن عمر، فلم أقصِّرْ بها في الصلاح، ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة، وإِنما حطَّتْ إِلى هوى أمها! قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هي يتيمة، ولا تنكح إِلا بإِذنها. قال: فانتُزعت -والله- مني، بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة بن شعبة" (¬5). جاء في "زاد المعاد" (5/ 100): "وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن اليتيمة ¬

_ (¬1) أي: تُسْتأذن. (¬2) أي: لا تعدّي عليها ولا إِجبار. "المرقاة" (6/ 298). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1843)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (886)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3067)، وانظر "الإرواء" (1834)، وانظر -إِن شئت المزيد من الفائدة- ما جاء في "الفتاوى" (32/ 43 - 53). (¬4) "أي: مالت إليه، ونزلت بقلبها نحوه". "النهاية". (¬5) أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1835).

استئذان المرأة قبل النكاح:

تُستأمر في نفسها، و"لا يُتْمَ بعد احتلام (¬1) "، فدلّ ذلك على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ، وهذا مذهب عائشة- رضى الله عنها-، وعليه يدلُّ القرآن والسّنّة، وبه قال أحمد وأبو حنيفة وغيرهما. قال -تعالى-: {ويَستفتُونك في النّساء قُل الله يُفِتيكُم فيهنَّ وما يُتْلَى عليكم في الكتاب في يَتَامَى النِّساء اللاتي لا تُؤتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنّ وتَرغَبون أنْ تَنْكِحُوهُنَّ} (¬2). قالت عائشة -رضي الله عنها-: هي اليتيمة تكون في حَجر وليها، فيرغب في نكاحها، ولا يُقْسِط لها سُنة صَداقها، فنهوا عن نكاحهنّ إِلا أن يُقسطوا لهنّ سُنّة صَداقهنّ (¬3) ". استئذان المرأة قبل النكاح: عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الأيّم (¬4) أحقّ بنفسها مِن وليّها، والبِكر تستأذن في نفسها، وإذنها صُمَاتها" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه عدد من الأئمة، وصححّه شيخنا -رحمه الله - في "الإِرواء" (1244) بعددٍ من الطُّرق والشواهد. (¬2) النساء: 127. (¬3) انظر "صحيح مسلم" (3018). (¬4) الأيّم في الأصل: التي لا زوج لها؛ بكراً كانت أو ثيباً، مطلَّقة كانت أو متوفّى عنها، ويريد بالأيّم في هذا الحديث الثيّب خاصة، يُقال: تأيمت المرأة وآمت: إِذا أقامت لا تتزوّج. "النهاية". (¬5) أخرجه مسلم: 1421.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تُنكَح الأيّم حتى تُستأمَر، ولا تُنكَح البكر حتى تُستأذَن، قالوا: يا رسول الله! وكيف إِذنها؟ قال: أن تسكت" (¬1). قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح": "أصل الاستئمار: طلبُ الأمر؛ فالمعنى: لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها. ويؤخذ من قوله: لا تستأمر؛ أنّه لا يعقد إِلا بعد أن تأمر بذلك". وعن خنساءَ بنت خذامٍ الأنصارية: "أنّ أباها زوّجها وهي ثيّب، فكرهَت ذلك، فأتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فردّ نكاحها" (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ جارية بكراً أتت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرت أن أباها زوّجها وهي كارهة، فخيرها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). وثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه: "كان إِذا أراد أن يُزوّج بنتاً من بناته جلس إِلى خدرها، فقال: إِنّ فلاناً يذكرُ فلانة -يسمّيها، ويسمّي الرجل الذي يذكُرها-! فإِنْ هي سكتت؛ زوَّجها، أو إِن كرهت نقرت الستر، فإِذا نقرته لم يزوجها" (¬4). وقال الإِمام البخاري -رحمه الله-: "باب إِذا زَوّج الرجل ابنته وهي كارهة، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5136، ومسلم: 1419. (¬2) أخرجه البخاري: 5138. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1845)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1520)، وانظر "المشكاة" (3136). (¬4) انظر "الصحيحة" (2973)، وانظر للمزيد ما جاء في "الفتاوى" (32/ 30).

الوكالة في الزواج:

فنكاحه مردود" (¬1). ثمّ ذكر حديث خنساء بنت خدام. جاء في "السيل الجرّار" (2/ 272) بعد أن ذكَر عدداً من الأدلّة المتقدّمة وقال: "والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وهي تفيد أنه لا يصح نكاح من لم ترْضَ؛ بِكْراً كانت أو ثيّباً". وقد فصل العلامة ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (5/ 95) فأجاد وأفاد. الوكالة في الزواج: *الوكالة من العقود الجائزة في الجملة؛ لحاجة الناس إِليها في كثير من معاملاتهم. وقد اتفق الفقهاء على أنّ كلّ عقد جاز أن يعقده الإِنسان بنفسه، جاز أن يُوكِّل به غيره، كالبيع، والشراء، والإِجارة، واقتضاء الحقوق، والخصومة في المطالبة بها، والتزويج، والطلاق، وغير ذلك من العقود التي تقبل النيابة. وقد كان النّبيّ -صلوات الله وسلامه عليه- يقوم بدور الوكيل في عقد الزواج، بالنسبة لبعض أصحابه؛ روى أبو داود عن عقبة بن عامر: أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: "أترضى أن أزوجك فلانة؟ قال: نعم! وقال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلاناً؟ قالت: نعم! فزوَّج أحدهما صاحبه، فدخَل بها الرجل، ولم يفرض لها صَداقاً، ولم يعطها شيئاً. وكان ممّن شهد الحديبية وكان مَن شهد الحديبية له سهم بخيبر، فلمّا ¬

_ (¬1) انظر "صحيح البخاري" (كتاب النكاح) (باب - 42).

حضرته الوفاة، قال: إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوّجني فلانة، ولم أفرِض لها صَداقاً، ولم أُعطها شيئاً، وإنّي أشهدكم: أني أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذَت سهماً، فباعته بمائة ألف" (¬1). وفي هذا الحديث دليل على أنه يصحّ أن يكون الرّجل وكيلاً عم الطرفين. عن أمّ حبيبة: "أنها كانت عند ابن جحش، فهلَك عنها، وكان فيمن هاجر إِلى أرض الحبشة، فزوّجها النجاشيُّ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي عندهم" (¬2). ويصح التوكيل من الرجل العاقل البالغ الحر؛ لأنه كامل الأهلية، وكلّ من كان كامل الأهلية، فإِنه يملك تزويج نفسه بنفسه، وكل من كان كذلك، فإِنه يصح أن يُوكِّل عنه غيره. أمّا إِذا كان الشخص فاقد الأهلية أو ناقصها، فإِنه ليس له الحق في توكيل غيره؛ كالمجنون، والصبي، والمعتوه، فإِنه ليس لواحد منهم الاستقلال في تزويج نفسه بنفسه. والتوكيل يجوز مطلقاً ومقيداً: فالمطلق: أن يُوكِّل شخص آخر في تزويجه، دون أن يقيده بامرأة معينة، أو بمهر، أو بمقدارٍ مُعين من المهر. والمقيّد: أن يوكّله في التزويج، ويقيده بامرأة معيّنة، أو امرأة من أسرة معينة، أو بقدر معين من المهر* (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1859)، وانظر "الإِرواء" (1924). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1837)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3142). (¬3) ما بين نجمتين عن "فقه السُّنّة" (3/ 463).

هل الكفاءة في الزواج معتبرة؟

جاء في "الروضة الندية" (2/ 32): "ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يوكّل لعقد النكاح، ولو واحداً؛ لحديث عقبة بن عامر عند أبي داود أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: أترضى أن أزوجك فلانة؟ قال: نعم، وقال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلاناً؟ قالت: نعم. فزوج أحدهما صاحبه ... الحديث. وقد ذهب إِلى ذلك جماعة من أهل العلم: الأوزاعي، وربيعة، والثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأكثر أصحابه، والليث، وأبو ثور. وحكى في "البحر" عن الشافعي، وزُفَر: أنه لا يجوز. وقال في "الفتح": وعن مالك: لو قالت المرأة لوليها: زوجني بمن رأيت، فزوّجها من نفسه أو ممن اختار؛ لزمها ذلك؛ ولو لم تعلم عين الزوج ... ". وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل ترون صحّة عقد الزواج للغائب إِذا وُثّق؟ فقال: نعم؛ بالشرط المذكور. هل الكفاءة (¬1) في الزواج معتبرة؟ هذه من المسائل التي اختلف فيها العلماء؛ فمنهم من قال باعتبارها، ومنهم من لم يقُل بذلك. ومن الأحاديث التي ذكَرها القسم الأوّل في ذلك: 1 - ما روي عن علي -رضي الله عنه- أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاث لا يؤخَّرن: الصلاة إِذا أتت، والجنازة إِذا حضرت، والأيّم إِذا وجدت لها كفُؤاً" (¬2)، وهو ضعيف. 2 - ما رُوي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: العرب ¬

_ (¬1) الكفء: المِثل والنظير. (¬2) أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب حسن، قال شيخنا -رحمه الله-: "وفيه سعيد ابن عبد الله الجهني؛ قال أبو حاتم: مجهول ... ". وانظر "المشكاة" (605)، و"ضعيف الترمذي" (25).

أكفاءٌ بعضهم لبعض، قبيلة لقبيلة، وحيٌّ لحي، ورجلٌ لرجل؛ إِلا حائك أو حجّام" (¬1). وهو موضوع. وعن بريدة -رضي الله عنه- قال: "جاءت فتاة إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إِنّ أبي زوَّجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته! قال: فجعل الأمر إِليها، فقالت: قد أجزْتُ ما صنَع أبي، ولكن أردتُ أن تعلم النساء أَنْ ليس إِلى الآباء من الأمر شيء"، وهو ضعيف (¬2). وعلى افتراض ثبوته أقول بما جاء في "الروضة" (2/ 17): "ومحلّ الحُجّة منه قولها: ليرفع بي خسيسته، فإِنّ ذلك مُشعِر بأنه غير كفؤ لها، ولا يخفى أن هذا إِنما هو من كلامها، وإنما جعل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأمر إِليها؛ لكون رضاها مُعتَبراً. فإِذا لم ترض، لم يصح النكاح، سواء كان المعقود له كفؤاً، أو غير كفؤ. وأيضاً هو زوَّجها بابن أخيه؛ وابن عمّ المرأة كفؤ لها"، ثُمَّ ذكَّرني أحد الإِخوة بتراجع شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (3337) عن إِعلاله بالانقطاع فثبت وصْلُه. 3 - وذكروا أثر عمر -رضي الله عنه-: "لأمنعنّ تزوُّج ذوات الأحساب إِلا من الأكفاء". وقد أخرجه الدارقطني، وفيه انقطاع؛ فإِن إِبراهيم بن محمد بن طلحة لم يد رك عمر -رضي الله عنه-. وانظر "الإِرواء" (1867). وهناك من استدلّ بأحاديث ثابتة، لكنها لا تدلّ على المطلوب. ومِن ذلك ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم، وجاء في "الروضة الندية": "وفي إِسناده رجل مجهول، وقال أبو حاتم: إِنه كذب لا أصل له، وذكر الحُفّاظ أنه موضوع". وانظر "الإرواء" (1869). (¬2) انظر "نقد نصوص حديثية" (ص 44) و"التعليقات الرضية" (2/ 141).

حديث: "خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإِسلام إِذا فقهوا" (¬1). فهو كما جاء في "الروضة الندية" (2/ 143) -بتصرّف-: "ليس فيه دلالة على المطلوب؛ لأن إِثبات كون البعض خيراً من بعض؛ لا يستلزم أنّ الأدنى غير كفؤ للأعلى. وهكذا حديث: "إِنّ الله اصطفى كنانة من ولد إِسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" (¬2). وكذلك حديث سمرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الحسب: المال، والكرم: التقوى" (¬3). وأيضاً حديث بريدة -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنّ أحساب أهل الدنيا الذين يذهبون إِليه: المال" (¬4). فهذا ليس فيه إِقرار على ما ذهب إِليه أهل الدنيا، وإنما هو إِيضاحٌ للمعاني، وحكاية عن صنيعهم، قال صاحب "الروضة" (2/ 18): " ... فيكون في حُكم التوبيخ لهم والتقريع". والخلاصة؛ أنّ أحاديث هذا الباب -كما قال بعض العلماء في غير هذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3493، ومسلم: 2638. (¬2) أخرجه مسلم: 2276. (¬3) أخرحه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2609)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (3399)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1870). (¬4) أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (6/ 272).

الموضوع- صحيحها غير صريح، وصريحها غير صحيح، وسيأتي ما أستطيعه -إِن شاء الله- من البيان. قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (19/ 29): "وليس عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصٌّ صحيح صريح في هذه الأمور [عدم اعتبار الكفاءة] ". وجاء في "الفتح" (9/ 133): "ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث". ومنهم من قال بعدم اعتبار الكفاءة في النكاح؛ وأنها لا تكون إِلا في الدين والخُلُق. قال الله -تعالى-: {إنَّ أكْرَمَكُم عِنْدَ الله أتْقَاكُم} (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "النّاسُ وَلدُ آدم، وآدم من تراب" (¬2). قال الإِمام البخاري -رحمه الله-: "وقوله: {وهو الذي خلَق من الماء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وصِهْراً وكان ربّك قديراً} (¬3) ". وهذا يُشعِر من الإِمام البخاري -رحمه الله- أنه يرى اعتبار الكفاءة في الدين فحسب؛ إِذ البشر من الماء، فلا بغي ولا تفاخر، ولا ترفُّع في النكاح. ومما ذكَره الإِمام البخاري -رحمه الله-: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ¬

_ (¬1) الحجرات: 13. (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" وغيره، وانظر "الصحيحة" (1009). (¬3) الفرقان: 54.

عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" (¬1). فالذي ينبغي أن يصار إِليه؛ الظَّفَرُ بذات الدين. ثمّ ذكر -رحمه الله- حديث سهل -رضي الله عنه- قال: "مرّ رجل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريٌّ إِنْ خطب أن يُنْكَحَ، وإِن شَفِعَ أن يُشفّع، وإن قال أن يُستمَع! قال: ثمّ سكت. فمرّ رجلٌ من فُقراء المسلمين؛ فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريٌّ إِن خطب أن لا يُنْكَح، وإن شفع أن لا يشفَّع، وإن قال أن لا يُستمع! فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا خيرٌ من ملء الأرض مِثل هذا" (¬2). والحديث في غاية التصريح إِلى ما يذهب إِليه من يقول باعتبار الكفاءة في الدين والخُلُق. وفي رواية: "مرّ رجل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لرجلٍ عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس ... " (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ أبا هند حَجَمَ النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اليافوخ (¬4)، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا بني بياضة! أنكحوا أبا هند، وانكحوا إِليه" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5090، ومسلم: 1466. (¬2) أخرجه البخاري: 5091. (¬3) أخرجه البخاري: 6447. (¬4) أي: وسط رأسه. (¬5) أخرجه البخاري في "التاريخ"، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1850)، =

وجاء في "سُبل السلام" (3/ 250) عقب هذا الحديث: " ... فنبه على الوجه المقتضي لمساواتهم [أي: المسلمين]، وهو الاتفاق في وصف الإِسلام. وللناس في هذه المسألة عجائب، لا تدور على دليل غير الكبرياء والترفع، ولا إِله إِلا الله! كم حُرِمت المؤمناتُ النكاحَ لكبرياء الأولياء واستعظامهم أنفسهم، اللهم إِنّا نبرأ إِليك من شَرْطٍ ولّده الهوى، وربّاه الكبرياء ... ". وعن عائشة -رضي الله عنها-: "أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس -وكان ممن شهد بدراً مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبنّى سالماً وأنكحه بنت أخيه هنداً بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار" (¬1). وعن فاطمة بنت قيس -رضي الله تعالى عنها- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: "انكحي أُسامة" (¬2). جاء في "سُبل السلام" (3/ 250): "وفاطمة قرشية فِهْرِيَّة، أخت الضحاك بن قيس، وهي من المهاجرات الأُوَل، كانت ذات جمال وفضل وكمال، جاءت إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن طلّقها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة بعد انقضاء عدتها منه، فأخبرته أنّ معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطَباها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أما أبو جهم؛ فلا يضع عصاه عن عاتقه. وأمّا معاوية؛ فصعلوك لا مال له. انكحي أسامة بن زيد ... " الحديث، فأمرَها بنكاح أسامة مولاه ابن مولاه، وهي قرشية، وقدّمه على أكفائها ممن ذَكَر، ولا أعلم أنه طلب ¬

_ = وابن حبّان وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (2446). (¬1) أخرجه البخاري: 5088. (¬2) أخرجه مسلم: 1480، وتقدّم.

من أحد من أوليائها إِسقاط حَقّه". وعن أبي حاتم المُزَنِيِّ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا جاءكم من ترضون دينه. وخُلُقه فأنكحوه، إِلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد، قالوا: يا رسول الله! وإن كان فيه؟ قال: إِذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه. ثلاث مرات" (¬1). وجاء في "الروضهَ الندية" (2/ 20 - 21): "وأعلى الصنائع المعتبرة في الكفاءة في النّكاح على الإِطلاق: العلمُ؛ لحديث: "العلماء ورثة الأنبياء" (¬2). والقرآن الكريم شاهد صدق على ما ذكرناه، فمن ذلك قوله -تعالى-: {قُل هل يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لا يعلمون}، وقوله -تعالى-: {يرفعِ الله الذيق آمنو امِنْكُم والذين أُوتُوا العلم درجات}، وقوله -تعالى-: {شهد الله أنّه لا إِله إلاَّ هُوَ والملائِكَة وأولو العلم}، وغير ذلك من الآيات والأحاديث المتكاثرة، منها حديث: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإِسلام إِذا فقهوا"، وقد تقدّم. وبالجملة؛ إِذا تقرر لك هذا، عرفتَ أن المعتبر هو الكفاءة فى الدين والخلُق، لا في النسب (¬3) ". انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (865، 866)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1601)، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1868)، و"الصحيحة" (1022). (¬2) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وحسنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" برقم (70). (¬3) وانظر للمزيد من الفائدة -إِن شئت- ما قاله ابن القيم -رحمه الله- من كَلامٍ قَيِّمٍ =

المهر

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تخيّروا لنُطفِكم، وانكحوا الأكفاء، وانكحوا إِليهم" (¬1). وقال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (3/ 57) عقب الحديث: "ولكن يجب أن يُعلم أنّ الكفاءَة إِنّما هي في الدين والخُلُق فقط". المهر حُكمه: جعل ديننا الحنيف للمرأة مهراً يُدفع من قِبَل الزوج وأوجبه عليه. جاء في "الروضة الندية" (2/ 71): "ودليل وجوبه: أنّه -صلّى الله عليه وآله وسلّم- لم يسوّغ نكاحاً بدون مهر أصلاً. وفي الكتاب العزيز: {وآتوا النساء صَدُقاتهنَّ نِحْلَةً} (¬2)، وقوله: {فلا تأخذوا منه شيئاً} (¬3)، وقال: {وكيف تأخذُونَه وقد أفْضى بعْضُكُم إَلى بعض} (¬4) الآية، وقال -تعالى-: {ولا جُنَاح عَليْكُم أنْ تنْكِحُوهُنَّ إِذا ¬

_ = في "زاد المعاد" (5/ 158). (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1602)، والحاكم وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (1067). (¬2) النساء: 4. (¬3) النساء:20. (¬4) النساء:21.

آتَيتُمُوهُنَّ أُجورَهنَّ} (¬1) ". انتهى. وهذا بما استحلّ من فرجها، كما في الآية المتقدّمة. وقال -سبحانه-: {وكيف تأخذُونَه وقد أفْضَى بعْضُكم إِلى بعض}. قال العلامة السعدي -رحمه الله-: "وبيان ذلك: أنّ الزوجة -قبل عقد النكاح- مُحرّمة على الزوج، ولم ترض بحلّها له إِلا بذلك المهر، الذي يدفعه لها. فإِذا دخَل بها وأفضى إِليها، وباشَرها المباشرة التي كانت حراماً قبل ذلك [وهي الجماع]، والتي لم ترض ببذلها إِلا بذلك العِوض، فإِنه قد استوفى المُعوَّض، فثبت عليه العِوض، فكيف يستوفي المُعوَّض، ثمّ بعد ذلك يرجع في العِوض؟ هذا من أعظم الظلم والجور، وكذلك أخذ الله على الأزواج ميثاقاً غليظاً بالعقد، والقيام بحقوقها". وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمتلاعِنَين: "حسابكما على الله، أحدُكما كاذبٌ، لا سبيل لك عليها، قال: مالي؟! قال: لا مال لك، إِنْ كنت صدقتَ عليها؛ فهو بما استحللت من فرجها. وإنْ كنتَ كذبتَ عليها؛ فذاك أبعدُ لك" (¬2). *وهذا المهر المفروض للمرأة، كما أنه يحقق هذا المعنى، فهو يطيّب نفس المرأة ويرضيها بقوامة الرجل عليها؟ قال -تعالى-: {الرِّجال قَوّامُون على النّساء بما فضَّل الله بَعْضَهُم على بَعْضٍ وبما أنْفَقوا من أمْوَالِهم} (¬3)، مع ما ¬

_ (¬1) الممتحنة: 10. (¬2) أخرجه البخاري: 5312، ومسلم: 1493. (¬3) النساء: 34.

قدر المهر:

يضاف إِلى ذلك من توثيق الصِّلات، وإِيجاد أسباب المودة والرحمة* (¬1). وقال الله -تعالى-: {وآتوا النِّساء صَدُقاتِهِنَّ نحْلَة فإِنْ طبْنَ لكم عن شيء مِنْهُ نَفْساً فكُلوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} (¬2). أي: آتوا النساء مهورهن فريضةً مُسمّاة. قال ابن كثير -رحمه الله- بعد ذِكْر عدد من أقوال السلف: "ومضمون كلامهم: أنّ الرجل يجب عليه دفْع الصَّداق إلى المرأة حتماً، وأن يكون طَيِّبَ النفس بذلك، كما يمنح المنيحة ويعطي النِّحلة طَيِّباً بها، كذلك يجب أن يعطي المرأة صَداقها طيِّباً بذلك، فإِن طابت هي له به بعد تسميته، أو عن شيء منه؛ فليأكله حلالاً طيبّاً، ولهذا قال: {فإِن طِبْنَ لكم عن شيء منه نَفْساً فكلوه هَنِيئاً مَرِيئاً} ". قدْر المهر: *لم تجعل الشريعة حدّاً لقلّته ولا لكثرته، إِذ الناس يختلفون في الغنى والفقر، ويتفاوتون في السعة والضيق، ولكل جهة عاداتها وتقاليدها، فترَكت التحديد؛ ليعطي كل واحد على قدر طاقته، وحسب حالته ... وكل النصوص جاءت تشير إِلى أنّ المهر لا يشترط فيه إِلا أن يكون شيئاً له قيمة [وثمن]؛ بقطع النظر عن القلة والكثرة؛ فيجوز أن يكون خاتماً من حديد [مبالغة في تقليله]، أو قدحاً من تمر، أو تعليماً لكتاب الله، وما شابَه ذلك، ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين عن كتاب "فقه السنّة" (2/ 478). (¬2) النساء: 4.

إِذا تراضى عليه المتعاقدان* (¬1). وقال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 97) تحت المسألة (1851) فيما يجوز من الصَّداق." ... ولو أنه حبَّة بُرٍّ أو حبَّة شعير أو غير ذلك، وكذلك كل عمل حلال موصوف؛ كتعليم شيء من القرآن أو من العلم أو البناء أو الخياطة أو غير ذلك إِذا تراضيا بذلك. وورد في هذا اختلاف". وقوله -تعالى-: { ... وآتَيتُم إِحْداهُنَّ قِنْطَاراً} (¬2) يدل على جواز الكثرة، وعدم تحريم ذلك. قال العلامة السعدى -رحمه الله-: "مع أنّ الأفضل واللائق؛ الاقتداء بالنّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تخفيف المهر ... لكن قد يُنهى عن كثرة الصَّداق؛ إِذا تضمّن مفسدةَ دينية، وعدم مصلحة تُقاوَم". وجاء في "الفتاوى" (32/ 192): "السُّنّة تخفيف الصّداق وأن لا يزيد على نساء النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبناته ... ". وجاء في "الروضة الندية" (2/ 73): "قال: في "الحجة": ولم يضبط النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المهر بحدٍّ لا يزيد ولا ينقص؛ إِذ العادات في إِظهار الاهتمام مختلفة، والرغبات لها مراتب شتى، ولهم في المشاحَّة طبقات؛ فلا يمكن تحديده عليهم؛ كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحدٍّ مخصوص". عن سهل بن سعد الساعدي يقول: "إِني لفي القوم عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إِذْ ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين عن "فقه السُّنَّة" (2/ 478) بحذفٍ يسير. (¬2) النساء: 20.

قامت امرأة فقالت: يا رسول الله! إِنها قد وَهَبت نفسها لك، فرَ (¬1) فيها رأيك، فلم يجبها شيئاً، ثم قامت فقالت: يا رسول الله! إِتها قد وَهَبت نفسها لك، فرَ فيها رأيك، فلم يُجبها شيئاً، ثمّ قامت الثالثة فقالت: إِنها قد وَهَبت لك، فرَ فيها رأيك، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله! أنكِحْنيها، قال: هل عندك من شيء؟ قال: لا، قال: اذهب فاطلب ولو خاتماً من حديد، فذهب وطلب، ثمّ جاء فقال: ما وجدتُ شيئاً، ولا خاتماً في حديد، قال: هل معك من القرآن شيء؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا، قال: اذهب فقد أنكحتُكها بما معك من القرآن" (¬2). وعن أنس قال: "خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: والله ما مِثلك يا أبا طلحة! يُردّ، ولكنك رجل كافر، وأنا مسلمة، ولا يحلّ لي أن أتزوجك، فإِنْ تُسلِم فذاك مهري، وما أسألك غيره. فأسلَم؛ فكان ذلك مهرها" (¬3). وقد يكون المهر على العمل يُعمل؛ وجاء في تبويب "سنن أبي داود": (باب، في التزويج على العمل يُعمَل). ثم ذكر حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه-؛ وفيه: "هل معك من القرآن شيء؟ قال: نعم سورة كذا وسورة كذا -لسُورٍ سمّاها-، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد زوجتُكَها بما معك من القرآن" (¬4). ¬

_ (¬1) فعل أمرٍ من (رأى)؛ أي: انظر. (¬2) أخرجه البخاري: 5149، ومسلم: 1425. (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (3133)، وانظر تخريجه في "أحكام الجنائز" (ص 38). (¬4) أخرجه البخاري: 5149، ومسلم، 1425، وهذا لفظ أبي داود "صحيح سنن أبي داود" (1856)، وتقدّم.

و (العمل يُعمل) هنا: إِفادة زوجِهِ من السور التي يحفظها، وذلك أنّ المهر المادّي إِنما هو بما يستحلّه الرجل من فرج المرأة، فينبغي إِذاً أن نحمل المهر هنا؛ على إِفادتها من خلال تعليمه لها ما استطاع من هذه السُّور، وانتفاعها بعمله بمقتضاها -ما استطاع إِلى ذلك سبيلاً-. فليس المراد من حفظه القرآن الا ما تستفيد منه هي ليكون مهرها. وبذا، فيفيدنا ما جاء من تبويب في "سنن أبي داود" قوله: "التزويج على العمل يُعمل" أن يقدّم أعمالاً أو خدماتٍ معيّنة للزوجة؛ فقد يعلّمها القراءة أو الكتابة، وقد يتعهّد بعلاجها إِنْ كان مختصاً بذلك ... إِلخ. والله -تعالى- أعلم. مسألة: إِذا اختلف ما اتفق عليه العاقدان في السرّ والعلانية. جاء في "الفتاوى" (32/ 199): "وسئل -رحمه الله- عن رجل تزوج امرأة وأعطاها المهر، وكُتب عليه صَداقاً ألف دينار، وشرطوا عليه أننا ما نأخذ منك شيئاً إِلا عندنا عادة وسمعة، والآن توفي الزوج، وطلبت المرأة كتابها من الورثة على التمام والكمال؟ فأجاب: إِذا كانت الصورة ما ذُكِر؛ لم يجُز لها أن تطالب إِلا ما اتفقا عليه، وأمّا ما ذُكر على الوجه المذكور؛ فلا يحلّ لها المطالبة به، بل يجب لها ما اتفقا عليه". وسألت شيخنا -رحمه الله-: إِذا اتفق العاقدان في السرّ على المهر، ثمّ تعاقدا في العلانية بأكثر منه واختلفا؛ فبِمَ يكون الحُكم؟ فأجابني شيخنا -رحمه الله-: الحُكم بالمعلَن.

فائدة:

وقال الإِمام البخاري -رحمه الله-: (باب تزويج المعسر الذي معه القرآن والإِسلام (¬1)). قال الله -تعالى-: {إِنْ يَكُونوا فُقَراء يُغْنِهِم اللهُ مِنْ فَضْلِه} (¬2). وذكر حديث سهل بن سعد. قال الحافظ: "قوله [أي: الإِمام البخاري]: لقوله -تعالى-: {إِنْ يَكُونوا فُقَراء يُغْنِهِم اللهُ مِنْ فَضلِه}: هو تعليل لحُكم الترجمة، ومحصّله أن الفقر في الحال لا يمنع التزويج؛ لاحتمال حصول المال في المآل، والله أعلم". وقال الإِمام البخاري (¬3) -رحمه الله-: (باب المهر بالعُروض وخاتمٍ من حديد). والعُروض ما يقابل النقد، كما قال الحافظ -رحمه الله-. فائدة: جاء في "السلسلة الضعيفة" (¬4): "قد اعتاد كثير من الآباء مثل هذا الشرط [أي: أن يشترط لنفسه سوى المهر]، وأنا وإنْ كنتُ لا أستحضر الآن ما يدلّ على تحريمه، ولكني أرى -والعلم عند الله تعالى- أنه لا يخلو من شيء، فقد ¬

_ (¬1) انظر "صحيح البخاري" (كتاب النكاح) (باب - 6)، وذكر الإِمام البخاري -رحمه الله- الآية في (باب - 14). (¬2) النّور: 32. (¬3) انظر "صحيح البخاري" (كتاب النكاح) "باب - 51". (¬4) تحت الحديث الضعيف برقم (1007): "أيّما امرأة نُكحت على صداق أو حباء أو عدّة قبل عِصمة النكاح، فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح، فهو لمن أُعْطِيَهُ. وأحقُّ ما أُكْرِمَ عليه الرجل ابنتُهُ أو أختُهُ".

النهي عن المغالاة في المهور:

صحّ أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق (¬1) "، ولا أظن مسلماً سليم الفطرة، لا يرى أن مثل هذا الشرط ينافي مكارم الأخلاق، كيف لا؟! وكثيراً ما يكون سبباً للمتاجرة بالمرأة إِلى أن يحظى الأب أو الولي بالشرط الأوفر، والحظ الأكبر، وإلا أعضلها! وهذا لا يجوز؛ لنهي القرآن عنه" (¬2). انتهى. النهي عن المغالاة في المهور: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ مِن يمُن (¬3) المرأة تيسير خِطبتها، وتيسير صَداقها، وتيسير رحمها". قال عروة: يعني: "تيسير رحمها للولادة". قال عروة: "وأنا أقول مِن عندي: مِن أوّل شُؤمها: أن يكثر صَداقها" (¬4). وعن أنس: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه وَضَرٌ (¬5) من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وأحمد، والحاكم وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (45). (¬2) وانظر -إِن شئت- ما قاله الإِمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 127) تحت المسألة (1855) (¬3) اليُمْنُ؛ أي: البركة، وضدّه الشُّؤم. "النهاية". (¬4) أخرجه أحمد وغيره، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" تحت (1928)، وكان شيخنا -رحمه الله- قد تردد في أسامة بن زيد؛ أهو الليثي أم العدوى؟! وفي التحقيق الثاني "للإرواء" (6/ 350) قال -رحمه الله-: "ثم رأيت ما يرجّح أنه الليثي، وهو قول السخاوي في "المقاصد" (ص 404)، وسنده جيّد". (¬5) الوضر: لطخ من خلوق، أو طيب له لون، وذلك من فعل العروس إِذا دخل على زوجته، والوضر: الأثر من غير الطيب. "النهاية".

صُفرةٍ، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَهْيَمْ (¬1)؟! فقال: يا رسول الله! تزوجت امرأة من الأنصار، قال: ما سُقت إِليها؟ قال: وزن نواة (¬2) من ذهب، قال: أوْلِمْ ولو بشاة" (¬3). وعن أبي سلمة قال: "سألت عائشة: كم كان صَداق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالت: كان صَداقه لأزواجه ثنتي عشرة أُوقية ونشّاً. قالت: أتدري ما النشُّ؟ قال: قلت: لا. قالت: نصف أوقية (¬4) " (¬5). وعن أبي العجفاء السلمي، قال: "خطَبنا عمر فقال: ألا لا تغالوا بصُدُق النساء، فإِنها لو كانت مَكرُمة في الدنيا، أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما أصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة من نسائه، ولا أُصْدِقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية" (¬6). وعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير النكاح أيسره" (¬7). ¬

_ (¬1) أي: ما أمْرُك وشأنك؟ "النهاية". (¬2) جاء في "النهاية": "النواة: اسم لخمسة دراهم، كما قيل للأربعين: أوقية وللعشرين: نشٌّ ... والنواة في الأصل: عجمة التمرة". (¬3) أخرجه البخاري: 2049، ومسلم: 1427. (¬4) النَّشّ: نصف الأوقية، وهو عشرون درهماً، والأوقية: أربعون، فيكون الجميع خمسمائة درهم. "النهاية". (¬5) أخرجه مسلم: 1426. (¬6) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1852)، والنسائي، والترمذي وصححه، وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1927). (¬7) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1859)، وابن حبان، والحاكم =

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إِنّي تزوّجتُ امرأةً من الأنصار، فقال له النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل نظرت إِليها؟ فإِنّ في عيون الأنصار شيئاً، قال: قد نظرت إِليها، قال: على كم تزوجتها؟ قال: على أربع أواقٍ. فقال له النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: على أربع أواقٍ؟ كأنّما تنحِتون الفضّة من عُرْض هذا الجبل" (¬1). جاء في "الفتاوى" (32/ 192 - 194): "ويُكره للرجل أن يصدق المرأة صدقاً فيضرّ به إِنْ نَقَده، ويعجز عن وفائه إِنْ كان ديناً. قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إِني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: على كم تزوّجتها؟ قال: على أربع أواقٍ. فقال له النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: على أربع أوَاقٍ؟ فكأنما تنحتون الفضة من عُرْض هذا الجبل! ما عندنا ما نعطيك؛ ولكن عسى أن نبعثك في بعْث تصيب منه! قال: فبعث بعثاً إِلى بني عبس، بعث ذلك الرجل فيهم. رواه مسلم في "صحيحه" (¬2). والأوقية عندهم: أربعون درهماً، وهي مجموع الصَّداق، ليس فيه مقدم ومؤخر. وعن أبي عمرو الأسلمي: أنه أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستعينه في مهر امرأة، فقال: كم أمهرتها؟ فقال: مائتي درهم. فقال: لو كنتم تغرفون من بطحان ما زدتم (¬3). ¬

_ = وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1924). (¬1) أخرجه مسلم: 1424. (¬2) برقم: 1424. (¬3) أخرجه الحاكم، وأحمد وقال الحاكم: "صحيح الإِسناد"، ووافقه الذهبي، وانظر "الصحيحة" (2173).

رواه الإِمام أحمد في "مسنده". وإذا أصدقها ديناً كثيراً في ذمته وهو ينوي أن لا يعطيها إِياه؛ كان ذلك حراماً عليه (¬1). وما يفعله بعض أهل الجفاء والخيلاء والرياء، من تكثير الهر للرياء والفخر، وهم لا يقصدون أخْذه من الزوج، وهو ينوي أن لا يعطيهم إِياه؛ فهذا منكر قبيح، مخالف للسنة، خارج عن الشريعة. وإِنْ قصد الزوج أن يؤديه، وهو في الغالب لا يطيقه؛ فقد حمَّل نفسه، وشغل ذمّته، وتعرّض لنقص حسناته، وارتهانه بالدَّين؛ وأهل المرأة قد آذوا صهرهم وضرّوه. والمستحب في الصَّداق -مع القدرة واليسار- أن يكون جميع عاجله وآجله لا يزيد على مهر أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا بناته، وكان ما بين أربعمائة إِلى خمسمائة بالدراهم الخالصة، نحواً من تسعة عشر ديناراً. فهذه سُنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مَنْ فَعَلَ ذلك فقد استن بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصَّداق، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: كان صَداقنا إِذ كان فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشر أواق، وطبق بيديه، وذلك أربعمائة درهم. رواه الإِمام أحمد في "مسنده"، وهذا لفظ أبي داود في "سننه" (¬2). وقال أبو سلمة: سألْت عائشة: كم كان صَداق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالت: كان ¬

_ (¬1) وفي الحديث: "مَنْ تزوَّج امرأة على صَدَاق؛ وهو ينوي أنْ لا يُؤدِّيه إِليها، فهو زانٍ" أخرجه البزّار وغيره وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1806 - 1807). (¬2) وهو في سنن النسائي "صحيح سنن النسائي" (3140) ولفظه: "كان الصَّداق إِذ كان فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشر أواق".

صَداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشاً. قالت: أتدري ما النشّ؟ قال: قلت: لا. قالت: نصف أوقية: فتلك خمسمائة درهم. رواه مسلم (¬1) في "صحيحه". وقد تقدّم عن عمر أن صَداق بنات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان نحواً من ذلك. فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صَداق ابنته على صَداق بنات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللواتي هن خير خلق الله في كل فضيلة، وهنّ أفضل نساء العالمين في كل صفة: فهو جاهل أحمق. وكذلك صَداق أمهات المؤمنين، وهذا مع القدرة واليَسار. فأمّا الفقير ونحوه فلا ينبغي له أن يصدق المرأة إِلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة. والأولى فعجيل الصَّداق كله للمرأة قبل الدخول إِذا أمكن، فإِنْ قدّم البعض وأخّر البعض: فهو جائز، وقد كان السلف الصالح الطيب يرخصون الصَّداق. فتزوّج عبد الرحمن بن عوف في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على وزن نواة من ذهب. قالوا: وزنها ثلاثة دراهم وثلث. وزوّج سعيد بن المسيب بنته على درهمين، وهي من أفضل أَيِّمِ من قريش، بعد أن خطبها الخليفة لابنه، فأبى أن يزوجها به، والذي نُقل عن بعض السلف من تكثير صَداق النّساء؛ فإِنما كان ذلك لأن المال اتسع عليهم، وكانوا يعجلون الصَّداق كلّه قبل الدخول؛ لم يكونوا يؤخرون منه شيئاً. ومن كان له يَسار ووجد، فأحب أن يعطي امرأته صَداقاً كثيرًا؛ فلا بأس بذلك، كما قال -تعالى-: {وآتيتم إِحداهنّ قِنْطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً} (¬2). أمّا من يشغل ذمّته بصَداق لا يريد أن يؤديه، أو يعجز عن وفائه، فهذا مكروه، كما تقدّم. وكذلك من جعل في ذمّته صَداقاً كثيراً ¬

_ (¬1) برقم: 1426. (¬2) النساء: 20.

إثقال الصداق يجعل العداوة في نفس الزوج:

من غير وفاء له: فهذا ليس بمسنون. والله أعلم". وليُعلم أنّ ابتعاد الناس عن هذه النصوص والعمل بمقتضاها؛ قد أدّى إِلى العزوف عن الزواج، أو أنه جرّ أزمات اقتصادية للأُسر بعد الزواج، وأضحى الفُحش أقرب من النكاح الحلال عند عددٍ من الشباب والشابّات. فلنحذر من مظهريات النكاح، والمغالاة في المهور التي تقتُل العفّة والطُّهر، وتعسّر الحلال، وتيسّر الحرام، وتستجلب الهموم والكُربات. إِثقال الصَّداق يجعل العداوة في نفس الزوج: عن أبي العجفاء السُلمي قال: قال عمر بن الخطاب: "لا تغالوا صَداق النساء، فإِنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله، كان أولاكم وأحقّكم بها محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما أَصدق امرأة من نسائه، ولا أُصْدِقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإنّ الرجل ليثقل صدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه، ويقول: قد كَلِفتُ إليك علَقَ القِربة -أو عَرَق القربة (¬1) -. وكنت رجلاً عربياً مولَّداً (¬2)، ما أدري ما عَلَق القِرية -أو عَرَق القِربة-؟ " (¬3). ¬

_ (¬1) عَلَق القربة أو عَرَق القربة؛ أي: تحملت لأجلك كل شيء حتى عَلق القربة، وهو حبلها الذى تُعلّق به. وعَرَق القربة؛ أي: تكلفت إِليك وتعِبت، حتى عرقِتُ كَعَرق القِربة، وعرقها: سيلان مائها. "النهاية". (¬2) هو الذي ولد بين العرب، ونشأ مع أولادهم وتأدّب بآدابهم. وقال الجوهري: رجلٌ مُولَّدٌ: إِذا كان عربياً غير محض، وانظر "النهاية". (¬3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1532)، وأبو داود "صحيح سنن =

هل يدخل على زوجه إذا لم يمهرها؟

هل يدخل على زوجه إِذا لم يُمْهِرْهَا (¬1)؟ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لمّا تزوج عليّ فاطمة، قال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أعطها شيئاً، قال: ما عندي شيء، قال: أين درعك الحُطميّة؟ " (¬2). وجاء في تبويب "سنن أبي داود" قبل هذا الحديث: (باب في الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينقدها). وجاء في تبويب "سنن النسائي" تحت (باب نِحْلة الخلوة) بلفظ: " ... أنّ علياً قال: تزوّجْتُ فاطمة -رضي الله عنها- فقلتُ: يا رسول الله! ابْنِ بي. قال: أعطها شيئاً ... " (¬3). قال ابن حزم -رحمه الله-: "*ومن تزوج، فسمّى صَداقاً أو لم يُسمّ، فله الدخول بها؛ أحبَّت أم كرهت، ويقضى لها بما سمّى لها؛ أحبّ أم كره، ولا يُمْنَعُ من أجل ذلك من الدخول بها، لكن يُقضى له عاجلاً بالدخول، ويقضى لها عليه، حسب ما يوجد عنده من الصَّداق، فإِن كان لم يُسم لها شيئاً، قضي عليه بمهر مِثلها، إِلا أن يتراضيا؛ بأكثر أو بأقل". قال ابن المنذر -رحمه الله-: "أجمع كل من يُحْفَظُ عنه من أهل العلم، أن للمرأة أن تمتنع من دخول الزوج عليها، حتى يعطيها مهرها". ¬

_ = أبي داود" (1852)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (889)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3141) وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (1927). (¬1) هذا العنوان وكذا الثلاثة الآتية بعده بينها تداخُل؛ رأيتُ إِبقاءَها للمزيد من الفائدة والتفصيل. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح أبي داود" (1865)، والنسائي "صحيح النسائي" (3161). (¬3) "صحيح سنن النسائي" (3160).

وقد ناقش صاحب "المحلّى" هذا الرأي، فقال: "لا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه من حين يعقد الزواج؛ فإِنها زوجة له، فهو حلال لها، وهي حلال له، فمن منَعَها منه، حتى يعطيها الصَّداق أو غيره، فقد حال بينه وبين امرأته، بلا نصٍّ من الله -تعالى- ولا من رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لكن الحق ما قلنا: ألا يمنع حقّه منها، ولا تمنع هي حقّها من صَداقها، لكن يطلق الدخول عليها؛ أحبَّت أم كَرِهت، ويُؤخَذ مما يوجد له صَداقها؛ أحب أم كره، وصح عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تصويب قول القائل: "أعط كلّ ذي حقٍّ حقّه" (¬1) * (¬2). وسألتُ شيخنا -رحمه الله-: هل يتحقّق النكاح بالوليّ والشاهدين؛ وبه تستحلّ الفروج، أم أنّ للمهر علاقة؟ فأجاب -رحمه الله-: "ليس له علاقة، فيمكن أن يبني بزوجته؛ بالشرطين المذكورين في الحديث، وأن يؤخّر المهر لها؛ دون الاتفاق على كميّة المهر، وإِذا اختلفوا، فهو مُكلّف شرعاً بأن يدفع لها مهر المِثل -أي: مثيلاتها من نساء قبيلتها-: سنّها، ثيّب، بِكر، قبيحة، جميلة، ويمكن في صورة نادرةٍ جدّاً؛ أن يجعل مهرها تعليمها القرآن، بل ثبتَ أن أمّ سليم قد جعلَت مهر أبي طلحة -رضي الله عنهما- إِسلامه، فأسلم، وكان مهرَ زوجه". ثمّ قرأْتُ ما جاء في "السيل الجرّار" (2/ 276) وهو قوله: " ... أقول: لم يَرِدْ ما يدلّ على أنّ المهر شرطٌ مِن شروط العقد أو رُكن من أركانه. وأمّا قوله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1968. (¬2) انظر "المحلى" (11/ 87 - 91) وذكره السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (2/ 483 - 484).

ماذا إذا دخل بها ولم يفرض لها صداقا؟

-سبحانه-: {ولا جُناح عليكم أن تنكحُوهنّ إِذا آتيتموهنّ أجورهنّ} (¬1)، فالمراد أنّ المهر واجب للمنكوحة لا يجوز مَطْلُهَا منه، ولو كان العقد لا يصحّ إِلا بالمهر؛ لم يقل الله -عزّ وجلّ-: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضة} (¬2)؛ فإِنّ هذه الآَية تفيد أنّ العقد قد يقع قبل فرض المهر". ثمّ ذكَر بعض الأدلّة على ذلك. وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (32/ 207): "إِذا خلا الرجل بالمرأة، فمنعته نفسها من الوطء ولم يطأها؛ لم يستقر مهرها في مذهب الإِمام أحمد -الذي ذكره أصحابه: كالقاضي أبي يعلى، وأبي البركات، وغيرهما-، وغيره من الأئمة: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وإذا اعترفت بأنها لم تمكّنه من وطئها؛ لم يستقر مهرها باتفاقهم. ولا يجب لها عليه نفقة ما دامت كذلك باتفاقهم، وإِذا كانت مبغضة له مختارة سواه؛ فإِنها تفتدي نفسها منه". ماذا إِذا دخَل بها ولم يفرض لها صَداقاً؟ عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: أترضى أن أزوجك فلانة؟ قال: نعم! وقال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلاناً؟ قالت نعم! فزوّج أحدهما صاحبه، فدخل بها الرجل، ولم يفرض لها صَداقاً، ولم يعطها شيئاً -وكان ممن شهد الحديبية، وكان مَنْ شهد الحديبية له سهم بخيبر- فلمّا ¬

_ (¬1) الممتحنة: 10 (¬2) البقرة: 236.

الزواج بغير ذكر المهر:

حضرته الوفاة قال: إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوّجني فلانة، ولم أفرِض لها صَداقاً، ولم أُعطها شيئاً، وإني أشهدكم: أني أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذَت سهماً، فباعته بمائة ألف" (¬1). وكنت قد سألت شيخنا -رحمه الله- في موطن آخر. هل يمكن الدخول بدون مهر ثمّ يدفع؟ فقال -رحمه الله-: نعم؛ يدفع لها مهر مَثِيلاتها. الزواج بغير ذِكر المهر: يجب الاتفاق على المهر للأحاديث المتقدّمة -قلّ أو كثُر-، ولكن إذا وقَع الزواج بغير ذكر المهر صحّ، قال الله -تعالى-: {لا جُناح إنْ طَلَّقْتُم النّساءَ ما لم تَمَسّوهُنَّ أو تَفْرِضُوا لهُنَّ فريضة} (¬2). وإِذا دخَل بها الزوج، أو تُوفّي قبل ذلك؛ فإِن للزوجة مهرَ المِثل والميراث. عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أنه سئل عن امرأة تزوجها رجل، ولم يفرض لها صَداقاً، ولم يدخل بها حتى مات؟ فقال ابن مسعود: لها صَداق نسائها؛ لا وكس (¬3) ولا شطط (¬4)، وعليها العدة، ولها الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بروَع (¬5) بنت واشق -أمرأة لنا- ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1859)، وانظر "الإِرواء" (1924)، وتقدّم. (¬2) البقرة: 236. (¬3) الوكس: النقص. (¬4) الشطط: الجور. (¬5) انظر ضبطها في "أسد الغابة" (7/ 356) برقم (6772).

مثل ما قضيت" (¬1). وفي رواية: "أنه أتاه (¬2) قوم فقالوا: إِنّ رجلاً منّا تزوج امرأة، ولم يفرض لها صَداقاً، ولم يجمعها إِليه، حتى مات؟ فقال عبد الله: ما سئلت -منذ فارقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- أشد علي من هذه! فأْتوا غيري، فاختلفوا إِليه فيها شهراً، ثم قالوا له في آخر ذلك: من نسأل إِن لم نسألك؟! وأنت من جلة أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا البلد، ولا نجد غيرك؟ قال: سأقول فيها بجهد رأيي، فإِنْ كان صواباً، فمن الله وحده لا شريك له، وإِن كان خطأً، فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، أرى أن أجعل لها صَداق نسائها، لا وكس ولا شطط، ولها الميراث، وعليها العدة أربعة أشهر وعشراً، قال: وذلك بسمْع أُناسٍ من أشجع، فقاموا فقالوا: نشهد أنك قضيت بما قضى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في امرأة منّا -يقال لها: بروع بنت واشق-. قال: فما رُئي عبد الله فرح فرحته يومئذ إِلا بإِسلامه". وفي رواية: "وذلك بحضرة ناس من أشجع، فقام رجل -يقال له: معقل بن سنان الأشجعي- فقال: أشهد أنك قضيت بمِثل الذي قضى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في امرأة منا -يقال لها: بْروَع بنت واشق-، فما رُئي عبد الله فرح بشيء بعد الإِسلام كفرحه بهذه القصة" (¬3). جاء في "سُبُل السلام" (3/ 289): "والحديث دليل على أنّ المرأة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، والترمذي، وصححه شيخنا -رحمه الله في "الإِرواء" (1939). (¬2) أي: عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه النسائي والسياق له، وابن حبان والرواية الأخرى له، والحاكم وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (6/ 358).

فيمن تزوج ولم يسم صداقا حتى مات:

تستحق كمال المهر بالموت، وإن لم يُسَمِّ لها الزّوج ولا دخل بها، وتستحق مهر مِثلها". فيمن تزوّج ولم يُسمِّ صداقاً حتى مات (¬1): فيه الحديث المتقدّم عن عبد الله، في رجل تزوّج امرأة فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها الصَّداق، فقال: لها الصَّداق كاملاً، وعليها العدة، ولها الميراث. فقال معقل بن سنان: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى به في بَرْوَعَ بنت واشق (¬2). وجاء في "السيل الجرّار" (2/ 280): "فيه دليل على ثبوت المهر بالموت بطريق الأولى؛ لأنّه إِذا ثبت مع عدم التسمية؛ يثبت معها بفحوى الخطاب، فهذا الحديث يكفي في الاستدلال به على أن الموت يجب به المهر والميراث". مهر المِثل: *مهر المِثل؛ هو المهر الذي تستحقه المرأة، مِثل مهر من يماثلها وقت العقد في السنّ، والجمال، والمال، والعقل، والدين، والبكارة، والثيوبة، والبلد، وكل ما يختلف لأجله الصَّداق؛ كوجود الولد، أو عدم وجوده؛ إِذ إِن قيمة المهر للمرأة تختلف عادة باختلاف هذه الصفات، والمعتبر في المماثلة من جهة عصبتها، كأختها، وعمّتها، وبنات أعمامها. وقال أحمد -رحمه الله-: "هو معتبر بقراباتها من العصبات، وغيرهم من ¬

_ (¬1) هذا العنوان من سنن أبي داود "صحيح سنن أبي داود" (2/ 397). (¬2) انظر تخريج الحديث الذي قبله، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (1857).

ذوي أرحامها، وإِذا لم توجد امرأة من أقربائها من جهة الأب متصفة بأوصاف الزوجة، التي نريد تقدير مهر المِثل لها، كان المعتبر مهر امرأة أجنبية، من أسرة تماثل أسرة أبيها"* (¬1). عن عروة بن الزبير: "أنه سأل عائشة -رضي الله عنها- عن قول الله -تعالى-: {وإِنْ خفْتُمْ} إِلى {وَرُبَاعَ}؟ فقالت: يا ابن أختي! هي اليتيمة تكون في حَجْر وليَّها، تُشاركه في ماله، فيُعجبه مالها وجمالها، فيُريد وليُّها أن يَتَزَوَّجَها بغير أن يقسِط في صَداقها، فيُعطيها مثلَ ما يُعطيها غيره، فَنُهُوا أن ينكحوهنّ إِلا أن يُقسطوا (¬2) لهنّ، ويبلغوا بهنّ أعلى سُنّتِهنّ من الصَّداق (¬3)، وأُمِروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ. قال عروة: قالت عائشة: ثمّ إِنَّ النّاس استفتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد هذه الآية؟ فأنزل الله: {ويَسْتَفْتُونَكَ في النِّساء} إِلى قوله: {وتَرْغَبُون أنْ تَنْكِحُوهُنَّ}، والذي ذكر الله أنه يُتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال فيها: {وإِنْ خِفتم أن لا تُقْسِطوا في اليتامى فانكحوا ما طابَ لكم من النساء}، قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى: {وَترغبون أنْ تَنْكِحُوهُنَّ}؛ يعني: هي رغبة أحدكم ليتيمته التي تكون في حَجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنُهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها من يتامى النساء إِلا بالقسط؛ من أجل رغبتهم عنهنّ" (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين عن "فقه السّنّة" (2/ 478). (¬2) أي: يعدلوا. (¬3) أي: أعلى عادتهنّ في مهورهن ومهور أمثالهنّ. "شرح النووي". (¬4) أخرجه البخاري: 2494، ومسلم: 3018.

العدل في المهور:

ففي قول عائشة -رضي الله عنها-: "فنُهوا أن ينكحوهنّ إِلا أن يُقسطوا لهنّ، ويبلغوا بهنّ أعلى سُنّتهنّ من الصَّداق"؛ مراعاة مَهْر المِثل في النساء كما لا يخفى. العدْل في المهور: لحديث عروة بن الزبير السابق وفيه: " ... فيُريد وليُّها أن يَتَزَوّجها بغير أن يقسِط في صَداقها، فيُعطيها مثل ما يُعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهنّ إِلا أن يُقسطوا لهنّ، ويبلغوا بهن أعلى سُنّتِهنّ من الصَّداق". وكيف يقسط في صَداقها؟ قد بيّنته عائشة -رضي الله عنها- بقولها: " .. فيعطيها مِثل ما يُعطيها غيره". العَدْل في صداق اليتيمة: للنصّ السابق، وفيه قول عائشة -رضي الله عنها-: "هي اليتيمة تكون في حجر وليّها، تُشاركه في ماله، فيُعجبه مالها وجمالها، فيُريد وليُّها أن يَتَزَوّجها بغير أن يقسِط في صَداقها، فيُعطيها مثل ما يُعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهنّ إِلا أن يُقسطوا لهنّ". الرجل هو الذي يحدّد المهر: والرجل هو الذي يُحدّد المهر؛ لكن في ضوء ما تقدّم من توجيهات وقواعد، ويراعي مهر المِثل، ولا يُغالي في ذلك. وفي بعض مجالس شيخنا -رحمه الله-: أفادنا أنّ الرجل هو الذي يحدّد

متى يجب عليه نصف المهر؟

ذلك، وذكر عدداً من الأدلّة؛ منها: حديث أنس -رضي الله عنه- قال: "سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الرحمن بن عوف -وتزوّج امرأة من الأنصار-: كم أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب" (¬1). وذكَر ما يتعلّق بخاتمة الأمر، وعدم رفض ولي الزوجة. متى يجب عليه نصف المهر؟ إِذا طلّق الرجل زوجه قبل الدخول بها، وكان قد فرَض لها قدْراً مُعيناً؛ فإِنّه يجب عليه نصف المهر. قال -تعالى-: {وإِنْ طَلّقتُموهنّ من قبل أن تَمَسُّوهنّ وقد فَرَضْتم لهُنّ فَريضة فَنِصفُ ما فَرَضتُم إِلا أنْ يَعْفُون (¬2) أو يَعْفُوَ الذي بِيَدِه عُقْدَةُ النكاح وأنْ تَعْفوا أقْرَبُ للتَّقْوَى ولا تَنْسَوا الفَضْلَ بَيْنَكُم إِنّ اللهَ بما تَعْمَلون بصير} (¬3). ماذا يجب مِن المهر إِذا أغلق الباب وأرخى الستر ولم يدخل بزوجه؟ عن زرارة بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: "قضى الخلفاءُ الراشدون ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5167، ومسلم: 1427، وتقدّم. (¬2) قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله: {إِلا أن يعفون} أي: النساء عما وجب لها على زوجها من النصف، فلا يجب لها عليه شيء. قال السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: {إِلا أن يعفون} قال: إِلا أن تعفو الثًيّب فتدَعَ حقّها". (¬3) البقرة: 237.

المهديّون؛ أنّ مَن أغلق باباً، أو أرخى ستراً؛ فقد وجب المهر، ووجبت العدّة" (¬1). وعن عمر -رضي الله عنه- قال: "إِذا أُجيف الباب، وأُرخيت الستور؛ فقد وجب المهر" (¬2). هذا؛ وقد فصّل الإمام ابن حزم -رحمه الله- في ذلك تفصيلاً قويّاً تحت المسألة (1846)؛ فارجع إِليه -إِن شئت-. وقال في آخر المسألة: "فإِن تعلّقوا بمن جاء ذلك عنه من الصحابة -رضي الله عنهم-؛ فلا حُجّة في أحد دون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد اختلفوا كما ذَكَرْنا (¬3)؛ فوجَب الردّ عند التنازُع إِلى القرآن والسُّنّة". جاء في "السيل الجرّار" (2/ 281): " ... وأمّا الخلوة فلم يكن في المقام ما ينتهض للاحتجاج به، ولم يصحّ من المرفوع ما تقوم به الحُجّة ... وقد قال -عزّ وجلّ-: {وإِنْ طَلّقتُموهنّ من قبل أن تَمَسّوهنّ وقد فَرَضْتُم لهُنّ فَريضة فَنِصفُ ما فَرَضتُم}، فإِن كان المراد بالمس الجماع؛ فظاهره أنَّ الخلوة ليست بجماع، وإِن كان المس أعمّ من الجماع، وهو وضع عضو منه على عضو منها؛ فليست الخلوة المجردة مَسّاً؛ وإن أرخى عليها مائة ستر، ونظر إِليها ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1937). (¬2) أخرجه الدارقطني بإِسناد صحيح، وانظر "الإِرواء" (6/ 357). (¬3) وكان قد ذَكر -رحمه الله- آثاراً عديدة، بعضها في إِيجاب المهر كاملاً، وبعضها في نصفه.

ألف نظرة! وإِذا عرفت هذا؛ فلا حاجة بنا إِلى التكلم على الخلوة الصحيحة والفاسدة". وقال شيخنا -رحمه الله - في "السلسلة الضعيفة" بعد الحديث (1019) -بحذف-: "من كشف خمار امرأة، ونظر إِليها، فقد وجَب الصَّداق؛ دخل بها أم لم يدخل" (¬1): "وجُملة القول؛ أن الحديث ضعيف مرفوعاً، صحيح موقوفاً. ولا يقال: فالموقوف شاهد للمرفوع لأنه لا يقال بمجرد الرأي؛ لأمرين: الأوّل: أنه مخالف لقوله -تعالى-: {وإِنْ طَلّقتُمُوهنّ من قبل أن تَمَسُّوهنّ وقد فَرَضْتُم لهُنّ فَريضة فَنِصفُ ما فَرَضتم .. } (¬2)؛ فهي بإِطلاقها تشمل التي خلا بها. وما أحسن ما قال شريح: "لم أسمع الله -تعالى- ذكر في كتابه باباً ولا ستراً، إذا زعم أنه لم يمسها فلها نصف الصَّداق" (¬3). الثاني: أنه قد صح خلافه موقوفاً، فروى الشافعي (2/ 325): ... عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنه قال في الرجل يتزوج المرأة، فيخلو بها ولا يمسها، ثمّ يطلّقها: ليس لها إِلا نصف الصَّداق؛ لأن الله يقول: {وإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنّ وَقَدْ فرَضْتُم لَهُنَّ فَرِيضَة}. ومن طريق ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني؛ وفيه علّة الإِرسال، وضَعْف ابن لهيعة، وانظر "الضعيفة" (1019). (¬2) البقرة: 237. (¬3) "تفسير القرطبي" (3/ 205)، وهو عند البيهقي بسند صحيح عنه نحوه. قاله شيخنا -رحمه الله-.

الشافعي رواه البيهقي (7/ 254). قلت: وهذا سند ضعيف، لكن قد جاء من طريق أخرى عن طاوس، أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن منصور: ثنا هُشيم: أنبأ الليث عن طاوس عن ابن عباس: "أنه كان يقول في الرجل أُدخلت عليه امرأته، ثمّ طلقها، فزعم أنه لم يمسها، قال. عليه نصف الصَّداق". قلت: وهذا سند صحيح، فبه يتقوّى السند الذي قبله، والآتي بعده عن علي بن أبي طلحة. ثمّ أخرج البيهقي عن عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله -تعالى-: {وإِن طَلَّقْتُمُوهُنّ قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنّ .. } الآية: "فهو الرجل يتزوّج المرأة، وقد سمى لها صَداقاً، ثمّ يطلقها من قبل أن يمسها، والمس الجماع، فلها نصف الصَّداق، وليس لها أكثر من ذلك. قلت: وهذا ضعيف منقطع، ثم روى عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود قال: "لها نصف الصَّداق، وإِنْ جلس بين رجليها". وقال: "وفيه انقطاع بين الشعبي وابن مسعود". فإِذا كانت المسألة مما اختلف فيه الصحابة، فالواجب حينئذ الوجوع إِلى النص، والآية مؤيدة لما ذهب اليه ابن عباس؛ على خلاف هذا الحديث، وهو مذهب الشافعي في "الأمّ" (5/ 215). وهو الحق- إِن شاء الله تعالى-". انتهى كلام شيخنا -رحمه الله-. قلت: ومِثل ذلك يُقال في أثر زرارة -رضي الله عنه-؛ لأن إِيجاب العدّة إِنما

فوائد متفرقة:

هو على مَنْ دخَل، وقد قال الله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا إِذا نَكَحْتُم المؤمنات ثمّ طَلَّقْتمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أن تَمَسُّوهَنّ فَمَا لَكُم عَلَيْهنّ من عدّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬1). والراجح: أنه إِذا أَغلق الباب وأرخى الستر، ولم يدخل بزوجه؛ فلها نصف الصَّداق، ولا عدّة عليها -والله تعالى أعلم-. قال ابن كثير -رحمه الله-: " ... وتشطير الصداق -والحالة هذه- أمْر مُجمعٌ عليه بين العلماء، لا خلاف بينهم في ذلك، فإِنه متى كان قد سَمَّى لها صَداقاً ثمّ فارقَها قبل دخوله بها، فإِنه يجب لها نصف ما سمّى من الصَّداق، إِلا أن عند الثلاثة أنه يجب جميع الصَّداق إِذا خلا بها الزوج، وإن لم يدخل بها ... " (¬2). فوائد متفرِّقة: *جاء في "الفتاوى" (32/ 197): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن رجل اعتقلته زوجته عند الحاكم على الصَّداق مدة شهرين، ولم يوجد له موجود: فهل يجوز للحاكم أن يبقيه أو يُطْلِقه؟ فأجاب: إِذا لم يُعرَف له مال؛ حلّفه الحاكم على إِعساره وأطلقه، ولم يجز حبسه وتكليفه البينة والحالة هذه في المذاهب الأربعة". *وسألتُ شيخنا -رحمه الله-: هل يسقط المهر إِذا فُسخ العقد لإِعسار الرجل أو لعيبٍ فيه؟! فأجاب -رحمه الله-: إِذا بنى أو دخَل؛ فهو حقٌّ لها. ¬

_ (¬1) الأحزاب: 49. (¬2) انظر -إِن شئت- تتمّة الكلام عن الإِمام الشافعي -رحمه الله-.

الإمهار عن غيره:

* وسألت شيخنا -رحمه الله-: إِذا ارتدّت المرأة عن الإِسلام، فهل يسقط المهر عن الرجل قبل الدخول؟ فأجاب -رحمه الله-: لا يسقط حقّها؛ لأنّ حقّها تحقّق بمجرّد العقد، وكان العقد مشروعاً، والحقّ يبقى في ذمّته. قلت: وبعد الدخول؛ هل هو من باب أولى؟ فأجاب -رحمه الله-: نعم. * وسألت شيخنا -رحمه الله-: إِذا اكتشف الرجل عيباً بالمرأة؛ يمنَعه من الاستمتاع؛ فهل له أخْذ ما أعطاها من الصّداق؟ فأجاب -رحمه الله-: إِذا جامعها لا، وإذا لم يجامعها، فله ذلك. الإِمهار عن غيره: عن أمّ حبيبة: "أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش، فمات بأرض الحبشة، فزوجها النجاشي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع شرحبيل ابن حسنة". قال أبو داود: "حسنةُ هي أمّه" (¬1). الرجل هو الذي يُعدّ البيت ويؤثثه ويجهّزه: لا شكّ أنّ *المسؤول عن إِعداد البيت إِعداداً شرعياً، وتجهيز كل ما يحتاج له من الأثاث، والفرش، والأدوات: هو الزوج. والزوجة لا تسأل عن شيء من ذلك، مهما كان مهرها ... لأنّ المهر إِنما تستحقه الزوجة في مقابل الاستمتاع ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1853).

النفقة

بها، لا من أجل إِعداد الجهاز لبيت الزوجية، فالمهر حقٌّ خالصٌ لها. ليس لأبيها، ولا لزوجها، ولا لأحد حقّ فيه* (¬1). وقد قال الله -تعالى-: {الرِّجال قَوّامون على النِّساء بمَا فَضَّل الله بَعضهم على بعض وبِما أنْفَقُوا مِن أمْوَالِهم} (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: " {وبمَا أنفقوا من أمْوَالِهِم}؛ أي: من المهور والنفقات والكُلَف التي أوجبها الله عليهم لهنّ في كتابه وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". النفقة المراد بالنفقة: الشيء الذي يبذله الإِنسان؛ فيما يحتاجه هو أو غيره؛ من الطعام والشراب وغيرهما (¬3). حُكمها: النفقة واجبة بالكتاب والسّنّة والإِجماع. قال الله -تعالى-: {وعلى المولود له رِزقُهنّ وكِسْوَتُهُنّ بالمعروف لا تُكلَّف نفسّ إِلا وُسْعَها} (¬4). قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية: "أي: وعلى والد ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين عن "فقه السنة" (2/ 490) -بحذف-. (¬2) النساء: 34. (¬3) "سبل السلام" (3/ 414). (¬4) البقرة: 233.

الطفل نفقة الوالدات، وكسوتهنّ بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهنّ في بلدهنّ؛ من غير إِسراف ولا إِقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره، كما قال -تعالى-: {لينفق ذُو سَعَة من سَعَته ومن قُدرَ عليه رِزْقُهُ فَلْيُنْفِق ممَّا آتاه الله لا يُكَلّفُ الله نفساً إِلا ما آتاها سَيَجْعَل الله بعد عُسْرٍ يُسْراً} (¬1). قال الضحاك: إِذا طلّق الرجل زوجته وله منها ولد، فأرضعت له ولده، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف. وقال -سبحانه وتعالى-: {أسكنوهنّ من حيث سَكَنْتُم من وُجْدِكم ولا تُضارُّوهنّ لتضيِّقوا عليهنّ وإِن كُنَّ أُولاتِ حملٍ فأنفقوا عليهنّ حتى يضعن حملهنّ فإِن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهن وأْتَمِرُوا بينكم بمعروف وإِن تعاسرتم فَسَتُرْضِعُ له أخرى} (¬2). *وقوله -سبحانه-: {أسكنوهنّ من حيثُ سكنتم}، أَي: عندكم. وقوله -تعالى-: {مِن وُجْدِكُم}، قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني سعتكم. حتى قال قتادة. إِن لم تَجِد إِلا جنب بيتك فأسكِنها فيه* (¬3). وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حَجَّة الوداع: "اتقوا الله في النساء، فإِنكم أخذتموهنّ بأمان الله، واستحللتم فروجهنِّ بكلمة الله، ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فُرُشَكم أحداً تكرهونه، فإِن فَعَلْن ذلك؛ فاضربوهنّ ¬

_ (¬1) الطلاق: 7. (¬2) الطلاق: 6. (¬3) ما بين نجمتين من "تفسير ابن كثير".

ضرباً غير مبرِّح (¬1). ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها-: "أنّ هنداً قالت للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنّ أبا سفيان رجل شحيح؛ فأحتاج أن آخذ من ماله؟ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف" (¬3). وعن معاوية القُشَيْرِي قال: "قلت: يا رسول الله! ما حقُّ زوجة أحدِنا عليه؟ قال: أن تُطعِمَها إِذا طَعِمْت، وتَكْسُوَها إِذا اكتسيت، ولا تضربَ الوجه، ولا تُقَبِّحَ، ولا تهجرَ إِلا في البيت" (¬4). وعن جابر -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإِن فَضَل شيء فلأهلك، فإِن فَضَل عن أهلك شيء فلذي قرابتك" (¬5). وجاء في "الروضة الندية" (2/ 79): "والواجب الأصلي هو المعاشرة بالمعروف، وبيّنها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرزق والكسوة وحُسن المعاملة، ولا يمكن في الشرائع المستندة إِلى الوحي أن يُعيّن جنس القوت وقدره مثلاً، فإِنه لا يكاد يتفق أهل الأرض على شيء واحد، ولذلك إِنما أمر أمراً مطلقاً". وجاء في "السيل الجرّار": "ثبت الإِجماع على وجوب نفقة الزوجات على ¬

_ (¬1) أي: غير شاق. "النهاية". (¬2) أخرجه مسلم: 1218. (¬3) أخرجه البخاري: 7180، ومسلم: 1714. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1875)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1500)، وانظر "الإِرواء" (2033). (¬5) أخرجه مسلم: 997.

ماذا إذا كان الزوج بخيلا؟

الأزواج، ولم يَرِد في ذلك خلاف". ماذا إِذا كان الزوج بخيلاً؟ للزوجة أن تطلب فرض نفقةٍ لها ولأبنائها؛ مما تحتاجه من طعام أو كِسوة أو مسكن أو نحو ذلك. ولها حين يقصّر الزوج أن تأخذ من ماله ما يكفيها بالمعروف -من غير إِسراف ولا مخيلة-، وإن لم يعلم بذلك. عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنّ هنداً قالت للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنّ أبا سفيان رجل شحيح؛ فأحتاج أن آخذ من ماله؟ قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف" (¬1). قال النووي -رحمه الله- في "شرحه" (12/ 7، 8): "في هذا الحديث فوائد: منها: وجوب نفقة الزوجة. ومنها: وجوب نفقة الأولاد الفقراء الصغار. ومنها: أن النفقة مقدرة بالكفاية ... قال أصحابنا: إِذا امتنع الأب من الإِنفاق على الولد الصغير، أو كان غائباً؛ أذِن القاضي لأمّه في الأخذ من آل الأب، أو الاستقراض عليه والإِنفاق على الصغير؛ بشرط أهليتها. وهل لها الاستقلال بالأخذ من ماله بغير إِذْن القاضي؟ فيه وجهان مبنيان على وجهين لأصحابنا؛ في أنّ إِذْن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند امرأة أبي سفيان كان إِفتاءً أم قضاءً؟ والأصح أنه كان إِفتاءً، وأن هذا يجري في كل امرأة أشبهتها، فيجوز. والثاني: كان قضاءً، فلا يجوز لغيرها إِلا بإِذن القاضي. والله أعلم". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 7180، ومسلم: 1714، وتقدّم غير بعيد.

نفقة زوجة الغائب:

قلت: والقول: إنه إِفتاء أصحّ. وعلى افتراض أنه كان قضاءً؛ فلا ينفي أن يكون ذلك إِفتاءً لمن احتاج إِلى الإِفتاء، وقضاءً لمن احتاج إِلى القضاء، فمقتضى الفقه أن يستفاد منه في الإِفتاء والقضاء. وليست كل امرأةٍ بمستطيعة أن تشكو إِلى القاضي، إذ ربما يؤدي ذلك إِلى مفاسد أخرى، والله -تعالى- أعلم. ويُشترط الرُشد في المرأة؛ لأخْذ النفقة من الزوج بغير علمه، قال الله -تعالى-: {ولا تُؤتوا السفهاء أموالكم} (¬1). نفقة زوجة الغائب: وإذا غاب الرجال عن النّساء؛ لم تسقط عنهم النفقة. فعن ابن عمر أنّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-: "كتب إِلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم يأمرهم أن ينفقوا أو يُطلّقوا، فإِنْ طلّقوا بعثوا بنفقة ما مضى". قال ابن المنذر: ثبت ذلك عن عمر (¬2). جاء قي "السيل الجرّار" (2/ 256): "أقول: قد أمَر الله -سبحانه- بإِحسان عِشرة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوجات فقال: {وعاشِرُوهُنّ بِالمَعْرُوف} (¬3)، ونهى عن إِمساكهن ضراراً فقال: {ولا تمسكوهنّ ضراراً} (¬4)، وأمَر بالإِمساك بالمعروف أو ¬

_ (¬1) النساء: 5. (¬2) أخرجه الشافعي، وعنه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2159). (¬3) النساء: 19. (¬4) البقرة: 231.

التسريح بإِحسان فقال: {فإِمساك بمعروف أو تسريح بإِحسان} (¬1)، ونهى عن مضارتهن فقال: {ولا تُضَاروُّهنّ} (¬2). فالغائب إِن حصل مع زوجته التضرّر بغيبته جاز لها أن ترفع أمرها إِلى حُكّام الشريعة، وعليهم أن يخلِّصوها من هذا الضرار البالغ. هذا على تقدير أنّ الغائب تَرَك لها ما يقوم بنفقتها، وأنها لم تتضرر من هذه الحيثية، بل من حيثية كونها لا مزوجة ولا أيمّة. أمّا إِذا كانت متضررة بعدم وجود ما تستنفقه مما تركه الغائب؛ فالفسخ بذلك على انفراده جائز ولو كان حاضراً؛ فضلاً عن أن يكون غائباً، وهذه الآيات التي ذكَرناها وغيرها تدل على ذلك. فإِن قلت: هل تعتبر مدة مقدرة في غيبة الغائب؟ قلت: لا؛ بل مجرد حصول التضرر من المرأة مُسوِّغ للفسخ بعد الإِعذار إِلى الزوج؛ إِن كان في محلٍّ معروف، لا إِذا كان لا يعرف مستقره، فإِنه يجوز للحاكم أن يفسخ النكاح بمجرد حصول التضرر من المرأة، ولكن إِذا كان قد ترك الغائب ما يقوم بما تحتاج إِليه، ولم يكن التضرر منها إِلا لأمر غير النفقة ونحوها؛ فينبغي توقيفها مدة، يخبر مَنْ له عدالة من النساء؛ بأن المرأة تتضرر بالزيادة على تلك المدة. وأمّا إِذا لم يترك لها ما تحتاج إِليه؛ فالمسارعة إِلى تخليصها، وفكِّ أسْرها ودفْع الضرار عنها واجب. ثمّ إِذا تزوجت بآخر؛ فقد صارت زوجته، وإِنْ عاد الأول فلا يعود نكاحه؛ بل قد بطل بالفسخ". ¬

_ (¬1) البقرة: 229. (¬2) الطلاق: 6.

نفقة المعتدة:

نفقة المعتدة (¬1): للمعتدّة الرجعيَّة النفقة؛ لقول الله -تعالى-: {أسْكِنُوهُنّ من حَيثُ سَكَنْتم مِن وُجدكم} (¬2) -والسياق في الطلاق الرجعي-. وكذلك للمعتدّة الحامل النفقة لقول الله -تعالى- فيهنّ: {وإِن كُنّ أولات حملٍ فأنفقوا عليهنّ حتى يضعن حملهنّ} (¬3). *وهذه الآية تدلّ على أنّ وجوب النفقة للحامل؛ سواءٌ أكانت في عدّة الطلاق الرجعي أم البائن، أم كانت عدتها عدّة وفاة* (¬4). وقد اختلف العلماء في شأن النفقة والسُّكنى إِذا لم تكن حاملاً. والراجح أنه لا نفقة لها ولا سكنى. فعن الشعبي قال: "دخلتُ على فاطمة بنت قيس، فسألتها عن قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها؟ فقالت: طلَّقها زوجها البتة، فقالت: فخاصمتُه إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السكنى والنّفقة، قالت: فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتدّ في بيت ابن أم مكتوم" (¬5). وفي رواية: "إِنما النفقة والسكنى للمرأة إِذا كان لزوجها عليها رجعة" (¬6). ¬

_ (¬1) وسيأتي التفصيل -إن شاء الله- في "كتاب الطلاق". (¬2) الطلاق: 6. (¬3) الطلاق: 6. (¬4) ما بين نجمتين عن "فقه السّنّة" (2/ 505). (¬5) أخرجه مسلم: 1480، وأصله في البخاري: 5323، 5324. (¬6) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (3186)، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (4/ 288): "المطلقة ثلاثاً لا سكن لها ولا نفقة ... ". وذكَر الحديث.

لا تنتهك المرأة شيئا من مالها الا بإذن زوجها:

وعنها كذلك: أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: "لا نفقة لك إِلا أن تكوني حاملاً" (¬1). لا تنتهك المرأة شيئاً من مالها الا بإِذن زوجها: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يجوز لامرأة عطيّةٌ في مالها إِلا بإذن زوجها" (¬2). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس للمرأة أن تنتهك شيئاً من مالها إِلا بإِذن زوجها" (¬3). قال شيخنا -رحمه الله- عقب هذا الحديث: "وهذا الحديث -وما أشرنا إِليه ممّا في معناه- يدل على أنّ المرأة لا يجوز لها أن تتصرف بمالها الخاص بها إِلا بإِذن زوجها، وذلك من تمام القوامة التي جعلها ربنا -تبارك وتعالى- له عليها، ولكن لا ينبغي للزوج -إِذا كان مسلماً صادقاً- أن يستغل هذا الحكم؛ فيتجبر على زوجته، ويمنعها من التصرف في مالها فيما لا ضير عليهما منه. وما أشبهَ هذا الحقَّ بحق وليّ البنت التي لا يجوز لها أن تُزوّج نفسها بدون إِذن وليها، فإِذا أعضلها رفعت الأمر إِلى القاضي الشرعي لينصفها، وكذلك الحكم في مال المرأة إِذا جار عليها زوجها؛ فمنعها من التصرف المشروع في مالها؛ فالقاضي ينصفها أيضاً. فلا إِشكال على الحكم نفسه، وإِنما الإِشكال في سوء التصرّف به. فتأمّل". متى يستحبّ البناء بالنساء (¬4)؟ عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2005) وغيره، وانظر "الإِرواء" (2160). (¬2) أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وانظر "الصحيحة" (825). (¬3) أخرجه الطبراني، وابن عساكر وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (775). (¬4) هذا العنوان من "سنن ابن ماجه".

موعظة الرجل ابنته لحال زواجها:

شوال، وبنى بي في شوال. فأيُّ نساء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أحظى عنده منّي؟ قال: وكانت عائشة تستحب أن تُدخل نساءها في شوال" (¬1). موعظةُ الرّجلِ ابْنَتَهُ لِحَالِ زَوَاجها (¬2): فيه حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- الطويل وفيه: " ... فنزلتُ فدخلت [أي: عمر -رضي الله عنه-] على حفصة، فقلت لها. أي حفصةُ! أتغاضِب إِحداكنّ النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم، فقلت: قد خبتِ وخسرتِ، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "؛ فَتَهْلَكِي؟ لا تستكثري النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لكِ، ولا يغرنّك أن كانت جارتك أَوْضَأَ منك، وأحبَّ إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يريد عائشهّ-" (¬3). ذهاب النّساء والصبيان إِلى العُرس (¬4): عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "أبصر النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءً وصبياناً مُقبلين من عُرس، فقام مُمْتنّاً (¬5)، فقال: اللهمّ أنتم من أحبّ النّاس إِليّ" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1423. (¬2) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب النكاح) "باب - 83". (¬3) أخرجه البخاري: 5191، ومسلم: 1479. (¬4) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب النكاح) "باب - 75". (¬5) أي: قام قياماً قويّاً، مأخوذ من المُنّة -بضمّ الميم- وهي القوّة؛ أي: قام إِليهم مسرعاً مشتداً في ذلك، فرحاً بهم. "فتح". (¬6) أخرجه البخاري: 5180، ومسلم: 2508.

استعارة الثياب للعروس:

استعارة الثياب للعروس (¬1): عن عائشة -رضي الله عنها-، "أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فأرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناسًا من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة، فصلَّوا بغير وضوء، فلما أتوا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ شّكَوا ذلك إِليه، فنزلت آية التيمم. فقال أُسيد بن حُضَير: جزاكِ الله خيراً، فوالله ما نزل بكِ أمرٌ قطُّ إِلا جعل الله لكِ منه مخرجاً، وجعل للمسلمين فيه بركة" (¬2). الهديّة للعروس (¬3): عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عروساً بزينب، فقالت لي أمُّ سُليم: لو أهدَينا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هدية، فقلت لها: افعلي. فعَمَدَتْ إِلى تمر وسمن وأَقِطٍ، فاتخذت حَيْسة في بُرْمة (¬4)، فأرسلت بها معي إِليه، فانطلقت بها إِليه، فقال لي: ضعها، ثمّ أمرني فقال: ادعُ لي رجالاً -سمّاهم- وادعُ من لَقِيتَ، قال: ففعلت الذي أمرني ... " (¬5). ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب النكاح) "باب - 65". (¬2) أخرجه البخاري: 5164، ومسلم: 367. (¬3) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب النكاح) (باب-64). (¬4) البُرمة: قِدر من الحجارة. "المحيط". (¬5) أخرجه البخاري: 5163، ومسلم: 1428.

آداب الزفاف

آداب الزِّفاف (¬1) 1 - ملاطفة الزوجة عند البناء بها: يُستحبّ له إِذا دخَل على زوجته أن يلاطفها، كأنْ يقدّم إليها شيئاً من الشراب ونحوه؛ لحديث أسماء بنت يزيد بن السكن، قالت: "إِنّي قَيَّنت (¬2) عائشة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ جئته، فدعوته لجلوتها (¬3)، فجاء فجلَس إِلى جنبها، فأُتي بعُسّ (¬4) لبن، فشرب، ثمّ ناوَلها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخفضَت رأسها واستحيت. قالت أسماء: فانتهرتها، وقلت لها: خذي من يد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: فأخذَت، فشربَتْ شيئاً، ثمّ قال لها النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أعطي تِرْبَكِ (¬5) " (¬6). 2 - وضْعُ اليدِ على رأس الزوجة والدعاءُ لها: وينبغي أن يضع يده على مقدّمة رأسها عند البناء بها -أو قبل ذلك-، وأن يسميَ الله -تبارك وتعالى-، ويدعو بالبركة، ويقول ما جاء في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا تزوج أحدكم امرأة، أو اشترى خادماً، [فليأخُذ بناصيتها] (¬7)، [وليُسَمِّ الله -عزّ ¬

_ (¬1) عن "آداب الزفاف" -بتصرُّف- لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (¬2) أي: زيّنْتُها لزفافها. (¬3) أي: حتى يراها -عليه الصلاة والسلام- مجلوّة؛ أي: مكشوفة. (¬4) العُسّ: القَدح الكبير. (¬5) التِّرب: المماثل في السنّ، وأكثر ما يُستعمَل في المؤنث. "الوسيط". (¬6) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "آداب الزفاف" (ص 92). (¬7) أي: مقدّم رأسها.

3 - صلاة الزوجين معا:

وجلّ-]، [وليدْعُ بالبركة]، وليقل: اللهم إِني أسألك من خيرها وخير ما جَبَلتها (¬1) عليه، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما جَبلْتَها عليه" (¬2). 3 - صلاة الزوجين معاً: ويُستحبّ لهما أن يُصلّيا ركعتين معاً، لأنّه منقولٌ عن السلف، وفيه أثران: الأول: عن أبي سعيد مولى أبي أسيد قال: "تزوجتُ وأنا مملوك، فدعوتُ نفراً من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فيهم ابن مسعود وأبو ذرّ وحذيفة-، قال: وأقيمت الصلاة، قال: فذهب أبو ذرّ ليتقدّم، فقالوا: إِليك! قال: أوَكَذَلك؟! قالوا: نعم (¬3)، قال: فتقدمت بهم وأنا عبد مملوك، وعلَّموني فقالوا: إِذا دخَل عليك أهلك؛ فصلّ ركعتين، ثمّ سل الله من خير ما دخل عليك، وتعوَّذ به من شرِّه، ثمّ شأنَك وشأنَ أهلك" (¬4). الثاني: عن شقيق قال: "جاء رجل يقال له: أبو حريز، فقال: إِني تزوجتُ جارية شابّة [بكراً]، وإني أخاف أن تَفْرَكَنِي (¬5)! فقال عبد الله (يعني: ابن ¬

_ (¬1) أي: خَلْقتها وطبَعْتها عليه من الأخلاق. "عون المعبود" (6/ 139). (¬2) أخرجه البخاري في "أفعال العباد"، وأبو داود، وابن ماجه وغيرهم، وانظر "آداب الزفاف" (ص 93). (¬3) قال شيخنا -رحمه الله-: "يُشيرون بذلك إِلى أنّ الزائر لا يؤمّ المزور في بيته إِلا أن يأذَن له، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولا يُؤَمُّ الرجل في بيته ولا في سلطانه". أخرجه مسلم وأبو عوانة في "صحيحيهما"، وهو في "صحيح أبي داود" (594) ". (¬4) أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف"، وعبد الرزاق، وانظر "آداب الزفاف" (ص 94). (¬5) أي: تبغضني.

4 - ما يقول حين يجامعها:

مسعود): إِنّ الإِلْفَ من الله، والفِرْكَ من الشيطان، يريد أن يكرّه إِليكم ما أحل الله لكم؛ فإِذا أتتك فَأْمُرها أن تصلي وراءك ركعتين -زاد في رواية أخرى عن ابن مسعود-، وقل: اللهم بارِك لي في أهلي، وبارِك لهم فيَّ، اللهم اجمع بيننا ما جمعت بخير؛ وفرِّق بيننا إِذا فرَّقتَ إلى خير" (¬1). 4 - ما يقول حين يجامعها: وينبغي أن يقول حين يأتي أهله: "بسم الله، اللهمّ جنّبنا الشيطان، وجنِّب الشيطان ما رَزَقْتَنَا". عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو أنّ أحدكم إِذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهمّ جنّبنا الشيطان، وجنِّب الشيطان ما رَزَقْتَنَا، فقُضي بينهما ولد لم يَضُرَّه" (¬2). 5 - كيف يأتيها؟ ويجوز له أن يأتيها في قُبُلها من أيِّ جهةٍ شاء، مِن خَلْفها أو من أمامها، لقول الله -تبارك وتعالى-: {نِسَاؤُكم حَرثٌ لكم فَأتُوا حَرْثَكُم أنّى شِئْتُم}، أي: كيف شئتم؛ مُقبلة ومدبرة. عن جابر -رضي الله عنه- قال: "كانت اليهود تقول: إِذا أتى الرجل امرأته من دُبُرها في قُبُلها؛ كان الولد أحول! فنزلت {نِسَاؤُكُم حَرثٌ لكم فَأتُوا حَرْثَكُم أنّى شِئْتُم}، [فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مقبلة ومدبرة؛ إِذا كان ذلك في ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق في "المصنف"، وانظر "آداب الزفاف" (ص 96). (¬2) أخرجه البخاري: 141، ومسلم: 1434.

6 - تحريم الدبر:

الفرج] " (¬1). جاء في "سبل السلام" (3/ 265): "فأباح موضع الحرث، والمطلوب من الحرث نبات الزرع، فكذلك النساء؛ الغرض من إِتيانهن هو طلب النسل؛ لا قضاء الشهوة [فحسب]، وهو لا يكون إِلا في القبل، فيحرم ما عدا موضع الحرث، ولا يقاس عليه غيره؛ لعدم المشابهة في كونه محلاً للزرع، وأمّا حل الاستمتاع فيما عدا الفرج؛ فمأخوذ من دليل آخر، وهو جواز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج ... ". 6 - تحريم الدُّبُر: ويحرم عليه أن يأتيها في دُبُرها؛ لمفهوم الآية السابقة: {نسَاؤُكُم حَرثٌ لكم فَأتُوا حَرْثَكُم أنّى شِئْتُم}، ولما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "جاء عمر بن الخطاب إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! هلَكتُ! قال: وما الذي أهلكَك؟ قال: حولتُ رحْلي الليلة (¬2)، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً، فأُوحِي إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الآية: {نِسَاؤُكُم حَرثٌ لكم فَأتُوا حَرْثَكُم أنّى شِئتُم}، يقول: أقْبِلْ وأدْبر، واتق الدُّبُر والحيضة" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4528، ومسلم: 1435، واللفظ له، والزيادة لابن أبي حاتم، وانظر "آداب الزفاف" (ص 99). (¬2) جاء في "النهاية: "كنّى برَحله عن زوجته، أراد به غِشْيانها في قُبُلها من جهة ظهرها ... ". (¬3) أخرجه النسائي في "العِشْرة"، والترمذي -وحسّنه- وغيرهما، وانظر "آداب الزفاف" (ص 103).

لا كراهة في الكلام حال الجماع:

لا كراهة في الكلام حال الجماع: جاء في "الروضة الندية" (2/ 83): "وأمّا الكلام حال الجماع؛ فقد استدل بعض أهل العلم على كراهة الكلام حال الجماع، بالقياس على كراهته حال قضاء الحاجة، فإِنْ كان ذلك بجامع الاستخباث؛ فباطل؛ فإِنّ حالة الجماع حالة مُستلذَّة، لا حالة مُستخبثة، وفي المكالمة -حَالَتَهُ- نوع من إِحسان العشرة؛ بل فيه لذة ظاهرة؛ كما قال بعض الشعراء: وَيُعْجِبُنِي مِنْكِ حَالَ الجِمَاعِ ... لِينُ الكَلامِ وَضَعْفُ النَّظَرْ وإِنْ كان الجامع شيئاً آخر؛ فما هو؛ فإِنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد شرع الملاعبة والمداعبة، ووقتُ الجماع أولى بذلك من غيره". 7 - الوضوء بين الجماعين: وإِذا أرادَ أن يعود إِليها توضّأ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أتى أحدُكم أهلَه، ثمّ أراد أن يعود، فليتوضأ" (¬1). وفي رواية: "فإِنه أنشط في العَوْدِ" (¬2). 8 - الغُسل أفضل: لكن الغسل أفضل من الوضوء؛ لحديث أبي رافع -رضي الله عنه-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف ذاتَ يوم على نسائه، يغتسل عند هذه وعند هذه، قال: فقلت له: يا رسول الله! ألا تجعله غُسلاً واحداً؟ قال: هذا أزكى وأطيب وأطهر" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 308. (¬2) انظر "آداب الزفاف" (ص 107). (¬3) أخرجه أبو داود، والنسائي في "عشرة النساء" وغيرهما، وانظر "آداب الزفاف" (ص 108).

9 - اغتسال الزوجين معا:

9 - اغتسال الزوجين معاً: ويجوز لهما أن يغتسلا معاً في مكان واحد، ولو رأى منها ورأت منه. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إِناء بيني وبينه واحد، فيبادرني حتى أقول: دَعْ لي، دَعْ لي، قالت: وهما جُنُبان" (¬1). وعن معاوية بن حيدة -رضي الله عنه- قال: "قلتُ: يا رسول الله! عوراتنا؛ ما نأتي منها وما نذَر؟ قال: احفظ عورتك؛ إِلا من زوجتك أو ما ملكَت يمينك" (¬2). وجاء في "السلسلة الضعيفة" (¬3) -بعد حديث موضوع يمنع النظر إِلى فرج الزوجة-: "والنظر الصحيح يدل على بطلان هذا الحديث، فإِن تحريم النظر بالنسبة للجماع: من باب تحريم الوسائل، فإِذا أباح الله -تعالى- للزوج أن يجامع زوجه، فهل يُعقل أن يمنعه من النظر إِلى فرجها؟! اللهم لا. ويؤيد هذا من النقل حديث عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إِناءٍ بيني وبينه واحد، فيُبادرني؛ حتى أقول: دَع لي، دَع لي". أخرجه الشيخان وغيرهما. فإِن الظاهر من هذا الحديث جواز النظر، ويؤيده رواية ابن حبان من طريق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 250، ومسلم: 321 واللفظ له. (¬2) أخرجه أصحاب السنن إِلا النسائي، وانظر "آداب الزفاف" (ص 112). (¬3) برقم (195) بلفظ: "إِذا جامع أحدكم زوجته أو جاريته؛ فلا ينظر إِلى فرجها، فإنّ ذلك يورث العمى".

10 - توضؤ الجنب قبل النوم:

سليمان بن موسى: أنه سُئِل عن الرجل ينظر إِلى فرج امرأته؟ فقال: سألت عطاءً؟ فقال: سألت عائشة؟ ... فذكرت هذا الحديث بمعناه. وهو نص في جواز نظر الرجل إِلى عورة امرأته -وعَكْسِهِ- وإذا تبيّن هذا؛ فلا فرق حينئذ بين النظر عند الاغتسال أو الجماع، فثبت بطلان الحديث". 10 - توضُّؤ الجُنُب قبل النوم: ولا ينامان جُنُبين إِلا إِذا توضآ؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا أراد أن ينام وهو جُنُب؛ غَسَل فرجه، وتوضأ [وضوءه] للصلاة" (¬1). 11 - حُكم هذا الوضوء: وليس ذلك على الوجوب، وإنما للاستحباب المؤكّد، لحديث عمر: "أنه سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أينام أحدنا وهو جُنُب؟ فقال: نعم، ويتوضأ إِنْ شاء" (¬2). ويؤيده حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينام وهو جُنُب من غير أن يمس ماءً؛ [حتى يقوم بعد ذلك فيغتسل] " (¬3). 12 - تيمُّم الجُنُب بدل الوضوء: ويجوز لهما التيمم بدل الوضوء أحياناً؛ لحديث عائشة قالت: "كان رسول ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 288، ومسلم: 305 والزيادة له. (¬2) أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" عن شيخه ابن خزيمة -رحمهما الله تعالى-، وانظر "آداب الزفاف" (ص 115). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، وأَصحاب "السنن" إلاَّ النسائي، وانظر "آداب الزفاف" (116).

13 - اغتساله قبل النوم أفضل:

الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أجنب فأراد أن ينام، توضأ أو تيمّم" (¬1). 13 - اغتساله قبل النوم أفضل: واغتسالهما أفضل؛ لحديث عبد الله بن قيس قال: "سألتُ عائشة قلت: كيف كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع في الجنابة؟ أكان يغتسل قبل أن ينام، أم ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كلَّ ذلك قد كان يفعل، ربما اغتسل فنام، وربما توضأ فنام. قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سَعة" (¬2). 14 - تحريم إِتيان الحائض: ويحرُم عليه أن يأتيها في حيضها؛ لقوله -تبارك وتعالى-. {ويسألونك عن المحيض قُل هو أذىً فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتى يطهرن فإِذا تطهّرن فأتوهن من حيث أمركم الله إِنّ الله يحبّ التوابين ويحبّ المتطهرين} (¬3). ومن الأحاديث الدالّة على ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أتى حائضاً، أو امرأة في دُبُرها، أو كاهناً؛ فصدَّقه بما يقول، فقد كفَر بما أُنزل على محمد" (¬4). 15 - ما يحِلّ له من الحائض: ويجوز له أن يتمتّع بما دون الفرج من الحائض، ومن الأدلة على ذلك: ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي، وحسنه الحافظ في "الفتح"، وانظر "آداب الزفاف" (ص 118). (¬2) أخرجه مسلم: 307. (¬3) البقرة: 222. (¬4) أخرجه أصحاب "السنن" وغيرهم، وانظر "آداب الزفاف" (ص 121).

16 - ولا يأتيها بعد الطهر إلا أن تغتسل:

قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... اصنعوا كلّ شيء إِلا النكاح (¬1) " (¬2). وعن بعض أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: "إِنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا أراد من الحائض شيئاً؛ ألقى على فرجها ثوباً؛ [ثمّ صنع ما أراد] " (¬3). 16 - ولا يأتيها بعد الطُّهر إِلا أن تغتسل: قال الله -تعالى-: {فإِذا تطهّرن فأتوهنّ من حيثُ أمَركم الله} (¬4). وقد فصّلتُ القول في هذه المسألة من كتابي هذا: "الموسوعة" (1/ 276). 17 - جواز العزل: ويجوز له أن يعزل عنها ماءَه. عن جابر -رضي الله عنه- قال: "كنّا نعزل والقرآن ينزل" (¬5). وفي رواية: "كنّا نعزِل على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبلَغ ذلك نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يَنْهَنا" (¬6). 18 - الأوْلى ترْك العزل: ولكن ترْكه أولى لأمور: ¬

_ (¬1) أي: الجماع. (¬2) أخرجه مسلم: 302. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (242)، وانظر "آداب الزفاف" (125). (¬4) البقرة: 222. (¬5) أخرجه البخاري: 5209، ومسلم: 1440. (¬6) أخرجه مسلم: 1440.

الأول: أنّ فيه إِدخالَ ضررٍ على المرأة لما فيه من تفويت لذتها (¬1). فإِنْ وافقَت عليه (¬2)؛ ففيه ما يأتي، وهو: الثاني: أنه يُفوِّت بعض مقاصد النكاح، وهو تكثير نَسْل أمّة نبيِّنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تزوَّجوا الودود الولود، فإِني مُكاثِرٌ بكم الأم (¬3) " (¬4). ولذلك وصَفَه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالوأد الخفي حين سألوه عن العزل. عن جُذَامة بنت وهب قالت: "حضرتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أناس سألوه عن العزل؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذلك الوأد الخفي" (¬5). ولهذا أشار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى أن الأوْلى تركه في حديث أبي سعيد الخدري أيضاً، قال: "ذُكر العزل عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ولِمَ يفعل ذلك أحدكم؟! -ولَمْ يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم-؛ فإِنه ليست نفس مخلوقة إِلا الله خالقها". ¬

_ (¬1) قال شيخنا -رحمه الله-: "ذكَره الحافظ في "الفتح" ... ". (¬2) وقد رأيت هذا موافقاً لكلام شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (32/ 108): "وأمّا العزل فقد حرمه طائفة من العلماء؛ لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز بإِذن المرأة، والله أعلم". (¬3) مُكاثِر بكم الأم؛ أي: مُفاخِر بسببكم سائر الأمم؛ لكثرة أتباعي. "عون المعبود" (6/ 34). (¬4) أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي وغيرهم، وانظر "آداب الزفاف" (ص 132). (¬5) أخرجه مسلم: 1442.

19 - ما ينويان بالنكاح:

وفي رواية: "فقال لنا: وإِنكم لتفعلون، وإنكم لتفعلون، وإنكم لتفعلون؟ ما مِن نسمة كائنةٍ إِلى يوم القيامة، إِلا وهي كائنة" (¬1). انتهى كلام شيخنا -رحمه الله-. وانظر للمزيد -إِن شئت- ما قاله العلامة ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (5/ 14). وقال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (4/ 385): "كراهة تحديد النسل أو تنظيمه والنهي عن الرهبانية"؛ ثم ذكر الحديث (1872): "تزوّجوا فإِني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ولا تكونوا كرهبانية النصارى". جاء في "الروضة الندية" (2/ 85): "قال في "المُسَوَّى": اختلف أهل العلم في العزل، فرخّص فيه غير واحد من الصحابة والتابعين، وكرهه جمع منهم، ولا شكّ أنّ تركه أولى". 19 - ما ينويان بالنكاح: وينبغي لهما أن ينويا بنكاحهما إعفاف نفسَيْهما، وإحصانهما من الوقوع فيما حرّم الله عليهما، فإِنه تكتب مباضعتهما صدقة لهما، لحديث أبي ذر -رضي الله عنه-: "أنّ ناساً من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور (¬2) بالأُجور، يصلّون كما نُصلّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفُضول أموالهم! قال: أوَلَيْسَ قد جعل الله لكم ما تصّدّقون؟ إِنّ بكلّ تسبيحةٍ صدقة، وكلّ تكبيرة صدقة، وكُلّ تحميدةٍ صدقة، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5210، ومسلم: 1438 واللفظ له. (¬2) جمع دَثْر، وهو المال الكثير. "النهاية".

20 - ما يفعل صبيحة بنائه:

وكلّ تهليلةٍ صدقة، وأمْرٌ بالمعروف صدقة، ونهْيٌ عن منكر صدقة، وفي بُضع أحدكم (¬1) صدقة. قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام؛ أكان عليه فيها وِزر؟ فكذلك إِذا وضَعَها في الحلال؛ كان له أجراً" (¬2). 20 - ما يفعل صبيحةَ بنائه: ويُستحب له صبيحةَ بنائه بأهله؛ أن يأتي أقاربه الذي أتوه في داره، ويُسلّم عليهم، ويدعو لهم، وأن يُقابِلوه بالمِثل؛ لحديث أنس -رضي الله عنه- قال: "أَوْلَم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذ بنى بزينب، فأشبع المسلمين خُبزاً ولحماً، ثمّ خرَج إِلى أُمّهات المؤمنين فسلّم عليهنّ، ودعا لهنّ، وسلّمن عليه ودعَون له، فكان يفعل ذلك صبيحة بنائه" (¬3). 21 - تحريم نشْر أسرار الاستمتاع: ويحرُم على كلٍّ منهما أن ينشر الأسرار المتعلقة بالوقاع، فعن أسماء بنت يزيد -رضي الله عنها-: "أنها كانت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والرجال والنساء قعود، فقال: لعلّ رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعلّ امرأة تُخبِر بما فعَلَت مع زوجها؟! فأرَمّ القوم (¬4)، فقلت: إِي والله يا رسول الله! إِنهن ليفعلن، وإنهم ¬

_ (¬1) بُضع أَحدكم: البُضع: يُطلق على الجماع، ويُطلق على الفرج نفسه، وكلاهما تصحّ إِرادته هنا. قاله النّووي -رحمه الله-. (¬2) أخرجه مسلم: 1006. (¬3) أخرجه ابن سعد، والنسائي في "الوليمة"، وانظر "آداب الزفاف" (ص 139). (¬4) أرمّ القوم، أي: سكتوا ولم يجيبوا. "النهاية".

ليفعلون، قال: فلا تفعلوا، فإِنّما ذلك مَثَلُ الشيطان لقي شيطانة في طريق، فغَشِيَها والناس ينظرون" (¬1). قلت: أمّا إِذا كانت هناك حاجة أو ضرورة للتحدُّث بشيء من ذلك؛ فلا حرج. عن عكرمة: "أنّ رِفاعة طلّق امرأته، فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير القُرَظي، قالت عائشة: وعليها خمارٌ أخضر، فشكت إِليها، وأرتها خُضرةً بجِلدها، فلما جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -والنساء ينصر بعضهنّ بعضاً- قالت عائشة: ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات، لَجِلْدُها أشدُّ خُضْرَةً من ثوبها! قال: وسمع أنها قد أتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجاء ومعه ابنان له من غيرها، قالت: والله ما لي إِليه من ذنب، إِلا أنّ ما معه ليس بأغنى عني من هذه -وأخذت هُدبة (¬2) من ثوبها-! فقال: كذبت والله يا رسول الله! إِني لأنفضُها نفض الأديم (¬3)، ولكنها ناشزٌ تريد رِفاعة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإِن كان ذلك؛ لم تحلّي له -أو لم تصلحي له- حتى يذوق عُسَيلتك! قال: وأبصر معه ابنَين له فقال: بنوك هؤلاء؟ قال: نعم. قال: هذا الذي تزعمين ما تزعمين؟ فوالله لهم أشبه به من الغراب بالغراب" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وهو حسن أو صحيح بشواهده؛ وانظر "آداب الزفاف" (ص 144). (¬2) أرادت متاعَه، وأنّه رِخْو مثلُ طَرَف الثوب؛ لا يُغني عنها شيئاً. "النهاية". (¬3) أي: الجلد، قال الحافظ في "الفتح": "كناية بليغة من ذلك؛ لأنها أوقع في النفس من التّصريح، لأنّ الذي ينفض الأديم يحتاج إِلى قوة ساعد وملازمة طويلة". (¬4) أخرجه البخاري: 5825، ومسلم: 1433 نحوه.

22 - وجوب الوليمة:

22 - وجوب الوليمة: ولا بد له مِن وليمةٍ بعد الدخول؛ لأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبدَ الرحمن بن عوف بها كما تقدّم، ولحديث بُرَيْدة بن الحُصَيْب، قال: "لمّا خطَب عليٌّ فاطمة -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه لا بد للعُرْس (وفي رواية: للعروس) من وليمة" (¬1). انتهى كلام شيخنا -رحمه الله-. قال الإِمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 21) تحت المسألة (1823): "وفَرْضٌ على كلّ من تزوّج أن يولم بما قلّ أو كثُر ... " ثمّ ذكر الأدلّة على ذلك. 23 - السُّنة في الوليمة: وينبغي أن يلاحظ فيها أموراً: الأول: أن تكون ثلاثة أيام عَقِب الدخول، لأنه هو المنقول عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "بنى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بامرأة، فأرسَلَني، فدعوت رجالاً على الطعام" (¬2). وعنه قال: "تزوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفية، وجعل عتْقها صداقها، وجعَل الوليمة ثلاثة أيام" (¬3). الثاني: أن يدعو الصالحين إِليها، فقراءَ كانوا أو أغنياءَ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والطبراني وغيرهما، وانظر "آداب الزفاف" (144). (¬2) أخرجه البخاري: 5170. (¬3) أخرجه أبو يعلى بسند حسن، كما قال الحافظ في "الفتح" (9/ 243)، وانظر "آداب الزفاف" (ص 146). وستأتي رواية البخاري -رحمه الله-، تحت (جواز الوليمة بغير لحم).

24 - جواز الوليمة بغير لحم:

تُصاحِبْ إِلا مؤمناً، ولا يأكل طعامَك إِلا تقيّ" (¬1). الثالث: أن يولم بشاة أو أكثر -إِن وجد سَعة-. عن أنس أيضاً قال: "ما رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولَم على امرأةٍ من نسائه ما أولَم على زينب؛ فإِنه ذبَح شاة، [قال: أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه] " (¬2). 24 - جواز الوليمة بغير لحم: ويجوز أن تُؤدّى الوليمة بأي طعامٍ تيسّر، ولو لم يكن فيه لحم، لحديث أنس -رضي الله عنه- قال: "أقام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين خيبر والمدينة ثلاثَ ليالٍ؛ يُبنى عليه بصفيّة، فدعوت المسلمين إِلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إِلا أنْ أمَر بلالاً بالأنطاع (¬3) فبُسطت (وفي رواية: فُحِصَت الأرض أفاحِيصَ (¬4)، وجيء بالأنطاع فوُضعت فيها)، فأُلقي عليها التمر والأقط والسمن [فشبع الناس] " (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (4045)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1952) وغيرهما. (¬2) أخرجه البخاري: 5168، ومسلم: 1428 واللفظ له مع الزيادة. (¬3) الأنطاع: جمع نِطع؛ وهو بساط من الجلد المدبوغ. (¬4) فُحِصَت الأرض أفاحيص؛ أي: كُشف التراب من أعلاها، وحُفرت شيئاً يسيراً ليُجعل الأنطاع في المحفور، ويُصبّ فيها السمن، فيثبتَ ولا يخرج من جوانبها". "النووي" (9/ 224). (¬5) أخرجه البخاري: 4213 وهذا لفظه، ومسلم: 1365 والرواية الأخرى والزيادة له.

25 - مشاركة الأغنياء بمالهم في الوليمة:

25 - مشاركة الأغنياء بمالهم في الوليمة: يُستحبّ أن يشارك ذوو الفضل والسَّعة في إعدادها؛ لحديث أنس في قصة زواجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصفية قال: "حتى إِذا كان بالطريق؛ جهَّزَتْها له أُمّ سليم، فأهدَتْها له من الليل، فأصبح النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عروساً (¬1)، فقال: من كان عنده شيء فَلْيَجِئْ به (وفي رواية: من كان عنده فضل زاد فليأتنا به)، قال: وبسط نِطعاً، فجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن، فحاسوا حَيْساً، فكانت وليمةَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬2). 26 - تحريم تخصيص الأغنياء بالدعوة: ولا يجوز أن يخصّ بالدعوة الأغنياء دون الفقراء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "شرّ الطعام طعام الوليمة، يُدعى لها الأغنياء، ويُمْنَعُهَا المساكين، ومن لم يُجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله" (¬3). 27 - وجوب إِجابة الدعوة: ويجب على من دُعي إِليها أن يحضرها. عن ابن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا دعي أحدكم إِلى الوليمة؛ فليأتها" (¬4). ¬

_ (¬1) جاء في "النهاية": "وفيه: فأصبح عروساً؛ يُقال للرجل؛ عَروس؛ كما يقال للمرأة، وهو اسم لهما عند دخول أحدهما بالآخر". (¬2) أخرجه البخاري: 371، ومسلم: 1365 والرواية له. (¬3) أخرجه البخاري: 5177، ومسلم: 1432. (¬4) أخرجه البخاري: 5173، ومسلم: 1429.

28 - ترك حضور الدعوة التي فيها معصية:

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه كان يقول: "من ترك الدعوة؛ فقد عصى الله ورسوله" (¬1). 28 - ترْك حضور الدعوة التي فيها معصية: ولا يجوز حضور الدعوة إِذا اشتملت على معصية، إِلا أن يقصد إِنكارها ومحاولة إِزالتها، فإِن أُزيلت؛ وإلا وجب الرجوع. عن علي قال: "صنعتُ طعاماً، فدعوتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجاء فرأى في البيت تصاوير، فرجع، [قال: فقلت: يا رسول الله! ما أرجعَك بأبي أنت وأمّي؟! قال: إِنّ في البيت ستراً فيه تصاوير، وإنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تصاوير] " (¬2). وفي الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يقعُدنّ على مائدة يُدار عليها الخمر" (¬3). وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو: "أنّ رجلاً صنَع له طعاماً، فدعاه، فقال: أفي البيت صورة؟ قال: نعم، فأبى أن يدخل حتى كسَر الصورة، ثمّ دخَل" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5177، ومسلم: 1432. (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2708)، وأبو يعلى في "مسنده" والزيادة له، وانظر "آداب الزفاف" (ص 161). (¬3) أخرجه أحمد، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2246)، وانظر "الإِرواء" (1949). (¬4) أخرجه البيهقي، وسنده صحيح، وانظر "آداب الزفاف" (ص 165).

29 - الدعاء للعروسين بالخير والبركة:

قال الإِمام الأوزاعي: "لا ندخل وليمة فيها طبل ولا مِعْزَافٌ" (¬1). انتهى كلام شيخنا -رحمه الله-. قال الإِمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 21) تحت المسألة (1824): " ... فإِن كان هنالك حرير مبسوط، أو كانت الدار مغصوبة، أو كان الطعام مغصوباً،. أو كان هنالك خمر ظاهر: فليرجع ولا يجلس .. "، ثمّ ذكر الأدلّة على ذلك. 29 - الدعاء للعروسين بالخير والبركة: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "هلك أبي، وترك سبع بنات -أو تسع بنات-، فتزوّجت امرأة ثيّباً، فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تزوجتَ يا جابر؟! فقلت: نعم، فقال: بكراً أم ثيّباً، قلت: بل ثيباً، قال: فهلا جاريةً تُلاعبها وتلاعبُك، وتُضاحكها وتُضاحكك؟! قال فقلت له: إِنّ عبد الله هلك وترك بنات، وإِني كرهتُ أن أجِيئهنّ بمِثلهن، فتزوجتُ امرأة تقوم عليهنّ وتُصلحهن، فقال: بارَك الله لك -أو خيراً-" (¬2). وفي حديث بريدة -رضي الله عنه-: " ... يا علي! إِنه لا بدّ للعروس من وليمة. فقال سعد؛ عندي كبش، وجمع له رهط من الأنصار أَصْوُعاً من ذُرَةٍ، فلمّا كانت ليلةُ البناءِ، قال: لا تُحْدِثْ شيئاً حتى تلقاني، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) أخرجه أبو الحسن الحربي في "الفوائد المنتقاة" بسند صحيح، وانظر "آداب الزفاف" (ص 166). (¬2) أخرجه البخاري: 5367، ومسلم: 715، وتقدّم.

30 - بالرفاء والبنين تهنئة الجاهلية:

بماء فتوضأ فيه، ثمّ أفرغَه على عليّ، فقال: اللهم بارِك فيهما، وبارِك لهما في بنائهما" (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "تزوّجني النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتتني أُمّي، فأدخَلتني الدار، فإِذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر" (¬2). وعن أبي هريرة: "أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا رفّأ (¬3) الإنسان إِذا تزوج، قال: بارك الله لك، وبارك الله عليك، وجمَع بينكما في (وفي رواية: على) خير" (¬4). 30 - بالرِّفاء (¬5) والبنين تهنئة الجاهلية: ولا يقول: "بالرِّفاء والبنين"، فإِنه مِنْ عمل الجاهلية، فعن عَقِيلِ بن أبي طالب: "أنه تزوج امرأة من بني جُشَمٍ، فقالوا: بالرِّفاء والبنين، فقال: لا تقولوا ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد والطبراني في "الكبير" بسند حسن، وانظر "آداب الزفاف" (ص 174). (¬2) أخرجه البخاري: 5156، ومسلم: 1422. (¬3) رفّأ: بتشديد الفاء وهمزة، وقد لا يُهمز؛ أي: هنّاه ودعا له. "عون المعبود" (6/ 117). (¬4) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1866)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (871) وغيرهم، وانظر "آداب الزفاف" (ص 175). (¬5) جاء في "سبل السلام" (3/ 216): "الرفاء؛ الموافقة وحسن المعاشرة، وهو من رفأ الثوب. وقيل: من رفوت الرجل: إِذا سكَّنت ما به من روع. فالمراد: إِذا دعا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمتزوج بالموافقة بينه وبين أهله وحسن العشرة بينهما، قال ذلك".

31 - الغناء والضرب بالدف:

هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم بارِك لهم وبارِك عليهم" (¬1). 31 - الغناء والضرب بالدُّفِّ: ويجوز له أن يسمح للنساء (¬2) في العرس يإِعلان النكاح بالضرب على الدفّ فقط، وبالغناء المباح الذي ليس فيه وصْف الجمال وذِكْر الفجور؛ فعن الرُّبيّع بنت مُعوِّذ قالت: "جاء النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخل حين بُني عليّ، فجلس على فراشي كمجلسك منّيّ (¬3)، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قُتل من آبائي يوم بدر، إِذ قالت إِحداهنّ: وفينا نبيٌّ يعلم ما في غد، فقال: دعي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين" (¬4). وعن عائشة: "أنها زَفَّتِ امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا عائشة! ما كان معكم لهو؟! فإنّ الأنصار يُعجبهم اللهو؟ " (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1547)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3156)، وانظر "آداب الزفاف" (ص 175). (¬2) قلت: قيده شيخنا -رحمه الله- في "غاية المرام" و"تحريم آلات الطرب" بأن يكون ذلك للبنات الصَّغِيرات دون البلوغ -وهن الجواري- لا البالغات من النساء. (¬3) الخطاب للراوي عنها، وقال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (9/ 203): "والذي وضح لنا بالأدلة القوية: أنّ منْ خصائص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إِليها، وهو الجواب الصحيح عن قصة أمّ حرام بنت مِلْحان في دخوله عديها، ونومه عندها، وتفليتها رأسه، ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية " (¬4) أخرجه البخاري: 5147. (¬5) أخرجه البخاري: 5162.

32 - الامتناع من مخالفة الشرع:

وفي رواية بلفظ: "فقال: فهل بعَثتم معها جارية تضرب بالدفّ وتُغنّي؟ قلت: تقول ماذا؟ قال: تقول: أتيناكم أتيناكمْ ... فحيّونا نحيّيكمْ ولولا الذهب الأحمـ ... ـر ما حلّت بواديكمْ ولولا الحنطة السمرا ... ء ما سَمِنَتْ عذاريكمْ" (¬1). وعن أبي بَلْجٍ يحيى بن سُلَيْمٍ قال: "قلت لمحمد بن حاطب: تزوجتُ امرأتين، ما كان في واحدة منهما صوت -يعني دفّاً-؟ فقال محمّد -رضي الله عنه-: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فصْل ما بين الحلال والحرام: الصوت بالدف" (¬2). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أعلنوا النكاح" (¬3). 32 - الامتناع من مخالفة الشرع: ويجب عليه أن يمتنع من كل ما فيه مخالفة للشرع، وخاصة ما اعتاده الناس في مِثل هذه المناسبة، حتى ظنّ كثير منهم -بسبب سكوت العلماء- أنْ لا بأس فيها. قال شيخنا -رحمه الله-: وأنا أنبّه هنا على أمور هامّة منها: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وحسّنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1995). (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (869)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1538)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3114) وغيرهم، وانظر "آداب الزفاف" (ص 183). (¬3) أخرجه ابن حبّان والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وغيرهما، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "آداب الزفاف" (ص 184).

1 - تعليق الصور:

1 - تعليق الصُّوَر: تعليق الصُّوَرِ على الجدران، سواء أكانت مُجسّمة، أو غير مجسّمة، لها ظِلّ، أو لا ظلّ لها، يدويّة أو فوتوغرافية، فإِن ذلك كله لا يجوز، ويجب على المستطيع نَزْعُها إِن لم يستطع تمزيقها، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخَل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وقد سترتُ سهوةً (¬1) لي بِقرامٍ (¬2) فيه تماثيل (وفي رواية: فيه الخيل ذوات الأجنحة)، فلمّا رآه هتَكَه، وتلوّن وجهه، وقال: يا عائشة! أشدّ الناس عذاباً عند الله يوم القيامة: الذين يضاهون بخلق الله (وفي رواية: إِنّ أصحاب هذه الصور يُعذّبون، ويقال لهم: أحيوا ما خلقْتُم، ثمّ قال: إِنّ البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة)! قالت عائشة: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين" (¬3). وعنها -رضي الله عنها- قالت: "حشوت للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسادة فيها تماثيل، كأنها نُمْرُقة (¬4)، فجاء فقام بين البابَيْنِ، وجعل يتغيَّرُ وجهه، فقالت: ما لنا يا رسول الله؟! قال: ما بالُ هذه؟ قلت: وسادة جعلتُها لك لتضطجع عليها، قال: أما علمتِ أنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة؟ وأنّ من صنع الصورة ¬

_ (¬1) السهوة: قال النووي -رحمه الله-: "قال الأصمعي: هي شبيهة بالرّف أو بالطاق يوضع عليه الشيء. قال أبو عبيد: وسمعت غير واحد من أهل اليمن يقولون: السهوة عندنا بيت صغير مُتحدّر في الأرض، وسُمْكه مرتفع من الأرض، يشبه الخزانة الصغيرة يكون فيها المتاع". (¬2) جاء في "النهاية": "القِرام: السِّتر الرقيق. وقيل: الصفيق ذي ألوان. وقيل: الستر الرقيق وراء الستر الغليظ". وانظر -للمزيد إن شئت- ما قاله الحافظ -رحمه الله- في "الفتح". (¬3) أخرجه البخاري: 5954، ومسلم: 2107 واللفظ له مع الروايتين. (¬4) النمرقة: الوسادة. "النهاية".

2 - نتف الحواجب وغيرها!

يُعذّب يوم القيامة، فيقول: أحيوا ما خلقتم" (¬1). وعن سعيد بن أبي الحسن قال: "كنت عند ابن عباس -رضي الله عنهما- إِذ أتاه رجل فقال: يا ابن عباس! إِني إِنسان إِنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التّصاوير، فقال ابن عباس: لا أُحدِّثك إِلا ما سمعت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سمعته يقول: من صوّر صورة؛ فإِنّ الله معذِّبه حتّى ينفخ فيها الرُّوح، وليس بنافخ فيها أبداً. فرَبا الرجل ربوة شديدة، واصفَرَّ وجهه، فقال: ويحك! إِن أبيْت إلاَّ أن تصنع؛ فعليك بهذا الشجر؛ كلِّ شيء ليس فيه روح" (¬2). 2 - نتف الحواجب وغيرها! ما تفعله بعض النسوة من نتفهن حواجبهن حتى تكون كالقوس أو الهلال، يفعلق ذلك تجمُّلاً بزعمهن! وهذا مما حرّمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولعَن فاعله بقوله: "لعَن الله الواشمات (¬3)، والمستوشمات (¬4)، والنامصات (¬5)، والمتنمصات (¬6)، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3224، ومسلم: 2107. (¬2) أخرجه البخاري: 2225، ومسلم: 2110. (¬3) الواشمة: هي التي تَشِم. والوشم: أن يُغرَز الجلد بإِبرة؛ ثمّ يحشى بكُحل أو نيل، فيزرقّ أثره أو يخضرّ. "النهاية". (¬4) المستوشمة: هي التي تطلب الوشم. (¬5) النامصة: هي التي تفعل النماص، والنماص: إِزالة شعر الوجه بالمنقاش، ويسمى المنقاش منماصاً لذلك. "فتح". قلت: ولا يختص النماص بالوجه؛ بل هو عام في جميع شعر الجسد، كما ذكره شيخنا -رحمه الله- في "آداب الزفاف" (202 - 204)، و" غاية المرام" (ص 97). (¬6) المتنمّصات: جمع متنمصة؛ وهي التي تطلب النّماص.

3 - تدميم الأظفار وإطالتها:

والمتفلجات (¬1) للحسن المغيرات خلق الله" (¬2). 3 - تدميم الأظفار وإِطالتها: وهذه العادة القبيحة الأخرى التي تسرّبت من فاجرات أوروبا إِلى كثيرٍ من المسلمات، وهي تدميمهن لأظفارهن بالصمغ الأحمر المعروف اليوم بـ (مينيكور)، وإِطالتهن لبعضها -وقد يفعلها بعض الشباب أيضاً-! فإِن هذا مع ما فيه من تغييرٍ لخلق الله، المستلزم لعْن فاعله، ومن التشبُّه بالكافرات المنهيّ عنه في أحاديث كثيرة التي منها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... ومن تشبه بقوم فهو منهم" (¬3)؛ فإِنه أيضاً مخالف للفطرة {فطرة الله التي فطر الناس عليها}، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الفطرة (¬4) خمس: الختان، والاستحداد (¬5)، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط" (¬6). وقال أنس -رضي الله عنه-: "وُقِّت لنا (وفي رواية: وقَّت لنا رسول الله) في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإِبط، وحلق العانة: أن لا نَتْرُك أكثر من ¬

_ (¬1) هن النساء اللاتي يجعلن فُرَجاً بين بعض أسنانهنّ رغبة في التحسين. (¬2) أخرجه البخاري: 4886، ومسلم: 2125، واللفظ له. (¬3) أخرجه أحمد وأبو داود، وانظر "آداب الزفاف" (ص 205). (¬4) أي: السُّنّة؛ يعني: سنن الأنبياء -عليهم السلام- التي أُمِرْنَا أن نقتدي بهم. "النهاية". (¬5) الاستحداد: حلْق العانة؛ سمّي استحداداً؛ لاستعمال الحديدة، وهي الموسى. "شرح النووي". (¬6) أخرجه البخاري: 5891، ومسلم: 257.

4 - حلق اللحى:

أربعين ليلة" (¬1). 4 - حلْق اللحى: ومثلها في القُبح -إِن لم تكن أقبح منها عند ذوي الفطر السليمة- ما ابتلي به أكثر الرجال من التزيُّن بحلق اللحية، بحكم تقليدهم للأوروبيين الكفار، حتى صار من العار عندهم أن يدخل الرجل على عروسه وهو غير حليق! وفي ذلك عدّة مخالفات: 1 - تغيير خَلْق الله -تعالى-؛ وقد قال -تعالى- حكاية عن الشيطان: {ولآمُرنّهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذان الأنعام ولآمُرنّهم فليغيّرُنَّ خَلْق الله} (¬2). فهذا نصّ صريح في أنّ تغيير خلْق الله دون إِذْن منه -تعالى- إِطاعة لأمر الشيطان، وعِصيان للرحمن -جلّ جلاله- ... وإنما قلتُ (¬3): دون إِذْنٍ من الله -تعالى-؛ لكي لا يتوهم أنه يدخُل في التغيير المذكور مِثل حلْق العانة ونحوها ممّا أذِن فيه الشارع، بل استحبّه؛ بل أوجبَه. 2 - مخالفة أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو قوله: "أنهكوا الشوارب، وأعفوا اللحى" (¬4). 3 - التشبّه بالكُفار؛ وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "جزّوا الشوارب وأرخوا اللحى؛ خالفوا المجوس" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 258. (¬2) النساء: 119. (¬3) الكلام لشيخنا -رحمه الله-. (¬4) أخرجه البخاري: 5893، ومسلم: 259. (¬5) أخرجه مسلم: 260.

5 - خاتم الخطبة:

4 - التشبه بالنساء؛ وقد: "لعَن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتشبّهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال" (¬1). وانظر التفصيل القويّ في "آداب الزفاف" -إِن شئت المزيد-. 5 - خاتم الخطبة: لُبْسُ بعض الرجال خاتم الذهب الذي يُسمّون بـ "خاتم الخِطبة"، فهذا فيه من تقليد الكُفار ما فيه؛ لأن هذه العادة سرَتْ إِليهم من النصارى. ويرجع ذلك إلى عادة قديمة لهم، عندما كان العروس يضع الخاتم على رأس إِبهام العروس اليسرى، ويقول: باسم الآب. ثمّ ينقله واضعاً له على رأس السبّابة، ويقول: وباسم الابن. ثمّ يضعه على رأس الوسطى، ويقول: وباسم الروح القدس، وعندما يقول: آمين، يضعه أخيراً في البنْصِر حيث يستقر. وهذا جاء جواباً من قِبَل محرّرة قسم أسئلة مجلة "المرأة" الصادرة في لندن عدد 19 آذار 1960 (ص 8). وانظر "آداب الزفاف" للمزيد من التفصيل والأدلّة في الوضوع. إِذا رأى المرء من امرأةٍ ما يعجبه؛ فليأت أهله: عن جابر -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى امرأةً، فأتى امرأته زينب، وهي تمعسُ (¬2) منيئةً (¬3) لها، فقضى حاجته، ثمّ خرج إِلى أصحابه، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5885. (¬2) قال النووي: "قال أهل اللغة: المعس -بالعين المهملة-: الدلك". (¬3) قال النووي: "قال أهل اللغة: هي الجلد أول ما يوضع في الدباغ".

وصايا الإمام الألباني -رحمه الله- إلى العروسين:

فقال: إن المرأة تُقبل في صورة شيطان، وتُدْبر في صورة شيطان، فإِذا أبصر أحدكم امرأة فلْيأت أهله، فإِنّ ذلك يردّ ما في نفسه" (¬1). وصايا الإِمام الألباني -رحمه الله- إِلى العروسين (¬2): أولاً: أن يتطاوعا ويتناصحا بطاعة الله -تبارك وتعالى- واتّباع أحكامه الثابتة في الكتاب والسّنّة، ولا يُقدِّما عليها تقليداً أو عادة غلبَت على النّاس، أو مَذْهباً، فقد قال -عزّ وجلّ-: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً} (¬3). ثانياً: أن يلتزم كل واحد منهما القيام بما فرض الله عليه من الواجبات والحقوق تجاه الآخر، فلا تطلب الزوجة -مثلاً- أن تساوي الرجل في جميع حقوقه، ولا يستغلّ الرجل ما فضّله الله -تعالى- به عليها من السيادة والرياسة؛ فيظلمها، ويضربها بدون حقّ، فقد قال الله -عزّ وجلّ-: {وَلَهُنَّ مثْل الذي عَلَيْهِنَّ بِالمعْرُوف ولِلرّجال عَلَيْهِنَّ دَرَجَة واللهُ عَزِيزٌ حَكِيم} (¬4). وقال: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ على النِّساء بِمَا فَضَّل اللهُ بعضهم على بعض وبمَا أنْفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِم فَالصَّالحاتُ قانتاتٌ حافظاتٌ للغيبِ بِما حَفِظَ الله واللاتي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1403. (¬2) عن "آداب الزفاف" (278) بتصرّف. (¬3) الأحزاب: 36. (¬4) البقرة: 228.

تخافون نُشوزهنّ (¬1) فَعِظُوهُنَّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهن فإِنْ أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً إِنّ الله كان عليّاً كبيراً} (¬2). وقد قال معاوية بن حيدة -رضي الله عنه-: يا رسول الله! ما حقّ زوجةِ أحدِنا عليه؟ قال: "أن تُطعمها إِذا طَعِمْت، وتكسوها إِذا اكتسيت، ولا تقبح الوجه (¬3)، ولا تضرب، [ولا تهجر إِلا في البيت، كيف وقد أفضى بعضكم إِلى بعض (¬4)؛ إِلا بما حلّ عليهنّ (¬5) " (¬6). وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن -عزّ وجلّ- وكلتا يديه يمين-؛ الذين يعدلون في حُكمهم وأهليهم وما وَلُوا" (¬7). فإِذا هما عَرفا ذلك وعمِلا به، أحياهما الله -تبارك وتعالى- حياةً طيّبة، وعاشا -ما عاشا معاً- في هناء وسعادة، فقد قال -عزّ وجلّ-: {مَن عَمِل ¬

_ (¬1) أي: خروجهنّ عن الطاعة، قال ابن كثير: "والنشوز: هو الارتفاع، فالمرأة الناشز: هي المرتفعة على زوجها، التاركة لأمره، المعرضة عنه". (¬2) النساء: 34. (¬3) أي: لا تقُلْ: قبَّح الله وجهك. (¬4) يعني: الجماع. (¬5) يعني: من الضرب والهجر بسبب نشوزهنّ. (¬6) أخرجه أحمد والزيادة له، وأبو داود، والحاكم وقال: "صحيح"، ووافقه الذهبي، وانظر "آداب الزفاف" (ص 280)، وتقدّم. (¬7) أخرجه مسلم: 1827.

صالحاً مِن ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فَلَنُحْيينّه حياةً طيبة ولَنَجْزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (¬1). ثالثاً: وعلى المرأة بصورة خاصّة أن تطيع زوجها فيما يأمرها به، في حدود استطاعتها، فإِنّ هذا مما فضّل الله به الرجال على النساء؛ كما في الآيتين السابقتين: {الرجال قوّامون على النساء}، {وللرجال عليهنّ درجة}، وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة مؤكِّدة لهذا المعنى، ومُبيِّنة بوضوح ما للمرأة، وما عليها إِذا هي أطاعت زوجها أو عصَتْه، فلا بد من إِيراد بعضها، لعلّ فيها تذكيراً لنساء زماننا، فقد قال -تعالى-: {وذكّر فإِنّ الذكرى تنفع المؤمنين}. الحديث الأول: "لا يحلّ للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد (¬2) إِلا بإِذنه [غير رمضان]، ولا تأذن في بيته إِلا بإِذنه" (¬3). الثاني: "إذا دعا الرجل امرأته إِلى فراشه فأبت، فبات غضبان عليها، لعَنَتها الملائكة حتى تصبح (وفي رواية: أو حتى ترجع. وفي أخرى: حتى يرضى عنها) " (¬4). الثالث: "والذي نفس محمد بيده، لا تؤدّي المرأة حقَّ ربّها حتى تؤدّي حقّ ¬

_ (¬1) النحل: 97. (¬2) شاهد؛ أي: حاضر. (¬3) أخرجه البخاري: 5195، ومسلم: 1026، وانظر للزيادة "آداب الزفاف" (ص 282). (¬4) أخرجه البخاري: 3237، ومسلم: 1436.

زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قَتَب (¬1)؛ لم تمنعه نفسها" (¬2). الرابع: "لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا؛ إِلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلكِ الله، فإِنما هو عندك دخيل (¬3)، يوشك أن يفارقك إِلينا" (¬4). الخامس: عن حصين بن مُحصن قال: حدثتني عمّتي قالت: "أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض الحاجة، فقال: أَيْ هذه! أَذاتُ بَعْلٍ؟ قلت: نعم، قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه (¬5)؛ إِلا ما عَجَزت عنه، قال: [فانظري] أين أنت منه؟ فإِنما هو جنّتك ونارك" (¬6). السادس: "إِذا صلَّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها؟ قيل لها: ادخلي الجنة من أيِّ أبواب الجنة شئت" (¬7). ¬

_ (¬1) قال في "النهاية": "القَتَب للجمل: كالإِكاف لغيره [والإِكاف: ما يوضع على الحمار أو البغل ليُركب عليه، كالسرج للفرس]. ومعناه: الحثّ لهنّ على مطاوعة أزواجهنّ، وأنه لا يسعهنّ الامتناع في هذا الحال، فكيف في غيرها؟! ". (¬2) أخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن حبّان في "صحيحه"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "آداب الزفاف" (ص 284). (¬3) الدَّخيل: الضيف والنزيل. "النهاية". (¬4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (937)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1637) وغيرهما، وانظر "آداب الزفاف" (ص 284). (¬5) أي: لا أقصّر ولا أُبْطِئُ عن طاعته وخدمته. (¬6) أخرجه أحمد، والنسائي بإِسنادين جيدين وغيرهما، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1933)، و"آداب الزفاف" (ص 285). (¬7) أخرجه أحمد والطبراني، وحسنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1932).

جاء في "الفتاوى" (32/ 261): "وسئل -رحمه الله- عن امرأة تزوّجت، وخرجت عن حكم والديها؛ فأيهما أفضل: بِرُّها لوالديها، أو مطاوعة زوجها؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين. المرأة إِذا تزوّجت كان زوجها أملك بها من أبويها، وطاعة زوجها عليها أوجب، قال الله -تعالى-: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} ... ". ثمّ ذكَر -رحمه الله- عدداً من الأحاديث في وجوب طاعة المرأة زوجها. ثمّ قال -رحمه الله-: "والأحاديث في ذلك كثيرة عن النَبيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال زيد ابن ثابت: الزوج سيِّد في كتاب الله، وقرأ قوله -تعالى-: {وألفيا سيدها لدى الباب}. وقال عمر بن الخطاب: النكاح رقّ فلينظر أحدكم عند من يُرِقُّ كريمته (¬1). وفي "الترمذي" وغيره عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "استوصوا بالنساء خيراً، فإِنّما هنّ عندكم عوانٍ" (¬2). فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق والأسير، فليس لها أن تخرج من منزله إِلا بإِذنه؛ سواءٌ أمَرها أبوها أو أمها، أو غير أبويها باتفاق الأئمة. وإِذا أراد الرجل أن ينتقل بها إِلى مكان آخر -مع قيامه بما يجب عليه وحِفْظِ حدود الله فيها- ونهاها أبوها عن طاعته في ذلك؛ فعليها أن تطيع زوجها دون أبويها؛ فإِن الأبوين هما ظالمان؛ ليس لهما أنْ يَنْهَيَاهَا عن طاعة مثل هذا ¬

_ (¬1) قال العلامة العراقي -رحمه الله- في تخريج "الإحياء" (2/ 47): "رواه أبو عمر التوقاني في "معاشرة الأهلين" موقوفاً على عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر -رضي الله عنهم- قال البيهقي: ورُوي ذلك مرفوعاً؛ والموقوف أصحّ". (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1501)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (929) وغيرهما، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2030). ومعنى (عوانٍ)؛ أي: أسيرات، جمع (عَانِيَة).

الزّوج، وليس لها أن تطيع أمّها فيما تأمرها به من الاختلاع منه، أو مضاجرته حتى يطلقها؛ مثل أن تطالبه من النفقة والكسوة والصَّداق بما تطلبه ليطلقها، فلا يحل لها أن تطيع واحداً من أبويها في طلاقه إِذا كان متقياً لله. ففي "السنن الأربعة" و"صحيح أبي حاتم" عن ثوبان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنّة" (¬1). وفي حديث آخر: "المختلعات والمنتزعات هنّ المنافقات" (¬2). وأمّا إِذا أمرها أبواها أو أحدهما بما فيه طاعة الله: مثل المحافظة على الصلوات؛ وصدق الحديث، وأداء الأمانة، ونهوها عن تبذير مالها وإضاعته، ونحو ذلك مما أمر الله ورسوله أو نهاها الله ورسوله عنه: فعليها أن تطيعهما في ذلك، ولو كان الأمر من غير أبويها، فكيف إِذا كان من أبويها؟! وإذا نهاها الزوج عما أمر الله، أو أمرها بما نهى الله عنه، لم يكن لها أن تطيعه في ذلك، فإِن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" (¬3). بل المالك لو أمر مملوكه بما فيه معصية لله؛ لم يجز له أن يطيعه في معصية، فكيف يجوز أن تطيع المرأة زوجها أو أحد أبويها في معصية؟! فإن الخير كلّه في طاعة الله ورسوله، والشر كلّه في معصية الله ورسوله". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1947)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1672) واللفظ له، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (948) وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2035). (¬2) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3238)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (947) وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (632). (¬3) أخرجه أحمد والطبراني وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (180).

وجوب خدمة المرأة لزوجها:

وجوب خدمة المرأة لزوجها (¬1): قلت: وبعض الأحاديث المذكورة آنفاً (¬2) ظاهرة الدلالة على وجوب طاعة الزوجة لزوجها، وخِدمتها إِياه في حدود استطاعتها، ومما لا شكّ فيه أنّ من أول ما يدخل في ذلك: الخدمةَ في منزله، وما يتعلق به من تربية أولاده ونحو ذلك. وقد اختلف العلماء في هذا، فقال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "الفتاوى" (2/ 234 - 235): "وتنازع العلماء، هل عليها أن تخدمه في مِثل فراش المنزل، ومناولة الطعام والشراب، والخَبْزِ والطَّحْنِ والطعام لمماليكه وبهائمه؛ مِثل علف دابته ونحو ذلك؟ فمنهم من قال: لا تحب الخِدمة. وهذا القول ضعيف، كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء! فإِنّ هذا ليس معاشرة له بالمعروف، بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإِنسان، وصاحبه في المسكن؛ إِن لم يعاونه على مصملحته؛ لم يكن قد عاشره بالمعروف. وقيل -وهو الصواب-: وجوب الخدمة، فإِنّ الزوج سيّدها في كتاب الله، وهي عانية عنده بسُنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعلى العاني والعبد الخدمة، ولأن ذلك هو المعروف. ثمّ مِنْ هؤلاء مَنْ قال: تجب الخدمة اليسيرة، ومنهم من قال: تجب الخِدمة ¬

_ (¬1) عن كتاب "آداب الزفاف" (ص 286) -بتصرّف يسير-. (¬2) كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فانظُري أين أنت منه؟ فإِنّما هو جنّتك ونارك"، وكقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا صلّت المرأة خمسها، وحصّنت فرجها، وأطاعت بعلها؛ دخلَت من أيّ أبواب الجنّة شاءت".

بالمعروف. وهذا هو الصواب، فعليها أن تَخْدُمَهُ الخدمة المعروفة من مثلها لِمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال، فخِدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة". قال شيخنا -رحمه الله-: "وهذا هو الحقّ -إِن شاء الله تعالى- أنه يجب على المرأة خدمة البيت، وهو قول مالك وأصبغ، كما في "الفتح" (9/ 418)، وأبي بكر بن أبي شيبة، وكذا الجُوزَجَانِيِّ من الحنابلة، كما في "الاختيارات" (ص 145)، وطائفة من السلف والخلف، كما في "الزاد" (4/ 46)، ولم نجد لمن قال بعدم الوجوب دليلاً صالحاً. وقول بعضهم: "إِنّ عقد النكاح إِنما اقتضى الاستمتاع لا الاستخدام"! مردود بأنّ الاستمتاع حاصل للمرأة أيضاً بزوجها، فهما متساويان في هذه الناحية، ومن المعلوم أنّ الله -تبارك وتعالى- قد أوجب على الزوج شيئاً آخر لزوجته، ألا وهو نفقتها وكسوتها ومسكنها، فالعدل يقتضي أن يجب عليها مقابل ذلك شيء آخر أيضاً لزوجها، وما هو إِلا خِدمتها إِيّاه، ولا سيما أنه القوّام عليها بنص القرآن الكريم، وإذا لم تقم هي بالخدمة فسيُضْطَرُّ هو إِلى خدمتها في بيتها، وهذا يجعلها هي القوّامة عليه، وهو عكس للآية القرآنية كما لا يخفى، فثَبتَ أنه لا بدّ لها من خِدمته، وهذا هو المراد! وأيضاً؛ فإِنّ قيام الرجل بالخدمة يؤدّي إِلى أمرين متباينين تمام التباين؛ أن ينشغل الرجل بالخدمة عن السعي وراء الرزق وغير ذلك من المصالح، وتبقى المرأة في بيتها عُطَلاً عن أي عمل يجب عليها القيام به! ولا يخفى فساد هذا في الشريعة التي سوَّت بين الزوجين في الحقوق، بل وفضّلت الرجل عليها

درجة، ولهذا لم يُزِل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شكوى ابنته فاطمة [رضي الله عنها] حينما: "أتت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تشكو إِليه ما تلقى في يدها من الرَّحَى، وبَلَغَها أنه جاءه رقيق، فلم تصادفه، فذكَرت ذلك لعائشة، فلما جاء، أخبرته عائشة، قال علي -رضي الله عنه-: فجاءنا وقد أخذْنا مضاجعنا، فذهبْنا نقوم، فقال: على مكانكما! فجاء، فقعد بيني وبينها، حتى وجدت بَرْدَ قدميه على بطني، فقال: ألا أدلكما على خير ممّا سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما -أو أويتما إِلى فراشكما- فسبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبّرا أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم. قال علي: فما تركْتها منذ سمعته من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قيل له: ولا ليلة صِفّين؟ قال: ولا ليلة صفّين" (¬1). فأنت ترى أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل لعليّ: لا خِدمة عليها، وإنما هي عليك، وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يحابي في الحُكم أحداً كما قال ابن القيّم -رضي الله عنه-. ومن شاء زيادة البحث في هذه المسألة فليرجع إِلى كتابه القيم "زاد المعاد" (4/ 45 - 46). هذا وليس فيما سَبق من وجوب خِدمة المرأة لزوجها ما ينافي استحباب مشاركة الرجل لها في ذلك، إِذا وجد الفراغ والوقت، بل هذا من حُسْنِ المعاشرة بين الزوجين، ولذلك قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها-: "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكون في مهنة أهله -تعني خِدمة أهله-، فإِذا حضرت الصلاة خرج إِلى الصلاة" (¬2). انتهى كلام شيخنا -رحمه الله-. وذكر بعض العلماء في وجوب خدمة المرأة زوجها لقوله -سبحانه-: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5361، ومسلم: 2727 واللفظ له. (¬2) أخرجه البخاري: 676.

{ولهنّ مِثلُ الذي عليهنّ بالمعروف} (¬1)؛ أي: ولهنّ على الرجال من الحقّ مِثل ما للرجال عليهنّ، فليؤدّ كل واحدٍ منهما إِلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف. قاله ابن كثير -رحمه الله-. فإِن لم تكن الخدمة من ذلك؛ فماذا يكون عليها؟! وذكروا كذلك حديث أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: "تزوّجني الزُّبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء؛ غير ناضح (¬2)، وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وأستقي الماء، وأخرِز (¬3)، غَرَبهُ (¬4)، وأعجن، ولم أكن أُحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار -وكُنَّ نِسْوةَ صِدْقٍ- وكنت أنقل النّوى من أرض الزبير -التي أقطعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- على رأسي، وهي مِنّي على ثُلُثَيْ فرسخٍ (¬5) " (¬6). وفي بعض مجالس شيخنا -رحمه الله- سُئل: هل للمرأة أن تَخْدُمَ إِخوان الزوج؟ فأجاب -رحمه الله-: الزوج هو الذي يُخْدَمُ فقط لا غيره؛ إِلا إِذا كان قد اشترط بخدمة أخ أو والد أو والدة؛ فيجب. ¬

_ (¬1) البقرة: 228. (¬2) الناضح: هو الجمل الذي يُسقى عليه الماء. (¬3) أي: تخيط الجلد وتجعل منه دلواً. (¬4) هو الدلو. (¬5) الفرسخ: ثلاث أميال، وهي حوالي 6 كم، انظر كتاب: "المكاييل والأوزان الإِسلامية وما يعادلها في النظام المتري" (ص 94) لفالترهنتس وترجمه عن الألمانية د. كامل العسلي. (¬6) أخرجه البخاري: 5224، ومسلم: 2182.

حق الزوجة على زوجها

حقّ الزوجة على زوجها (¬1) 1 - حُسن المعاشرة: قال الله -تعالى-: {وعاشروهنّ بالمعروف فإِنْ كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعلَ الله فيه خيراً كثيراً} (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله- بتصرُّف: "أي: طيّبوا أقوالكم لهنّ، وحسِّنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحبّ ذلك منها، فافعل أنت بها مِثله، كما قال -تعالى-: {ولهنّ مِثل الذي عليهنّ بالمعروف} (¬3) وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" (¬4). وكان من أخلاقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه جميل العشرة دائم البِشر، يُداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه، حتى إِنه كان يسابق عائشة أمّ المؤمنين يتودّد إِليها بذلك: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كُنْتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فسابقْتُه فسبَقْته على رِجْلَيَّ، فلمّا حَملتُ اللحم؛ سابقْتُه فسبقَني، فقال: هذه بتلك السّبْقة" (¬5). ¬

_ (¬1) وقد تكرّر عدد من أحاديث هذا الباب في (وصايا الإِمام الألباني -رحمه الله-). (¬2) النساء: 19. (¬3) البقرة: 228. (¬4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (3057)، والدارمي، وابن حبان، وانظر "الصحيحة" (285). (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2248)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1610)، وانظر "الإِرواء" (1502)، و"الصحيحة" (131)، و"المشكاة" (3251).

وقوله -تعالى-: {فإِنْ كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويَجْعَلَ الله فيه خيراً كثيراً}، أي: فعسى أن يكون صبركم -مع إِمساككم لهنّ وكراهتهن- فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية: هو أن يعطف عليها، فيرزق منها ولداً، ويكون في ذلك الولد خير كثير. وفي الحديث الصحيح: "لا يَفْرَك (¬1) مؤمن مؤمنة، إِن كره منها خلقاً رضي منها آخر" (¬2). انتهى. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنت أشرب وأنا حائض، ثمّ أناوله النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيضع فاه على موضع فيَّ، فيشرب، وأتعرّقُ العَرْق (¬3) وأنا حائض، ثمّ أناوله النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيضع فاه على موضع فيّ" (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "استوصوا بالنساء، فإِنّ المرأةَ خُلِقَتْ من ضِلَع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلَع أعلاه، فإِنْ ذهبتَ تقيمه كسرته، وإنْ تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء" (¬6). ¬

_ (¬1) يَفْرَك: لا يُبغِض. (¬2) أخرجه مسلم: 1469. (¬3) العَرق: واحد العراق، وهي العظام التي يُؤخذ منها هبر اللحم، وتقدّم مفصّلاً في كتابي هذا "الموسوعة" (1/ 37). (¬4) أخرجه مسلم: 300. (¬6) أخرجه البخاري: 3331، ومسلم: 1468.

2 - صيانتها:

وعن عمرو بن الأحوص: "أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحمد الله وأثنى عليه، وذكَّر ووعظ، ثمّ قال: استوصوا بالنّساء خيراً، فإِنّهنّ عندكم عوانٍ، ليس تملكون منهنّ شيئاً غير ذلك، إِلا أنْ يأتين بفاحشة مبينة، فإِنْ فعلن فاهجروهنّ في المضاجع، وإضربوهنّ ضرباً غير مُبرّح، فإِد أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً، إِنّ لكم من نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً. فأمّا حقُّكم على نسائكم: فلا يوطئن فُرشكم من تكرهون، ولا يَأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقّهُنَّ عليكم: أن تُحسنوا إِليهن في كسوتهنّ وطعامهنّ" (¬1). فينبغي في ضوء ما تقدّم ألا يتعامل الرجل مع زوجه على أنها كاملة معصومة، بل خطّاءة خُلقت من ضِلَع أعوج، فإِذا جاء التصرّف الأعوج تذكّر أصْل خلقتها، فصبَر عليها، وتذكّر ما لها من محاسن السلوك والأخلاق، والأقوال والأفعال، فازداد صبراً، ولم يبْدُ منه ما يعكّر صفو حياته الزوجيّة. 2 - صيانتها (¬2): ويجب على الزوج أن يصون زوجتَه، ويحفظها من كل ما يخدش شرفَها، ويثلم عرضها، ويمتهن كرامتها، ويُعرّض سمعتها لقالة السوء، وهذا من الغيرة التي يحبها الله؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ الله يغار، وإِنّ المؤمن يغار، وغيرةُ الله أن يأتي المؤمن ما حَرّم عليه" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1501)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (929) وغيرهما، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2030). (¬2) من "فقه السُّنّة" (2/ 509) بتصرّف. (¬3) أخرجه البخاري: 5223، ومسلم: 2761.

وعن المغيرة قال: "قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربتُه بالسيف غيرَ مُصْفَح (¬1). فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: تعجبون من غيرة سعد، واللهِ لأنا أغيرُ منه، واللهُ أغيرُ منّي، ومِن أجل غيرة الله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحدَ أحبُّ إِليه العُذْرُ من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذِرين، ولا أحدَ أحبُّ إِليه المِدحةُ من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة" (¬2). وعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثة لا ينظر الله -عزّ وجلّ- إِليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه، والمرأة المترجّلة (¬3)، والديّوث (¬4) " (¬5). وعن عمّار بن ياسر -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاثة لا يدخلون الجنّة أبداً: الديّوث، والرَّجُلة من النساء، ومدمن الخمر. قالوا: يا رسول الله! أما مُدمن الخمر فقد عرفناه، فما الديُّوث؟ قال: الذي لا يبالي مَن دخل على أهله. قلنا: فما الرَّجُلَة من النساء؟ قال: التي تَشَبَّهُ بالرجال" (¬6). وكما يجب على الرجل أن يغار على زوجته، فإِنه يُطلَبُ منه أن يعتدل في ¬

_ (¬1) قال في "النهاية": "يقال: أصْفَحه بالسيف: إِذا ضربه بعُرْضه دون حدّه، فهو مُصْفِح، والسيف مُصفَح". (¬2) أخرجه البخاري: 7416، ومسلم: 2760. (¬3) التي تتشبّه بالرّجال في زيّهم وهيأتهم، وانظر "النهاية". (¬4) الدَّيوث: هو الذى لا يغار على أهله. "النهاية". (¬5) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2402)، وأحمد وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (674). (¬6) أخرجه الطبراني، وصححه لغيره شيخنا -رحمه الله- كما في "صحيح الترغيب =

3 - إتيانها ووطؤها:

هذه الغَيرة، فلا يبالغ في إِساءة الظن بها، ولا يسرف في تَقَصِّي كل حركاتها وسكناتها، ولا يحصي جميع عيوبها؛ فإِن ذلك يفسد العلاقة الزوجية، ويقطع ما أمر الله به أن يوصَل. عن جابر بن عَتِيكِ أن نبيَّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "من الغَيرة ما يحبُّ الله، ومنها ما يُبْغِض الله؛ فأمَّا التي يُحبّها الله فالغيرة في الريبة، وأمّا التي يبغضها الله فالغَيرة في غير ريبة. وإنّ من الخيلاء ما يبغض الله، ومنها ما يحبُّ الله، وأمّا الخُيلاء التي يحبُّ الله؛ فاختيال الرجل نفسه عند القتال، واختياله عند الصدقة، وأمّا التي يبغض الله؛ فاختياله في البغي والفخر" (¬1). 3 - إِتيانها ووطْؤُها: قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 236): "وفرْض على الرجل أن يُجامع امرأته التي هي زوجته، وأدنى ذلك مرة في كلّ طُهر -إِنْ قَدَرَ على ذلك-؛ وإِلا فهو عاص لله -تعالى-. بُرهان ذلك: قول الله -عزّ وجلّ-: {فإذا تطهرن فَأْتُوهُنّ من حَيْثُ أَمَرَكُم الله} ". ثمّ روى بإِسناده عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: "إِنّا لنسير مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالرف من جُمْدان؛ إِذ عرضت له امرأة -من خزاعة- شَابة، فقالت: يا أمير المؤمنين! إِني امرأة أحبّ ما تحب النساء من الولد وغيره، ولي زوج شيخ، ووالله ما برِحْنا حتى نظرنا إِليه يهوي -شيخ كبير-، فقال ¬

_ = والترهيب ((2071). (¬1) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2316)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2398) وغيرهما، وانظر "الإرواء" (1999).

لعمر: يا أمير المؤمنين! إِني لمحسن إِليها وما آلوها؟ فقال له عمر: أتقيم لها طُهرها؟ فقال: نعم، فقال لها عمر: انطلقي مع زوجك، والله إِنّ فيه لما يجزي -أو قال: يغني- المرأة المسلمة". قال أبو محمد -رحمه الله-: "ويُجبَر على ذلك من أبى بالأدب، لأنه أتى منكراً من العمل". ثمّ ذكَر قول سلمان لأبي الدرداء -رضي الله عنهما-: " ... ولأهلك عليك حقّاً"، ولفظه كما في حديث أبي جُحَيْفَة -رضي الله عنه- قال: "آخى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أمّ الدّرداء متبذّلة (¬1)، فقال لها: ما شأنُك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً فقال له: كُل، قال: فإِني صائم، قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل، قال: فأكل. فلمّا كان الليل؛ ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثمّ ذهب يقوم، فقال: نم، فلمّا كان من آخر الليل؛ قال سلمان: قُم الآن، فصلَّيا. فقال له سلمان: إِنّ لربّك عليك حقّاً، ولنفسك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً، فأعط كلّ ذي حقٍّ حَقَّهُ، فأتى النّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكَر ذلك له؟ فقال له النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدَق سلمان" (¬2). وفي رواية: " ... وائت أهلك" (¬3). ¬

_ (¬1) "متبذلة؛ أي: لابسة ثياب البِذْلة -بكسر الموحدة وسكون الذال-، وهي المهنة؛ وزناً ومعنى، والمراد: أنها تاركة للبس ثياب الزينة". "فتح". (¬2) أخرجه البخاري: 1968. (¬3) أخرجه الدارقطني، وذكره الحافظ -رحمه الله- في "الفتح"، وانظر "آداب الزفاف" (ص 160).

قال الحافظ -رحمه الله-: "وقد يُؤخذ منه ثبوت حقّها في الوطءِ لقوله: "ولأهلك عليك حقّاً" ثمّ قال: "وائت أهلك"؛ وقرّرهُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك". انتهى. قلت: وقول ابن حزم -رحمه الله-: " {فإذا تَطَهَّرْنَ فَأتُوهُنّ من حَيْثُ أَمَرَكُم الله} "؛ جاء بعد حظر، فمن العلماء من يقول: إِنه للإِباحة *والتحقيق أن يقال: صيغة: (افْعَلْ) بعد الحَظر لرفع ذلك الحظر، وإعادة حال الفعل إِلى ما كان قبل الحَظر؛ فإِنْ كان مباحاً كان مباحاً، وإنْ كان واجباً أو مستحباً كان كذلك، وعلى هذا يخرج قوله: {فإِذا انْسَلَخَ الأشهر الحُرُم فاقْتلوا المشركين} (¬1)؛ فإِنّ الصيغة رفَعت الحظر، وأعادته إِلى ما كان أوّلاً، وقد كان واجباً* (¬2). وبذا عُدْنا إِلى الحوار في أصْل الحُكم. والذي يبدو أنّ هذا يَتْبَعُ حال الرجل والمرأة، فإِذا احتاجا إِليه؛ وجب؛ لتحقيق الإِحصان وغضّ البصر والإِعفاف، فقد جاء الحثّ على الزّواج من أجل ذلك، كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا معشر الشباب! من استطاع الباءة فليتزوج، فإِنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإِنه له وجاء" (¬3). والأثر الذي ذكَره الإِمام ابن حزم -رحمه الله- فيه أنّ المرأة اشتكَت، وكذا في توجيه سلمان أبا الدرداء -رضي الله عنهما-، فقد أجابت أمّ الدرداء سلمان -رضي الله عنهما- حين سألها: ما شأنك؟ فقالت: أخوك أبو الدرداء ليس له ¬

_ (¬1) التوبة: 5. (¬2) ما بين نجمتين من كتاب "المسوّدة" (ص 18). (¬3) أخرجه البخاري: 5066، ومسلم: 1400، وتقدّم.

حاجةٌ في الدنيا. فالوجوب الذي أشار إِليه ابن حزم -رحمه الله- كان مبعثُهُ الحاجةَ أو الشكوى، فماذا إِذا لم تكن ثمّة حاجة أو شكوى؟! ثمّ رأيت ابن كثير -رحمه الله- يقول في تفسير قوله -تعالى-: {فإذا تَطَهَّرْنَ فَأتُوهُنَّ مِنْ حَيثُ أَمَرَكُمُ الله}: "فيه ندْب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال، وذهب ابن حزم إِلى وجوب الجماع بعد كل حيض، لقوله: {إذا تَطَهَّرْنَ فَاْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله}! وليس له في ذلك مستند؛ لأنّ هذا أمر بعد الحظر، وفيه أقوال لعلماء الأصول، منهم من يقول: إِنه للوجوب كالمطلق، وهؤلاء يحتاجون إِلى جواب ابن حزم. ومنهم من يقول: إِنه للإِباحة، ويجعلون تقدّم النهي عليه قرينة صارفة له عن الوجوب، وفيه نظر! والذي ينهض عليه الدليل أنه يُردّ الحكم إِلى ما كان عليه الأمر قبل النهي، فإِن كان واجباً فواجب؛ كقوله -تعالى-: {فإِذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} (¬1)، أو مباحاً فمباح؛ كقوله -تعالى-: {وإِذا حللتم فاصطادوا} (¬2)، {فإِذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} (¬3). وعلى هذا القول تجتمع الأدلّة ... ". وجاء في "الفتاوى" (32/ 271): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن الرجل إِذا صبر على زوجته الشهر والشهرين لا يطؤها؛ فهل عليه إِثم أم لا؟ وهل يطالب الزوج بذلك؟ ¬

_ (¬1) التوبة: 5. (¬2) المائدة: 2. (¬3) الجمعة: 10.

حق الزوج على زوجته:

فأجاب: يجب على الرجل أن يطأ زوجته بالمعروف؛ وهو من أوكد حقها عليه: أعظم من إِطعامها. والوطء الواجب قيل: إِنه واجب في كل أربعة أشهر مرة. وقيل: بقدر حاجتها وقدرته؛ كما يطعمها بقدر حاجتها وقدرته، وهذا أصح القولين. والله أعلم". حقّ الزوج على زوجته: من حقّ الرجل على زوجته أن تطيعه في غير معصية الله -سبحانه-، فللرجل القوامة، وعليها الاستجابة والطاعة. قال الله -تعالى-: {الرِّجال قوّامون على النساء بما فضّل اللهُ بعضَهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم (¬1) فالصَّالحات قانتاتٌ (¬2) حافظات للغيب (¬3) بما حفظ الله} (¬4). وعن قيس بن سعد أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد؛ لأمرتُ النساء أن يسجدن لأزواجهنّ؛ لِما جعل الله لهم عليهنّ من الحقّ" (¬5). ¬

_ (¬1) قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال الشعبي في هذه الآية: الصَّداق الذي أعطاها. ألا ترى أنه لو قذَفها لاعَنَها، ولو قذفتْهُ جُلِدَت". (¬2) أي: مطيعات لأزواجهنّ. (¬3) قال السدي وغيره: "أي: تحفظ زوجها في غيبته؛ في نفسها وماله". (¬4) النساء: 34. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1873)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (926)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1503)، وانظر "الإِرواء" (1998).

وتقدّم أنّ خير النساء: التي تسر زوجها إِذا نظرَ إِليها، وتطيعه إِذا أمرها، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قيل لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي النساء خير؟ قال: التي تسرّه إِذا نظر، وتطيعه إِذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره" (¬1). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "أتى رجل بابنته إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إِنّ ابنتي هذه أبت أن تتزوّج؟ فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أطيعي أباك. فقالت: والذي بعثك بالحق؛ لا أتزوّج حتى تخبرني ما حقّ الزوج على زوجته؟ قال: حق الزوج على زوجته؛ لو كانت به قُرْحة، فلحستها، أو انتثر منخراه صديداً أو دماً، ثمّ ابتلعته؛ ما أدّت حقّه. قالت: والذي بعثك بالحق لا أتزوّج أبداً! فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تنْكِحُوهنَّ إِلا بِإِذْنِهِنَّ" (¬2). وجاء في "الفتاوى" (32/ 271 - 277) -بحذف-: "وسئل -رحمه الله تعالى- عمن له زوجة لا تصلّي: هل يجب عليه أن يأمرها بالصلاة؟ وإذا لم تفعل: هل يجب عليه أن يفارقها، أم لا؟ فأجاب: نعم، عليه أن يأمرها بالصلاة، ويجب عليه ذلك؛ بل يجب عليه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، والحاكم، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3030)، وانظر "الصحيحة" (1838)، وتقدّم. (¬2) أخرجه البزار بإِسناد جيد، رواته ثقات مشهورون، وابن حبان في "صحيحه"، وقال شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1934): "حسن صحيح".

أن يأمر بذلك كل من يقدر على أمره به إِذا لم يقم غيره بذلك، وقد قال -تعالى-: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصَّلاة وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (¬1)، وقال -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفُسَكم وأهلِيكُم ناراً وَقُودُهَا الناس والحجارة} (¬2). وينبغي مع ذلك الأمر أن يَحُضَّها على ذلك بالرغبة، كما يَحُضُّها على ما يحتاج إِليها، فإِن أصرّت على ترْك الصلاة؛ فعليه أن يطلّقها، وذلك واجب في الصحيح. وتارك الصلاة مستحق للعقوبة حتى يصلّي -باتفاق المسلمين-؛ بل إِذا لم يصلِّ قُتِل، وهل يُقْتَل كافراً مرتداً؟ على قولين مشهورين. والله أعلم". ويجب عليها أن تلبّي دعوته إِلى الفراش حين يطلبها. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا دعا الرجل امرأته إِلى فراشه، فأبت أن تجيء، لعنتها الملائكة حتى تصبح" (¬3). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا دعا الرجل زوجته لحاجته؛ فلتأته وإن كانت على التنّور" (¬4). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "والذي نفس محمد بيده؛ لا تؤدّي المرأة حقّ ربّها حتى تؤدّي حقّ زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه" (¬5). ¬

_ (¬1) طه: 132. (¬2) التحريم: 6. (¬3) أخرجه البخاري: 5193، ومسلم: 1436. (¬4) أخرجه الترمذي، والنسائي، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". (¬5) أخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، وانظر "آداب الزفاف" (ص 283).

جاء في "الفتاوى" (32/ 203 - 204): "وسئل -رحمه الله- عن رجل تزوّج امرأة، وكتب كتابها، ودفع لها المال بكماله؛ وبقي المقسّط من ذلك، ولم تستحق عليه شيئاً؛ وطلبها للدخول فامتنعت؛ ولها خالة تمنعها: فهل تجبر على الدخول؟ ويلزم خالتها المذكورة تسليمها إِليه؟ فأجاب: ليس لها أن تمتنع من تسليم نفسها -والحالُ هذه- باتفاق الأئمة، ولا لخالتها ولا غير خالتها أن يمنعها؛ بل تعزَّر الخالة على منعها من فعل ما أوجب الله عليها، وتُجْبر المرأة على تسليم نفسها للزّوج". ومن حقّه ألا تصوم بحضوره إِلا بإِذنه. "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إِلا بإِذنه [غير رمضان]، ولا تأذن في بيته إِلا بإِذنه" (¬1). ولا تأذن في بيته إِلا بإِذنه؛ للحديث السابق، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا إِنّ لكم على نسائكم حقّاً، ولنسائكم عليكم حقّاً. فأمّا حقّكم على نسائكم؛ فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقّهُنّ عليكم أن تُحسنوا إِليهنَّ في كسوتهنّ وطعامهنّ" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5195، ومسلم: 1026، وانظر "آداب الزفاف" (ص 282) لأجل الزيادة. (¬2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (929)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1501)، وانظر "الإرواء" (2030).

الطلاق

الطَّلاق

الطلاق

الطلاق معناه: الطلاق في اللغة. حلّ الوثاق مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك، [ويقال]: فلان طلْق اليد بالخير أي؛ كثير البذل وأطلقْتُ الرجل من حبسه. وفي الشرع: حلُّ عقدة التزويج وإزالة ملك النكاح، وهو موافق لبعض أفراد مدلوله اللغوي (¬1). مشروعيته (¬2): والأصل في مشروعيته الكتاب والسُّنة والإِجماع. أمّا الكتاب. فلقول الله -تعالى-: {الطلاق مرّتان فإِمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإِحسان} (¬3). ولقوله -تعالى-: {يا أيها النّبيّ إِذا طلّقتم النساء فطّلقوهنّ لعدّتهنّ} (¬4). وأمّا السّنّة: فلحديث سالم: "أنّ عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أخبره ¬

_ (¬1) "الفتح" (9/ 346) بزيادة من "حلية الفقهاء" (172) و"التعريفات" (101). (¬2) "المغني" (8/ 233) بتصرّف يسير. (¬3) البقرة: 229. (¬4) الطلاق: 1.

حكمه:

أنه طلّق امرأته وهي حائض، فَذَكَرَ ذلك عمر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتغيّظ فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمّ قال: لِيراجعها، ثمّ يمسكها حتى تطهر، ثمّ تحيض فتطهر، فإِنْ بدا له أن يُطلّقها فليطلِّقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدّة كما أمَره الله" (¬1). وأجمع المسلمون على جواز الطلاق والعِبرة دالّةٌ على جوازه، فإِنه ربّما فسدت الحال بين الزوجين؛ فيصير بقاء النّكاح مفسدة محضة وضرراً مجرّداً؛ بإِلزام الزَّوج النفقة والسُّكنى وحبس المرأة؛ مع سوء العِشرة والخصومة الدائمة مِن غير فائدة؛ فاقتضى ذلك شرْع ما يزيل النكاح؛ لتزول المفسدة الحاصلة منه. حُكمه: الطّلاق على أضرُب (¬2): واجب: وهو طلاق المولي (¬3) بعد التربُّص إِذا أبى الفيئة، وطلاق الحَكَمين في الشقاق إِذا رأيا ذلك. وكذلك إِذا كانت المرأة سيئة الخُلُق لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثة يدعون فلا يستجاب لهم: رجلٌ كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلّقها، ورجلٌ كان له على رجل مال فلم يُشهد عليه، ورجل آتى سفيهاً ماله وقد قال الله -عزّ وجلّ-: {ولا تُؤتُوا السُّفهاء أموالكم} (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4908، ومسلم: 1471. (¬2) استفدته من "المغني" (8/ 234) بتصرّف. (¬3) سيأتي الكلام -إِن شاء الله تعالى- عن الإِيلاء. (¬4) النساء: 5. (¬5) أخرجه الحاكم وغيره، وانظر "الصحيحة" (1805).

الطلاق من حق الرجل وحده:

قال الإِمام أحمد -رحمه الله-: "لا ينبغي له إِمساكها، وذلك لأن فيه نقصاً لدينه، ولا يأمن إِفسادها لفراشه وإِلحاقها به ولداً ليس هو منه، ولا بأس بعضلها في هذه الحال والتضييق عليها لتفتدي منه. قال الله -تعالى-: {ولا تَعْضُلُوهُنَّ لتذهبوا بِبَعض ما آتيتموهنّ إِلا أن يأتين بفاحشة مبينة} (¬1) ". ومكروه: وهو الطلاق من غير حاجة إِليه، وقال بعضهم: إِنه محرّم لأنّه ضررٌ بنفسه وزوجته، وإعدام المصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إِليه؛ فكان حراماً كإِتلاف المال، ولقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ضرر ولا ضِرار" (¬2). ومحظور: وهو أن يكون الطلاق في الحيض أو في طُهرٍ جامَعها فيه، ويُسمّى طلاق البدعة؛ لأنّ المطلِّق خالف السُّنّة وترَك أمْر الله -تعالى- ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأنه إِذا طلَّق في الحيض طَوَّل العدة عليها، فإِن الحيضة التي طلَّق فيها لا تحسب من عدتها، ولا الطهر الذي بعدها عند من يجعل الأقراء الحيض، وإِذا طلّق في طهرٍ أصابها فيه؛ لم يأمن أن تكون حاملاً؛ فيندم وتكون مرتابة لا تدري أتعتد بالحمل أو الأقراء (¬3). وهناك أضرُبٌ أُخرى؛ تَرَكْتُها لاختلاف القول فيها. الطلاق من حق الرجل وحده: عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل فقال: يا رسول الله! إِن سَيّدي زوَّجني أَمَتهُ، وهو يريد أن يفرِّق بيني وبينها، قال: ¬

_ (¬1) النساء: 19. (¬2) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1895) وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (896). (¬3) انظر "المغني" (8/ 235).

تحريم سؤال الزوجة الطلاق من غير سبب موجب له:

فصعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر فقال: يا أيها النّاس! ما بال أحدكم يزوّج عبده أَمَتهُ؛ ثمّ يريد أن يفرّق بينهما؟ إِنّما الطلاق لِمن أخذ بالساق" (¬1). جاء في "فيض القدير" (4/ 293) في تفسير "لمن أخذ بالساق": "يعني الزَّوج وإِنْ كان عبداً فإِذا أذِن السيد لعبده في النّكاح؛ كان الطلاق بيد العبد الآخذ بالساق؛ لا بِيَدِ سيده، فليس له إِجباره على الطلاق؛ لأنّ الإِذن في النّكاح إِذن في جميع أحكامه وتعلّقاته". تحريم سؤال الزَّوجة الطَّلاق من غير سبب موجبٍ له: عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيُّما امرأة سألت زوجها طلاقاً في غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنّة" (¬2). من يقع منه الطلاق: يقع الطلاق من الزوج العاقل البالغ المختار، ولا يقع من المجنون أو الصبيّ أو المُكرَه. عن علي -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل" (¬3). وجاء في سنن النسائي "باب متى يقع طلاق الصّبي" تمَّ ذكر تحته حديث كثير بن السائب قال: حدَّثني أبناء قُريظة: أنَّهم عُرِضُوا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1692) وغيره، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2041). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1947)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (948)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1672)، وانظر "المشكاة" (3279). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3703)، والترمذي "صحيح سنن =

يوم قريظة، فمن كان محتلماً، أو نبتت عانته: قتل، ومن لم يكن محتلماً أو لم تنبت عانته: ترك (¬1). ثمَّ ذكر حديث عطيَّة القُرظي قال: كنت يوم حُكْمِ سعد في بني قُريظة، غلاماً، فشكُّوا فيَّ، فلم يجدوني أنبتُّ، فاستُبقيت، فها أنا ذا بين أظهركم (¬2). ثمّ ذكر كذلك حديث ابن عمر: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرضه يوم أُحُد، وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يُجِزْه، وعرَضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة، فأجازه (¬3). قال نافع: فقدِمتُ على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة؛ فحدَّثته هذا الحديث فقال: إِنَّ هذا لحدٌّ بين الصَّغير والكبير، وكَتَب إلى عمَّاله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة (¬4). قال ابن القيّم -رحمه الله- في "تحفة المودود" (ص 477): "وليس لوقت الاحتلام سنّ معتاد، بل من الصِّبيان من يحتلم لثنتي عشرة سنة، ومنهم من يأتي عليه خمس عشرة وستَّة عشرة سنة وأكثر من ذلك ولا يحتلم". قلت: الاحتلام أمْر يُعْرَف بِحُصوله، وقد ثبتَ اختلاف السِنِّ فيه، وتقدَّم القول في "كتاب الحيض" أنَّه ليس في السُّنَّة تحديدٌ لِسِنِّ البنت التي تحيض، وهذا يمضي في الاحتلام. والله -تعالى- أعلم. ¬

_ = الترمذي" (1150)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1661)، وتقدّم. (¬1) انظر "صحيح سنن النسائي" (3207). (¬2) انظر "صحيح سنن النسائي" (3208). (¬3) انظر "صحيح سنن النسائي" (3209). (¬4) وهو في "صحيح البخاري": 2664، و"صحيح مسلم": 1868.

طلاق المكره والمجنون والسكران والغضبان والمدهوش ونحو ذلك:

طلاق المكره والمجنون والسكران والغضبان والمدهوش ونحو ذلك: هذه الأمور صاحبها مجرّد من الإِرادة والاختيار والنيّة، والنصوص في ذلك كثيرة: فعن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِن الله تجاوز عن أُمَّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬1). بل إِنّ مَن أُكره على الكُفر -إِنْ كان قلبه مطمئناً بالإِيمان- لا يكفر لقوله -سبحانه-: {إِلا من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإِيمان} (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا طلاق ولا عتاق في إِغلاق" (¬3). قال الإِمام البخاري -رحمه الله-: "الطلاق (¬4) في الإِغلاق والكُرْه، والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره: لقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الأعمال بالنّية، ولكل امرئٍ ما نوى"، وتلا الشعبيُّ: {لا تؤاخِذْنا إِن نَسِينا أو أخطأنا} (¬5) وما لا يجوز من إِقرار المُوَسْوِسِ، وقال ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1662)، وانظر "الإِرواء" (82). (¬2) النحل: 106. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1919)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (944)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1665)، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2047). (¬4) انظر ما ذكره الحافظ في "الفتح" (9/ 389)، وانظر كذلك لوصْل المعلَّقات والمزيد من الفوائد الحديثية فيه أيضاً (9/ 389) و"مختصر البخاري" (3/ 389 - 400). (¬5) البقرة: 286.

النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي أقرّ على نفسه: أَبِك جُنون؟ وقال علي: بقرَ حمزة خواصر شارفَيَّ (¬1)، فطفق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلوم حمزة، فإِذا حمزة ثَمِلٌ محمرّة عيناه، ثمّ قال حمزة: وهل أنتم إِلا عبيد لأبي؟ فعرف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قد ثَمِلَ، فخرج وخرجنا معه. وقال عثمان: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق. وقال ابن عباس: طلاقُ السكران والمستَكرَه ليس بجائز، وقال عقبة بن عامر: لا يجوز طلاق الموسوس، وقال عطاء: إِذا بدا بالطلاق فله شرطه، وقال نافع: طلق رجلٌ امرأته البتة إِن خرجت، فقال ابن عمر: إِن خرجت فقد بُتَّت منه، وإِن لم تخرج فليس بشيء، وقال الزُّهري فيمن قال: إِن لم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالق ثلاثاً: يُسأل عمَّا قال وعقد عليه قلبه حين حلف بتلك اليمين، فإِن سمَّى أجلاً أراده وعقد عليه قلبه حين حَلَف؛ جُعلَ ذلك في دينه وأمانته، وقال إِبراهيم: إِن قال لا حاجة لي فيك نيته ... وقال الحسن: إِذا قال: الحَقي بأهلك نيته. وقال ابن عباس: الطلاق عن وطَر (¬2)، والعتاق ما أُريد به وجه الله. وقال الزهري: إِن قال: ما أنت بامرأتي نيته، وإن نوى طلاقاً فهو ما نوى. وقال عليٌّ: ألم تعلم أن القلم رُفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ، وقال عليّ: وكلُّ الطلاق جائز إِلا طلاق المعتوه". ثمّ ذكر الإِمام البخاري -رحمه الله- حديث جابر -رضي الله عنه- "أنّ رجلاً مِن أسلم أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد فقال: إنه قد زنى، فأعرض عنه، ¬

_ (¬1) الشارف: الناقة المسنّة. "نووي". (¬2) "أي: أنه لا ينبغي للرجل أن يطلّق امرأته إِلا عند الحاجة كالنّشوز بخلاف العتق؛ فإِنه مطلوب دائماً". "الفتح".

فتنحَّى لشقه الذي أعرض فشهد على نفسه أربع شهادات، فدعاه فقال: هل بك جُنون؟ هل أُحصنت؟ قال: نعم، فأمر به أن يرجم بالمصلّى، فلمّا أذْلَقَتْهُ الحجارة؛ جمز (¬1) حتى أُدرك بالحرّة فقتل" (¬2). قلت: مراد الإِمام البخاري -رحمه الله- من إِيراد هذا الحديث تحت هذا الباب؛ أن من به جنون وشهد على نفسه بالزنى فلا يقام عليه الحدّ، فمن باب أولى ألا يقع منه الطلاق، والله أعلم. قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (9/ 389): "اشتملت هذه الترجمة [أي: ترجمة الباب] على أحكام يجمعها أن الحكم إِنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر، وشمل ذلك الاستدلال بالحديث؛ لأن غير العاقل المختار لا نية له فيما يقول أو يفعل، وكذلك الغالط والناسي والذي يُكره على الشيء". وفيه (ص390): "واحتج عطاء بآية النحل: {إِلا من أُكره وقلبُه مُطمئن بالإِيمان} قال عطاء: الشرك أعظم من الطلاق، أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح وقرره الشافعي بأن الله لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإِكراه، وأسقط عنه أحكام الكفر؛ فكذلك يسقط عن المكره ما دون الكفر؛ لأن الأعظم إِذا سقط سقط ما هو دونه بطريق الأولى، وإلى هذه النكتة أشار البخاري بعطف الشرك على الطلاق في الترجمة". وفي طلاق السكران خلاف بين العلماء، والسُّكر -عياذاً بالله- متفاوِتٌ في تأثيره. ¬

_ (¬1) أي: أسرع هارباً من القتل. "النّهاية". (¬2) أخرجه البخاري: 5270، ومسلم: 1691.

طلاق الهازل:

قال الحافظ (9/ 390): "وقد يأتي السكران في كلامه وفِعله بما لا يأتي به وهو صاح لقوله -تعالى-: {حتى تعلموا ما تقولون} (¬1) فإِن فيها دلالة على أن من علم ما يقول لا يكون سكراناً". وهذا كلام قويّ يجعلنا نحكم على وقوع طلاق السكران الذي يعلم ما قال، وعدم وقوع طلاق السكران الذي لا يعلم ما قال. وربما أقَرَّ هذا السكران بعد يقظته أنه طلّق وأنه متيقّظ لما قال، وربّما أنكر ذلك، فإِنكاره قد يدلُّ على ذَهاب عقْله. والله -تعالى- أعلم. طلاق الهازل: يقع طلاق الهازل؛ كالجادّ. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاث جِدّهن جِدّ وهزلهن جِدّ: النكاح والطلاق والرجعة" (¬2). جاء في "الروضة الندية" (2/ 99 - 100) في معنى الهازل والجاد: "وهو الذي يتكلّم من غير قصد لموجبه وحقيقته؛ بل على وجه اللعب، ونقيضه الجاد من الجِد بكسر الجيم وهو نقيض الهزل". قال ابن القيّم -رحمه الله- في "إِعلام الموقعين" (3/ 136): "فأمَّا طلاق الهازل فيقع عند الجمهور، وكذلك نكاحه صحيح كما صرح به النص، وهذا ¬

_ (¬1) النساء: 43. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1920)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (944)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1658)، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1826).

الطلاق قبل الزواج:

هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين، وهو قول الجمهور، وحكاه أبو حفص أيضاً عن أحمد، وهو قول أصحابه، وقول طائفة من أصحاب الشافعي، وذكر بعضهم أن الشافعي نصَّ على أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه، ومذهب مالك الذي رواه ابن القاسم عنه، وعليه العمل عند أصحابه أن هزل النكاح والطلاق لازم، بخلاف البيع". الطلاق قبل الزواج: لا يقع الطلاق قبل النكاح؛ كان يقول الرجل: إِنْ تزوجت فلانة فهي طالق. عن عبد الله بن عمرو أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا طلاق إِلا فيما تملك" (¬1). وقال الإِمام البخاري (¬2) -رحمه الله-: "باب لا طلاق قبل نكاح، وقول الله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا إِذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلقتموهنّ من قبل أن تمسوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدُّونها فمتعوهنّ وسرّحوهنّ سراحاً جميلاً} (¬3). وقال ابن عباس: جعل الله الطلاق بعد النكاح، ويروى في ذلك عن عليّ وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبان بن عثمان وعليّ بن حسين وشريح وسعيد بن جبير ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1916)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (942)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1666)، وصحَّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1751). (¬2) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الطلاق) "باب - 9". (¬3) الأحزاب: 49.

والقاسم وسالم وطاوُس والحسن وعكرمة وعطاء وعامر بن سعد وجابر بن زيد ونافع بن جبير ومحمد بن كعب وسليمان بن يسار ومجاهد والقاسم بن عبد الرحمن وعمرو بن هرم والشعبيّ أنها لا تطلق (¬1) ". وعنه -رضي الله عنهما- قال: "لا طلاق إلاَّ بعد نكاح، ولا عتق إِلا بعد ملك" (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضاً قال: "ما قالها ابن مسعود، وإن يكن قالها فزلَّة من عالم، في الرجل يقول؛ إِن تزوجت فلانة فهي طالق، قال الله -عزّ وجلّ-: {يا أيها الذين آمنوا إِذا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثمّ طلقتموهنّ}، ولم يقل: إِذا طلقتم المؤمنات ثمّ نكحتموهنّ" (¬3). جاء في "المحلّى" (11/ 529): "ومن قال: إِنْ تزوجتُ فلانة فهي طالق، أو قال: فهي طالقٌ ثلاثاً فكلُّ ذلك باطل، وله أن يتزوّجها ولا تكون طالقاً؛ وكذلك لو قال: كلُّ امرأة أتزوجها فهي طالق -وسواءٌ عيَّن مدّة قريبة أو بعيدة أو قبيلة أو بلدة- كل ذلك باطل لا يلزم، وقد اختلف الناس في هذا ... ". ¬

_ (¬1) وقال الحافظ -رحمه الله- في أثر ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هذا التعليق طرف من أثرٍ أخرجه أحمد فيما رواه عنه حرب في "مسائله" من طريق قتادة عن عكرمة عنه؛ وقال: سنده جيّد". (¬2) أخرجه الحاكم وابن أبي شيبة والبيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (7/ 151). (¬3) أخرجه الطحاوي في "المُشكل" وعنه البيهقي والحاكم، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (7/ 161).

بماذا يقع الطلاق:

ثمّ قال -رحمه الله- (ص 530). "ومن طريق عبد الرزاق نا ابن جريج قال: سمعتُ عطاءً يقول: قال ابن عباس: لا طلاق إِلا من بعد نكاح، قال عطاء: فإِن حلف بطلاق ما لم ينكح فلا شيء قال ابن جريج. بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إِن طلق ما لم ينكح فهو جائز؟ فقال ابن عباس: أخطأ في هذا؛ إِن الله -عزّ وجلّ- يقول: {إِذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلقتموهنّ}، ولم يقل: إِذا طلقتم المؤمنات ثمّ نكحتموهنّ". ثمّ ذكر بعض الآثار المتعلِّقة بذلك. بماذا يقع الطلاق: يقع الطلاق بكل ما يدل على إِنهاء العلاقة الزوجية، سواءٌ أكان ذلك باللفظ، أم بالكتابة إِلى الزوجة، أم بالإِشارة من الأخرس، أو بإِرسال رسول. وجاء في تبويب سنن النسائي (¬1): (باب الطَّلاق بالإِشارة المفهومة)؛ ثمَّ ذكر حديت أنس -رضي الله عنه- قال: "كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جار فارسيّ؛ طيِّب المرقة، فأتى رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يومٍ وعنده عائشة، فأومأ إِليه بيده: أن تعال، وأومأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى عائشة؛ أي: وهذه؟ فأومأ إِليه الآخر هكذا بيده: أن لا؛ مرَّتين أو ثلاثاً ... " (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "صحيح سنن النسائي" (2/ 724). (¬2) أخرجه مسلم: 2037، واللفظ للنسائي، وانظر إلى فقه الإِمام النِّسائي -رحمه الله تعالى- كيف بوَّب له بهذا الباب؛ مع عدم وجود ما يمتُّ بِصِلةٍ نصّاً بالطَّلاق! فجزاه الله -وسائر المحدِّثين والفقهاء- خير الجزاء عن أهل الإسلام.

الطلاق باللفظ:

الطلاق باللفظ: واللفظ قد يكون صريحاً، وقد يكون كناية، فالصريح هو الذي يُفهم من معنى الكلام عند التلفظ به، مثل: أنت طالق، ومطلقة، وكل ما اشتق من لفظ الطلاق. ولو قال من طلَّق بلفظٍ صريح: لم أُرِد الطلاق ولم أقصده؛ وإِنما أردت معنى آخر؛ لا يُصدّق قضاءً، ويقع طلاقه (¬1). الطلاق بالكناية: يقع الطلاق بالكناية مع النية. عن عائشة -رضي الله عنها- "أنّ أبنة الجَوْنِ لما أُدخلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عُذتِ بعظيم، الحقي بأهلك" (¬2). وعن كعب بن مالك -رضي الله عنه- في قصة تخلُّفه قال: " .. إِذا رسول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتيني فقال: إِن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أُطلّقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها ... فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك" (¬3). فكلمة "الحقي بأهلك" أفادت في الحديث الأول الطلاق مع القصد، ولم ¬

_ (¬1) انظر "فقه السُّنّة" (3/ 19). (¬2) أخرجه البخاري: 5254. (¬3) أخرجه البخاري: 4418، ومسلم: 2769.

تُفِد الطلاق في الحديث الثاني لعدم القصد. *والحاصل أن "ما يحتمل الطلاق وغيره، مثل: أنتِ بائن، فهو يحتمل البينونة عن الزواج، كما يحتمل البينونة عن الشر، ومثل: أمرك بيدك، فإِنها تحتمل تمليكها عصمتها ... كما تحتمل تمليكها حرية التصرّف. عن أبي الحلال أنّه وفد إِلى عثمان فقال قلت: "رجلٌ جعَل أمْرَ امرأته بيدها؟ قال: فأمْرها بيدها" (¬1). وقال الزهري: إِن قال: ما أنتِ بامرأتي نيّته، وإن نوى طلاقاً فهو ما نوى (¬2). ومثل: أنتِ عليّ حرام، فهي تحتمل حرمة المتعة بها، وتحتمل حرمة إِيذائها ... والصريح: يقع به الطلاق من غير احتياج إِلى نية تبين المراد منه، لظهور دلالته ووضوح معناه. ولو قال الناطق بالكناية: لم أنوِ الطلاق بل نويت معنى آخر؛ يُصدّق قضاءً، ولا يقع طلاقه لاحتمال اللفظ معنى الطلاق وغيره. والذي يُعيِّن المراد هو النيّة والقصد* (¬3). والحديثان المتقدمان دليل ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "التاريخ" وابن أبي شيبة في "المصنف" وغيرهما، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- فى "الإِرواء" (2049). (¬2) رواه البخاري معلَّقاً مجزوماً به وذكر الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (9/ 393) وصْله عند ابن أبي شيبة. (¬3) ما بين نجمتين من "فقه السّنّة" (3/ 19) بتصرُّفٍ وزيادة، وانظر "المحلى" (11/ 493) تحت المسألة (1960).

حكم الطلاق بلفظ التحريم:

حُكم الطلاق بلفظ التحريم: لا يقع الطّلاق بالتحريم إِذا لم يُرِد الطّلاق. عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنه-: "أنه كان يقول في الحرام: يمينٌ يكفّرها. وقال ابن عباسٍ: " {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة} (¬1) " (¬2). وفي لفظ: "إِذا حرَّم الرَّجل عليه امرأته؛ فهي يمينٌ يكفِّرها" (¬3). وجاء في تبويب "صحيح مسلم" (باب وجوب الكفّارة على من حرّم امرأته ولم ينوِ الطلاق)، ثمَّ ذكر أثر ابن عباس -رضي الله عنهما-. جاء في "الروضة" (2/ 120): "وفي هذه المسألة مذاهب قد ذكر الحافظ ابن القيّم منها ثلاثة عشر مذهباً، وقال: إِنها تزيد على عشرين مذهباً، والذي أرجِّحُه منها: هو أن التحريم ليس من صرائح الطلاق، ولا من كناياته، بل هو يمين من الإِيمان كما سمَّاه الله -عزّ وجلّ- في كتابه، فقال: {يا أيها النّبيّ لِمَ تُحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تَحِلّة أيمانكم} (¬4) فهذه الآية مصرحة بأن التحريم يمين، والسبب وإن كان ¬

_ (¬1) الأحزاب: 21. (¬2) إِشارة إِلى سبب نزول أول سورة التحريم: {يا أيها النّبيّ لمَ تحرّم ما أحل الله لك} [التحريم: 1]. وسيأتي الحديث -إِن شاء الله- المتعلق بشُربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العسل عند زينب -رضي الله عنها- وانظر ما قاله الحافظ -رحمه الله- تحت الحديثين: (4912 و5267). (¬3) أخرجه مسلم: 1473. (¬4) التحريم: 1 - 2.

الطلاق بالكتابة:

خاصّاً وهو العسل (¬1)، الذي حرَّمه على نفسه، أو الأَمَة التي كان يطؤها؛ فلا اعتبار بخصوص السبب، فإِنَّ لفظ: {ما أحل الله لك} عامّ، وعلى فرض عدم العموم فلا فرق بين الأعيان التي هي حلال". وفيه (ص 121): "وفي الباب عن جماعة من الصحابة في تفسير الآية بمثل ما ذكرناه، وبالجملة: الحق ما ذكَرناه، وقد ذهب إِليه جماعة من الصحابة، ومن بعدهم، وجميع أهل الظاهر، وأكثر أصحاب الحديث، وهذا إِذا أراد تحريم العين، وأمَّا إِذا أراد الطلاق بلفظ التحريم؛ غير قاصد لمعنى اللفظ؛ بل قصد التسريح فلا مانع من وقوع الطلاق بهذه الكناية كسائر الكنايات". الطلاق بالكتابة: الكتابة من الوسائل التي تُعبّر عمّا في القلب كما يعبّر اللسان، وكثير من الخير والشرّ انتشر عن طريق الكتابة، وتشهد البشريَّة الآن كيف ينتشر الخير ¬

_ (¬1) يشير -رحمه الله - إِلى حديث عائشة -رضي الله عنها- "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً، قالت: فتواطيت أنا وحفصة: أنّ أيّتنا ما دخل عليها النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْتَقُلْ: إِني أجد منك ريح مغافير، أكلتَ مغافير؟ [جمع مغفور وهو صمغ حلو ... وله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له: العُرفُط .. يكون بالحجاز. "النووي".] فدخل على إِحداهما فقالت ذلك له، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له، فنزل: {لمَ تُحرّم ما أحل الله لك} إلى قوله: {إن تتوبا} (لعائشة وحفصة)، {وإذ أسرَّ النّبيَّ} - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {إِلى بعض أزواجه حديثاً} (لقوله: بل شربتُ عسلاً) ". أخرجه مسلم: 1474. وفي رواية: "لا ولكنّي كنتُ أشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش؛ فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً". أخرجه البخاري: 4912.

والشر؛ عقيدةً ومنهجاً وسلوكاً من خلال الكتابة المجرّدة عن النطق؛ بالإِفادة من التقنيات الحديثة وتطوّر الأجهزة وتقدّم العلوم. والطّلاق فرْع من ذلك وجزء منه، فمن كتَب إِلى زوجه: أنتِ طالق مثلاً؛ مضى هذا الطلاق. وهذا كما لو كتَب شخص عبارةً أخبرَ فيها أنه يبغض الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهذا يُحكم عليه بالخروج عن الإِسلام، ولا يُقال: لا يُحكَم عليه بالكفر إِلا أن ينطِق بذلك!! جاء في "المحلَّى" (11/ 514): "وقد اختلف الناس في هذا: فروينا عن النخعي والشعبي والزهري إِذا كتب الطلاق بيده فهو طلاق لازم، وبه يقول الأوزاعي، والحسن بن حي، وأحمد بن حنبل. وروينا عن سعيد بن منصور نا هشيم أنا يونس، ومنصور عن الحسن، في رجل كتب بطلاق امرأته ثمّ محاه؟ فقال: ليس بشيء إِلا أن يمضيه، أو يتكلم به. وروينا عن الشعبي مثله. وصح أيضاً عن قتادة. وقال أبو حنيفة: إنْ كتب طلاق امرأته في الأرض لم يلزمه طلاق وإن كتبه في كتاب ثمّ قال: لم أنوِ طلاقاً؛ صُدِّقَ في الفتيا، ولم يُصَدَّق في القضاء. وقال مالك: إِنْ كَتَبَ طلاقَ امرأته؛ فإِن نوى بذلك الطلاق فهو طلاق، وإن لم ينو به طلاقاً فليس بطلاق، وهو قول الليث، والشافعي. قال أبو محمد: قال الله -تعالى-: {الطلاق مرتان} (¬1)، وقال -تعالى-: ¬

_ (¬1) البقرة: 229.

{فطلقوهنّ لعدتهنّ} (¬1)، ولا يقع في اللغة التي خاطبنا الله -تعالى- بها ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلّم- اسم تطليق على أن يكتب إِنما يقع ذلك اللفظ به فصح أن الكتاب ليس طلاقاً حتى يلفظ به إِذ لم يوجب ذلك نص. وبالله -تعالى- التوفيق". انتهى. قلت: ومن خلال الآثار التي ذكَرها ابن حزم -رحمه الله- هناك من قال بوقوع الطلاق كما هو في الأثرين الأوليين لأنه لو لم يمْحُه لمضى، كما صرّح بقوله: "ليس بشيء إِلا أن يُمضيه" يعني: يتراجع عن المحو ويعيده حالته الأولى. وكذا الأثر الثالث لقوله: وروّينا عن الشعبي مثله، وصحّ أيضاً عن قتادة، وأمّا قوله: "قال أبو حنيفة: إِن كتَب طلاق امرأته في الأرض لم يلزمه طلاق وإنْ كتبه في كتاب ثمّ قال: لم أنوِ طلاقاً، صدق في الفتيا ولم يصدق في القضاء. فالكلام الآن متعلّق بالنيّة لا بالكتابة، فماذا إِذا كتب وقال: نويت الطّلاق؟ فهذا يُفضي في رأي الإِمام أبي حنيفة -رحمه الله- إِلى أنه صدِّق في الفتيا والقضاء. وأمّا قوله: "قال الإِمام مالك: إِن كتَبَ طلاق امرأته؛ فإِن نوى بذلك الطلاق فهو طلاق، وإن لم ينو به طلاقاً فليس بطلاق؛ وهو قول الليث، والشافعي". فهو كالمسألة التي قبلها بمعنى أن الكتابة معتبرة. وأمّا استدلاله بقوله -تعالى-: {الطلاق مرتان} فالكلام عن العدد لا عن ¬

_ (¬1) الطلاق: 1.

طلاق الأبكم ومن لا يحسن العربية:

الكيف فقد تكونان بالكتابة، أو اللفظ، وقد تكون إِحداهما بالكتابة والأُخرى باللفظ. وكذا استدلاله بقوله -تعالى-: {فطلّقوهنّ لعدَّتهن} فالكلام عن العدّة والمدّة، والحال التي يصلّقها عليه؛ لا عن كيفية الطلاق لفظاً أو كتابة. وأمّا قوله: ولا يقع في اللغة التي خاطبنا الله -تعالى- بها ورسوله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- اسم تطليق على أن يكتب إِنما يقع ذلك اللفظ به فصح أن الكتاب ليس طلاقاً حتى يلفظ به إِذ لم يوجب ذلك نص. فأقول: اللغة لفظ وكتابة، فماذا يقول في مِثل قوله -تعالى-: {إِنّي أُلقي إِليّ كتاب كريم إِنه من سليمان وإِنه بسم الله الرحمن الرحيم} (¬1) -وهذا كلّه كان كتابةً- فهل يقول: إِنه ليس من اللغة. وهناك كلام حول وجوب شاهدين عدلين لإِثبات الكتاب بالطلاق ... فارجع إِليه -إِن شئت التفصيل- في كتاب "المغني" (8/ 415). طلاق الأبكم ومن لا يُحسن العربية: "يطلّق من لا يُحسن العربية بلغته؛ باللفظ الذي يترجم عنه في العربية بالطلاق، ويطلق الأبكم والمريض بما يقدر عليه من الصوت أو الإِشارة؛ التي يوقن بها من سمعهما قطعاً أنهما أرادا الطلاق. وبرهان ذلك: قول الله -عزّ وجلّ-: {لا يكلّف الله نفساً إِلا وسعها} (¬2)، وقول رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم-: "إِذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما ¬

_ (¬1) النمل: 29 - 30. (¬2) البقرة: 286.

طلاق كل قوم بلسانهم:

استطعتم". فصحّ أن ما ليس في وسع المرء ولا يستطيعه فقد سقط عنه، وأنه يؤدي مما أمر به ما استطاع فقط. وبالله -تعالى- التوفيق" انتهى (¬1). طلاق كلّ قوم بلسانهم: قال الإمام البخاري -رحمه الله- ... قال إِبراهيم [هو: النخعي]: " ... وطلاق كلّ قوم بلسانهم" (¬2). إذا طلّق في نفسه فلا يقع الطلاق: عن أبي هريرهّ -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنّ الله تجاوز عن أمّتي ما حدَّثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تتكلَّم" (¬3). وقال قتادة: "إذا طلَّق في نفسه فليس بشيء". قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (9/ 394): "وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة والحسن قالا: من طلق سرَّاً في نفسه فليس طلاقه ذلك بشيء، وهذا قول الجمهور وخالفهم ابن سيرين وابن شهاب فقالا: تطلق، وهي رواية ¬

_ (¬1) قاله الإمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 514) تحت المسألة (1964). (¬2) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم ووصله ابن أبي شيبة قال: حدثنا إِدريس قال: حدثنا ابن أبي إِدريس وجرير فالأوّل عن مطرف والثاني عن المغيرة كلاهما عن إِبراهيم قال: طلاق العجمي بلسانه جائز. ومن طريق سعيد بن جبير قال: "إِذا طلّق الرّجل بالفارسيّة يلزمه"، انظر "الفتح" (9/ 392) للفوائد الحديثية و"مختصر البخاري" (3/ 400) وفيه: " ... وصله ابن أبي شيبة عنه، وهو صحيح". (¬3) أخرجه البخاري: 5269، ومسلم: 127.

الوكالة في الطلاق:

عن مالك (¬1). قلت: وقول الجمهور هو الأرجح؛ لأنّ النّكاح كما لا يكون في النّفس فالطّلاق كذلك والحديث المتقدِّم: "إِن الله تجاوز عن أمَّتي .. " بيِّن الدّلالة. وإيراد الإِمام البخاري -رحمه الله- تحت باب الطَّلاق في الإِغلاق والكره ... يدلُّ على عدم وقوعه لأنَّه داخلٌ في الباب نفسه، والله أعلم. الوكالة في الطلاق: وما مضى عن الوكالة في النكاح يمضي في الطلاق ولا فرق. والله -تعالى- أعلم. التعليق والتنجيز (¬2): (¬3) صيغة الطلاق، إِمّا أن تكون مُنَجَّزة، وإمّا أن تكون مُعلّقة، وإمّا أن تكون مضافة إِلى مستقبل. فالمنجزة، هي الصيغة التي ليست معلّقة على شرط، ولا مضافة إِلى زمن مستقبل، بل قَصد بها من أصدرها وقوع الطلاق فى الحال، كأن يقول الزوج لزوجته: أنتِ طالق. وحُكم هذا الطلاق، أنه يقع في الحال متى صدر من أهله، وصادف محلاً له. وأمّا المعلَّق، وهو ما جعل الزوج فيه حُصولَ الطلاقِ معلّقاً على شرط، مِثل ¬

_ (¬1) قال شيخنا -رحمه الله-: "وصله عبد الرزاق بسند صحيح عنه، وانظر "مختصر البخاري" (3/ 400). (¬2) التنجيز: التعجيل والإِسراع. (¬3) عن "فقه السنَّة" (3/ 26) بتصرُّف وزيادة.

والتعليق قسمان:

أن يقول الزوج لزوجته: إِنْ ذهبتِ إِلى مكان كذا، فأنتِ طالق. ويُشترط في صحة التعليق، ووقوع الطلاق به ثلاثة شروط: الأول: أن يكون على أمر معدوم، ويمكن أن يوجد بعد، فإِنْ كان على أمر موجود فعلاً، حين صدور الصيغة، مثل أن يقول: إِنْ طلع النهار، فأنت طالق. والواقع أن النهار قد طلع فعلاً، كان ذلك تنجيزاً، وإنْ جاء في صورة التعليق. فإِنْ كان تعليقاً على أمْرٍ مستحيل، كان لغواً مثل: إِنْ دخَل الجمل في سمّ الخياط، فأنتِ طالق. الثاني: أن تكون المرأة -حين صدور العقد- محلاً للطلاق، بأن تكون في عصمته. الثالث: أن تكون كذلك، حين حصول المعلّق عليه. والتعليق قسمان: القسم الأول: يُقصد به ما يقصد من القَسم، للحَمل على الفعل أو الترك، أو تأكيد الخبر، ويسمّى التعليق القَسَمِيَّ، مِثل أن يقول لزوجته: إِنْ خرجت، فأنت طالق. مريداً بذلك منْعها من الخروج إِذا خَرَجَت، لا إِيقاع الطلاق (¬1). القسم الثاني: ويكون القصد منه إِيقاع الطلاق عند حصول الشرط، ويُسمّى التعليق الشرطي، مِثل أن يقول لزوجته: إِن أبرأتني من مؤخر ¬

_ (¬1) ويجدُر القول هنا أنّ منَ قصَد الطلاق وادعى أنه عنى اليمين؛ فإِنّه يعيش عمُرَه وحياته بالحرام مع الزوجة، فلا نريد أن نفتح الباب بالقول: "أنا أقصد اليمين؛ لا الطَّلاق" وقد قال الله -تعالى-: {بل الإِنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره} [القيامة: 14 - 15].

صداقك، فأنت طالق. وهذا التعليق -بنوعيه- واقع عند جمهور العلماء، ويرى ابن حزم أنه غير واقع. وفصَّل ابن تيمية، وابن القيّم، فقالا: إِنّ الطلاق المعلق الذي فيه معنى اليمين، غير واقع، وتجب فيه كفّارة اليمين إِذا حصل المحلوف عليه؛ وهي إِطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فإِنْ لم يجد، فصيام ثلاثة أيام. وقالا في الطلاق الشرطي: إِنه واقع عند حصول المعلَّق عليه. قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: والألفاظ، التي يتكلم بها الناس في الطلاق، ثلاثة أنواع: الأول: صيغة التنجيز والإِرسال، كقوله: أنتِ طالق. فهذا يقع به الطلاق، وليس بحلف، ولا كفّارة فيه، اتفاقاً. الثاني: صيغة تعليق، كقوله: الطلاق يلزمني، لأفعلنّ هذا. فهذا يمين، باتفاق أهل اللغة، واتفاق طوائف العلماء، واتفاق العامّة. الثالث: صيغة تعليق، كقوله: إِن فعلتُ فامرأتي طالق. فهذا إِن قصد بِهِ اليمين، وهو يكره وقوع الطلاق، كما يكره الانتقال عن دينه، فهو يمين، حُكمه حُكم الأوَّل، الذي هو صيغة القسم؛ باتفاق الفقهاء. وإنْ كان يريد وقوع الجزاء عند الشرط، لم يكن حالفاً، كقوله: إِنْ أعطيتني ألفاً، فأنتِ طالق وإذا زنيتِ فأنتِ طالق. وقصد إِيقاع الطلاق عند وقوع الفاحشة، لا مجرد الحلف عليها، فهذا ليس بيمين، ولا كفّارة في هذا عند

أحد من الفقهاء -فيما عَلِمناه- بل يقع به الطلاق إِذا وُجدَ الشرط. *وسألت شيخنا الألباني -رحمه الله-: ماذا إِذا قال: إِذا فعلتِ كذا فأنتِ طالق؟ فأجاب -رحمه الله- "إِذا وقع الشَّرط وكان قصده تأديبها فلا يقع الطَّلاق، وإِذا وقع الشرط وكان يقصد الطَّلاق؛ فلا بُدَّ من إِشهادٍ إنْ أراد الطَّلاق؛ وإلا فلا يقع هذا الطَّلاق". وقال -رحمه الله- في بعض مجالسه في موضعٍ آخر: "إِذا علَّق الطَّلاق من باب التَّخويف ولا يقصد التَّطليق؛ مثلاً عنده زوجة كثيرة الزِّيارات ووعظها، فمن باب التَّخويف قال لها: "إِن زرت؛ فأنتِ طالق" يريد تربيتها فهنا لا يقع الطَّلاق. أمّا إِنْ رأى امرأته مع جاره، فقال: إِن رأيتك مع الجار طلَّقتكِ، فإِنَّه يقع الطَّلاق؛ لأنَّه يقصد الطَّلاق"* (¬1) انتهى. وأمّا ما يقصد به الحضّ، أو المنع، أو التصديق، أو التكذيب بالتزامه -عند المخالفة- ما يكره وقوعه؛ سواء كان بصيغة القسم، أو الجزاء، فهو يمين عند جميع الخلق، من العرب وغيرهم. وإنْ كان يميناً، فليس لليمين إِلا حُكمان: إِمّا أن تكون منعقدة، فتكفّر، وإمّا ألا تكون منعقدة، كالحلف بالمخلوقات، فلا تُكفّر. وأمّا أن تكون يميناً منعقدة محترمة، غير مكفّرة، فهذا حُكم ليس في كتاب الله، ولا سنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يقوم عليه دليل. ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من سؤالي شيخنا -رحمه الله- قد أدخلته هنا؛ لصلته الوثيقة بالموضوع.

وأمّا الصيغة المضافة إِلى مستقبل؛ فهي ما اقترنت بزمن، يقصد وقوع الطلاق فيه متى جاء، مثل أن يقول الزوج لزوجته: أنت طالق غداً أو إِلى رأس السنة فإِنّ الطلاق يقع في الغد، أو عند رأس السنة، إِذا كانت المرأة في ملكه عند حلول الوقت، الذي أضاف الطلاق إِليه. قال الإِمام البخاري -رحمه الله-. "قال عطاء: إِذا بدا بالطلاق فله شرطه. وقال نافع: طلق وجلٌ امرأتَهُ البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بُتَّت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء. وقال الزهريّ فيما قال: إن لم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالق ثلاثاً: يُسأل عمّا قال وعقد عليه قلبه حين حلف بتلك اليمين، فإِن سمّى أجلاً أراده وعقد عليه قلبه حين حلف؛ جعل ذلك في دينه وأمانته. وقال قتادة: إِذا قال: إِذا حملت فأنت طالق ثلاثاً يغشاها عند كل طهرٍ مرة، فإِن استبان حملها فقد بانت منه" (¬1). وسألت شيخنا -رحمه الله- عن رجل فَعَل الفاحشة -عياذاً بالله- وقال لزوجه: إِذا أخبرْتِ أحداً؛ فأنت طالق؛ ثم أخبرَت، فهل تُطلَّق؟ فأجاب -رحمه الله-: أيّ طلاق لا يقع إِلا بشاهدَين. انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) قاله الإِمام البخاري -رحمه الله- تعليقاً في (كتاب الطلاق) "ب-11" وانظر للفوائد الحديثية والوصل؛ ما جاء في "فتح الباري" (9/ 389) و"مختصر البخاري" (3/ 398). (¬2) وسيأتي الكلام عن الإِشهاد على الطلاق -إِن شاء الله تعالى- وانظر -إِن شئت- للمزيد من الفائدة في هذا المبحث (أي: التعليق والإنجاز) كتاب "الاختيارات" =

الطلاق السني والبدعي

الطلاق السُّني والبدعي يقسم الطلاق إلى قِسمين: 1 - الطلاق السُّنّي: وهو أن يطلّقها في طُهرها الذي لم يجامِعها فيه، أو أن تكون حاملاً قد استبان حمْلها ويطلقها طلقة واحدة؛ أو كانت يائسةً من المحيض، أو لمَّا تَحِضْ؛ ولو جامعها؛ لعدم وقوع الحمل. وأمّا اشتراط ألا تكون حائضاً فلقوله -سبحانه-: {يا أيها النّبيّ إِذا طلقتم النساء فطلّقوهن لعدّتهنّ} (¬1). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: " {فطلّقوهن لعدّتهنّ} قال: طاهراً في غير جماع" (¬2). وعن عبد الله -رضي الله عنه- أيضاً أنَّه قال: "طلاق السنَّة تطليقها وهي طاهر؛ في غير جماع، فإِذا حاضت وطهرت؛ طلَّقها أخرى؛ فإِذا حاضت وطهرت طلَّقها أخرى؛ ثمَّ تعتدَّ بعد ذلك بحيضة (¬3) ". ¬

_ = (262)، و"الفتاوى" (33/ 44 - 47، 55 - 57، 58 - 61، 64 - 66، 70، 140 - 142، 205 - 207، 223 - 225، 129، 238 - 247، 161 - 170). (35/ 269 - 270، 293 - 294، 246 - 250، 309). (¬1) الطلاق: 1. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير في "تفسيره"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2051). (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (3178).

وجاء في "المغني": (8/ 236) بعد أن ذكر الأثر السَّابق: "ولنا ما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: لا يطلِّق أحد للسنَّة فيندم. رواه الأثرم وهذا إِنَّما يحصل في حقّ من لم يطلِّق ثلاثاً". ولقوله- عليه الصلاة والسلام- في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: " ... ثمّ ليمسكها حتى تطهر، ثمّ تحيض ثمّ تطهر، ثمّ إِن شاء أمسك بعد، وإِن شاء طلّق قبل أن يمسّ، فتلك العِدَّة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء" (¬1). وأمّا اشتراط أن تكون في طُهر لم يجامِعها فيه فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ" يعني في ذلك الطُّهر. ودليل كونها حاملاً: حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنه طلّق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: مُرْهُ فليراجعها ثمّ ليطلقها طاهراً أو حاملاً" (¬2). وأمّا اشتراط ألا يطلّقها في ذلك الطُّهر أكثر من طلقة فلقوله -تعالى-: {الطلاق مرّتان} قال ابن القيّم -رحمه الله- في "الزاد" (5/ 244): "ولم يشرع الله -سبحانه- إِيقاع الثلاث جُملة واحدة ألبتة؟ قال -تعالى-: {الطلاق مرّتان}، ولا تعقل العرب في لغتها وقوع المرتين إِلا متعاقبتين، كما قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سبّح الله في دُبُرِ كلّ صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5251، ومسلم: 1471. (¬2) أخرجه مسلم: 1471.

ثلاثاً وثلاثين، وكبّر الله ثلاثاً وثلاثين" (¬1)، ونظائره فإِنه لا يُعقل من ذلك إِلا تسبيح وتكبير وتحميد متوالٍ يتلو بعضه بعضاً، فلو قال: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين بهذا اللفظ، لكان ثلاث مرات فقط. وأصرح من هذا قوله -سبحانه-: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إِلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} (¬2) فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات إِني لمن الصادقين، كانت مرّة، وكذلك قوله: {ويدرأُ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إِنّه لمن الكاذبين} (¬3) فلو قالت: أشهد بالله أربع شهادات إِنه لمن الكاذبين، كانت واحدة، وأصرح من ذلك قوله -تعالى-: {سنعذّبهم مرتين} (¬4) فهذا مرة بعد مرة. ومما يدل على أنّ الله لم يشرع الثلاث جملة، أنه -تبارك وتعالى- قال: {والمطلقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء} إِلى أن قال: {وبعولتهنّ أحقُّ بردّهنّ في ذلك إِنْ أرادوا إِصلاحاً} (¬5)، فهذا يدلُّ على أن كلّ طلاق بعد الدخول، فالمطلّق أحقُّ فيه بالرجعة سوى الثالثة المذكورة بعد هذا، وكذلك قوله -تعالى-: {يا أيها النّبيّ إِذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لعدتهنّ} إِلى ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 597. (¬2) النور: 6. (¬3) النور: 8. (¬4) التوبة: 101. (¬5) البقرة: 228.

2 - الطلاق البدعي:

قوله: {فإِذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف} (¬1) فهذا هو الطلاق المشروع. وقد ذكَر الله -سبحانه وتعالى- أقسام الطلاق كُلها في القرآن، وذكر أحكامها، فذكَر الطلاق قبل الدخول، وأنه لا عدّة فيه، وذكَر الطلقة الثالثة، وأنها تُحرِّم الزوجة على المطلِّق حتى تنكح زوجاً غيره، وذكَر طلاق الفداء الذي هو الخلع، وسمَّاه فدية، ولم يحسبه من الثلاث ... وذكر الطلاق الرجعيّ الذي المُطلِّق أحقُّ فيه بالرجعة، وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة. 2 - الطّلاق البدعي: وهو أن يطلّقها في حيضٍ أو نفاس أو في طُهرٍ جامعَها فيه ولا يدري أحملت أم لا، أو أن يطلّقها ثلاثاً فيقول: أنت طالق ثلاثاً أو يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. طلاق الآيسة والصغيرة ومنقطعة الحيض: وطلاق هؤلاء إِنَّما يكون للسُّنّة؛ إِذا كان طلاقاً واحداً؛ ولا يشترط له شرطٌ آخر غير ذلك (¬2). وجاء في "المحلّى" (11/ 452): "وأمّا التي لم تحض -أو قد انقطع حيضها- فإِن الله -عزّ وجلّ- أجمل لنا إِباحة الطلاق، وبين لنا طلاق الحامل، وطلاق التي تحيض، ولم يَحُدَّ لنا -تعالى- في التي لم تحض، ولا في التي انقطع حيضها حداً، فوجب أنه -تعالى- أباح طلاقها متى شاء الزوج، إِذ لو كان له -عزّ وجلّ- ¬

_ (¬1) الطلاق: 1 - 2. (¬2) "فقه السنّة" (3/ 33). وسيأتي المزيد من التفصيل- إِن شاء الله تعالى- في العدّة.

هل يقع طلاق الحائض؟

في وقت طلاقها شرع لبيَّنه علينا". هل يقع طلاق الحائض؟ جاء في "الروضة الندية" (2/ 105): "هذه المسألة من المعارك التي لا يجول في حافاتها إِلا الأبطال، ولا يقف على تحقيق الحق في أبوابها إِلا أفراد الرجال، والمقام يضيق عن تحريرها على وجه ينتج المطلوب. فمن رام الوقوف على سرِّها؛ فعليه بمؤلَّفات ابن حزم كـ "المحلّى" ومؤلَّفات ابن القيِّم كـ "الهدي". وقد جمع السيد العلامة محمد بن إِبراهيم الوزير في ذلك مصنَّفاً حافلاً، وجمع الإِمام الشوكاني رسالة ذكَر فيها حاصل ما يحتاج إِليه من ذيول المسألة، وقرر ما ألهم الله إِليه، وذكر في "شرح المنتقى" أطرافاً من ذلك. وخلاصة ما عوَّل عليه القائلون بوقوع الطلاق البدعي؛ هو اندراجه تحت الآيات العامَّة، وتصريح ابن عمر بأنها حسبت تلك طلقة. وأجاب القائلون بعدم الوقوع عنهم بمنع اندراجه تحت العمومات لأنه ليس من الطلاق الذي أذن الله به؛ بل هو من الطلاق الذي أمر الله بخلافه قال: {فطلِّقوهنّ لعدتهنّ}. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مره فليراجعها". وصح أنه غضب عند أن بلغه ذلك، وهو لا يغضب مما أحلَّه الله ... " (¬1). وقد خاض غمار هذه المعركة شيخنا -رحمه الله- فانظر ما فصّله في "الإِرواء" تحت الحديث (2059) في قرابة أربع عشرة صفحة أفاض فيها بالطُّرق والروايات والألفاظ؛ أحاديث وآثاراً ثمّ بدأ -رحمه الله- بالترجيح ¬

_ (¬1) انظر -إِن شئت- ردّ شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" تحت الحديث (2059) و"التعليقات الرضية" (2/ 247).

عدد الطلقات:

بطريقة عجيبة تروي الغليل؛ مفيداً من علم مصطلح الحديث والفقه وأصوله، فارجع إِلى المصدر المشار إِليه للمزيد من الفائدة. والحاصل أنه رأى إيقاع طلاق الحائض، وانظر ما قاله (8/ 133) في إِجابته على ابن القيّم -رحمهما الله تعالى- في عدم وقوعها. والنصّ المشار إِليه من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مُره فلْيراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثمّ تحيض ثمّ تطهر، ثمّ إِن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق بها النساء" (¬1). جاء في "المغني" (8/ 237): "فإِنْ طلَّق للبدعة وهو أن يطلقها حائضاً، أو في طهر أصابها فيه؛ أثِم ووقع طلاقه في قول عامَّة أهل العلم. قال ابن المنذر وابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إِلا أهل البدع والضلال وحكاه أبو نصر عن ابن علية وهشام بن الحكم والشيعة قالوا: لا يقع طلاقه لأنّ الله -تعالى- أمر به في قبل العدة فإِذا طلّق في غيره لم يقع كالوكيل إِذا أوقعه في زمن أمره موكله بإِيقاعه في غيره ولنا حديث ابن عمر أنّه طلق امرأته وهي حائض فأمره النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يراجعها ... ". عدد الطلقات: إِذا بنى الرَّجل بأهله ملَك عليها ثلاث طلقات، وأُمِر أن يكون ذلك على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5251، ومسلم: 1471.

مرات، قال -سبحانه-: {الطلاق مرتان فإِمساك بمعروف أو تسريح بإِحسان} (¬1). قال ابن كَثير -رحمه الله- في "تفسيره": "هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإِسلام، من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته، وإنْ طلّقها مائة مرّة ما دامت في العدّة، فلمّا كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصَرهم الله -عزّ وجلّ- إِلى ثلاث طلقات، وأباح الرجعة في المرّة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، فقال: {الطَّلاق مَرَّتان فإِمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإِحسان} قال أبو داود -رحمه الله- في "سننه": "باب في نسْخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث". ثمّ ساق بإِسناده إِلى ابن عباس -رضي الله- قال: {والمطلقات يتربَصنّ بأنفسهنَّ ثلاثة قروء ولا يحلُّ أن يكتُمن ما خَلَق الله في أوحامهنّ} (¬2)." الآية، وذلك أنّ الرجل كان إِذا طلّق امرأته فهو أحق برجعتها، وإنْ طلقها ثلاثاً، فَنُسِخ ذلك وقال: {الطلاق مرّتان} (¬3) " (¬4). قال العلاّمة أبو بكر الجصَّاص -رحمه الله-: "تضمّنت [الآَية] الأمر بإيقاع ¬

_ (¬1) البقرة: 229. (¬2) البقرة: 228. (¬3) البقرة: 229. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1921) والبيهقي والنسائي وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2080).

هل يقع طلاق الثلاث جملة أم يحسب طلقة؟

الاثنتين في مرتين، فمن أوقع الاثنتين في مرّة؛ فهو مخالف لحُكمها" (¬1)، هل يقع طلاق الثلاث جملةً أم يُحسب طلقة؟ قال الله -تعالى-: {الطلاق مرّتان}. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إِن الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم" (¬2). وجاء في "الفتاوى" (33/ 7): "وإن طلَّقها ثلاَثاً في طُهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات؛ مِثل أن يقول. أنتِ طالق فلاناً، أو أنتِ طالق وطالق وطالق، أو أنت طالق، ثمّ طالق، ثم طالق. أو يقول: أنت طالق، ثمّ يقول: أنت طالق، ثمّ يقول: أنت طالق، أو يقول: أنت طالق ثلاثاً، أو عشر طلقات أو مائة طلقة، أو ألف طلقة ونحو ذلك من العبارات: فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال، سواء كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها، وكما السلف من فرّق ببن المدخول بها وغير المدخول بها، وفيه قول رابع محدث مبتدع. أحدها: أنه طلاقٌ مباح لازم، وهو قول الشافعي، وأحمد في الرواية القديمة عنه: اختارها الخرقي. ¬

_ (¬1) انظر "أحكام القرآن" وذكَره العلامة أحمد شاكر -رحمه الله- في "نظام الطلاق في الإِسلام" (ص 12). (¬2) أخرجه مسلم: 1472.

الثاني: أنه طلاقٌ مُحرَّم لازم وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه، اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين، والذي قبله منقول عن بعضهم. الثالث: أنه مُحرَّم، ولا يلزم منه إِلا طلقة واحدة، وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثل الزبير بن العوَّام، وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان؛ وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم: مِثل طاوس وخلاس بن عمرو، ومحمد بن إِسحاق وهو قول داود وأكثر أصحابه؛ ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد، ولهذا ذهب إِلى ذلك من ذهب من الشيعة، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل. وأمّا القول الرابع الذي قاله بعض المعتزلة والشيعة فلا يعرف عن أحد من السلف، وهو أنه لا يلزمه شيء. والقول الثالث هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة؛ فإِنَّ كلَّ طلاق شرَعَه الله في القرآن في المدخول بها إِنما هو الطلاق الرجعي؛ لم يشرع الله لأحد أن يُطلِّق الثلاث جميعاً، ولم يشرع له أن يطلق المدخول بها طلاقاً بائناً، ولكن إِذا طلقها قبل الدخول بها بانت منه، فإِذا انقضت عدتها بانت منه". وفيه (33/ 92): "وليس في الأدلة الشرعية: الكتاب والسنة والإِجماع والقياس ما يوجب لزوم الثلاث له، ونكاحه ثابت بيقين، وامرأته مُحرَّمة على الغير بيقين، وفي إِلزامه بالثلاث إِباحتها للغير مع تحريمها عليه وذريعة إِلى نكاح

التحليل الذي حرَّمه الله ورسوله. و"نكاح التحليل" لم يكن ظاهراً على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه. ولم يُنقل قط أنّ امرأة أُعيدت بعد الطلقة الثالثة على عهدهم إِلى زوجها بنكاح تحليل؛ بل "لعَن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحلل والمحلل له" (¬1). وفيه (32/ 310): " ... وكما قال طائفة من السلف فيمن طلّق ثلاثاً بكلمة: هو جاهلٌ بالسُّنة؛ فيُردّ إِلى السُّنة". وفيه (32/ 312): "وذِكر كلام الناس على "الإِلزام بالثلاث": هل فعَله مَن فَعَلَه من الصحابة لأنه شرع لازم من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أو فعله عقوبة ظهور المنكر وكثرته؟ وإِذا قيل: هو عقوبة: فهل موجبها دائم لا يرتفع؟ أو يختلف باختلاف الأحوال؟ وبين أن هذا لا يجوز أن يكون شرعاً لازماً، ولا عقوبة اجتهادية لازمة؛ بل غايته أنه اجتهاد سايغ مرجوح، أو عقوبة عارضة شرعية، والعقوبة إِنما تكون لمن أقدم عليها عالماً بالتحريم. فأمّا من لم يعلم بالتحريم، ولمَّا علمَه تاب منه؛ فلا يستحق العقوبة، فلا يجوز إِلزام هذا بالثلاث المجموعة؛ بل إِنما يلزم واحدة، وهذا إِذا كان الطلاق بغير عِوَض فأمّا إذا كان بعوض فهو فدية". وقال ابن القيّم -رحمه الله- في "إِعلام الموقعين" (3/ 47): "والمقصود أنّ هذا القول (¬2) قد دلّ عليه الكتاب والسّنة والقياس والإِجماع القديم، ولم يأت ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1570)، والترمذي وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (1897)، وتقدّم. (¬2) يعني أنّ الثلاث تقع واحدة.

بعده إِجماع يبطله، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثُر منهم إِيقاعه جملة واحدة؛ فرأى من المصلحة عقوبتهم بإِمضائه عليهم؛ ليعلموا أنّ أحَدَهم إِذا أوقعه جملةً؛ بانت منه المرأة، وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة؛ يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإِنه كان من أشد الناس فيه، فإِذا علموا ذلك كَفُّوا عن الطلاق المحرّم، فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعهد الصِّدِّيق وصدراً من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتَّقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجاً، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلّقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبةَ لهم؛ فإِنّ الله -تعالى- إِنّما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدّى حدود الله، وظلم نفسه، ولعب بكتاب الله، فهو حقيق أن يُعاقب، ويُلْزَمَ بما التزمه، ولا يُقرّ على رخصهّ الله وسعَتِه، وقد صعَّبها على نفسه، ولم يتق الله ولم يُطلِّق كما أمَره الله وشرع له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه رحمة منه وإحساناً، ولبّس على نفسه، واختار الأغلظ والأشد؛ فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان، وعلم الصحابة -رضي الله عنهم- حُسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به، وصرحوا لمن استفتاهم بذلك ... " (¬1). وأما فتاوى بعض الصَّحابة -رضي الله عنهم- التي نصّت على إِيقاع من طلّق ثلاثاً في مجلسٍ واحد ووقوعه ثلاثاً؛ ففيها آثار ثابتة. ¬

_ (¬1) وانظر ما قاله العلامة ابن القيّم -رحمه الله- كذلك في "زاد المعاد" (5/ 241).

فعن مجاهد قال: "جلست عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إِنه طلق امرأته ثلاثاً فسكت حتى ظننت أنه رادّها إليه ثمّ قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثمّ يقول: يا ابن عباس، وإنَّ الله قال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} (¬1) وإِنك لم تتق الله، فلم أجد لك مخرجاً؛ عصيت ربك فبانت منك امرأتك". وفي زيادة: "وإِنّ الله قال: {يا أيها النّبيّ إِذا طلقتم النساء فطلقوهنّ} في قبل عدتهن" (¬2). وعن مجاهد أيضاً: "أنّ ابن عباس سُئِلَ عن رجل طلق امرأته مائة، فقال: عصيت ربك وفارقْتَ امرأتك". وفي زيادة: "لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً" (¬3). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- " أنّ رجلاً طلَّق امرأته ألفاً قال: يكفيك من ذلك ثلاث". وفي زيادة: "وتدَع تسعمائة وسبعاً وتسعين" (¬4). ¬

_ (¬1) الطلاق: 2. (¬2) أخرجه أبو داود ومن طريقه البيهقي والزيادة له، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2055). (¬3) أخرجه الدارقطني والطحاوي والبيهقى والزيادة له، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2056). (¬4) أخرجه الدارقطني والبيهقي والزيادة له، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2057).

وعن سعيد بن جبير قال: "جاء رجل إِلى ابن عباس فقال: إِني طلقت امرأتي ألفاً؟ قال: أمّا ثلاث فتحرم عليك امرأتك، وبقيتهن وزر. اتَّخذْتَ آيات الله هزواً" (¬1). انتهى. قلت: وهذه الآثار في إِيقاع بعض الصحابة -رضي الله عنهم- الطَّلاق جملة واحدة؛ إِنما كانت اجتهاداً في إِمضاء العقوبة، كيلا تفشو وتشيع في النّاس، فإِيقاعها على عدد قليل تأديباً وتربية يعيد واقع الناس إِلى ما كان عليه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وأوَّل خلافة: عمر -رضي الله عنهما-. وحديث النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو المقدَّم. فلا تقع هذه الألفاظ، ومع ذلك فقد ثبتَ عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن الرجل إِذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً بفم واحد فهي واحدة". جاء في "الإِرواء" (7/ 121): "قال أبو داود: وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: "إِذا قال: أنت طالق ثلاثاً بفم واحد، فهي واحدة". ورواه إِسماعيل بن إِبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، لم يذكر ابن عباس، وجعله قول عكرمة". ثمّ قال أبو داود: "وقول ابن عباس هو أن الطلاق الثلاث تبين من زوجها مدخولاً بها وغير مدخول بها، لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، هذا مثل خبر الصرف قال فيه، ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي والدارقطني وابن أبي شيبة، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (7/ 123).

ثمّ إِنه رجع عنه. يعني ابن عباس". ثمّ ساق أبو داود بإِسناده الصحيح عن طاوس: "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبي بكر، وثلاثاً من إِمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم". وأخرجه مسلم في "صحيحه" والنسائي وأحمد وغيرهم. قال شيخنا -رحمه الله-: "وخلاصة كلام أبي داود أنّ ابن عباس -رضي الله عنه- كان له في هذه المسألة وهي الطلاق بلفظ ثلاث قولان: أحدهما: وقوع الطلاق بلفظ ثلاث، وعليه أكثر الروايات عنه. والآخر: عدم وقوعه كما في رواية عكرمة عنه، وهي صحيحة. وهي وإنْ كان أكثر الطرق عنه بخلافها، فإِنَّ حديث طاوس عنه المرفوع يشهد لها. فالأخذ بها هو الواجب عندنا، لهذا الحديث الصحيح الثابت عنه من غير طريق، وإنْ خالفه الجماهير، فقد انتصر له شيخ الإِسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم وغيرهما، فمن شاء تفصيل القول في ذلك، فليرجع إِلى كتبهما، ففيها الشفاء والكفاية -إِن شاء الله تعالى-". انتهى. قال العلامة أحمد شاكر -رحمه الله- عقب حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- بحذف وتصرّف يسير-: "وهذا الحديث أصل جليل من أصول التشريع في الطلاق والبحث فيه من مزالق الأقدام، فإِنه يصادم كثيراً مما يذهب إِليه جمهور العلماء وعامة الدّهماء في الطلاق. وقديماً كان موضع نزاع وخلاف واضطراب، ولشيخ الإِسلام ابن تيمية ثمّ تلميذه الإِمام ابن القيّم الباعُ

الطويل في شرحه والكلام عليه، ونصرة القول بوقوع الطلاق الثلاث طلقة واحدة فقط، كما هو معروف مشهور. وأول ما نبحث فيه أن نحدد موضع الخلاف بين القائلين بوقوع الطلقات الثلاث مجموعة وبين القائلين وقوعها طلقة واحدة. فالذي يظنه كل الناس، والذي يفهم من أقوال جمهور من تعرضوا لهذا البحث من العلماء: أنهم يريدون بالطلاق الثلاث لفظ (طالق ثلاثاً) وما في معناه، أي: لفظ الطلاق موصوفاً بعدد لفظاً أو إِشارة أو نحو ذلك. ويعتبرون أنَّ الخلاف بين المتقدمين في وقوع الطلاق الثلاث أو عدم وقوعه؛ إِنما هو في هذه الكلمة وما في معناها، بل ويحملون كل ما ورد في الأحاديث والأخبار من التعبير عن إِيقاع طلقات ثلاث على أنه قول المطلِّق: (طالق ثلاثاً). وكل هذا خطأ صرف، وانتقال نظر غريب، وقلبٌ للأوضاع العربية في الكلام، وعدول عن استعمالٍ صحيحٍ مفهومٍ إِلى استعمال باطل غير مفهوم. ثمّ تغالوا في ذلك حتى قال قائلهم: إِذا خاطب أمرأته بلفظ من ألفاظ الطلاق، كقوله: أنت طالق أو بائن أو بَتّةٌ أو ما أشبهها ونوى طلقتين أو ثلاثاً وقع، فجعلوا النية تقوم مقام العدد اللفظي. ووجه الخطأ في ذلك: أن العقود كالبيع والنكاح، والفسوخ كالإِقالة والطلاق: حقائق معنوية، لا وجود لها في الخارج إِلا بإِيجادها بالدلالة عليها بالألفاظ التي وُضِعت لها، في العرف اللغوي في الجاهلية، ثمّ العرف الشرعي

في الإِسلام، كقوله: بعت ونكحت وأقَلْت وطلّقْت. فهذه الحقائق توجد عند النطق بالألفاظ الموضوعة لها بشروطها، فقول القائل. أنت طالق يوجد به حين القول حقيقة معنوية (واقعيَّة: هي الطَّلاق، أو هي فسخٌ وإنْهاءٌ لعقد الزَّواج الذي بينهما) بصفة خاصة لها أحكام معينة، ووصفُهُ بعد ذلك هذا الفعل بالعدد (مرتين) أو (ثلاثاً) وصْفٌ باطل غير صحيح، وهو لغو من القول، إِذ إنَّ قوله: (ثلاثاً) -مثلاً- صفة لمفعول مطلق محذوف، هو مصدر الفعل، وهو (طلاقاً) وهذا المصدر هو الذي تحققت به الحقيقة المعنوية عند النطق بقوله: (أنت طالق)، وتحقُّقُها بهذا المصدر إِنما يكون مرة واحدة ضرورة، ولا تتحقق مرة أخرى إِلا بِنُطق آخر مثل سابقه، أي يقصد به الإِنشاء والإِيجاد (¬1). وأمَّا وصف المصدر بأنه مرتان أو ثلاث لا تتحقق به حقيقة جديدة، لأن الإِنشاء إِنما يكون في الحال -أعني حال النُّطق- ولا يكون ماضياً ولا مستقبلاً، والتكرار يستدعي زمناً آخر للثاني ثمّ الثالث، فلا يكون زمنها كلها حالاً، إِذ أنه محال عقلاً. وهكدا الشأن في نظائره، فلا يسوغ لك أن تقول: (بعت ثلاثاً) على معنى القصد إِلى إِيجاد عقد البيع وإنشائه، وكذلك في الجمل الإِنشائية الصرفة، لا يسوغ أن تقول: (سبحان الله ثلاثاً) -أعني هذه الجملة كما هي ¬

_ (¬1) وقال -رحمه الله- في التعليق: ولذلك قالوا: لو قال لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فإِن نوى إِنشاء الطلاق بكل واحدة كان ثلاث طلقات -عندهم- وإن نوى التأكيد بالجملتين الأخريين وقع واحدة فقط.

لأنك تقصد بها إِلى تسبيح الله -تعالى- فاللفظ بها تنزيه وتسبيح مرة واحدة، فصار قولك: (ثلاثاً) لغواً لا يتسق مع صواب القول في الوجه العربي. وأمّا قول القائل: (اضرب ثلاثاً) فإِنه نوع آخر، وذلك أنه إِنشاء للأمر -بالضرب- مرة واحدة أيضاً، وهو المعنى الوضعي لفعل الأمر، وكلمة (ثلاثاً) وصف أيضاً للمصدر المضمر في الفعل، أعني (ضرباً)، وهو الذي قد يحصل في المستقبل طاعة لمدلول صيغة الإِنشاء، وقد لا يحصل عند العصيان، وليس هو -أي المصدر- مدلول الصيغة؛ لأنه قد لا يحصل إِذا خالف المأمور الأمر فلم يفعل ما أمَره به، مع أن مدلول الصيغة قد تم وتحقق، وهو حصول الأمر من الأمر بخلاف أنواع الإِنشاء -اللفظي أو المعنوي- التي يكون مدلولها حقيقة لا تتحقق ولا توجد إِلا بنفس النطق بها وحده، فلا يمكن تكرار المدلول إِلا بتكرار اللفظ الدال عليه. ونظائر ذلك في الشريعة كثير. فإِنّ الملاعِن أُمِر بأن يقول أربع مرات: (أشهد بالله إِني لمن الصادقين) فلا بد لطاعة الأمر من أن يقول هذه الجملة مراراً أربعة مكررة في اللفظ. أمّا إِذا قال: (أشهد بالله أربع مرات إِني لمن الصادقين) لكان قوله معدوداً مرة واحدة، وبقي عليه ثلاث. لا أقول: إِن هذا إِجماع -وهو إِجماع فعلاً-؛ ولكن أقول: إِنه بالبداهة التي لا يقبل في العقل غيرها، ولا يتصور أحد سواها. قال ابن القيّم -رحمه الله تعالى- في "إِعلام الموقعين" (3/ 27) -بعد أنْ ذكَر أن الله -تعالى- جعل الطلاق مرة بعد مرة-: وما كان مرة بعد مرّة لم يملك

المكلف إِيقاع مرَّاته جملة واحدة، كاللعان [وذكر الكلام السابق] ولو حَلَف في القسامة وقال: أقسم بالله خمسين يميناً أنّ هذا قاتِلُه؛ كان ذلك يميناً واحدة. ولو قال المقِرُّ بالزنى: أنا أقر أربع مرات أني زنيت؛ كان مرة واحدة، فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إِلا إِقراراً واحداً (¬1). وقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرّة حُطّت عنه خطاياه وإن كانت مِثل زبد البحر (¬2) ". فلو قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة؛ لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة ... وكذلك قوله: "من قال: لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له؛ له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير في يوم مائة مرة ... وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي (¬3) ". لا يحصل هذا إِلا مرة بعد مرة. وهكذا قوله: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحُلُمَ منكم ثلاث مرات} (¬4) وهكذا قوله في الحديث: "الاستئذان ثلاث مرّات فإِن أُذن لك وإلا فارجع" لو قال الرجل ثلاث مرات هكذا؛ كانت مرة واحدة، حتى يستأذن مرة بعد مرة (¬5). ... [إِنَّ] قول القائل: "أنت طالق ثلاثاً" ونحوه -أعني إِيقاع الطلاق ¬

_ (¬1) وتقدّم هذا في الطلاق السنّي والبدعي. (¬2) أخرجه البخاري: 6405، ومسلم: 2691. (¬3) أخرجه البخاري: 3293، ومسلم: 2691. (¬4) النور: 58. (¬5) وانظر ما قاله العلامة ابن القيّم -رحمه الله- في "الزاد" (5/ 244) وذكرته في "الطلاق السني والبدعي".

وإنشاءه بلفظ واحد موصوف بعدد- لا يكون في دلالة الألفاظ على المعاني لغة وفي بديهة العقل إلاَّ طلقة واحدة، وأن قوله: (ثلاثاً) في الإِنشاء والإِيقاع، قول محال عقلاً، باطل لغة، فصار لغواً من الكلام، لا دلالة له على شيء في تركيب الجملة التي وضع فيها، وإنْ دلّ في نفسه على معناه الوضعي دلالة الألفاظ المفردة على معانيها. كما إِذا ألحق المتكلم بأية جملة صحيحة كلمة لا تعلُّق لها بالكلام، فلا تزيد على أن تكون لغواً باطلاً. [وكذلك] الخلاف بين التابعين فمن بعدهم في الطلاق الثلاث ونحوه، إِنما هو في تكرار الطلاق. أعني: أن يطلق الرجل امرأته مرّة ثمّ يطلقها مرة أخرى ثمّ ثالثة؛ وأعني أيضاً: أن موضوع الخلاف هو: هل المعتدة يلحقها الطلاق؟ أي: إِذا طلقها المرة الأولى فصارت معتدة، ثمّ طلقها طلقةً ثانية في العدة؛ هل تكون طلقة واقعة ويكون قد طلقها طلقتين؛ فإِذا ألحق بهما الثالثة وهي معتدة من الأولى؛ هل تكون طلقة واقعة أيضاً ويكون قد أوقع جميع الطلقات التي له عليها وأبانها وبتّ طلاقها؟ أو أنّ المعتدة لا يلحقها الطلاق؟ فإِذا طلَّقها الطلقة الأولى كانت مطلقة منه، وهي في عدته، لا يملك عليها إلاَّ ما أَذِنه به الله: {فإِمساك بمعروف أو تسريح بإِحسان} (¬1) إِن ندم على الفراق راجعها فأمسكها، وإِنْ أصرّ على الطلاق فليدعْها حتى تنقضي عدتها، ثمّ يسرِّحها بإِحسان من غير مُضارّة، ثمّ هو بالنسبة إليها بعد ذلك إِنْ رغب في عودتها كغيره من الرجال: خاطِبٌ من الخٌطَّاب؟ هذا هو موضع الخلاف على التحقيق، وأمّا كلمة (أنت طالق ثلاثاً) ¬

_ (¬1) البقرة: 229.

ونحوها فإِنما هي مُحال، وإِنما هي تلاعب بالألفاظ، بل هي تلاعُب بالعقول والأفهام!! ولا يعقل أن تكون موضع خلاف بين الأئمة من التابعين فمن بعدهم. وقال -رحمه الله- (ص 37) في التعليق: "وأما الأحاديث التي تجد فيها أن فلاناً أو رجلاً طلّق زوجته ثلاثاً: فإنما هي إخبار، أي أن الراوى يحكي عن المطلق ويخبر عنه أنه طلق ثلاثاً، فهذا إِخبار صادق، لأنه يحكي عن غيره أو عن نفسه أنه أوقع ثلاث تطليقات إِنشاءً لكل واحدة منها، كما تحكي عن نفسك أو عن غيرك، فتقول: صلى أربع ركعات، وسبح مائة تسبيحة، وهكذا ... (¬1) انتهى. وبعد: فإِذ قد تحققنا أن التطليق بلفظ: (أنت طالق ثلاثاً) ونحوه إِنما هو تطليق واحد قطعاً، وأنه ليس مما اختلف في وقوعه ثلاثاً أو واحدة: فلنرجع إِلى الخلاف في وقوع الطلاق الثلاث، أو بتعبير أدق: هل يقع طلاق آخر على المعتدة؟ ثمّ ذكَر حديث ابن عباس -رضي الله عنه- في تطليق ركانة بن عبد يزيد -أخي بني مطلب- امرأته ثلاثاً في مجلس واحد. وقد اختلف فى إِسناده ولفظه، وللعلماء فيه أقوال (¬2). ¬

_ (¬1) يريد العلامة أحمد شاكر -رحمه الله - أنه طلّق زوجته ثلاثاً بالشروط المعروفة؛ لا أنه طلّق الثلاث مجموعة مرّة واحدة. (¬2) انظر "الفتاوى" (32/ 311) وتفصيل العلاَّمة أحمد شاكر -رحمه الله - في كتابه المشار إِليه (ص 27 - 38) وتخريج شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2063).

[وبعد إِفاضة وتفصيل من شيخنا -رحمه الله- ونقولات كثيرة للعلماء في "الإِرواء" تحت الحديث (2063) ذكَر حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وقال: " ... هذا الإِسناد صححه الإِمام أحمد والحاكم والذهبي وحسنه الترمذي في متن آخر تقدّم برقم (1921)، وذكرنا هناك اختلاف العلماء في داود بن الحصين وأنه حجة في غير عكرمة، ولولا ذلك لكان إسناد الحديث لذاته قوياً، ولكن ذلك لا يمنع من الاعتبار بحديثه والاستشهاد بمتابعته لبعض بني رافع، فلا أقل من أن يكون الحديث حسناً بمجموع الطريقين عن عكرمة، ومالَ ابن القيّم إِلى تصحيحه وذكر أن الحاكم رواه في "مستدركه" وقال: إِسناده صحيح، ولم أره في "المستدرك" لا في "الطلاق" منه، ولا في "الفضائل" والله أعلم، وقال ابن تيمية في "الفتاوى" (3/ 18): "وهذا إِسناد جيد". وكلام الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/ 316) يشعر بإِنه يرجح صحته أيضاً ... "]. وفي "صحيح سنن أبي داود" (1922): عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- قال: "طلّق عبد يزيد -أبو ركانة وإِخوته- أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: ما يُغني عني، إِلا كما تغني هذه الشعرة -لشعرة أخذتها من رأسها- ففرّق بيني وبينه، فأخذت النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمِيَّةٌ، فدعا بِركانة وإِخوته، ثمّ قال لجلسائه: أترون فلاناً يشبه منه كذا وكذا -من عبد يزيد-، وفلاناً يشبه منه كذا وكذا؟ قالوا: نعم! قال النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد يزيد: طلقها ففعل، ثمّ قال: راجع امرأتك أم ركانة وإخوته، قال: إِني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله، قال: قد علمت، راجعها وتلا: {يا أيها النّبيّ إِذا طلقتم النساء فطلقوهنّ لعدتهنّ} ".

قال أبو داود: وحديث نافع بن عجير، وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده: أن ركانة طلق امرأته البتة فردها إِليه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصح؛ لأن ولد الرجل وأهله أعلم به: إِنّ ركانة إِنما طلق امرأته البتة فجعلها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدة". انتهى. واستأنف العلامة أحمد شاكر -رحمه الله- كلامه قائلاً: "وقال ابن عباس أيضاً: كان الطلاق على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إِنّ النّاس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم" (¬1). وفي رواية في "صحيح مسلم" (1472) عن طاوس: "أنّ أبا الصّهباء قال لابن عباس: هات من هَناتِك (¬2)، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك، فلمّا كان في عهد عمر تتايع (¬3) النّاس في الطلاق فأجازه عليهم". وفي رواية "لمسلم" (1472) أيضاً عن طاوس: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: "أتعلم أنما كانت الثلاث تُجعل واحدة على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وثلاثاً من إِمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1472. وتقدَّم. (¬2) هَناتِك أي: أخبارك وأمورك المستغربة. "نووي". (¬3) بالياء المثناة التحتية قبل العين، كما نص عليه النووي في "شرح مسلم"، وهو بمعنى "تتابع" بالباء الموحدة، ولكنه بالمثناة إنما يستعمل في الشر فقط، قال النووي: (وهو بالمثناة أجود).

وفي رواية في "المستدرك" للحاكم (2/ 196) عن ابن أبي مليكة أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: أتعلم أن ثلاثاً كن يُرْدَدْنَ على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى واحدة؟ قال: نعم. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد. وفي إِسناده عبد الله بن المؤمل، تَكلَّم فيه بعضهم، والحق أنه ثقة. وفي رواية عند الطحاوي في "معاني الآثار" (2/ 32) بإِسناد صحيح من طريق طاوس، قال ابن عباس: "فلما كان زمان عمر -رضي الله عنه- قال: أيها الناس، قد كانت لكم في الطلاق أناة، وإنه من تعجّل أناة الله في الطلاق ألزمناه إِياه". فهذه الأحاديث تدل على أن إِيقاع طلقات ثلاث في مجلس واحد أو مجالس متعددة كان يُرَدُّ في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى طلقة واحدة ... وهي موافقة لنظم القرآن ورسْمه في الطلاق. لأن الله -سبحانه وتعالى- شرع في طلاق غير المدخول بها أنها تبين بنفس الطلاق وليس للمطلق عليها عدة تعتدها، فبمجرد أن نطق بالطلاق وأنشأه بانت منه، فلا يمكنه أن يكرر طلاقها مرة أخرى إِلا أن يتزوجها بعقد جديد. وشرع في طلاق المدخول بها أنها تطلق مرتين، وفي كل مرة إما إِمساك بمعروف وإِمّا تسريح بإِحسان، ثمّ تبين منه في الثالثة، وعليها العدة، ولا يجوز له أن يراجعها فيتزوجها إِلا بعد زوج آخر. وقد قال حُجّة الإِسلام الجصاص في "أحكام القرآن" (1/ 380): "إِن الله -تعالى- لم يُبحِ الطلاق ابتداءً لمن تجب عليها العدة إِلا مقروناً بِذكر الرجعة. منها قوله -تعالى-: {الطلاق مرتان فإِمساك بمعروف} (¬1) وقوله -تعالى-: ¬

_ (¬1) البقرة: 229.

{والمُطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء} (¬1)، وقال -تعالى-: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو سرّحوهنّ بمعروف} (¬2) أي: فارقوهن بمعروف. فلم يبح الطلاق المبتدأ لذوات العدد إِلا مقروناً بذكر الرجعة. وليس المقصود من الطلاق اللعب واللهو، حتى يزعم الرجل لنفسه أنه يملك الطلاق كما شاء، وكيف شاء، ومتى شاء، وأنه إِن شاء أبان المرأة بتة، وإنْ شاء جعلها معتدة يملك عليها الرجعة. كلا ثمّ كلا، بل هو تشريع منظم دقيق من لدنْ حكيم عليم شرَعَه الله لعباده ترفيهاً لهم ورحمة بهم، وعلاجاً شافياً لما يكون في الأسرة بين الزوجين من شقاق وضِرار، ورسَم قواعده وحدَّ حدوده بميزان العدالة الصحيحة التامّة ونهى عن تجاوُزِها، وتَوعّد على ذلك. ولهذا تجد في آيات الطلاق تكرار ذِكر حدود الله، والنهي عن تعدِّيها وعن المضارة: {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون} (¬3) {وتلك حدود الله يبيّنها لقوم يعلمون} (¬4) {ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله ¬

_ (¬1) البقرة: 228. (¬2) البقرة: 231. (¬3) البقرة: 229. (¬4) البقرة: 230.

هُزُواً} (¬1) {واعلموا أنّ الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} (¬2) ... ". انتهى (¬3). وسألت شيخنا -رحمه الله- عمَّن طلَّق أكثر من طلقة في عدَّة واحدة فأجاب: إِذا جمع الثَّلاث في عدَّة واحدة فإِنَّها تحسب طلقة واحدة، ثمَّ قال -رحمه الله-: لا يجوز جمع الثَّلاث في عدَّة واحدة. وقال شيخنا -رحمه الله- في "السلسلة الضعيفة" (3/ 272 - 273) تحت الحديث (1134) بعد أن ساق حديث مسلم: "كان الطلاق على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر ابن الخطاب: إِنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم". وهو نص لا يقبل الجدل على أن هذا الطلاق حُكْم مُحكَمٌ ثابت غير منسوخ لجريان العمل عليه بعد وفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خلافة أبي بكر، وأول خلافة عمر، ولأن عمر -رضي الله عنه- لم يخالفه بنص آخر عنده بل باجتهاد منه ولذلك تردَّد قليلاً أوّل الأمر في مخالفته كما يشعر بذلك قوله: "إِن الناس قد استعجلوا ... فلو أمضيناه عليهم .. "، فهل يجوز للحاكم مثل هذا التساؤل ¬

_ (¬1) البقرة: 231. (¬2) البقرة: 235. (¬3) وانظر للمزيد -إِن شئت- "الروضة الندية" (أقوال العلماء في وقوع الطلاق الثلاث في مجلس واحد) ففيه كلام قويّ وكتاب "الاستئناس" (ص 39) للعلامة القاسمي -رحمه الله- بعنوان (من ذهب إِلى أنّ جمْع الثلاث جملةً يحسب طلقة).

والتردد لو كان عنده نص بذلك؟! وأيضاً، فإِن قوله: "قد استعجلوا" يدل على أن الاستعجال حدث بعد أن لم يكن، فرأى الخليفة الراشد أن يمضيه عليهم ثلاثاً من باب التعزير لهم والتأديب، فهل يجوز مع هذا كله أن يترك الحكم المحكم الذي أجمع عليه المسلمون في خلافة أبي بكر وأول خلافة عمر، من أجل رأيٍ بدا لعمر واجتهد فيه، فيؤخذ باجتهاده، ويترك حكمه الذي حكم هو به أول خلافته تبعاً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر؟! اللهم إِن هذا لمن عجائب ما وقع في الفقه الإِسلامي، فرجوعاً إِلى السنة المحكمة أيها العلماء، لا سيما وقد كثرت حوادث الطلاق في هذا الزمن كثرة مدهشة تنذر بِشرٍّ مستطير تصاب به مئات العائلات. وأنَا حين أكتب هذا أعلم أن بعض البلاد الإِسلامية كمصر وسوريا قد أدخَلت هذا الحكم في محاكمها الشرعية، ولكن من المؤسف أن أقول: إِن الذين أدخلوا ذلك من الفقهاء القانونيين لم يكن ذلك منهم بدافع إِحياء السنة، وإِنما تقليداً منهم لرأي ابن تيميَّة -رحمه الله- الموافق لهذا الحديث، أي إِنهم أخذوا برأيه لا لأنه مدعم بالحديث، بل لأن المصلحة اقتضت الأخذ به زعموا، ولذلك فإِنَّ جلّ هؤلاء الفقهاء لا يُدَعِّمون أقوالهم واختياراتهم التي يختارونها اليوم بالسنة، لأنهم لا عِلم لهم بها، بل قد استغنوا عن ذلك بالاعتماد على آرائهم، التي بها يحكمون، وإليها يرجعون في تقدير المصلحة التي بها يستجيزون لأنفسهم أن يغيروا الحكم الذي كانوا بالأمس القريب به يدينون الله -تعالى- كمسألة الطلاق هذه.

الإشهاد على الطلاق:

فالذي أودُّه أنهم إِن غيَّروا حُكماً أو تركوا مذهباً إِلى مذهب آخر، أن يكون ذلك اتباعاً منهم للسنة، وأن لا يكون ذلك قاصراً على الأحكام القانونية والأحوال الشخصية، بل يجب أن يتعدوا ذلك إِلى عباداتهم ومعاملاتهم الخاصة بهم، فلعلهم يفعلون" انتهى. والخلاصة أنّ الثلاث تقع واحدة إِذْ خَيرُ الهدي هدي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عَمَلٌ بمقتضى قوله -تعالى-: {الطلاق مرتان} والنية لا تقوم مقام العدد اللفظي. وكما أنه لا يجزئ قول المرء: "سبحان الله وبحمده مائة مرة" -هكذا- للحصول على ثواب من يقول: "سبحان الله وبحمده" مرّة بعد مرّة؛ مِن حطِّ الخطايا ولو كانت مثل زبد البحر؛ فإِنه لا يجزئ قول المرء: طالق ثلاثاً جملة واحدة، ولا يكون إِلا مرّة بعد مرَّة، على النحو الذي بيّن الله -تعالى- في كتابه ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سُنّته، وأنّ إِيقاع الثلاث وإمضاءَه؛ إِنّما هو تسوية بين المدخول بها وغير المدخول، وتجاوز للأحكام التي وضعها الحكيم العليم الرحمن الرحيم. وما ورَد عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- إِنما هو اجتهادٌ؛ كيلا تفشو هذه الألفاظ في النّاس وتشيع فيهم، والله -تعالى- أعلم. الإِشهاد على الطَّلاق: قال الله -تعالى-: {يا أيها النّبيّ إِذا طلّقتم النّساء فطلِّقوهنّ لعدَّتهنّ وأحصوا العِدَّة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ ولا يخرجن إِلا أن يأتين بفاحشة مُبيِّنة وتلك حدود الله ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً * فإِذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروفٍ

أو فارقوهنّ بمعروف وأشهدوا ذَوَيْ عدلٍ منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتَّق الله يجعل له مخرجاً} (¬1). وقد اختلف العلماء في معنى الإِشهاد في قوله -سبحانه-: {وأشهدوا ذَوَي عدْلٍ منكم} أهو على الطلاق أم الرجعة أم عليهما معاً، وهذا له أثره الخلافي في المسألة. جاء في "صحيح البخاري" (¬2) باب قول الله -تعالى-: {يا أيها النّبيّ إِذا طلّقتم النّساء فطلِّقوهنّ لعدَّتهنّ وأحصوا العدة} أحصيناه: حفظناه وعددناه، وطلاق السّنّة أن يُطلقها طاهراً من غير جماع، ويشهد شاهدين. قال الحافظ -رحمه الله-: "قوله: ويُشهد شاهدين: مأخوذ من قوله -تعالى-: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وهو واضح، وكأنه لمح بما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: "كان نفر من المهاجرين يطلقون لغير عدة ويراجعون بغير شهود فنزلت". جاء في كتاب "الجامع في أحكام الطلاق" (¬3): " ... [أخرج] ابن جرير الطبري في "تفسيره" (28/ 88) من طريق أبي صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس (¬4) قال: إِن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين ¬

_ (¬1) الطلاق: 1 - 2. (¬2) انظر "كتاب الطلاق" (باب - 1). (¬3) لعمرو عبد المنعم سليم -حفظه الله تعالى- (ص 152). (¬4) قلت: وقد تُكُلِّم كثيراً في رواية (علي بن أبي طلحهّ) عن (ابن عباس)، وأنه =

كما قال الله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} عند الطلاق وعند المراجعة. ¬

_ = لم يسمع منه، بيْد أن في الأمر تفصيلاً، فقد قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في كتاب "العجاب في بيان الأسباب" (1/ 203): "والذين اشتهر عنهم القول في ذلك [أي: تفسير القرآن العظيم] من التابعين: أصحاب ابن عبّاس -رضي الله عنهما- ثقات وضعفاء فمن الثقات: 1 - مجاهد بن جبر. 2 - ومنهم عكرمة. 3 - ومن طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- وعليّ صدوق لم يلْقَ ابن عبّاس، لكنّه حَمَل عن ثقاتِ أصحابه، فلذلك كان البخاري وابن أبي حاتم وغيرهما يعتمدون على هذه النُّسخة. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: قال أبو جعفر النحاس في كتاب "معاني القرآن" له بعد أن ساق رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تأويل الآية -: هذا من أحسن ما قيل في تأويل الآية وأعلاه وأجلّه، ثم أسند عن أحمد بن حنبل قال: بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إِلى مصر قاصداً ما كان كثيراً. انتهى. وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث رواها عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس وهي عند البخاري عن أبي صالح وقد اعتمد عليها في "صحيحه" هذا كثيراً على ما بيناه في أماكنه. وهي عند الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح. انتهى". والحاصل أنّ هذه وجادةٌ اعتمدها الإِمام البخاري وأمثاله من الفحول المذكورين في رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- على نسخة معاوية بن صالح. وهنالك من يفرّق بين ما رواه في الحديث وما رواه في التفسير [انظر ما قاله محقق كتاب "العُجَاب" (1/ 206)]. ويزيدنا اطمئناناً أن تكون رواية عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- =

وجاء في "تفسير ابن كثير" -رحمه الله-: "وقوله -تعالى-: {وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} أي: على الرجعة إِذا عزمتم عليها، كما رواه أبو داود، وابن ماجه عن عمران بن حصين، أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثمّ يقع بها، ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها، فقال: طلقت لغير سُنَّة وراجعت لغير سُنَّة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تَعُد (¬1). وقال ابن جريج: كان عطاء يقول: {وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} قال: لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا إرجاع إلاَّ شاهدا عدل، كما قال الله -عزّ وجلّ- إِلا أن يكون من عذر". وجاء في "تفسير القرطبي" -رحمه الله-: "قوله -تعالى-: {وأشهِدوا} أمرٌ بالإِشهاد على الطلاق، وقيل: على الرجعة. والظاهر رجوعه إِلى الرجعة لا إِلى الطلاق، فإِن راجع من غير إِشهاد؛ ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء، وقيل: المعنى: وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعاً. وهذا الإِشهاد مندوب إِليه عند أبي حنيفة؛ كقوله -تعالى-: {وأشهدوا إِذا تبايعتم}. وعند الشافعي واجب في الرجعة، مندوب إِليه في الفرقة". ¬

_ = من اختيار ابن جرير أو ابن كثير وأمثالهما -رحم الله الجميع-. وانظر -إِن شئت المزيد- ما قاله الحافظ -رحمه الله- في كتاب "العُجاب في بيان الأسباب" وما أفاده محقّقه: الأستاذ عبد الحكيم محمد الأنيس -حفظه الله تعالى- وقد مضى في بداية القول توثيق الحافظ ابن حجر -رحمه الله- لذلك. والله -تعالى- أعلم. (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1915)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1645)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2078).

وجاء في "تفسير الإِمام البغوي" -رحمه الله تعالى-: " {وأشهدوا} على الرجعة أو الفراق، أمر بالإِشهاد على الرجعة وعلى الطلاق ... ". وقال العلامة السعدي -رحمه الله في "تفسيره": " {وأشهدوا} على طلاقها ورجعتها {ذوي عدل منكم} أي: رجلين مسلمين عدلين لأن في الإِشهاد المذكور سداً لباب المخاصمة وكتمان كل منهما ما يلزم بيانه". قال العلامة أحمد شاكر -رحمه الله- في كتاب "نظام الطلاق في الإِسلام" (ص 80) -بحذف-: "والظاهر من سياق الآيتين أنَّ قوله: {وأشهدوا} راجع إِلى الطلاق وإلى الرجعة معاً والأمر للوجوب، لأنه مدلوله الحقيقي، ولا ينصرف إِلى غير الوجوب -كالندب- إِلا بقرينة، ولا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب، بل القرائن هنا تؤيد حمْله على الوجوب: لأن الطلاق عمل استثنائي يقوم به الرجل -وهو أحد طرفي العقد- وحده. سواء أوافقته المرأة أم لا، كما أوضحنا ذلك مراراً، وتترتب عليه حقوق للرجل قِبَلَ المرأة، وحقوق للمرأة قِبَلَ الرجل، وكذلك الرجعة، ويخشى فيهما الإِنكار من أحدهما، فإِشهاد الشهود يرفع احتمال الجحد، ويثبت لكل منهما حقه قِبَلَ الآخر. فمن أشهد على طلاقه فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدى حد الله الذي حده له، فوقع عمله باطلاً، لا يترتب عليه أي أثر من آثاره. وهذا الذي اخترنا هو قول ابن عباس. فقد روى عنه الطبري في التفسير (28 - 88) قال: إِنْ أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين، كما قال الله: {وأشهدوا ذَوَي عدلٍ منكم} عند الطلاق وعند المراجعة.

وهو قول عطاء أيضاً. فقد روى عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد قال: "النكاح بالشهود، والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود" نقله السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 232) والجصاص في أحكام القرآن بمعناه (3/ 456) وكذلك هو قول السدي. فقد روى عنه الطبري قال في قوله: {وأشهدوا ذَوَي عدلٍ منكم}. على الطلاق والرجعة. وأمّا ابن حزم فإِنَّ ظاهر قوله في "المحلى" (¬1) (10/ 251) يفهم منه أنه يرى اشتراط الإِشهاد في الطلاق وفي الرجعة، وإن لم يذكر هذا الشرط في مسائل الطلاق؛ بل ذكره في الكلام على الرجعة فقط، قال: "فإنْ راجع ولم يُشهِد فليس مراجعاً، لقول الله -تعالى-: {فإِذا بلغن أجلهن فأمسكوهنّ بمعروفٍ أو فاوقوهنّ بمعروف وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} لم يفرق -عزّ وجلّ- (¬2) بين المراجعة والطلاق والإِشهاد، فلا يجوز إِفراد ذلك عن بعض، وكل من طلّق ولم يشهد ذوَي عدل، أو رجع ولم يشهد ذوي عدل: متعدياً لحدود الله -تعالى- وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬3). قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (33/ 33): "وقد ظن بعض ¬

_ (¬1) وفي نسختي: (11/ 613) دار الاتحاد العربي. (¬2) جاء في التعليق: في النسخة المطبوعة من "المحلّى" "فرق -عز وجلّ- " وهو خطأ مطبعي واضح من سياق الكلام. والصواب (فقرن) كما في النسخة المخطوطة من "المحلّى" بدار الكتب المصرية. (¬3) أخرجه البخاري: 2697، ومسلم: 1718، واللفظ له.

الناس: أن الإِشهاد هو الطلاق، وظن أن الطلاق الذي لا يشهد عليه لا يقع. وهذا خلاف الإِجماع (¬1)، وخلاف الكتاب والسّنة، ولم يقل أحد من العلماء المشهورين به؛ فإِن الطلاق أذن فيه أولاً، ولم يأمر فيه بالإِشهاد، وإِنما أمر بالإِشهاد حين قال: {فإِذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف} والمراد هنا بالمفارقة تخلية سبيلها إِذا قضت العدة، وهذا ليس بطلاق ولا برجعة ولا نكاح. والإِشهاد في هذا باتفاق المسلمين، فعلم أن الإِشهاد إِنما هو على الرجعة، ومن حكمة ذلك: أنه قد يطلقها ويرتجعها، فيزين له الشيطان كتمان ذلك حتى يطلقها بعد ذلك طلاقاً محرماً ولا يدري أحد، فتكون معه حراماً، فأمر الله أن يشهد على الرجعة ليظهر أنه قد وقعت به طلقة". وإِذا عَرف المرء رأي شيخ الإِسلام -رحمه الله- في الإِشهاد في النكاح؛ وأنه يرى حصولَه مع الإِعلان ولو لم يَشْهَد شاهدان، إِذا كان كذلك؛ انقدح في ذهنه أنّ هذا له أثره في فتواه -رحمه الله- في مسألة عدم إِيجاب الإِشهاد في الطلاق، علماً أنّ الإِشهاد في النكاح أقوى نصّاً وفقهاً من الإِشهاد في الطلاق كما هو ظاهر النُّصوص. جاء في "الفتاوى" (32/ 127): "واشتراط الإِشهاد وحده ضعيف؛ ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، فإِنه لم يثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه حديث (¬2). ¬

_ (¬1) قال الموزعي في "تيسير البيان": وقد اتفق الناس على أن الطلاق من غير إشهاد جائز. قاله في "سبل السلام" (3/ 348). وفي "السيل الجرار" (2/ 410): "وقد وقع الإِجماع على عدم وجوب الإِشهاد في الطلاق واتفقوا على الاستحباب". (¬2) وقد خالفه من العلماء مَن خالفه في هذا؛ فهذا رأيه، رحم الله الجميع.

ومن الممتنع أن يكون الذي يفعله المسلمون دائماً له شروط لم يُبِنْها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا مما تعمُّ به البلوى، فجميع المسلمين يحتاجون إِلى معرفة هذا. وإذا كان هذا شرطاً كان ذِكره أولى من ذِكر المهر وغيره، مما لم يكن له ذِكر في كتاب الله ولا حديث ثابت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فتبين] أنه ليس مما أوجبه الله على المسلمين في مناكحهم. قال أحمد بن حنبل وغيره من أئمَّة الحديث: لم يثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإِشهاد على النكاح شيء، ولو أوجبه لكان الإِيجاب إِنما يعرف من جهة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان هذا من الأحكام التي يجب إِظهارها وإعلانها، فاشتراط المهر أولى؛ فإِن المهر لا يجب تقديره في العقد بالكتاب والسّنة والإِجماع، ولو كان قد أظهر ذلك لنقل ذلك عن الصحابة: ولم يضيعوا حِفْظ ما لا بُدّ للمسلمين عامة من معرفته، فإِنَّ الهمم والدواعي تتوافر على نقل ذلك، والذي يأمر بحفظ ذلك. وهم قد حفظوا نهيه عن نكاح الشغار، ونكاح المحرم، ونحو ذلك من الأمور التي تقع قليلاً؛ فكيف النكاح بلا إِشهاد إِذا كان الله ورسوله قد حرَّمه وأبطله؛ كيف لا يحفظ في ذلك نص عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! بل لو نقل في ذلك شيء من أخبار الآحاد لكان مردوداً عند من يرى مثل ذلك، فإِن هذا من أعظم ما تعمّ به البلوى أعظم من البلوى بكثير من الأحكام، فيمتنع أن يكون كل نكاح للمسلمين لا يصح إِلا بإِشهاد، وقد عقد المسلمون من عقود الأنكحة ما لا يحصيه إِلا رب السماوات؛ فعُلم أنَّ اشتراط الإِشهاد دون غيره باطل قطعاً. ولهذا كان المشترطون للإِشهاد مضطربين اضطراباً يدل على فساد الأصل،

فليس لهم قول يثبت على معيار الشرع، إِذا كان فيهم من يجوزه بشهادة فاسقين، والشهادة التي لا تجب عندهم قد أمر الله فيها بإِشهاد ذوي العدل، فكيف بالإِشهاد الواجب؟! ". وقال -رحمه الله- (ص 129): "وأمَّا النكاح فلم يرد الشرع فيه بإِشهاد واجب ولا مستحب، وذلك أن النكاح أُمِر فيه بالإِعلان، فأغنى إِعلانه مع دوامه عن الإِشهاد، فإِن المرأة تكون عند الرجل والناس يعلمون أنها امرأته، فكان هذا الإِظهار الدائم مُغنياً عن الإِشهاد كالنسب؛ فإِن النسب لا يحتاج إِلى أن يُشهِد فيه أحداً على ولادة امرأته؛ بل هذا يظهر ويعرف أن امرأته ولدت هذا فأغنى هذا عن الإِشهاد؛ بخلاف البيع؛ فإِنّه قد يجحد ويتعذر إِقامة البينة عليه. ولهذا إِذا كان النكاح في موضع لا يظهر فيه كان إِعلانه بالإِشهاد، فالإِشهاد قد يجب في النكاح؛ لأنَّه بِهِ يُعلَن ويُظهَر؛ لا لأنَّ كل نكاح لا ينعقد إِلا بشاهدين؛ بل إِذا زَوَّجَهُ وَلِيَّتَهُ ثمّ خرجا فتحدثا بذلك وسمع الناس، أو جاء الشهود والناس بعد العقد فأخبروهم بأنه تزوجها؛ كان هذا كافياً، وهكذا كانت عادة السلف، لم يكونوا يكلَّفون إِحضار شاهدين، ولا كتابة صَداق". وقال -رحمه الله- (ص 130): "فالذي لا ريب فيه أن النكاح مع الإِعلان يصح، وإِن لم يشهد شاهدان. وأمّا مع الكتمان والإِشهاد فهذا مما ينظر فيه. وإذا اجتمع الإِشهاد والإِعلان، فهذا الذي لا نزاع في صحته. وإِن خلا عن الإِشهاد والإِعلان: فهو باطل عند العامَّة فإِن قُدِّرَ فيه خلاف فهو قليل. وقد يظن أن في ذلك خلافاً في مذهب أحمد، ثم يقال: ما يميز

هذا عن المتخذات أخداناً؟ وفي المشترطين للشهادة من أصحاب أبي حنيفة من لا يعلل ذلك بإِثبات الفراش؛ لكن كان المقصود حضور اثنين تعظيماً للنكاح. وهذا يعود إِلى مقصود الإِعلان، وإذا كان الناس ممن يجهل بعضهم حال بعض، ولا يعرف من عنده هل هي امرأته أو خدينة، مثل الأماكن التي يكثر فيها الناس المجاهيل: فهذا قد يقال: يجب الإِشهاد هنا". وجاء في "تبين المسالك بتدريب السالك" (3/ 159). " قال الموَّاق: من المدونة: من طلق زوجته فليشهد على طلاقه وعلى رجعته، وقال مالك فيمن منعت نفسها وقد ارتجع حتى يشهد: قد أصابت. ابن عرفة: وهذا دليل على وجوب الإِشهاد. وعلى ندبه درج خليل قال: وندب الإِشهاد وأصابت من منعت له. والأصل في مشروعية الإِشهاد قوله -تعالى-: {وأشهدوا ذَوَي عدل منكم}. وذكر كلام القرطبي -رحمه الله- المتقدّم، ثمّ ذكر كذلك أثر عمران بن الحصين -رضي الله عنه- ثمَّ قال: ومذهب الثلاثة: عدم وجوب الإِشهاد. وجاء في "الاستئناس لتصحيح أنكحة النّاس" (ص 51) للعلامة القاسمي -رحمه الله- (¬1): "ممّن ذهب إِلى وجوب الإِشهاد واشتراطه لصحته من الصحابة: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعمران بن حصين -رضي الله ¬

_ (¬1) وقد نقلْتُ أقوال أهل السّنة، وحذفتُ أقوال الآخرين؛ فهي مبثوثة في كُتبهم.

عنهما- ومن التابعين الإِمام محمد الباقر (¬1)، والإِمام جعفر الصادق (1)، وبنوهما أئمة آل البيت -رضوان الله عليهم- وكذلك عطاء، وابن جريج، وابن سيرين -رحمهم الله-. وروى أبو داود في "سننه" عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- أنه سئل عن الرجل يُطلّق امرأته ثمّ يقع بها ولم يُشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طلقت لغير سنّة وراجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ¬

_ (¬1) قال الإِمام الذهبي في "سِير أعلام النبلاء" (4/ 401) في ترجمة محمد الباقر -رحمهما الله تعالى-: "وشُهِر أبو جعفر بالباقر من بقر العلم أي: شقّه فعرف أصله وخفيّه، ولقد كان أبو جعفر إِماماً مجتهداً تالياً لكتاب الله، كبير الشّأن، ولكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير ونحوه، ولا في الفقه درجة أبي الزناد، وربيعة، ولا في الحفظ ومعرفة السّنن درجة قتادة وابن شهاب، فلا نُحابيه، ولا نحيف عليه، ونُحبّه في الله لما تجمّع فيه من صفات الكمال. قال ابن فُضيل، عن سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر وابنه جعفراً عن أبي بكر وعمر، فقالا لي: يا سالم، تولّهما وابرأ من عدوّهما، فإِنهما كانا إِمامي هُدَى". وقال كذلك (6/ 255) في ترجمة جعفر الصادق -رحمهما الله تعالى-: " ... الإِمام الصادق شيخ بني هاشم أبو عبد الله القرشي الهاشمي العلوي النبوي ... وكان يغضب من الرافضة ويمقتهم إِذا علم أنهم يتعرضون لجدّه أبي بكر ظاهراً وباطناً -هذا لا ريب فيه-. ولكن الرافضة قوم جَهَلة، قد هوى بهم الهوى في الهاوية فبُعداً لهم" انتهى. قلت: ومع القول بإِمامتهما، فإِننا لا نخصُّهما وأشخاصاً محدّدين بذلك -كما تفعل الشيعة- كما لا نعني بذلك مدلولهم في هذه الإِمامة وهذا كقولهم: "الإِمام علي" -رضي الله عنه- فمدلول إِمامة علي -رضي الله عنه- عند أهل السّنة غير مدلول الشيعة، نسأل الله -تعالى- الوفاة على الكتاب والسّنة على منهج سلف الأمّة.

ولا تعد (¬1). وقد تقرر في الأصول أن قول الصحابي: من السّنة كذا في حُكم المرفوع إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصحيح، لأن مُطلق ذلك إِنما ينصرف بظاهره إِلى من يجب اتباع سنته وهو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن مقصود الصحابي بيان الشرع لا اللغة والعادة كما بُسط في موضعه. ... [وفي] "الدر المنثور" آية: {فإِذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} الآية. عن عبد الرزاق عن ابن سيرين أن رجلاً سأل عمران بن حصين عن رجل طلّق ولم يشهد وراجع ولم يُشهد قال: بئسما صنع، طلّق لبدعة وراجع لغير سنّة، فليشهد على طلاقه وعلى مراجعته وليستغفر الله. فإِنكار ذلك من عمران -رضي الله عنه- والتهويل فيه وأمره بالاستغفار لعده إِياه معصية ما هو إِلا لوجوب الإِشهاد عنده -رضي الله عنه- كما هو ظاهر. ... [وفي] "الدر المنثور" عن عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء قال: النكاح بالشهود والطلاق بالشهود والمراجعة بالشهود. ثمّ ذَكر قول ابن كثير -رحمه الله- المتقدّم عن عطاء (¬2) ثمَّ قال العلامة القاسمي -رحمه الله-: فقوله: لا يجوز، صريح في وجوب الإِشهاد على الطلاق عنده -رضي الله عنه- لمساواته له بالنكاح، ومعلوم ما اشتُرط فيه من ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه. (¬2) انظر (ص 293).

البينة. إِذا تبين لك أن وجوب الإِشهاد على الطلاق هو مذهب هؤلاء الصحابة والتابعين المذكورين، تعلم أن دعوى الإِجماع على ندبه المأثورة في بعض كتب الفقه مراد لها الإِجماع المذهبي لا الإِجماع الأصولي الذي حدُّه -كما في "المستصفى"- اتفاق أمَّة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصَّة على أمرٍ من الأمور الدينية، لانتقاضه بخلاف كما ذكر كما الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين". وجاء في كتاب "الجامع في أحكام الطلاق" (ص 156): "وأما من قال بوجوب الإشهاد على الطلاق والرجعة من السلف فجماعة منهم: عطاء بن أبي رباح -رحمه الله تعالى- فقال: الفرقة والرجعة بالشّهود (¬1). وصح عنه أنه لم يجز طلاق من أشهد شهيدين متفرقين. فعند عبد الرزاق (6/ 374) عن ابن جريج، قال: سئل عطاء عن رجل طلّق عند رجل واحدة، وعند رجل واحدة، قال. ليستا بشىء، إِنما شهد رجل على واحدة. وسنده صحيح أيضاً. وأورده ابن كثير في "التفسير" (4/ 379) عن ابن جريج، قال: كان عطاء يقول: {وأشهدوا ذَوَي عدلٍ منكم}. قال: لا يجوز في نكاح، ولا طلاق، ولا رجاع إلاَّ شاهدان كما قال الله -عزّ وجلّ- إِلا أن يكون من عذر [وتقدّم]. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 60) من طريق سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء به، وسنده صحيح.

وأخرج عبد الرزاق (6/ 327): عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: رجل طلّق امرأته تطليقة ولم يشهد، ولم يُعلمها، لم نرد على هذا. وسنده صحيح. عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج رحمه الله تعالى- قال: لا يجوز نكاح، ولا طلاق، ولا ارتجاع إِلا بشاهدَيْن، فإن ارتجع وجهل أن يشهد وهو يدخل ويصيبها، فإِذا علم فليعد إِلى السنة إِلى أن يشهد شاهدين عدل (¬1) ". انتهى. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 193) برقم (19184) عن الشعبي -رحمه الله- "أنّه سُئل عن رجل طلّق امرأته عند رجلين وامرأة فشهد أحد الرجلين والمرأة وغاب الآخر قال: تعزل عنه حتى يجيء الغائب". ورأي شيخنا -رحمه الله- أن الطّلاق لا يقع إِلا بشاهدين، فقد قال لي مجيباً عن بعض أسئلتي: "أيّ طلاق لا يقع إِلا بشاهدَين". وسألت شيخنا -رحمه الله- عن شخصٍ طلّق بلا إشهاد، ثمّ أخبرَ إخوانه، أنَّه قد طلّق؟ فأجاب -رحمه الله-: إِذا رأى أنه طلّق؛ فقد وقع الطلاق وإِذا أفتاه بعض العلماء بوقوع الطلاق؛ فإِنَّه يقع أيضاً. والحاصل أن شيخنا -رحمه الله- يرى أن من استفتى في الطَّلاق، فقول من أفتاه من العلماء في الطَّلاق ماضٍ، وكذلك إِذا طلّق بلا إِشهاد؛ معتمداً على فتاوى أهل العِلم. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق (6/ 135) عن ابن جريج به، وسنده صحيح.

وسألته -رحمه الله-: ماذا إِذا طلّق ولم يُشهد؟ فأجاب: يكون معلّقاً؛ فإِن شاء أمضاه، وإلا ترك". قلت: وأمّا قول عمران بن حصين -رضي الله عنه-: طلّقت لغير سُنّة، وراجعْت لغير سُنّة، أشهد على طلاقها وعلى رجْعتها ولا تعُد. فقد أفاد أنّ من السّنّة النبوية الإِشهاد على الطلاق فقول الصحابي: من السّنّة له حُكم الرفع كما تقدّم، وهذا يبيّن أن الإِشهاد في الآية الكريمة: {وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} يتضمّن الطلاق والرجعة والله -تعالى- أعلم. وانقدح في نفسي أنه لو لم يقع طلاق ذاك الرجل بلا إِشهاد؛ لما قال له عمران -رضي الله عنه-: أشهد على طلاقها، ولا سيّما أنه راجع امرأته بل ينبغي أن يقول له: طلاقُك لم يقع لأنه بلا إِشهاد، ثمّ بدا لي أن قول عمران -رضي الله عنه- من باب التعليم وبيان القاعدة. وهذه الصورة تختلف عن صورة عدم الإِشهاد على النكاح. فلو أنّ رجلاً حصل نكاحُه بلا شهود ثمّ طلّقها، فهذا يُقال له: ما بُني على فاسد فهو فاسد؛ وأصل النكاح لم يقع أصْلاً؛ لأن شروطه المطلوبة لم تتحقّق أو تكتمل. وهل صورة الطلاق بلا إِشهاد؛ كرجل أعطى رجُلاً ديناً ولم يُشهد عليه، فهو عاصٍ دعاؤه لا يستجاب كما ثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1)، لكن لا يعني عدم الإِشهاد إِسقاط حقّه من مالٍ على الآخرين؟؟ ¬

_ (¬1) إِشارة إِلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثة يدعون الله فلا يُستجاب لهم ... ورجلٌ كان له على رجلٍ مالٌ فلم يُشهد عليه". أخرجه الحاكم والطحاوى في "مُشكل الآثار" وغيرهما وهو في "الصّحيحة" (1805).

أم أنّ الطلاق لا يتمّ إِلا بالإِشهاد؛ كما هو في حدّ القذف الذي لا يثبت إِلا بأربعة شهود؛ فإِن شهد شاهدان أو ثلاثة، فإِنّه يمضي فيهم قوله -تعالى-: {فإِذْ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} (¬1) فأولئك عند الله هم الكاذبون ولو كانوا في أنفسهم صادقين فيما رأوا. وجاء في كتاب "الجامع لأحكام الطلاق" (ص 161): "وعلى تقدير أن الأمر في الآية يقتضي الوجوب، فمخالفته لا تبطل أثر الطلاق ولا المراجعة، والدليل على ذلك: أن الله -سبحانه وتعالى- قد أمرنا في الطلاق باستقبال النساء في عدتهن في طهر لم يجامعها فيها زوجها، فلمّا خالف ابن عمر -رضي الله عنهما- هذا الأمر، وطلّق امرأته وهي حائض، أجازه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه، فهو قد خالف الأمر الوارد في آية الطلاق، ولم يمنع هذا من أن تُحسب عليه طلقة، فكذلك هو الحال بالنسبة لمن خالف الأمر في الإِشهاد، والله أعلم. قلت: ويؤيد هذا ما تقدّم من قول الإِمام البخاري -رحمه الله- في كتاب الطلاق: (باب قول الله -تعالى-: {يا أيّها النّبي إِذا طلَّقتم النّساء ... } ... وطلاق السّنّة أن يطلِّقها طاهراً من غير جماع، ويشهد شاهدَين). ثمّ ذَكَر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- في قصة تطليقه امرأته وهي حائض. فإِيقاع طلاق الحائض على بدعيته، إِيقاع للطلاق بلا إِشهاد على مخالفته للسّنّة، وإيرادهما تحت بابٍ واحد يُفهم هذا، لكن سيأتي عمّا قريب -إن شاء ¬

_ (¬1) النور: 13.

الله تعالى- الإِجابة عن هذه المسألة. وبعد أنْ أخذَت المسألة من تفكيري مأخَذَها، وبعد انهماك شديد في غالب وقتي، رأيتُ ما يأتي: 1 - أنَّ استحلال الفُروج وتحريمها لا بدّ أنْ يخضع إِلى نُصوصٍ ثابتة، وكيفيَّةٍ شرعيَّة، وبِذا؛ فإِنّنا نُطالب بالدَّليل على إِيقاع الطَّلاق لِمَنْ لم يُشهِد. وتحرير هذا؛ أنَّ أساس الخلاف هو: هل للإِنسان أنْ يُطلِّق كيفما اتَّفق أمْ أنَّ للطَّلاق أُصولاً وقواعد؟ وهل الأصل إِيقاع الطَّلاق بلا إِشهاد والمراد من الإِشهاد التوثيق ودفع التهمة والالتباس فحسب؟ أم الأصل إِيقاع الطَّلاق بالإِشهاد ولا يتمّ إِلا بذلك؟ وما الدَّليل على هذا وذاك؟ وما هو الأقرب للصواب؟ والذي بدا لي؛ أنَّ إِيقاع الطَّلاق يحتاج إِلى نصٍّ؛ فلا يكون إِلا بالإِشهاد، فالأصل عدم إِيقاع الطلاق إِلا على وجهٍ شرعيٍّ منصوصٍ عليه، وهذا إِنَّما يكون بنصٍّ من كتابٍ أو سنّة وما كان إِلى هذا أقرب؛ فهو أمثل. 2 - وأنَّ أقرب شيءٍ إِلى الدّليل والنَّصّ الذي سَبق ذِكْرُه بما يتَّصِل بمسألتنا السَّابقة هو: أوَّلاً: قوله -تعالى-: {فإِذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فأمْسِكوهُنَّ بِمعروف أو فارِقوهُنَّ بِمعروفٍ وأشْهِدوا ذَوَيْ عَدْلِ منكُم}، وقد سبق قول ابن عباس -رضي الله عنهما- في تأويلها: "عند الطَّلاق وعند والمراجعة" وكذا قول عطاء في تأويلها: "لا يجوز في نكاحٍ ولا طلاق ولا إِرجاعٍ إِلا شاهدا عدلٍ، كما قال الله -عز وجل-؛ إلاَّ أنْ يكون من عُذرٍ". وقوله: "النِّكاح بالشُّهود، والطَّلاق بالشُّهود، والمراجعة بالشُّهود". وغير ذلك من الآثار المتقدِّمة.

وتقدّم قول العلاَّمة أحمد شاكر -رحمه الله-: "والظَّاهر من سياق الآيتين أنَّ قوله: {وأشهِدوا} راجِعٌ إِلى الطلاق وإلى الرّجعة معاً، والأمر للوجوب". ثانياً: وأقرب شيء إِلى الدَّليل والنّص كذلك حديث عمران بن الحصين -رضي الله عنه-: "طلَّقتَ لغير سنّة، وراجعتَ لغير سنّة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعُد" فقوله. طلَّقتَ لغير سنّة؛ دل على أنّ السنّة هو الإِشهاد، والبدعة عدم الإِشهاد، وقولُه: من السنّة في حُكْم المرفوع كما تقدّم، ولنا أنْ نقول بقول النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ" (¬1)، بمعنى: رُدَّ هذا الطلاق (¬2). لكنّ إِمضاء طلاق ورجعة هذا الذي سُئل عنه عمران بن الحصين -رضي الله عنه- فهو من باب قول المفتي: "قُضِيَ الأمر" فحين يأتي شخصٌ يستفتي في الطَّلقة الثّالثة مثلاً، فيُفتي له عالمٌ بإِيقاعها وبينونة زوجته بينونْةً كُبرى، ثُمّ بعد مُدَّة تزوّجت من آخر، فليس للزَّوج المُطلِّق أن يطلُب إِلغاء النِّكاح الآخر؛ لتعود إِليه زوجته، لسببٍ يتعلَّق في الفتوى السَّابقة؛ ولِقَناعةٍ شرعيّةٍ ما تستند على نُصوص أخَذ بها عُلماء؛ لأنّ هذا يُفضي إِلى التّلاعب في النِّكاح والطلاق، بل في كثيرٍ من مسائل الدّين. وهذا ما كان يقوله شيخنا -رحمه الله- كما تقدّم. ومن هذا الباب ما رواه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (4/ 196) برقم (19208): "وساق إِسناده إِلى الشعبي -رحمه الله- أنه سئل عن رجلٍ شهد ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه. (¬2) وسيأتي -إِن شاء الله تعالى- ما يتعلَّق بإِيقاع طلاق الحائض مع بِدْعيَّته.

عليه رجلان بطلاق امرأته، ففرّق القاضي بينهما فرجع أحد الشاهدين وتزوجها الآخر قال: فقال الشعبي: مضى القضاء ولا يلتفت إِلى رجوع الذي رجع". وبذا فمن رأى أنّه قد طلَّق، أو أُفْتيَ بالطلاق فقد وقع طلاقه لأنّ له قولاً من أهل العلم. فأصل القاعدة التي يُستفاد منها من حديث عمران بن الحصين أنّ السنّة هو الإِشهاد وهذا من باب التّأصيل وبيان القاعدة؛ ولا بُدّ لنا أن نتأمّل قول عمران ابن الحصين -رضي الله عنه- فإِنه لم يقل: "طلقتَ لغير سُنّة وراجعت لغير سُنّة" وسكت، ولكنه قال: "أشهِد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعُد". فدلّ على عدم الجواز -والله أعلم-. 3 - لقد عَهِدنا في الأبحاث الفقهية ذكر المشروعيّة مع الدليل على ذلك، فيقولون مثلاً: مشروعيّة الوضوء، مشروعيَّة الأذان، مشروعيّة الصيام ... إِلخ. فهل لقائلٍ أن يقول: مشروعيّة عدم الإِشهاد على الطلاق؟! علماً بأن المشروعيّة تمضي على الرّكن والواجب والمستحبّ. 4 - أنّ الطلاق لا يقع إِلا بنيَّة وعَزْمٍ، وقد قال الله -تعالى-: {فإِنْ عَزَمُوا الطَّلاق} فما من شخصٍ طلب الإِشهاد على الطّلاق، إِلا ظهر إِنْ كان له عزمٌ في ذلك أم لا، إِذ هو بلا إِشهادٍ يُمضيه فيندم، ويقول: لا، والله ما أردته! ولا أدري كيف كان ذلك! أمَّا حين ينتظر وصول شاهدي عدلٍ، فتسكن نفسُه ويهدأُ فؤاده، وتذهب عنه الوساوس، وقد يُسهم الشَّاهدان في الإِصلاح، فلا يُطلِّق إِلا من أراد الطَّلاق حقَّاً وقل: لا يُطلِّق إِلا من عزم ذلك.

والعزم هو القوَّة والصَّبر على الأمر، والجدّ والقطعُ فيه؛ وقال القرطبي -رحمه الله- في قوله تعالى: {ولم نجد له عزماً} (¬1): قال ابن عباس وقتادة: لم نجد له صبراً عن أكل الشّجرة، ومواظبة على التزام الأمر، قال النّحاس: وكذلك هو في اللغة، يقال: لفلان عزمٌ أي: صبرٌ وثباتٌ على التّحفُّظ من المعاصي ... وقال ابن كيسان: {ولم نجد له عزماً}: إِصراراً. وقال -رحمه الله- في قوله تعالى-: {وإِنْ عزموا الطَّلاق} (¬2) العزيمة: تتميم العقد على شيء ... وعزمتُ عليكَ لتفعلنَّ: أي أقسمت عليك. قال شَمِر: العزيمة والعزم: ما عقدت عليه نفسك من أمرٍ أنّك فاعله. والطَّلاق: حلُّ عُقدة النِّكاح. فتأمَّل -رحمني الله وإياك- معنى العزم وهل يتحقَّقُ في كثيرٍ ممن يُطلِقون كلمة "الطَّلاق" ولعلَّ هذا الإِشكالَ يزول بِشاهِدَيْ عدل. 5 - وأمّا من قاس إِيقاع طلاق من لم يُشهد على إِيقاع طلاق الحائض -مع الخلاف المعروف فيه- فالجواب عليه؛ أنّ قياس الإِشهاد على الطلاق على إِشهاد النِّكاح أولى؛ لأنَّ موضوع الإِشهاد في النِّكاح والطلاق ألصق بالموضوع من بدعيَّة عدم الإِشهاد وطلاق الحائض، وجامع الإِشهاد في الموضوعَين أولى من جامع البدعيَّة فيهما، فتأمّل. والأقرب إِلى الصَّواب في هذا الحال أن يُقال: كما أنّ النِّكاح لا يقع إِلا بشاهدي عدل، فالطَّلاق لا يقع إِلا كذلك، ولا سيَّما مع ورود نصوص في الإِشهاد -مع اختلاف الفهم فيها-. ¬

_ (¬1) طه: 105. (¬2) البقرة: 227.

ومهما كان من خلاف في مسألة الإِشهاد على الطلاق، وسواءٌ قيل بِإِيقاعه أو عدمه، فإِنّ أقلَّ ما يُقال فيه الإِيجاب، وتأثيم من لم يُشهد؛ لقول عمران بن حُصَيْن -رضي الله عنه-: "طلَّقتَ لغير سُنَّة ... أَشهد على طلاقها ... " وكذلك أقوال السَّلف المتقدِّمة في تأويل الآية: {وأَشهِدوا ذَوَيْ عدلٍ منكم}. وعليه: فلا يجوز لمن أراد الطلاق أنْ يُسارع به، اِلا بعد إِحضار شاهِدَي عدل (¬1)؛ وإلا فإِنّه يَحمِلُ يوم القيامة وِزْراً. وختاماً: فمع ترجيحي عدم وقوع الطلاق إِلا بشاهدي عدل؛ فإِنّني أُحيلُ كُلَّ حالةٍ من هذه الحالات إِلى حكم القاضي العادل الذي لا تأخُذه في الله لومة لائم؛ ليحكم بما يلهمه الله في هذا الأمر. وهذا ما بدا لي في هذه المسألة، فإِن أصبتُ فمن الله -تعالى-، وإن أخطأتُ فمنِّي ومن الشّيطان، والله -تعالى- أعلم بالصّواب. ¬

_ (¬1) بِالإضافة إِلى الشُّروط المتقدمة في الطَّلاق السُّنِّي.

الطلاق الرجعي وأحكامه

الطلاق الرجعي وأحكامه الطلاق الرجعي: هو الذي يكون فيه الزوج مخيّراً ما دامت زوجته في العدّة بين تركها لا يراجعها حتى تنقضي عدتها، فتملك أمرها، فلا يراجعها إِلا بولي ورضاها، وصَداق، وبين أن يُشهد على ارتجاعها فقط؛ فتكون زوجته -أحبّت أم كرهت- بلا ولي ولا صَداق، لكن بإِشهاد فقط؛ ولو مات أحدهما قبل تمام العدة وقبل الراجعة ورثه الباقي منهما- وهذا لا خلاف فيه من أحد من الأئمة (¬1). وجاء في "سبل السلام" (3/ 347): "وقد أجمع العلماء على أنّ الزوج يملك رجعة زوجته في الطلاق الرجعي؛ ما دامت في العدة من غير اعتبار رضاها ورضا وليّها إِذا كان الطلاق بعد المسيس". [والرجعة] ثابتة بالكتاب والسّنة والإِجماع، أمّا الكتاب فقول الله -سبحانه-: {والمطلقات يتربصنَ بأنفسهنّ ثلاثة قروء} إِلى قوله: {وبعولَتُهُنَّ أحقُّ بردِّهنّ في ذلك إِن أرادوا إِصلاحاً} (¬2) والمراد به الرجعة عند جماعة العلماء وأهل التفسير، وقال -تعالى-: {وإِذا طلَّقتم النساء فبلغن أجلهنّ فأمسكوهن بمعروف} (¬3). أي بالرَّجعة ومعناه إِذا قاربن بلوغ أجلهن أي: انقضاء عدتهنّ" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "المحلَّى" (11/ 550)، و"الفتاوى" (33/ 9). (¬2) البقرة: 228. (¬3) البقرة: 231. (¬4) انظر "المغني" (8/ 470).

وقال -تعالى-: {الطلاق مرَّتان فإِمساكٌ بمعروف أو تسريح بإِحسان} (¬1). *أي: أنَّ الطلاق الذي شرَعَه الله يكون مرة بعد مرة، وأنه يجوز للزوج أن يمسك زوجته، بعد الطلقة الأولى بالمعروف، كما يجوز له ذلك بعد الطلقة الثانية، والإِمساك بالمعروف معناه مراجعتها وردّها إِلى النكاح، ومعاشرتها بالحسنى، ولا يكون له هذا الحق، إِلا إِذا كان الطلاق رجعياً* (¬2). وأمّا السّنة فما روى ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مُرْه فليراجعها" متفق عليه (¬3). وروى أبو داود عن عمر: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلَّق حفصة ثمّ راجعَها" (¬4). وعن عمران بن حصين أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته، ثم يقع بها، ولم يُشهِد على طلاقها، ولا على رجعتها، فقال: "طلّقت لغير سنة، وراجعت لغير سُنة، أشهد على طلاقها، وعلى رجعتها، ولا تَعُد" (¬5). ¬

_ (¬1) البقرة: 229. (¬2) ما بين نجمتين عن "فقه السّنة" (3/ 93). (¬3) أخرجه البخاري: 5251، ومسلم: 1471، وتقدّم. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1998)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3332)، وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2077). (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1915)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1645) وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2078) وتقدّم.

وتستثنى بعض الحالات من الطلاق الرجعي: كأن يكون الطلاق مكمّلاً للثلاث؛ فهو *يُبينُ المرأة، ويُحرِّمها على الزوج، ولا يحل له مراجعتها، حتى تنكح زوجاً آخر، نكاحاً لا يقصد به التحليل؛ قال الله -تعالى-: {فإِنْ طلَّقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} (¬1) أي: فإِن طلقها الطلقة الثالثة، بعد طلقتين، فلا تحل له من بعد الطلاق المكمل للثلاث، حتى تتزوج غيره زواجاً صحيحاً. والطلاق قبل الدخول يُبِينُهَا كذلك؛ لأن المطلقة في هذه الحالة لا عدة عليها، والمراجعة إِنما تكون في العدة، وحيث انتفت العدة، انتفت المراجعة؛ قال الله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا إِذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلقتموهنّ من قبل أن تمسوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدونها فمتعوهنّ وسرّحوهنّ سراحاً جميلاً} (¬2) * (¬3). والطلاق الرجعي لا يمنع الاستمتاع بالزوجة (¬4) لأنه لا يرفع عقد الزواج، ولا يزيل الملك، ولا يؤثر في الحل، فهو وإن انعقد سبباً للفرقة، إِلا أنه لا يترتب عليه أثره، ما دامت المطلقة في العدة، وإنما يظهر أثره بعد انقضاء العدة دون مراجعة، فإِذا انقضت العدة ولم يراجعها، بانت منه، وإذا كان ذلك كذلك، ¬

_ (¬1) البقرة: 230. (¬2) الأحزاب: 49. (¬3) ما بين نجمتين من "فقه السّنة" (3/ 39). (¬4) مع التَّنبيه إِلى أنَّ بعض العلماء يرى أنَّ جِماع الزوجة إِعادة لها، وانظر -إِن شئت- بعد صفحتين.

فإِنَّ الطلاق الرجعي لا يمنع من الاستمتاع بالزوجة، وإِذا مات أحدهما ورثه الآخر، ما دامت العدة لم تَنْقَضِ، ونفقتها واجبة عليه (¬1). ومن قال لامرأته: أنت طالق طلقة لا رجعة لي فيها عليك، بل تملكين بها نفسك، فإِن الناس اختلفوا في ذلك. قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلَّى" (11/ 550): "قال أبو حنيفة، والشافعي، وأصحابهما، وابن وهب -صاحب مالك-: هي طلقة يملك فيها زوجها رجعتها، وقوله بخلاف ذلك لغو. وقالت طائفة: هي ثلاث، وهو قول ابن الماجشون -صاحب مالك-. وقالت طائفة: هي كما قال، وهو قول ابن القاسم صاحب مالك. والذي نقول به: أنه كلام فاسد لا يقع به طلاق أصلاً، لأنه لم يطلق كما أمَره الله -عزّ وجلّ- ولا طلاق إِلا كما أمَر الله -تعالى-. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬2). ولا بُدّ من الإِشهاد على الرجعة لقوله -تعالى-: {أشهدوا ذَوَي عدْلٍ منكم} (¬3). ولحديث عمران بن الحصين -رضي الله عنه- المتقدّم. "أشهد على طلاقها وعلى رجعتها". وقال العلامة الشوكاني -رحمه الله- في "نيل الأوطار" (7/ 42) -بحذف-: ¬

_ (¬1) انظر "فقه السنَّة" (3/ 40). (¬2) أخرجه البخاري: 2697، ومسلم: 1718 واللفظ له، وتقدّم. (¬3) الطلاق: 2.

"واختلف السلف فيما يكون به الرجل مراجعاً فقال الأوزاعي: إِذا جامعَها فقد راجعَها، ومثله أيضاً روى عن بعض التابعين. وبه قال مالك وإسحاق بشرط أن ينوي به الرجعة. وقال الكوفيون كالأوزاعى وزادوا: ولو لمسها شهوة أو نظر إِلى فرجها لشهوة، وقال الشافعي: لا تكون الرجعة إِلا بالكلام. وحُجَّة الشافعي أن الطلاق يزيل النكاح. وإِلى ذلك ذهب الإِمام يحيى والظاهر ما ذهب إِليه الأولون؛ لأن العدة مدة خيار والاختيار يصح بالقول والفعل. وأيضاً ظاهر قوله -تعالى-: {وبعولتهن أحق بردهنّ} (¬1)، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "مره فليراجعها": أنها تجوز المراجعة بالفعل؛ لأنه لم يخصَّ قولاً مِنْ فِعْلٍ، ومن ادعى الاختصاص فعليه الدليل، وقد حكى في "البحر" عن العترة ومالك أن الرجعة بالوطء ومقدماته محظورة وإن صحت، ثم قال: قلت: إِن لم يَنوِ بِهِ الرجعة فنعم لعزمه على قبيح وإلا فلا لما مرَّ، وقال أحمد بن حنبل: بل مباح لقوله -تعالى-: {إلاَّ على أزواجهم} (¬2) والرجعية زوجة بدليل صحة الإِيلاء". انتهى. وجاء في "الفتاوى" (20/ 381): " ... ومسألة الرجعة بالفِعْل، كما إِذا طلّقها: فهل يكون الوطء رجعة؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يكون رجعة كقول أبي حنيفة. والثاني: لا يكون كقول الشافعي. والثالث. يكون رجعة مع النية وهو المشهور عند مالك، وهو أعدل الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد". ¬

_ (¬1) البقرة: 228. (¬2) المؤمنون: 6.

الطلاق البائن وأحكامه

وقال لنا شيخنا -رحمه الله- في بعض مجالسه: "إِذا جامعها؛ فهذا يعني إِرجاعها". الطلاق البائن وأحكامه هو الطلاق المكمّل للثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال وهو ما يسمّى بالخلع كما سيأتي -إِن شاء الله تعالى-، ويبقى به الزوج خاطباً من الخُطّاب لا تباحُ له إِلا بعقد جديد، إِلا إِذا طلَّقها ثلاثاً؛ فلا تحلّ له حتَّى تنكح زوجاً غيره. أقسامه: ينقسم الطلاق البائن إِلى قسمين: بائن بينونة صُغرى، وهو ما كان دون الثلاث، وبائن بينونة كُبرى، وهو المكمّل للثلاث. حُكم البائن بينونة صُغرى: *الطلاق البائن بينونةً صغرى يزيل قيد الزوجية، بمجرد صُدوره، وإذا كان مزيلاً للرابطة الزوجية، فإِنّ المطلقة تصير أجنبية عن زوجها، فلا يحل له الاستمتاع بها، ويحل بالطلاق البائن موعد مؤخر الصداق -المؤجل- إِلى أبعد الأجلين؛ الموت أو الطلاق. وللزوج أن يعيد المطلقة طلاقاً بائناً بينونة صغرى إِلى عصمته [برضاها]، بعقد ومهر جديدين، [ولا يشترط] أن تتزوج زوجاً آخر، وإذا أعادها عادت

حكم الطلاق البائن بينونة كبرى:

إِليه بما بقي له من الطلقات، فإِذا كان طلقها واحدة من قبل، فإِنه يملك عليها طلقتين بعد العودة إِلى عصمته، وإِذا كان طلقها طلقتين، لا يملك عليها إِلا طلقة واحدة* (¬1). حُكم الطَّلاق البائن بينونة كُبرى: *الطلاق البائن بينونة كبرى يزيل قيد الزوجية، مثل البائن بينونة صغرى، ويأخذ جميع أحكامه، إِلا أنه لا يحل للرجل أن يعيد من أبانها بينونة كبرى إِلى عصمته، إِلا بعد أن تنكح زوجاً آخر نكاحاً صحيحاً، ويدخل بها دون إِرادة التحليل؛ يقول الله -تعالى-: {فإِنْ طلَّقها فلا تحلُّ له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} (¬2) أي: فإِن طلقها الطلقة الثالثة، فلا تحل لزوجها الأول، إِلا بعد أن تتزوج آخر؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لامرأة رفاعة: "لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته" (¬3) * (¬4). جاء في "المحلّى" (11/ 551): "والبائن هو الذي لا رجعة له عليها إِلا أن تشاء هي في غير الثلاث بولي وصداق، ورضاها، ونفقتها عليه في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة، ويلحقها طلاقه". وجاء في "الفتاوى" (32/ 313): "وجماع الأمر أن البينونة نوعان: البينونة الكبرى وهي إِيقاع البينونة الحاصلة بإِيقاع الطلاق الثلاث الذي تحرم به ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 43) بتصرف. (¬2) البقرة: 230. (¬3) أخرجه البخاري: 5260، ومسلم: 1433 وتقدّم. (¬4) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 43).

مسألة الهدم:

المرأة حتى تنكح زوجاً غيره. والبينونة الصغرى وهي: التي تبين بها المرأة ... ". مسألة الهدم: إِذا طلّق الرجل زوجته وبانت منه بينونة كُبرى وانقضت عدّتها، ونَكَحت زوجاً غيره، ودخَل بها، ثمّ طلّقها أو مات، ثمّ انقضت عدّتها، ثمّ نكَحها الأول؛ فإِنه يملك عليها ثلاث تطليقات. قال ابن المنذر في كتاب "الإِجماع" (ص 81): "وأجمعوا على أنّ الحُرَّ إِذا طلّق الحُرَّةَ ثلاثاً، ثمّ انقضت عدّتها، ونَكَحت زوجاً غيره، ودخَل بها، ثمّ فارقها وانقضت عدتها، ثمّ نكَحها الأول، أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات" انتهى. أمّا التي تبين من زوجها بينونة صغرى، فإِنها إِذا انقضت عدّتها، ونكَحت زوجاً غيره، ثمّ طلّقها أو مات، ثمّ انقضت عدّتها، فالراجح أنها تعود على ما بقي من الثلاث. جاء في "السيل الجرَّار" (2/ 374): "قوله: ولا ينهدم الا ثلاثة. أقول: وجه تخصيص الانهدام بالثلاث لا بما دونها؛ أنها مورد النص فإِنَّ الله -سبحانه- قال: {فإِنْ طلَّقها من بعد فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره} (¬1) أي: فإِن طَلَّقَ مرةً ثانيةً مَنْ طلقها مرتين؛ فلا تحل له بعد هذا التثليث؛ حتى تنكح زوجاً غيره، فإِنْ نكحت زوجاً غيره حَلَّتْ له. والظاهر أنها تحل له حِلاً مُطلَقاً فيملك عليها من الطلاق ما يملكه لو نكحها ابتداءً. وإذا عرفت أن التثليث هو مورد النص؛ فاعلم أنه لم يرد في شيء من ¬

_ (¬1) البقرة: 230.

الكتاب والسّنة ما يدل على أنها إِذا نكحت زوجاً غيره بعد طلقة أو تطليقتين أن الطلقة أو الطلقتين يكون لها حُكم الثلاث في الانهدام. لكن ها هنا قياس قويٌّ هو القياس الذي يسمُّونه قياس الأولى -وتارة يسمونه فحوى الخطاب- فإِنه يدل على أن انهدام ما دون الثلاث مأخوذ من الآية بطريق الأولى، ويعضد هذا أن الاحتساب بما وقع من طلاق الزوج عليها بعد أن نكحت زوجاً غيره؛ خلاف ما يوجبه الحل المفهوم من قوله: {فلا تحل له} فإن ظاهره أنها تحل له الحلّ الذي يكون للزوج على زوجته لو تزوجها ابتداءً". جاء في "المغني" (8/ 441): "وإذا طلّق زوجته أقلّ من ثلاث فقضت العدة؛ ثمّ تزوجت غيره ثمّ أصابها، ثمّ طلقها أو مات عنها وقضت العدة، ثمّ تزوجها الأول فهي عنده على ما بقي من الثلاث. وجملة ذلك أن المطلق إِذا بانت زوجته منه ثمّ تزوجها لم يخلُ من ثلاثة أحوال: أحدها: أن تنكح غيره ويصيبها ثمّ يتزوجها الأوَّل فهذه ترجع إِليه على طلاق ثلاث بإِجماع أهل العلم. قاله ابن المنذر. الثاني: أن يطلقها دون الثلاث، ثمّ تعود إِليه برجعة أو نكاح جديد؛ قبل زوج ثانٍ، فهذه ترجع إِليه على ما بقي من طلاقها بغير خلاف نعلمه. والثالث: طلقها دون الثلاث فقضت عدتها ثمّ نكحت غيره ثمّ تزوجها الأول فعن أحمد فيها روايتان: إِحداهما: ترجع إِليه على ما بقي من طلاقها وهذا قول الأكابر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمر وعلي وأُبي ومعاذ وعمران ابن حصين وأبي هريرة وروي ذلك عن زيد وعبد الله بن عمرو بن العاص وبه

هل يقع طلاق المريض مرض الموت؟

قال سعيد بن المسيب وعبيدة والحسن ومالك والثوري وابن أبي ليلى والشافعي وإِسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن المنذر. والرواية الثانية: عن أحمد أنها ترجع إِليه على طلاق ثلاث، وهذا قول ابن عمر وابن عباس وعطاء والنخعي وشريح وأبي حنيفة وأبي يوسف لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل، فيثبت حلاً يتّسعُ لثلاث تطليقات؛ كما بعد الثلاث لأن الوطء الثاني يهدم الطلقات الثلاث، فأولى أن يهدم ما دونها. ولنا أنَّ وطء الثاني لا يُحتاج إِليه في الإِحلال للزوج الأول فلا يغير حكم الطلاق ... ". وجملة القول: أن ما جاء في "المغني" هو الأرجح والأقوى. وقول العلامة الشوكاني -رحمه الله- "وجه تخصيص الانهدام بالثلاث؛ لا بما دونها أنها مورد النّص ... " يرجّح هذا، فترجع على ما بقي، ولا سيّما أنه قول الأكابر من الصحابة كعمر بن الخطاب وأمثاله -رضي الله عنهم-. فقد جاء في "الفتاوى" (20/ 380): " ... وكذلك مسألة إِصابة الزوج الثاني: هل تهدم ما دون الثلاث؟ وهو الذي يطلِّق امرأته طلقة أو طلقتين ثمّ تتزوج من يصيبها، ثمّ تعود إِلى الأول؛ فإِنها تعود على ما بقي عند مالك، وهو قول الأكابر من الصحابة كعمر بن الخطاب وأمثاله، وهو مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه، وإِنما قال: لا تعود على ما بقي ابن عمر وابن عباس، وهو قول أبي حنيفة". هل يقع طلاق المريض مرض الموت؟ جاء في "المحلّى" (11/ 553) تحت المسألة (1980): "وطلاق المريض

كطلاق الصحيح ولا فرق -مات في ذلك المرض أو لم يَمُت منه- فإِنْ كان طلاق المريض ثلاثاً أو آخر ثلاث، أو قبل أن يطأها فمات، أو ماتت -قبل تمام العدة أو بعدها- أو كان طلاقاً رجعياً فلم يرتجعها حتى مات أو ماتت بعد تمام العدة؛ فلا ترثه في شيء من ذلك كلّه، ولا يرثها أصلاً. وكذلك طلاق الصحيح للمريضة، وطلاق المريض للمريضة، ولا فرق، وكذلك طلاق الموقوف للقتل والحامل الثقلة، وهذا مكان اختلف الناس فيه .. ". ثمّ أفاض في ذِكر الآثار وناقش المسألة فارجع إِليه للمزيد -إِن شئت-. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: "أنّ عبد الرحمن بن عوف طلّق امرأته البتة وهو مريض، فورّتها عثمان -رضي الله عنه- بعد انقضاء عدتها" (¬1). وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (6/ 160): "قال الشافعي (1394): أخبرنا ابن أبي رواد ومسلم بن خالد عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة أنه سأل ابن الزبير عن الرجل يطلق المرأة فيبتِّها ثمّ يموت وهي في عدتها، فقال عبد الله بن الزبير: طلَّق عبد الرحمن بن عوف تماضر بنت الأصبغ الكلبية، فبتَّها، ثمّ مات، وهي في عدتها، فورّثها عثمان -رضي الله عنه- قال ابن الزبير: وأمّا أنا فلا أرى أن تَرِثَ مبتوتة" (¬2). وارتباط المسألة في الميراث اختلفت الآراء في ذلك؛ والذي يترجَّح -والله أعلم- وقوع الطلاق لتطليق عبد الرحمن بن عوف امرأته في مرض موته وكان ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي ومن طريقه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (6/ 159). (¬2) وقال شيخنا -رحمه الله-: وهذا إِسناد صحيح.

قد بتّها كما تقدّم. أمّا الاختلاف في أمر الميراث، فهذه مسألة أخرى سأذكرها -إن شاء الله تعالى- في حينها. ويشترط في إيقاع الطلاق ألا يكون عقله قد زال. وجاء في "الفتاوى" (31/ 368): "وسئل الشيخ -رحمه الله- عن امرأة مزوجة، ولزوجها ثلاث شهور وهو في مرض مزمن، فطلب منها شراباً فأبطأت عليه، فنفر منها، وقال لها: أنت طالق ثلاثة، وهي مقيمة عنده تخدمه، وبعد عشرين يوماً توفي الزوج: فهل يقع الطلاق؛ وهل إِذا حلف على حُكم هذه الصورة يحنث؟ وهل للوارث أن يمنعها الإِرث؟ فأجاب: أمّا الطلاق فإِنه يقع إِن كان عاقلاً مختاراً؛ لكن ترثه عند جمهور أئمة الإِسلام، وهو مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة، والشافعي في القول القديم، كما قضى به عثمان بن عفان في امرأة عبد الرحمن بن عوف، فإِنه طلقها في مرض موته، فورَّثها منه عثمان، وعليها أن تعتد أبعد الأجلين: من عدة الطلاق، أو عدة الوفاة، وأمّا إِن كان عقله قد زال فلا طلاق عليه". وفيه (ص 369): "وسُئل -رحمه الله- عن رجل زوَّج ابنته، وكتَب الصداق عليه، ثمّ إِن الزوج مرض بعد ذلك، فحين قَوِيَ عليه المرض فقبْل موته بثلاتة أيام طلق الزوجة؛ ليمنعها من الميراث: فهل يقع هذا الطلاق؟ وما الذي يجب لها في تركته؟ فأجاب: هذه المطلقة إِنْ كانت مطلقة طلاقاً رجعياً، ومات زوجها، وهي في العدة وَرِثتْهُ باتفاق المسلمين، وإن كان الطلاق بائناً كالمطلقة ثلاثاً؛ ورثته

متى يطلق القاضي؟

أيضاً عند جماهير أئمة الإِسلام، وبه قضى أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لما طلق عبد الرحمن بن عوف زوجته بنت الأصبغ الكلبية طلقها ثلاثاً في مرض موته، فشاور عثمان الصحابة فأشاروا على أنها ترِث منه، ولم يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك خلاف. وإِنما ظهر الخلاف في خلافة ابن الزبير، فإِنه قال: لو كنت أنا لم أورثها، وابن الزبير قد انعقد الإِجماع قبل أن يصير من أهل الاجتهاد، وإِلى ذلك ذهب أئمة التابعين، ومن بعدهم، وهو مذهب أهل العراق: كالثوري، وأبي حنيفة، وأصحابه، ومذهب أهل المدينة، كمالك، وأصحابه، ومذهب فقهاء الحديث: كأحمد بن حنبل، وأمثاله، وهو القول القديم للشافعي. وفي الجديد وافق ابن الزبير؛ لأن الطلاق واقع بحيث لو ماتت هي لم يرثها هو بالاتفاق، فكذلك لا ترثه هي، ولأنها حرمت عليه بالطلاق، فلا يحل له وطؤها، ولا الاستمتاع بها، فتكون أجنبية، فلا ترث ... ". وجاء في "الاختيارات الفقهية" (ص 198): "ونكاح المريض في مرض الموت صحيح، وترث زوجته منه في قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، ولا تستحق إِلا مَهر المِثل، لا الزيادة عليه بالاتفاق". انتهى. وكما يقع النكاح في مِثل هذا الحال يقع الطلاق، كلاهما بشرطه، والله -تعالى- أعلم. متى يطلّق القاضي؟ 1 - عدم الإِنفاق: جاء في "المحلّى" (11/ 326) تحت المسألة (1931): "وَمن منع النفقة

والكسوة وهو قادر عليها؛ فسواء كان غائباً أو حاضراً: هو دَيْن في ذمته يؤخذ منه أبداً، ويُقضى لها به في حياته وبعد موته ... ". وفيه: (ص 327) تحت المسألة (1932): "فمن قدر على بعض النفقة والكسوة، فسواء قلَّ ما يقدر عليه أو كثُر: الواجب أن يقضي عليه بما قدر، ويسقط عنه ما لا يقدر، فإِن لم يقدر على شيء من ذلك سقط عنه، ولم يجب أن يقضى عليه بشيء، فإِن أيسر بعد ذلك قضى عليه من حين يوسر، ولا يقضى عليه بشيء مما أنفقته على نفسها من نفقة أو كسوة مدة عسره، لقول الله -عزّ وجلّ-: {لا يكلف الله نفساً إِلا وُسْعَها} (¬1)، وقوله -تعالى-: {لا يكلّف الله نفساً إِلا ما آتاها} (¬2). فصحَّ يقيناً أن ما ليس في وسعه، ولا آتاه الله -تعالى- إِياه، فلم يكلِّفه الله -عزّ وجلّ- إِياه، وما لم يكلفه الله -تعالى- فهو غير واجب عليه، وما لم يجب عليه؛ فلا يجوز أن يقضى عليه به أبداً أيسر أو لم يوسر. وهذا بخلاف ما وجب لها من نفقة أو كسوة؛ فمنعها إِياها وهو قادر عليها، فهذا يؤخذ به أبداً أعسر بعد ذلك أو لم يُعسر، لأنه قد كلَّفه الله -تعالى- إِياه، فهو واجب عليه، فلا يسقطه عنه إِعساره، لكن يوجب الإِعسار أن ينظر به إِلى الميسرة فقط، لقوله -عزّ وجلّ-: {وإِن كان ذو عسرة فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرة} (¬3) ". ¬

_ (¬1) البقرة: 286. (¬2) الطلاق: 7. (¬3) البقرة: 280.

وجاء في "السيل الجرار" (2/ 452) -بحذف-: "قد ذهب الجمهور كما حكاه ابن حجر في "فتح الباري" إِلى ثبوت الفسخ إِذا لم يجد الرَّجل ما ينفق على امرأته، وهو الحق لقوله -عزّ وجلّ-: {ولا تُمسكوهنّ ضراراً} (¬1) والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول. وأي ضرار أعظمِ من أن يبقيها في حَبْسِهِ وتحت نكاحه بغير نفقة؟! فإِنَّ هذا ممسك لها ضراراَ بلا شك ولا شبهة، بل ممسك لها مع أشد أنواع الضرار، فإِنَّ قوام الأنفس لا يكون إِلا بالطعام والشراب. ولقول الله -عزّ وجلّ-: {فإِمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإِحسان} (¬2) فخيّر الأزواج بين الأمرين، فليس لهم فسحة في المعاملة للزوجات بأحدهما. فمن لم يُمسك بمعروف كان عليه التسريح بإِحسان، فإِنْ لم يفعل كان على حُكَّام الشريعة أن يوصلوا المُمْسَكَةَ ضراراً بحكم الله -عزّ وجلّ- فيفسخوا نكاحها. وأين الإِمساك بمعروف من رجل ترك زوجته في مضايق الجوع، ومتالف المخمصة، وعرَّضها للهلاك، وحبَسها عن طلب رزق الله -عزّ وجلّ- وأراد أن تكون له فراشاً، وهي بهذه الحالة المنكرة والصفة المستشنعة، وكل من يعرف الشريعة يعلم أن هذا منكر من منكراتها ومُحرَّم من مُحرَّماتها ولقوله -عزّ وجلّ-: {ولا تضاروهنّ} (¬3) وهذا من أعظم أنواع الضرار وأشدها كما سلف. ¬

_ (¬1) البقرة: 231. (¬2) البقرة: 229. (¬3) الطلاق: 6.

وأيضاً قد شرع الله -سبحانه- بعْث الحَكَمين بين الزَّوجين عند مجرَّد الشِّقاق وفوَّض إِليهما ما فوَّضه إِلى الأزواج، فإِذا كان لهما التفرقة بمجرد وجود الشقاق؛ فكيف لا يكون لحاكم الشريعة الفسخ بعد وصول المرأة إليه؛ تشكو إِليه ما مسَّها من الجوع، ونزَل بها من الفاقة الشديدة. والحاصل أن بعض ما ذكَرناه يصلح مستنداً لفسخ النكاح في هذه الحالة ... وأمّا استدلال المانعين من الفسخ بقوله -سبحانه-: {لينفق ذو سَعَةٍ مِن سَعَته ومن قُدِرَ عليه رزقُهُ فلينفق مما آتاه الله} (¬1) فيجاب عنه بأنا لا نكلفه بأن ينفق زيادة على ما آتاه، بل دفعنا الضرار عن المرأة وخلَّصناها من حباله لتذهب تطلب لنفسها رزق الله -عزّ وجلّ- بالتكسب، أو تتزوّج آخر يقوم بمطعمها ومشربها". جاء في "الروضة الندية" (2/ 112): "وأمّا التفريق بين المعسِر وبين امرأته، فأقول: إِذا كانت المرأة جائعة، أو عارية في الحالة الراهنة فهي في ضرار، والله -تعالى- يقول: {ولا تضاروهنّ} (¬2) وهي أيضاً غير معاشَرة بالمعروف، والله يقول: {وعاشروهنّ بالمعروف} (¬3) وهي أيضاً غير ممسَكة بمعروف، والله يقول: {فإِمساك بمعروف أو تسريحٌ بإِحسان} (¬4) بل هي ممسَكة ¬

_ (¬1) الطلاق: 7. (¬2) الطلاق: 6. (¬3) النساء: 19. (¬4) البقرة: 229.

2 - غيبة الزوج:

ضراراً، والله يقول: {ولا تمسكوهنّ ضراراً} (¬1) والنّبيّ صلّى الله -تعالى- عليه وآله وسلّم- يقول: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2). ثمّ من أعظم ما يدل على جواز الفسخ بعدم النفقة؛ أن الله -سبحانه- قد شرع الحَكَمين بين الزوجين عند الشقاق، وجعل إِليهما الحُكْم بينهما، ومن أعظم الشقاق أن يكون الخصام بينهما في النفقة. وإذا لم يمكنهما دفْع الضرر عنها إِلا بالتفريق، كان ذلك إِليهما. وإذا جاز ذلك منهما، فجوازه من القاضي أولى". انتهى. و"كتب عمر إِلى أُمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم يأمرهم أن يُنفقوا أو يُطلّقوا، فإِنْ طلَّقوا بعَثوا بنفقة ما مضى، قال ابن المنذر: ثبت ذلك عن عمر" (¬3). 2 - غَيبة الزوج: *مِن حق الزوجة أن تطلب التفريق إِذا غاب عنها زوجها، ولو كان له مالٌ تنفق منه؛ إِذا كان غياب الزوج لغير عُذر مقبول، مع حصول التضرّر بغيابه* (¬4). ¬

_ (¬1) البقرة: 231. (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1895) وأحمد وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (896) وتقدّم. (¬3) أخرجه الشافعي وعنه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله - في "الإِرواء" (2159)، وتقدّم. والصَّواب أنَّه برقم (2158) كما في التخريج الثاني وذلك لسقوط رقم (2157) سهواً. (¬4) ما بين نجمتين من "فقه السّنة" (3/ 58) -بحذف وتصرّف-.

وثبت أنه فُقد رجل في عهد عمر -رضي الله عنه- فجاءت امرأته إِلى عمر فَذكَرت ذلك له فقال: انطلقي فتربصي أربع سنين، فَفَعَلت، ثمّ أتته فقال: انطلقي فاعتدي أربعة أشهر وعشراً فَفَعَلت، ثمّ أتته فقال: أين وليُّ هذا الرجل؟ فجاء وليُّه فقال: طلِّقها ففعَل. فقال عمر: انطلقي فتزوجي من شئت. فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "قضى عمر -رضي الله عنه- في المفقود تَرَبَّصُ امرأته أربع سنين، ثمّ يطلقها وليّ زوجها، ثمّ تربص بعد ذلك أربعة أشهر وعشرا، ثمّ تزوج" (¬1). عن عبد الرحمن بن أبي ليلى "أنّ رجلاً من قومه من الأنصار خرج يصلّي مع قومه العشاء، فسَبَتْهُ الجنّ، فَفُقد، فانطلقت امرأته إِلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقصَّت عليه القصَّة، فسأل عنه عمر قومه، فقالوا: نعم؛ خرج يصلّي العشاء فَفُقد، فأمرها أن تربص أربع سنين، فلما مضت الأربع سنين؛ أتته فأخبرته، فسأل قومها؟ فقالوا: نعم؛ فأمرها أن تتزوج، فتزوجت. فجاء زوجها يخاصم في ذلك إِلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: يغيب أحدكم الزمان الطويل، لا يعلم أهله حياته، فقال له: إِنّ لي عذراً يا أمير المؤمنين، فقال: وما عذرك؟ قال: خرجتُ أصلِّي العشاء، فسَبَتْنِي الجنّ، فلبثتُ فيهم زماناً طويلاً، فغزاهم جنٌّ مؤمنون -أو قال: مسلمون، شك سعيد- فقاتلوهم، فظهَروا عليهم، فسبَوا منه سبايا، فسَبَوني فيما سبَوا منهم، فقالوا: نراك رجلاً مسلماً ولا يحلُّ لنا سبيُك، فخيروني بين المُقَامِ وبين القُفُول إِلى أهلي، فاخترت القفول إِلى أهلي، ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1708).

3 - التطليق للضرر:

فأقبلوا معي، أمَّا بالليل فليس يحدثوني، وأمَّا بالنّهار فعصاً أتبعها. فقال له عمر -رضي الله عنه-: فما كان طعامك فيهم؟ قال: الغول، وما لم يذكر اسم الله عليه، فال: فما كان شرابك فيهم؟ قال: الجدف، قال قتادة: والجدف ما لا يخمر من الشراب قال: فخيَّره عمر بين الصَّداق وبين امرأته" (¬1). والخلاصة: أنّ عمر -رضي الله عنه- أمَرها أن تنتظر أربع سنين، وبعد ذلك تربص أربعة أشهر وعشراً ثمّ الزَّواج. 3 - التطليق للضَّرر: *ذهب بعض العلماء أن للزوجة أن تطلب من القاضي التفريق، إِذا ادّعت إِضرار الزوج بها إِضراراً؛ لا يُستطاع معه دوام العِشرة بين أمثالهما، مثل ضَرْبها، أو سبِّها، أو إِيذائها بأي نوع من أنواع الإِيذاء الذي لا يُطاق، أو إكراهها على مُنكَر؛ من القول أو الفعل، فإِذا ثبتت دعواها لدى القاضي، ببيِّنة أو اعتراف الزوج، وكان الإِيذاء مما لا يُطاق معه دوام العِشرة بين أمثالهما، وعجز القاضي عن الإِصلاح بينهما* (¬2) تولى القاضي تطليقها بعد التثبت من ذلك. وقد قال -سبحانه-: {فإِمساك بمعروف أو تسريح بإِحسان}. فوجبَ على من لم يُمسِك بالمعروف أن يُسرّح بإِحسان، فإِذا لم يفعل؛ شكت المرأة أمرها إِلى القاضي وحَكم بذلك. وفي الحديث: "لا ضرر ولا ضرار" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله - في "الإِرواء" (1709). (¬2) ما بين نجمتين عن "فقه السّنة" (3/ 56). (¬3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1895) وأحمد وغيرهما، =

متعة الطلاق

متعة الطّلاق قال الله -تعالى-: {لا جُناح عليكم إِنْ طلّقتم النساء ما لم تمسّوهنّ أو تفرِضوا لهنّ فريضة ومتّعوهنّ على الموسع قَدَرُه وعلى المقتر قَدَرُه متاعاً بالمعروف حقّاً على المحسنين} (¬1). عن سهل الساعدي، وأبي أُسيد -رضي الله عنهما- قالا: "تَزوَّج النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَيمة بنتَ شراحيل، فلمّا أُدخلت عليه بسَط يدَه إِليها (¬2)، فكأنّها كرِهت ذلك، فأمَرَ أَبا أُسيدٍ أن يُجهِّزها ويكسوها ثوبين رازقيَّيْن (¬3) " (¬4). وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: لما طلّق حفص بن المغيرة امرأته فاطمة، أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لزوجها: مَتِّعها، قال: لا أَجد ما أمتّعها، قال: فإِنّه لا بدّ من المتاع، قال: متِّعْها ولو نصف صاعٍ من تمر (¬5). الخُلع * الحياة الزوجية لا تقوم إِلا على السكن، والمودة والرحمة، وحُسن المعاشرة، وأداء كل من الزوجين ما عليه من حقوق، وقد يحدُث أن يَكرَه ¬

_ = وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (896)، وتقدّم. (¬1) البقرة: 236. (¬2) انظر صحيح البخاري: 5255، فإِنها رواية مفسِّرة لها لا بدَّ منها. (¬3) ثياب كَتَّان بيض، والرازقيّ: الضعيف من كل شيء "النهاية". (¬4) أخرجه البخاري: 5256، 5257. (¬5) أخرجه البيهقي وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2281).

الرجل زوجته، أو تكره هي زوجها، والإِسلام في هذه الحال يوصي بالصبر والاحتمال، وينصح بعلاج ما عسى أن يكون من أسباب الكراهية؛ قال الله -تعالى-: {وعاشروهنّ بالعروف فإِنْ كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويَجْعَلَ الله فيه خيراً كثيراً} (¬1). وفي الحديث الصحيح: "لا يَفْرَكْ (¬2) مؤمن مؤمنة؛ إِنْ كره منها خُلُقاً، رضي منها آخر" (¬3). إِلا أن البغض قد يتضاعف، ويشتد الشقاق، ويصعب العلاج، وينفد الصبر، ويذهب ما أُسِّس عليه البيت؛ من السكن، والمودة، والرحمة، وأداء الحقوق، وتصبح الحياة الزوجية غير قابلة للإِصلاح، وحينئذ يرخّص الإِسلام بالعلاج الوحيد الذي لا بد منه. فإِنْ كانت الكراهية من جهة الرجل، فبَيدِه الطلاق، وهو حقٌّ من حقوقه، وله أن يستعمله في حدود ما شرع الله، وإِنْ كانت الكراهية من جهة المرأة، فقد أباح لها الإِسلام أن تتخلص من الزوجية بطريق الخُلع، بأن تعطي الزوج ما كانت أخذتْ منه، باسم الزوجية؛ ليُنهي علاقته بها. وفي ذلك يقول الله -سبحانه وتعالى-: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إِلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإِنْ خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جُناح عليهما فيما افتدت به} (¬4). ¬

_ (¬1) النساء: 19. (¬2) الفَرك: البُغضُ. (¬3) أخرجه مسلم: 1469. (¬4) البقرة: 229.

تعريفه:

وفي أخْذ الزوج الفدية عدلٌ وإنصاف؛ إِذ إِنَّه هو الذي أعطاها المهر، وبذَل تكاليف الزواج، والزفاف، وأنفقَ عليها، وهي التي قابلت هذا كلّه بالجحود، وطلبَت الفراق، فكان من النَّصَفَة أن تَرُدَّ عليه ما أخذَت. وإنْ كانت الكراهية منهما معاً؛ فإِنْ طلَب الزوج التفريق، فبيده الطلاق، وعليه تَبِعاتُه، وإنْ طلبَت الزوجة الفُرقة، فبيدها الخُلع، وعليها تَبِعاتُهُ كذلك"* (¬1). تعريفه: الخُلع: أصْله من خَلْع الثوب؛ لأنّ المرأة لباسُ الرجل معنىً، وضُمّ مصدره تفرقةً بين الحِسّي والمعنوي وهو طلب المرأة الفراق من زوجها؛ على عِوَضٍ تبذلُه له (¬2). وقال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 584): "الخلع: وهو الافتداء إِذا كرهت المرأة زوجها، فخافت أن لا توفيه حقَّه، أو خافت أن يبغضها فلا يوفيها حقَّها، فلها أنْ تفتدي منه ويطلِّقها، إنْ رضي هو؟ وإلا لم يجبر هو؟ ولا أجبرت هي؟ إِنما يجوز بتراضيهما". وجاء في "زاد المعاد" (5/ 196): "وفي تسميته -سبحانه- الخُلع فديةً؛ دليلٌ على أنّ فيه معنى المعاوضة ولهذا اعتُبر فيه رضا الزوجين". وسُئل شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-: ما هو الخُلع الذي جاء به الكتاب والسّنة؟ فأجاب: الخُلع الذي جاء به الكتاب والسّنة: أن تكون المرأة كارهة للزوج ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين عن "فقه السّنة" (3/ 60). (¬2) ملتقط من "النهاية" و"الفتح" (9/ 395).

مشروعيته:

تريد فراقه فتعطيه الصداق أو بعضه فداء نفسها؛ كما يفتدي الأسير (¬1). مشروعيته: قال الله -تعالى-: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إِلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإِنْ خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أنّ امرأة ثابت بن قيس أتت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتِبُ عليه في خُلقٍ ولا دين، ولكنّي أكره الكُفر في الإِسلام (¬3). فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أترُدّين عليه حديقته؟ قالت: نعم؛ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقبَل الحديقة وطلّقها تطليقة" (¬4). اشتراط النشوز (¬5) فيه وعدم إِقامة حدود الله -تعالى-: جاء في "السيل الجرار" (2/ 364): "وأمّا اشتراط النشوز منها فلقوله ¬

_ (¬1) انظر "الفتاوى" (32/ 282). (¬2) البقرة: 229. (¬3) قال الحافظ في "الفتح" (9/ 400): يحتمل أن تريد بالكفر كفران العشير إِذ هو تقصير المرأة في حق الزوج. وقال الطيبي: المعنى أخاف على نفسي في الإِسلام ما ينافي حكمه من نشوز وفَرك وغيره؛ مما يتوقع من الشابة الجميلة المبغضة لزوجها إذا كان بالضد منها، فأطلقت على ما ينافي مقتضى الإسلام الكفر. ويحتمل أن يكون في كلامها إِضمار، أي: أكره لوازم الكفر من المعاداة والشقاق والخصومة. (¬4) أخرجه البخاري: 5273. (¬5) النُّشوز: هو الارتفاع والمرأة النَّاشِزة: هي المرتفعة على زوجها، التَّاركة =

-عزّ وجلّ-: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيمتوهنّ شيئاً إِلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإِنْ خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (¬1) فقيَّد -سبحانه- حلّ الافتداء بمخافتهما ألا يقيما حدود الله. وظاهر الآية أن الخُلع لا يجوز إِلا بحصول المخالفة منهما جميعاً، بأن يخاف الزوج أن لا يمسكها بالمعروف، وتخاف الزوجة أن لا تطيعه كما يجب عليها. ولكنّه لمّا ثبتَ حديث ابن عباس عند البخاري وغيره (¬2) ... دلّ ذلك على أنّ المخافة لعدم إِقامة حدود الله من طريقها كافية في جواز الاختلاع". وقال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "ثمّ قد قال طائفة كثيرة من السلف، وأئمة الخلف: إِنه لا يجوز الخُلع إِلا أنْ يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة، فيجوز للرجل حينئذ قَبول الفدية، واحتجوا بقوله -تعالى-: {ولا يحِلُّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إِلا أن يخافا ألا يُقيما حُدود الله ... } الآية، قالوا: فلم يشرع الخُلع إِلا في هذه الحالة، فلا يجوز في غيرها إِلا بدليل، والأصل عدمه. وممن ذهب إِلى هذا ابن عباس، وطاوس، وإبراهيم، وعطاء، والحسن، والجمهور؛ حتى قال مالك والأوزاعي: لو أخذ منها شيئاً وهو مضارّ لها وجب ردّه إِليها، وكان الطلاق رجعياً؛ قال مالك: وهو الأمر الذي أدركتُ الناس عليه. وذهب الشافعي -رحمه الله- إِلى أنه يجوز الخُلع في حالة الشقاق، وعند ¬

_ = لأمره المعرضة عنه المبغضة له -وسيأتي إِنْ شاء الله تعالى-. (¬1) البقرة: 229. (¬2) ثمّ ساق الحديث بتمامه.

لا يجوز التضييق على الزوجة لأجل الافتداء:

الاتفاق بطريق الأولى والأحرى (¬1). انتهى. لا يجوز التضييق على الزوجة لأجل الافتداء: قال الله -تعالى-: (أسكنوهنّ مِنْ حيثُ سكنتم مِن وُجدكم (¬2) ولا تضارُّوهن لتُضيّقوا عليهنّ} (¬3). قال مقاتِل بن حيان: يعني يضاجرها لتفتدي منه بمالها أو تخرج من مسكنه (¬4). وجاء في "تفسير ابن كثير": "وقوله: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إِلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله}. أي: لا يحل لكم أن تضاجروهنّ وتضيقوا عليهن، ليفتدين منكم بما أعطيتموهنّ من الأصدقة أو ببعضه؛ كما قال -تعالى-: {ولا تعضُلُوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ إِلا أن يأتين بفاحشة مُبَيِّنَة} (¬5) فأما إِنْ وهبته المرأة شيئاً عن طيب نفس منها، فقد قال -تعالى-: {فإِن طبن لكم عن شيء منه فكلوه هنيئاً مريئاً} (¬6). ¬

_ (¬1) قلت: بالشّرط المبيّن سابقاً؛ وهو عدم اصطناع الشقاق؛ ليؤول الأمر إِلى الافتداء. (¬2) أي: سعتكم. (¬3) الطلاق: 6. (¬4) "تفسير ابن كثير". (¬5) النساء: 19. (¬6) النساء: 4.

الخلع بتراضي الزوجين:

وأمّا إِذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل، وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذْلها، ولا عليه في قَبُول ذلك منها؛ ولهذا قال -تعالى-: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إِلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإِنْ خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} الآية. فأمّا إِذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه، فقد قال ابن جرير: [وساق بإِسناده إِلى ثوبان -رضي الله عنه-] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً في غير ما بأس فحرامٌ عليها رائحة الجنّة" (¬1). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المختلعات (¬2) والمنتزعات هنّ المنافقات" (¬3). الخُلع بتراضي الزوجين (¬4): والخُلع يكون بتراضي الزوج والزوجة، فإِذا لم يتم التراضي منهما، فللقاضي إِلزام الزوج بالخلع؛ لأن ثابتاً وزوجته رفَعا أمرهما للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وألزمه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن يقبل الحديقة، ويطلِّق، كما تقدّم في الحديث. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1947)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (948)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1672)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2035)، وتقدّم. (¬2) يعني: اللاتي يطلُبن الخُلع بغير عُذرٍ. (¬3) أخرجه أحمد والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (947)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3238) وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (632)، وتقدّم. (¬4) عن "فقه السّنة" (3/ 65 - 66).

جواز الخلع في الطهر والحيض:

جواز الخُلع في الطُّهر والحيض: *يجوز الخلع في الطهر والحيض، ولا يتقيد وقوعه بوقت؛ لأن الله -سبحانه- أطلقه، ولم يقيده بزمن دون زمن؛ قال الله -تعالى-: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (¬1)، ولأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- أطلق الحُكم في الخُلع؛ بالنسبة لامرأة ثابت بن قيس من غير بحث، ولا استفصال عن حال الزوجة، وليس الحيض بأمر نادر الوجود، بالنسبة للنساء. قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: ترْك الاستفصال في قضايا الأحوال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل؛ هل هي حائض أم لا؟ * (¬2). وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله بعد أن بيّن أنّ الخلع كافتداء الأسير-: "ولهذا يُباح في الحيض بخلاف الطلاق" (¬3). هل يجوز للزّوج أخْذ الزيادة على المهر؟ ذهب بعض العلماء إِلى جواز أخْذ الزيادة لعموم قوله -تعالى-: {فلا جُناح عليهما فيما افتدت به} وقالوا: دلّ على جوازه قلّ أو كَثُر. وهذا سائغٌ لولا التقييد الذي جاء به الكتاب والسّنة. جاء في "السيل الجرار" (2/ 365) تعليقاً على عبارة: "ولا يحلّ منها ¬

_ (¬1) البقرة: 229. (¬2) ما بين نجمتين من "فقه السنّة" (3/ 66). (¬3) انظر "الفتاوى" (32/ 91) وستأتي هذه العبارة في آخر مبحث الخلع -إِن شاء الله تعالى-.

المختلعة تعتد بحيضة واحدة:

أكثر ممّا لزم بالعقد": ظاهر القرآن يدلّ على هذا فإِنه -سبحانه- قال: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً} (¬1) إِلى آخر الآية فإِنها واردة في أخذ الزوج لشىء مما أتاها فإِذا أخذ منها زيادة على ما آتاها فقد خالف ما في الكتاب العزيز. ثمّ قال: ويدلّ على هذا أيضاً؛ ما أخرجه ابن ماجه ولفظ الحديث: "عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: والله ما أعتب على ثابت في دين ولا خلُق، ولكني أكره الكُفر في الإِسلام، لا أطيقه بغضاً، فقال لها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أترُّدِّينَ عليه حديقته؟ " قالت: نعم، فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد" (¬2). المختلعة تعتدّ بحيضة واحدة: عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عفراء؛ أنَّها اختلعت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فأمَرَها النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو أُمِرت أنْ تعتدَّ بِحَيضَة (¬3). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أنّ امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه، فجعل النّبىّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عدتها حيضة" (¬4). وعن ثابت بن قيس بن شمّاس: "أنه ضرب امرأته فكَسَر يدها، وهي جميلة بنت عبد الله بن أُبي، فأتى أخوها يشتكيه إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأرسل ¬

_ (¬1) البقرة: 229. (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1673)، والبيهقي، وانظر "الإِرواء" (2036). (¬3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (945) وغيره. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1950).

هل الخلع فسخ أم طلاق:

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى ثابت، فقال له: خُذ الذي لها عليك، وخلّ سبيلها، قال: نعم. فأمَرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تتربص حيضة واحدة، فتلحق بأهلها" (¬1). هل الخُلع فسْخٌ أم طلاق (¬2): جاء في "الفتاوى" (32/ 289). "وسئل -رحمه الله تعالى-: عن الخُلع هل هو طلاق محسوب من الثلاث؟ وهل يشترط كونه بغير لفظ الطلاق ونيته؟ فأجاب -رحمه الله تعالى-: هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين السلف والخلف، فظاهر مذهب الإِمام أحمد وأصحابه؛ أنه فرقة بائنة وفسخٌ للنِّكاح، وليس من الطلاق الثلاث. فلو خلَعها عشر مرات كان له أن يتزوجها بعقد جديد قبل أن تنكح زوجاً غيره، وهو أحد قولي الشافعي، واختاره طائفة من أصحابه ونصروه، وطائفة نصروه ولم يختاروه؛ وهذا قول جمهور فقهاء الحديث: كإِسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وداود، وابن المنذر، وابن خزيمة؛ وهو ثابت عن ابن عباس وأصحابه: كطاوس، وعكرمة. والقول الثاني: أنه طلاق بائن محسوب من الثلاث، وهو قول كثير من السلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، والشافعي في قوله الآخر؛ ويقال: إِنه الجديد، وهو الرواية الأخرى عن أحمد، ويُنقل ذلك عن عمر، وعثمان، ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (3272) وأبو داود نحوه "صحيح سنن أبي داود" (1949). (¬2) انظر للمزيد -إِن شْئت- ما قاله ابن حزم -رحمه الله- في "المحلى" تحت المسألة (1982).

وعلي، وابن مسعود؛ لكن ضعف أحمد وغيره من أئمة العلم بالحديث كابن المنذر، وابن خزيمة، والبيهقي وغيرهم النقل عن هؤلاء؛ ولم يصححوا إِلا قول ابن عباس: إِنه فسْخ وليس بطلاق. وأمّا الشافعي وغيره فقال: لا نعرف حال من روى هذا عن عثمان: هل هو ثقة أم ليس بثقة؟ فما صححوا ما نقل عن الصحابة؛ بل اعترفوا أنهم لا يعلمون صحته، وما علمت أحداً من أهل العلم بالنقل صَحَّحَ ما نُقل عن الصحابة من أنه طلاق بائن محسوب من الثلاث؛ بل أثبت ما في هذا عندهم ما نُقل عن عثمان، وقد نُقل عن عثمان بالإِسناد الصحيح أنه أمر المختلعة أن تستبرئ بحيضة، وقال: لا عليك عدة. وهذا يوجب أنه عنده فرقة بائنة؛ وليس بطلاق؛ إذ الطلاق بعد الدخول يوجب الاعتداد بثلاثة قروء بنص القرآن واتفاق المسلمين؛ بخلاف الخلع؛ فإِنه قد ثبت بالسّنة وآثار الصحابة أن العدة فيها استبراء بحيضة، وهو مذهب إِسحاق، وابن المنذر، وغيرهما، وإحدى الروايتين عن أحمد. وقد رد ابن عباس امرأة على زوجها بعد طلقتين وخُلْع مرة قبل أن تنكح زوجاً غيره، وسأله إِبراهيم بن سعد بن أبي وقاص لما ولاَّه الزبير على اليمن عن هذه المسألة وقال له: إِنّ عامّة طلاق أهل اليمن هو الفداء؟ فأجابه ابن عباس بأن الفداء ليس بطلاق؛ ولكن الناس غلطوا في اسمه. واستدل ابن عباس بأن الله -تعالى- قال: {الطلاق مرتان فإِمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإِحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئاً إِلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإِن خفتم ألا يُقيما حدود الله فلا جناح

عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظلمون * فإِنّ طلّقها فلا تحل له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره} (¬1). قال ابن عباس: فقد ذكر الله -تعالى- الفدية بعد الطلاق مرتين، ثمّ قال: {فإِنّ طلّقها فلا تحل له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره} وهذا يدخل في الفدية خُصوصاً، وغيرها عموماً، فلو كانت الفدية طلاقاً لكان الطلاق أربعاً. وأحمد في المشهور عنه هو ومن تقدّم اتبعوا ابن عباس". وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (32/ 91): " ... ولهذا ذهب كثير من السلف والخلف إِلى أن الخلع فسْخ للنكاح؛ وليس هو من الطلقات الثلاث، كقول ابن عباس، والشافعي وأحمد في أحد قوليهما لأن المرأة افتدت نفسها من الزوج كافتداء الأسير؛ وليس هو من الطلاق المكروه في الأصل، ولهذا يباح في الحيض؛ بخلاف الطلاق. وأمّا إِذا عدل هو عن الخلع وطلقها إِحدى الثلاث بعِوَض فالتفريط منه". وقال ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (5/ 196): "وفي أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المختلعة أن تعتدَّ بحيضة واحدة دليل على حُكمين: أحدهما (¬2): أنه لا يجب عليها ثلاث حيض، بل تكفيها حيضةٌ واحدة. وهذا كما أنه صريحُ السنة، فهو مذهب أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، والرُّبَيِّع بِنْت مُعوّذ، وعمها وهو من كبار ¬

_ (¬1) البقرة: 229 - 230. (¬2) لم أجِد كلمة ثانيهما أو ما في معناها فلعلّ فِعلَه مضمنٌ في السياق.

الصحابة، لا يُعرف لهم مخالف منهم، كما رواه الليث بن سعد، عن نافع مولى ابن عمر، أنه سمع الرُّبَيِّعْ بِنْت مُعوّذ بن عفراء وهي تُخبر عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنها اختلعت من زوجها على عهد عثمان بن عفان، فجاء عمّها إِلى عثمان بت عفان، فقال له: إِن ابنة مُعَوّذ اختلعت من زوجها اليوم، أفتنتقل؟ فقال عثمان: لتنتقل ولا ميراث بينهما، ولا عدة عليها إِلا أنها لا تنكح حتى تحيض حيضة خشية أن يكون بها حَبَلٌ، فقال عبد الله بن عمر: فعثمان خيرنا وأعلمنا. وذهب إِلى هذا المذهب إِسحاق بن راهويه، والإِمام أحمد في رواية عنه، اختارها شيخ الإِسلام ابن تيمية. قال من نصر هذا القول: هو مقتضى قواعِدِ الشريعة، فإِن العدة إِنما جُعلت ثلاثَ حيض لِيَطُول زمن الرّجعة، فيتروّى الزوج، ويتمكّن من الرجعة في مدة العِدة، فإِذا لم تكن عليها رجعة، فالمقصود مجرد براءة رحمها من الحمل، وذلك يكفي فيه حيضة، كالاستبراء، قالوا: ولا ينتقض هذا علينا بالمطلقة ثلاثاً، فإِن باب الطلاق جُعِلَ حكمُ العدة فيه واحداً بائنة ورجعية. قالوا: وهذا دليل على أن الخلع فسخ، وليس بطلاق، وهو مذهب ابن عباس، وعثمان، وابن عمر، والرُّبَيِّع، وعمّها، ولا يصحّ عن صحابى أنه طلاق البتة، فروى الإِمام أحمد، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس -رضي الله عنهم- أنه قال: الخُلع تفريق، وليس بطلاق. وذكر عبد الرزاق، عن سفيان، عن عمرو، عن طاوس، أن إِبراهيم بن سعد ابن أبي وقاص سأله عن رجل طلق امرأته تطليقتين، ثمّ اختلعت منه:

أينكحِها؟ قال ابن عباس: نعم، ذكَر الله الطلاق في أوّل الآية وآخرها، والخلع بين ذلك. وإذا كانت أحكام الفدية غير أحكام الطلاق، دلّ على أنها من غير جنسه، فهذا مقتضى النصّ، والقياس، وأقوال الصحابة، ثمّ مَن نَظر إِلى حقائق العقود ومقاصدها دون ألفاظها؛ يَعُدُّ الخُلع فسخاً بأي لفظ كان حتى بلفظ الطلاق، وهذا أحدُ الوجهين لأصحاب أحمد، وهو اختيار شيخنا، قال: وهذا ظاهر كلام أحمد، وكلام ابن عباس وأصحابه. قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول: ما أجازه المال، فليس بطلاق. قال عبد الله بن أحمد: رأيت أبي كان يذهب إِلى قول ابن عباس، وقال عمرو عن طاوس عن ابن عباس: الخلعُ تفريقٌ وليس بطلاق. وقال ابن جريج عن ابن طاوس: كان أبي لا يرى الفداء طلاقاً ويُخَيّرُهُ. ومن اعتبر الألفاظ ووقف معها، واعتبرها في أحكام العُقود، جعله بلفظ الطلاق طلاقاً، وقواعد الفقه وأصوله تشهد أن المرعيّ في العقود حقائقها ومعانيها لا صورها وألفاظها، وبالله التوفيق. ومما يدلُّ على هذا، أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَر ثابت بن قيس أن يطلق امرأته في الخلع تطليقة، ومع هذا أمرها أن تعتدّ بحيضة، وهذا صريح في أنه فسْخ، ولو وقع بلفظ الطلاق. وأيضاً فإِنه -سبحانه- علّق عليه أحكام الفِدية بكونه فدية، ومعلوم أنّ الفدية لا تختص بلفظ، ولم يُعيِّن الله -سبحانه- لها لفظاً معيّناً، وطلاق الفداء

علاج نشوز الرجل:

طلاقٌ مقيّد، ولا يدخل تحت أحكام الطلاق المطْلَق، كما لا يدخل تحتها في ثبوت الرجعة والاعتداد بثلاثة قروء بالسنة الثابتة، وبالله التوفيق. مسألة: جاء في "الفتاوى" (32/ 285): "وسئل شيخ الإِسلام- رحمه الله- عن ثيِّب بالغ لم يكن وليها إِلا الحاكم، فزوَّجها الحاكم لعدم الأولياء، ثمّ خالعها الزوج وبرَّأته من الصداق بغير إِذن الحاكم: فهل تصح المخالعة والإِبراء؟ فأجاب: إِذا كانت أهلاً للتبرع جاز خلْعها وإبراؤها بدون إِذْن الحاكم". علاج نشوز الرجل: قال الله -تعالى-: {وإِنِ امرأةٌ خافت مِن بعلها نشوزاً أو إِعراضاً فلا جُناح عليهما أن يُصلحا بينهما صُلحاً والصُّلح خير وأُحضرت الأنفسُ الشحَّ وإِن تُحسنوا وتتّقوا فإِنّ الله كان بما تعملون خبيراً} (¬1). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "يقول -تعالى- مخبراً ومشرعاً عن حال الزوجين: تارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها. فالحالة الأولى: ما إِذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها، أو يُعِرض عنها، فلها أن تُسقِط حقَّها أو بعضَه، من نفقةٍ أو كسوةٍ أو مبيت، أو غير ذلك من الحقوق عليه، وله أن يقبل ذلك منها، فلا جُناح عليها في بذْلها ذلك له، ولا عليه في قَبوله منها، ولهذا قال -تعالى-: {فلا جُناح عليهما أن يُصلحا بينهما صُلحاً} ثم قال: {والصلح خير} أي: من الفراق. وقوله: ¬

_ (¬1) النساء: 128.

{وأُحضرت الأنفس الشح} أي: الصُّلح عند المُشاحَّة خير من الفراق؛ ولهذا لما كَبِرَتْ سودة بنت زمعة عزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فراقها، فصالحته على أن يُمسكها، وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها وأبقاها على ذلك". ثم ذَكر -رحمه الله- النصوص المتعلقة بذلك (¬1)، منها: حديث عائشة - رضي الله عنها- أنّ سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة" (¬2). وعنها أيضاً: " {وإِن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إِعراضاً} قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حِلٍّ، فنزلت هذه الآية في ذلك" (¬3). وفي رواية أخرى عنها -رضي الله عنها-: " {وإِن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إِعراضاً} قالت: هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كِبَراً أو غيرَه فيريد فراقها، فتقول: أمسكني، واقسم لي ما شئت. قالت: ولا بأس إِذا تراضيا" (¬4). وفي رواية عنها -رضي الله عنها- كذلك: " {وإِن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إِعراضاً ... } قالت: هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها، فيريد طلاقها ويتزوج غيرها، تقول له: أمسكني ولا تطلّقني، ثمّ تَزَوَّجْ غيري، ¬

_ (¬1) وسأذكرها أو ما هو في معناها بإِذن الله -تعالى-. (¬2) أخرجه البخاري: 5212، ومسلم: 1463. (¬3) أخرجه البخاري: 4601. (¬4) أخرجه البخاري: 2694، ومسلم: 3021.

علاج نشوز المرأة:

فأنت في حِلٍّ من النفقة عليّ والقسمة لي، فذلك قوله -تعالى-: {فلا جناح عليهما أن يُصْلحا بينهما صلحاً والصُّلح خير} " (¬1). ثمّ قال -رحمه الله-: "وقوله {والصُّلح خير}: الظاهر من الآية: أنّ صُلحهما على ترْك بعض حقّها للزوج، وقَبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية، كما أمسَك النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سودة بنت زمعة على أن تركَت يومها لعائشة -رضي الله عنها- ولم يفارقها بل ترَكَها من جملة نسائه، وفِعله ذلك لتتأسى به أمّته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقّه -عليه الصلاة والسلام- ولما كان الوفاق أحبَّ إِلى الله -عزّ وجلّ- من الفراق قال: {والصلح خير} ". ثمّ قال -رحمه الله-: "وقوله: {وإِن تُحسنوا وتتّقوا فإِنّ الله كان بما تعملون خبيراً} أي: وإن تتجشَّموا مشقة الصبر على من تكرهون منهن، وتَقسموا لهن أسوة أمثالهنّ، فإِنَّ الله عالم بذلك، وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء". علاج نشوز المرأة: قال الله -تعالى-: {واللاتي تخافون نشوزهنّ فعظوهن واهجروهنّ في المضاجع واضربوهن فإِنْ أطعْنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً إِنّ الله كان عليّاً كبيراً} (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله - في "تفسيره": "وقوله: {واللاتي تخافون نشوزهنّ} أي: والنساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهنّ -والنشوز: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5206، ومسلم: 3021. (¬2) النساء: 34.

هو الارتفاع- فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها، التاركة لأمره، المعرضة عنه، المبغضة له؛ [وتقدَّم] فمتى ظَهَر له منها أمارات النشوز؛ فليَعظها وليُخوِّفها عقاب الله في عصيانه، فإِنّ الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته، وحَرَّم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإِفضال. وقوله: {واهجروهنّ في المضاجع} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الهجران: ألاَّ يجامعها، ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره. وكذا قال غير واحد، وزاد آخرون منهم، السدي، والضحاك، وعكرمة، وابن عباس -في رواية:-: "ولا يُكَلِّمها مع ذلك ولا يُحدِّثها". قال علي بن أبي طلحة -أيضاً- عن ابن عباس: يَعِظها، فإِنْ هي قَبِلت وإلا هجَرها في المضجع، ولا يكلّمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها شديد. وقال مجاهد، والشعبي، وإبراهيم، ومحمد بن كعب، ومقسم، وقتادة: الهجر: هو ألا يضاجعها. ثمّ ساق الحديث: "فإِن خفتم نشوزهنّ فاهجروهنّ في المضاجع، قال حماد: يعني النكاح" (¬1). ثم ذكَر حديث معاوية بن حيدة القشيري قال: "قلت: يا رسول الله! ما حقُّ زوجة أحدِنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمتَ، وتكسوها إذا اكتسيتَ، ولا تضرب الوجه ولا تقبِّح ولا تهجر إِلا في البيت" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2027) وانظر "الإرواء" (2027) (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1875)، وابن ماجه "سنن ابن ماجه" (1500)، وصححه شيخنا -رحمه الله - في "الإرواء" (2033)، وتقدّم.

ثم قال -رحمه الله-: "وقوله: {واضربوهنّ} أي: إِذا لم يرتدِعْن بالموعظة ولا بالهجران، فلكم أن تضربوهنّ ضرباً غير مبرِّح كما ثبت في "صحيح مسلم" (¬1) عن جابر عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنه قال في حَجّة الوداع: فاتقوا الله في النّساء، فإِنكم أخذتموهُنّ بأمان الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فُرُشَكُم أحداً تكرهونه، فإِنْ فعلن ذلك فاضربوهنّ ضرباً غير مبرّح، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف". وكذا قال ابن عباس وغير واحد: ضرباً غير مبرِّح؛ قال الحسن البصري: يعني: غير مؤثِّر. وقال الفقهاء: هو أن لا يكسر فيها عضواً، ولا يؤثر فيها شيئاً. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يهجرها في المضجع، فإِنْ أقبلت وإلا فقد أذِن الله لك أن تضرب ضرباً غير مبرح، ولا تكسر لها عظماً، فإِنْ أقبلت وإِلا فقد حل لك منها الفدية. ثمّ ذكر الحديث: "لا تضربوا إِماء الله، فجاء عمر -رضي الله عنه- إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ذَئِرْن (¬2) النساء على أزواجهنّ، فرخصّ في ضربهنّ، فأطاف بآل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساء كثير يشكون أزواجهنّ، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهنّ، ليس أولئك بخياركم" (¬3). ثمّ قال -رحمه الله-: "وقوله: {فإِنْ أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً} ¬

_ (¬1) برقم: 1218. (¬2) ذَئرْن: أي: اجترأن ونشزن وغلبن. "عون". (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1879)، وابن ماجه "صحيح سنن =

هل للزوجة الناشز نفقة أو كسوة؟

أي: فإِذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريد منها، ممّا أباحه الله له منها، فلا سبيلَ له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها ولا هجرانها". وقوله: {إِنّ الله كان عليَّاً كبيراً} تهديد للرجال إِذا بغوا على النساء من غير سبب؛ فإِن الله العلي الكبير وليُّهنَّ، وهو ينتقم ممن ظلمهنّ وبغى عليهنّ. هل للزَّوجة النَّاشِز نفقة أو كِسْوَة؟ جاء في "الفتاوى" (32/ 278): "وسئل -رحمه الله-: عن رجل له زوجة، وهي ناشِز تمنعه نفسها: فهل تسقط نفقتها وكسوتها وما يجب عليها؟ فأجاب: الحمد لله. تسقط نفقتها وكسوتها إِذا لم تُمكِّنه من نفسها، وله أنْ يضربها إِذا أصرَّت على النُّشوز. ولا يحِلُّ لها أن تمنع من ذلك إِذا طالبَها به؛ بل هي عاصِية لله ورسوله". وفيه (ص 279): "وسئل شيخ الإِسلام -رحمه الله-: عن رجلٍ له امرأة، وقد نشزت عنه في بيت أبيها من مُدَّة ثمانية شهور، ولم ينتفع بها؟ فأجاب: إِذا نشزت عنه فلا نفقة لها، وله أن يضربها إِذا نشزت؛ أوآذته، أو اعتدت عليه". ماذا إِذا وقع الشِّقاق بين الزوجين: قال الله -تعالى-: {وإِنْ خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكَماً من أهله وحكَماً من أهلها إِنْ يريدا إِصلاحاً يوفِّق الله بينهما إِنَّ الله كان عليماً ¬

_ = ابن ماجه" (1615)، وانظر "المشكاة" (3261)، و"غاية المرام" (251).

خبيراً} (¬1). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" (¬2): "ذكر -تعالى- الحال الأول، وهو إِذا كان النفور والنشوز من الزوجة؛ ثمّ ذكَر الحال الثاني وهو: إِذا كان النفور من الزوجين فقال -تعالى-: {وإِنْ خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكَماً من أهله وحكَماً من أهلها}. قال الفقهاء: إِذا وقَع الشقاق بين الزوجين، أسكنهما الحاكم إِلى جنب ثقة، ينظر في أمرهما، ويمنع الظالم منهما من الظلم، فإِنْ تفاقم أمرُهما وطالت خصومتهما، بعَث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل، ليجتمعا وينظرا في أمرهما، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق. وتشوّف الشارع إِلى التوفيق؛ ولهذا قال -تعالى-: {إِنْ يريدا إِصلاحاً يوفق الله بينهما} (¬3). قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أمَر الله -عزّ وجلّ- أن يبعثوا رجلاً صالحاً من أهل الرجل، ورجلاً مِثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء، فإِن كان الرجل هو المسيء، حجبوا عنه امرأته وقَصَروه على النفقة، وإنْ كانت المرأة هي المسيئة، قَصَروها على زوجها ومنعوها النفقة. فإِن اجتمع رأيهما على أن يُفَرِّقا أو يَجمَعا؛ فأمرهما جائز ... ". ثم ساق بإِسناد عبد الرزاق إِلى ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "بُعِثتُ أنا ¬

_ (¬1) النساء: 35. (¬2) بتصرّف. (¬3) قال البغوي -رحمه الله- في "تفسيره": " {يوفق الله بينهما}: يشتمل على الفراق وغيره؛ لأنَّ التَّوفيق أنْ يخرج كلُّ واحدٍ منهما من الوِزر، وذلك تارة يكون بالفراق، وتارةً بِصلاح حالِهما".

ومعاوية حَكَمَين، قال معمر: بلغني أنَّ عثمان بعَثَهما وقال لهما: إِنْ رأيتما أنْ تجمعا جمعتما، وإِنْ رأيتما أن تُفرِّقا فرقتما". وساق كذلك بإِسناد عبد الرزاق إِلى عَبِيدَةَ قال: "شهدت علياً وجاءته امرأة وزوجها، مع كل واحد منهما فئام من الناس، فأخرج هؤلاء حكَماً وهؤلاء حكَماً، فقال علي للحَكَمين: أتدريان ما عليكما؟ إِنَّ عليكما إِن رأيتما أن تجمعا، جمعتما. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وَعَلَيَّ. وقال الزوج: أمّا الفرقة فلا. فقال علي: كذبْتَ، والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله -عزَّ وجلَّ- لك وعليك". ثمّ قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "وقال الحسن البصري: الحَكَمان يَحْكُمان في الجمع ولا يحكمان في التفريق؛ وكذا قال قتادة، وزيد بن أسلم، وبه قال أحمد بن حنبل، وأبو ثور، وداود، ومأخذهم قوله -تعالى-: {إِنْ يريدا إِصلاحاً يوفِّق الله بينهما} ولم يذكر التفريق. وأمّا إِذا كانا وكيلين من جهة الزوجين، فإِنه ينفَّذ حُكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف. وقد اختلف الأئمة في الحَكَمين: هل هما منصوبان من عند الحاكم، فيحكمان وإِن لم يرض الزوجان، أو هما وكيلان من جهة الزوجين؟ على قولين: فالجمهور على الأول، لقوله -تعالى-: {فابعثوا حكَماً من أهله وحكَماً من أهلها} فسمَّاهما حَكَمين، ومن شأن الحَكَم أن يَحْكُم بغير رضا المحكوم عليه، وهذا ظاهر الآية، والجديد من مذهب الشافعي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

الظهار

والثاني منهما: قول علي -رضي الله عنه- للزوج حين قال: أمّا الفرقة فلا. قال: كذبت، حتى تُقرَّ بما أقرَّت به. قالوا: فلو كانا حاكمين لا افتقر إِلى إِقرار الزوج، والله أعلم. قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: وأجمع العلماء على أن الحَكَمين، إِذا اختلف قولهما، فلا عبرة بقول الآخر، وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان، واختلفوا: هل ينفذ قولهما في التفرقة؛ ثمّ حكى عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أيضاً. انتهى قلت: والذي يترجَّح لديّ أنَّ للحَكَمين أنْ يجمَعا وأنْ يُفرِّقا، وذلك إِذا كان فعْل أحدهما هو الأرضى لله -تعالى-، ويكون الأكثر مصلحة أو الأخفّ مفسَدَة للزوجين، وهذا قد يكون في جمْعهِما، وقد يكون في تفريْقهِما -والله أعلم-. الظِّهار أصْل الظهار مشتقٌّ من الظَّهْر، وذلك أنّ الجاهلية كانوا إِذا ظاهر أحدهم من امرأته قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمّي، [وإنما خُصّ الظهر بذلك دون سائر الأعضاء؛ لأنه محلّ الركوب غالباً، ولذلك سُمّيَ المركوبُ ظهراً، فشُبّهت الزوجة بذلك لأنها مركوب الرجل]. ... وكان الظهار عند الجاهلية طلاقاً، فأرخص الله لهذه الأمّة وجعَل فيه كفّارة، ولم يجعله طلاقاً؛ كما كانوا يعتمدونه في الجاهليّة (¬1). ¬

_ (¬1) قاله ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره، وما بين معقوفين من "الفتح" (9/ 432).

قال الله -تعالى-: {الذين يُظاهرون منكم من نسائهم ما هنَّ أُمَّهاتِهِم إِنْ أُمَّهاتُهُم إِلا اللائي ولَدْنهم وإِنهم ليقولون مُنكَراً من القول وزوراً وإِنّ الله لعفوّ غفور} (¬1). وهذه الآية صريحةٌ في حُرمته. وعن عروة بن الزبير قال: "قالت عائشة: تبارك الذي وسِع سمْعُه كل شيء، إِني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى عليَّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي تقول: يا رسول الله! أكلَ شبابي، ونثرتُ له بطني، حتى إِذا كَبِرت سِنِّي، وانقطع ولدي، ظاهَر منّي، اللهم إِني أشكو إِليك. فما برحت حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات: {قد سمع الله قول التي تُجادلك في زوجها وتشتكي إِلى الله} " (¬2). وعن سلمة بن صخر البياضي قال: كنت امرأً أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان، خِفْتُ أن أصيب من امرأتي شيئاً يُتابَعُ بي حتى أُصبح، فظاهرتُ منها حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينا هي تَخْدُمني ذات ليلة إِذ تكشّف لي منها شيء، فلم ألبَث أن نزوْت عليها (¬3)، فلما ¬

_ (¬1) المجادلة: 2. (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1678)، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، وانظر "الإرواء" (7/ 175). وذكَره البخاري معلّقاً ولفظه: "عن عروة عن عائشة قالت: الحمد لله الذى وسع سمْعُهُ الأصواتَ، فأنزل الله -تعالى- على النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قد سمع الله قول التي تُجادلك في زوجها} ". وقد وصَله أحمد وغيره بسند صحيح عنها، وانظر "مختصر البخاري" (4/ 334). (¬3) أي: وَثَبْتُ عليها ووَاقعتُها.

هل الظهار مختص بالأم؟

أصبحت، خرجتُ إِلى قومي فأخبرتُهم الخبر، وقلت: امشوا معي إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالوا: لا والله! فانطلقتُ إلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرتُه، فقال: أنت بذاك يا سلمة؟ قلت: أنا بذاك يا رسول الله -مرتين- وأنا صابر لأمر الله فاحكم فيَّ ما أراك الله، قال: حرِّرْ رقبة قلت: والذي بَعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها، وضربت صفحةَ رقبتي، قال: فصم شهرين متتابِعَيْن قال: وهل أصبتُ الذي أصبتُ إِلا من الصيام؟ قال: فأطعِم وَسْقاً من تمر بين ستّين مسكيناً قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشَيْن (¬1) ما لنا طعام. قال: فانطلقْ إِلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إِليك، فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر، وكُلْ أنت وعيالك بقيتها، فرجعتُ إِلى قومي، فقلت: وجدتْ عندكم الضيق، وسوء الرأي، ووجدت عند النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السعة، وحُسن الرأي. وقد أمرني -أو أمَر لي- بصدقتكم" (¬2). هل الظهار مختصٌّ بالأم؟ * ... ذهب الجمهور إِلى أنَّ الظِّهار يختص بالأم كما ورد في القرآن، وفي حديث خولة (¬3) التي ظاهَر منها أوس. فلو قال: كظهر أختي مثلاً لم يكن ¬

_ (¬1) أي: جائِعَين لا طعام لنا، وقد أوحش إِذا جاع. وانظر "النِّهاية". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1933)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (959)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1678)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3237) وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2091). (¬3) خولة وقيل: خويلة، والأول أكثر كما فى "أسد الغابة".

ظهاراً، وكذا لو قال: كظهر أبي. وفي رواية عن أحمد: أنه ظهار وطرَّده (¬1) في كل من يحرُم عليه وطؤه حتى في البهيمة* (¬2). وخولة التي أشار إِليها في الحديث هي: خولة بنت مالك بن ثعلبة، قالت: ظاهَر مني زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشكو إِليه، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجادلني فيه، ويقول: اتّقي الله فإِنه ابن عمّك، فما برحت حتى نزل القرآن {قد سمع الله قول التي تُجادلك في زوجها} إِلى الفرض فقال: يعتق رقبة، قالت: لا يجد، قال: فيصوم شهرين متتابعين، قالت: يا رسول الله، إِنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكيناً قالت: ما عنده من شيء يتصدق به، قالت: فأُتي ساعتئذ بعرَقَ (¬3) من تمر، قلت: يا رسول الله! فإِني أعينه بعرَق آخر، قال: قد أحسنتِ، اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكيناً، وارجعي إِلى ابن عمّك" (¬4). ثمّ ذكر أقوال بعض العلماء -كأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي والثوري والشافعي في أحد قوليه- الذين قالوا بقياس المحارم على الأمَّ ولو من رضاع. ¬

_ (¬1) أمضاه وأجراه. (¬2) انظر "نيل الأوطار" (7/ 51). (¬3) العَرَق: ضفيرة تُنسج من خوص. وفي "صحيح سنن أبي داود" (1936) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال:- يعني بالعَرَق: زنبيلاً يأخذ خمسة عشر صاعاً وفي "سنن أبي داود" (1938) عن أوس أخي عبادة بن الصّامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه خمسة عشر صاعاً من الشَّعير؛ إِطعام ستِّين مسكيناً. وانظر إِن شئت المزيد ما جاء في "عون المعبود" (6/ 217) أحوال اختلاف العَرَق في السّعة والضّيق وأنه قد وكون بعضها أكبر من بعض. (¬4) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1934)، غيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2087).

*فالظهار عندهم، هو تشبيه الرجل زوجته في التحريم بإِحدى المحرمات عليه، على وجه التأبيد بالنسب، أو المصاهرة، أو الرضاع* (¬1). إِذ العلة التحريم المؤبد (¬2). وإنْ قال: أنتِ كأمّي أو مِثل أمِّي ونوى به الكرامة والتوقير ونحو ذلك؛ فليس بظهار (¬3). وذكَر ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 255) قوله -تعالى-: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنّ أمهاتهم إِنْ أمّهاتهم إِلا اللائي ولَدْنهم}، ثمّ قال -رحمه الله-: "فهذه الآية تنتظم كلّ ما قلناه، لأن الله -عزّ وجلّ- لم يذكر إِلا الظهر من الأم، ولم يوجب -تعالى- الكفَّارة في ذلك إِلا بالعود لما قال". وقال (ص 262): "وقالت طائفة -منهم سفيان الثوري، والشافعي-: إنْ ظاهر برأس أُمّه، أو يدها فهو ظهار. وقال أبو حنيفة: إِنْ ظاهر بشيء لا يحل له أن ينظر إِليه من أمه؛ فهو ظهار، وإِنْ ظاهر بشيء يحل له أن ينظر إِليه من أمه؟ فليس ظهاراً. قال أبو محمد: وكل هذه مقاييس فاسدة، ليس بعضها أولى من بعض؛ وكذلك قياس قول مالك ذكَره ابن القاسم: أن ما ظاهر به من أعضاء أمه فهو ظهار! والحق من ذلك ما ذكرنا: من أن لا نتعدّى النّص الذي حدّه الله ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "فقه السّنة" (3/ 78). (¬2) انظر "نيل الأوطار" بحذف (7/ 51). (¬3) انظر "المغني" (8/ 559) بتصرّف.

-تعالى-. قال الله -تعالى-: {ومن يتعدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه} (¬1) ". وجاء في "سبل السلام" (3/ 355): "وقد اتفق العلماء على أنه يقع بتشبيه الزوجة بظهر الأُمِّ، ثمّ اختلفوا فيه في مسائل: الأولى: إِذا شبَّهها بعضو منها غيره، فذهب الأكثر إِلى أنه يكون ظهاراً أيضاً، وقيل: يكون ظهاراً إِذا شبّهها بعضو يحرم النظر إِليه. وقد عرفت أن النص لم يَرِد إِلا في الظهر. الثانية: أنهم اختلفوا أيضاً فيما إِذا شبَّهها بغير الأم من المحارم فقالت الهادوية: لا يكون ظهاراً لأن النص ورَد في الأمِّ. وذهب آخرون منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إِلى أنه يكون ظهاراً ولو شبَّهها بمحرم من الرضاع. ودليلهم القياس فإِنَّ العلة التحريم المؤبد، وهو ثابت في المحارم كثبوته في الأمِّ، وقال مالك وأحمد: إِنه ينعقد وإن لم يكن المشبه به مؤبد التحريم كالأجنبية، بل قال أحمد: حتى في البهيمة". ثمّ قال -رحمه الله-: "ولا يخفى أنّ النص لم يرد إِلا في الأم. وما ذكر من إِلحاق غيرها بالقياس وملاحظة المعنى، ولا ينتهض دليلاً على الحُكم". وجاء في "المغني" (8/ 556): "وإذا قال لزوجته: أنت عليّ كظهر أمّي أو كظهر امرأة أجنبية أو أنتِ عليَّ حرام، أو حرَّمَ عُضواً من أعضائها فلا يطؤها حتى يأتي بالكفَّارة". ثمّ فصّل في ذلك. أمّا شيخنا -رحمه الله- فهو يرى تقييد الظهار بالأمّ؛ تقيُّداً بالنصّ. وأقول: إِنَّ لفظ: {يُظاهِرون} له دلالته ولفظ: {إِنْ أمّهاتهم إِلا اللائي ¬

_ (¬1) الطلاق: 1.

ماذا يفعل من يظاهر امرأته؟

ولدنهم} له دلالته أيضاً، فالكفَّارة المختصة بهذا النَّوع جاءت لهذا النَّوع من اللفظ. فالذي يترجَّح لدىَّ أنَّ الظِّهار يختصُّ بالأُمّ؛ لأن الله -تعالى- لم يذكر إِلا الظَّهر من الأُمّ، أمَّا غير الأمِّ فهو أشبه ما يكون بالتَّحريم: كقوله (أنتِ علىَّ حرام) وكفَّارتُه كفَّارة اليمين. وإذا أردنا أنْ نتوسَّع في النَّص فهذا يجرُّنا إِلى: 1 - التَّوسّع بغير لفظ الظَّهر؛ كقوله: أنتِ عليَّ كرِجل كذا، أو كيد كذا، وهكذا يذكر سائر الأعضاء. 2 - ويَجُرُّنا إِلى التَوَسّع بكلِّ مُحَرَّم؛ من قرابة أو غيرها، أو ذكر أو أُنثى. ولا دليل على هذا. والله -تعالى- أعلم، ماذا يفعل من يُظاهر امرأته؟ يجب على من يُظاهر امرأته ألا يجامعها، فإِنَّها تحرُم عليه بظهارِه؛ حتى يكفّر عن ذلك؛ لقوله -تعالى-: {والذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لمِا قالوا فتحرير رقبةٍ من قبل أن يتماسَّا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير * فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسَّا فمن لم يستطع فإِطعام ستين مسكيناً ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم} (¬1). ماذا إِذا مسّ قبل التَّكفير؟ إذا مسّ الرجل قبل التكفير فقد خالَف أمْره -سبحانه- فى قوله: {من قبل أن يتماسّا}. ولا دليل على أنّ الكفّارة تتضاعف. ¬

_ (¬1) المجادلة: 3 - 4.

كفارة الظهار:

فعن سلمة بن صخر البياضي عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المظاهر يواقع قبل أن يكفِّر، قال: "كفّارة واحدة" (¬1). كفّارة الظهار: والكفارة -كما ورد في الآيتين السابقتين، ولحديث سلمة بن صخر البياضي المتقدّم- عَتْق رَقَبَة، فمن لم يجد فعليه أن يصوم شهرين متتابعين، فمن لم يستطع؛ فعليه أن يُطعم ستين مسكيناً. وجاء في "الفتاوى" (34/ 8): "وسئل -رحمه الله- عن رجل قال في غيظه لزوجته: أنتِ عليّ حرام مِثل أمّي؟ فأجاب: هذا مُظاهر من امرأته، داخل في قوله: {الذين يُظاهرون منكم من نسائهم ما هُنّ أمَّهاتهم إِنْ أُمَّهاتهم إِلا اللائي ولدنهم ... } فهذا إِذا أراد إِمساك زوجته ووطْأَها فإِنه لا يقربها حتى يكفِّر هذه الكفارة التي ذكَرها الله". وفيه في (ص 9): "وسئل -رحمه الله- عن رجل قالت له زوجته. أنتَ عليّ حرام مِثل أبي وأمي. وقال لها: أنْتِ عليَّ مِثلَ أُمِّي وأُختي: فهل يجب عليه طلاق؟ فأجاب: لا طلاق بذلك؛ ولكن إِنِ استمرَّ على النكاح فعلى كلٍّ منهما كفَّارة ظِهار قبل أنْ يجتمعا، وهي عتق رقبة، فإِن لم يجد فصيام شهرين متتابعين؛ فإِنْ لم يستطع فإِطعام ستِّين مسكيناً". ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (957)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1679)، وهو في "المشكاة" (3301).

الإيلاء

الإِيلاء تعريفه: الإِيلاء لغةً: الامتناع باليمين، والإِيلاء: الحَلِف، يقال: آلى يُؤلي إِيلاءً، فهو مُؤلٍ [ملتقط من "زاد العاد" (5/ 344) و"طَلِبة الطَّلَبَة" (ص 156)]. وهو في الشرع: اسمٌ لِيَمين؛ يمنع بها المرء نفسه مِن وطْء منكوحته. ["طَلِبة الطَّلَبَة" (ص 156)]. قال الله -تعالى-: {للذين يُؤلون من نسائهم تربُّص (¬1) أربعة أشهر فإِن فاؤوا (¬2) فإِنّ الله غفور رحيم وإِنْ عزموا الطلاق فإِنّ الله سميع عليم} (¬3). فإِذا حَلَف الرجل ألا يجامع زوجته؛ مُدّةً تقِلُّ عن أربعة أشهر؛ فالأولى أن يكفّر عن يمينه ويجامعها، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من حلَف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها؛ فليكفّر عن يمينه، وليفعل" (¬4). فإِن لم يفعل فله أن ينتظر انقضاء المدة ثمّ يُجامعها. عن أنس -رضي الله عنه- قال: "آلى (¬5) رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نسائه، وكانت ¬

_ (¬1) أي: يُنْتَظَرُ الزوج أربعة أشهر من حين الحَلِف، ثمّ يوقَف ويُطالب بالفيئة أو الطلاق. "تفسير ابن كثير". (¬2) أي: رجعوا إِلى ما كانوا عليه وهو كناية عن الجماع. المصدر نفسه. (¬3) البقرة: 226 - 227. (¬4) أخرجه مسلم: 1650. (¬5) مشتقة من الإيلاء اللغوي؛ لا من الإِيلاء الفقهي؛ كما قال الكرماني.

انفكّت رِجْله، فأقام في مَشرُبةٍ (¬1) له تسعاً وعشرين ثمّ نزَل، فقالوا: يا رسول الله آليتَ شهراً، فقال: الشهر تسعٌ وعشرون" (¬2). أمّا إِذا زادت المدّة على أربعة أشهر؛ فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء المدّة بالجماع أو الطلاق، وعلى الحاكم أن يُجبره على ذلك، كيلا يضرَّ بها. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول في الإِيلاء الذي سمّى الله: "لا يحلّ لأحدٍ بعد الأجل إِلا أن يُمسك بالمعروف أو يعزم بالطلاق؛ كما أمر الله -عزّ وجلّ-" (¬3). وفي رواية: "إِذا مضت أربعة أشهر؛ يوقف حتى يُطلِّق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلّق" (¬4). ويُذكر ذلك عن عثمان وعليّ وأبي الدرداء وعائشة واثني عشَر رجُلاً من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬5). قال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله-: الإِيلاء أنْ يحلف الرَّجل أنْ لا يَقْرب امرأته أربعة أشهرٍ فأكثر. واختلف أهل العلم فيه: إِذا مضت أربعة أشهر. فقال بعض أهل العلم، من أصحاب النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم: إِذا مضت أربعة أشهرٍ يوقف. ¬

_ (¬1) أي: غُرفَة. (¬2) أخرجه البخاري: 5289. (¬3) أخرجه البخاري: 5290. (¬4) أخرجه البخاري 5291، وانظر كلام الحافظ -رحمه الله- للمزيد من الفوائد الحديثية. (¬5) رواه البخاري معلّقاً، وانظر "الفتح" و"مختصر البخاري" (3/ 406) لوصل المعلّقات، وكذا "الإِرواء" (7/ 174) ولا سيما لأثر عثمان -رضي الله عنه-.

الفسخ

فإِمَّا أنْ يفيء، وإمَّا أنْ يُطلِّق. وهو قول مالك بن أنس، والشّافعي، وأحمد، وإِسحاق، وقال بعض أهل العلم، من أصحاب النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم: إِذا مضت أربعة أشهرٍ فهي تطليقة بائنة. وهو قول سفيان الثّوري، وأهل الكوفة (¬1). والراجح: قول عمر وعثمان ومن قال بقولهما -رضي الله عنهم-، وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله- في "تفسيره" فانظره -إِن شئت- فإِنَّه مهمّ. الفسخ (¬2) تعريفه: فسْخ العقد: نقْضُه، وحَلّ الرابطة التي تربِط بين الزوجين، وقد يكون الفسخ بسببِ خللٍ وقَع في العقد، أو بسبب طارئ عليه يمنع بقاءه. مثال الفسْخ بسبب الخلل الواقع في العقد: 1 - إِذا تمّ العقد، وتبيّن أن الزوجة التي عقَد عليها أخته من الرضاع، فُسخ العقد. 2 - إِذا عَقد غير الأب والجد للصغير أو الصغيرة، ثمّ بلغ الصغير أو الصغيرة، فمِن حقّ كلٍّ منهما، أن يختار البقاءَ على الزوجية، أو إِنهاءَها، ويُسمّى هذا خيار البلوغ، فإِذا اختار إِنهاء الحياة الزوجية، كان ذلك فسخاً للعقد [وتقدّمت الأدلّة في كتاب النكاح]. مثال الفسْخ الطارئ على العقد: 1 - إِذا ارتد أحد الزوجين عن الإِسلام، ولم يعُد إِليه، فُسخ العقد بسبب ¬

_ (¬1) انظر "صحيح سنن الترمذي" (1/ 353). (¬2) عن "فقه السّنة" (3/ 81).

اللعان

الردّة الطارئة. 2 - إِذا أسلَم الزوج، وأبَتْ زوجتُهُ أن تُسلِم، وكانت مشركة، فإِنَّ العقد حينئذ يُفسخ، بخلاف ما إِذا كانت كتابية، فإِن العقد يبقى صحيحاً كما هو؛ إِذ إِنَّه يصح العقد على الكتابية ابتداءً. والفُرقة الحاصلة بالفسخ، غير الفُرقة الحاصلة بالطلاق؛ إِذ إِن الطلاق ينقسم إِلى طلاق رجعي وطلاق بائن، والرجعي لا يُنهي الحياة الزوجية في الحال، والبائن ينهيها في الحال. أمّا الفسخ؛ سواء أكان بسبب طارئ على العقد، أم بسبب خلل فيه، فإِنه يُنهي العلاقة الزَّوجية في الحال. ومن جهة أخرى، فإِنّ الفُرقة بالطلاق تَنْقُص عددَ الطلقات، فإِذا طلَّق الرجل زوجته طلقة رجعية، ثمّ راجعها، وهي في عدتها، أو عقد عليها بعد انقضاء العدة عقداً جديداً، فإِنه تحسب عليه تلك الطلقة، ولا يملك عليهما بعد ذلك إِلا طلقتين. وأمّا الفُرقة بسبب الفسْخ؛ فلا ينقص بها عدد الطلقات، فلو فُسخ العقد بسبب خيار البلوغ، ثمّ عاد الزوجان وتزوجا، ملك عليها ثلاث طلقات. انتهى. وتقدّم في كتاب "النكاح" الفسخ إِذا ثَبَتَ العيب بشرطه. اللِّعان قيل: هو مشتق من اللَّعن؛ لأنَّ كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في

مشروعيته:

الخامسة؛ إِنْ كان كاذباً. وقال القاضي: سُمّي بذلك لأن الزوجين لا ينفكان من أن يكون أحدهما كاذباً؛ فتحصل اللعنة عليه وهي الطرد والإِبعاد، والأصل فيه قول الله -تعالى-: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إِلا أنفسهم} الآيات (¬1). وجاء في "سبل السلام" (3/ 362): "وهو مأخوذ من اللعن؛ لأنه يقول الزوج في الخامسة: لعنة الله عليه إِنْ كان من الكاذبين. ويقال فيه: اللعان والالتعان والملاعنة". مشروعيته: قال الله -تعالى-: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلاَّ أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إِنّه لمن الصادقين * والخامسةُ أنّ لعنةَ الله عليه إِنْ كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إِنّه لمن الكاذبين * والخامسةَ أنّ غضب الله عليها إِنْ كان من الصادقين} (¬2). ويكون هذا حين يقذف الرجل امرأته بالزنى، وتُنكر ذلك. عن ابن عباس "أنّ هلال بن أمية قذَف امرأته عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشريك بن سحماء، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: البيّنة أو حدٌّ في ظهرك فقال: يا رسول الله! إِذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البيّنة؟ فجعل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: البيّنة وإِلا حدٌّ في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثَك بالحق إنِّي لصادق، فلَيُنزلنّ الله ¬

_ (¬1) انظر "المغني" (9/ 2). (¬2) النور: 6 - 9.

متى يكون اللعان؟

ما يُبرّئ ظهري من الحدِّ، فنزَل جبريل وأنزَل عليه {والذين يرمون أزواجهم} فقرأ حتى بلغ: {إِنْ كان من الصادقين}، فانصرف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسل إِليها، فجاء هلال فَشَهِدَ، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إِن الله يعلم أنَّ أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ثمّ قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إِنها مُوجبة. قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننّا أنها ترجع، ثمّ قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أبصِروها، فإِنْ جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين (¬1)، خدلّج (¬2) الساقين؛ فهو لشريك بن سحماء؛ فجاءت به كذلك، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" (¬3). متى يكون اللّعان؟ *يكون اللعان في صورتين: الصورة الأولى: أن يرميَ الرجل امرأته بالزنى، ولم يكن له أربعة شهود؛ يشهدون عليها بما رماها به. الصورة الثانية: أن ينفيَ حَمْلها منه. وإنما يجوز في الصورة الأولى إِذا تحقق من زناها؛ كان رآها تزني، أو أقرَّت ¬

_ (¬1) سابغ الأليتين: أي تأمَّهما وعظِيمهما "النهاية". (¬2) الخَدْل والخدلَّج: الغليظ المُمتلئ السّاق، وانظر "النهاية". (¬3) أخرجه البخاري: 4747، ومسلم: 1496.

صفة اللعان:

هي، ووقع في نفسه صِدْقها، والأولَى في هذه الحال، أن يُطلّقها ولا يلاعنها، فإِذا تحقَّق مِنْ زناها، فإِنه لا يجوز له أن يرميَها به، ويكون نفي الحمل في حالة ما إِذا ادعى أنه لم يطأها أصلاً، من حين العقْد عليها* (¬1) [أو ادّعى أنّ هذا الوطء لم يجرّ حملاً ببينةٍ يُدليها]. صفة اللعان (¬2): صفة اللعان: هو أن من قَذَف امرأته بالزِّنى هكذا مُطلقاً، أو بِإِنسانٍ سمَّاه فواجب على الحاكم أنْ يجمعهما في مجلسه، ثمَّ يسأله البيّنة على ما رماها به. فإِنْ أتى ببينة عدول أقيم عليها الحد. فإِنْ لم يأت بالبيّنة قيل له: التَعِن. فيقول: بالله إِني لمن الصادقين، بالله إِنّي لمن الصادقين، بالله إِنّي لمن الصادقين، بالله إِنّي لمن الصادقين، هكذا يكرر، بالله إِني لمن الصادقين، أربع مرات. ثم يأمر الحاكم مَن يضَع يَده على فيه، ويقول له: إِنها موجبة؟ فإِنْ أبى، فإِنه يقول: وعليَّ لعنة الله إِن كنت من الكاذبين. فإذا أتمَّ هذا الكلام سقط عنه الحد لها، والذي رماها به. فإن لم يلتعن حُدَّ حَدّ القذف [لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث اللعان المتقدِّم: "البيّنة وإِلا حدٌّ في ظهرك"]. فإذا التَعن قيل لها: إِن التعنت وإلا حُدِدتِ حَدّ الزنى، فتقول: بالله إِنه لمن الكاذبين، بالله إِنه لمن الكاذبين، بالله إِنه لمن الكاذبين، بالله إِنه لمن الكاذبين، ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "فقه السّنة" (3/ 85). (¬2) عن "المحلى" (11/ 417) بحذف وتصرف يسير.

الحاكم هو الذي يقضي باللعان:

تُكرر بالله إِنه لمن الكاذبين، أربع مرات. ثمّ تقول: وعليّ غضب الله إِنْ كان لمن الصادقين، ويأمر الحاكم من يوقفها عند الخامسة، ويخبرها بأنها موجبة لغضب الله -تعالى- عليها، فإِذا قالت ذلك برئت من الحد، وانفسخ نكاحها منه، وحرُمت عليه أبد الآبد، لا تحل له أصلاً -لا بعد زوج ولا قبله- ولا وإِن أكذب نفسه، لكن إِن أكذب نفسه حُدّ فقط. الحاكم هو الذي يقضي باللعان: ويتبيّن مما سبق أنّ الحاكم هو الذي يقضي باللعان، وقد تقدّم حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في قذْف هلال بن أميّة امرأته عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشريك بن سحماء وفيه ما يدل على ذلك؛ إِذ كان اللعان بقضاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. اشتراط العقل والبلوغ: يُشترط في اللعان: العقل والبلوغ في كُلٍّ من المتلاعِنَين: عن عائشة -رضي الله عنها- إِن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر" (¬1). وعن علي -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3698)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1660)، وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (297)، وتقدّم. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3703)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1661)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1150)، وغيرهم وانظر "الإِرواء" (2/ 6)، وتقدّم.

لعان الأخرسين:

وجاء في كتاب "الإِجماع" لابن المنذر (ص 85): "وأجمعوا أنّ الصبي إِذا قذف امرأته، أنه لا يُضرب، ولا يُلاعَن". لعان الأخرسَيْن (¬1): يشرع لِعان الأخرَسَيْن لقوله -تعالى-: {لا يُكلِّف الله نفساً إِلا وُسْعها}، وليس في وسعه الكلام، فلا يجوز أن يُكلّف إِياه، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإِذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2). فصح أنه يلزم كل أحد مما أمر الله -تعالى- به ما استطاع، والأخرس يستطيع الإِفهام بالإِشارة، فعليه أن يأتي بها. وكذلك من لا يحسن العربية؛ يلتعن بِلُغته بألفاظ يُعبِّر بها عما نص الله -تعالى- عليه". مسائل في الامتناع عن اللعان أو عدم إِتمامه: إِذا قذَف الرجل امرأته بالزنى ثمّ امتنع عن اللعان أو لم يتمّه أو أكذب نفسه (¬3)؛ فعليه حدّ القَذف لقوله -تعالى-: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إِلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إِنه لمن الصادقين} (¬4). فإِذا لم يُقم الشهادة التي أمر الله -تعالى- بها قُذِف للحديث المتقدّم: ¬

_ (¬1) انظر "المحلّى" (11/ 424). (¬2) أخرجه البخاري: 7288، ومسلم: 1337. (¬3) انظر "المحلّى" (11/ 418). (¬4) النور: 6.

ماذا يترتب على اللعان:

"البيّنة أو حدٌّ في ظهرك". وإِذا كان الامتناع من الزوجة؛ أُقيمَ عليها حدّ الزنى. ماذا يترتب على اللعان: 1 - بتمام الالتعان من الزوجين؛ يقع التَّفريق الأبدي، فعن سهل بن سعد قال: "مضت السّنة بَعْدُ في المتلاعِنَيْن: أن يُفَرَّق بينهما، ثمّ لا يجتمعان أبداً" (¬1). وعن عمر -رضي الله عنه-: "المتلاعنان يُفرَّق بينهما ولا يجتمعان أبداً" (¬2). قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 423): "وقوله -عليه الصلاة والسلام- لا سبيل لك عليها، مَنْعٌ مِن أن يجتمعا أبدا بكل وجه، ولم يقل -عليه الصلاة والسلام- ذلك بنص الخبر إِلا بعد تمام التعانهما جميعاً، فلا يقع التفريق إِلا حينئذ. 2 - يأمر القاضي أن تُمسك المرأة عند ثقةٍ حتَّى تَلِد؛ عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- "أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعاصم بن عدي: أمسك المرأة (¬3) عندك؛ حتَّى تَلِد" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1969)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2104). (¬2) أخرجه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2105). (¬3) وهي امرأة عويمر بن أشقر العجلانيّ. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1965).

آداب التطليق المستنبطة من الكتاب الكريم والسنة الصحيحة

3 - أمّا ما يتعلق بإِلحاق الولد؛ فإِنه حين ينفيه الرجل، يُلحق بأمِّه فيدعى لها فتَرِثه ويَرِث منها ما فرض الله -تعالى- له، وينتفي نسَبُه من أبيه فلا يدعى له، ولا تجب نفقته عليه، ولا توارث بينهما؛ وذلك لحديث سهل بن سعد ... وفيه: "قال ابن جريج: قال ابن شهاب: فكانت السُّنة بعدهما أن يُفرَّق بين المتلاعنين، وكانت حاملاً، وكان ابنها يدعى لأمّه. قال: ثم جرت السُّنة في ميراثها أنها ترِثه ويرث منها ما فرض الله له" (¬1). قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 418): "فإِنْ كانت المرأة الملاعنة حاملاً؛ فبتمام الالتعان منهما جميعاً ينتفي عنه الحمل -ذكَره أم لم يذكره- إِلا أن يُقرَّ به فيلحقه". انتهى. وكذا إِذا أكذب نفسه؛ فإِنه يلحقه ويُدعى له. مسألة: إِذا لم يُتمَّ الرجل اللعان أو تُتمّه هي، فهما على نكاحهما، فلو مات أحدهما قبل تمام اللعان لتوارثا، ولا معنى لتفريق الحاكم بينهما، أو لتركه، لكن بتمام اللعان تقع الفرقة (¬2). آداب التطليق المستنبطة من الكتاب الكريم والسّنة الصحيحة (¬3) الأدب الأول: هو رعاية المصلحة في إِيقاعه؛ بعد التروي والتحاكُم إِلى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5309، ومسلم: 1492. (¬2) انظر "المحلّى" (11/ 418) بتصرف يسير. (¬3) عن كتاب "الاستئناس في تصحيح أنكحة الناس" للعلاّمة جمال الدين القاسمي -رحمه الله- بحذف.

حَكَمَين، فقد دلّ الكتاب الكريم على مشروعية ذلك عند شقاق الزوجين بإِرسال حَكَمَين من أهل الزوجين؛ يُؤْثِران الإِصلاح بالوفاق، على الفراق والطلاق، فينصحان الزوجين ويعظانهما ويؤذنانهما بمفاسد الطلاق ومَضرّاته وخراب ما بُني من المعيشة البيتية، وما يَعْقُبه من الندم ونفرة الحبّ القلبي، وغير ذلك من تَشتُّتِ شمْل البنين والبنات، وتجرّعهم غُصص الحسرات، حتى إِذا لم يُفد نصحهما وأخفَقَ سعيهما، ورأيا الخيرة لهما في الفراق، أَذِنا للزوج بالطلاق. وهذا كله مستفاد من قوله -تعالى-: {وإِنْ خفتم شِقاق بينهما فابعثوا حَكَماً من أهله وحَكَماً من أهلها إِنْ يريدا إِصلاحاً يوفق الله بينهما} (¬1) فلم يشرع -سبحانه وتعالى- للزوج أن يعجَل بالطلاق، وأن يبادر به سائق الهوى والهوَس بدون عمل بما أمر -تعالى- به وحَضَّ عليه. ودلّ الأمر في قوله -تعالى-: {فابعثوا حَكَماً من أهله وحَكَماً من أهلها} على أنّ إِرسال الحَكَم فرْض، لأنَّ الأمر للوجوب عند الأكثرين، والأمر بالشيء نهيٌ عن ضده، والنهي -أعني التلبُّس بخلاف الأمر- يقضي الفساد وعدم الاعتداد كما تقرر في الأصول. فإِذَنْ؛ من عَجَّل في الشِّقاق، وتلفَّظ بالطَّلاق بدون الرجوع إِلى التحاكم المأمور به؛ فقد تلبس بالمنهي عنه وعصى بمخالفة الأمر، وأمّا من عمل بالأمر ففوّض للحَكَمين الخيرة؛ فلم يجدا سبيلاً لائتلاف الزوجين، ولا طريقاً لجمع شملهما؛ فما جعل الله في ذلك من حرج؛ لقوله: {وإِن يتفرقا يُغنِ اللهُ كلاًّ من سَعته} (¬2). ¬

_ (¬1) النساء: 35. (¬2) النساء: 130.

الأدب الثاني: إِيقاعه في حال الخوف من عدم إِقامة حدود الله، وذلك بأنْ تتضرّر المرأة من الرجل فترى منه ما يسوؤها؛ من قول أو فِعل أو أمر يستحيل معه صبرها عليه. ومنه أن يترك معاشرتها بالمعروف ويتجافى الإِحسان إِليها، أو تُشاهد منه انكباباً على الفحشاء وعملاً بالمنكرات، أو إِغراءً لها بترك الواجبات، أو إِفساداً لصالح تربيتها بمشاهدة ما يأتيه من الموبقات، أو سعياً في إِيذائها بأنواع المضَرّات؛ فتخشى من بقائها على عصمته أن تبوء بإِثم الناشزة والهاجرة، وهي لا تطيق حالتئذٍ ملامسته بوجهٍ ما، وتأبى القُرب منه أشدّ الإِباء، ففي هذه الحالة شُرع مخالعتها؛ بأن تفتدي منه بما يتراضيان به، وإليه الإِشارة بقوله -تعالى-: {فإِنْ خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون} (¬1). وتدلّ الآية بمفهومها على أنهما إِذا كانا يقيمان حدود الله في الزوجية؛ فليس له أن يطلب مخالعتها بأخذ ما لا تطيب نفسها به، وليس لها أيضاً أن تفتكر في الاختلاع منه، لأن في ذلك إِفساداً لهما، وإصراراً بهما وبأولادهما -إِن كانوا- وإِنّ ذلك حينئذ من تعدّي حدود الله، أي: مجاوزتها. ثمّ إِذا خلَعها من عصمته فهل يكون خلْعُه طلاقاً أو فَسْخاً؟ فذهب الجمهور إِلى الأول، وجعلوا عدّتها ثلاثة قروء، وذهب ابن عباس وعثمان وابن عمر والرُّبيِّع بنت معوِّذ وعمُّها -رضي الله عنهم- إِلى أنَّه فسْخ. قال الإِمام ابن القيم: ولا يصح أنَّه طلاق البتَّة، وقد أمَر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة ¬

_ (¬1) البقرة: 229.

ثابت بن شمَّاس لما اختلعت من زوجها أن تعتدّ بحيضة واحدة (¬1)، وبه قضى عثمان -رضي الله عنه- (¬2) وإليه ذهب الإِمام إِسحاق بن راهويه والإِمام أحمد في رواية عنه اختارها شيخ الإِسلام ابن تيمية. قال: من نظر هذا القول وجَده مقتضى قواعد الشريعة، فإِنَّ العدة إِنما جُعلت ثلاث حيضٍ ليطول زمن الرّجعة ويتروّى الزوج ويتمكن من الرجعة في مدة العدّة. فإِذا لم تكن عليها رجعة فالمقصود مجرد براءة رحمها من الحمْل، وذلك يكفي فيه حيضة كالاستبراء، قال: ولا ينتقض هذا بالمطلقة ثلاثاً، فإِنَّ باب الطلاق جعل حُكْم العدّة فيه واحدة بائنة ورجعية (¬3). الأدب الثالث: أن لا يكون القصْدُ بإِيقاع الطلاق مضارَّة الزوجة، فإِنّ الضِّرار ممنوع شرعاً لحديث: "لا ضرر ولا ضرار" (¬4)، ولعموم آية: {ولا ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (3272) ولفظه: عن ثابت بن قيس بن شمَّاس: "أنه ضرب امرأته فكَسَر يدها -وهي جميلة بنت عبد الله بن أُبي- فأتى أخوها يشتكيه إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى ثابت، فقال له: خُذ الذي لها عليك، وخلّ سبيلها، قال: نعم. فأمَرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تتربص حيضة واحدة، فتلحق بأهلها". (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1674)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3273) ولفظه: "عن رُبيِّع بنت معوِّذ قالت: اختلَعْتُ من زوجي، ثمّ جئت عثمان، فسألتُهُ ماذا عليّ من العدة؟ فقال: لا عدة عليك، إِلا أن تكوني حديثة عهد به فتمكثي حتى تحيضي حيضة، قال: وأنا متبع في ذلك قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مريم المغاليّة؛ كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس فاختلعت منه". (¬3) انظر "زاد المعاد" (5/ 197) ونقله جمال الدين القاسي -رحمه الله- بتصرّف. (¬4) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1895) وغيرهما وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (896)، و"الصحيحة" (250).

تضاروهنّ} (¬1) ولقوله -تعالى-: {فإِن أطعْنكُم فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً} (¬2). وأعظم البغي على النساء تطليقهنّ للمُضارّة والتشفّي والإِيذاء وتخريب بنيان المعيشة. وقد تنبه لهذا الأدب من رأى أنَّ تطليق المرأة في مرض الموت لا يمنعها من الإِرث، لأنه لما قصَد بطلاقها حرمانها من حقّها المشروع؛ عومل بنقيض قصْده عدلاً ورحمة من الشارع، فقد قال مالك: من حُجَّتنا في الذي يتزوج وهو مريض (¬3) أنه ليس له ميراث؛ لأنه يُمْنع أنْ يُطلِّق وهو مريض، فكَما يُمْنع من الطَّلاق وهو مريض لحقّ امرأته في الثُّمن؛ فإِنَّه لا ينبغي أن يدخل عليها من يَنقصُها من ثُمنها. قال ابن رشد: هذا بيِّن لأن المعنى الذي من أجله لم يجز أن يطلق في المرض موجود في النكاح، فلا يجوز له أن يُدخل وارثاً على ورثته؛ كما لا يجوز أن يخرج عنهم وارثاً. الأدب الرابع: أن يُطلّق لداعٍ لا يتأتّى معه اتخاذها زوجة، كأن يراها لا تردّ يد لامس (¬4)، أو لا تؤمَّن على مالٍ ولا سرّ، أو لا تحفظ نظام بيته ورعاية حرمته، ¬

_ (¬1) الطلاق: 6. (¬2) النساء: 34. (¬3) أقول: ليس للرجل أنْ يُطلِّق أو يَنكَح، في مرض الموت لِيَنقص أو ليمنع الميراث؛ ولكنْ له أنْ يَنكح أو يُطلِّق في مرضه إِذا كان له مصلحة في أيٍّ منهما -والله تعالى أعلم-. (¬4) قيل: إِنها تُعطي من ماله من يطلب منها، وقيل غير ذلك.

أو لا تستجيب لطاعته، إِلى غير ذلك من الأخلاق الفاسدة التي تحقق أنها صارت مَلَكَةً راسخة فيها مُرِّنت عليها وانطبعت فيها، فلا جَرَمَ أنها حينئذ جرثومة النكد، ومادة النقص، ومباءة الفساد والإِفساد للمروءة والدين والدنيا، فمثل هذه المشؤومة مما يُشرع طلاقها ويُندب إِنْ لم يجب، وقد ورد في هذا ما أخرجه البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس -رضي الله- أنه قال: "الطلاق عن وطر" (¬1). قال الحافظ ابن حجر: أي: أنه لا ينبغي للرجل أن يُطلِّق امرأته إِلا عند الحاجة كالنشوز. وقال الإِمام ابن القيّم في "إِعلام الموقعين": "معنى قول ابن عباس: إِنما الطلاق عن وطَر؛ أي: عن غرض من المطلِّق في وقوعه". الأدب الخامس: أنْ لا يُطلِّق ثلاثاً دفعة واحدة ....... (¬2). قال ابن القيّم: ". ... [فإِن الله -تعالى- أراد من المرء] أن يُطلّق طلاقاً يملك فيه ردّ المرأة إِذا شاء، فطلّق طلاقاً يريد به أن لا يملك فيه ردّها، وأيضاً فإِن إِيقاعه الثلاثَ دفعةً مخالفٌ لقوله -تعالى-: {الطلاق مرتان} (¬3)، والمرتان والمرّات في لغة القرآن والسّنة -بل ولغة العرب بل ولغة سائر الأمم- لِما كان مرة بعد مرة، فإِذا جمع المرتين والمرات في مرة واحدة؛ فقد تعدى حدود الله -تعالى- وما دلّ عليه كتابه، فكيف إِذا أراد باللفظ الذي رتَّب عليه الشارع حُكماً ضد ¬

_ (¬1) تقدَّم. (¬2) حذفْتُ الحديث الذي ذكَره لعدم ثبوته. (¬3) البقرة: 229.

ما قصَده الشارع. الأدب السادس: أن يُشهد على الطَّلاق، لقوله -تعالى-: {يا أيها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء فطلقوهنّ لعدّتهنّ وأحصوا العدّة} إِلى قوله: {فإِذا بلغْن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف وأشهدوا ذَوَيْ عدل منكم وأقيموا الشهادة لله} (¬1)، فأمَر بالإِشهاد على الرجعة -وهو الإِمساك بمعروف- وعلى الطلاق -وهو المفارقة بمعروف-. الأدب السابع: أن لا يكون في حالة الغضب لحديث: "لا طلاق في إِغلاق" (¬2). الأدب الثامن: أن ينوي الطلاق لحديث: "إِنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" فإِنّ الحديث هو الكلِّيُّ الأعظم في أبواب من الشريعة، قال الحافظ ابن حجر: إِنّ الحكم إِنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر. انتهى. وأصله من قوله -تعالى-: {وإنْ عزموا الطَّلاق فإِنّ الله سميع عليم} (¬3) فمن لم يعزم الطلاق بأنْ علّقه أو عبث به؛ لم يُطلّق الطَّلاق المشروع. الأدب التاسع: أن يكون التطليق مأذوناً فيه من جهة الشارع، فلا يكون محرّماً مبتدعاً، بل مأموراً به، وذلك بمعرفة زمان التطليق لقوله -تعالى-: ¬

_ (¬1) الطلاق: 1 - 2. (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1919)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1665) والحاكم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2047). (¬3) البقرة: 227.

{يا أيها النّبيّ إِذا طلّقتم النّساء فطلقوهنّ لعدّتهنّ} أي: لاستقبال عدتهن، يعني: أن يُطلَّقن في وقت يتعقبه شروعهنّ في العدة، وذلك أن تطلّق في طُهر لم تُجامَع فيه. وأمّا طلاقها في حال الحيض فهو محرّم بالكتاب والسنّة والإِجماع (¬1)، وليس في تحريمه نزاع، ولهذا أمَر النّبيّ -صلوات الله عليه- عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- لما طلّق امرأته في الحيض أن يراجعها (¬2)، وتلا عليه هذه الآية تفسيراً للمراد بها؛ إِيذاناً بأن الطلاق لم يُشرع في حيض ولا في طهر وُطِئت فيه، وإنما شرع للعدَّة، وهو أن يطلِّقها في طُهرٍ من غير جماع. وفي "المدونة" عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "من أراد أن يُطلِّق للسُّنّة فليطلق امرأته طاهراً في غير جماع تطليقة، ثم ليدَعْها، فإِذا أراد أن يراجعها راجعَها، وإن حاضت ثلاث حيض كان بائناً، وكان خاطباً من الخطَّاب". قال الإِمام ابن القيّم -رحمه الله تعالى-: وأصْل هذا أنّ الله -سبحانه وتعالى- لمّا كان يبغض الطلاق (¬3)، لما فيه من كسْر الزوجة، وموافقة رضا عدوه إِبليس، ومفارقة طاعته -تعالى- بالنكاح الذي هو واجب أو مستحبٌّ، وتعريض كلٍّ ¬

_ (¬1) وتقدَّم تفصيله. (¬2) أخرجه البخاري: 5251، ومسلم: 1471. (¬3) لا يقصد ابن القيّم -رحمه الله- هذا بإِطلاق، لأن الطلاق واجب في بعض الحالات كما لا يخفى، أمّا حديث: "أبغض الحلال إِلى الله الطلاق" فإِنّه ضعيف، وانظر "الإِرواء" (2040).

من الزوجين للفجور والمعصية وغير ذلك من مفاسد الطلاق، وكان مع ذلك قد يحتاج إِليه الزوج أو الزوجة وتكون المصلحة فيه؛ شَرَعَهُ على وجهٍ تحصل به المصلحة وتندفع به المفسدة، وحرَّمه على غير ذلك الوجه، فشرعه على أحسن الوجوه، وأقْربِها لمصلحة الزوج والزوجة، فشرع له أن يطلّقها طاهراً من غير جماع طلقة واحدة؛ ثمّ يدعها حتى تنقضي عدتها، فإِنْ زال الشّرّ بينهما وحصلت الموافقة؛ كان له سبيل إِلى لمِّ الشعث وإعادة الفراش كما كان، وإلا تركها حتى تنقضي عدَّتها، فإِنْ تبعَتها نفسه؛ كان له سبيل إِلى خِطبتها وتجديد العقد عليها برضاها، وإنْ لم تتبعها نفسه؛ تركَها فنكحت من شاءت، وجعل العدّة ثلاثة قروء؛ ليطول زمن المهلة والاختيار. فهذا هو الذي شرَعه وأذن فيه، ولم يأذن في إبانتها بعد الدخول إِلا بالتراضي بالفسخ والافتداء، فإِذا طلَّقها مرةً بعد مرةٍ بقي له طلقةٌ واحدة، فإِذا طلقها الثالثة حرَّمها عليه عقوبة له، ولم يحلَّ له أن ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره، ويدخل بها ثمّ يفارقها بموت أو طلاق، فإِذا عدمِ أن حبيبه يصير إِلى غيره فيحظى به دونه؛ أمسك عن الطلاق. انتهى ملخصاً. الأدب العاشر: التطليق بإِحسان، لا بإِساءة ولا فحش من الكلام ولا بغي ولا عدوان، فإِن الله -تعالى- أمَر بالإِحسان في كل شيء، قال -تعالى-: {الطلاق مرَّتان فإِمساكٌ بمعروف أو تسريح بإِحسان} وقد روى ابن جرير "أنّ ابن عباس سئل عن معنى الآية فقال: ليتق الله في التطليقة الثالثة، فإمَّا يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرِّحها فلا يظلمها من حقها شيئاً". وقال الضحاك: التسريح بإِحسان أن يعطيها مهراً إِنْ كان لها عليه إِذا

طلّقها، والمتعة قدر الميسرة. ونظير هذه الآية آية: {فإِذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف} (¬1). وآية: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬2). فتأمّل هذا الوعيد الشديد لمن اتخذ آيات الله هُزواً أي: اتخذ ما بيّنه من حلاله وحرامه، وأمْره ونهْيه؛ في أمر الإِمساك والتسريح مهزوءاً به؛ بأنْ خالفَه وعصاه ولم يَحْفِلْ به، فضيّعه وتعدّى حدوده، وكيف سجَّل عليه بأنه ظلم نفسه؛ فأكسبها إِثماً وأوجب لها من الله عقوبةً! وتدبر كيف أمَرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم بما أمرهم به ونهاهم عنه؛ مما فيه سعادتهم وفلاحهم! وفي معنى هذه الآيات قوله -تعالى-: {وللمطلقات متاعٌ بالمعروف حقّاً على المُتقين} (¬3) قال ابن جرير: يعني -تعالى- بذلك أنّ لمن طُلِّق من النساء على مُطلِّقها من الأزواج متاعاً -وهو ما يستمتع به من ثياب وكسوة ونفقة أو خادم أو غير ذلك مما يُستمتع به- وأكَّد ذلك بقوله: {حقّاً على المتقين} ¬

_ (¬1) الطلاق: 2. (¬2) البقرة: 231. (¬3) البقرة: 241.

وهم الذي اتقوا الله في أمره ونهيه وحدوده، فقاموا بها على ما كلّفهم القيام بها؛ خشيةً منهم له ووجلاً منهم من عقابه. انتهى وكذلك قوله -تعالى-: {ومتّعوهنّ على الموسع قدَرُه وعلى المُقْتِرِ قدَرُه} (¬1) فأمر -تعالى- المطلِّقين إِذا طلَّقوا الطَّلاق المأذون فيه -وهو المستوفي شروطه- أن يُسرِّحوا نساءهم راضيات عنهم، داعيات لهم، ذاكرات لجميلهم ومعروفهم وإِحسانهم، وذلك بأن يحسن إِليهن بما يتمتعن به على قدر اليُسر والعُسر. وأكّد ذلك أيضاً بقوله: {متاعاً بالمعروف حقّاً على المحسنين} (¬2) فجعل ذلك حقاً لازماً على الذين يحسنون إِلى أنفسهم في المسارعة إِلى طاعة الله؛ فيما ألزمهم به وأدائهم ما كلفهم من فرائضه، ويحسنون إِلى المطلقات بالتمتيع على الوجه الذي يحسُن في الشرع والمروءة. فأين المسلمون من هذه الآداب؟ وما عراهم (¬3) حتى هجروا أحكام الكتاب! تالله إِنّ القلب يكاد يتفطر ألماً، والعين تدمع دماً على ما أصبحوا فيه من الجهل، ولا من سائق لهم إِلى الفقه والعلم، حتى أصبحت محاكم القضاة تياراً لأمواج شكايات المظلومات، وميداناً لجولان دعاوى الزوجات، حتى صار المسلمون ببغيهم في الطلاق وهضعم حقوق الأزواج عاراً على الإِسلام، وفتنة لسواهم من الأقوام!! {ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا واغفر لنا ربنا إِنك أنت العزيز الحكيم} (¬4). ¬

_ (¬1) البقرة: 236. (¬2) البقرة: 236. (¬3) أي: أصابهم. (¬4) الممتحنة: 5.

العدة

العدّة (¬1) تعريفها: العدة في اللغة من قولك: عَدَدْت الشيء إِذا أحصيتَه؛ فسُمّيت العدّة عدّة؛ مِن أنَها مُحصاة؛ لأنها ثلاثة قروء، وثلاثة أشهر، وأربعة أشهر وعشراً (¬2). وفي الشرع: "اسم لمدة تتربّص المرأة عن التزويج بعد وفاة زوجها أو طلاقها؛ بالولادة أو الأقراء أو الأشهر" (¬3). وكانت العدة معروفة في الجاهلية، وكانوا لا يكادون يتركونها، فلمَّا جاء الإِسلام، أقرّها؛ لما فيها من مصالح. وأجمَع العلماء على وجوبها؛ لقول الله -تعالى-: {والمطلقات يتربصنَ بأنفسهنّ ثلاثة قروء} (¬4) ولحديث فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- قالت: "طلَّقني زوجي ثلاثاً، فأردت النُّقلة، فأقبل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "انتقلي إِلى بيت ابن عمك عمرو بن أمِّ مكتوم؛ فاعتدِّي عنده" (¬5). حِكمة مشروعيتها: 1 - معرفة براءة الرحم، حتى لا تختلط الأنساب بعضها ببعض. ¬

_ (¬1) عن "فقه السّنة" (3/ 92) بتصرُّف وزيادة لأوَّل (أين تعتدّ المرأة المتوفّى زوجها). (¬2) انظر "حلية الفقهاء" (ص 183). (¬3) انظر "سبل السلام" (3/ 373) بتصرُّف يسير. (¬4) البقرة: 228. (¬5) أخرجه مسلم: 1480.

أنواع العدة:

2 - تهيئة فرصة للزوجين لإِعادة الحياة الزوجية، إِنْ رأيا أن الخير في ذلك. 3 - أنَّ مصالح النّكاح لا تتمّ، حتى يُوطِّنا أنفسهما على إِدامة هذا العقد ظاهراً، فإِنْ حدث حادِثٌ يوجب فكّ النظام، لم يكن بدٌّ من تحقيق صورة الإِدامة في الجملة، بأن تتربص مدةً تجد لتربصها بالاً، وتقاسي لها عناءً (¬1). أنواع العِدّة: 1 - عدة المرأة التي تحيض، وهي ثلاث حِيَض. 2 - عدة المرأة التي يئست من الحيض، وكذا التي لم تَحِضْ، وهي ثلاثة أشهر. 3 - عدة المرأة التي مات عنها زوجها، وهي أربعة أشهر وعشراً؛ ما لم تكن حاملاً. 4 - عدة الحامل، حتى تضع حملها. وهذا إِجمال، نفصله فيما يلي: فإِن الزوجة؛ إِمّا أن تكون مدخولاً بها، أو غير مدخول بها. عِدَّة غير المدخول بها: والزوجة غير المدخول بها، إِنْ طُلقتْ، فلا عِدَّة عليها؛ لقول الله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا إِذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلقتموهنّ من قبل أن تمسوهنّ (¬2) فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدونها} (¬3). ¬

_ (¬1) من "حجة الله البالغة". (¬2) المس: الدخول. (¬3) الأحزاب: 49.

عدة المدخول بها:

فإِنْ كانت غيرَ مدخول بها، وقد مات عنها زوجها، فعليها العِدّة، كما لو كان قد دخَل بها. قال الله -تعالى-: {والذين يُتوفون منكم ويذَرون أزواجاً يتربَّصن بأنفسهنَّ أربعةَ أشهرٍ وعشراً} (¬1). عدّة المدخول بها: وأمّا المدخول بها؛ فإِمّا أن تكون من ذوات الحيض، وإمّا أن تكون من غير ذوات الحيض. عدّة الحائض: فإِنْ كانت من ذوات الحيض، فعدّتها ثلاثة قروء؛ لقول الله -تعالى-: {والمطلقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء} (¬2). والقروء جمع قُرء، والقرء: الحيض. ورجَّح ذلك ابن القيّم -رحمه الله تعالى- فقال في "زاد المعاد" (5/ 609 - 611): "إِن لفظ (القرء) لم يُستعمل في كلام الشارع إِلا للحيض، ولم يجيء عنه في موضع واحد استعماله للطهر، فحمْله في الآية على المعهود المعروف من خطاب الشارع أولى، بل متعين، فإِنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمستحاضة: "دعي الصّلاة أيّام أقْرائِك" (¬3) وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المعبّر عن الله -تعالى- وبِلُغَةِ قومه نزَل القرآن، فإِذا ورد ¬

_ (¬1) البقرة: 234. (¬2) البقرة: 228. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (252)، والترمذي "صحيح سنن =

المشترك في كلامه على أحد معنييه، وجب حمْلُه في سائر كلامه عليه؛ إِذا لم تثبت إِرادة الآخر في شيء من كلامه ألبتة، ويصيرُ هو لغة القرآن التي خوطبنا بها، وإنْ كان له معنى آخر في كلام غيره". ثمّ قال -رحمه الله-: "فإِذا ثبت استعمال الشارع لفظ القروء في الحيض؛ عُلم أن هذا لغته، فيتعين حمْله على ما في كلامه، ويوضح ذلك ما في سياق الآية من قوله: {ولا يحلّ لهنّ أنْ يكتمن ما خلَق الله في أرحامهنّ} (¬1). وهذا هو الحيض والحمل عند عامَّة المفسرين، والمخلوق في الرحم إِنما هو الحيض الوجودي، ولهذا قال السلف والخلف: هو الحمل والحيض، وقال بعضهم: الحمل، وبعضهم: الحيض، ولم يقل أحد قطُّ: إِنه الطهر، ولهذا لم ينقله من عُني بجمع أقوال أهل التفسير، كابن الجوزي وغيره، وأيضاً فقد قال -سبحانه-: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهنّ ثلاثة أشهر واللائي لم يَحِضْن} (¬2) فجعل كلّ شهر بإِزاء حيضة، وعلّق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر من الحيض". ثمّ قال -رحمه الله- (ص 631) منه: "فقوله -تعالى-: {فطلّقوهنّ ¬

_ = الترمذي" (109)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (508)، وانظر "الإرواء" (207 و2118). (¬1) البقرة: 228. (¬2) الطلاق: 4.

لعدتهنّ} (¬1)، معناه: لاستقبال عدتهنّ لا فيها، وإذا كانت العدة التي يُطلق لها النساء مستقبلةً بعد الطلاق، فالمستقبَل بعدها إِنما هو الحيض، فإِنَّ الطاهر لا تستقبِلُ الطهر -إِذ هي فيه- وإنما تستقبل الحيض بعد حالها التي هي فيها". انتهى. قلت: جاء في "حلية الفقهاء" (ص 183) -بحذف-: "وأمّا القُرء فهو اسمٌ يقع على الحيض والطُّهر ... قال أبو عمرو بن العلاء: وإنّما جاز ذلك؛ لأنّ القُرء الوقت، وهو يصلح للحيض، ويصلُح للطُّهر. فهذا ما تقوله العرب، وليس الاختلاف الواقع بين الفقهاء على اطّراح أحد القولين، وكلّهم مجمعون على أنّ القُرء اسمٌ يقع على الحيض، كما يقع على الطهر، ولكن كُلاًّ اختار قولاً، واحتج له من جهة المعنى. ومثل ذلك أنّ الجون اسمٌ يقع على الأبيض، كما يقع على الأسود، ثمّ اختلف الناس في الشمس، ولِمَ سُمّيت جَوْناً؟ فيقول قوم: لبياضها، ونورها، ويقول آخرون: لا، بل لسوادها، لأنّها إِذا غابت اسودت. ثمّ يحتجُّ كلٌّ لمِقالته؛ بعد إِجماعهم على أن الجَوْن الأبيض والأسود. وكذا الفقهاء مجمعون على أن القُرء: الطُّهر والحيض ... ". انتهى قلت: الذي ترجَّح لديّ أنْ يكون القرء هنا الحيض، وذلك أننا إِذا جَعَلنا القرء الطُّهر؛ أفضى ذلك إِلى تقليل مُدّة العدّة، فلو أنّ الرجل طلّق زوجته قبل موعد حيضتها بيوم؛ فإِنَّ أوَّل قرءٍ ينتهي بعد قرابة خمسة أيام مثلاً. ¬

_ (¬1) الطلاق: 1.

عدة غير الحائض:

أمّا إِذا كان القرء هو الحيض؛ فلو طلقها قبل موعد حيضتها بيوم؛ فإِنّ أول قرء ينتهي بانتهاء الحيضة الثانية، فتكون مُدة القرء شهراً تقريباً، وهذا يلتقي حُكم مدّة اللائي يئسنَ من المحيض، وكذا اللائي لم يحضن وهي ثلاثة أشهر، والله -تعالى- أعلم. ثمَّ رأيت أثر عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أُمِرت بَريرة أنْ تعتدّ بثلاث حِيَض" (¬1). عِدّة غير الحائض: وإنْ كانت من غير ذوات الحيض، فعدّتها ثلاثة أشهر، ويصدق ذلك على الصغيرة التي لم تبلغ، والكبيرة التي لا تحيض؛ سواء أكان الحيض لم يسبق لها، أم انقطع حيضها بعد وجوده؛ لقول الله -تعالى-: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إِن ارتبتم فعدتهنّ ثلاثة أشهر واللائي لم يحضنَ وأُولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ} (¬2). وعن سعيد بن جبير، في قوله: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم} يعني: الآيسة العجوز التي لا تحيض، أو المرأة التى قعدت من الحيضة، فليست هذه من القروء في شيء. وفي قوله: {إِن ارتبتم} في الآية، يعني: إِنْ شككتم، {فعدتهنّ ثلاثة أشهر}، وعن مجاهد: {إِن ارتبتم} ولم تعلموا عدة التي قعَدت عن الحيض، أو التي لم تحض {فعدتهنّ ثلاثة ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1690) وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2120). (¬2) الطلاق: 4.

حكم المرأة الحائض إذا لم تر الحيض:

أشهر}، فلقوله -تعالى-: {إِن ارتبتم} يعني: إِن سألتم عن حُكمهن، ولم تعلموا حكمَهُنَّ وشككتم فيه، فقد بيّنه الله لكم. حُكم المرأة الحائض إِذا لم تر الحيض: إِذا طُلِّقت المرأة وهي من ذوات الأقراء؛ ثمّ إِنها لم تر الحيض في عادتها، ولم تَدْرِ ما سَببه؛ فإِنها تعتد سَنَةً تتربص مدة تسعة أشهر؛ لتعلم براءة رحمها؛ لأن هذه المدة هي غالب مدة الحمل، فإِذا لم يَبِن الحمل فيها، عُلِم براءة الرحم ظاهراً، ثمّ تعتد بعد ذلك عدة الآيسات ثلاثة أشهر. وجاء في كتاب "الاختيارات الفقهيَّة" (ص 282): "ومن ارتفَعَ حَيضُها ولا تدري ما رَفَعَه إِنْ علِمَت عدَمَ عودِه؛ فتعتدّ. وإلا اعتدَّت بِسَنة". هذا؛ وقد ذَكَر ابن حزم -رحمه الله- عدداً من الآثار في أقوالٍ ثلاثة؛ تتعلّق بالمرأة المختلفة الأقراء، وحين تصير في حد اليائسات من المحيض، وترجَّح لديّ القول الثاني من ذلك، وقد ساق في بعض الآثار بإِسناده إِلى سعيد بن المسيب قال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- " أيّما امرأةٍ طُلِّقت فحاضت حيضة أو حيضتين، ثمّ رفعت حيضتها، فإِنها تنتظر تسعة أشهر، فإِنْ بان بها حمْل فذلك، وإلا اعتدّت بعد التسعة الأشهر ثلاثة أشهر ثمّ حلّت". وقال -رحمه الله-: وصحَّ مِثل هذا عن الحسن البصري وسعيد بن المسيب (¬1). سِنّ اليأس: اختلف العلماء في سِنّ اليأس؛ فقال بعضهم: إِنها خمسون. وقال آخرون: ¬

_ (¬1) انظر"المحلّى" (11/ 647).

عدة الحامل:

إِنها ستون، والحق أنَّ ذلك يختلف باختلاف النساء. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "اليأس يختلِف باختلاف النساء، وليس له حدٌّ يتفق فيه النساء، والمراد بالآية، أنّ يأس كل امرأة من نفسها؛ لأنّ اليأس ضد الرجاء، فإِذا كانت المرأة قد يئست من الحيض، ولم تَرْجُه، فهي آيسة، وإنْ كان لها أربعون أو نحوها، وغيرها لا تيأس منه، وإن كان لها خمسون" (¬1). عِدّة الحامل: وعِدّة الحامل تنتهي بوضع الحمل؛ سواء أكانت مُطلَّقة، أم متوفّى عنها زوجها؛ لقول الله -تعالى-: {وأولات الأحمال أجلُهنَّ أن يضعن حمْلهنّ} (¬2). قال في "زاد المعاد": "ودلّ قوله -سبحانه-: {أجلُهُنّ أن يضعن حملهنّ} (¬3) على أنها إِذا كانت حاملاً بتوأمين، لم تنقض العدة، حتى تضعهما جميعاً، ودلت على أن مَن علَيها الاستبراء، فعدتها وضْع الحمل أيضاً، ودلت على أن العدة تنقضي بوضعه على أي صفةٍ كان؛ حيَّاً أو ميّتاً، تام الخِلقة أو ناقصها، نُفخ فيه الروح أو لم ينفخ. عن سبيعة "أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو في بني عامر بن لؤيٍّ -وكان ممّن شهد بدراً- فتوفّي عنها في حجّة الوَداع وهي حاملٌ، فلم ¬

_ (¬1) انظر "زاد المعاد" (5/ 657 - 658). (¬2) الطلاق: 4. (¬3) الطلاق: 4.

عدة المتوفى عنها زوجها:

تنشب (¬1) أن وضعت حملْها بعد وفاته، فلمّا تعلّت (¬2) من نفاسها تجمّلت للخُطّاب فدخَل عليها أبو السّنابل بن بعكك (رجل من بني عبد الدّار) فقال لها: ما لي أراكِ مُتجمّلة؟ لعلّك ترجين النّكاح، إِنّك والله ما أنتِ بناكح حتّى تَمُرَّ عليك أربعةُ أشهر وعشرٌ، قالت سبيعة: فلمّا قال لي ذلك جمعْتُ عليّ ثيابي حين أمسيت فأتيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته عن ذلك؟ فأفتاني بأنّي قد حللتُ حِين وضعْتُ، وأمَرني بالتزوّج إِنْ بدا لي". قال ابن شهاب: فلا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإِنْ كانت في دمها؛ غير أن لا يقربها زوجها حتى تطهر" (¬3). والعلماء يجعلون قول الله -تعالى-: {والذين يُتَوَفَّون منكم ويذَرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} (¬4) خاصةً بِعِدَد الحوائل (¬5)، ويجعلون قول الله -تعالى-: {وأولات الأحمال أجلهنَّ أن يضعن حمْلهن} (¬6) في عِدَدِ الحوامل، فليست الآية الثانية معارضة للأولى. عدة المتوفّى عنها زوجها: والمتوفَّى عنها زوجها عدّتُها أربعة أشهر وعشر، ما لم تكن حاملاً، لقول الله ¬

_ (¬1) أي: لم تلبث. (¬2) تعلَّت: أى خرجت من نفاسها، وانظر "النِّهاية". (¬3) أخرجه البخاري: 5319، ومسلم: 1484، واللفظ له. (¬4) البقرة: 234. (¬5) أي: غير الحوامل. (¬6) الطلاق: 4.

عدة المستحاضة:

-تعالى-: {والذين يُتوفون منكم ويذَرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} (¬1). وإنْ طلّق امرأته طلاقاً رجعياً، ثمّ مات عنها وهي في العِدَّة؛ اعتدّت بِعِدَّةِ الوفاة؛ لأنه توفي عنها، وهي زوجته. عِدّة المستحاضة: المستحاضة تعتدّ بالحيض، ثمّ إِنْ كانت لها عادة، فعليها أن تراعي عادتها في الحيض والطهر، فإِذا مضت ثلاث حيض، انتهت العدة. عدة المطلّقة ثلاثاً: جاء في "الاختيارات الفقهية" (ص 282): "والمطلقة ثلاث تطليقات؛ عدّتها حيضة واحدة". انتهى. وبالحيضة يتحقّق استبراء الأرحام؛ ولها بعد ذلك أن تنكح زوجاً غيره. عدّة المختلعة: والمختلعة تعتدّ بحيضة واحدة، وتقدّم التفصيل في (باب الخلع). وجوب العدّة في غير الزواج الصحيح: مَن وطئ امرأةً بشبهة وجَبت عليها العدَّة؛ لأنّ وطْء الشبهة كالوطء في النكاح في النَّسَب، فكان كالوطء في النكَاح، في إِيجاب العِدَّة، وكذلك تجَِب العِدَّة في زواجٍ فاسد، إذا تحقَّق الدخول. تحول العدة من الحيض إِلى العِدَّة بالأشهر: إِذا طلَّق الرجل زوجته، وهي من ذوات الحيض، ثمّ مات وهي في العِدَّة، ¬

_ (¬1) البقرة: 234.

تحول العدة من الأشهر إلى الحيض:

فإِنْ كان الطلاق رجعياً، فإِن عليها أن تعتد عدة الوفاة، وهي أربعة أشهر وعشراً؛ لأنها لا تزال زوجةً له، ولأنّ الطلاق الرجعي لا يُزيل الزوجية؛ ولذلك يثبت التوارث بينهما، إِذا توفي أحدهما وهي في العِدَّة. وإِنْ كان الطلاق بائناً فإِنها تُكمِل عدة الطلاق بالحيض، ولا تتحول العدة إِلى عدة الوفاة، وذلك لانقطاع الزوجية بين الزوجين من وقت الطلاق؛ لأن الطلاق البائن يزيل الزوجية، فتكون الوفاة قد حدثت وهو غير زوج. تحول العدة من الأشهر إِلى الحيض: إِذا شرعت المرأة في العدة بالشهور لِصِغَرِها، أو لبلوغها سِنَّ اليأس، ثمّ حاضت؛ لزمها الانتقال إِلى الحيض؛ لأنّ الشهور بدل عن الحيض، فلا يجوز الاعتداد بها مع وجود أصلها. وإن انقضت عِدَّتها بالشهور، ثمّ حاضت، لم يلزمها الاستئناف للعدة بالأقراء، لأنّ هذا حدَثَ بعد انقضاء العدة [ولأنه لو كانت لها عِدَّةٌ من قبل بالأقراء؛ لم تكن في الغالب أكثر من عدّتها بالشهور]. وإنْ شرعت في العدة بالأقراء أو الأشهر، ثمّ ظهر لها حمْلٌ من الزوج، فإِنّ العدة تتحول إِلى وضع الحمل، والحمل دليل على براءة الرحم، من جهة القطع. انقضاء العدة: إِذا كانت المرأة حاملاً، فإِنَّ عدتها تنقضي بوضع الحمل، وإذا كانت العدة بالأشهر، فإِنها تحتسب من وقت الفرقة أو الوفاة، حتى تستكمل ثلاث أشهر أو أربعة أشهر وعشراً، وإذا كانت بالحيض، فإِنها تنقضي بثلاث حيضات، وذلك يُعرَف من جهة المرأة نفسها.

لزوم المطلقة المعتدة بيت الزوجية:

لزوم المطلقة المعتدة بيت الزوجية: *يجب على المعتدة أن تلزم بيت الزوجية، حتى تنقضي عِدَّتها، ولا يحلُّ لها أن تخرج منه، ولا يحل لزوجها أن يُخرِجها منه. ولو وقع الطلاق، أو حصلت الفرقة وهي غير موجودة في بيت الزوجية، وجَب عليها أن تعود إِليه بمجرد عِلْمها* (¬1). يقول الله -تعالى-: {يا أيها النّبيّ إِذا طلقتم النساء فطلِّقوهنّ لعدَّتهنَّ وأحصوا العِدَّة واتقوا الله ربَّكم لا تُخرِجوهنّ من بيوتهنَّ ولا يَخرُجن إلاَّ أن يأتين بفاحشة مبيِّنة وتلك حدود الله ومن يتعدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه} (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله -تعالى-: {إِلا أن يأتين بفاحشة مُبَيِّنَة} أي: لا يخرجن من بيوتهن إِلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة فتخرج من المنزل، والفاحشة المبينة تشمل: الزنى كما قاله ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو قلابة، وأبو صالح، والضحاك، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، والسدي، وسعيد بن أبي هلال وغيرهم، وتشمل ما إِذا نشزت المرأة، أو بَذَتْ على أهل الرجل، وآذتهم في الكلام والفِعال، كما قاله أُبيّ بن كعب، وابن عباس، وعكرمة وغيرهم. وقد رخَّص النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لخالة جابر بن عبد الله أن تخرج لتجدَّ نخلها. ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "فقه السّنة" (3/ 101). (¬2) الطلاق: 1.

أين تعتد المرأة المتوفى زوجها؟

فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "طُلِّقت خالتي، فأرادت أن تجُدّ نخلها (¬1)، فزَجَرها رجل أن تخرج، فأتت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: بلى فجُدِّي نخلك؛ فإِنك عسى أن تصدَّقي أو تفعلي معروفاً" (¬2). فيبدو أنّ الأمر عند الحاجة أوسع منه من معتدّة الوفاة. وسألت شيخنا -رحمه الله- عنْ ذلك، فأجابني به. أين تعتد المرأة المتوفَّى زوجها؟ عن زينب بنت كعب بن عجرة "أنّ الفُريعة بنت مالك بن سنان، وهي أخت أبي سعيد الخدري، أخبَرتها أنها جاءت إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأله أن ترجع إِلى أهلها في بني خُدرة، فإِنَّ زوجها خرج في طلب أعبُد له أبَقوا حتى إِذا كانوا بطرف القَدُوم لحقَهم فقتلوه، فسألتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أرجع إِلى أهلي، فإِني لم يتركني في مسكن يملكه، ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم. قالت: فخرجتُ حتى إِذا كانت في الحجرة، أو في المسجد، دعاني أو أمَر بي فدُعيت له فقال: كيف قلت؟ فرددت عليه القصة التي ذَكَرْت من شأن زوجي. قالت: فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان بن عفان: أرسل إِليّ فسألني ¬

_ (¬1) أن تقطع ثمَرَه. (¬2) أخرجه مسلم: 1483.

عن ذلك، فأخبرته فاتَّبعه وقضى به" (¬1). قال التِّرمذي -رحمه الله- عقب هذا الحديث: ... والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم، من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم: لم يروا للمعتدَّة أن تنتقل من بيت زوجها حتى تنقضي عدَّتها. وهو قول سفيان الثّوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم: للمرأة أنْ تعتدّ حيث شاءت، وإنْ لم تعتدّ في بيت زوجها. والقول الأوَّل أصحّ (¬2). وعن سعيد بن المسيب: "أنّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يَرُدُّ المتوفى عنهنّ أزواجهنّ من البيداء يمنعهنّ الحج" (¬3). وقد ضعّف هذا الأثر ابن حزم، وانظر الردّ عليه في "زاد المعاد" و"التلخيص الحبير" (4/ 1291) برقم (1648)، و"نيل الأوطار" (7/ 101)، والتحقيق الثاني "للإِرواء" (2131) لشيخنا (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2516)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (962)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1651)، والنسائي "صحيح سنن النسائى" (3302، 3303، 3304)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2131). (¬2) انظر "صحيح سنن الترمذي" (1/ 355). (¬3) أخرجه مالك والبيهقي وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (2132). (¬4) وكان من قبل -رحمه الله- يضعّف هذا الأثر، ثمّ تراجع عن ذلك. وفي التحقيق الثاني فوائد قيّمة تُثبت صحّته. وذكر شيخنا -رحمه الله- رواية عبد الرّزّاق في "المصنف" (7/ 33/12072) من طريق آخر صحيح عن سعيد به.

وقال عطاء: قال ابن عباس: "نسخَت هذه الآية عدتها عند أهلها؛ فتعتدّ حيث شاءت، وهو قول الله -تعالى-: {غيرَ إِخراج} قال عطاء: إِن شاءت اعتدت عند أهله وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، لقول الله -تعالى-: {فلا جناح عليكم فيما فعلن} (¬1) قال عطاء: ثمّ جاء الميراث فنسخ السّكنى، فتعتدُّ حيث شاءت ولا سكنى لها" (¬2). ومع هذا الأثر بل وآثار عديدة سيأتي ذِكرها إِن شاء الله -تعالى- بات الخلاف معتبراً. قال ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (5/ 681 - 682) - بعد أن ذَكَر حديث زينب بنت كعب في شأن الفريعة بنت مالك رضي الله عنها-: "وقد اختلف الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم في حُكم هذه المسألة، فروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تُفتي المتوفّى عنها بالخروج في عدَّتها، وخرجت بأختها أم كلثوم حين قُتل عنها طلحة بن عبيد الله إِلى مكة في عمرة. ومن طريق عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج: أخبرني عطاء عن ابن عباس أنه قال: "إِنما قال الله -عزّ وجلّ-: تعتد أربعة أشهر وعشراً، ولم يقل: تعتد في بيتها، فتعتد حيث شاءت. وهذا الحديث سمعه عطاء من ابن عباس، فإِنَّ علي ابن المديني قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جريج عن عطاء قال: سمعت ابن عباس يقول: قال الله -تعالى-: {والذين يُتوفّون منكم ويَذَرون ¬

_ (¬1) البقرة: 240. (¬2) أخرجه البخاري: 4531.

أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشْراً} ولم يقل: يعتَدِدْن في بيوتهن، تعتدُّ حيث شاءت، قال سفيان: قاله لنا ابن جريج كما أخبرنا. وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: تعتدُّ المتوفّى عنها حيث شاءت. وقال عبد الرزاق عن الثوري عن إِسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كان يُرحِّل المتوفَّى عنهن في عدتهن. وذكر عبد الرزاق أيضاً، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن طاوس وعطاء، قالا جميعاً: المبتوتة والمتوفَّى عنها تَحُجّان وتعتمران، وتنتقلان وتبييتان". إِلى غير ذلك من الآثار الثابتة بالأسانيد الصحيحة، ثمّ قال (ص 686) منه: "وقال سعيد بن منصور: حدثنا هُشيم: أنبأنا إِسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أنه سُئل عن المتوفّى عنها: أتخرج في عدتها؟ فقال: كان أكثر أصحاب ابن مسعود أشدّ شيء في ذلك، يقولون: لا تخرج، وكان الشيخ -يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه- يُرحلها. وقال حماد بن سلمة: أخبرنا هشام بن عروة، أن أباه قال: المتوفّى عنها زوجها تعتدُّ في بيتها إِلا أن ينتوي أهلها فتنتوي معهم. وقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم:، أخبرنا يحيى بن مسعود هو الأنصاري، أن القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وسعيد بن المسيب قالوا في المتوفّى عنها: لا تبرح حتى تنقضي عِدَّتها. وذكر أيضاً عن ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء وجابر كلاهما قال

في المتوفّى عنها: لا تخرج". وقال -رحمه الله- (ص 686): "وذكر حماد بن زيد، عن أيوب السَّختياني، عن محمد بن سيرين أن امرأة توفي زوجها وهي مريضة، فنقَلها أهلها، ثمّ سألوا فكُلُّهم يأمرهم أن تُردَّ إِلى بيت زوجها، قال ابن سيرين: فرددناها في نمَط. وهذا قول الإِمام أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة -رحمهم الله- وأصحابهم والأوزاعي وأبي عبيد وإسحاق. قال أبو عمر بن عبد البر: وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز، والشام، والعراق، ومصر". ثمَّ قال (ص 687): "قالوا: ونحن لا نُنكر النزاع بين السلف في المسألة، ولكن السّنة تفصل بين المتنازعين، قال أبو عمر بن عبد البر: أمّا السّنة، فثابتة بحمد الله. وأمّا الإِجماع، فمستغنى عنه مع السّنة، لأن الاختلاف إِذا نزل في مسألة، كانت الحجة في قول من وافَقَتْهُ السّنة (¬1). وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: أخذ المترخّصون في المتوفّى عنها بقول عائشة -رضي الله عنها-، وأخَذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر. فإِن قيل: فهل ملازمة المنزل حقٌّ عليها، أو حقٌّ لها؟ قيل: بل هو حقٌّ عليها إِذا ترَكه لها الورثة، ولم يكن عليها فيه ضررٌ، أو كان المسكن لها، فلو حوّلها الوارث، أو طلبوا منها الأجرة، لم يلزمها السكن، وجاز لها التحول. ¬

_ (¬1) وهذا قول عزيز نفيس؛ يجب أن يعضّ طالب العلم عليه بالنّواجذ، وأنْ يسأل الله -سبحانه- أن يهبه العزيمة القوية في طلب الحق ومعرفة الصواب.

ثمّ اختلف أصحاب هذا القول: هل لها أن تتحول حيث شاءت، أو يلزمها التحول إِلى أقرب المساكن إِلى مسكن الوفاة؟ على قولين. فإِن خافت هدماً أو غرقاً، أو عدواً أو نحو ذلك، أو حوَّلها صاحب المنزل لكونه عاريّة رجع فيها، أو بإِجارة انقضت مدتها، أو منَعَها السكنى تعدياً، أو امتنع من إِجارته، أو طلب به أكثر من أجر المِثل، أو لم تجد ما تكتري به، أو لم تجد إِلا من مالها؛ فلها أن تنتقل، لأنها حال عذر، ولا يلزمها بذل أجر المسكن، وإنما الواجب عليها فِعْل السُّكنى لا تحصيل المسكن، وإذا تعذَّرت السّكنى، سقطت. وهذا قول أحمد والشافعي". وقال -رحمه الله- (ص 691 - 692): "قال الآخرون: ليس في هذا ما يوجب رد هذه السّنة الصحيحة الصريحة التي تلقّاها أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وأكابر الصحابة بالقَبول، ونفَّذها عثمان، وحَكَم بها، ولو كنّا لا نقبل رواية النساء عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لذهبت سنن كثيرة من سنن الإِسلام لا يُعرف أنه رواها عنه إِلا النساء، وهذا كتاب الله ليس فيه ما ينبغي وجوب الاعتداد في المنزل حتى تكون السّنة مخالفة له، بل غايتها أن تكون بياناً لحُكمٍ سكَت عنه الكتاب. ومثل هذا لا تُردُّ به السنن، وهذا الذي حذّر منه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعينه أن تترك السنّة إِذا لم يكن نظير حُكمها في الكتاب. وأمَّا ترك أمّ المؤمنين -رضي الله عنها- لحديث الفُريعة، فلعله لم يبلغها. ولو بَلَغَها فلعلها تأولته، ولو لم تتأوله، فلعله قام عندها معارض له. وبكل حال، فالقائلون به في تركهم لتركها لهذا الحديث؛ أعذر من التاركين له لترك أمّ المؤمنين له، فبين التركين فرقٌ عظيم.

وأمّا من قُتل مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن مات في حياته، فلم يأت قط أن نساءهم كن يعتددن حيث شئن، ولم يأت عنهن ما يُخالف حُكم حديث فُريعة ألبتة، فلا يجوز ترك السنة الثابتة لأمرٍ لا يعلم كيف كان، ولو عُلم أنهن كن يعتددن حيث شئن، ولم يأت عنهن ما يخالف حُكْم حديث الفريعة، فلعل ذلك قبل استقرار هذا الحكم وثبوته حيث كان الأصل براءة الذمة، وعدم الوجوب". وجاء في "سُبل السلام" (3/ 385) -بعد حديث فُريعة بنت مالك رضي الله عنها-: "والحديث دليل على أن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيتها الذي نوت فيه العدة، ولا تخرج منه إِلى غيره، وإلى هذا ذهب جماعة من السلف والخلف، وفي ذلك عدة روايات وآثار عن الصحابة ومن بعدهم. وقال بهذا أحمد والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم. وقال ابن عبد البر: وبه يقول جماعة من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام ومصر والعراق، وقضى به عمر بمحضر من المهاجرين والأنصار". وجاء في "الروضة الندية" (2/ 150): "وقد ذهَب إِلى العمل بحديث فريعة جماعة من الصحابة فمن بعدهم، وقد روي جواز الخروج للعذر عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم، ولم يأت من أجاز ذلك بحجة تصلح لمعارضة حديث فريعة، وغاية ما هناك روايات عن بعض الصحابة وليست بحجة، لا سيما إِذا عارضَت المرفوع". وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (7/ 207) في (التحقيق الثاني): "ثمّ رأيت ابن القيّم قد انتصر لصحة الحديث ... كما انتصر لقول من قال بوجوب العمل به -وهم الجمهور-، ويؤيّده تصحيح من صحّحه من الأئمة دون

مُعارض، وهم الترمذي وابن حبّان وابن الجارود والحاكم والذهبي ... (¬1) ". وجاء في "الفتاوى" (34/ 28): "وسُئل -رحمه الله تعالى- عن امرأة معتدة عدة الوفاة؛ ولم تعتدّ في بيتها بل تخرج في ضرورتها الشرعية: فهل يجب عليها إعادة العدّة؟ وهل تأثم بذلك؟ فأجاب: العدّة انقضت بمضي أربعة أشهر وعشر من حين الموت، ولا تقضي العدّة. فإِنْ كانت خرجت لأمر يحتاج إِليه ولم تبِتْ إِلا في منزلها فلا شيء عليها، وإِن كانت قد خرجت لغير حاجة وباتت في غير منزلها لغير حاجة، أو باتت في غير ضرورة، أو تركت الإِحداد: فلتستغفر الله وتتوب إِليه من ذلك، ولا إِعادة عليها". وجاء فيه (ص 29): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن رجل توفي وقعدت زوجته في عدته أربعين يوماً؛ فما قدرت تخالف مرسوم السلطان؛ ثمّ سافرت وحضرت إِلى القاهرة، ولم تتزين لا بطيب ولا غيره، فهل تجوز خطبتها؛ أم لا؟ فأجاب: العدة تنقضي بعد أربعة أشهر وعشرة أيام؛ فإِنْ كان قد بقي من هذه شيء فلتتمه في بيتها، ولا تخرج ليلاً ولا نهاراً إِلا لأمر ضروري؛ وتجتنب الزينة والطيب في بيتها وثيابها، ولتأكل ما شاءت من حلال، وتشم الفاكهة، وتجتمع بمن يجوز لها الاجتماع به في غير العدة؛ لكن إِنْ خطَبها إِنسان لا تجيبه صريحاً، والله أعلم". وفيه (ص 29) أيضاً: "وسئل -رحمه الله تعالى- عن امرأة عزمت على الحج هي وزوجها، فمات زوجها في شعبان: فهل يجوز لها أن تحج؟ ¬

_ (¬1) انظر المصدر المذكور لبقية الأسماء -إِن شئت-.

لا يجوز للمعتدة الرجعية الخروج إلا بإذن زوجها:

فأجاب: ليس لها أن تسافر في العدة عن الوفاة إِلى الحج في مذهب الأئمة الأربعة". انتهى. وفي بعض مجالس شيخنا -رحمه الله- سُئل عن ذهاب امرأة لدرس ديني، وهي في عدَّة الوفاة؟ فأجاب: لا يجوز للمرأة أن تغادر بيت زوجها خلال عدَّتها إِلا للضرورة، وليس هذا من الضَّرورة. وسُئل -رحمه الله- عن ذهابها لصلاة الجماعة؟ فأجاب: لا تخرج للمسجد؛ للجماعة ولا للجمعة. وسُئل -رحمه الله- عن الخروج للمعالجة؟ فأجاب: إِذا اشتدَّ المرض ولم تتمكَّن من إِحضار الطَّبيبة، فلها ذلك. وسئل -رحمه الله-: أين تعتدَّ الزَّوجة؟ فأجاب: في البيت الذي يأتيها خبر وفاة زوجها، وإذا لم يكن هناك محارم؛ تنتقل لبيت زوجها. والخُلاصة: أن المتوفّى عنها زوجها تلزم بيت الزوجية وتعتدّ فيه إِلا لضرورة، والله -تعالى- أعلم. لا يجوز للمعتدَّة الرَّجعية الخروج إِلا بإِذن زوجها: جاء في "السَّيل الجرَّار" (2/ 388): " ... وجهُهُ أنَّها لم تنقطع الزَّوجيَّة بينهما، فقد بقي له طرف منها وبقي لها طرف منه، وذلك إِذا تراجعا. ومعلوم أنَّها إِذا كانت باقية لديه غير مطلقة؛ أنَّها لا تخرج إِلا بإِذنه؛ لأنَّها قد تدعو

حداد المعتدة:

حاجته إِليها وهي خارجة عن البيت، وقد يكون عليه في خروجها ما يلحق به غضاضة أو تعتريه بسببه غيرة. ولهذا صحَّ عن النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في الصّحيحين وغيرهما أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يحلُّ للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إِلا بإِذنه" فإِذا كان هذا في الصَّوم الذي هو من أعظم القُرَبِ، فكيف بالخروج؟ وإِذا عرَفت هذا؛ عرفتَ أنَّه ينبغي لها في أيَّام عدَّة الرَّجعة أنْ لا تخرج إِلا بِإِذن زوجها؛ لأنَّه إذا كان عازماً على رجعتها لحقه من الغَضَاضَة والغيرة ما يلحقه عليها قبل طلاقها؛ إِلا أنْ يكون الخروج للحاجة ... " (¬1). حِداد المُعْتدَّة: *يجوز للمرأة أن تحدّ على قريبها ثلاثة أيام، ويحرم عليها الإِحداد فوق ذلك. أمّا الزوج؛ فيحلّ لها أن تحدّ عليه أربعة أشهر وعشراً (¬2). فعن أمِّ عطية -رضي الله عنها- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تُحدّ امرأة على ميت فوق ثلاث؛ إِلا على زوج؛ أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً؛ إِلا ثوب عَصْب (¬3)، ولا تكتحل، ولا تمس طيباً؛ إِلا إذا طهرت ¬

_ (¬1) واستدلَّ بالخروج للحاجة بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اخرجي فجدِّي نخلك ... " ولا شك أن الخروج للحاجة يرجع تقديره للمرأة؛ بتجرُّد وتقوى. (¬2) منها ثلاثة أيامٍ تلزم السَّواد، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء بنت عميس: "تسلّبي ثلاثاً ... " انظره وفقهه في "الصّحيحة" (3226). (¬3) العَصْب -بعين مفتوحة ثمّ صاد ساكنة مهملتين-: هو برود اليمن، يُعْصَبُ غزْلها ثمّ يُصبَغ معصوباً، ثمّ تنسج. ومعنى الحديث: النهي عن جميع الثياب المصبوغة للزينة؛ =

نُبذة (¬1) من قُسْط (¬2) أو أظفار (¬3) " (¬4). وعن زينب ابنة أبي سلمة قالت: "لَمّا جاء نعي أبي سفيان من الشام؛ دعت أمّ حبيبة -رضي الله عنها- بصُفرة (¬5) في اليوم الثالث، فمسحت عارضيها (¬6) وذراعيها، وقالت: إِني كنتُ عن هذا لغنيَّة؛ لولا أنّي سمعت النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدّ على ميت فوق ثلاث؛ إِلا على زوج؛ فإِنّها تُحدُّ عليه أربعة أشهر وعشراً" (¬7) * (¬8). ¬

_ = إِلا ثوب العصب. "شرح النووي". (¬1) النُّبذة: القطعة والشيء اليسير. "شرح النووي" أيضاً. (¬2) القُسط: ضرْبٌ من الطّيب، وفيل: هو العود، والقُسط: عقار معروف في الأدوية طيّب الريح؛ تبخّر به النّفساء والأطفال، وهو أشبه بالحديث؛ لإضافته إلى الأظفار. "النهاية". (¬3) الأظفار: جنس من الطيب، والقطعة منه شبيهة بالظُّفر. "النهاية" بحذف. قال النووي -رحمه الله-: "القُسط والأظفار: نوعان معروفان من البخور وليسا من مقصود الطيب، رُخّص فيه للمغتسلة من الحيض؛ لإزالة الرائحة الكريهة، تتبع به أثر الدم لا للتطيُّب. والله -تعالى- أعلم". (¬4) أخرجه البخاري: 5342، ومسلم: 938. (¬5) الصُّفرة -في الأصل-: لونٌ أصفر. والمراد هاهنا: نوع من الطّيب فيه صُفرة. قاله العيني في "عمدة القاري". (¬6) العارض: جانب الوجه وصفحة الخدّ. (¬7) أخرجه البخاري: 1280، وتقدّم نحوه. (¬8) ما بين نجمتين تقدّم في كتابي "الموسوعة" في (الجنائز) (4/ 60).

فائدة:

فائدة: جاء في "الفتاوى" (34/ 27): "المعتدَّة عدَّة الوفاة تتربَّص أربعة أشهرٍ وعشراً، وتجتنب الزِّينة والطِّيب في بدنها وثيابها، ولا تتزيَّن، ولا تتطيَّب، ولا تلبس لباس الزِّينة، وتلزم منزلها فلا تخرج بالنَّهار إِلا لحاجة، ولا بالليل إِلا لضرورة، ويجوز لها أنْ تأكل كلّ ما أباحه الله: كالفاكهة واللحم: لحم الذَّكر والأنثى، ولها أكْل ذلك باتِّفاق علماء المسلمين، وكذلك شُرْب ما يُباح من الأشربة ويجوز لها أنْ تلبس ثياب القطن والكتَّان، وغير ذلك مما أباحه الله، وليس عليها أنْ تصنع ثياباً بيضاء أو غير بيض للعدَّة، بل يجوز لها لبس المقفص (¬1)؛ لكن لا تلبس ما تتزيَّن به المرأة: مثل الأحمر، والأصفر، والأخضر الصّافي، والأزرق الصَّافي، ونحو ذلك ولا تلبس الحُلِي مِثل الأسورة، والخلاخل، والقلائد، ولا تختضب بحنَّاء ولا غيره؛ ولا يحرم عليها عمل شُغلٍ من الأشغال المباحة: مثل التَّطريز، والخياطة، والغَزْل، وغير ذلك مما تفعله النِّساء. ويجوز لها سائر ما يُباح لها في غير العِدَّة: مثل كلام من تحتاج إِلى كلامه من الرِّجال إِذا كانت مُستترة، وغير ذلك. وهذا الذي ذكرته هو سُنَّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كان يفعله نساء الصَّحابة إِذا مات أزواجهنّ (ونساؤه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ... ". والله أعلم. ماذا إِذا نكحت المرأة في عدَّتها إِذا نكحت المرأة في عدَّتها؛ فإِنَّه يُفَرَّق بينهما، ولها الصَّداق بما استحلّ من فرجها، وتكمل ما أفسدت من عدَّة الأوَّل وتعتدّ من الآخر، وذلك لأثر ¬

_ (¬1) أي المخطَّط.

نفقة المعتدة

سليمان بن يسار: أنَّ طليحة الأسديَّة كانت تحت رشيد الثَّقفي، فطلَّقها، فنَكَحت في عدَّتها، فضربها عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه-، وضرب زوجها بالمِخفقة (¬1) ضربات، وفرَّق بينهما، ثمَّ قال عمر بن الخطَّاب: "أيّما امرأة نكحَت في عدّتها، فإِن كان زوجها الذي تزوَّجها لم يدخل بها، فرِّق بينهما، ثمّ اعتدَّت بقيَّة عدَّتها من زوجها الأوَّل، ثمَّ كان الآخر خاطباً من الخطَّاب، وإن كان دخل بها، فرَّق بينهما، ثمَّ اعتدَّت بقيَّة عدَّتها من الأوَّل ثمَّ اعتدَّت من الآخر، ثمَّ لا يجتمعان أبداً؟ قال سعيد: ولها مهرها بما استحلَّ منها" (¬2). نَفَقَة المُعْتَدَّة إِذا كانت عدّة المرأة رجعية فإِنها تجب لها السكنى والنفقة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس -رضي الله عنها-: "إِنّما النفقة والسُّكنى للمرأة إِذا كان لزوجها عليها الرجعة" (¬3). وإذا كانت مبتوتة فلا نفقة لها ولا سُكْنى (¬4)، كما في حديث فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- المتقدم، وفي رواية عنها: "أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب. فأرسل إِليها وكيله بشعير. فسخطته، فقال: والله! ما لكِ ¬

_ (¬1) المِخفقة: الدِّرّة، وهي التي يُضرب بها. (¬2) أخرجه مالك في "الموطَّأ" وصحَّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2124). (¬3) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائى" (3186) وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (1711). (¬4) وانظر -إِن شئت المزيد- ما جاء في "تهذيب السنن" لابن القيّم -رحمه الله- مع "عون المعبود" (6/ 277).

علينا من شيء. فجاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له. فقال: "ليس لكِ عليه نفقة" (¬1). وفي رواية: "لا نفقة لك ولا سُكنى" (¬2). أمَّا قوله -تعالى-: {أسكنوهن من حيث سكنتم مِن وُجْدِكم} (¬3) فهذا سياقه في الرجعيَّة، كما ذكَر ابن القيّم -رحمه الله- في "تهذيب السنن" (¬4). ولا نفقة للمبتوتة إِلا أن تكون حامِلاً؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا نفقة لك؛ إِلا أن تكوني حاملاً" (¬5). ولا نفقة للمعتدة من وفاة إِلا أنْ تكون حاملاً كذلك. جاء في "الروضة" (2/ 165): " ... ولا في عدّة الوفاة؛ فلا نفقة ولا سُكنى إِلا أن تكونا حاملتين؛ لعدم وجود دليلٍ يدلّ على ذلك في غير الحامل، ولا سيّما بعد قوله -صلى الله عديه وآله وسلم-: "إِنما النفقة والسُّكنى للمرأة إِذا كان لزوجها عليها الرجعة، فإِذا لم يكن عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1480. (¬2) أخرجه مسلم: 1480. (¬3) الطلاق: 6. (¬4) انظر التفصيل في "العون" (6/ 278). (¬5) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي، ورواه مسلم بمعناه، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء": (2160). (¬6) تقدم تخريجه قبل سطور.

وفيه (ص 166): "ويؤيده أيضاً تعليل الآية المتقدمة بقوله -تعالى-: {لا تدري لعلّ الله يُحدِثُ بعد ذلك أمراً} (¬1) وهو الرجعة، ولم يبق في عدة الوفاة ذلك الأمر. ويفيده أيضاً مفهوم الشرط في قوله -تعالى-: {وإنْ كنّ أولاتِ حملٍ فأنفقوا عليهنّ حتّى يضعن حملهنّ} (¬2) وهي أيضاً تدل على وجوب النفقة للحامل سواء كانت في عدة الرجعي، أو البائن، أو الوفاة، وكذلك يدل على ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس: "لا نفقة لكِ إلاَّ أن تكوني حاملاً" (¬3). وقال في الصفحة نفسها: "وينبغي أن يُقيَّد عدم وجوب السكنى لمن في عدة الوفاة؛ بما تقدّم في وجوب اعتدادها في البيت الذي بلَغها موت زوجها وهي فيه، فإِنَّ ذلك يفيد أنها إِذا كانت في بيت الزوج؛ بقيت فيه حتى تنقضي العدة؛ ويكون ذلك جمعاً بين الأدلة؛ من باب تقييد المطلق، أو تخصيص العام فلا إِشكال". وفيه (ص 167): "الحقُّ أنّ المتوفى عنها زوجها لا تستحق في عدة الوفاة لا نفقة، ولا سكنى، سواء كانت حاملاً أو حائلاً؛ لزوال سبب النفقة بالموت، واختصاص آية السكنى بالمطلَّقة رجعياً، واختصاص آية إِنفاق الحامل بالمطلَّقة ... فإِذا مات وهي في بيته اعتدت فيه لا لأنَّ لها السُّكنى؛ بل لوجوب الاعتداد عليها في البيت الذي مات وهي فيه". ¬

_ (¬1) الطلاق: 1. (¬2) الطلاق: 6. (¬3) تقدَّم قبل سطور.

وقال -رحمه الله- (ص 167) أيضاً: "فتقرر بمجموع ما ذُكِر أن المتوفّى عنها مطلقاً؛ كالمطلقة بائناً، إِذا لم تكن المطلقة بائناً حاملاً في عدم وجوب النفقة والسكنى، فإِنْ كانت المطلقة بائناً حاملاً؛ فلها النفقة ولا سُكنى لها. وأمّا المطلقة الرجعية فلها النفقة والسكنى سواء كانت حاملاً أو حائلاً. وأمّا المطلقة قبل الدخول فلا عدة عليها؛ فالنفقة ساقطة بلا ريب، وكذلك السكنى، والمتعة المذكورة لها في القرآن هي عِوَض عن المهر. والملاعِنة لا نفقة لها ولا سكنى؛ لأنها إِنْ كانت المطلقة بائناً كانت مثلها في ذلك، وإن كانت المتوفى عنها زوجها فكذلك ... ".

الحضانة

الحضانة

تعريفها:

الحِضانة تعريفها: الحِضانة: -بكسْر الحاء المهملة- مصدر من حضن الصبي حضناً وحضانة: جَعَلَه في حضنه، أو ربّاه فاحتضنه، والحِضْن -بكسر الحاء- هو ما دون الإِبط إِلى الكشح (¬1) والصدر: أو العضدان وما بينهما، وجانب الشيء أو ناحيته؛ كما في "القاموس". وفي الشرع: حِفظ من لا يستقل بأمره وتربيته ووقايته عمَّا يهلكه أو يضره (¬2). الحِضانة حقٌّ مشترك (¬3): الحِضانة حقٌّ للصغير، لاحتياجه إِلى مَن يرعاه، ويحفظه، ويقوم على شؤونه، ويتولى تربيته، ولأمِّه الحقّ في احتضانه كذلك، لقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنت أحقُّ به" (¬4). وإذا كانت الحِضانة حقَّاً للصغير، فإِن الأمّ تُجبر عليها إذا تعيَّنَت، بأن يحتاج الطفل إِليها، ولم يوجد غيرها، كيلا يضيع حقّه في التربية والتأديب، فإِن لم تتعين الحضانة، بأن كان للطفل جدّة، ورضيت بإِمساكه، وامتنعت الأمّ، فإِنَّ حقّها في الحضانة يسقط بإِسقاطها إِياه، لأن الحضانة حقٌّ لها. ¬

_ (¬1) وهو ما بين الخاصرة والضُّلوع. (¬2) انظر "سبل السلام" (3/ 429). (¬3) عن "فقه السنّة" (3/ 106). (¬4) جزء من الحديث الآتي تخريجه إِن شاء الله -تعالى-.

الأولى بحضانة الطفل أمه ما لم تنكح:

الأولى بحضانة الطفل أُمّه ما لم تنكح: الأولى بالطفل أمُّه ما لم تنكح؛ فعن عبد الله بن عمرو "أنّ امرأة قالت: يا رسول الله إِنّ ابني هذا كان بطني له وعاءً وثديي له سقاءً، وحِجري (¬1) له حواءً (¬2)، وإنّ أباه طلَّقني، وأراد أن ينتزعه منّي. فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتِ أحقُّ به ما لم تنكحي" (¬3). وجاء في "الرّوضة" (2/ 183): "وقد وقع الإِجماع على أنّ الأمّ أولى بالطّفل من الأب. وحكى ابن المنذر الإِجماع: "على أن حقّها يبطل بالنّكاح، وقد رُوي عن عثمان أنّه لا يبطل بالنّكاح؛ وإليه ذَهَب الحسن البصري، وابن حزم، واحتجّوا ببقاء ابن أمّ سلمة في كفالتها بعد أن تزوّجت بالنّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ويجاب عن ذلك؛ بأنّ مجرَّد البقاء مع عدم المنازع لا يُحتجُّ به؛ لاحتمال أنّه لم يبق له قريب غيرها ... ". وانظر للمزيد من الفائدة -إن شئت- ما جاء في "الصّحيحة" تحت الحديث (368). حضانة الأب: وفي الحديث المتقدّم: " ... وإنّ أباه طلّقني، وأراد أن ينتزعه منّي، فقال ¬

_ (¬1) أي حضني. (¬2) أي يضمّه ويجمعه. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1991) وحسَّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2187).

إذا بلغ الصبي سن التمييز خير بين أبويه:

لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنت أحقُّ به ما لم تنكحي" دليل على حضانة الأب بعد الأم. إِذا بلغ الصّبي سنَّ التمييز خُيِّر بين أبويه: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "إِنَّ امرأة جاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: فداك أبي وأمّي، إِنّ زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد نَفَعَني وسقاني من بئر أبي عِنبة (¬1) فجاء زوجها وقال: من يخاصمني في ابني؟ فقال: يا غلام! هذا أبوك، وهذه أمّك، فخذ بيد أيّهما شِئتَ. فأخَذ بيد أمّه، فانطلقَت به" (¬2). قال الخطّابي في "المعالم": هذا في الغلام الذي قد عقل واستغنى عن الحضانة، وإذا كان كذلك؛ خُيِّرَ بين والديه (¬3). وقال شيخنا -رحمه الله- في التعليق على "الرّوضة" (2/ 338) في التخيير: "وينبغي أن لا يكون هذا على إِطلاقه، بل يقيّد بما إِذا حصلت به مصلحة الولد؛ وإلا فلا يلتفت إِلى اختيار الصّبي، لأنه ضعيف العقل، وتفصيل هذا في الزاد" انتهى. وإِليك -يرحمني الله وإيّاك- كلام ابن القيّم الذي أشار إِليه شيخنا ¬

_ (¬1) أي: أظهرت حاجتها إلى الولد، ولعلَّ محمل الحديث بعد مدّة الحضانة مع ظهور حاجة الأمِّ إلى الولد، واستغناء الأب عنه، مع عدم إِرادته إِصلاح الولد، قاله السندي كما في "عون المعبود" (6/ 266). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1992)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1094)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1903)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3271)، واللفظ له. وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (992). (¬3) انظر "عون المعبود" (6/ 266).

-رحمهما الله تعالى- في "زاد المعاد/ (4/ 475): "فمن قدّمناه بتخيير أو قرعة أو بنفسه، فإِنما نقدِّمه إِذا حصَلت به مصلحة الولد، ولو كانت الأمُّ أصون من الأب وأغير منه قُدّمت عليه، ولا التفات إِلى قُرعة ولا اختيار الصّبي في هذه الحالة، فإِنه ضعيف العقل يؤثر البطالة واللعب، فإِذا اختار من يساعده على ذلك، لم يُلتَفت إِلى اختياره، وكان عند من هو أنفع له وأخير، ولا تحتمل الشريعة غير هذا، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قال: "مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع" (¬1) والله -تعالى- يقول: {يا أيُّها الذين آمنوا قُوا أَنْفسَكُمْ وأهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ} (¬2). وقال الحسن: علِّموهم وأدِّبوهم وفقِّهوهم، فإِذا كانت الأمُّ تتركه في المكتب، وتُعلِّمه القرآن، والصّبيّ يُؤْثِر اللعب ومعاشرة أقرانه، وأبوه يمكنه من ذلك، فإِنها أحقّ به بلا تخيير، ولا قرعة، وكذلك العكس، ومتى أخلّ أحد الأبوين بأمر الله ورسوله في الصّبيّ وعطّله، والآخر مُراعٍ له، فهو أحقّ وأولى به. وسمعت شيخنا -رحمه الله- يقول: تنازع أبوان صبيّاً عند بعض الحكّام، فخيّره بينهما، فاختار أباه، فقالت له أمّه: سله لأي شيء يختار أباه، فسألَه، فقال: أمّي تبعثني كلّ يوم للكتاب، والفقيه يضربني، وأبي يتركني للّعب مع الصبيان، فقضى به للأمّ. قال: أنت أحقُّ به. قال شيخنا: "وإذا ترك أحد الأبوين تعليم الصبي، وأمْره الذي أوجبه الله ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (466)، وغيرهم وانظر "الإِرواء" (247). (¬2) التحريم: 6.

الاقتراع على الولد:

عليه، فهو عاصٍ ولا ولاية له عليه، بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته، فلا ولاية له، بل إِمّا أن تُرفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب، وإمَّا أن يُضمّ إِليه من يقوم معه بالواجب، إِذ المقصود طاعة الله ورسوله بحسب الإِمكان". الاقتراع على الولد: عن هلال بن أسامة: أنَّ أبا ميمونة سليم (¬1) مولى مِن أهل المدينة -رجلُ صِدْقٍ- قال: بينما أنا جالس مع أبي هريرة، جاءته امرأة فارسية، معها ابن لها، فادعياه، وقد طلَّقها زوجها، فقالت: يا أبا هريرة -رضي الله عنه- ورطنت له بالفارسية - زوجي يريد أن يذهب بابني، فقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: استهِما (¬2) عليه -ورطن لها بذلك- فجاء زوجها فقال: من يُحاقّني (¬3) في ولدي؟ فقال أبو هريرة: اللهمّ! إِني لا أقول هذا، إِلا أنّي سمعتُ امرأةً جاءت إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنا قاعد عنده، فقالت: يا رسول الله، إِنّ زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عِنبة، وقد نفَعَني، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "استهِما عليه" فقال زوجها: من يحاقّني في ولدي؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا أبوك، وهذه أمّك، فخذ بيد أيّهما شئت فأخذ بيد أمّه، فانطلَقَت به" (¬4). قال ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (5/ 468) -ناقلاً أقوال العلماء-: ¬

_ (¬1) أي: اقترعا عليه. (¬2) أي: ينازعني. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1992)، والنسائي، والدارمي، وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (2192)، وتقدم مختصراً غير بعيد. (¬4) قال في "تهذيب التهذيب": "قيل اسمه: سليم؛ وقيل: سلمان؛ وقيل: أسامه".

"قد ثبَت التخيير عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الغلام من حديث أبي هريرة، وثبت عن الخلفاء الراشدين، وأبي هريرة، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة ألبتة، ولا أنكَره مُنكِر. قالوا: وهذا غاية في العدل الممكن، فإِنّ الأمّ إِنما قُدِّمت في حال الصغر لحاجة الولد إِلى التربية والحمل والرضاع والمداراة التي لا تتهيأ لغير النساء، وإِلا فالأمّ أحد الأبوين، فكيف تُقدّم عليه؟ فاذا بلغ الغلام حدّاً يُعرِب فيه عن نفسه، ويستغني عن الحمل والوضع وما تعانيه النساء، تساوى الأبوان، وزال السبب الموجب لتقديم الأمّ، الأبوان متساويان فيه، فلا يُقدَّم أحدهما إِلا بمرجِّح، والمرجِّح إِمّا من خارج، وهو القرعة، وإمّا من جهة الولد، وهو اختياره. وقد جاءت السُّنة بهذا وهذا، وقد جمَعَهما حديث أبي هريرة، فاعتبرناهما جميعاً، ولم ندفع أحدهما بالآخر، وقدَّمنا ما قدَّمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأخَّرنا ما أخَّره، فقدّم التخيير، لأنَّ القرعة إِنما يصار إِليها إِذا تساوت الحقوق من كل وجه، ولم يبق مُرجِّح سواها، وهكذا فَعَلْنا ها هنا؛ قدَّمنا أحدهما بالاختيار، فإِن لم يختر، أو اختارهما جميعاً، عَدَلْنا إِلى القرعة، فهذا لو لم يكن فيه موافقة السنة، لكان مِن أحسن الأحكام، وأعدلها، وأقطعها للنزاع بتراضي المتنازعين. وفيه وجه آخر في مذهب أحمد والشافعي: أنه إِذا لم يختر واحداً منهما كان عند الأمِّ بلا قرعة، لأن الحضانة كانت لها، وإنما ننقله عنها باختياره، فإِذا لم يختر، بقي عندها على ما كان. انتهى. وعن رافع بن سنان: "أنه أسلم، وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: ابنتي وهي فطيم -أو شبهه- وقال رافع: ابنتي، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقعدْ ناحية، وقال لها: اقعدي ناحية، قال: وأقعَد الصبيَّة بينهما، ثم قال:

ضابط باب الحضانة:

ادعُواها، فمالت الصبية إِلى أمِّها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم اهدها، فمالت الصبيَّة إِلى أبيها فأخَذَها" (¬1). وعن عبد الرحمن بن غَنْم قال: "شهدت عمر خيّر صبيَّا بين أبيه وأمِّه" (¬2). ضابط باب الحضانة: وفي ضابط باب الحضانة أقوال عديدة (¬3)، وفيه بَسْط وتفصيل، وجاء في "زاد المعاد" (5/ 450): "وقد ضبط هذا البابَ شيخُنا -شيخ الإِسلام ابن تيمية- بضابط آخر فقال: أقرب ما يضبط به باب الحضانة أن يقال: لما كانت الحضانة ولاية تعتمد الشفقة والتربية والملاطفة؛ كان أحقّ الناس بها أقومَهم بهذه الصفات، وهم أقاربه يقدّم منهم أقربهم إليه وأقومُهم بصفات الحضانة، فإِنِ اجتمع منهم اثنان فصاعداً، فإِن استوت درجتهم قُدِّم الأنثى على الذكر. فتُقدَّم الأمّ على الأب، والجدة على الجد، والخالة على الخال، والعمَّة على العم، والأُخت على الأخ، فإِن كانا ذكَرين أو أُنثيين؛ قُدِّم أحدهما بالقرعة يعني مع استواء درجتهما. وإِنِ اختلفت درجتهما من الطِّفل فإِنْ كانوا مِن جِهةٍ واحدة، قُدِّم الأقرب إِليه، فتُقدَّم الأخت على ابنتها، والخالة على خالة الأبوين، وخالة الأبوين على خالة الجد والجدة، والجد أبو الأم على الأخ للأمّ. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1963)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1904)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3270). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2194). (¬3) راجع -إِن شئت المزيد- "زاد المعاد" (5/ 432).

هذا هو الصحيح؛ لأن جهة الأبوة والأمومة في الحضانة أقوى من جهة الأخوة فيها. وقيل: يقدم الأخ للأم؛ لأنه أقوم من أب الأم في الميراث. والوجهان في مذهب أحمد". وجاء في "السيل الجرّار" (2/ 438): "والحاصل أنّ الحقّ في الحضانة للأمّ ثم للخالة، فإِنْ عُدما فالأب أولى بولده يضعه حيث يشاء من قرائبه أو غيرهن. وإذا وقع النزاع بينه وبين الأمّ أو الخالة؛ كان الحَكَم ما تقدم في الأحاديث كما بيَّنَّا. وإذا كان الأب لا يُحسِن حضانة ولده، أَو ليس ممن يقوم برعاية مصالحه؛ كان للحاكم أَن يُعيِّن من يحضنه من قرائبه أَو غيرهن. وهكذا إِذا كان الأب غير موجود" انتهى. والحاصل أنَّ الأمر يدور حول مصلحة الولد وإحسان حضانته وتنشئته، وللحاكم أن يقدّر ذلك، وله فصْل النزاع بما يراه، فهو يختار من هو مَظِنَّةُ الحُنوِّ والرِّعاية، وهو الذي يُرجّح الأفضل في ضوء الكلام المتقدّم. والله -تعالى- أعلم (¬1). تمَّ بحمد الله -تعالى- وتوفيقه. انتهيتُ مِن مقابلته وتصحيحه والنَّظر فيه يوم الأحد في /10/ربيع ثانٍ/ 1425 هـ ¬

_ (¬1) انظر للمزيد من الفائدة في هذا المبحث -إِن شئت- "المحلى" (11/ 742 - 762)، و"المغني" (9/ 297 - 313)، و"الفتاوى" (34/ 107 - 135)، و"السيل الجرّار" (2/ 436 - 444)، و"سبل السلام" (3/ 429).

الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الجزء السادس كتابُ الحدود والجنايات والقصاص والديات والضمان والقسامة والتعزير بقلم حسين بن عودة العوايشة المكتبة الإسلامية دار ابن حزم

بسم الله الرحمن الرحيم

الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1426 هـ - 2005 م المكتبة الإسلامية ص ب: (113) الجبهية؛ هاتف 5342887 عمَّان - الأردن دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص ب: 6366/ 14 - تليفون: 701974

-[مقدّمة المؤلف]- إِنّ الحمد لله، نحمَدُه ونستعينهُ ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شرور أَنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه الله فَلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلل فلا هاديَ لهُ. وأَشهَد أنْ لا إله إِلاَّ الله، وحدَه لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمداً عَبدهُ ورَسولهُ. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3). أمَّا بعد: فإِنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدْي محمّد، وشرّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النَّار، ¬

_ (¬1) آل عمران: 102. (¬2) النساء: 1. (¬3) الأحزاب: 70 - 71.

فهذا هو الجزء السادس من كتابي "الموسوعة الفقهيّة الميسّرة في ضوء الكتاب والسّنة المطهرة" قد تضمّن كتاب الحدود والردّة والزندقة والحِرابة والجنايات والقِصاص والدِّيات والضمان والقسامة والتعزير. وأنا ماضٍ على منهجي نفسه؛ في الانتفاع مِن كتب الفقه؛ مفيداً من علماء الأمّة، مع تحرّي الدليل من الكتاب والسّنة وآثار السلف الصالح. ومازلت أستفيد من ترتيب السيد سابق -رحمه الله تعالى- من عناوينه وأدلّته -كما سبقَت الإِشارة من قبل- وكما هو الحال في إِفادتي من كتب شيخنا -رحمه الله- وتحقيقاته وتخريجاته. وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يتقبّل منّي عملي، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وألا يجعل لأحدٍ فيه شيئاً. وأسأله -سبحانه- أن ينفع بي وأن يجعلني مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشرّ، وأن يحشرني مع الذين أنعم الله عليهم؛ من النبيّين والصّدّيقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقاً. وكتب: حسين بن عودة العوايشة عمّان- 4 جمادى الآخرة 1426 هـ

الحدود

الحدود

الحدود

الحدود تعريفها: جمع حدّ وأصْله في اللغة ما يُحجَز به بين شيئين فيمنع اختلاطهما، وسميت هذه العقوبات حدوداً لكونها تمنع عن المعاودة، ويطلق الحد على التقدير. وهذه الحدود مقدرة من الشارع، ويُطلقَ الحد على نفس المعاصي، نحو قوله -تعالى-: {تلك حدود الله فلا تقربوها} (¬1). وعلى فِعْلٍ فيه شيء مُقدّر (¬2)، نحو قوله: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}. (¬3). واصطلاحاً: هي عقوبة مقدّرة؛ وجبَت حقّاً لله -سبحانه- لتمنع من الوقوع في محارم الله -تعالى- وتزجره بعد الوقوع كذلك. جرائم الحدود: "قرّر الكتابُ والسّنّة عقوبات محدّدة لجرائم معينة تسمّى "جرائم الحدود" وهذه الجرائم هي: الزنا، والقذف والسرقة والسُّكر والمحاربة والردة والبغي، فعلى من ارتكب جريمة من هذه الجرائم عقوبة محدّدة قرّرها الشارع" (¬4). وسيأتي التفصيل في موضعه -إِن شاء الله تعالى-. ¬

_ (¬1) البقرة: 187. (¬2) "سبل السلام" (4/ 3). (¬3) الطلاق: 1. (¬4) عن "فقه السنة" (3/ 123).

وجوب إقامة الحدود:

وجوب إِقامة الحدود: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حدٌّ يُعْمل به في الأرض؛ خير لأهل الأرض من أن يُمْطَرُوا أربعين صباحاً" (¬1). *وكلّ عملٍ من شأنه أن يُعطِّل إِقامة الحدود؛ فهو تعطيل لأحكام الله ومحاربة له؛ لأنّ ذلك من شأنه إِقرار المنكَر وإِشاعة الشر* (¬2). وقد نهى الله -تعالى- عباده المؤمنين أن تأخذهم الرأفة في دينه قال -سبحانه -: {الزانية والزاني فاجلدوا كلَّ واحد منهما مائة جلدةٍ ولا تأخُذكم بهما رأفة في دين الله إِن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} (¬3). تحريم الشفاعة في الحدود إِذا بلغت السلطان: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله فقد ضادّ الله في أمره" (¬4). وعن عائشة -رضي الله عنها- أنّ قريشاً أهمّتهم (¬5) المرأة المخزومية التي ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2057)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4554)، وانظر "الصحيحة" (231). (¬2) ما بين نجمتين عن "فقه السنة" (3/ 127). (¬3) النور: 2. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3066)، وانظر "الصحيحة" (437)، و"الإِرواء" (2318). (¬5) أهمتهم المرأة: أي أجلبت إليهم همّاً أو صيّرتهم ذوي همّ؛ بسبب ما وقع منها، يقال: أهمّني الأمر أي: أقلقني. "فتح".

سرَقَت فقالوا: من يكلّم فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن يجترئ (¬1) عليه إِلا أُسامة حبُّ (¬2) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فكلّم رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أتشفعُ في حدٍّ من حدود الله؟ ثمّ قام فخطب فقال: يا أيها النّاس إِنما ضلَّ من كان قبلكم أنهم كانوا إِذا سرق الشريف تركوه، وإِذا سرق الضعيف، [وفي رواية (¬3): الوضيع (¬4)] فيهم أقاموا عليه الحدَّ، وأيم (¬5) الله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعَ محمّد يدها" (¬6). وقد وجّهنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى العفو وعدم رفْع الحدود إِلى الأئمّة. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تعافوا (¬7) ¬

_ (¬1) من يجترئ: مِن الجُرأة، وهي الإقدام بإدلال. "الفتح" أيضاً. (¬2) الحِبّ: المحبوب. (¬3) انظر "صحيح البخاري" (6787). (¬4) مِن الوضع، وهو النقص. "فتح". (¬5) أيم الله من ألفاظ القسم، كقولك لعمر الله وعهد الله، وفيها لغات كثيرة، وتُفتَح همزتها وتُكسر، وهمزتها وصْل، وقد تُقْطع، وأهل الكوفة من النحاة يزعمون أنها جمع يَمين، وغيرهم يقول: هي اسمٌ موضوعٌ للقسم. "النهاية". (¬6) أخرجه البخاري؛ 6788، ومسلم: 1688. (¬7) جاء في "عون المعبود" (12/ 26): "تعافوا: أمر من التعافي، والخطاب لغير الأئمّة. الحدود: أي تجاوزوا عنها ولا ترفعوها إليّ فإنيّ متى علمتها أقمتها". قاله السيوطي. "فما بلغني مِن حدٍّ فقد وجب" أي: فقد وجب عليّ إقامته. وفيه أن الإِمام لا يجوز له العفو عن حدود الله إذا رُفِع الأمر إِليه".

درء الحدود بالشبهات:

الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدّ فقد وجَبَ" (¬1). وعن صفوان بن أميّة قال: "كنت نائماً في المسجد عليّ خميصةٌ لي ثمنُ ثلاثين درهماً، فجاء رجل فاختلسَها مني، فأُخِذَ الرجل، فأُتي به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأَمَر به ليُقطَع. قال: فأتيته، فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً، أنا أبيعه وأنسئه ثمنها؟ قال: فهلاّ كان هذا قبل أن تأتيني به" (¬2). درء الحدود بالشُّبهات: عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ادرؤوا الحدود والقتْل عن المسلمين ما استطعتم" (¬3). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لما أتى ماعزُ بن مالكٍ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: لعلّك قبَّلت أو غمزْتَ أو نَظَرْت؟ قال: لا يا رسول الله: قال: أنِكْتَها؟ -لا يُكنّي- قال: فعنْد ذلك أمَر برجْمه" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3680)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4539)، و"المشكاة" (3568). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3693)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2103)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4532)، وصححه شيخنا -رحمه الله - في "الإِرواء" (2317). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (8/ 26): "حسن الإِسناد". (¬4) أخرجه البخاري (6824).

وبوّب الإِمام البخاري -رحمه الله- لهذا الحديث بقوله: (باب هل يقول الإِمام للمُقرّ: لعلّك لمسْتَ أو غمزْت): جاء في "الفتح ... "هذه الترجمة معقودةٌ لجواز تلقين الإِمام المقرَّ بالحدّ ما يدفعه عنه ... " (¬1). عن بريدة -رضي الله عنه- قال: "جاء ماعز بن مالك إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! طهِّرني. فقال: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إِليه. قال: فرجع غير بعيد، ثمّ جاء فقال: يا رسول الله طهِّرني. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ويحك ارجْع فاستغفر الله وتب إِليه. قال: فرجع غير بعيد، ثمّ جاء فقال: يا رسول الله طهِّرني، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل ذلك حتى إِذا كانت الرابعة قال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِيمَ أطهرك؟ فقال: من الزنى. فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أبه جنون؟ فأخْبر أنه ليس بمجنون. فقال: أشَرِب خمراً، فقام رجل فاسْتَنْكَهَه (¬2) فلم يجد منه ريح خمر. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أزنيت؟ فقال نعم، فأمر به فرُجم. فكان النّاس فيه فرقتين: قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطتْ به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعزٍ: أنّه جاء إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضع يده في يده ثمّ قال: اقتلني بالحجارة. قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة. ثمّ جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم جلوس ¬

_ (¬1) وتتمة القول: "وخصّه بعضهم بمن يظن به أنه أخطأ أو جهل". ولا دليل على هذا. (¬2) أي شم رائحة فمه "النووي".

من يقيم الحدود؟

فسلَّم ثمّ جلس، فقال: استغفروا لماعز بن مالك. قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك. قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد تاب توبةً لو قُسمت بين أمّةٍ لوسعتهم. قال: ثمّ جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله! طهِّرني. فقال: ويحكِ! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إِليه. فقالت: أراك تُريد أن تُرَدِّدَني كما ردّدْت ماعز بن مالك. قال: وما ذاك؟ قالت: إِنّها حُبلى من الزنى، فقال: آنتِ؟ قالت: نعم، فقال لها: حتّى تضعي ما في بطنك. قال: فكَفَلهَا رجل من الأنصار حتّى وضعت، قال: فأتي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: قد وضعت الغامدّية. فقال: إِذاً لا نرجمها وندَعُ ولدها صغيراً ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار فقال: إِليّ رَضاعه يا نبي الله قال: فرجَمها" (¬1). من يُقيم الحدود؟ لا يُقيم الحدّ إِلا الإِمام أو من يُنيبه، ومن استقرأ الأحاديث وجد ذلك. قال الشيخ إِبراهيم بن ضويّان -رحمه الله-: "في منار السبيل" (2/ 322): "ولا يقيمه إِلا الإِمام أو نائبه سواءٌ كان الحدّ لله -تعالى- كحدّ الزنى، أو لآدمي، كحدّ القذف، لأنه يفتقر إِلى الاجتهاد، ولا يُؤمَن فيه الحيف، فوجب تفويضه إِليه، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقيم الحدود في حياته، وكذا خلفاؤه من بعده. ونائبه كهو، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " .. واغْدُ يا أنيس إِلى امرأة هذا، فإِن اعترفت ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1695).

التستر في الحدود:

فارجمها، فاعترفت فَرجَمها" (¬1). "وأمَر برجم ماعز ولم يحضره" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن سرَقَ فاقطعوا يده، ثمّ إِنْ سرَقَ فاقطعوا رجله" (¬3). التستُّر في الحدود: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبىّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من سترَ مسلماً سترَه الله في الدنيا والآخرة" (¬4). عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النّبيّ قال: "من ستر عورة أخيه المسلم، ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم؛ كشف الله عورته؛ حتى يفضحه بها في بيته" (¬5). وفي هذا الستر تفصيل لا بُدّ مِن بيانه، فإِنْ كان الذنب يضيّع حقوق الآخرين؛ كجريمة القتل أو الاغتصاب ونحوهما؛ فإِنه لا يجوز أن يُستر عليه، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6828)، ومسلم (1697). (¬2) تقدم حديث ماعز، وسيأتي موطن الشاهد منه -إِن شاء الله تعالى- وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هلا- تركْتُموه؛ لعلّه أن يتوب فيتوب الله عليه". (¬3) أخرجه الدارقطني وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2434). (¬4) أخرجه مسلم (2699). (¬5) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2063)، وانظر "الصحيحة" (2341).

ستر المسلم على نفسه:

بل الواجب كشف ذلك؛ إِحقاقاً للحقّ وإِبطالاً للباطل وإِن كان الأمر لا يضرّ بالآخرين؛ فهنا محلّ الستر، ومثل ذلك أن يرى أحدهم رجلاً وامرأة على حالٍ شنيع ثمّ يلمس النّدم منهما، وأنهما يعزمان على التوبة، والإِقبال على الله -تعالى- وانظر ما جاء من فوائد في "الصحيحة" تحت الحديث (3460). ستر المسلم على نفسه: عن أبي هريرة يقول سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "كل أمتي مُعافى إِلا المجاهرين، وإِنَّ من المجاهرة أن يعمل الرجلُ بالليل عملاً ثمّ يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد باتَ يسترُه ربه ويصبح يكشف سترَ الله عنه" (¬1). الحدود كفّارة للآثام: عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: كنّا عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أتُبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا؟ وقرأ آية النساء فمن وفى منكم (¬2) فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب [في الدنيا] فهو كفّارة له، ومن أصاب منها شيئاً من ذلك فستره الله فهو إِلى الله؛ إِن شاء عذّبه وإِن شاء غفر له" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6069)، ومسلم (2990). (¬2) أي: ثبتَ على العهد. (¬3) أخرجه البخاري (4894)، ومسلم (1709) والزيادة عند البخاري (18).

النهي عن إقامة الحدود في المساجد:

النهي عن إِقامة الحدود في المساجد: عن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- أنّه قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُسْتَقاد (¬1) في المسجد، وأن تنْشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود" (¬2). اتقاء ضرْب الوجه في الحدود: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا ضرب أحدكم أخاه فليجْتَنِب الوجه" (¬3). الخمر: أجمع المسلمون على تحريم الخمر والنصوص في ذلك معلومة (¬4). ما هي الخمر؟ سُمّيت خمراً؛ لأنها تُركت فاختَمَرت، واختمارها تغيُّر ريحها، وقيل: ¬

_ (¬1) يستقاد: أي يطلب القَوَد أي القِصاص. "عون المعبود". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3769)، وانظر "الإِرواء" (2327). (¬3) أخرجه البخاري (2559)، ومسلم (2612) بلفظ " إِذا قاتل ... ". (¬4) ومن الأحاديث الشريفة قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الخمر أمّ الفواحش وأكبر الكبائر، مَنْ شَربها وقع على أمّه وخالته وعمّته". أخرجه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير" وحسّنه شيخنا -رحمه الله- بمجموع الطّرق في "الصحيحة" (1835) وفي رواية: "الخمر أم الخبائث، ومَن شربها لم يقبل الله منه صلاةً أربعين يوماً، فإِن مات وهي في بطنه؛ مات ميتةً جاهلية". أخرجه الطبراني في "الأوسط" وغيره، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (1854).

سُميّت بذلك لمخامرتها العقل أي: مخالطتها وتغطيته (¬1). ويتضمّن الخمر كلّ ما كان مسكراً (¬2). عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" (¬3). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفَرْقُ، فملء الكف منه حرام" (¬4). وتؤخذ الخمر مما ذُكر في النصوص الآتية: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "قام عمر على المنبر فقال: أمّا بعد: نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل" (¬5). وعن جابر "أنّ رجلاً قدم من جيشان (وجيشان من اليمن) فسأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يُقال له المِزْر؟ فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أوَ مُسكِرٌ هو؟ قال: نعم. ¬

_ (¬1) جاء في "طلبة الطلبة" (ص 317): عشرة أقاويل في معناها فانظرها -إِن شئت-. (¬2) انظر للمزيد من الفائدة -إِن شئت- تعليق شيخنا -رحمه الله- على "الضعيفة" على الحديث (1220). (¬3) أخرجه مسلم (2003). (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3134)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1521)، وانظر "الإرواء" (2376). (¬5) أخرجه البخاري (5581) ومسلم (3032).

قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلّ مسكر حرامٌ، إِنّ على الله -عزّ وجلّ- عهداً لِمن يشرب المُسكر أن يَسِقيَه من طينة الخَبال، قالوا: يا رسول الله! وما طينة الخبال؟ قال: عرقُ أهل النّار، أو عصارة أهل النّار" (¬1). عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ من العنب خمراً وإِنّ من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً، وأنّ من البُرِّ خمراً، وإِنّ من الشعير خمراً" (¬2). عن علي -رضي الله عنه- قال: "نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الدُبّاء والخنتم، والنقير، والجَعَةِ (¬3) " (¬4). عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البِتع -وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه- فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل شراب أسكَر فهو حرام" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2002). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3123)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1526)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2724)، وانظر "الصحيحة" (1593). (¬3) جاء في "النهاية": "في تفسير "الجَعَة": هي النبيذ المتّخذ من الشعير"، وهي التي تسمّى الآن "البيرة" نعوذ بالله مِن الخذلان. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3144)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2251)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4770). (¬5) أخرجه البخاري (5586)، ومسلم (2001).

ما أسكر كثيره فقليله حرام:

ما أسكر كثيره فقليله حرام: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" (¬1). شرب العصير والنبيذ قبل التخمير: عن بريدة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأَدَم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مُسْكِراً" (¬2). وعن أبي بُردة عن أبيه قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعاذاً إِلى اليمن، فقال: ادعوا النّاس وبشِّرا ولا تُنَفِّرا، ويسِّرا ولا تُعَسِّرا، قال: فقلت: يا رسول الله! أفتنا في شرابَين كُنّا نصنعهما باليمن: البِتْعُ، وهو من العسل يُنبَذ حتى يشتدَّ والمِزْرُ، وهو من الذرة والشّعير يُنبذ حتّى يشتدَّ. قال: وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أُعطِيَ جوامعَ الكَلِم بخواتمه فقال: "أنهى عن كلِّ مُسكر أسكر عن الصّلاة" (¬3). فالعلّة هي النّبذ حتى يشتدّ، فإِذا نُبذ من غير اشتداد، بحيث لا يسكر قليله، فلا حرج. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْتَبذُ له أوّل الليل، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3128)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1520)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2737)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (5180)، وانظر "الإِرواء" (5375). (¬2) أخرجه مسلم (977). (¬3) أخرجه البخاري (5586)، ومسلم (1733)، واللفظ له.

فيشربُه إِذا أصبح، يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد والليلة الأخرى، والغد إِلى العصر فإِن بقي شيء، سقاه الخادم أو أمَر به فصُبَّ" (¬1). وفي رواية: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْتَبذُ له في سِقاء قال شعبة: من ليلة الاثنين فيشربه يوم الاثنين والثلاثاء إِلى العصر فإِن فَضَل منه شيء؛ سقاه الخادم أو صبّه" (1). قال النووي -رحمه الله-: "معناه تارة يسقيه الخادم، وتارة يصبه، وذلك الاختلاف لاختلاف حال النبيذ، فإِنْ كان لم يظهر فيه تغيُّر ونحوه من مبادئ الإِسكار؛ سقاه الخادم ولا يريقه؛ لأنه مالٌ تحرم إِضاعته ويترك شربه تنزهاً. وإِن كان قد ظهر فيه شيء من مبادئ الإِسكار والتغير أراقه، لأنه إِذا أسكر صار حراماً ونجساً (¬2)، فيراق ولا يسقيه الخادم، لأن المسكر لا يجوز سقيه الخادم، كما لا يجوز شربه، وأمّا شربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الثلاث فكان حيث لا تغير ولا مبادئ تغير ولا شك أصلاً. والله أعلم". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "علمْتُ أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذٍ صنعته في دباء، ثمّ أتيته به فإِذا هو يَنِشُّ (¬3)، فقال: اضرب بهذا الحائط، فإِنّ هذا شرابُ مَن لا يؤمن بالله واليوم الآخر" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2004). (¬2) وقد تقدّم الكلام حول عدم نجاسة الخمر في الجزء الأوّل. (¬3) أي: يغلي. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3160)، وابن ماجه، "صحيح سنن ابن ماجه" (2752) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (5183)، وانظر "الإرواء" (2389).

الخمر إذا تخللت:

وعن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: كَتَب إِلينا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أمّا بعد: فاطبخوا شرابكم، حتى يذهب منه نصيب الشيطان، فإِنّ له اثنين ولكم واحد" (¬1). والحاصل أن الشراب الذي لم يتخمّر بالمُكث أو الطبخ أو أي وسيلة أخرى جاز، وإِلا فلا. الخمر إِذا تخلّلت: عن أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أيتامٍ ورثوا خمراً، قال: "أهرقها" قال: أفلا أجعلها خلاً؟ قال: "لا" (¬2). وهذا دليلٌ على عدم جواز تخليل الخمر؛ لأنه لا يجوز حمْلها أصلاً، ولا يجوز التعاوُن فيها في أيِّ صورة من الصور. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لعن الله الخمر وشاربها، وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إِليه" (¬3). أمّا إِذا تخلّلت من ذاتها فلا بأس. وقال الإِمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (8/ 281): "وإذا بطلت ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (5275)، وانظر "الإِرواء" (2387). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3122)، وغيره، وهو في مسلم (1983) مختصراً. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3121)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2725)، وانظر "الإِرواء" (5/ 365) تحت الحديث: (1529).

المخدرات:

هذه الصِّفة [أي: الإِسكار] من الشراب بعد أن كانت فيه موجودة؛ فصار لا يَسْكَرُ أحدٌ من الناس من الإكثار منه فهو حلال؛ خلٌّ لا خمر". وقال في "المغني" (10/ 343): "والخمرة إِذا أفسدت فصيرت خلاًّ، لم تَزُل عن تحريمها، وإِنْ قلَب الله عينها فصارت خلاًّ فهي حلال". المخدرات: وما تقدّم من نصوصٍ في الخمر؛ يمضي في المخدارت وكل ما يزيل العقل ويُسكر. قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "وأمّا "الحشيشة" الملعونة المسكرة: فهي بمنزلة غيرها من المسكرات، والمسكر منها حرام باتفاق العلماء؛ بل كل ما يزيل العقل فإِنه يُحرم أكلْه ولو لم يكن مسكراً كالبنج، فإِن المسكر يجب فيه الحدّ، وغير المسكر يجب فيه التعزير. وأمّا قليل "الحشيشة المسكرة" فحرام عند جماهير العلماء، كسائر القليل من المسكرات، وقول النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كلّ مسكر خمر، وكلّ خمر حرام" (¬1) يتناول ما يُسكر، ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولاً، أو مشروباً؛ أو جامداً، أو مائعاً. فلو اصطبغ كالخمر كان حراماً، ولو أماع الحشيشة وشربها كان حراماً. ونبيّنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِث بجوامع الكَلِم، فإِذا قال كلمة جامعة كانت عامّة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها، سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه، أو لم تكن، فلمّا قال: "كل مسكر حرام" تناوَل ذلك ما كان بالمدينة من خمر ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2003) وتقدّم.

التمر وغيرها، وكان يتناول ما كان بأرض اليمن من خمر الحنطة والشعير والعسل وغير ذلك، ودخل في ذلك ما حدث بعده من خمر لبن الخيل الذي يتخذه الترك ونحوهم. فلم يُفرّق أحد من العلماء بين المسكر من لبن الخيل والمسكر من الحنطة والشعير، وإِن كان أحدهما موجوداً في زمنه كان يعرفه، والآخر لم يكن يعرفه، إِذ لم يكن بأرض العرب من يتخذ خمراً من لبن الخيل. وهذه "الحشيشة" فإِنّ أول ما بلَغَنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة، حيث ظهرت دولة التتر؛ وكان ظهورها مع ظهور سيف "جنكسخان"، لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب سلّط الله عليهم العدو. وكانت هذه الحشيشة الملعونة من أعظم المنكرات، وهي شرٌّ من الشراب المسكر من بعض الوجوه، والمسكر شر منها من وجه آخر، فإِنها مع أنها تُسكر آكلها؛ حتى يبقى مصطولاً تورث التخنيث والديوثة، وتفسد المزاج، فتجعل الكبير كالسفنجة وتوجب كثرة الأكل، وتورث الجنون، وكثير من الناس صار مجنوناً بسبب أكْلِها. ومن الناس من يقول إِنها تغيّر العقل فلا تسكر كالبنج؛ وليس كذلك بل تورث نشوةً ولذةً وطرباً كالخمر، وهذا هو الداعي إِلى تناولها، وقليلها يدعو إِلى كثيرها كالشراب المسكر، والمعتاد لها يصعب عليه فطامه عنها أكثر من الخمر؛ فضررها من بعض الوجوه أعظم من الخمر؛ ولهذا قال الفقهاء: أنه يجب فيها الحد، كما يجب في الخمر" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر "الفتاوى" (34/ 204) ونقله السيد سابق -رحمه الله- ملخصاً في "فقه السنة" (3/ 158).

الاتجار بالخمر والمواد المخدرة:

*وإِذ قد تبيّن أن النصوص من الكتاب والسنة تتناول الحشيشة، فهي تتناول أيضاً الأفيون الذي يبين العلماء أنه أكثر ضرراً ... ويترتب عليه من المفاسد ما يزيد على الحشيش* (¬1). الاتجار بالخمر والمواد المخدّرة: قال الله -تعالى-: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإِثم والعدوان} (¬2). وعن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول وهو بمكة عام الفتح: "إِنّ الله ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" (¬3). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنّ الله إذا حرم على قوم أكْل شيء؛ حَرّم عليهم ثمنه" (¬4). حدّ شارب الخمر: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِي برجل قد شرب الخمر فجُلد بجرِيدتين (¬5) نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلمّا كان عمر استشار ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "فقه السّنة" (3/ 159). (¬2) المائدة: 2. (¬3) أخرجه البخاري (2236)، ومسلم (1581). (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2978). (¬5) جريد النخل الذي يجرد ويُزال عنه الخوص [أي: الورق] ولا يُسمى جريداً ما دام عليه الخوص، وإنما يسمّى سعَفاً. وانظر "مختار الصحاح". وفي "اللسان": "الجريدة للنخلة؛ كالقضيب للشجرة".

الناس فقال عبد الرحمن: أخفَّ الحدود ثمانين فأَمَر به عمر" (¬1). وفي رواية: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يضرب في الخمر بالنّعال والجريد أربعين" (¬2). وعن عقبة بن الحارث أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى بنعيمان -أو بابن نعيمان- وهو سكران، فشق عليه، وأمَر مَن في البيت أن يضربوه، فضربوه بالجريد والنعال وكُنت فيمن ضربه" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أُتي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل قد شرب قال: اضربوه، قال أبو هريرة: فمنّا الضارب بيده والضارب بنعله، والضارب بثوبه" (¬4). ولم يُذكر العدد في هذين الحديثين، فيحمل على الأربعين، كما هو مبيَّنٌ في بعض النّصوص الأُخرى. وعن حُضين بن المنذر قال: "شهدتُ عثمان بن عفان وأُتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثمّ قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان: أحدهما حُمران؛ أنه شرب الخمر، وشهد آخر؛ أنّه رآه يتقيّأ، فقال عثمان: إِنه لم يتقيّأ حتّى شربها. فقال: يا عليّ! قُم فاجلده، فقال عليّ: قم، يا حسن! فاجلده، فقال ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1706). (¬2) أخرجه مسلم (1706). (¬3) أخرجه البخاري (6775). (¬4) أخرجه البخاري (6777).

الحسن: ولِّ حارَّها من تولّى قارَّها (¬1). فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر! قم فاجلده، فجلده وعليّ يَعُدُّ حتّى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثمّ قال: جلد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سُنّة وهذا أحبُّ إِليّ" (¬2). قال الحافظ في "التلخيص": " ... فلو كان هُو المشير بالثمانين؛ ما أضافها إِلى عمر ولم يعمل بها؛ لكن يمكن أن يُقال: إِنه قال لعمر باجتهاده، ثمّ تغيّر اجتهاده"، وذكره شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (8/ 47). والذي بدا من خلال أقوال العلماء أن الزيادة من جملة أنواع التعزير، وورد تعليل الزّيادة على الأربعين بالعُتوّ والطغيان والفساد. فعن السائب بن يزيد قال: "كُنّا نُؤتى بالشارب على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإِمرة أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر؛ فنقوم إِليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا؛ حتّى كان آخر إِمرة عمر؛ فجلد أربعين، حتّى إِذا عتَوا وفسقوا؛ جلد ثمانين" (¬3). ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي -رحمه الله- (12/ 219): "ولّ حارّها مَنْ تولى قارّها: الحار الشديد المكروه والقارّ البارد الهنيء الطيب، وهذا مَثلٌ مِن أمثال العرب. قال الأصمعي وغيره: معناه ولّ شدتها وأوساخها من تولى هنيئها ولذّاتها والضمير عائد إِلى الخلافة والولاية أي: كما أن عثمان وأقاربه يتولون هنيء الخلافة ويختصون به يتولون نكدها وقاذوراتها، ومعناها ليتولّ هذا الجَلْد عثمان بنفسه أو بعض خاصة أقاربه الأدنين. والله أعلم". (¬2) أخرجه مسلم (1707). (¬3) أخرجه البخاري (6779).

قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح": "حتّى إِذا عَتوا: من العتوّ وهو التجبُّر، والمراد هنا: انهماكهم في الطغيان والمبالغة في الفساد في شُرب الخمر؛ لأنه ينشأ عن الفساد. وفسقوا: أي خرجوا عن الطاعة، ووقع في روايةٍ للنسائي: "فلم ينكلوا" أي: يَدَعوا [و] وقَع في مُرسل عُبيد بن عمير -أحد كبار التابعين- فيما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عنه ... "أنّ عمر جعله أربعين سوطاً، فلمّا رآهم لا يتناهَون، جعله ستين سوطاً، فلمّا رآهم لا يتناهون؛ جَعَله ثمانين سوطاً وقال: هذا أدنى الحدود". وفيه: " ... وتمسّك من قال بجواز الزيادة على الثمانين تعزيراً ... أنّ عمر حدَّ الشارب في رمضان، ثمّ نفاه إِلى الشام، وبما أخرجه ابن أبي شيبة أنّ علياً جلد النجاشي الشاعر ثمانين، ثم أصبح فجلده عشرين بجراءته بالشرب في رمضان". انتهى. وعن عبد الرحمن بن أزهر قال: "رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة الفتح وأنا غلام شاب يتخلّل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأُُتي بشارب، فأمرهم فضربوه بما في أيديهم، فمنهم من ضربه بالسوط، ومنهم من ضربه بعصا، ومنهم من ضربه بنعله، وحثى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التراب. فلمّا كان أبو بكر أُتي بشارب فسألهم عن ضرب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي ضربه، فحزروه أربعين، فضرب أبو بكر أربعين. فلمّا كان عمر كَتَب إِليه خالد بن الوليد: إِنّ النّاس قد انهمكوا في الشرب وتحاقروا الحد والعقوبة، قال: هم عندك فسلهم، وعنده المهاجرون الأولون،

فسألهم فأجمعوا على أن يضرب ثمانين. قال: وقال عليّ: إِنّ الرجل إِذا شرب افترى فأرى أن يجعله كحد الفرية" (¬1). أقول: خلاصة الأمر أنّ فِعل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الحُجّة وإِليه المرجع، وما جرى مِن زيادة، فإِنّها ليست زيادة في حدّ الخمر، ولكنها تعزير بالطغيانِ المصاحبِ لحدِّ الخمر؛ كالشُّرب في رمضان والجرأة في الرجوع إِليه. وربما جرّ هذا التكرار إِلى قتْله. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا سَكِرَ فاجلدوه، فإِنْ عاد فاجلدوه، فإِنْ عاد فاجلدوه، ثمّ قال في الرابعة: فإِنْ عاد فاضربوا عُنُقه" (¬2). فإِذا أفضت أسباب معيّنة إِلى القتل بالنص، فلقائلٍ مِن أهل العلم أن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3768). (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3764)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2085) واللفظ له وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (1360) وقال شيخنا -رحمه الله- معلّقاً: "وقد قيل إِنه حديث منسوخ، ولا دليل على ذلك، بل هو محكم غير منسوخ كما حققه العلامة أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (9/ 49 - 92)، واستقصى هناك الكلام على طرقه بما لا مزيد عليه، ولكنا نرى أنه من باب التعزيز، إِذا رأى الإِمام قتل، وإن لم يره لم يقتل بخلاف الجلد، فإنه لا بد منه في كل مرّة، وهو الذي اختاره الإِمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-".

بم يثبت حد الشرب؟

يقول: بين الأربعين جلدة والقتل قدْرٌ معيّنٌ من التعزير؛ حسبما يقتضيه الحال والله أعلم. بمَ يثبُت حدّ الشرب؟ ويثبُت على شارب الخمر بالإِقرار والاعتراف، أو شهادة شاهدين عدلين، لما تقدّم مِن حديث حُضين بن المنذر قال: شهدْتُ عثمان بن عفان وأُتي بالوليد قد صلّى الصبح ركعتين، ثمّ قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان: أحدهما حُمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيّأ فقال عثمان: إِنه لم يتقيّأ حتى شربها فقال: يا عليّ قم فاجلده ... " (¬1). شروط إِقامة الحدّ (¬2): 1 - العقل؛ فلا يُحدّ المجنون إِذا سَكِر. 2 - البلوغ وقد رُفع التكليف عن الصبي حتّى يحتلم ويبلغ؛ كما تقدّم. 3 - الاختيار: إِذ مَن وقع منه الكُفر بالإِكراه لا يكفر، فكيف بما دونه، وقد قال -تعالى-: {إِلا مَن أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإِيمان} (¬3). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنّ الله وضع عن أمّتي الخطأ والنسيان، وما استُكرهوا عليه" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1707)، وتقدّم. (¬2) "فقه السّنّة" (3/ 167) بتصرف وزيادة. (¬3) النحل: 106. (¬4) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1664)، وانظر "الإرواء" (82)، و"المشكاة" (6284)، وتقدّم.

عدم اشتراط الحرية والإسلام في إقامة الحد:

ويدخُل في ذلك الاضطرار، فمن لم يجدِ ماءً وعطش عطشاً شديداً، يخشى عليه منه الموت، ووجدَ خمراً؛ فله أن يشرب القدر الذي يُنجيه من الهلاك، والضرورة تقدّر بقدرها؛ فلا يتوسع في ذلك. 4 - العِلم بأن ما يتناوله مسكر، وإذا لفَتَ نظَره أحد من النّاس، فتمادى في شُربه؛ فإِنه يستوجب إِقامة الحد. عدم اشتراط الحرّية والإِسلام في إِقامة الحدّ: ولا يُشترط الإِسلام والحرية في إِقامة الحد. أمّا عدم اشتراط الإِسلام؛ فلأمور عديدة منها؛ أنّ إِقامة أهل الكتاب في ديار المسلمين؛ لا تكون إِلا بشروط، ولا يُؤذن لهم بالمجاهرة والمعاصي، أفرأيت لو قتَل أحدهم؛ فهل يُرفع عنه الحدّ؟! وفي الإِذن لهؤلاء في شرب المسكرات، والمجاهرة بالذنوب والمعاصى؛ خطرٌ كبير على أبناء الإِسلام -كما لا يخفى-. وإِذا شرب المملوك فإِنه يقام عليه الحدّ؛ لأنّ تحريم الخمر عامٌّ ليس فيه استثناء؛ وقد ورد استثناءُ تكليفه من صلاة الجمعة مثلاً، كما تقدّم في "كتاب الجُمعة". تحريم التداوي بالخمر: عن طارق بن سُوَيْد الجُعْفِيّ "أنه سأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الخمر؟ فنهاه، أو كره أن يَصْنَعها، فقال: إِنّما أصنعها للدواء، فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1984).

إذا أقام الإمام الحد على السكران فمات أعطاه الدية:

عن ديلم الحميري قال: "سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله، إِنا بأرض باردة نعالج فيها عملاً شديداً، وإِنا نتخذ شراباً من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا، وعلى برد بلادنا؟ قال: هل يسكر؟ قلت: نعم، قال: فاجتنبوه قال: قلت: فإِن النّاس غير تاركيه، قال: فإن لم يتركوه فقاتِلوهم" (¬1). وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إِنّ الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم" (¬2). إِذا أقام الإِمام الحدّ على السكران فمات أعطاه الدِّية: عن علي -رضي الله عنه- قال: "ما كنت لأقيم حداً على أحد فيموت فأجد في نفسي إِلا صاحبَ الخمر فإِنه لو مات وَدَيْته (¬3) وذلك أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسُنَّه" (¬4). وفي رواية: "من شرب الخمر فجلدناه، فمات وديناه؛ لأنه شيء صنعناه" (¬5). حدّ الزنى الزنى الموجب للحدّ: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3131). (¬2) تقدّم تخريجه في "كتاب الطهارة" (1/ 52). (¬3) أي: أعطيتُ دِيته لمستحقّها. (¬4) أخرجه البخاري (6778)، ومسلم (1707). (¬5) أخرجه الطحاوي وابن ماجه، وصحح إِسناده شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (8/ 49).

يتحقّق الزنى المترتب عليه الحدّ؛ بتغييب الحشفة -وهي رأس الذكر- أو المدوّرة في فرجٍ محرّم، ولو لم يكن معه إِنزال، أمّا إِذا استمتع فيما دون الفرج؛ فلا حدَّ عليه، وإِن استوجب التعزير. فعن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "جاء رجلٌ إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إِنّي عالجتُ امرأةً (¬1) في أقصى المدينة، وإِنّي أصبت منها ما دون أن أمَسَّها (¬2) فَأنَا هذا. فاقض فيَّ ما شئت، فقال له عمر: لقد سترَكَ الله، لو ستْرتَ نفسك، قال: فلم يَرُدَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً. فقام الرّجل فانطلق، فأتبعه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجُلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية: {أقمِ الصلاة طرفَي النهار وزُلَفاً من الليل إِنَّ الحسنات يُذهِبن السيئات ذلكَ ذكرى للذاكرين} (¬3) فقال رجلٌ من القوم: يا نبيّ الله! هذا له خاصّة؟ قال: بل للنّاس كافّة" (¬4). وجاء في "سبل السلام" (1/ 151): "قال الشافعي: إِنَّ كلام العرب يقتضي أنّ الجنابة تُطلق بالحقيقة على الجماع، وإِن لم يكن فيه إِنزال؛ فإِنّ كلَّ من خوطب بأنّ فلاناً أجنب عن فلانة؛ عقل أنّه أصابها، وإِن لم يُنْزِل. ولم يُخْتَلَف أنّ الزِّنى الذي يجب به الجلد هو الجماع، ولو لم يكن منه إِنزال". ¬

_ (¬1) معنى عالَجَها: أي تناوَلها، واستمتع بها بالقبلة والمعانقة وغيرهما من جميع أنواع الاستمتاع إِلا الجماع، وانظر "شرح النووي". (¬2) أي: دون الزنا في الفرج. (¬3) هود: 114. (¬4) أخرجه مسلم (2763).

حد الزاني البكر:

حدّ الزاني البكر (¬1): حدّ الزاني البكر مائة جلدة؛ لقول الله -تعالى-: {الزانيةُ والزاني فاجلدوا كلَّ واحد منهما مائة جلدةٍ ولا تأخُذْكم بهما رأفةٌ في دين الله إِن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين} (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "هذه الآيةُ الكريمة فيها حُكْم الزاني في الحدّ، وللعلماء فيه تفصيل ونزاع؛ فإِنّ الزاني لا يخلو: إِمّا أن يكون بِكْراً: وهو الذي لم يتزوج. أو مُحصَناً: وهو الذي قد وطئ في نكاحٍ صحيح، وهو حُرٌّ بالغ عاقل. فأمّا إِذا كان بِكْراً لم يتزوج؛ فإِنّ جَلْده مائة جَلدة كما في الآية، ويزاد على ذلكَ أن يُغرَّب عاماً عن بلده عند جمهور العلماء؛ خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- فإِن عنده التغريب إِلى رأي الإِمام، إِنْ شاء لم يُغّرب". وإِليك -رحمني الله وإِياك- التفصيل في العنوان الآتي: ما وَرد في التغريب: التغريب: النفي عن البلد الذي وقعَت فيه الجناية، يُقال: أغربتَه وغرَّبتَه إِذا نحّيْتَهُ وأبعدتَه. والغَرْبُ: البُعد (¬3). عن أبي هريرة وزيد بن خالد -رضي الله عنهما- قالا: "كنّا عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام رجلٌ فقال: أنشدك الله إِلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان ¬

_ (¬1) تُطلق كلمة البكر على الرجل والمرأة، والبكر من الرجال الذي لم يقرب المرأة. (¬2) النور: 2. (¬3) "النهاية".

أفقه منه فقال: اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي. قال: قل، قال: إِنّ ابني هذا كان عسيفاً (¬1) على هذا، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثمّ سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أنّ على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم. فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله -جلّ ذِكْرُه- المائة شاة والخادم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغدُ يا أُنيس على امرأة هذا، فإِن اعترفَت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرجمها" (¬2). وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خذوا عنّي، خذوا عنّي، قد جعل الله لهُنّ سبيلاً، البكر بالبكر جلْد مِائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرّجم" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى فيمن زنى ولم يُحصَنْ بنفي عامٍ وبإِقامة الحدِّ عليه" (¬4). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَب وغرَّب، وأنّ أبا بكر ضَرَب وغرّب، وأنّ عمر ضَرَب وغرّب" (¬5). ¬

_ (¬1) أي: أجيراً. (¬2) أخرجه البخاري (6827)، (6828)، ومسلم (1697)، (1698). (¬3) أخرجه مسلم (1690). (¬4) أخرجه البخاري (6833). (¬5) أخرجه الترمذي والنسائي، وصححه ابن خزيمة والحاكم، قاله الحافظ في "الفتح" تحت الحديث (6833).

حد الزاني المحصن:

جاء في "الفتح" تحت الحديث (6833): "وقال ابن المنذر: أقسم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصة العسيف أنه يقضي فيه بكتاب الله ثمّ قال: إِن عليه جلد مائة وتغريب عام، وهو المبين لكتاب الله، وخطب عمر بذلك على رؤوس الناس، وعمل به الخلفاء الراشدون فلم ينكره أحد فكان إِجماعاً. واختلف في المسافة التي يُنفى إِليها: فقيل: هو إِلى رأي الإِمام، وقيل: يشترط مسافة القصر، وقيل: إِلى ثلاثة أيام، وقيل: يومين، وقيل: يوم وليلة، وقيل: من عمل إِلى عمل، وقيل: إِلى ميل، وقيل: إِلى ما ينطلق عليه اسم نفي". والذي يترجّح لديّ رجوعُ ذلك إِلى رأي الإِمام فيما يراه يُحقّق المقصود، وقد يكون لبعض النّاس أحوالٌ خاصّة، فيعمل الإِمام بما يحقّق المقصود الشرعي من التغريب؛ مراعياً هذه الأحوال، والمصلحة العامّة. والله -تعالى- أعلم. حدّ الزاني المحصن: ويُحدّ الزاني المحصَن بالرجم حتى الموت، رجُلاً كان أم امرأة. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أتى رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلٌ من النّاس وهو في المسجد فناداه: يا رسول الله! إِني زنيتُ -يريدُ نفسه- فأعرض عنه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتنحى لشقِّ وجهه الذي أعرض قِبَلَه؟ فقال: يا رسول الله! إِني زنيت، فأعرض عنه، فجاء لشقِّ وجه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي أعرض عنه. فلمّا شهد على نفسه أربع شهاداتٍ؛ دعاه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أبكَ جنون؟ قال: لا يا رسول الله، فقال: أحصنتَ؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: اذهبوا

فارجموه" (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال عمر لقد خشيتُ أن يطول بالنّاس زمان حتّى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإِن الرجم حقٌّ على من زنى وقد أحصن إِذا قامت البيّنة أو كان الحمل أو الاعتراف. قال سفيان: كذا حفظت، ألا وقد رجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده" (¬2). ويشترط في إِقامة هذا الحد بالإِضافة إِلى ما تقدّم مِن كونه عاقلاً بالغاً الحريّة، إِذ لا رجم على العبد أو الأمة؛ لقوله الله -تبارك وتعالى-: {فإِن أتيْن بفاحشة فعليهنّ نصفُ ما على المحصناتِ من العذاب} (¬3) والرجم لا يتجزّأ. عن أبي عبد الرحمن قال: "خطب عليٌّ فقال: يا أيها النّاس! أقيموا على أرقائكم الحدّ؛ من أحصن منهم ومن لم يُحْصِن، فإِنّ أمَةً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنت فأمرني أنْ أجْلدها فإِذا هي حديث عهدٍ بنفاس، فخشيت إِنْ أنا جلدتها أنْ أقتلها، فذكرت ذلك للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أحسنت" (¬4). وفي رواية: "اتركها حتّى تَماثَل (¬5) " (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6825)، ومسلم (1691). (¬2) أخرجه البخاري (6829)، ومسلم (1691). (¬3) النساء: 25. (¬4) أخرجه مسلم (1705). (¬5) تماثل: أي: تُقارب البُرء. (¬6) أخرجه مسلم (1705).

وجوب الحد على الكافر والذمي:

قال الإِمام النووي -رحمه الله- في "شرحه" (11/ 213): " ... [وفي الحديث] بيان أن الأَمَة المحصنة بالتزويج وغير المحصنة تجلد، وهو معنى ما قاله عليّ -رضي الله تعالى عنه- وخطَب الناس به. فإِنْ قيل: فما الحكمة في التقييد في قوله -تعالى-: {فإِذا أُحصنّ} مع أن عليها نصف جلد الحرة؛ سواء كانت الأمة محصنة أم لا. فالجواب أن الآية نبهت على أن الأَمَة وإِنْ كانت مزوجة لا يجب عليها إِلا نصف جلد الحرّة؛ لأنه الذي ينتصف، وأمّا الرجم فلا ينتصف فليس مراداً في الآية بلا شك، فليس للأمَة المزوجة الموطوءة في النكاح حُكم الحُرّة الموطوءة في النكاح، فبيّنت الآية هذا لئلا يتوهم أنّ الأمَة المزوجة تُرجَم، وقد أجمعوا على أنها لا ترجم، وأمّا غير المزوجة فقد علمنا أن عليها نصف جلد المزوجة بالأحاديث الصحيحة ... ". ويشترط برجم المحصَن كذلك أن يكون قد سبق له أن تزوج زواجاً صحيحاً، ووطئ فيه ولو مرّة واحدة أنزَل أم لم يُنزل. وكذا المرأة إِذا تزوّجت ووُطئت ولو مرّة واحدة، ثمّ طُلقت فزنت فإِنها تُرجم. وجوب الحد على الكافر والذّمي: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "إِنّ اليهود جاءوا إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأةً زنَيا، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما تجدون في التّوراة في شأن الرّجم؟ فقالوا: نفضحهم ويُجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إِن فيها الرّجم. فأَتَوا بالتّوراة فنَشروها، فوضَع أحدهم يده على آية الرّجم فقرأ ما قبلها وما

بعدها. قال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإِذا فيها آية الرّجم، قالوا: صدق يا محمّد، فيها آية الرّجم، فأمَر بهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرُجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة" (¬1). قال الإِمام البخاري -رحمه الله-: (بابُ أحكام أهل الذّمة (¬2) وإحصانهم إِذا زَنَوا (¬3) ورُفعوا إِلى الإِمام) وذكر هذا الحديث. قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح": "وفي هذا الحديث من الفوائد؛ وجوب الحدّ على الكافر الذمّي إِذا زنى؛ وهو قول الجمهور ... ". وعن جابر بن عبد الله قال: "رَجَم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً مِنْ أسلم، ورجلاً من اليهود، وامرأته" (¬4). وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "مُرَّ على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيهوديٍّ مُحَمَّماً (¬5) مجلوداً فدعاهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هكذا تجدون حدّ الزّاني في كتابكم؟ قالوا: نعم. فدعا رجُلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى! أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنّك نشدتني بهذا لم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6841)، ومسلم (1699). (¬2) أي اليهود والنصارى وسائر من تؤخذ منه الجزية. (¬3) يعني: خلافاً لمن قال: "إِنّ من شروط الإِحصان الإسلام". (¬4) أخرجه مسلم (1701). (¬5) أي مُسوَدّ الوجه، من الحُممة: الفحمة "النهاية".

بم يثبت حد الزنى؟

أخبرك، نجده الرَّجم، ولكنّه كثر في أشرافنا، فكنَّا إِذا أخذنا الشّريف تركناه، وإِذا أخذنا الضّعيف أقمنا عليه الحدّ. قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشّريف والوضيع، فجعلنا التّحميم والجلد مكان الرّجم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهمّ إِني أوّل من أحيا أمرك إِذ أماتوه، فأَمَر به فرُجم فأنزل الله -عزّ وجلّ-: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} إِلى قوله: {إِن أُوتيتم هذا فخذوه} (¬1). يقول: ائتوا محمّداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنْ أمرَكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإِنْ أفتاكم بالرّجم فاحذروا، فأنزل الله -تعالى-: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (¬2)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (¬3)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} (¬4) في الكفّار كُلّها" (¬5). بمَ يثبت حدّ الزنى؟ يثبت الحدّ بما يأتي: 1 - بالاعتراف: فعن أبي هريرة وزيد بن خالد -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ¬

_ (¬1) المائدة: 41. (¬2) المائدة: 44. (¬3) المائدة: 45. (¬4) المائدة: 47. (¬5) أخرجه مسلم (1700).

"واغْدُ يا أُنيس على امرأة هذا؛ فإِن اعترفت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرَجمها" (¬1). 2 - بأربعة شهود: قال الله -تعالى-: {والذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء} (¬2). ويشترط في الشهود: البلوغ والعقل والإِسلام، كما تقدّم في مثله، وكذا العدالة لقول الله -تعالى-: {وأشهدوا ذَوَي عدلٍ منكم} (¬3)، وقوله -سبحانه-: {يا أيها الذين آمنوا إِن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (¬4). وكذا المعاينة أي: أن يكون قد عاين فرجَها في فرجه؛ كما سيأتي -إِن شاء الله- في (باب حدّ من رمى المحصنة ولم يأت بأربعة شهود) قول عمر -رضي الله عنه- لزياد هل رأيت المرود دخَل المكحلة؟ (¬5). 3 - بالحبَل، إِذا لم يُعلم لها زوج أو سيد: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قال عمر: لقد خشيت أن يطول ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6827)، ومسلم (1697)، وتقدّم بطوله في حدّ الزاني البكر. (¬2) النور: 4. (¬3) الطلاق: 2. (¬4) الحجرات: 6. (¬5) انظر "الإِرواء" (8/ 29).

ماذا يفعل الإمام إذا جاءه من أقر على نفسه بالزنى؟

بالنّاس زمانٌ؛ حتّى يقول قائل لا نجدُ الرجم في كتاب الله؛ فيضلّوا بترك فريضة أنَزَلها الله، ألا وإِنّ الرجم حقٌّ على مَن زنى، وقد أحصَن إِذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف" (¬1). ماذا يفعل الإِمام إِذا جاءه من أقرّ على نفسه بالزنى؟ إِذا جاءَ منْ يُقرّ على نفْسه بالزِّنى عند الإِمام؛ فعلى هذا الإمام أن يعمل بمقتضى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تَعَافَوُا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدٍّ فقد وجب" (¬2). قال ابن الأثير في "النهاية": "تَعَافَوُا الحدود فيما بينكم" أي: تجاوزوا عنها ولا ترفعوها إِليَّ؛ فإِنِّي متى علمتها أقمتها. وعن نُعيم بن هَزّال قال: كان ماعز بن مالك يتيماً في حِجْر أبي، فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك، وإِنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرجاً. فأتاه فقال: يا رسول الله إِني زنيت، فأقم عليّ كتاب الله! فأعرض عنه، فعاد فقال: يا رسول الله، إِني زنيت فأقم عليّ كتاب الله! حتى قالها أربع مرار. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّك قد قُلتها أربع مرّات، فبمن؟ قال: بفلانة، قال: هل ضاجعتها؟ قال: نعم؟ قال: هل باشرتها؟ قال: نعم قال: هل جامعتها؟ قال: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6829)، ومسلم (1691) وتقدّم. (¬2) أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- "صحيح سنن أبي داود" (3680) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2951) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4538).

نعم؛ قال: فأَمَر به أن يُرجَم، فأُخرج به إِلى الحرّة. فلمّا رُجِم فوجد مَسَّ الحجارة جزع فخرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس، وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير (¬1)، فرماه به فقتله، ثمّ أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك له فقال: هلا تركتموه" (¬2). وعن محمّد بن إِسحاق قال: "ذكرت لعاصم بن عمرو بن قتادة قصة ماعز بن مالك، فقال لي: حدَّثني حسن بن محمد بن عليّ بن أبي طالب، قال: حدَّثني ذلك مِن قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فهلاّ تركتموه" من شئتم من رجال أسلم ممن لا أتهم، قال: ولم أعرف الحديث، قال: فجئت جابر بن عبد الله فقلت: إِنّ رجالاً مِن أسلم يحدثون: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم حين ذكروا له جزع ماعز من الحجارة حين أصابته: "ألا تركتموه" وما أعرف الحديث. قال: يا ابن أخي، أنا أعلم الناس بهذا الحديث، كنت فيمن رجَم الرجل، إِنّا لما خرجنا به فرجمناه، فوجد مسّ الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردّوني إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإِنّ قومي قتلوني وغرُّوني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتّى قتلناه، فلمّا رجعنا إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبرناه قال: فهلا تركتموه وجئتموني به ليستثبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منه، فأما لترك حد فلا! " (¬3). ¬

_ (¬1) وظيف البعير: خفّه، وهو له كالحافر للفرس. "النهاية". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3716)، وانظر "الإِرواء" (2322). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3717)، وانظر "الإِرواء" (7/ 354).

وعن ابن عباس قال: "جاء ماعز بن مالك إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعترف بالزنا مرتين فطرده، ثمّ جاء فاعترف بالزنا مرتين، فقال: شهدت علي نفسك أربع مرّات، اذهبوا به فارجموه" (¬1). فتأمّل حديث نعيم بن هزال وقوله: "فأعرَض عنه" أي أعرض عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قال: إِني زنيت وأيضاً: "حتّى قالها أربع مرار، ثمّ قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّك قد قلتها أربع مرّات فبمن؟ ". فماذا لو قالها مرةً، وحين رأى إِعراض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مضى ولم يعُد؟! وتأمّل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل ضاجَعَتها؟ ... هل باشرتها؟ ... هل جامعتها؟ وفي بعض الروايات: "لعلّك قبّلت أو غمزت أو نظرت" حتى قال: "أنِكتَها، لا يُكنّي" (¬2). وتأمّل بعد ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: "هلا تركتموه" حينما بلغه جزعُه وفرارُه من الرجم. فهذا فيه ما فيه من الدعوة إِلى ستْر النفس والإِقلاع عن المعصية والندم وإِحسان التوبة إِلى الله -عزّ وجلّ- وهذا مطلبٌ سامٍ ومقصد عظيم، -والله أعلم-. وأما ما جاء في رواية محمد بن إِسحاق ... في قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فهلا تركتموه وجئتموني به، ليستثبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منه، فأمّا لترْكِ حد فلا" فهذه ليست من قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإِنما هي تفسير مِن الراوي، والسؤال ماذا بعد ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1693) وأبو داود واللفظ له "صحيح سنن أبي داود" (3723). (¬2) أخرجه البخاري (6824).

أن يستثبت منه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيعيده للرجم أم ماذا؟! فإِن قالوا: يعيده للرجم فلا فائدة من الاستثبات، لأن الاستثبات ليس بثبوت زناه، وإِنّما لأن قومه غرّوه من نفسه أنه لن يُقتل! وأي فائدة في ذلك؟! فالحكمة واضحة بيّنة، وقد جاء هذا صريحاً من حديث بريدة بن الحصيب قال: "ثمّ جاءت امرأه من غامد الأَزْد فقالت: يا رسول الله! طهّرني فقال: ويحك؛ ارجعي فاستغفري الله وتوبي إِليه" (¬1). ولكن لما كان الإِصرار والإِلحاح والمتابعة من ماعز والغامديّة؛ والنّاس ينظرون؛ فإِنه لا بدّ من إِقامة الحد؛ لأن هناك مفسدةً في عدم إِقامته، والحاصل أنه إِذا بلغَ الإِمام أمْرٌ كهذا أعرَض وذكّر بالاستغفار والتوبة، فإِنْ أصرّ مُقارِفُ الفاحشة على إِقامة الحد؛ أقيم عليه. والله أعلم. ويؤيِّد هذا ما ثبت عن الأجلح عن الشعبي قال: "جيء بشُرَاحة الهمدانية إِلى علي -رضي الله عنه- فقال لها: ويلك لعل رجلاً وقع عليكِ وأنت نائمة، قالت: لا، قال لعلك استكرهت، قالت: لا، قال: لعل زوجك من عدونا هذا أتاك؛ فأنت تكرهين أن تدلي عليه، يُلقِّنها لعلَّها تقول: نعم. قال: فأمَر بها فحُبست، فلمَّا وضعت ما في بطنها، أخرجها يوم الخميس فضربها مائة، وحفر لها يوم الجمعة في الرحبة، وأحاط الناس بها، وأخذوا الحجارة، فقال: ليس هكذا الرجم، إِذاً يُصيب بعضكم بعضاً، صفّوا كصفّ الصلاة صفاً خلف صفّ. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1695).

من أقر بزنى امرأة فأنكرت:

ثمّ قال: أيها الناس أيَّما امرأة جيء بها وبها حبل يعني أو اعترفت، فالإِمام أوَّل من يرجم ثم الناس، وأيَّما امرأة أو رجُل زان فشهد عليه أربعة بالزنا فالشُّهود أوَّل من يرجُم، ثمَّ الإِمام، ثمّ الناس، ثمَّ رجمَها، ثمَّ أمَرهم فرَجَم صفّ ثمّ صفّ، ثم قال: افعلوا بها ما تفعلون بموتاكم" (¬1). فتأمَّل قول عليٍّ -رضي الله عنه- لعلَّ رجُلاً وقَع عليك وأنتِ نائمة، ... لعلَّكِ استُكْرِهتِ، ... لعلَّ زوجك من عدوّنا هذا؛ أتاك فأنت تكرهين أن تدلِّي عليه. وتأمَّل كلمة: "يلقِّنها لعلَّها تقول: نعم". ولذلك إِذا أنْكرت المرأة أنَّه زُنِيَ بها؛ لم يُقَم عليها الحدّ ولو أقرَّ الرجُل الزَّاني، وأُقيم عليه الحدّ. وانْظر العنوان الآتي: من أقرّ بزنى امرأة فأنكرت: عن سهل بن سعد عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أنّ رجلاً أتاه، فأقرّ عنده أنه زنى بامرأة سمّاها، فبعَث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكَرت أن تكون زنَت، فجلده الحدّ وترَكَها" (¬2). سقوط الحدّ بظهور ما يقطع بالبراءة: *إِذا ظهَر بالمرأة أو بالرجل ما يقطع أنه لم يقع مِن أحدٍ منهما زنى؛ كأن تكون المرأة عذراء لم تفضّ بكارتها، أو رتقاء مسدودة الفرج، أو يكون الرجل ¬

_ (¬1) جاء في "الإِرواء" (8/ 7): أخرجه ابن أبي شيبة (11/ 84/1) مختصراً، والبيهقي والسياق له، قال شيخنا -رحمه الله-: وإسناده جيد رجاله ثقات رجال الصحيح غير الأجلح وهو ابن عبد الله الكوفي وهو صدوق"، وانظر "الإِرواء" (8/ 7). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3749).

سقوط الحد إذا أبدى المتهم العذر واقتنع الإمام:

مجبوباً أو عنّيناً، سقط الحد* (¬1) عن أنس -رضي الله عنه- حين أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليّاً إِلى رجل كان يُتّهم بإِحدى النساء، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعليّ: اذهب فاضرب عنقه، فأتاه عليٌّ فإِذا هو في رَكِيٍّ (¬2) يتبردُ فيها، فقال له عليٌّ: اخرج، فناوله يده فأخرجه فإِذا هو مجبوب ليس له ذكَر، فكفَّ عليٌّ عنه، ثمّ أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إِنّه لمجبوب ما له ذكَر" (¬3). سقوط الحدّ إِذا أبدى المتهم العذر واقتنع الإِمام: وكذلك يسقط للحد إِذا أُبدى المتهم العذر واقتنع به الإِمام. عن أبي موسى قال: "أُتي عمر بن الخطاب بامرأة من أهل اليمن، قالوا: بغت! قالت: إِني كنت نائمة، فلم أستيقظ إِلا برجل رمى فيّ مثل الشهاب، فقال عمر -رضي الله عنه-: يمانية نؤومة شابّة، فخلى عنها ومتعها" (¬4). قال شيخنا -رحمه الله-: "وله طريق أخرى يرويه النزال بن سبرة قال: "إِنا لبمكة إِذ نحن بامرأة اجتمع عليها النّاس؛ حتى كاد أن يقتلوها وهم يقولون: زنَت زنَت، فأتي بها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهي حبلى، وجاء معها ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "فقه السّنَة" (3/ 193). (¬2) رَكِيٍّ: هو البئر "نووي". (¬3) أخرجه مسلم (2771)، وللحديث مناسبة في روايات أُخرى كما في "الصحيحة" تحت الحديث (1904). (¬4) أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن منصور وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2362).

سقوط الحد بالتوبة الصحيحة:

قومها، فأثنوا عليها بخير، فقال عمر: أخبريني عن أمرك. قالت: يا أمير المؤمنين كنت امرأة أصيب من هذا الليل، فصليت ذات ليلة، ثمّ نمت وقمت ورجُلٌ بين رجِليّ، فقذَف فيّ مثل الشهاب، ثم ذهب، فقال عمر -رضي الله عنه-: لو قتل هذه من بين الجبلين أو قال: الأخشبين -شك أبو خالد- لعذبهم الله، فخلى سبيلها، وكتب إِلى الآفاق أن لا تقتلوا أحداً إِلا بإِذني" (¬1). سقوط الحدّ بالتوبة الصحيحة: يسقط الحد عمن تاب توبة صحيحة. عن وائل الكندي -رضي الله عنه- قال: "خرجت امرأة إِلى الصلاة، فلقيها رجل فتجلّلها بثيابه، فقضى حاجته منها وذهب، وانتهى إِليها رجل، فقالت له: إِن الرجل فعل بي كذا وكذا، فذهب الرجل في طلبه، فانتهى إِليها قوم من الأنصار، فوقفوا عليها، فقالت لهم إِن رجلاً فعل بي كذا وكذا، فذهبوا في طلبه، فجاؤوا بالرجل الذي ذهب في طلب الرجل الذي وقع عليها، فذهبوا به إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: هو هذا. فلمّا أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجمه قال الذي وقع عليها: يا رسول الله أنا هو، فقال للمرأة: اذهبي فقد غفر الله لك، وقال للرجل قولاً حسناً. فقيل: يا نبي الله ألا ترجمه؟ فقال: لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي، وقال شيخنا -رحمهُ الله -: "وهذا إِسناد صحيح على شرط البخاري"، وانظر "الإرواء" (8/ 30).

عفو الحاكم عن الحدود لأسباب مخصوصة:

لقُبل منهم" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله-: "وفي هذا الحديث فائدة هامة، وهي: أنّ الحد يسقط عمّن تاب توبة صحيحة، وإِليه ذهب ابن القيم في بحت له في "الإِعلام" فراجِعْه (3/ 17 - 20) مطبعة السعادة". عفو الحاكم عن الحدود لأسباب مخصوصة: للحديث السابق. الوطء بالإِكراه: لا حدّ على المرأة التي تُكره على الزنى، وإِذا أُكره المرء على الكُفر وقلبه مطمئنٌّ بالإِيمان فلا يكفر، فكيف بما هو دونه! وفي الحديث: "رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" (¬2). وتقدم حديث وائل الكندي قبل الباب السابق. وعن طارق بن شهاب: "أنّ امرأة زنت، فقال عمر: أراها كانت تصلي من الليل فخشعت فركعت، فسجدت، فأتاها عادٍ من العواد فتجثمها، فأرسل عمر إِليها، فقالت كما قال عمر، فخلّى سبيلها" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3681) والترمذي وغيرهم وانظر "الصحيحة" (900). (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1664)، وصححه شيخنا -رحمه الله- "الإِرواء" (82) وتقدّم. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2312).

الخطأ في الوطء:

وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: "أُتي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بامرأة جهدها العطش، فمرت على راع فاستقت، فأبى أن يسقيها إِلا أن تُمكنّه من نفسها، ففعَلت، فشاور النّاس في رجمها، فقال عليّ -رضي الله عنه-: هذه مضطرة، أرى أن تخلّيَ سبيلها، ففعل" (¬1). الخطأ في الوطء (¬2): إِذا زُفّت إِلى رجلٍ امرأةٌ غير زوجته، وقيل له: هذه زوجتك، فوطئها يعتقدها زوجته، فلا حدّ عليه، باتفَاق. وكذلك الحُكم، إِذا لم يُقَل له: هذه زوجتك، أو وَجَد على فراشه امرأة ظنها امرأته فوطئَها، أو دعا زوجته فجاء غيرها، فظنها المدعوة فوطئها، لا حدّ في كل ذلك. وهكذا الحُكم في كل خطأ في وطء مباح. أمّا الخطأ في الوطء المحرم، فإِنه يوجب الحدّ، فمن دعا امرأة محرمة عليه، فأجابته غيرها، فوطئها يظنها المدعُوة فعليه الحدّ، فإِنْ دعا امرأة مُحرّمة عليه، فأجابته زوجته فوطِئَها، يظنها الأجنبية التي دعاها؛ فلا حدّ عليه، وإِنْ أثم باعتبار ظنه [والله -تعالى- أعلم]. قلت: وللحاكم أن يُعزّره إِذا علم ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2313). (¬2) عن "فقه السنّة" (3/ 210 - 211).

الوطء في نكاح باطل:

الوطء في نكاحٍ باطل (¬1): كلّ زواجٍ مُجمَع على بطلانه، كنكاح خامسة زيادة على الأربع، أو متزوجة، أو معتدة الغير، أو نكاح المطلقة ثلاثاً قبل أن تتزوج زوجاً آخر إِذا وطئ فيه، فهو زنى موجب للحدّ، ولا عبرة بوجود العقد، ولا أَثَر له. لا تُرجم الحُبلى حتّى تضع وتُرضع ولدها، ولا المريضة حتى تبرأ: تقدّم في حديث بريدة -رضي الله عنه- في قِصّة الغامديّة: "قال: ثمّ جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله! طهِّرني، فقال: ويحك! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إِليه. فقالت: أراك تُريد أن تُرَدِّدني كما ردّدت ماعز بن مالك، قال: وما ذاك؟ قالت: إِنها حبلى من الزنى، فقال: آنْتِ؟ قالت: نعم. فقال لها: حتّى تضعي ما في بطنك. قال: فكَفَلَها رجل من الأنصار حتّى وضعت. قال: فأتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: إِذاً لا نرجمها وندَعُ ولدها صغيراً ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار فقال: إِليّ رَضاعه يا نبي الله، فرجمها" (¬2). وفي رواية: "قال: فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله! إِنّي قد زنيت فطهِّرني، وإِنّه ردّها فلمّا كان الغد قالت: يا رسول الله! لم تردُّني؟ لعلك أن ¬

_ (¬1) عن "فقه السنّة" (3/ 210 - 211). (¬2) أخرجه مسلم (1695).

شهود طائفة من المؤمنين الحد:

تردّني كما رددت ماعزاً، فوالله إِنّي لحُبلى قال: إِمّا لا (¬1) فاذهبي حتّى تلدي، فلمّا ولدت أتته بالصّبيّ في خِرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: اذهبي فأرضعيه ْحتّى تفطميه، فلمّا فطمته أتته بالصبيّ في يده كِسرةُ خُبز، فقالت: هذا يا نبيَ الله قد فطمْتُه، وقد أكل الطّعام. فدفع الصبيَّ إِلى رجل من المسلمين، ثمّ أمَر بها فحُفر لها إِلى صدرها وأمَر النّاس فرجموها" (¬2). قال الإِمام النووي -رحمه الله-: " [فيه] أن النفساء والمريضة ونحوهما يؤخر جلدهما إِلى البُرء. والله أعلم". وعن أبي عبد الرحمن قال: "خطب عليٌّ فقال: يا أيها النّاس أقيموا على أرقّائكم الحدّ، فإِنّ أمةً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنت، فأمَرني أنْ أجلدها، فإِذا هي حديث عهدٍ بنفاس، فخشيت إِنْ أنا جلدتها أنْ أقتلها، فذكَرْت ذلك للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أحسنت، اتركها حتى تماثل (¬3) " (¬4). شهود طائفة من المؤمنين الحدّ: قال الله -تعالى-: {الزانيةُ والزاني فاجلدوا كُلَّ واحد منهما مائة جلدةٍ ¬

_ (¬1) الأصل: إن ما فأُدغمت النون في الميم، وحُذف فِعل الشرط، فصار إمّا لا، ومعناه: إذا أبيت أن تستري على نفسك وتتوبي وترجعي عن قولك؛ فاذهبي حتى تلدي، فترجمين بعد ذلك. (¬2) أخرجه مسلم (1695 - 23). (¬3) يقال: تماثَل: إذا قارب البُرء. (¬4) أخرجه مسلم (1705) وتقدّم.

الشهود أول من يرجم ثم الإمام ثم الناس:

ولا تأخُذْكُم بهما رأفةٌ في دين الله إِن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين} (¬1). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "وقوله -تعالى-: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}: هذا فيه تنكيل للزانيَيْن إِذا جُلدا بحضرة الناس، فإِنّ ذلك يكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردْعهما، فإِن في ذلك تقريعاً وتوبيخاً وفضيحة إِذا كان الناس حضوراً. قال الحسن البصري في قوله -تعالى-: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} يعني: علانية، وقال قتادة: أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، أي: نفر من المسلمين؛ ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالاً". الشهود أول من يرجُم ثم الإِمام ثمّ الناس: عن أبي حصين عن الشعبي قال: "أتي علي -رضي الله عنه- بشراحة الهمدانية قد فجرت، فردّها حتى ولَدت، فلمّا ولدت قال: ائتوني بأقرب النساء منها، فأعطاها ولدها ثم جلَدَها ورجمَها. ثم قال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بالسُّنّة، ثمّ قال: أيما امرأة نعى عليها ولدها، أو كان اعتراف؛ فالإِمام أوّل من يرجم ثم الناس، فإِنْ نعاها الشهود؛ فالشهود أول من يرجُم، ثم الإِمام ثمّ الناس" (¬2). ¬

_ (¬1) النور: 2. (¬2) أخرجه الدارقطني والبيهقي (8/ 220) وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (8/ 7): "إِسناده صحيح على شرط مسلم".

ما جاء في جلد المريض:

ما جاء في جلد المريض: يُراعى المريض والسقيم في حدّ الجلد؛ ولا يُعامل كما يعامل الصحيح المعافى. عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، أن بعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأنصار: أنه اشتكى رجل منهم حتى أُضني (¬1)، فعاد جلدة على عظم، فدخَلَت عليه جارية لبعضهم، فهشّ لها، فوقع عليها فلمّا دخَل عليه رجال قومِه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإِنّي قد وقعْت على جاريةٍ دخلت عليّ. فذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضُّرِّّ مثل الذي هو به، لو حملناه إِليك لتفسَّخت عظامه، ما هو إِلا جلد على عظم، فأمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن يأخذوا له مائة شمراخ (¬2) فيضربوه بها ضربة واحدة" (¬3). اللواط: اللواط: إِتيان الرجل الرجل، وهو من أبشع الأفعال وأقذرها، قال الله -تعالى-: {ولوطاً إِذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحدٍ من العالمين * إِنّكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النساء بل أنتم قومٌ مسرفون *وما كان ¬

_ (¬1) أي: حتى اشتدّ مرضه، حتى نَحَل جسمه. (¬2) كل غصن من أغصان العِذق -وهو العود الأصفر- شمراخ، وهو الذي عليه البُسر. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3754)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2087)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (5002) وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (2986).

ما هو حد اللواط:

جواب قومه إِلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إِنّهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إِلا امرأته كانت من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين} (¬1). وفاعله ملعون كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ملعون من عَمِل عَمَل قوم لوط، ملعون مَن عمِل عَمَل قوم لوط، ملعون مَن عمِل عمَل قوم لوط" (¬2). ما هو حدّ اللواط: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" (¬3). قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (11/ 543): "وفي السنن عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به". ولهذا اتفق الصحابة على قَتْلهما جميعاً؛ لكن تنوعوا في صفة القتل: فبعضهم قال: يُرجَم، وبعضهم قال: يرمى من أعلى جدارٍ في القرية ويتبع ¬

_ (¬1) الأعراف: 80 - 84. (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، والحاكم، وصححه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (2420). (¬3) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3745)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1177)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2075) وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (3450).

بالحجارة، وبعضهم قال: يحرق بالنّار (¬1). ولهذا كان مذهب جمهور السلف والفقهاء أنهما يرجمان بِكْرين كانا أو ثيّبين، حُرّين كانا أو مملوكين، أو كان أحدهما مملوكاً للآخر، وقد اتفق المسلمون على أن من استحلها بمملوك أو غير مملوك فهو كافر مرتد". انتهى. قلت: أمّا الحرق بالنّار فإِنه لا يشرع، وإِن وقَع شيء؛ فهو محمولٌ قبل بلوغ النهي، ولا سيّما أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان قد أمَر بالحرق، ثمّ يلبَث أن نهى عن ذلك، والله أعلم. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "بَعثَنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعثٍ فقال: إِن وجَدتم فلاناً وفلاناً فأحرِقوهما بالنَّار. ثمَّ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أردْنا الخروجَ: إِني أمرتُكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإِنَّ النارَ لا يُعذِّب بها إِلا الله، فإِنْ وجَدْتموهما فاقتُلوهما" (¬2). ¬

_ (¬1) عن محمد بن المنكدر: أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- أنه وجد رجلاً في بعض ضواحي العرب يُنكَح كما تُنكحَ المرأة، فجمع لذلك أبو بكر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيهم عليُّ بن أبي طالب فقال عليّ: إِن هذا ذنب لم تعمل به أمة إِلا أمة واحدة، ففعل الله بهم ما قد علمتم، أرى أن تحرقه النار، فاجتمع رأي أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُحرَق بالنار، فأمر به أبو بكر أن يحرق بالنار. قال: وقد حرقه ابن الزبير وهشام بن عبد الملك. أخرجه ابن أبي الدنيا ومن طريقه البيهقي في "شعب الإِيمان" بإِسناد جيد، وأخرجه أيضاً في "سننه" من غير طريق ابن أبي الدنيا، وأعله بالإِرسال. وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (2/ 624). انتهى، ويُعلم ضَعْفه من إِعلاله بالإِرسال. (¬2) أخرجه البخاري (3016).

وعن عكرمة أنَّ عليّاً -رضي الله عنه- "حَرَّقَ قوماً فبَلَغَ ابن عباس فقال: لو كنتُ أنا لم أُحرِّقْهم؛ لأنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا تعذِّبوا بعذاب الله، ولَقتَلْتُهم كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من بدَّل دِينَهُ فاقتلوه" (¬1). وقال -رحمه الله- (34/ 182): "أمّا الفاعل والمفعول به فيجب قتْلهما رجماً بالحجارة، سواءٌ كانا مُحصَنَين أو غير محصنين؛ لما في السنن عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"، ولأن أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتفقوا على قتلهما". وقال في "الفتاوى" أيضاً (28/ 334): "وأمّا اللواط، فمن العلماء من يقول: حده كحد الزنا، وقد قيل: دون ذلك. والصحيح الذي اتفقت عليه الصحابة: أن يقتل الاثنان الأعلى والأسفل، سواء كانا مُحصَنَين أو غير محصَنَين؛ فإِنّ أهل السنن رووا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به". وروى أبو داود عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في البكر يوجد على اللوطية. قال: يُرجَم (¬2). ويروى عن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- نحو ذلك. ولم تختلف الصحابة في قْتله؛ ولكن تنوعوا فيه. فرُوي عن الصديق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3017). (¬2) "صحيح سنن أبي داود" (3746) وهو صحيح الإِسناد موقوف.

السحاق:

-رضي الله عنه- أنه أمر بتحريقه (¬1) وعن غيره قتْله، وعن بعضهم: أنه يلقى عليه جدار حتى يموت تحت الهدم، وقيل: يُحبسان في أنتن موضع حتى يموتا، وعن بعضهم: أنه يرفع على أعلى جدار في القرية ويرمى منه، ويُتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط. وهذه رواية عن ابن عباس والرواية الأخرى قال: "يرجم". وعلى هذا أكثر السلف. قالوا لأن الله رجم قوم لوط، وشرَع رَجم الزاني تشبيهاً برجْم قوم لوط، فيرجم الاثنان سواء كانا حُرّين أو مملوكين، أو كان أحدهما مملوكاً والآخر حُرّاً، إِذا كانا بالغين، فإِن كان أحدهما غير بالغ؛ عوقب بما دون القتل، ولا يُرجَم إِلا البالغ". السّحاق: إِن السّحاق -وهو إِتيان المرأة المرأة- من أقبح الأفعال وأخبثها وأشنعها، وهذا الفعل يمضي فيه قوله -تعالى-: {فأولئك هم العادون} وهذا الخطاب للذكر والأنثى، والأمر بحفظ الفرج يعمّهما كذلك. عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا ينظر الرجل إِلى عورة الرجل، ولا المرأة إِلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إِلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إِلى المرأة في الثوب الواحد" (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم الكلام حول هذا الأمر. (¬2) أخرجه مسلم (338).

الاستمناء:

جاء في "إِكمال إِكمال المعلم": " (ولا يفضي الرجل إِلى الرجل .. ): لأنّ تجرّدهما مظنّة مسّ أحدهما عورة الآخر، ومسّ العورة حرام؛ كالنظر -وإِنْ كانا مستورَيْن- فليتنزّها عن ذلك، لعموم النهي، وعلى أنّ جسد المرأة على المرأة عورة يحرم ذلك". وإِذا كان اقتراف الحرام بالنظر والتجرّد؛ فكيف بما هو أعظم من ذلك. *والسّحاق مباشرة دون إِيلاج، ففيه التعزير دون الحدّ؛ كما لو باشر الرجلُ المرأة؛ دون إِيلاجٍ في الفرج* (¬1). الاستمناء: قال الله -تعالى-: {والذين هم لفروجهم حافظون * إِلا على أزواجهم أو ما ملكَتْ أيمانُهم فإِنهم غيرُ ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} (¬2). قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "وقوله: {والذين هم لفروجهم حافظون * إِلا على أزواجهم أو ما ملكَت أيمانُهم فإِنّهم غيرُ ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} أي: والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا أو لواط، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلَّها الله لهم، وما ملكت أيمانهم من السراري، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج، ولهذا قال: {فإِنّهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك} أي: غير الأزواج والإِماء، {فأولئك هم العادون} أي: ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "فقه السّنّة" (3/ 207). (¬2) المؤمنون: 5 - 7.

المعتدون". وقال -رحمه الله-: "وقد استدل الإِمام الشافعي -رحمه الله- ومن وافَقَه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة {والذين هم لفروجهم حافظون * إِلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانُهم}. قال: فهذا الصنيع خارجٌ عن هذين القِسْمين، وقد قال -تعالى-: {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} ". وقال الإِمام القرطبي -رحمه الله-: " ... وقال بعض العلماء، إِنه كالفاعل بنفسه، وهي معصية أحدثها الشيطان وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة، وياليتها لم تُقَل؛ ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها. فإِنْ قيل: إِنها خير من نكاح الأمَة؛ قلنا: نكاح الأمة ولو كانت كافرة على مذهب بعض العلماء خير من هذا -وإِنْ كان قد قال به قائل أيضاً- ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل، عار بالرجل الدنيء، فكيف بالرجل الكبير" انتهى. وقال بعضهم: "إِنه حرام؛ إِلا إِذا استمنى خوفاً على نفسه من الزنا، أو خوفاً على صحّته ولم تكن له زوجة أو أمَة ولم يقدر على الزواج؛ فإِنه لا حرج عليه!!! ". قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المنّة": "ولا نقول بجوازه لمن خاف الوقوع في الزنى؛ إِلا إِذا استعمل الطبّ النبوي وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للشباب في الحديث المعروف الآمر لهم بالزواج: "فمن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإِنه له وجاء".

إتيان البهيمة:

ولذلك فإِننا ننكر أشدّ الإِنكار، على الذين يُفتون الشباب بجوازه، خشية الزنا؛ دون أن يأمرهم بهذا الطبّ النبوي الكريم". انتهى. وإِني لأخشى أن تُستغَل فتوى الترخّص في الاستمناء خوفاً من الزنى -مع ما تقدّم من التحفّظ- استغلالاً بشِعاً، وأن تُفهم على غير وجهها. فلا بدّ من التأكيد على تحريم الفِعل، وما يتضمّنه من الدناءة وسوء الأدب، ومنافاته مكارم الأخلاق. وقد تقدّم القول في "كتاب الصيام" (3/ 316). إِتيان البهيمة: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أتى بهيمة فاقتلوه، واقتلوها معه. قال: قلت له: ما شأن البهيمة؟ قال: ما أراه إِلا قال ذلك أنه كره أن يؤكل لحمها، وقد عمل بها ذلك العمل" (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ليس على الذي يأتي البهيمة حدّ" (¬2). جاء في "عون المعبود" (12/ 102): "وأكثر الفقهاء -كما حكاه الخطابي- ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3747)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1176)، وابن ماجه الجزء الأول منه "صحيح سنن ابن ماجه" (2078)، وانظر "الإِرواء" (2348). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3748)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" تحت رقم (1176)، وانظر "الإِرواء" (8/ 13).

حد القذف

على عدم العمل بهذا الحديث، فلا يقتل البهيمة، ومَن وقَع عليها، وإنّما عليه التعزير ترجيحاً لما رواه الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "من أتى بهيمة فلا حدّ عليه" قال الترمذي: هذا أصح من الحديث الأول، والعمل على هذا عند أهل العلم". قلت: إِذا ثبت الحديث وجبَ العمل به، مع رجائنا الأجر الواحد لمن لم يعمل به من العلماء اجتهاداً لرؤيةٍ شرعيّة. وجاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 182): "وسئل -رحمه الله- عن قوله في "التهذيب" من أتى بهيمة فاقتلوا المفعول، واقتلوا الفاعل بها، فهل يجب ذلك أم لا؟ فأجاب: الحمد لله هذا فيه حديث رواه أبو داود في "السنن" وهو قوله: "من أتى بهيمة فاقتلوه، واقتلوها" وهو أحد قولي العلماء؛ كأحد القولين في مذهب أحمد، ومذهب الشافعي". حدّ القذف حرمته: القذف: هو الرمي بالزنا، وهو محرَّم بإِجماع الأمّة، والأصل في تحريمه الكتاب والسُّنّة. قال الله -تعالى-: {والذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء

هل يقام حد القذف على من عرض؟

فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون} (¬1). وقال -سبحانه-: {إِنّ الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لُعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هنّ؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إِلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتّولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" (¬3). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما نزل عُذري، قام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر فذكر ذاك وتلا -يعني القرآن- فلما نزل من المنبر أَمَر بالرجلين والمرأة، فضُربوا حدهم" (¬4). هل يُقام حدّ القذف على من عرَّض (¬5)؟ ويُقام الحدّ على القاذف إِذا صرّح بالزنى أو عرّض، قولاً أو كتابة. ¬

_ (¬1) النور: 4. (¬2) النور: 23. (¬3) أخرجه البخاري (6857)، ومسلم (89). (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3756)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2542)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2081). (¬5) استفدت من عنوان (ما يجب توافره في المقذوف) من "فقه السّنّة" (3/ 216) بتصرّف.

ومثال التصريح أن يقول موجّهاً الخطاب إِلى غيره: يا زاني أو يقول عبارة؛ تجري مجرى هذا التصريح؛ كنفي نسَبِه عنه، ومثال التعريض؛ أن يقول في مقام التنازُع: لستُ بزانٍ، ولا أمّي بزانية. عن عمرة بنت عبد الرحمن: "أنّ رجلين استبّا في زمان عمر بن الخطاب، فقال أحدهما للآخر: والله ما أبي بزان، ولا أمّي بزانية، فاستشار في ذلك عمر ابن الخطاب. فقال قائل: مدَح أباه وأمّه، وقال آخَرون: قد كان لأبيه وأمّه مدْحٌ غير هذا، نرى أن تجلده الحدّ، فجلَده عمر الحدّ ثمانين" (¬1). وذَهب بعض العلماء إِلى أنه لا حدّ في التعريض، لأنّ التعريض يتضمّن الاحتمال، والاحتمال شُبهة؛ فلا حدّ عليه. وجاء في "الروضة الندية" (2/ 608) بعد ذكر أقوال العلماء: "أقول: التحقيق أنّ المراد مِنْ رمي المحصنات المذكور في كتاب الله -عزّ وجلّ-: هو أن يأتي القاذف بلفظٍ يدل -لغة، أو شرعاً، أو عرفاً- على الرمي بالزنا، ويظهر من قرائن الأحوال أن المتكلم لم يُرِدْ إِلا ذلك، ولم يأت بتأويلٍ مقبول يصح حمْل الكلام عليه، فهذا يوجب حدَّ القذف بلا شك ولا شُبهة. وكذلك لو جاء بلفظٍ لا يحتمل الزنا، أو يحتمله احتمالاً مرجوحاً، وأقرّ أنه أراد الرمي بالزنا، فإِنه يجب عليه الحد. وأمّا إِذا عرّض بلفظٍ مُحتَمل، ولم تدل قرينة حال ولا مقال على أنه قصد الرمي بالزنا؛ فلا شيء عليه؛ لأنه لا يسوغ إِيلامه بمجرد الاحتمال". ¬

_ (¬1) أخرجه مالك، والدارقطني، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2371).

بم يثبت حد القذف؟:

بمَ يثبت حدّ القذف؟ (¬1): يثبت حدّ القذف بأمرين: 1 - إِقرار القاذف، ويثبت ذلك بإِقراره مرّة؛ لكون إِقرار المرء لازماً له. 2 - شهادة عدلين؛ كسائر ما تمضي فيه الشهادة؛ كما أطلقه الكتاب العزيز. عقوبة القاذف الدنيوية: *أوجب الشرع على القاذف؛ إِذا لم يُقم بيّنة على صحّة ما قاله؛ ثلاثة أحكام: أحدها: أن يُجلد ثمانين جلدة. الثاني: أنه تُردّ شهادته دائماً. الثالث: أن يكون فاسقاً؛ ليس بعدل؛ لا عند الله ولا عند النّاس* (¬2). قال الله -تعالى-: {والذين يرمون المحصنات ثمِّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون * إِلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإِنّ الله غفور رحيم} (¬3). هل تُقبل شهادة القاذف إِذا تاب: قال ابن كثير -رحمه الله- بعد بيان ما أوجب الشرع على القاذف: "ثمّ ¬

_ (¬1) عن "الروضة الندية" (2/ 608) بتصرف. (¬2) انظر "تفسير ابن كثير" -رحمه الله-. (¬3) النور: 4 - 5.

قال -تعالى-: {إِلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإِنّ الله غفور رحيم}. اختلف العلماء في هذا الاستثناء: هل يعود إِلى الجملة الأخيرة فقط؛ فترفع التوبة الفسقَ فقط، ويبقى مردودَ الشهادة دائماً وإِنْ تاب، أو يعود إِلى الجملتين الثانية والثالثة؟ أمّا الجلد فقد ذهب وانقضى، سواء تاب أو أصرّ، ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف، فذهب الإِمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إِلى أنه إِذا تاب قُبِلت شهادته، وارتفع عنه حُكْم الفسق، ونص عليه سعيد بن المسيب -سيد التابعين- وجماعة من السلف أيضاً. وقال الإِمام أبو حنيفة: إِنما يعود الاستثناء إِلى الجملة الأخيرة فقط، فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة أبداً. وممن ذهب إِليه من السلف: القاضي شريح، وإِبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، ومكحول، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقال الشعبي والضحاك: لا تُقبل شهادته وإِنْ تاب، إِلا أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان، فحينئذ تقبل شهادته، والله أعلم". قال في "الروضة الندية" (2/ 609): "وإِذا لم يتُب لم تُقبل شهادته؛ لقوله -تعالى-: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} ثمّ ذَكر بعد ذلك التوبة. والذي يترجّح لديّ قبول شهادته إِذا تاب توبة نصوحاً وأكذب نفسه، ويقرّ أنه قال البُهتان، وذلك لما يأتي:

1 - للنصوص العامّة في قَبول التوبة بشروطها، ومن ذلك توبة القاتل (¬1) وهو أعظم جرماً من القاذف -بل تُقبل توبة المشرك إِذا تاب. وحين سألت شيخنا -رحمه الله- هل تقبل توبة الكاذب على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد اختلف فيها العلماء -وكنتُ مستحضراً في نفسي أَن الله تعالى يقبل التوبة من الشرك- فقال: إِذا كانت تُقبل توبة المشرك مِن شركه، فكيف بالكاذب على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!. 2 - لترجيحي قول العلماء الذين يرون رجوع الاستثناء إِلى الجملتين لا إِلى الجملة الأخيرة فقط. وقد فصَّل القولَ في ذلك الأُستاذ عبد القادر عبد الرحمن السعدي في كتابه النافع "أثر الدلالة النحوية واللغوية في استنباط الأحكام من آيات القرآن التشريعية" (ص 211 - 215) مُبّيناً أقوال النحاة والراجح في ذلك. فارجع إِليه -إِن شئت- فإِنه مهمّ. وأمّا أن يكذب نفسه، ويقرّ أنه قال البهتان، فهذا من شروط التوبة المتعلّقة بحقوق العباد، ورد الظالم، وتبرئتهم مما يجب فيه ذلك. ¬

_ (¬1) وفي المسألة تفصيل، والراجح قَبول توبة القاتل، ومن الأدلة على ذلك؛ أثر ابن عباس -رضي الله عنهما- "أنه أتاه رجل فقال: إِنّي خطبتُ امرأة فأبت أن تنْكحني وخطبَها غيري فأحبّت أن تنكحه، فغِرت عليها فقتلتُها، فهل لي من توبة؟ قال: أمّك حيّة؟ قال: لا، قال: تبْ إِلى الله -عز وجل- وتقرَّبْ إِليه ما استطعت، قال عطاء بن يسار: فذهبتُ فسألت ابن عباس -رضي الله عنهما- لم سألته عن حياة أمّه؟ فقال: إِني لا أعلم عملاً أقرب إِلى الله -عز وجل- من بر الوالدة" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب المفرد" برقم (4).

من رمى المحصنة ولم يأت بأربعة شهداء:

قال الله -سبحانه-: {إِنّ الذين يكْتُمُون ما أنزلْنَا من البيّناتِ والهدى من بعد ما بينّاه للناس في الكتاب أولئك يلعَنُهُمُ الله ويلعَنُهُم اللاعنُون * إِلا الذين تَابُوا وأصلَحُوا وبيّنوا فأولئك أتُوبُ عليهم وأنَا التّواب الرّحيم} (¬1). قال ابن كثير -رحمه الله-: "وفى هذا دلالة على أنّ الداعية إِلى كُفر أو بدعة إِذا تاب إِلى الله؛ تاب الله عليه". من رمى المحصنة ولم يأتِ بأربعة شهداء: عن أبي عثمان النهدي قال: "جاء رجل إِلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فشهد على المغيرة بن شعبة فتغيّر لون عمر، ثمّ جاء آخر فشهد؛ فتغيّر لون عمر، ثمّ جاء آخر فشهد؛ فتغيّر لون عمر، حتى عرفنا ذلك، وأنكر لذلك، وجاء آخر يحرك بيديه، فقال: ما عندك يا سلخ العقاب، وصاح أبو عثمان صيحة تشبهها صيحة عمر، حتى كربت (¬2) أن يغشى عليّ، قال: رأيت أمراً قبيحاً. قال: الحمد لله الذي لم يشمت الشيطان بأمّة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر بأولئك النفر فجلدوا" (¬3). ¬

_ (¬1) البقرة: 159 - 160. (¬2) كربت: بمعنى دنوت وقربت، انظر "النهاية". (¬3) أخرجه الطحاوي، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2361): "وإسناده صحيح". ورجاله ثقات غير ابن رشيد وهو صدوق وقد توبع، فقال ابن أبي شيبة (11/ 85/1): نا ابن علية عن التيمي عن أبي عثمان قال: "لما شهد أبو بكرة وصاحباه على المغيرة جاء زياد، فقال له عمر: رجلٌ لن يشهد إِن شاء الله إلاَّ بحقّ، قال: رأيت =

إذا كرر القذف للشخص نفسه:

وله طريق أُخرى عن قسامة بن زهير قال: لمّا كان من شأن أبي بكرة والمغيرة الذي كان -وذكر الحديث- قال: فدعا الشهود، فشهد أبو بكرة، وشبل بن معبد، وأبو عبد الله نافع، فقال عمر حين شهد هؤلاء الثلاثة: شق على عمر شأنه، فلما قدم زياد قال: إِن تشهد إِن شاء الله إِلا بحق، قال زياد: أما الزنا فلا أشهد به، ولكن قد رأيت أمراً قبيحاً، قال عمر: الله أكبر، حدوهم، فجلدوهم، قال: فقال أبو بكرة بعدما ضربه: أشهد أنه زان، فهمّ عمر -رضي الله عنه- أن يعيد عليه الجلد، فنهاه عليّ -رضي الله عنه- وقال: إِن جلدته فارجم صاحبك، فتركه ولم يجلده" (¬1). إِذا كرّر القذف للشخص نفسه: إِذا قذف المرء شخصاً وحُدّ، ثمّ قذفه مرّه أُخرى؛ حُدّ مرّة أخرى، وهكذا لو عاد؛ فإِنّه يُحدّ لكل قذف. ومن الأدلّة على ذلك؛ ما تقدّم في أثر قسامة بن زهير، وفيه قول عمر -رضي الله عنه-: "الله أكبر؛ حدُّوهم، فجلَدوهم، فقال أبو بكرة بعد ما ضَربه: أشهد أنه زان، فهمّ عمرُ -رضي الله عنه- أن يعيد عليه الجلد؛ فنهاه عليّ -رضي الله عنه- وقال: إِنْ جلدْتَه؛ فارجم صاحبك، فتركه ولم يجلده" (¬2). ¬

_ = انبهاراً، ومجلساً سيئاً، فقال عمر: هل رأيت المرود دخل المكحلة؟ قال لا، قال: فأَمَر بهم فجُلدوا" قال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (8/ 29): "وهذا إِسناد صحيح على شرط الشيخين". (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2361) وتقدّم. (¬2) المصدر السابق.

سقوط حد القذف:

والشاهد فيه أن عُمَر همّ بإِعادة الحدّ مرّةً أُخرى، ومنعَه ذلك وضْع خاصّ، وهو أنّه إِذا حدّه، فكأنها أصبحت أربع شهادات، فيجب رجْم المقذوف فلم يفعل -والله تعالى أعلم-. سُقوط حد القذف (¬1): ويسقط حد القذف بمجيء القاذف بأربعة شهداء؛ لأن الشهداء ينفون عنه صفة القذف الموجبة للحد، ويثبتون صدور الزنى بشهادتهم، فيقام حد الزنى على المقذوف؛ لأنه زان، وكذلك إِذا أقرّ المقذوف بالزنى، واعترف بما رماه به القاذف. وإِذا قذفَت المرأة زوجها، فإِنه يقام عليها الحدّ إِذا توفرت شروطه، بخلاف ما إِذا قذَفَها هو، ولم يُقِم عليها البيّنة؛ فإِنه لا يقام عليه الحدّ، وإِنما يتلاعنان (¬2). إِقامة الحد يوم القيامة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من قذَف مملوكه وهو بريء مما قال؛ جُلِد يوم القيامة، إِلا أن يكون كما قال" (¬3). ¬

_ (¬1) عن "فقه السنّة" (3/ 222). (¬2) وانظر (باب اللعان) في المجلد الرابع. (¬3) أخرجه البخاري (6858)، ومسلم (1660).

حد السرقة

حدّ السّرقة تعريف السّرقة: السرقة لغةً: أخْذ الشيء المحرَز من الغير؛ من مالكه أو نائبه على وجه الاختفاء (¬1). أجمع العلماء على قطع اليد في السرقة لقوله -تعالى-: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديَهما ... } (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تقطع اليد في رُبع دينار فصاعداً" (¬3). أنواع السرقة (¬4) والسرقة أنواع: 1 - ما يوجب التعزير: وهي السرقة التي لم تتوفر فيها شروط إِقامة الحد، وقد قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمضاعفة الغُرم والعقوبة على مَن سَرَق ما لا قطْع فيه؛ كما في سارق الثمار المعلّقة، وكذا سارق الشّاة من المرتع. ¬

_ (¬1) "منار السبيل" (2/ 340) -بتصرّف وزيادة يسيرين-. (¬2) المائدة: 38. (¬3) أخرجه البخاري (6789)، ومسلم (1684). (¬4) عن "فقة السُّنة" (3/ 259) -بتصرف-.

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه سُئل عن الثمر المعلق، فقال: "من أصاب بفيه (¬1) من ذي حاجة غير مُتّخذٍ خُبْنَةً (¬2)، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مِثلَيْه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجَرين (¬3) فبلغ ثمن المجنّ (¬4) فعليه القطع" (¬5). وفي رواية من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رجلاً من مُزَيْنة أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! كيف ترى في حريسة (¬6) الجبل، فقال: "هي وَمثْلُها والنَّكَالُ، ولَيْس في شَيْء مِنَ الماشيَة قَطعٌ، إِلا فيما آوَاه المُراحُ (¬7). فَبَلغَ ثمن المِجَنّ، فَفيِه قَطْع اليد، وما لم يَبلُغ ثمن المِجَنِّ، ففيِه ¬

_ (¬1) فيه دليل على أنّه إِذا أخَذَ المحتاج بُغيته لسدّ فاقته؛ فإِنه مباح "عون المعبود" (5/ 91). (¬2) الخُبنة: مِعطف الإِزار وطرف الثوب: أي لا يأخذ منه في ثوبه. (¬3) الجَرين: موضع تجفيف التمر، وهو له كالبيدر للحِنطة "النهاية". (¬4) المجنّ: هو التُرس؛ لأنه يواري حامله: أي يستره والميم زائدة "النهاية" أيضاً. (¬5) أخرجه أبو داود، "صحيح سنن أبي داود" (1504)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4593) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2104) وانظر "الإِرواء" (2413). (¬6) الحريسة: فعيلة بمعنى مفعولة: أي أنّ لها مِن يحرسها ويحفظها ومنهم من يجعل الحريسة السرقة نفسها ... "النهاية" والمراد: ليس فيما يُسرق من الجبل قطع، لأنه ليس بحرز. (¬7) المُراح: الموضع الذي يريح الراعي إليه الماشية إِذا أمسى وانظر "غريب الحديث" للهروي.

ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع:

غرامةُ مِثْليِه، وجَلَدَات نَكَال" (¬1). قال يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلق؟ قال: "هو ومِثلُه معهُ والنّكالُ، وليس في شيء من الثمر المعلق قَطعٌ إِلا فيما آواه الجَرينُ، فما أُخِذ من الجَرين فبَلَغ ثمنَ المِجَنّ، ففيِه القَطعُ، وما لم يَبْلغ ثَمَنَ المِجَن فَفِيه غَرَامةُ مِثليْه وجَلداتُ نَكَال" (¬2). وعن رافع بن خديج -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا قطع في ثمر ولا كَثَر (¬3) ". (¬4) 2 - ما يوجب الحدّ وهي التي يجب فيها قطع اليد. ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع: عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليس على خائن (¬5) ولا مُنْتهب (¬6) ¬

_ (¬1) النكال: العقوبة التي تنكُلُ الناسَ عن فِعْل ما جُعلت له جزاءً "النهاية". (¬2) أخرجه النسائي، "صحيح سنن النسائي" (4594)، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2413). (¬3) الكَثَر: -بفتحتين- جُمّار النخل، وهو شحمه الذي وسَط النخلة "النهاية". (¬4) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ومالك والدرامي وغيرهم وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2414). (¬5) الخائن: أي في نحو وديعة. (¬6) المنتهب: هو الذي يعتمد القوّة والغَلَبة ويأخذ عياناً.

ولا مختلس (¬1) قطع (¬2) ". (¬3) قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأمّا قطع يد السارق في ثلاثة دراهم، وترْك قطْع المختلس، والمنتهب، والغاصب، فمِن تمام حكمة الشارع أيضاً؛ فإِنّ السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإِنه ينقُب الدور، ويهتك الحِرز، ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فلو لم يشرع قطْعه، لسَرَق الناس بعضهم بعضاً، وعظُم الضرر، واشتدت المحنة بالسُّراق، بخلاف المنتهب والمختلس؛ فإِن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس، فيمكنهم أن يأخذوا على يديه، ويُخلّصوا حقّ المظلوم أو يشهدوا له عند الحاكم. ¬

_ (¬1) المختلس: هو من يأخذ معاينةً ويهرب، لأنّ من شرط القطع الإِخراج من الحرز. (¬2) قال في "فيض القدير" (5/ 369): " ... وليس عليهم قطع لأنهم غير سُرّاق والله -سبحانه- أناط القطع بالسرقة، قال ابن العربي: أمّا المنتهب فلأنه قد جاهر، والسرقة معناها الخفاء والتستر عن الأبصار والأسماع. وأمّا المختلس فإِنه وإنْ كان سارقاً لغةً؛ فليس بسارق عرفاً، فإِنه مجاهر لا يقصد الخلوات ولا يترصد الغفلات إِلا عن صاحب المال فقط، وإنما يراعى فعل السرقة على العموم. وأمّا الخائن فلأنه ائتمن على المال ومكن منه فلم يكن محترزاً عنه كالمودع والمأذون في دخول الدار". (¬3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1172)، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3690)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2099)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4606).

هل في جحد العارية حد؟

وأمّا المختلس فإِنّه إِنّما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره، فلا يخلو من نوع تفريط يُمكّن به المختلس من اختلاسه، وإِلا فمع كمال التحفُّظ والتيقُّظ، لا يمكنه الاختلاس، فليس كالسارق، بل هو بالخائن أشبه، وأيضاً فالمختلس إِنما يأخذ المال من غير حِرز مثله غالباً، فإِنه الذي يغافلك، ويختلس متاعك في حال تخلّيك عنه، وغفلتك عن حِفظه، وهذا يمكن الاحتراز منه غالباً، فهو كالمنتهب. وأمّا الغاصب فالأمر فيه ظاهر، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب، ولكن يسوغ كفّ عدوان هؤلاء بالضرب والنَّكال، والسجن الطويل، والعقوبة بأخذ المال". (¬1) هل في جحد العارية حدّ؟ *اختلف العلماء في حُكم جاحد العارية، فقال الجمهور لا تُقطع يده؛ لأن القرآن والسنّة أوجبا القطع على من سرق، والجاحد للعارية ليس بسارق! * (¬2). وذهب الإِمام أحمد (¬3) وإِسحاق وجمْع من العلماء إِلى قطع يده لحديث عائشة -رضي الله عنها- "أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي ¬

_ (¬1) قاله ابن القيم في "إِعلام الموقعين" (2/ 61) وذكره السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (3/ 262). (¬2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 262) -بتصرف-. (¬3) في "منار السبيل" (2/ 340) قال الإمام أحمد: "لا أعرف شيئاً يدفعه، وعنه: لا قطع عليه".

سرقت فقالوا: من يكلّمُ فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن يجترئ عليه إِلا أسامة حِبّ (¬1) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فكلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أتشفع في حدّ من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: يا أيها الناس إِنما ضلّ من كان قبلكم أنهم كانوا إِذا سرق الشريف تركوه، وإِذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وايم (¬2) الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقَت لقطع محمد يدها" (¬3). وفي رواية عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تُقطَع يدها ... " (¬4). قال الإِمام ابن حزم -رحمه الله- بعد تفصيل ومناقشة للآراء المخالفة في "المحلى" (3/ 414): "فتُقطع يد المستعير الجاحد؛ كما تقطع من السارق -سواءٌ بسواء- .... ". ولا شك أن الحديث هو الفيصل فقد نزّل الجحد منزلة السرقة، وقد كان القطع لأجل الجحد، ورواية "سرقت" تفسير للفظ "تستعير المتاع وتجحده". قال الإِمام الشوكاني -رحمه الله- في "نيل الأوطار" (7/ 308): ¬

_ (¬1) أي محبوبه. (¬2) أيم اللهِ: من ألفاظ القَسم، وفيها لغاتٌ كثيرة، وتُفتَح همزتها وتُكسَر، وهمزتها وصْلٌ، وقد تُقطع. "النهاية". (¬3) أخرجه البخاري (6788) ومسلم (1688). (¬4) أخرجه مسلم (1688).

الصفات التي يجب اعتبارها في السارق:

" .. فالحق قطع جاحد الوديعة؛ ويكون ذلك مُخصِّصاً للأدلة الدالة على اعتبار الحرز، ووجهه أن الحاجة ماسّة بين الناس إِلى العارية، فلو علم المعير أن المستعير إِذا جحَد؛ لا شيء عليه؛ لجَرّ ذلك إِلى سد باب العارية وهو خلاف المشروع". الصفات التي يجب اعتبارها في السارق (¬1): *1 - أن يكون السارق بالغاً عاقلاً؛ فلا حدّ على مجنون ولا صغير إِذا سرق؛ لأنهما غير مُكَلَّفين ولكن يُؤدّب الصغير إِذا سرَق. ولا يُشترط في السارق الإسلام؛ فإِذا سَرق الذّمي أو المرتدّ فإِنه يُقطع، كما أنّ المسلم يُقطَع إِذا سرَق من الذمّي. [أقول: هذا لعموم النصوص الواردة في عقوبة السارق والسارقة من غير استثناء؛ فتُؤخذ على عمومها]. 2 - الاختيار؛ بأن يكون السارق مختاراً في سرقته، فلو أُكره على السرقة؛ فلا يُعدّ سارقاً؛ لأن الإِكراه يسلبه الاختيار، وسلْب الاختيار يُسقِط التكليف. 3 - ألا يكون للسارق في الشيء المسروق شبهة، فإِن كانت له فيه شُبهة؛ فإِنه لا يقطَع، ولهذا لا يقطع الأب ولا الأمّ بسرقة مالِ ابنيهما.* (¬2). فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- "أنّ رجلاً قال: يا رسول الله إِنّ لي ¬

_ (¬1) لا يجب القطع إِلا بسبعة شروط ذكرها صاحب "المغني" -رحمه الله- في كتابه تحت (باب القطع في السرقة) فانظرها -إِن شئت- المزيد من الفائدة. (¬2) ما بين نجمتين من "فقه السُّنة" (3/ 264).

مالاً وولداً. وإِنّ أبي يريد أن يجتاحَ مالي. فقال: أنت ومَالُك لأبيكَ" (¬1). وجاء في "السيل الجرّار": (4/ 367) قوله: "ولا يقطع والد لولده وإنْ سفُل". أقول: لا شك أنّ حديث: "أنت وَمالُكَ لأَبيكَ" يكون شبهة أقلّ أحْوَاله، وهو حديث تقوم به الحجّة، وقد عضده حديث: "كُلُوا مِنْ كَسبِ أولادكم" وأمّا الولد إِذا سرق مال والده فلا شبهة له، وهو مشمول بالأدلة الموجبة للحد على السارق. قلت: ويرى شيخنا -رحمه الله- أنه لا بدّ من تقييد هذا بالحاجة، والله أعلم بالصواب. فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ أولادكم هِبَةُ الله لكم {يَهَبُ لمن يشاء إناثاً ويَهَبُ لمن يشاء الذّكور} فهم وأموالهم لكم إِذا احتجتُم إِليها" (¬2). قال شيخنا -رحمه الله-: "وفي الحديث فائدة فقهية هامة قد لا تجدها في غيره، وهي أنه يبين أنّ الحديث المشهور: "أنت ومالك لأبيك" (¬3) ليس على إِطلاقه، بحيث أنّ الأب يأخذ من مال ابنه ما يشاء، كلا وإِنما يأخذ ما هو بحاجة إِليه". انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1855) وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (838). (¬2) أخرجه الحاكم وعنه البيهقي وانظر "الصحيحة" (2564). (¬3) انظر"الإرواء" (838).

قلت: لذلك كان يرى ابن حزم -رحمه الله- قطع الأب والأم لغير حاجة فقد قال في "المحلى" (13/ 385): " ... فصحّ أن القطع واجب على الأب والأمّ، إِذا سرقا من مال ابنهما؛ ما لا حاجة بهما إِليه". والذي يترجح لديّ عدم إِقامة الحدّ على الأب للشبهة المعلومة، فإِن الوالد لا يُقتل بولده، -كما سيأتي إِن شاء الله تعالى في حدّ القتل (¬1) -. وسيأتي الآن بعد سطرٍ -بإِذن الله سبحانه- عدم قطع الخادم؛ فالأب من باب أولى. والله -تعالى- أعلم. ولا يقطع الخادم الذي يخدم سيده. فعن السائب بن يزيد؛ أنّ عبد الله بن عمرو الحَضرمي جاء بغلام له إِلى عمر بن الخطاب فقال له: "اقطع يد غلامي هذا فإِنه سرق، فقال له عمر: ماذا سرق؟ فقال: سرق مرآة لامرأتي ثمنها ستون درهماً. فقال له عمر: أرسِله فليس عليه قطع، خادمكم سرق متاعكم" (¬2). وعن عمرو بن شرحبيل قال: "جاء معقل المزنيّ إِلى عبد الله فقال: غلامي سرق قبائي، فاقطعه، قال عبد الله: لا؛ مالك بعضُه في بعض". ¬

_ (¬1) وفي ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يُقتَل والدٌ بولده" أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله - في "الإرواء" (2214). (¬2) أخرجه مالك والشافعي والبيهقي وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2419).

الصفات التي يجب اعتبارها في المال المسروق:

وفي لفظ "مالك سرق بعضه بعضاً؛ لا قطع عليه" (¬1). الصفات التي يجب اعتبارها في المال المسروق: *1 - أن يكون ممّا يُتَموَّل ويُملَك ويَحل بيعه، وأخذ العِوض عنه، فلا قطع على من سَرق الخمر والخنزير؛ حتى لو كان المالك لهما ذمّيّا؛ لأن الله -تعالى- حرّم ملكيتهما والانتفاع بهما؛ بالنسبة للمسلم والذّمي على السواء. وكذلك لا قطع على سارق أدوات اللهو؛ مثل العود والكمنج والمزمار (¬2)؛ لأنها آلات لا يجوز استعمالها، وأمّا الذين يُبيحون استعمالها؛ فهم يتفقون مع مَن يُحرّمها في عدم قطع يد سارقها، لوجود شبهة، والشبهات مُسقِطةٌ للحدود* (¬3). 2 - أن يكون في حرز (¬4)، فشَرْط القطع؛ الإِخراج من الحرز -كما تقدم- قال النووي -رحمه الله- في "شرح مسلم" (11/ 185): "والحرز مشروطٌ؛ فلا قطع إِلا فيما سرق من حرزٍ، والمعتبر فيه العُرف؛ ممّا عدّه أهل العُرف حرزاً لذلك الشيء؛ فهو حِرزٌ له، ومالا؛ فلا .. " (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي، وقال شيخنا -رحمه الله-: "وإِسناده صحيح"، وقال البيهقي: "وهو قول ابن عباس" وانظر "الإِرواء" (2421). (¬2) انظر للمزيد -إن شئت- ما جاء في "المغني" (10/ 282). (¬3) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 267). (¬4) الحرز في اللغة: الموضع الحصين. (¬5) انظر للمزيد -إِن شئت- ما جاء في "الروضة الندية" (2/ 595).

قلت: وهذا مأخوذٌ باستقراء الأحاديث والآثار؛ كما هو بيّن. 3 - أَلاّ يقل الشيء المسروق عن ربع دينار من ذهب أو ما يعادلها كما في الحديث "تُقطع اليد في ربع دينار" (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لم تُقطع يَد السارق في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أقلّ مِن ثمن المجنّ (¬2) جَحَفة (¬3) أو ترس، وكلاهما ذو ثمن" (¬4). وفي رواية عنها أيضاً؛ قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تُقطَع يد السارق فيما دون المِجَنّ، قيل لعائشة: ما ثمن المجنّ؟ قالت: ربع دينار" (¬5). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "قطع سارقاً في مِجَنّ قيمته ثلاثة دراهم" (¬6). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لعَن الله السارق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6789)، ومسلم (1684) وتقدّم في حدّ السرقة. (¬2) المِجَنّ: بكسر الميم وفتح الجيم: وهو اسم لكل ما يُستجنّ به -أي يُستَتَر-. (¬3) الحَجَفة: هي الدَّرقة واحدة الحجف: وهي التروس من جلود بلا خشب ولا عَقَب ولا رباط من عصب. (¬4) أخرجه البخاري (6794)، ومسلم (1685). (¬5) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4583). (¬6) أخرجه البخاري (6997)، ومسلم (1686).

يسرق البيضة (¬1) فتُقَطَع يده، ويَسرِق الحبل فتُقطع يده". قال الأعمش: كانوا يرَون أَنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرَون أنه منها ما يساوي دراهم (¬2). وجاء في "الفتح": " ... وحاصلُه أَنّ المراد بالخبر؛ أنّ السارق يسرق الجليل فتُقطع يده، ويسرق الحقير فتُقطع يده، فكأنّه تعجيزٌ له وتضعيفٌ لاختياره؛ لكونه باع يده بقليل الثمن وكثيره". وقد ثبت في السُّنة المطهرة عدم القطع في الثمر والكثر (¬3). عن رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا قطع في ثَمر ولا كَثَر" (¬4). وذكر بعض الفقهاء أن فيه شبهة الشركة العامّة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المسلمون شركاء في ثلاثة: في الكلأ، والماء، والنار" (¬5). ¬

_ (¬1) فسّرها بعضهم بالخُوذة، وآخرون ببيضة الدجاجة، والراجح الأول وما في معناه؛ كيلا يكون القطع في أقل من ربع دينار. والله أعلم. (¬2) أخرجه البخاري (6783)، ومسلم (1687). (¬3) الكَثَر: تقدّم أنه شحم النخل الذي يكون وسط النخلة. (¬4) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3688) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1173)، وابن ماجه، "صحيح سنن ابن ماجه" (2101)، والنسائي، "صحيح سنن النسائي" (4595) وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1414) وتقدّم. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2968)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2004) وانظر الإِرواء (1552).

ما يعتبر في الموضع المسروق منه:

ما يُعتبر في الموضع المسروق منه (¬1): وأمّا الموضع المسروق منه، فإِنه يُعتبر فيه الحرز. والحِرز؛ هو الموضع المعدّ لحفظ الشيء؛ مثل الدار، والدّكان، والاصطبل، والمراح، والجرين (¬2)، ونحو ذلك. واعتبار الشرع للحرز؛ لأنه دليل على عناية صاحب المال به، وصيانته له، والمحافظة عليه من التعرض للضياع. ودليل ذلك حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: أن رجلاً من مُزَيْنة أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا رسول الله! كيف ترى حريسة الجبل، فقال: هي وَمِثْلُها والنَّكَالُ، ولَيْس في شَيْء مِنَ الماشِيَة قَطعٌ، إِلا فِيما آوَاه المُراحُ. فَبَلغ ثمن المِجَنّ، فَفيِه قَطْع اليد، وما لم يبلُغ ثمن المِجَنِّ، ففيِه غرامةُ مِثلْيِه، وجَلَدَات نَكَال. قال: يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلّق؟ قال: هو ومِثلُه معهُ والنّكالُ، وليس في شيء من الثمر المعلق قَطعٌ إِلا فيما آواه الجَرينُ، فما أُخِذ من الجَرين فبَلَغ ثمنَ المِجَنّ، ففِيه القَطعُ، وما لم يَبْلغ ثَمَنَ المِجَن فَفِيه غَرَامة ¬

_ (¬1) عن "فقه السنة" (3/ 274) -بحذف-. (¬2) الجَرين: موضع تجفيف التمّر.

الإنسان حرز نفسه:

مِثليْه وجَلَداتُ نَكَال" (¬1). قال ابن القيّم -رحمه الله-: "فإِنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة، وأوجبه على سارقه من الجرين. وعند أبي حنيفة -رحمه الله- أنّ هذا لنقصان ماليته؛ لإسراع الفساد إِليه وجعَل هذا أصلاً في كل ما نقصت ماليته بإِسراع الفساد إِليه. وقول الجمهور أصح؛ فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل هذا له ثلاثة أحوال: حالة لا شيء فيها، وهي ما إِذا أكل منه بفيه، وحالة يُغرم مثليه ويُضرب من غير قطْع، وهي ما إِذا أخرجه من شَجَره وأخذه، وحالة يقطع فيها وهو ما إِذا سرقه من بيدره؛ سواء أكان قد انتهى جفافه، أم لم ينته. فالعبرة بالمكان والحرز، لا بيبسه ورطوبته، ويدل عليه أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسقط القطع عن سارق شاة من مرعاها، وأوجبه على سارقها من عَطَنها، (¬2) فإِنه حرز". انتهى. الإِنسان حِرْز نفسه: والإِنسان حِرْزٌ لثيابه ولفراشه الذي هو نائم عليه، سواء كان في المسجد أم في خارجه، فمن جلس الطريق ومعه متاعه فإِنه يكون مُحرَزاً به. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4594)، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2413) وتقدّم. (¬2) العطن: مبرك الإِبل.

المطالبة بالمسروق شرط في القطع:

عن صفوان بن أميّة -رضي الله عنه- قال: "كنت نائماً في المسجد عليّ خميصةٌ لي ثمن ثلاثين درهماً، فجاء رجل فاختلسها مني، فأُخِذَ الرجل، فأُتي به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر به ليقطع. قال: فأتيته، فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً، أنا أبيعه وأنسئه ثمنها؟ قال "فَهَلاَّ كان هذا قبل أن تأتيني به" (¬1). المطالبة بالمسروق شرطٌ في القطع: للحديث السابق وفيه شكوى صفوان -رضي الله عنه- على الرجل، وحين طلب العفو عن السارق قال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فَهَلاَّ كان هذا قبل أن تأتيني به". ففيه جواز العفو وعدم رفْعه إِلى وليّ الأمر. المسجد حرزٌ: قد تقدم حديث صفوان بن أميّة -رضي الله عنه- قال: "كنت نائماً في المسجد عليّ خميصةٌ لي ثمن ثلاثين درهماً، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخِذَ الرجل، فأُتي به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر به ليقطع، قال: فأتيته ... ". وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع يد رجل سرق تُرْساً من صُفَّةِ النساء؛ ثمنه ثلاثة دراهم" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3693)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4532) وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2317). (¬2) أخرجه أبو داود"صحيح سنن أبي داود" (3687)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4559)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2411).

السرقة من الدار:

جاء في عون المعبود (12/ 35): "صُفّة النساء بضم الصاد وتشديد الفاء: أي الموضع المختصّ بهن في المسجد وصُفّة المسجد: موضع مُظلّل منه. قاله الشوكاني". السرقة من الدار: وعلى ما مضى من التفصيل فإِنّ الدار لا تكون حرزاً إلاَّ إِذا كان بابُها مغلقاً والله أعلم-. بمَ يثبثُ حدّ السرقة؟ يثبتُ حدّ السرقة بشهادة عدلين أو بالإِقرار. إِذا تراجع الشاهدان في الشهادة بعد إِقامة الحدّ: عن مطرِّفٍ عن الشعبي في رجلين شهدا على رجلٍ أنه سرق، فقطعه عليّ، ثمّ جاءا بآخر، وقالا: أخطَأنا، فأبطل شهادتهما، وأخذَ بديَة الأول وقال: لو علمتُ أنكما تعمّدتما لقطعتكما" (¬1). وفي لفظ: "وأغرمهما دية الأول" (¬2). إِذا عُلم كذب الشاهِدَين أقيم عليهما الحدّ: أفاد الأثر السابق أنه إِذا عُلم كذب الشاهدين؛ أقيم عليهما الحد، وفيه قول علي -رضي الله عنه-: "لو علمتُ أنّكما تعمّدتما لقطعتكما". ¬

_ (¬1) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به (كتاب الديات باب - 21) ووصله الشافعي عن سفيان بن عيينة عن مطرف بن طريف بن الشعبي .. كذا قال الحافظ -رحمه الله- في الفتح تحت الباب السابق. (¬2) انظر ما جاء في "الفتح" أيضاً تحت الباب السابق.

هل يتوقف الحد على طلب المسروق منه؟

هل يتوقف الحدّ على طلب المسروق منه؟ نعم؛ يتوقّف الحد على مطالبة المسروق منه، وقد تقدم قول صفوان -رضي الله عنه- حين سُرقت منه الخميصة- أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً، أنا أبيعه وأنسئه ثمنها؟ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فَهَلاَّ كان هذا قبل أنْ تأتيني به". ومما يدّل على أن الحد يتوقف على طلب المسروق منه؛ ما ثبت عن عبد الله ابن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تعافوا (¬1) الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدٍّ فقد وجب" (¬2). هل يُلقّن القاضي السارق ما يُسقط الحدّ؟ للقاضي أن يُلقّن السارق ما يُسقط الحدّ، فليس المراد الحدّ في نفسه، ولكن المراد التوبة والإِقلاع عن التعدّي على النّاس، فمن لم يعِ هذه المعاني فإِن الحدود تزجره وتكفّه عن اقتراف هذه العاصي. عن القاسم بن عبد الرحمن أن عليّاً -رضي الله عنه- أتاه رجل فقال: "إِني سرقت، فطرَده ثمّ عاد مرة أخرى فقال: إِني سرقت فأمَرَ به أن يُقطَع". وفي لفظ: "لا يقطع السارق حتى يشهد على نفسه مرتين" حكاه أحمد في رواية مهنا (¬3). وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- " أنه أُتي بجارية سوداء سرقت، فقال ¬

_ (¬1) أي: تجاوزوا عنها ولا ترفعوها إِليّ، فإني متى علمتها أقمتها. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3680) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4538) وانظر المشكاة (3568). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وقال شيخنا -رحمه الله-: "وهذا إِسناد صحيح على شرط الشيخين" وانظر "الإِرواء" (2425).

عقوبة السرقة:

لها: سرقتِ؟ قولي لا، فقالت: لا، فخلّى سبيلها" (¬1). وعن عطاء قال: "كان من مضى يؤتى بالسارق، فيقول: أسرقت؟ ولا أعلمه إِلا سمّى أبا بكر وعمر" (¬2). وفي سؤال أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-: أسرقْت؟ مجال لقول: لا، فهذا ضرْب من ضروب التلقين. والله -تعالى- أعلم. عقوبة السرقة: إِذا ثبتت السرقة وجَب إِقامة الحد على السارق؛ لقوله -تعالى-: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديَهما ... } (¬3). فتقطع يده اليمنى من مفصِل الكفّ. قال الإِمام القرطبي -رحمه الله- في تفسير الآية السابقة: "فإِذا قطعت اليد أو الرجل؛ "فإِلى أين تقطع؟ فقال الكافة: تقطع من الرسغ والرجل من المفصِل ... ". وذكر الإِمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلى" تحت المسألة (2288) (13/ 404) صِفة القطع وأنها من المفصِل وذكر بعض الآثار عن عمر -رضي الله عنه- وغيره من السلف. وقال -رحمه الله-: "وهكذا وجدنا الله -تعالى- إِذا أمَرَنا في التيمم بما ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة وغيره وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" تحت رقم (2427). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في الإِرواء (8/ 79) تحت (2427). (¬3) المائدة: 38.

أمَرَ، إِذ يقول -تعالى-: {فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيّباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (¬1). ففسّر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مراد الله -تعالى- بذكر الأيدي هاهنا، وأنه الكفان فقط، على ما قد أوردناه". ثم قال (ص 405): "وإِنْ سرق الحُر؛ قُطعت يده من الكوع وهو المفصل" (¬2). وجاء في رسالة "منزلة السُّنة في الإِسلام وبيان أنه لا يُستغنى عنها بالقرآن" (ص 7) لشيخنا -رحمه الله-: "وقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديَهما ... }. مثالٌ صالح لذلك (¬3) فإِنّ السارق فيه مطلق كاليد، فبيَّنت السُّنّة القولية الأول منهما، وقيَّدتْه بالسارق الذي يَسرق ربع دينار بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا قطع إِلا في ربع دينار فصاعداً". أخرجه الشيخان. كما بيّنت الآخر بفِعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو فِعْل أصحابه وإِقراره، فإِنهم كانوا يقطعون يد السارق من عند المفصل -كما هو معروف في كتب الحديث- بينما بيّنَت السنة القولية اليد المذكوره في آية التيمم: {فَامسَحُوا بوجوهكمْ وأيْدِيكمْ} (¬4) بأنها الكف أيضاً بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "التيمم ضربة للوجه والكفين" أخرجه أحمد والشيخان وغيرهم من حديث عمّار بن ياسر -رضي الله عنهما-". ¬

_ (¬1) المائدة: 6. (¬2) وانظر للمزيد -إِن شئت- "المغني" (10/ 264) و"السيل الجرار" (4/ 362). (¬3) أي: ضرورة السُّنة لفهم القرآن. (¬4) المائدة: 6.

حسم يد السارق إذا قطعت:

حسْم (¬1) يد السارق إِذا قُطعت: إِذا قُطعت يد السارق وجَب حسْمها، لأنّ حدّه قطع اليد، وعدم الحسم قد يُفضي إِلى الموت والهلاك. وفي (باب الحرابة) تحت عنوان: (عدم حسم المحاربين من أهل الردّة) سيأتي -إن شاء الله تعالى- حديث أنس -رضي الله عنه- وفيه: "فقَطَع أيديهم وأرجلهم وسَمل أعينهم ثم لم يحسِمهم". فدلّ هذا على أن الأصل في قطع اليد هو الحسم، لكن هؤلاء المحاربين لم يُحسموا لشناعة جريمتهم. فائدة: *والمرأة كالرجل في الحدود كُلّها، كما في النصوص والآثار؛ وأمّا حديث النهي عن قتل النساء؛ فذلك إِنّما هو في حال الحرب؛ لأجل ضعفهنّ وعدم مشاركتهنّ في القتال* (¬2). فعن رباح بن ربيع قال: "كنّا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، فرأى النّاس مجتمعين على شيء، فبعَث رجلاً فقال: انظر عَلامَ اجتمع هؤلاء، فجاء فقال: على امرأة قتيل، فقال: ما كانت هذه لتُقاتل. قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً فقال: قلْ لخالد لا يَقْتُلَنّ امرأةً، ولا عَسيفاً (¬3) " (¬4). ¬

_ (¬1) الحسم: أن توضع اليد بعد القطع في زيت حارّ، وذلك لمنْع استمرار نزْف الدّم، ويتحقّق بأي صورة طيّية؛ يمكن أن تمنع نزْف الدم، وتقدّم. (¬2) ما بين نجمتين عن "فقه السنة" (3/ 230) بتصرّف يسير. (¬3) العسيف: الأجير انظر "النهاية". (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2324) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2294) وانظر "الصحيحة" (701).

الردة والزندقة

الردَّة والزّندقة

الردة:

الردّة: الردّة من قولك: ردَدَت الشيء: أرُدُّه؛ كأنّه ردَّه إِلى كُفره فارتدّ، أي: فرجع وردّ نفسه (¬1). وقال في "المغني" (10/ 74): "الردّة: هي الرجوع عن دين الإِسلام إِلى الكُفر، قال الله -تعالى-: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} (¬2). وقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من بدل دينه فاقتلوه" (¬3). وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم، ولم ينكر ذلك فكان إِجماعاً". وفيه أيضاً (10/ 74): "فمن أشرك بالله -تعالى- أو جحد ربوبيته أو وحدانيته أو صفة من صفاته أو قال اتخذ صاحبة أو ولداً، أو جحد نبياً أو كتاباً من كتب الله أو شيئاً منه، أو سبَّ الله -سبحانه وتعالى- ورسوله كَفَر". *ولا يجوز إِيقاع حُكم التكفير على أيّ مسلم؛ إِلا مَن دلّ الكتابُ والسّنة على كُفره دلالةً واضحة صريحة بيّنة؛ فلا يكفي في ذلك مجرّدُ ¬

_ (¬1) "حلية الفقهاء" (198). (¬2) البقرة: 217. (¬3) أخرجه البخاري (3017).

الشبهة والظنّ. وقد يَرِد في الكتاب والسّنة؛ ما يُفهم منه أن قولاً ما أو عملاً أو اعتقاداً كُفرٌ؛ مخرجٌ من الإِسلام، لكن ليس لنا أن نكفِّر به أحداً بعينه؛ إِلا إِذا أقيمت عليه الحُجّة؛ بتحقيق الشروط: علماً وقصداً واختياراً وانتفاء للموانع، وهي عكس هذه وأضدادها، وهي الجهل والذهول والإِكراه* (¬1). فمن سجد عند صنم وهو لا يعلم أنه صنَم، أو نطق كلمةً مِن كلمات الكُفر وهو في ذهول؛ كأن يقول: اللهم أنت عبدي وأنا ربّك، أو أُكره على ذلك وقلبه مطمئنٌ بالإِيمان فإنه لا يكفُر. قال الله -تعالى-: {مَن كفَر بالله من بعد إِيمانه إِلا مَن أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإِيمان ولكن من شرح بالكُفر صدراً فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذابٌ أليم} (¬2). وقد نزلت هذه الآية في عمّار بن ياسر -رضي الله عنه- (¬3). وقد يكون المرء حديث عهدٍ بالإِسلام؛ فما وقع منه من بعض الكفر؛ فإِنه يُعذَر؛ حتى يبلغه ذلك. ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "مُجمَل مسائل الإِيمان العلمية في أُصول العقيدة السلفية" (ص 17) بتصرّف يسير. (¬2) النّحل: 106. (¬3) قال -شيخنا -رحمه الله- في تخريج "فقه السّيرة" (ص 122): " ... نعم إِنما يصحّ منه نزول الآية في عمّار؛ لمجيء ذلك مِن طُرُق؛ ساقها ابن جرير، والله أعلم".

ومن الأمثلة الدالّة على الكفر (¬1): 1 - إِنكار ما عُلم من الدين بالضرورة، مثل: إِنكار وحدانية الله، وخلقه للعالم، وإِنكار وجود الملائكة، وإِنكار نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن القرآن وحي من الله، وإِنكار البعث والجزاء، وإِنكار فرضية الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. 2 - استباحة محرّم أجمعَ المسلمون على تحريمه، كاستباحة الخمر، والزنى، والربا، وأكل الخنزير ... 3 - تحريم ما أجمع المسلمون على حله، كتحريم الطيبات. 4 - سبِّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو الاستهزاء به، وكذا سبّ أي نبيّ من أنبياء الله. 5 - سبِّ الدين، والطعن في الكتاب والسّنة، وتفضيل القوانين الوضعية عليهما. 6 - ادعاء فرد من الأفراد، أن الوحي ينزل عليه. 7 - إِلقاء المصحف في القاذورات، وكذا كتب الحديث؛ استهانة بها، واستخفافاً بما جاء فيها. قلت: وجاء في "الروضة الندية" (2/ 629) تحت عنوان "والساب لله أو لرسوله أو للإِسلام أو للكتاب أو للسُّنة، والطاعن في الدين، وكل هذه الأفعال موجبة للكفر الصريح، ففاعلها مرتدّ حده حده ... ثم ذكر حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ أعمى كانت له أمّ ولد، ¬

_ (¬1) عن "فقه السنة" (3/ 227) بتصرف.

تشتم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتقَع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر. قال: فلمّا كانت ذات ليلة جَعَلت تقع في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتشتمه، فأخذ المِغْوَل (¬1) فوضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتَلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هَناك بالدم، فلما أصبح ذُكِر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلاً فَعَل ما فَعَل لي عليه حقّ؛ إِلا قام. فقام الأعمى يتخطى الناس، وهو يتزلزل، حتى قَعد بين يدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلمّا كانت البارحة جَعَلت تشتمك وتقع فيك، فأخذتُ المِغْوَل فوضعْتُه في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلْتُها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا اشهدوا أنّ دمها هدر" (¬2). ثمّ ذكَر حديث أبي برزة قال: كنت عند أبي بكر فتغيّظ على رجل، فاشتد عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه. فقام فدخل فأرسل إِليّ فقال: ما الذي قلت آنفاً؟ قلت: ائذَنْ لي أضرب عنقه، قال: أكنت فاعلاً لو أمرتُك؟ قلت: نعم، قال: لا والله ما كانت لبشر ¬

_ (¬1) المِغْوَل: شبه سيف قصير، يشتمل به الرجل تحت ثيابه فيغطّيه، وقيل: هو حديدة دقيقة لها حَدٌّ ماضٍ وقَفَا "النهاية" وتقدّم. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3665)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3794) وتقدّم.

التحذير من التكفير:

بعد محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬1) وقد نقل ابن المنذر الإِجماع على أن من سبّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجَبَ قتْله، ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمّة الشافعية في كتاب الإِجماع؛ أنّ مَن سبّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما هو قذْفٌ صريحٌ كَفَر باتفاق العلماء .... قال الخطابي: لا أعلم خلافاً في وجوب قتْله إِذا كان مسلماً. وإِذا ثبت ما ذكَرنا في سبّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبالأولى مَن سبّ الله -تبارك وتعالى- أو سب كتابه، أو الإِسلام، أو طعن في دينه وكفَر، من فعل هذا لا يحتاج إِلى برهان. قال صاحب "الروضة": "وقريب من هذا مَنْ جَعلَ سبّ الصحابَة شعاره ودثاره، فإِنه لا مقتضى لسبّهم قطّ، ولا حاملَ عليه أصلاً؛ إِلا غشّ الدين في قلب فاعلِهِ وكراهة الإِسلام وأهله، فإِنّ هؤلاء هم أهله على الحقيقة؛ أقاموه بسيوفهم، وحفظوا هذه الشريعة المطهرة، ونقلوها إِلينا كما هي، فرضي الله عنهم وأَرضاهم وأقمأ (¬2) المشتغلين بثلبهم، وتمزيق أعراضهم المصونة". التحذير من التكفير: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أيما رجل قال لأخيه يا كافر؛ فقد باء بها أحدهما" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3666)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3795). (¬2) من القماءة: وهي الذلة والصغار. (¬3) أخرجه البخاري (6104)، ومسلم (60).

تجاوز الله -تعالى- عن العبد ما حدث به نفسه ما لم يعمل به أو يتكلم:

تجاوز الله -تعالى- عن العبد ما حدّث به نفسه ما لم يعمل به أو يتكلم: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِن الله تجاوز عن أمّتي ما حدّثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم" (¬1). وعنه -رضي الله عنه- قال: "جاء ناس من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألوه: إِنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإِيمان" (¬2). وعنه -رضي الله عنه- أيضاً قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يزال النّاس يتساءلون حتى يقال: هذا، خَلَقَ الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجَد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله" (¬3). أحكام المرتدّ والمرتدّة واستتابتهم: قال الإِمام البخاري -رحمه الله-: حُكم المرتد والمرتدة واستتابتهم (¬4). قال الله -تعالى-: {إِن الذين كفروا بعد إِيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون} (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5269)، ومسلم (127). (¬2) أخرجه مسلم (132). (¬3) أخرجه مسلم (134). (¬4) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم) (باب-2). (¬5) آل عمران: 90.

وقال ابن عمر والزهري وإِبراهيم: "تُقْتل المرتدة" (¬1). وقال -تعالى-: {ومن يرتدِدْ منكم عن دينه فيمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} (¬2). أمّا العقوبة العاجلة في الدنيا، فهي القَتل. فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَن بدَّل دينه فاقتلوه" (¬3). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يحِلّ دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إِله إِلا الله وأني رسول الله؛ إِلا بإِحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة" (¬4). وعن عثمان -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يحلّ دم امرئ مسلم إِلا بإِحدى ثلاث؛ رجل زنى بعد إِحصان فعليه الرجم، أو قتل عمداً فعليه القَوَد، أو ارتد بعد إِسلامه فعليه القتل" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري معلقاً في "كتاب استتابة المرتدين" (باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم)، وانظر ما قاله الحافظ -رحمه الله- في وصْله في "الفتح". (¬2) البقرة: 217. (¬3) أخرجه البخاري (3017)، وتقدّم. (¬4) أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1686)، وتقدّم. (¬5) أخرجه أبو داود والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3781) واللفظ له، وغيرهما وانظر "الإِرواء" (7/ 254).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- " قال: لما توفي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستُخلف أبو بكر، وكفَر من كَفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر كيف تُقاتل الناس وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إِله إِلا الله؛ فمن قال: لا إِله إِلا الله عصَم مني ماله ونفسه إِلا بحقه وحسابه على الله". قال أبو بكر: "والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإِنّ الزكاة حقّ المال، والله لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدّونها إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فوالله ما هو إِلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعرفْتُ أنه الحقّ" (¬1). عن أبي موسى قال: "أقبلتُ إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعي رجلان من الأشعريين أحدهما عن يميني، والآخر عن يساري، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستاك، فكلاهما سأل، فقال: يا أبا موسى -أو يا عبد الله بن قيس- قال: قلت: والذي بعثكّ بالحقّ؛ ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، فكأني أنظر إِلى سواكه تحت شفته قلصت، فقال: لن -أو لا- نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى -أو يا عبد الله بن قيس- إِلى اليمن. ثمّ اتّبَعَه معاذ بن جبل، فلمّا قدم عليه ألقى له وسادةً قال: انزل، فإِذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم ثمّ تهوّد، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يُقتَل، قضاء الله ورسوله (ثلاث مرات). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6924، 6925)، ومسلم (20)، وتقدّم.

1 - العلاقة الزوجية:

فأمر به فقُتلَ، ثمّ تذاكرا قيام الليل، فقال أحدهما: أما أنا فأقوم وأنام، وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي" (¬1). *وإذا ارتد المسلم ورجع عن الإِسلام؛ تغيرت الحالة التي كان عليها وتغيرت تبعاً لذلك المعاملة التي كان يُعامل بها وهو مسلم، وثبتت بالنسبة له أحكام، نجملها فيما يأتي: 1 - العلاقة الزوجيّة: إِذا ارتد الزوج أو الزوجة، انقطعت علاقةُ كلٍّ منهما بالآخر؛ لأن ردّة أي واحد منهما موجبة للفرقة بينهما، وهذه الفرقة تُعَدُّ فسخاً، فإِذا تاب المرتد منهما، وعاد إِلى الإِسلام، كان لا بدّ من عقدٍ ومهر جديدَين، إِذا أرادا استئناف الحياة الزوجيّة. 2 - ميراثه: عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" (¬2). وجاء في "السيل الجرار" (4/ 580): "وأمّا كونه يَرثه ورثته المسلمون؛ فلا أعرف لهذا وجهاً، ولا أجد عليه دليلاً، والأدلّة مُصرِّحة بأنه لا توارث بين مسلم وكافر على العموم، ولا يصلح للتخصيص إِلا دليلٌ تقوم به الحُجّة. ولا حُجّة فيما يروى عن بعض الصحابة، فإِنّ ذلك محمولٌ على الاجتهاد، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6923)، ومسلم (1733). (¬2) أخرجه البخاري (6764) ومسلم (1614).

3 - فقد أهليته للولاية على غيره:

واجتهاد الصحابي لا يُخصِّص ما ثبَت عن رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلم- بإِجماع المسلمين". 3 - فَقْد أهليته للولاية على غيره: وليس للمرتد ولاية على غيره، فلا يجوز له أن يتولى عقد تزويج بناته، ولا أبنائه الصغار، وتعدّ عقوده بالنسبة لهم باطلة؛ لسلب ولايته لهم بالرِّدّة* (¬1). وقد قال الله -تعالى-: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} (¬2). قتل الخوارج والملحدين بعد إِقامة الحُجّة عليهم (¬3): وقول الله -تعالى-: {وما كان اللهُ ليضل قوماً بعد إِذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتقون} (¬4). قال البخاري -رحمه الله-: "وكان ابن عمر يراهم (¬5) شرار خلْق الله، ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين عن "فقه السنة" (3/ 233) بتصرف. (¬2) النساء: 141. (¬3) هذا التبويب من "صحيح البخاري" (كتاب استتابة المرتدين) (باب - 6). (¬4) التوبة: 115. (¬5) يعني الخوارج.

الزنديق

وقال: إِنهم انطلقوا إِلى آياتٍ نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين" (¬1). وعن علي -رضي الله عنه- إِذا حدثْتكم عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديثاً، فوالله لأنْ أخرّ من السماء أحبّ إِليّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإِنّ الحرب خُدعةٌ، وإِني سمعت رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "سيخرج قومٌ في آخر الزمان، حُدَّاث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البريّة، لا يجاوز إِيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين؛ كما يمرق السهم من الرَّميَّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإِنّ في قتلهم أجراً لمن قتَلهم يوم القيامة" (¬2). وانظر ما جاء في "صحيح البخاري" (¬3) إِن -شئت- (باب من ترك قتال الخوارج للتألّف، وأن لا ينفر الناس عنه) وما قاله الحافظ ابن حجر -رحمه الله-. الزنديق تعريفه: الزنديق هو الذي يُظهر الإِسلام ويُبطن الكفر، ويعتقد بطلان الشرائع، فهذا كافر بالله وبدينه، مُرتدّ عن الإِسلام أقبح رِدّة؛ إِذا ظهر منه ذلك بقولٍ أو فِعل (¬4). وإِذا اعترف بأنّ القرآن حق وما فيه من ذكر الجنة والنّار حق لكن المراد بالجنة الابتهاج الذي يحصل بسبب الملكات المحمودة، والمراد بالنّار هي الندامة ¬

_ (¬1) رواه البخاري معلقاً ووصله الطبري في "مسند علي" من "تهذيب الآثار" بسند صحيح عنه وانظر "الفتح" (12/ 286) ومختصر البخاري (4/ 239). (¬2) أخرجه البخاري (6930)، ومسلم (1066). (¬3) كتاب استتابة المرتدين (باب - 7). (¬4) انظر "الروضة الندية" (2/ 631).

التي تحصل بسبب الملكات المذمومة، وليس في الخارج جنة ولا نار فهو الزنديق (¬1)، فكلّ من أنكَر الشفاعة، أو أنكر رؤية الله يوم القيامة، أو أنكر عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، أو أنكر الصراط والحساب ... سواءٌ قال: لا أثق بهؤلاء الرواة أو قال: أثق بهم، لكن الحديث مؤول. ثمّ ذكر تأويلاً فاسداً لم يُسمَع ممن قبله؛ فهو الزنديق. وكذلك من قال في الشيخين أبي بكر وعمر مثلاً: ليسا من أهل الجنّة مع تواتر الحديث في بشارتهما، أو قال: إِن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتم النبوة ولكن معنى هذا الكلام أنه لا يجوز أن يسمى بعده أحد بالنّبيّ، وأما معنى النبوة وهو كون الإِنسان مبعوثاً من الله -تعالى- إِلى الخلق مفترض الطاعة، معصوماً من الذنوب ومن البقاء على الخطأ فيما يرى فهو موجود في الأئمة بعده فذلك هو الزنديق. وقد اتفق جماهير المتأخرين من الحنفية والشافعية على قتْل من يجري هذا المجرى والله -تعالى- أعلم (¬2). وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (7/ 471): "ولما كثُرت الأعاجم في المسلمين تكلموا بلفظ "الزنديق" وشاعت في لسان الفقهاء، وتكلَّم الناس في الزنديق: هل تُقبَل توبته في الظاهر إِذا عُرف بالزندقة، ودُفِع إِلى ولي الأمر قبل توبته؟ ¬

_ (¬1) "الروضة الندية" (2/ 632). (¬2) "الروضة الندية" (2/ 633).

فمذهب مالك وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وطائفة من أصحاب الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة: أنّ توبته لا تُقبَل والمشهور من مذ هب الشافعي: قَبولها، كالرواية الأخرى عن أحمد، وهو القول الآخر في مذهب أبي حنيفة، ومنهم من فصل. والمقصود هنا: أن الزنديق في عُرف هؤلاء الفقهاء هو المنافق الذي كان على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أن يُظهر الإِسلام ويُبطن غيره، سواء أبطَن ديناً من الأديان كدين اليهود والنصارى أو غيرهم، أو كان مُعطلاً جاحداً للصانع، والمعاد، والأعمال الصالحة. ومن النّاس من يقول: "الزنديق هو الجاحد المعطل، وهذا يُسمّى الزنديق في اصطلاح كثيرٍ من أهل الكلام والعامّة، ونقَلَة مقالات الناس. ولكنّ الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حُكمه: هو الأول؛ لأنّ مقصودهم هو التمييز بين الكافر وغير الكافر، والمرتد وغير المرتد، ومَن أظهَر ذلك أو أسرَّه. وهذا الحُكم يشترك فيه جميع أنواع الكفار والمرتدين، وإنْ تفاوتت درجاتهم في الكفر والردة فإِن الله أخبَر بزيادة الكفر، كما أخبر بزيادة الإِيمان بقوله: {إِنْما النسيء زيادةٌ في الكفر} (¬1)، وتارك الصلاة وغيرها من الأركان أو مرتكبي الكبائر، كما أخبر بزيادة عذاب بعض الكفار على بعض في الآخرة بقوله: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب} (¬2). ¬

_ (¬1) التوبة: 37. (¬2) النحل: 88.

هل يقتل الساحر؟

فهذا "أصلٌ" ينبغي معرفته فإِنه مهمّ في هذا الباب؛ فإِنّ كثيراً ممن تكلم في "مسائل الإِيمان والكفر" -لتكفير أهل الأهواء- لم يلحظوا هذا الباب، ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أنّ الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة، والإِجماع المعلوم؛ بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإِسلام. ومن تدبر هذا، علم أن كثيراً من أهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمناً مخطئاً جاهلاً ضالاًّ عن بعض ما جاء به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد يكون منافقاً زنديقاً يُظهِر خلاف ما يبطن. وقال -رحمه الله- (11/ 405): "وَمن جحَد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة: كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، أو جحَد تحريمَ بعض المحرمات الظاهرة المتواترة: كالفواحش، والظلم والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حِلّ بعض المباحات الظاهرة المتواترة: كالخبز واللحم والنكاح. فهو كافر مرتد، يُستتاب فإِنْ تاب وإلا قُتل، وإِنْ أضمَر ذلك كان زنديقاً منافقاً، لا يستتاب عند أكثر العلماء؛ بل يُقتل بلا استتابة، إِذا ظهر ذلك منه". انتهى. هل يُقتل الساحر؟ لا شكَّ أنَّ السحر من الموبقات والمهلكات. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هنَّ؟ قال: الشِّرك بالله، والسِّحر، وقتل النَّفس التي حرَّم الله إِلا بالحقّ وأكل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، والتَولِّي يوم الزَّحف،

وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" (¬1). وقد اختلف العلماء في حدِّ الساحر؛ وقد جاء في "المرقاة" (7/ 116): "في شرح السنَّة: اختلفوا في قتْله، فذهب جماعة من الصحابة وغيرهم إِلى أنَّه يُقْتل. ورُويَ عن حفْصة: أنَّ جارية لها سَحَرَتْها فَأَمَرَت بها فقتلتْها، ورُوي أنَّ عمر -رضي الله عنه- كتَب: "اقتلوا كلّ ساحر وساحرة". قال الرَّاوي: فقتلنا ثلاث سواحر (¬2). وعند الشافعي: يُقتل إِنْ كان ما يَسحر به كُفراً إِن لم يتب، فإِن لم يبلغ عمله الكفر فلا يُقتل، وتعليم السحر ليس كفراً عنده إِلا أن يَعتقد قلْب الأعيان. قال القاضي: الساحر إِذا لم يتمّ سحرُه إِلا بدعوة كوكبٍ أو شيء يوجب كفراً؛ يجب قتْله، لأنَّه استعان في تحصيله بالتَّقرُّب إِلى الشيطان مما لا يستقِلّ به الإِنسان، وذلك لا يتسبَّب إِلا لمن يُناسبُه في الشرارة وخُبث النَّفس". وعن عمرو بن دينار، سمع بجالة يحدِّث عمرو بن أوس وأبا الشعثاء، قال: "كنت كاتباً لِجَزْء بن معاوية، عمّ الأحنف بن قيس، إِذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسَنَة: اقتُلُوا كلَّ ساحر، وفَرِّقوا بين كل ذي مَحْرَم من المجوس، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6857)، ومسلم (89)، وتقدّم. (¬2) وسيأتي تخريجه -إن شاء الله تعالى-.

وانهوهم عن الزَّمْزَمَةِ (¬1). فقَتَلْنا في يوم ثلاثة سواحر، وفرَّقنا بين كل رجُل من المجوس وحريمه في كتاب الله، وصنَعَ طعاماً كثيراً، فدعاهم فعرض السَّيف على فَخذه، فأكلوا ولم يُزمزموا ... " (¬2). أمَّا حديث: "حدُّ السَّاحر ضرْبةٌ بالسَّيف" فضعيف (¬3). والصحيح وقفه على جندب -رضي الله عنه- كما قال الترمذي وغيره. قال شيخنا -رحمه الله-: " ... وقد أخرجه الحاكم (4/ 361) من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن: "أنَّ أميراً من أمراء الكوفة دعا ساحرًا يلعب بين يدي الناس فبلغ جندب، فأقبل بسيفه، واشتمل عليه، فلمَّا رآه ضربه بسيفه، فتفرَّق الناس عنه، فقال: أيها الناس لن تراعوا، إِنَّما أردت الساحر فأخَذَه الأمير فحبَسه. فبلغ ذلك سلمان، فقال: بئس ما صَنَعا! لم يكن ينبغي لهذا وهو إِمام يؤتمّ به يدعو ساحراً يلعب بين يديه، ولا ينبغي لهذا أن يعاتب أميره بالسيف". قلت: وهذا إِسناد موقوف صحيح إِلى الحسن وقد توبع، فقال هشيم: ¬

_ (¬1) الزَّمْزَمَة: هي كلامٌ يقولونه عند أكْلهم بصوت خفي. "النِّهاية". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2624). (¬3) أخرجه الترمذي والدارقطني والحاكم وغيرهم، قال الترمذي: لا نعرفه معروفاً إِلا من هذا الوجه، وإِسماعيل بن مسلم المكِّي يُضعّف في الحديث، ... وانظر "الضعيفة" (1446).

أنبأنا خالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي: "أنَّ ساحراً كان يلعب عند الوليد ابن عقبة، فكان يأخذ سيفه فيذبح نفسه، ولا يضره، فقام جندب إِلى السيف فأخذه فضرب عنقه، ثم قرأ: {أَفتأْتُونَ السِّحْرَ وأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} " (¬1). وهذا إِسناد صحيح موقوف، صرح فيه هشيم بالتحديث. وله طريق أخرى عند البيهقي عن ابن وهب: أخبرني ابن لهيعة عن أبي الأسود: "أنَّ الوليد بن عقبة كان بالعراق يلعب بين يديه ساحر، وكان يضرب رأس الرجُل، ثمّ يصيح به، فيقوم خارجاً، فيرتدّ إِليه رأسه. فقال الناس: سبحان الله، يحيي الموتى! ورآه رجُل من صالح المهاجرين، فنظر إِليه. فلمَّا كان من الغد، اشتمل على سيفه فذهب يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرجُل سيفه فضرب عنقه، فقال: إِن كان صادقاً فليحيي نفسه! وأمر به الوليد ديناراً صاحب السجن -وكان رجلاً صالحاً- فسجنه، فأعجبه نحو الرجُل، فقال: أتستطيع أن تهرب؟ قال: نعم، قال: فاخرج لا يسألني الله عنك أبداً". قلت (¬2): وهذا إِسناد صحيح إِن كان أبو الأسود أدرك القصَّة فإِنَّه تابعي صغير، واسمه محمد بن عبد الرحمن بن نوفل يتيم عروة. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني وعنه البيهقي وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (4/ 19/ 1 و2) والسياق له من طرق عن هشيم به. (¬2) الكلام لشيخنا -رحمه الله-.

قلت (¬1): ومثل هذا الساحر المقتول، هؤلاء الطرقيَّة الذين يتظاهرون بأنَّهم من أولياء الله، فيضربون أنفسهم بالسيف والشيش، وبعضه سحر وتخييل ولا حقيقة له، وبعضه تجارب وتمارين، يستطيعه كل إِنسان من مؤمن أو كافر إِذا تمرّس عليه وكان قويّ القلب، ومن ذلك مسُّهم النار بأفواههم وأيديهم، ودخولهم التنّور. ولِي مع أحدهم في حلب موقف تظاهر فيه أنَّه من هؤلاء، وأنَّه يطعن نفسه بالشيش، ويقبض على الجمر فنصحْته، وكشفْت له عن الحقيقة، وهددته بالحرق إِن لم يرجع عن هذه الدّعوى الفارغة! فلم يتراجع. فقمت إِليه وقرَّبت النار من عمامته مهدِّداً، فلمَّا أصرَّ أحرقْتُها عليه، وهو ينظر! ثمَّ أطفأتها خشية أن يحترق هو من تحتها معانداً. وظنِّي أنَّ جندباً -رضي الله عنه- لو رأى هؤلاء لقتلهم بسيفه كما فعل بذلك الساحر {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} ". انتهى. وقال الإِمام الترمذي -رحمه الله- عقب أثر جندب -رضي الله عنه- السابق: "والعمل على هذا [أي: الضَّرب بالسيف] عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم، وهو قول مالك بن أنس وقال الشافعي -رحمه الله-: إِنَّما يُقتل الساحر إِذا كان يعمل في سحره ما يبلُغ به الكفر، فإِذا عمل عملاً دون الكفر؛ لم نَرَ عليه قتلا". ¬

_ (¬1) الكلام لشيخنا -رحمه الله-.

الكاهن والعراف والمنجم:

الكاهن والعرَّاف والمنجِّم: جاء في "النهاية": الكاهن: هو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزَّمان، ويَدَّعي معرفة الأسرار، وقد كان في العرب كَهَنَة، كَشِقّ وسطيح وغيرهما، فمنهم من كان يزعُم أنَّ له تابعاً من الجنّ ورَئيَّا؛ يُلقي إِليه الأخبار. ومنهم من كان يزعُم أنَّه يعرف الأمور بمقدِّمات أسبابٍ؛ يستدلّ بها على مواقعها من كلامِ مَن يسأله أو فِعْله أو حاله، وهذا يخصُّونه باسم العرَّاف؛ كالذي يدَّعي معرفة الشيء المسروق، ومكان الضَّالَّة ونحوهما، والحديث الذي فيه: "من أتى كاهناً ... " قد يشتمل على إِتيان الكاهن والعرَّاف والمنجِّم". انتهى. والحديث الذي أشار إليه هو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أتى كاهنا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزِل على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬1). وعن صفيَّة عن بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "منْ أتى عرَّافاً فسأله عن شيء، لم تُقبل له صلاةُ أربعين ليلة" (¬2). قال في "النهاية": "أراد بالعرَّاف المنجِّم الذي يدَّعي عِلْم الغيب، وقد ¬

_ (¬1) أخرجه البزَّار في مسنده وهو في "الصحيحة" (3387) وانظر شواهده. -إِن شئت- في "غاية المرام" (172 - 284) و"آداب الزِّفاف" (105 - 107). (¬2) أخرجه مسلم (2230).

استأثر الله -تعالى- به". وقال النووي -رحمه الله- في العرَّاف: " [هو] من جملة أنواع الكُهَّان، قال الخطابي وغيره: العرَّاف: هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضَّالَّة ونحوهما". والمنجِّم: الذي يدَّعي معرفة الأنباء بمطالع النجوم. وما قيل في الساحر من حيث القتل يُقال في الكاهن والعرَّاف والمنجِّم؛ إِذا استخدموا في أمورهم هذه ما يبلغون به الكفر؛ أو جرُّوا الناس إِلى الشّرك بالله -تعالى- والخروج من ملَّة الإِسلام والله -تعالى- أعلم. (¬1) ¬

_ (¬1) انظر -إِن شئت- المزيد من الفائدة "الفتاوى" (35/ 166 - 197).

الحرابة

الحرابة

تعريفها:

الحرابة (¬1) تعريفها: الحرابة -وتسمَّى أيضاً قطع الطَّريق-: هي خروج طائفة مسلَّحة في دار الإِسلام؛ لإِحداث الفوضى، وسفْك الدِّماء، وسلْب الأموال، وهتْك الأعراض، وإِتلاف الممتلكات. وكما تتحقَّق الحرابة بخروج جماعة من الجماعات؛ فإِنَّها تتحقَّق كذلك بخروج فردٍ من الأفراد، فلو كان لفردٍ من الأفراد فضلُ جبروت وبطْش، ومزيدُ قوَّة وقدرة، يغلب بها الجماعة على النفس والمال والعرض؛ فهو محاربٌ وقاطعُ طريق. ويدخل في مفهوم الحرابة العصابات المختلفة، كعصابة القتل، وعصابة خطف الأطفال، وعصابة اللصوص للسطو على البيوت والمصارف، وعصابة خطف البنات والعذارَى للفجور بهنّ، وعصابة اغْتيال الحُكَّام؛ ابتغاء الفتنة، واضطراب الأمن، وعصابة إِتلاف الزروع، وقتل المواشي والدواب. وكلمة الحرابة مأخوذة من الحرب؛ لأن هذه الطائفة الخارجة على النظام، تعَدّ مُحاربةً للجماعة مِن جانب، ومحاربة للتعاليم الإِسلاميَّة التي جاءت لتُحقِّق أمْن الجماعة، وسلامتها بالحفاظ على حقوقها، من جانب آخر. فخروج هذه الجماعة على هذا النحو يُعدُّ محاربة، ومِنْ ذلك أُخذت كلمة الحرابة، وكما يسمَّى هذا الخروج على الجماعة وعلى دينها حرابة، فإِنَّه يُسمَّى ¬

_ (¬1) عن "فقه السنة" (3/ 238) -بتصرّف-.

الحرابة جريمة كبرى:

أيضاً قطع طريق؛ لأنَّ الناس ينقطعون بخروج هذه الجماعة عن الطريق، فلا يمرُّون فيه؛ خشية أن تُسفَك دماؤهم، أو تُسلَب أموالهم، أو تُهتك أعراضهم، أو يتعرَّضون لما لا قدرة لهم على مواجهته. الحرابَة جريمةٌ كُبرى: والحرابة -أو قطع الطَّريق- تُعدّ من كُبْريات الجرائم، ومن ثمَّ أطلق القرآن الكريم على المتورِّطين في ارتكابها أقصى عبارة، فَجَعَلَهم محاربين لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وساعين في الأرض بالفساد، وغلَّظ عقوبتهم تغليظاً لم يجعله لجريمةٍ أخرى. قال الله -سبحانه-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬1). وعن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- عن النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من حَمَلَ علينا السِّلاح فليس منَّا" (¬2). قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: فليس منَّا: أي: ليس على طريقتنا. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من خرج من الطَّاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتةً جاهليَّة" (¬3). ¬

_ (¬1) المائدة: 33. (¬2) أخرجه البخاري (6874) ومسلم (98). (¬3) أخرجه مسلم (1848).

شروط الحرابة:

شروط الحرابة: ولا بُدَّ من توافُرِ شروط معينة في المحاربين، حتى يستحقُّوا العقوبة المقررة لهذه الجريمة. شرط التَّكليف: يُشترط في المحاربين العقل والبلوغ؛ لأنَّهما شرطا التَّكليف الذي هو شرطٌ في إِقامة الحدود، فالصَّبي والمجنون لا يُعدّ الواحد منهما محارباً، مهما اشترك في أعمال المحاربة؛ لعدم تكليف واحد منهما شرعاً، ولم يختلف في ذلك الفقهاء. ولا تُشترط الذكورة ولا الحرية، لأنه ليس للأنوثة ولا للرّق تأثيرٌ على جريمة الحرابة، فقد يكون للمرأة والعبد من القوة؛ مثل ما لغيرهما -أو أكثر- من التديبر، وحمْل السلاح، والمشاركة في التمرد والعصيان؛ فيجري عليهما ما يجري على غيرهما من أحكام الحرابة. هل يُشترط حمل السِّلاح؟ ويُشترط في المحاربين عند بعض الفقهاء أن يكون معهم سلاح؛ لأنَّ قوَّتهم التي يعتمدون عليها في الحرابة إِنَّما هي قوَّة السِّلاح، فإِن لم يكن معهم سلاح، فليسوا بمحاربين؛ لأنَّهم لا يمنعون من يقصدهم! ويترجَّح لديَّ عدم اشتراط حمل السِّلاح إِذا تحقَّق معنى الحرابة وقطع الطَّريق. إِذ قد يكون القتل والإِيذاء بالسّموم والحرق ونحوهما، ومن المعلوم أنَّ الحرق يعمل عمله أكثر من عددٍ من أنواع الأسلحة؛ التي يستخدمها قُطَّاع

الطُّرق والمفسدون والعصابات. ثمَّ قرأْتُ قول ابن حزم -رحمه الله- في "المحلَّى" (13/ 320) تحت المسألة (2256) بعد أن ساق بإِسناده من طريق الإِمام مسلم -رحمه الله- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... ومَنْ خَرَجَ منْ أُمَّتي على أُمَّتي يضْرب بَرّها وفاجرها، لا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي بذي عهدها، فليس منِّي". فقد عَمَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما تسمع "الضَّرب" ولم يقل بسلاح، ولا غيره فصحَّ أنَّ كل حرابة بسلاح، أو بلا سلاح فسواء؟ قال: فوجب بما ذكَرنا أنَّ المحارب: هو المكابر المخيف لأهل الطريق، المفسد في سبيل الأرض سواء بسلاح، أو بلا سلاح أصلاً سواء ليلاً، أو نهاراً، في مصر أو في فلاة، أو في قصر الخليفة، أو الجامع سواء قدموا على أنْفسهم إِماماً، أو لم يقدِّموا سوى الخليفة نفسه، فَعَل ذلك بجنده أو غيره، منقطعين في الصَّحراء، أو أهل قرية سكاناً في دورهم، أو أهل حصن كذلك، أو أهل مدينة عظيمة، أو غير عظيمة -واحداً كان أو أكثر-. كل من حارب المار، وأخاف السبيل بقتْل نفس، أو أخْذ مال، أو لجراحة، أو لانتهاك فرج؛ فهو محارب، عليه وعليهم -كثروا أو قلُّوا- حُكم المحاربين المنصوص في الآية، لأنَّ الله -تعالى- لم يخصّ شيئاً من هذه الوجوه، إِذ عهد إِلينا بحُكم المحاربين {ومَا كانَ رَبُّكَ نَسِيّا} (¬1) ". وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 316): ¬

_ (¬1) مريم: 64.

هل تشترط الصحراء والبعد عن العمران؟

"ولو حاربوا بالعصِيِّ والحجارة المقذوفة بالأيدي أو المقاليع ونحوها: فهم محاربون أيضاً. وقد حُكي عن بعض الفقهاء لا محاربة إِلا بالمحدد. وحكى بعضُهم الإِجماع على أن المحاربة تكون بالمحدد والمثقَّل. وسواء كان فيه خلاف أو لم يكن، فالصَّواب الذي عليه جماهير المسلمين؛ أنَّ من قاتل على أخْذ المال بأيّ نوع كان من أنواع القتال؛ فهو محارب قاطع، كما أنَّ من قاتل المسلمين من الكفار بأي نوع كان من أنواع القتال فهو حربي، ومن قاتل الكفار من المسلمين بسيف، أو رمح، أو سهم، أو حجارة، أو عصى، فهو مجاهد في سبيل الله. وأمَّا إِذا كان يقتل النفوس سرّاً، لأخذ المال؛ مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل، فإِذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم. أو يدعو إِلى منزله من يستأجره لخياطة، أو طبّ أو نحو ذلك فيقتله، ويأخذ ماله، وهذا يسمَّى القتل غيلة ... ". هل تُشترط الصَّحراء والبعد عن العمران؟ واشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك في الصَّحراء، فإِنْ فعلوا ذلك في البُنيان، لم يكونوا محاربين، ولأنَّ الواجب يسمَّى حدّ قُطَّاع الطَّريق، وقطْع الطَّريق إِنَّما هو في الصحراء، ولأن في المصر يلحق الغوث غالباً، فتذهب شوكة المعتدين، ويكونون مختلسين، والمختلس ليس بقاطع، ولا حدَّ عليه. وذهب فريقٌ آخر إِلى أنَّ حُكْمهم في المصر والصَّحراء واحد؛ لأنَّ الآية بعمومها تتناول كل محارب، ولأنَّه في المصر أعظمُ ضرراً، فكان أولى. قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 315): "بل

هل تشترط المجاهرة؟

هم في البنيان أحقّ بالعقوبة منهم في الصَّحراء؛ لأنَّ البنيان محلّ الأمن والطمأنينة، ولأنَّه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإِقْدامهم عليه يقتضي شدَّة المحاربة والمغالبة؛ ولأنَّهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه غالباً إِلا بعض ماله، وهذا هو الصَّواب". والذي يترجَّح لديَّ عدم التَّفريق بين الصحراء والبنيان؛ لعموم الآية المتناولة كل محارب في أيّ مكان، فقطع الطَّريق وسفْك الدِّماء وسلْب الأموال وهتْك الأعراض واقعٌ في الصَّحراء والبُنْيان، والأودية والجبال. هل تشترط المجاهرة؟ ومِن شروط الحرابة عند بعض الفقهاء المجاهرة، بأن يأخذوا المال جهراً، فإِنْ أخذوه مختفين، فهم سُرَّاق، وإِنْ اختطفوه وهربوا، فهم منتهبون لا قطْع عليهم، وكذلك إنْ خَرَجَ الواحد والاثنان على آخر قافلة، فسلبوا منها شيئاً؛ لأنَّهم لا يرجعون إِلى منعة وقوَّة، وإِنْ خرجوا على عدد يسير فقهروهم، فهم قُطّاع طريق. وهذا مذهب الأحناف، والشافعيَّة، والحنابلة. وخالف في ذلك المالكيَّة، والظَّاهريَّة. قال ابن العربي المالكي: والذي نختاره، أنَّ الحرابة عامّة في المصر والقفر، وإِن كان بعضها أفحش من بعض، ولكن اسم الحرابة يتناولها، ومعنى الحرابة موجود فيها، ولو خَرج بعصاً في المصر يُقْتَلُ بالسَّيف، ويُؤخَذُ فيه بأشدّ من ذلك، لا بأيسره؛ فإِنَّه سلبَ غيلةً، وفِعْل الغيلة أقبح من فِعل المجاهرة. ولذلك دخل العفو في قتل المجاهرة، فكان قِصاصاً، ولم يدخل في قتل الغيلة، فكان حرابة، فتحرر أنَّ قطع السبيل موجب للقتل.

وقال: لقد كنتُ، أيام تولية القضاء، قد رُفِعَ إِليَّ أمرُ قومٍ خَرَجوا محاربين في رفقة، فأخذوا منهم امرأة مغالبةً على نفسها من زوجها، ومِن جملة المسلمين معه فاختلوا بها، ثم جد فيهم الطلب، فأُخِذوا وجيء بهم. فسألتُ من كان ابتلاني الله به من المفتين، فقالوا: ليسوا محاربين، لأنَّ الحرابة إِنَّما تكون في الأموال، لا في الفروج. فقلتُ لهم: إِنَّا لله وإِنَّا إِليه راجعون! ألم تعلموا أنَّ الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال، وأنَّ الناس ليرضون أن تذهب أموالهم، وتحرب بين أيديهم، ولا يرضون أن يحرب المرء في زوجته وبنته؟ ولو كان فوق ما قال الله عقوبة، لكانت لمن يسلب الفروج، وحسبكم من بلاءٍ صحبة الجُهَّال، وخصوصاً في الفتيا والقضاء. وقال القرطبي: والمغتال كالمحارب، وهو أن يحتال في قتلِ إِنسان على أخذ ماله، وإِن لم يُشهِر السِّلاح، ولكن دخل عليه بيته، أو صَحِبَه في سفر، فأطعمه سُمًّا فقتله، فيقتل حدًّا، لا قوَداً. وقريب من هذا القول، رأي ابن حزم، حيث يقول: إِنَّ المحارب هو المكابر، المخيف لأهل الطريق، المفسد في سبل الأرض؛ سواء بسلاح، أم بلا سلاح أصلاً، سواء ليلاً، أم نهاراً، في مصر أم فلاة، في قصر الخليفة، أم في الجامع سواء، وسواء فعل ذلك بجندٍ، أم بغير جند، منقطعين في الصحراء، أم أهل قرية؛ سكاناً في دورهم، أم أهل حصن كذلك، أم أهل مدينة عظيمة، أم غير عظيمة، كذلك واحد، أم أكثر، كل من حارب المارة، وأخاف السبيل بقتل نفس، أو أخْذ مال، أو لجراحة، أو لانتهاك عرض، فهو محارب عليه وعليهم،

عقوبة الحرابة:

كثُروا أو قلُّوا (¬1). ومن ثمّ يتبيَّن أنَّ مذهب ابن حزم أوسع المذاهب بالنسبة للحرابة، ومثله في ذلك المالكيَّة؛ لأنَّ كل من أخاف السبيل على أي نحوٍ من الأنحاء، وبأيّ صورة من الصور، يُعدُّ محارباً، مستحقاً لعقوبة الحرابة. عقوبة الحرابة: أنزل الله -سبحانه- في جريمة الحرابة قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). فهذه الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد؛ لقوله -سبحانه-: {إِلا الذينَ تَابُوا منْ قَبْلِ أنْ تَقْدرُوا عَلَيْهِم}. وقد أجمع العلماء على أنَّ أهل الشرك إِذا وقعوا في أيدي المسلمين، فأسلموا، فإِنَّ الإِسلام يعصم دماءهم وأموالهم، وإِنْ كانوا قد ارتكبوا من المعاصي، قبل الإِسلام، ما يستوجب العقوبة: {قُلْ للذينَ كَفَروا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬3). ¬

_ (¬1) وتقدم غير بعيد. (¬2) المائدة: 33 - 34. (¬3) الأنفال: 38.

سبب نزول هذه الآية:

قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- لنبيّه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قُلْ للذينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} أي: عمَّا هُم فيه من الكُفر والمشاقَّة والعِناد، ويدخلوا في الإِسلام والطَّاعة والإِنابة، {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} أي: من كُفرهم، وذنوبهم وخطاياهم؛ كما جاء في "الصحيح" من حديث أبي وائل عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَن أحسَن في الإِسلام، لم يؤاخذ بما عمل في الجاهليَّة، ومَن أساء في الإِسلام، أُخِذَ بالأوَّل والآخر" (¬1). وفي "الصحيح" -أيضاً- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أما علمْتَ أنَّ الإِسلام يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنَّ الحج يهدم ما كان قبله" (¬2). سببُ نزول هذه الآية: عن أبي قلابة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنَّ رَهطاً من عُكل -أو قال من عُرَينة، ولا أعلمه إِلا قال من عُكل- قدموا المدينة، فأمَرَ لهُم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلقاح، وأمَرَ أنْ يخرجوا فيشربوا من أبوالها وألبانها، فشرِبوا، حتَّى إِذا بَرِئوا قَتَلوا الرَّاعي واسْتاقوا النَّعم. فبلغ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُدْوةً، فَبَعَثَ الطَّلبَ في إِثْرهم، فما ارتَفَعَ النَّهارُ حتَّى جيء بهم، فأمَرَ بهم فَقَطَعَ أيديهم وأرجُلَهُم وسَمَرَ أعيُنَهم، فأُلْقوا بالحرَّة يُستسقَون فلا يُسقَون" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6921)، ومسلم (120). (¬2) أخرجه مسلم (121). (¬3) أخرجه البخاري (6805)، ومسلم (1671) وتقدّم في باب الطهارة.

العقوبات التي قررتها الآية الكريمة:

قال أبو قِلابة: "هؤلاء قومٌ سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إِيمانهم وحاربوا الله ورسوله" (¬1). وفي رواية: "فأنزل الله -تبارك وتعالى- في ذلك: {إنَّمَا جَزَاءُ الذينَ يُحَارِبونَ اللهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسَاداً} " (¬2). وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... ونزلت فيهم آية المحاربة" (¬3). وفي رواية: " ... فلمَّا صحّوا كفروا بعد إِسلامهم، وقتَلوا راعيَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤمناً، واستاقوا ذود (¬4) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانطلقوا محاربين" (¬5). العقوبات التي قررتها الآية الكريمة: والعقوبة التي قررتها هذه الآية للذين يحاربون الله ورسوله، ويَسعَونَ في الأرضِ فساداً، هي إِحدى عقوبات أربع: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6805). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3670). (¬3) أخرجه النسائي (3772) وقال شيخنا -رحمه الله- في "صحيح سنن النسائي": حسن صحيح. (¬4) الذَّود من الإِبل: ما بين الثنتين إِلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إِلى العشر "النهاية". (¬5) "صحيح سنن النسائي" (3762) وأَصل أكثر هذه الألفاظ في "الصحيحين" كما تقدّم.

1 - القتل. 2 - أو الصَّلْب. 3 - أو تقطيع الأيدي والأرجُل من خِلاف. 4 - أو النَّفْي من الأرض. وهذه العقوبات جاءت في الآية معطوفة بحرف "أو" وقد اختلف العلماء في "أو" في هذه الآية الكريمة، أهي للتَّخيير أم للتَّفصيل؟ (¬1). ¬

_ (¬1) جاء في كتاب "أثر الدلالة النحويَّة واللغوية في استنباط الأحكام من آيات القرآن التشريعية" للأستاذ السعدي (ص 138) -بحذف-: ... ذهب فريق [من الفقهاء] إِلى أنَّ السلطة مخيَّرة بين العقوبات المذكورة، وأيُّها رآها السلطان أنفع للمصلحة أنْزلها بهم، ومن هؤلاء سعيد بن المسيب، ومجاهد، والحسن البصري، وعطاء، ومالك (أ). ويرى أكثرهم أن هذه العقوبات تنزل بهم على حسب جنايتهم، فَمَن قَتَلَ قُتِلَ، ومَن قَتَلَ وأخَذَ المال قُتلَ وصُلِبَ، ومَن أَخَذَ المال بلا قَتْل قُطِعَت يده ورجلُه من خلاف، ومن أخاف أهل السبيل فقط فلم يَقْتُل ولم يأخُذ مالاً: نُفِيَ. ومن القائلين بهذا ابن عبَّاس، والأوزاعي، وأبو يوسف ومحمد من الأحناف والشافعي (ب).

والذي يترجَّح لديّ أنَّ التَّخيير ليس بإِطلاق؛ ولا هو بالانتقائي، وإِنَّما هو نابعٌ مِنْ مرآة الفقه والعِلم وتحقيق العدل والإِنصاف، وعدم التسوية في ¬

_ = ملاحظة تناسبهم مع جناياتهم؛ لأنَّ ذلك مقتضٍ التَّخيير. وحجَّة الفريق الثاني: أن "أو" للتَّفصيل، والعرب تستعملها كثيراً بهذا المعنى، فيقولون: "اجتمع القوم فقالوا حارِبوا أو صالحوا، أي قال: بعضهم كذا وبعضهم كذا". ويقوِّيه قول الله -تعالى-: {وقَالُوا كُونُوا هُوداً أو نَصَارَى تَهْتَدُوا} وليس المقصود التخيير، لأنَّه ليس هناك فرقة تخير بين اليهودية، والنَّصرانيَّة، بل كلٌّ يدعو إلى دينه، فكان المعنى: أنَّ بعضهم -وهم اليهود- قالوا كونوا هوداً، وبعضهم -وهم النَّصارى- قالوا كونوا نصارى. وكثيراً ما تعتمد العرب على لفّ الكلامَين المختَلِفَين وتسمح بتفسيرها جملة، ثقةً منها بأنَّ السَّامع يردّ كلَّ مخبر عنه بما يليق به، كقول امرئ القيس: كأنَّ قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكْرِها العناب والحشف البالي فالعناب هو الرَّطب، والحشف هو اليابس، وقد لفهما بعبارة واحدة. ... فلمَّا كانت "أو" للتفصيل، فإِنَّها قد فصَّلت أحكام قطاع الطريق وجَعَلت لكل منهم حُكمه؛ لأنَّ جناياتهم لا بد من أن تكون مختلفة، وحينئذ يجب تقدير شرط محذوف ينسجم مع معنى التفصيل. فيكون التقدير: أن يقَتَّلوا إِنْ قَتَلُوا، أو يُصَلَّبُوا إن قَتَلُوا وأخذوا المال، أو تُقَطَّع أيديهم وأرجلهم إِن أخذوا المال ولم يَقْتُلوا، أو يُنْفَوا من الأرض إن أخَافُوا السائرين في السبيل فقط. ولدى موازنة الرَّأيين يتَّضِح لنا رُجْحان رأي الفريق الثاني لما يأتي: 1 - جعل "أو" في هذه الآية للتفصيل أولى من جَعْلها للتَّخيير، لأنَّنا إِذا تتبَّعنا كلام =

اقتراف الجريمة والإِفساد، كما في قوله -تعالى-: {وَجَزَاءُ سَيِّئَة سَيِّئَة مِثْلها} (¬1). ¬

_ = النُّحاة نجدهم يجعلون "أو" للتَّخيير بعد الطلب غالباً، وذلك واضح مِن أمثلتهم. وقد صرَّح ابن هشام بذلك فقال: "وهي الواقعة بعد الطلب" (1). وحيث لم تقع بعد طلب في هذه الآية، فإِنَّ حَمْلها على التَّفصيل أولى من الناحية النَّحويَّة، وكذلك من الناحية الشَّرعيَّة؛ لأن القاعدة العامَّة في التَّشريع الإسلامي أنَّ العقوبة تكون بمقدار الجناية، لقوله -تعالى- في جزاء جناية صيد المحرم في الحج: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النًعَمِ} (ب). 2 - لو سلَّمنا أنَّها للتخيير على رأي الفريق الأوَّل، فإنَّه لدى التَّحقيق يتبيَّن لنا أنَّ مِثل هذا التَّخيير يتَّفق مع معنى التَّفصيل من حيثُ المعنى، وذلك لأنَّ الحكم المخير فيه إِذا كان سببه مختلفاً فإِنَّه يكون لبيان كل واحد من المخير بنفسه. يوضح ذلك قوله -تعالى-: {إِمَّا أنْ تُعَذِّبَ وإِمّا أن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} (ج). فإنَّه ليس المراد هنا التَّخيير بين التَّعذيب أو الإِحسان مُطلقاً من غير ملاحظة عَمَل من يعذبهم أو يحسن إليهم، وإنما المراد بيان حُكمِ كلِّ صنف، أي إِمّا أن تعذب من ظلم أو تَتَّخذ الحسن فيمن آمن ولم يظلم. فكذلك التخيير في إنزال العقوبة بقطاع الطريق إِنَّما يكون لبيان كل صنف منهم على حِدَة؛ لأنَّ سبب تلك العقوبة مُختلف. وبهذا يتَّضِح لنا أنَّ إِنزال العقوبة بهم يكون على وفق جنايتهم ... ".

وهكذا فلا بدَّ مِن حَمل التَّخيير على التَّفصيل، فلا إِشكال، وقد أشار الأستاذ السَّعدي إِلى هذا جزاه الله خيراً. وجاء في "الروضة النديَّة" (2/ 618) -بحذف-: "يفعل الإِمامُ مِنْها ما رأى فيه صلاحاً؛ لكلِّ منْ قَطَعَ طَريقاً وَلَو في المِصْر إِذا كان قد يسَعَى في الأرض فَساداً". هذا ظاهر ما دلَّ عليه الكتاب العزيز مِنْ غير نظرٍ إِلى ما حدث من المذاهب، فإِنَّ الله -سبحانه- قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الذينَ يُحَارِبُونَ اللهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسَاداً} (¬1)، فضمَّ إلى محاربة الله ورسوله ... السَّعي في الأرض فساداً، فكان ذلك دليلاً على أنَّ مَن عصى الله ورسوله بالسَّعي في الأرض فساداً؛ كان حدُّه ما ذكره الله في الآية. ولمّا كانت الآية الكريمة نازلة في قُطَّاع الطريق وهم العرنيُّون، كان دخولُ مَن قَطَعَ طريقاً تحت عموم الآية دخولاً أوَّليّاً ثم حصر الجزاء في قوله: {أنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أيْدِيهمْ وأرْجُلُهُم منْ خِلاف أو يُنْفَوا مِنَ الأرضِ} فخيَّر بين هذه الأنواع فكان للإِمام أن يختار ما رأى فيه صلاحاً منها. فإِنْ لم يكن إِمامٌ فمن يقوم مقامه في ذلك من أهل الولايات، فهذا ما يقتضيه نَظْم القرآن الكريم، ولم يأت من الأدلَّة النبويَّة ما يصرف ما يدلّ عليه القرآن الكريم عن معناه الذي تقتضيه لغة العرب. ¬

_ (¬1) المائدة: 33.

أمَّا ما روي عن ابن عباس كما أخرجه الشافعي في "مسنده" أنَّه قال في قُطَّاع الطَّريق: "إِذا قَتَلوا وأخذوا الأموال صُلِّبوا، وإِذا قتلُوا ولم يأخذوا المالَ قُتِلُوا ولم يُصَلَّبُوا، وإِذا أخذوا المال ولم يقتُلُوا قُطِعَت أيْديهم وأرْجلهم من خِلاف، وإِذا أخافُوا السَّبيل ولم يأخذوا مالاً نُفُوا من الأرض". فليس هذا الاجتهاد ممَّا تقوم به الحُجَّة على أحد، ولو فرضنا أنَّه في حكم التَّفسير للآية. وإِنْ كان مخالفاً لها غاية المخالفة، ففي إِسناده إِبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف جدّاً لا تقوم بمثله الحُجَّة (¬1). وقد ذهب إِلى مِثل ما ذهبنا إِليه جماعة من السَّلف كالحسن البصري وابن المسيِّب ومجاهد. وأسعد الناس بالحق من كان معه كتاب الله. وقد ثبت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العرنيين أنَّه فعل بهم أحد الأنواع المذكورة في الآية -وهو القَطْع كما في الصحيحين، وغيرهما من حديث أنس- والمراد بالصلب المذكور في الآية هو الصلب على الجذوع، أو نحوها حتَّى يموت إِذا رأى الإِمام ذلك، أو يصلبه صلباً لا يموت فيه. فإِنَّ اسم الصَّلب يصدُق على الصَّلب المفضي إِلى الموت، والصَّلب الذي لا يُفضي إِلى الموت. ولو فرضنا أنَّه يختصّ بالصَّلب المفضي إِلى الموت. لم يكن في ذلك تكرار بعد ذِكر القتل، لأنَّ الصَّلب هو قتْلٌ خاص. وأمَّا النَّفي من الأرض فهو طرْده من الأرض التي أفسد فيها ... " انتهى. قلت: وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث: " ... فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) انظر "الإِرواء" (2443).

عدم حسم المحاربين من أهل الردة حتى يهلكوا وكذا عدم سقايتهم الماء ونبذهم في الشمس:

فبعث في آثارهم، فلمَّا ارتفع النَّهار جيء بهم فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم وسُمِّرت أعينهم (¬1) ... " (¬2). وفي رواية: "ثمَّ أمر بمسامير فأُحميت فَكَحَلهم بها ... " (¬3). فإِنَّ السَّمر لم يَرِد في الآية الكريمة، وهو من فِعل النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا يبيِّن أنَّ الأمر يرجع إِلى الحاكم بما تقدَّم من قيود. فالحاصل أن الأمر راجع إِلى السُّلطان (¬4) فهو مخيَّر في إِيقاع العقوبة اللازمة وفي تقدير العقوبة على التفصيل؛ بما يتناسب مع إِفساده وجريمته؛ وبما يكون الأقرب في العمل بمقتضى الآية الكريمة والحديث الشريف والآثار. والله -تعالى - أعلم. وقد جاء في بعض الروايات:- قال أنس -رضي الله عنه-: "إِنَّما سمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعين أولئك، لأنَّهم سملوا أعين الرعاء" (¬5). عدم حسْم المحاربين من أهل الرِّدَّة حتى يهلكوا وكذا عدم سقايتهم الماء ونبذهم في الشمس: عن أنس -رضي الله عنه- قال: "قدمَ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفر من عُكل ¬

_ (¬1) سُمِّرت أعينهم: أي فُقئت. (¬2) أخرجه البخاري (233)، ومسلم (1671). (¬3) أخرجه البخاري (3018). (¬4) انظر -إِن شئت- ما جاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 310). (¬5) أخرجه مسلم (1671).

فائدة "1":

فأسلموا، فاجْتووا (¬1) المدينة، فأَمَرهم أن يأتوا إِبلَ الصَّدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا فصحُّوا، فارتدُّوا، فقتلوا رعاتها واسْتاقُوا الإِبلَ. فبعث في آثارهم فأُتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسَمل أعينهم، ثم لم يحسمهم (¬2) حتى ماتوا" (¬3). وفي رواية: "فرأيت الرجُل منهم يَكْدُِمُ (¬4) الأرض بلسانه حتى يموت" (¬5). أمَّا نبذهم في الشمس حتى يموتوا، فهو في بعض ألفاظ حديث أنس -رضي الله عنه- وفيه: "وسمَّر أعينهم ثم نبَذهم في الشمس حتى ماتوا" (¬6). فائدة "1": سُئل شيخ الإِسلام -رحمه الله- عن ثلاثةٍ من اللصوص، أخذ اثنان منهم جَمَّالا، والثالث قتل الجمَّال: هل تُقتَل الثلاثة؟ ¬

_ (¬1) فاجتووا: قال النووي: " ... أي لم توافقهم وكرهوها لسقم أصابهم، قالوا: وهو مثشقٌّ من الجوى؛ وهو داء في الجوف". (¬2) لم يحسمهم: الحسم هنا أن توضع اليد بعد القطع في زيت حار وذلك لمنع استمرار نزف الدم، ويتحقَّق بأيِّ صورة طبيَّة يمكن أن تمنع نزْف الدم، وتقدّم. (¬3) أخرجه البخاري (6802)، ومسلم (1671). (¬4) يكدُِمُ: أي يقبض عليها ويعضّ. "النهاية" (¬5) أخرجه البخاري (5685). (¬6) أخرجه البخاري (6899)، ومسلم (1671).

فأجاب: إِذا كان الثلاثة حرامية؛ اجتمعوا ليأخذوا المال بالمحاربة؛ قُتِل الثلاثة؛ وإِنْ كان الذي باشر القتل واحد منهم. والله أعلم. وجاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 310) -بحذف-: "وإِذا كان المحاربون الحراميَّة جماعة، فالواحد منهم باشَر القتل بنفسه، والباقون له أعوان وردْء له. فقد قيل؛ إِنَّه يقتل المباشر فقط. والجمهور على أنَّ الجميع يقتلون، ولو كانوا مائة، وأنَّ الردء والمباشر سواء، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين؛ فإِنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قتل ربيئة المحاربين -والربيئة هو الناظر الذي يجلس على مكان عال، ينظر منه لهم من يجيء- ولأنَّ المباشر إِنَّما تمكَّن مِن قتْله بقوَّة الردء ومعونته. والطائفة إِذا انتصر بعضها ببعض؛ حتى صاروا ممتنعين؛ فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين ... وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه؛ مثل المقتتلين على عصبيَّة، ودعوى جاهليَّة؛ كقيس ويمن ونحوهما؛ هما ظالمتان. كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إِنّه كان حريصاً على قتل صاحبه". أخرجاه في الصحيحين. (¬1). وتضمن كلّ طائفة ما أتْلفتْه للأخرى من نفس ومال. وإِن لم يعرف عين ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (31)، ومسلم (2888).

فائدة "2":

القاتل؛ لأنَّ الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد، وفي ذلك قوله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاص في القَتْلَى} (¬1). فائدة "2": جاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 243): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن تاجر نصَب عليه جماعة؛ وأخذوا مبلغاً، فحَمَلَهم لوليّ الأمر؛ وعاقبهم حتى أقرُّوا بالمال، وهم محبوسون على المال، ولم يعطوه شيئاً، وهُم مصرُّون على أنَّهم لا يعطونه شيئاً؟ فأجاب: الحمد لله هؤلاء مَن كان المال بيده وامتنع من إِعطائه؛ فإِنَّه يُضرَب حتى يؤديَ المال الذي بيده لغيره. ومَن كان قد غيَّب المال وجحد موضعه فإِنَّه يضرب حتَّى يدلّ على موضعه. ومَن كان مُتَّهما لا يُعرف هل معه من المال شيء أم لا؛ فإِنَّه يجوز ضربه معاقبةً له على ما فعَل من الكذب والظلم. ويُقر مع ذلك على المال أين هو. ويطلب منه إِحضاره. والله أعلم". ردُّ اعتراض، ودفْعُ إِشكالٍ (¬2): قال في "المنار": رَوى عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد، أنَّ الفساد هنا الزنى، والسرقة، وقتْل النساء، وإِهلاك الحرث والنَّسل، وكلّ هذه الأعمال من الفساد في الأرض. واستشكل بعض الفقهاء قول مجاهد، بأنَّ هذه الذنوب والمفاسد لها ¬

_ (¬1) البقرة: 178. (¬2) عن "فقه السنة" (3/ 252).

واجب الحاكم والأمة حيال الحرابة:

عقوبات في الشرع غير ما في الآية، فللزِّنى، والسرقة، والقتْل حدود، وإِهلاك الحرث والنَّسل يقدَّر بقدْره، ويضمنه الفاعل، ويعزّره الحاكم بما يؤدِّيه إِليه اجتهاده. وفات هؤلاء المعترضين، أنَّ العقاب المنصوص في الآية خاصٌّ بالمحاربين مِن المفسدين الذين يكاثرون أولي الأمر، ولا يُذْعنون لحُكْم الشَّرع. وتلك الحدود إِنَّما هي للسارقين والزُّناة أفراداً، الخاضعين لحُكْم الشرْع فِعْلاً، وقد ذُكِرَ حُكمهم في الكتاب العزيز، بصيغة اسم الفاعل المفرد، كقوله -سبحانه-: {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬1) وقال: {الزَّانِيَة والزَّانِي فَاجْلِدُوا كلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَة جَلْدَةٍ} (¬2). وهم يستَخْفُون بأفعالهم، ولا يَجهرون بالفساد، حتى ينْتشر بصوء القدوة بهم، ولا يُؤلِّفون له العصائب ليمنعوا أنفسهم من الشرع بالقوَّة. فلهذا لا يصدُق عليهم أنَّهم محاربو الله ورسوله ومفسدون، والحكم هنا منوط بالوصفَين معاً، وإِذا أطْلق الفقهاء لفظ المحاربين، فإِنَّما يعنون به المحاربين المفسدين؛ لأنَّ الوصفين متلازمان". واجب الحاكم والأمَّة حِيال الحرابة (¬3): والحاكم والأمَّة معاً مسؤولون عن حماية النظام، وإقرار الأمن، وصيانة ¬

_ (¬1) المائدة: 28. (¬2) النور: 2. (¬3) عن "فقه السُّنة" (3/ 252).

إذا طلب السلطان المحاربين فامتنعوا:

حقوق الأفراد في المحافظة على دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم؛ فإِذا شذَّت طائفة، فأخافوا السبيل، وقطعوا الطريق، وعرَّضوا حياة الناس للفوضى والاضطراب، وجب على الحاكم قتال هؤلاء. كما فعَل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع العُرنيين (¬1)، وكما فَعَلَ خُلفاؤه من بعده، ووجب على المسلمين كذلك أنْ يتعاونوا مع الحاكم ... على استئصال شأفتهم، وقطْعِ دابرهم، حتى ينعم الناس بالأمن والطمأنينة، ويُحِسُّوا بلذَّة السلام والاستقرار، وينصرف كلٌّ إِلى عمله. إِذا طَلب السلطان المحاربين فامتنعوا: إِذا طَلب السلطان المحاربين لإقامة الحد فامتنعوا؛ فإِنه يجب على المسلمين قتالهم، من باب ما لا يتمّ الواجب إِلا به فهو واجب. جاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 317): " ... فأمّا إِذا طلبهم السلطان أو نوّابه لإقامة الحدّ بلا عدوان فامتنعوا عليه؛ فإِنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء، حتى يقدر عليهم كلِّهم؛ ومتى لم ينقادوا إِلا بقتال يفضي إِلى قتْلهم كلهم قوتلوا، وإن أَفضى إِلى ذلك؛ سواءٌ كانوا قد قَتلوا أو لم يقتلوا. ويقتلون في القتال كيفما أمكن؛ في العنق وغيره، ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويُعينهم، فهذا قتال وذاك إِقامة حدّ، وقتال هؤلاء أوكد من قتل الطوائف الممتنعة عن شرائع الإِسلام". ¬

_ (¬1) تقدَّم غير بعيد.

توبة المحاربين قبل القدرة عليهم:

توبةُ المحاربين قبْل القُدرة عليهم: *إِذا تاب المحاربون المفسدون في الأرض، قبل القدرة عليهم، وتمكَّن الحاكم من القبض عليهم، فإنَّ الله يغفر لهم ما سلَفَ، ويرفع عنهم العقوبة الخاصّة بالحرابة؛ لقوله -تعالى-: {ذلكَ لَهُمْ خِزْيٌ في الدّنْيا وَلَهُم في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلا الذينَ تَابُوا منْ قَبْلِ أنْ تَقْدروا عَلَيْهِم فَاعْلَمُوا أنَّ الله غَفورٌ رَحِيم} (¬1). وإِنَّما كان ذلك كذلك؛ لأنَّ التوبة قبل القدرة عليهم والتَّمكُّن منهم دليل على يَقَظَة القلوب، والعزم على استئناف حياةٍ نظيفة، بعيدة عن الإِفساد، والمحاربة لله ورسوله، ولهذا شملهم عفو الله، وأسقط عنهم كلَّ حقّ من حقوقه، إِن كانوا قد ارتكبوا ما يستوجب العقوبة. أمَّا حقوق العباد، فإِنَّها لا تسقط عنهم، وتكون العقوبة حينئذ ليست من قبيل الحرابة، وإِنما تكون من باب القِصاص. [أقول: وفي ذلك أثر ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يُقْدر عليه؛ لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحدّ الذي أصابه"] (¬2). والأمر في ذلك يرجع إِلى المجني عليهم، لا إِلى الحاكم، فإِنْ كانوا قد قَتَلوا، سقط عنهم تحتم القتل، ولوليِّ الدَّم العفو أو القِصاص وإنْ كانوا قد قَتَلوا ¬

_ (¬1) المائدة: 33 - 34. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3675)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3776)، وانظر "الإرواء" (8/ 93).

وأخَذوا المال، سقط الصَّلب، وتحتم القتل، وبقي القِصاص، وضمان المال. وإِنْ كانوا قد أخذوا المال، سقط القطع، وأُخذِت الأموال منهم إِن كانت بأيديهم، وضمنوا قيمة ما استهلكوا؛ لأنَّ ذلك غَصْبٌ، فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إِلى أربابه، أو يجعله الحاكم عنده، حتى يعلم صاحبه؛ لأنَّ توبتهم لا تصح إِلا إِذا أعادوا الأموال المسلوبة إِلى أربابها. فإِذا رأى أولو الأمر إِسقاط حقٍّ ماليٍّ عن المفسدين؛ مِن أجل المصلحة العامَّة، وجب أن يضمنوه من بيت المال* (¬1). جاء في "المغني" (10/ 314): "فإِنْ تابوا من قبل أن يُقدَر عليهم؛ سقطت عنهم حدود الله -تعالى- وأخذوا بحقوق الآدميِّين من الأنفس والجراح والأموال؛ إِلا أن يُعفى لهم عنها. لا نعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرَّأي وأبو ثور، والأصل في هذا قول الله -تعالى-: {إِلا الذينَ تَابُوا منْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم فَاعْلَمُوا أنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ}. فعلى هذا يسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي، ويبقى عليهم القِصاص في النفس والجراح وغرامة المال والدِّيَة لما لا قِصاص فيه. فأمّا إِنْ تاب بعد القدرة عليه؛ لم يسقط عنه شيء من الحدود؛ لقول الله تعالى: {إِلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} فأوجب عليهم الحدّ ثم استثنى التائبين قبل القدرة، فمن عداهم يبقى على قضِيّة العموم، ولأنّه إِذا ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 253) -بتصرف-.

تاب قبل القدرة؛ فالظاهر أنها توبة إِخلاص، وبعدها الظاهر أنها تقية من إِقامة الحدّ عليه، ولأنّ في قبول قوبته وإسقاط الحد عنه قبل القدرة؛ ترغيباً في توبته والرجوع عن محاربته وإِفساده فناسَب ذلك الإِسقاط عنه وأما بعدها فلا حاجة إِلى ترغيبه لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة". وجاء في "تفسير ابن كثير": "وأمَّا المحاربون المسلمون فإِذا تابوا قبل القدرة عليهم، فإِنَّه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرِجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء: ظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عَمَل الصحابة ... ". وجاء في "الروضة الندية" (2/ 620): "أقول: الآية ليس فيها إِلا الإِشارة إِلى عفو الله ورحمته لمن تاب قبل القدرة. وليس فيها القطع بحصول المغفرة والرحمة لمن تاب!! ولو سُلِّم القطع فذلك في الذنوب التي أمْرها إِلى الله فيسقط بالتَّوبة الخطاب الأخروي والحد الذي شرعه الله. وأمَّا الحقوق التي للآدميِّين من دم أو مال أو عرض؛ فليس في الآية ما يدل على سقوطها. ومن زعم أنَّ ثم دليلاً يدل على السقوط فما الدليل على هذا الزَّعم؟! ". انتهى. أقول: إذا كان الشهيد يُغفر له كل شيء إِلا الدَّين، فكيف يُغفرَ للمحارب ما سَلَبَ من أموال وانْتهك مِن حُرُمات، فحقوق الآدميِّين معتبرة، وليس في الآية ما يدلّ على سقوطها. ولكن توبة المحارب؛ تعني أنَّه اختار الدار الآخرة، ورضي أن يمضي فيه حُكْم الله -تعالى- ورأى أنَّ هذا خيرٌ له من المُضِيّ في الإفساد وعدم التوبة،

سقوط الحدود بالتوبة قبل رفع الجناة إلى الحاكم:

متحمِّلاً الصِّعاب راغباً في المغفرة والثواب، وربما يحظى بعفو أصحاب الحقوق. والله -تعالى- أعلم. سُقوطُ الحدود بالتَّوبة قبْل رَفْعِ الجناة إِلى الحاكم: *تقدَّم أنَّ حدَّ الحرابة يَسْقُط عن المحاربين إِذا تابوا، قبل القدرة عليهم؛ لقول الله -سبحانه-: {إِلا الذينَ تَابُوا منْ قَبْلِ أنْ تَقْدرُوا عَلَيْهِم فَاعْلَمُوا أنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). وليس هذا الحُكم مقصوراً على حدّ الحرابة، بل هو حُكْمٌ عام ينتظم جميع الحدود، فمن ارتكب جريمة تستوجب الحدّ، ثمَّ تاب منها، قبل أنْ يُرفع إِلى الإِمام، سَقَط عنه الحد؛ لأنَّه إِذا سقط الحدّ عن هؤلاء، فأولى أن يسقط عن غيرهم، وهُم أخفُّ جرماً منهم. وقد رجَّح ذلك شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقال: ومن تاب من الزِّنى، والسرقة، وشُرب الخمر، قبل أن يُرفع إِلى الإمام، فالصحيح، أنَّ الحدَّ يسقط عنه، كما يسقط عن المحاربين، إِجماعاً، إِذا تابوا قبل القُدرة عليهم. وقال القرطبي: فأمَّا الشُّراب، والزُّناة، والسُّرّاق، إِذا تابوا وأصلحوا، وعُرِف ذلك منهم، ثُمَّ رُفعوا إِلى الإِمام، فلا ينبغي أنْ يُحَدُّوا، وإن رُفِعوا إِليه، فقالوا: تُبْنا. لم يُتركوا، وهم في هذا الحال كالمحاربين إذا غُلبوا* (¬2). قلت: ويؤيِّد ما قاله القرطبي -رحمه الله تعالى- ما تقدَّم من إِعراض النبي ¬

_ (¬1) المائدة: 34. (¬2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 255).

دفاع الإنسان عن نفسه:

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ماعز بن مالك حينما جاءه يخبره أنَّه قد أصاب جارية، فأعرض عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إِنَّ ماعزاً قد قالها أربع مرَّات ... وكذا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للغامديَّة: "وَيْحَكِ؛ ارجعي فاستغفري الله وتوبي إِليه". وفيه أيضاً ما رواه الأجلح عن الشعبي حين قال عليٌّ -رضي الله عنه- لشُراحة الهمدانيَّة: ويلك لعلَّ رجُلاً وقع عليك وأنْتِ نائمة ... لعلَّك استُكْرِهتِ ... يُلقِّنها (¬1). دفاع الإِنسان عن نفسه (¬2): *إِذا اعتدى على الإِنسان معتدٍ يريد قتْله، أو أخْذ ماله، أو هتْك عرْض حريمه؛ فمِن حقَّه أنْ يُقاتل هذا المعتدي دفاعاً عن نفسه، وماله، وعرضْه، ويدفع بالأسهل فالأسهل، فيبدأ بالكلام، أو الصِّياح، أو الاستعانة بالناس، إِن أمْكن دفع الظَّالم بذلك، فإِن لم يندفع إِلا بالضَّرب، فليَضْربه، فإنْ لم يَنْدفع إِلا بقتْله، فليَقْتله، ولا قِصاص على القاتل، ولا كفَّارة عليه، ولا دية للمقتول؛ لأنَّه ظالم معتد، والظالم المعتدي حلال الدَّم لا يجب ضمانه. فإنْ قُتِل المُعتدى عليه، وهو في حالة دفاعه عن نفْسه، وماله، وعرضه، فهو شهيد. قال الله -تعالى-: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيْلٍ} (¬3) *. ¬

_ (¬1) تقدَّم تحت "باب: ماذا يفعل الإِمام إِذا جاءه من أقرَّ على نفسه بالزِّنى". (¬2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 257). (¬3) الشورى: 41.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء رجُلٌ إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! أرأيتَ إِنْ جاء رجُلٌ يُريدُ أخذ مالي؟ قال: فلا تُعْطِه مالك (¬1). قال: أرأيتَ إِن قاتَلني؟ قال: قاتِلْه. قال: أرأيتَ إِنْ قَتَلَني؟ قال: فَأنْتَ شهيدٌ. قال: أرأيتَ إِنْ قَتَلْتُه؟ قال: هو في النَّار" (¬2). وفي لفظٍ لأحمد: "أنَّه قال له أوَّلاً: انشده الله. قال: فإِن أبى؟ قال: قاتِلْه" (¬3). وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "مَنْ قُتِل دونَ ماله فهو شهيد" (¬4). وعن قابوس بن مخارق عن أبيه قال: "جاء رجل إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: الرجُل يأتيني فيريد مالي؟ قال: ذكِّره بالله، قال: فإِنْ لم يذكر؟ قال: فاستعن عليه من حولك من المسلمين. قال: فإِنْ لم يكن حولي أحد من المسلمين؟ قال: فاستعن عليه السلطان، قال: فإِن نأى السلطان عني؟ قال: قاتل دون مالك حتى تكون من شهداء ¬

_ (¬1) قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (34/ 242): "لكن الدفع عن المال لا يجب، بل يجوز له أن يعطيهم المال ولا يقاتلهم. وأمًا الدفع عن النَّفس ففي وجوبه قولان، هما روايتان عن أحمد". (¬2) أخرجه مسلم (140). (¬3) صححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2446). (¬4) أخرجه البخاري (2480)، ومسلم (141).

دفاع الإنسان عن غيره:

الآخرة، أو تمنع مالك" (¬1). دفاع الإِنسان عن غيره: عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحسَنَ النَّاس، وأشْجَع النَّاس. ولقد فزِع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصَّوتِ فاسْتَقبلهم النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد استبْرأ الخبَرَ وهو على فرسٍ لأبي طلحة عُرْيٍ وفي عُنُقه السَّيفُ وهو يقول: لم تُراعوا، لم تُراعوا. ثمَّ قال: وجَدْناه بحْراً. أو قال: إِنَّه لبحْر" (¬2). وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "انْصرْ أخاك ظالاً أو مظلوماً" (¬3). وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "اقتتل غُلامان. غُلامٌ من المُهاجرين وغُلامٌ من الأنصاِر. فَنَادَى المُهاجِرُ أو المُهاجرون يَا لَلمُهاجِرين! ونادى الأنصاريُّ يا لَلأنصار! فَخَرَجَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما هذا دَعْوى أهلِ الجاهليَّة؟ قالوا: لا يا رسول الله! إِلا أنَّ غُلامينِ اقْتتلا فَكَسَعَ (¬4) أحدهما الآخر قال: فلا بأس. ولْينصُر الرجُلُ أخاهُ ظالماً أوْ مظلوماً. إِنْ كانَ ظالماً فَلْيَنْهَهُ فإِنَّه لهُ نصرٌ، وإِنْ كانَ مَظلوماً ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي بسند حسن وانظر "الإرواء" (8/ 96). (¬2) أخرجه البخاري (2908)، ومسلم (2307). (¬3) أخرجه البخاري (2443). (¬4) كسع: أي ضرَب دُبُره وعجيزته؛ بيدٍ أو رِجلٍ أو سيفٍ وغيره، "نووي".

فَلْيَنْصُرْهُ" (¬1). ولا يجوز للمسلم أن يخذل أخاه أو يُسلمه. فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلِمه" (¬2). وفي رواية: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، التقوى هاهنا التقوى هاهنا، يقول: أي: في القلب" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2584). (¬2) أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580). (¬3) أخرجه أحمد بإِسناد حسن وانظر "الإِرواء" (8/ 100).

الجنايات

الجنايات

تعريفها:

الجنايات تعريفها: الجنايات: هي جمع جناية، مصدر من جَنَى الذنب يجنيه جناية، أي: جَرّه إِليه، وجُمعت وإِنْ كانت مصدراً لاختلاف أنواعها، فإِنها تكون في النفس، وفي الأطراف، وتكون عمداً وخطأً (¬1). وجاء في "المغني" (9/ 318): هي كلّ فِعل عدوانٍ على نفس أو مال، لكنها في العرف مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان، وسمّوا الجنايات على الأموال غصباً ونهباً وسرقة وخيانة وإِتلافاً. *وقد اصطلحَ الفقهاء على تقسيم هذه الجرائم إِلى قسمين: القسم الأول: ويسمّى جرائم الحدود. والقسم الثاني: ويسمّى جرائم القِصاص. وهي الجنايات التي تقع على النفس، أو على ما دونها من جرحٍ، أو قطع عضو، وهذه هي أصول المصالح الضرورية التي يجب المحافظة عليها؛ صيانة للناس، وحِفاظاً على حياتهم الاجتماعية. وقد تقدم الكلام على جرائم الحدود وعقوباتها، وبقي أن نتكلم على جرائم القصاص* (¬2). حُرمة المسلم عند الله تعالى: قال الله تعالى {ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إِلا بالحقّ} (¬3). ¬

_ (¬1) "سبل السلام" (3/ 437). (¬2) ما بين النجمتين من "فقه السنة" (3/ 282). (¬3) الإِسراء: 33.

عن أبي بكرة -رضي الله عنه- ذكَر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قعَد على بعيره وأمسكَ إِنسانٌ بخِطامه -أو زمامه- قال: أيّ يوم هذا؟ فسَكتنا حتى ظَننّا أنه سيُسمّيه سِوى اسمه. قال: ألَيس يوم النَحر؟ قلنا: بلى. قال فأيّ شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننّا أنه سيُسمِّيه بغير اسمه، فقال: أليس بذي الحجة؟ قلنا بلى. قال: فإنّ دِماءَكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حَرام؛ كَحُرمِة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، لِيبلغ الشاهد الغائبَ، فإن الشاهد عَسى أن يبلّغَ مَن هو أوعى له منه" (¬1). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إِله إِلا الله وأني رسول الله إِلا بإِحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيِّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة" (¬2). وعن عبد الله بن عمرو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لزوال الدنيا أهون على الله من قَتْل رجل مسلم" (¬3). وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن؛ لأكبّهم الله في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (67) ومسلم (1679). (¬2) أخرجه البخاري (6878) ومسلم (1676) وتقدّم. (¬3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1126) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2121) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3722) وصححه شيخنا -رحمه الله- في "غاية المرام" (439).

جزاء من سن القتل:

النار" (¬1). ونظر عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يوماً إِلى الكعبة فقال: "ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمةً منك" (¬2). وعن عبد الله -رضي الله عنه- قال النبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أول ما يقضى بين الناس في الدماء" (¬3). جزاء من سَنّ القتل: قال الله تعالى {مَن قَتَل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً} (¬4). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "أي: ومَن قَتَل نفساً بغير سبب؛ من قِصاص، أو فسادٍ في الأرض، واستحلّ قتْلها بلا سبب ولا جناية؛ فكأنما قتل الناس جميعاً؛ لأنه لا فرْقَ عنده بين نفسٍ ونفس". وعن عبد الله قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس مِن نفس تُقتَل ظلماً؛ إِلا كان ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1128) وصححه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (2442). (¬2) أخرجه الترمذي وابن حبان وغيرهما وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "غاية المرام" (435). (¬3) أخرجه البخاري (6533) ومسلم (1678). (¬4) المائدة: 32.

تحريم الانتحار وقتل المرء نفسه:

على ابن آدم الأوّل كِفلٌ منها (¬1) لأنه سَنّ القتل أوّلاً" (¬2). وعن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "مَن سنَّ في الإِسلام سُنّة حسنة؛ فله أجرها وأجر مَن عمِل بها من بعده؛ مِن غير أن يَنقُص من أجورهم شيءٌ، ومَن سنَّ في الإِسلام سنّة سيئة؛ كان عليه وزرها ووزْر من عمِل بها من بعده؛ مِن غير أن يَنقُص مِن أوزارهم شيء" (¬3). تحريم الانتحار وقتل المرء نفسه: قال الله -تعالى-: {ولا تقتلوا أنفسكم إِنّ الله كان بكم رحيماً} (¬4). عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَن تَرَدّى من جبل فقتلَ نفسَه فهو في نار جهنم يتردّى فيه خالداً مُخلداً فيها أبداً. ومن تحسّى سماً فقَتلَ نفسه فسمُّهُ في يده، يَتحساه في نار جهنم خالداً مُخلداً فيها أبداً. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدتهُ في يده يَجأُ بِها (¬5) في بطنه في نار جهنم خالداً مُخلداً فيها أبداً" (¬6). ¬

_ (¬1) الكفل: الحظّ والنّصيب. (¬2) أخرجه البخاري (7321) ومسلم (1677). (¬3) أخرجه مسلم (1017). (¬4) النساء: 29. (¬5) يجأ بها: أي يضرب بها. (¬6) أخرجه البخاري (5778) ومسلم (109).

أنواع القتل

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار" (¬1). وعن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان فيمن كان قبلكم رجلٌ به جُرْحٌ، فجزِع فأخذ سكيناً فحزّ بها يده، فما رقأ (¬2) الدم حتى مات، قال الله -تعالى-: "بادرني عبدي بنفسه، (¬3) حَرّمتُ عليه الجنة" (¬4). وعن ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من قَتَل نفسه بشيء في الدنيا؛ عُذّب به يوم القيامة" (¬5). أنواع القتل القتلُ أنواعٌ ثلاثةٌ: 1 - عمد. 2 - شبه عمد. 3 - خطأ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1365). (¬2) أي لم ينقطع. (¬3) بادرني عبدي بنفسه: أي: استعجل الموت قال العينيّ -رحمه الله- في "عمدة القاري": "معنى المبادرة: عدم صبْرِه حتى يقبض الله روحه حتف أنفه، يُقال: بدرني أي سبقني: مِن بَدرت إِلي الشيء أبدُر وبدوراً إذا أسرعت، وكذلك بادرت إِليه". (¬4) أخرجه البخاري (1364، 3463) ومسلم (113). (¬5) أخرجه البخاري (6047) ومسلم (110).

القتل العمد

القتلُ العَمْدُ (¬1) فالقتل العمد؛ هو أن يقصد المكلَّف قتْل إِنسان معصوم الدم (¬2)، بما يغلِب على الظنّ، أنه يُقتل به، ولا تتحقّق جريمة العمد؛ إِلا إِذا توفّرت الأُمور الآتية: 1 - أن يكون القاتل عاقلاً، بالغاً، قاصداً القتل. أمّا اعتبار العقل والبلوغ فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفع القلم عن ثلاثة؛ عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر" (¬3). وأمّا اعتبار العمد؛ فلحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قُتلَ رجل على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرُفع ذلك إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدفَعه إِلى وليِّ المقتول، فقال القاتل: يا رسول الله! والله ما أردْتُ قتْله. قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للولي: أمَا إِنه، إِنْ كان صادقاً ثُمَّ قَتَلْتَه دَخَلْتَ النار قال: فخلّى سبيله" (¬4). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... ومن قتل ¬

_ (¬1) عن "فقه السنة" (3/ 292) بتصرف وزيادة من "المغني" (9/ 321). (¬2) أي لا يستّحق القتل شَرعاً. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3698)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1660) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1150)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (297). (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3775)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4403) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1135) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2178).

أداة القتل ووسائله:

عمداً فهو قَوَد (¬1) ومن حال دونه؛ فعليه لعنة الله وغضبه، لا يُقبَل منه صَرْف (¬2) ولا عَدْل" (¬3). 2 - أن يكون المقتول آدمياً، ومعصومَ الدم أي؛ أنّ دمه غير مباح. 3 - أن تكون الأداة التي استُعملت في القتل، ممّا يُقْتَلُ بها غالباً. فإذا لم تتوفر هذه الأركان، فإِنّ القتل لا يعد قتلاً عمداً. أداةُ القتلِ ووسائله: ولا يشترط في الأداة التي يَقتلُ بها، سوى أنها ممّا تَقْتُلُ غالباً، سواءٌ أكانت محدَّدة؛ أم متلَفة؛ لتماثلهما في إِزهاق الروح. قال في "المغني" (9/ 321): "فالعمد ما ضرَبَه بحديدة أو خشبة كبيرة فوق عمود الفسطاط، أو حجر كبير؛ الغالب أن يقتل مثله، أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة أو فعل به فِعلاً الغالب من ذلك الفعل أنه يُتلِف. وجملة ذلك أن العمد نوعان: أحدهما أن يضربه بمحدَّد وهو ما يقطع ويدخل في البدن؛ كالسيف والسكين والسنان، وما في معناه مما يحدد؛ فيجرح من الحديد والنحاس والرصاص والذهب والفضة والزجاج والحجر والقصب والخشب. فهذا كله إِذا جرح به جرحاً كبيراً فمات فهو قتْلُ عمدٍ لا خلاف فيه بين ¬

_ (¬1) القَوَد: القِصاص وَقَتل القاتل بدل القتيل. "النهاية". (¬2) قال في "النهاية": "قد تكررت هاتان اللفظتان في الحديث، فالصّرف: التوبة وقيل: النافلة، والعَدْل: الفِدْية وقيل: الفريضة". (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3804)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2131)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4456).

العلماء -فيما علمناه-. فأمّا إِنْ جَرحه جرحاً صغيراً كشَرْطة الحجّام أو غَرَزهُ بإِبرة أو شوكة نظرت؛ فإِن كان في مقتل كالعين والفؤاد والخاصرة والصدغ وأصل الأُذُن فمات؛ فهو عمد أيضاً؛ لأن الإِصابة بذلك في المقتل كالجرح بالسكين في غير المقتل". وجاء في "الشرح الكبير" (9/ 320): 1 - " ... أن يجرحه بسكين، أو يغرزه بمسلّة، أو ما في معناه؛ ممّا يحدّد ويجرح من الحديد والنحاس والزجاج والحجر ... فهذا كله إِذا جرَح به جُرحاً كبيراً فمات؛ فهو قتلُ عمدٍ لا اختلاف فيه بين العلماء -فيما علمناه-. 2 - أن يضربه بمثقل فوق عمود ... أو حجر كبير، أو يُلقي عليه حائطاً أو سقفاً، أو يُلقيه من شاهق، أو يكرّر الضرب بصغير، أو يضربه في مقتل أو في حال ضعف قُوةٍ من مرض أو صِغر أو كِبَر. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- "أن يهودياً رضّ رأسَ جاريةٍ بين حجرين، فقيل لها: من فَعَل بك هذا؟ أفلان أفلان، حتى سُمّي اليهودي فأومأت برأسها، فجيء باليهودي فاعترف، فأمَرَ به النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُضّ رأسُه بالحجارة" (¬1). 3 - إِذا جمع بينه وبين أسد أو نحوه في مكان ضيِّق، أو أنهشه كلباً أو سبعاً أو حية. 4 - إِذا ألقاه في ماءٍ يُغرقه، أو نار لا يمكنه التخلص منها؛ إِمّا لكثرة الماء ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6884)، ومسلم (1672).

والنار، وإِمّا لعجزه عن التخلص. 5 - إِذا خنقَه بحبل أو غيره، أو سدّ فمه وأنفه، أو عصر خصيته حتى مات. [جاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 144): "عن رجلين تضاربا وتخانقا، فوقع أحدهما فمات: فما يجب عليه؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين. إِذا خَنقه الخنق الذي يموت به المرء غالباً وجب القَوَد عليه عند جمهور العلماء؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، وصاحبي أبي حنيفة، ولو ادعى أن هذا لا يَقْتُل غالباً لم يُقبَل منه بغير حُجّة. فأمّا إِن كان أحدهما قد غشي عليه بعد الخنق، ورفَسَه الآخر برِجله حتى خرج من فمه شيء فمات؛ فهذا يجب عليه القَوَد بلا ريب، فإِن هذا قاتلٌ نفساً عمداً؛ فيجب عليه القَوَد؛ إذا كان المقتول يكافؤه بأن يكون حُرّاً مسلماً، فيُسَلّم إِلى ورثة المقتول؛ إِنْ شاءوا أن يقتلوه، وإنْ شاءوا عفوا عنه، وإنْ شاءوا أخذوا الدّية". وفي "مجموع الفتاوى" (ص 144) أيضاً: "وَسئل -رحمه الله- عن رجلين تخاصما وتقابضا فقام واحد ونطح الآخر في أنفه، فجرى دمه، فقام الذي جرى دمه خنقه ورفسه برجله في مخاصيه فوقع ميّتاً؟ فأجاب: يجب القَوَد على الخانق الذي رفس الآخر في أنثييه؛ فإِنّ مثل هذا الفعل قد يَقْتُل غالباً؛ فإِنّ موته بهذا الفِعل دليل على أنه فَعل به ما يَقْتُل غالباً؛ والفِعْل الذي يَقْتُل غالباً يجب به القَوَد في مذهب مالك والشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنيفه: مثل ما لو ضرَبه في أنثييه حتى مات فيجب القَوَد، ولو خنقه حتى مات وجب القَوَد، فكيف إذا اجتمعا؟!

ووليّ المقتول مُخيَّر إِنْ شاء قتَل، وإِنْ شاء أخذ الدِّية، وإِنْ شاء عفا عنه؛ وليس لولي الأمر أن يأخذ من القاتل شيئاً لنفسه ولا لبيت المال؛ وإِنما الحقّ في ذلك لأولياء المقتول"]. 6 - إِذا حبَسه ومنعه الطعام أو الشراب؛ حتى مات جوعاً وعطشاً؛ في مُدّةٍ يموت في مِثْلها غالباً. 7 - إِذا سقاه سمّاً، أو خَلطه بطعامه فأكل فمات. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنّ يهودية أَتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشاةٍ مسمومة فأكل منها، فقيل: ألا نقتلها؟ قال: لا، فما زلت أعرفها في لَهواتِ (¬1) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬2). وفي رواية من حديث أبي سلمة -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أهدَتْ له يهودية، بخيبر شاةً مصليّة ... قال: فمات بشر بن البراء بن معرور الأنصاري، فأرسل إِلى اليهودية: ما حَمَلك على الذي صَنعْت؟ فقالت: إِنْ كنتَ نبياً لم يضرَّك وإِن لم تكن استرحنا منك. فأمَرَ بها رسول الله فقُتلت" (¬3). 8 - إِذا قتَلَه بسحر يقتُلُ غالباً. 9 - إِذا شهد رجلان على رجل بقتل عمدٍ ... أو رِدّة، فيُقتَل بذلك، ثمّ يرجعان ويقولان: عَمَدنا قتْله. ¬

_ (¬1) لَهَوات: جَمْع لهاة، وهي الَّلحَماتُ في سقف أقصى الفم. "النهاية". (¬2) أخرجه البخاري (2617)، ومسلم (2190). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3783).

فائدة:

وتقدم قول عليّ -رضي الله عنه-: "لو علمْتُ أنّكما تعمّدتما لقطعتُكما" (¬1). 10 - إِذا أمسك الرجل وقتلَه الآخر؛ يقتل الذي قَتَل ويُحبس الذي أمسَك. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "إِذا أمسَك الرجل الآخر؛ يُقتل الذي قَتَل ويُحبس الذي أمسَك" (¬2). قلت: ويُحمل حبْس الذي أمسَك، إِنْ كان لا يعلم إِرادة تعمُّد القتل عند صاحبه، أمّا إِن كان يعلم ذلك فإِنه شريكه. وقد تقدم أثر عمر -رضي الله عنه- " لو تمالأ عليه أهل صنعاء (¬3) لقتَلْتُهم جميعاً" (¬4). والله أعلم. فائدة: سألت شيخنا -رحمه الله- عن جماعةٍ دخلوا على بيتٍ لقتْلِ رجل، فقتَلَ منهم دفاعاً عن نفسه. فأجاب -رحمه الله-: "لا يقال بأنه قاتل، وإِذا جاء جماعةٌ أرادوا أخْذه لاستجوابه وهو يعلم ذلك، فلا يجوز أَن يقْتُل". ¬

_ (¬1) انظر كتاب "السرقة" (إِذا تراجع الشاهدان في الشهادة بعد إقامة الحدّ). (¬2) أخرجه الدارقطني بإِسناد صحيح، وانظر "هداية الرواة" (3415) بتحقيق شيخنا -رحمه الله-. (¬3) تمالأ عليه أهل صنعاء: أي تساعدوا واجتمعوا وتعاونوا. وتقدّم. (¬4) تقدم تخريجه.

ماذا يترتب على قتل العمد؟

ماذا يترتّب على قتْل العمد؟ يترتب على قتل العمد القصاص عند وجود المكافئ. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "العمد قَوَد والخطأ ديَة (¬1) " (¬2). *ولا يرث القاتل من ميراث المقتول شيئاً، لا من ماله، ولا من دِيته؛ إِذا كان من ورثته، وقاعدة الفقهاء في ذلك: "مَن استعجل الشيء قبل أوانه؛ عوقب بحرمانه"* (¬3). عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس للقاتل من الميراث شيء" (¬4). وفي رواية: "ليس للقاتل شيء، وإن لم يكن له وارث، فوارثه أقرب الناس إِليه، ولا يرث القاتل شيئاً" (¬5). وجاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 153) "وسئل -رحمه الله- عن القاتل ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والنسائي وانظر "الصحيحة" (1986). (¬2) انظر -إن شئت- "الروضة النديّة" (2/ 639). (¬3) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 298). (¬4) أخرجه البيهقي والدارقطني وغيرهم وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1671). (¬5) أخرجه البيهقي وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3818)، وانظر "الإِرواء" (6/ 117 - 118) تحت الحديث (1671).

من حق الورثة التنازل عن القصاص وطلب الدية أو العفو:

ولدَه عمداً؛ لمن ديته؟ فأجاب: وأمّا الوارث كالأب وغيره إذا قتَل مورثه عمداً؛ فإِنه لا يرث شيئاً من ماله ولا ديته باتفاق الأئمّة، بل تكون ديته كسائر ماله يحرمها القاتل؛ أباً كان أو غيره، ويرثها سائر الورثة غير القاتل". من حقّ الورثة التنازُل عن القِصاص وطلب الدية أو العفو: إِذا تنازل الورثة عن القِصاص، فلهم طلب الدِّية. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "مَن قُتِل له قتيل؛ فهو بخير النظرين: إِمّا إِن يودَى (¬1) وإِما إن يُقاد" (¬2). ولهم الصُّلح على زيادةٍ في الدِّية، ولهم كذلك العفو مجّاناً -وهو الأفضل- لقول الله -تعالى-: {وأَن تعفوا أقرب للتقوى ولا تَنْسَوا الفضل بينكم} (¬3). وقد قال الله -تعالى-: {يا أيها الذِينَ آمنوا كُتِبَ عليكمُ القِصاص في القتلى الحُر بالحُرّ والعبدُ بالعَبْدِ والأنثَى بالأنثَى فَمَن عُفَي لهُ مِن أخيه شيء فاتباعٌ بالمعرُوف وأداءٌ إِليهِ بإِحسان ذَلك تخفيفٌ مّن ربكم ورَحمةٌ فمنِ اعتدَى بعدَ ذلكَ فَلَهُ عذابٌ أليمٌ} (¬4). ¬

_ (¬1) أي: يُعطى الدِّية. (¬2) أخرجه البخاري (6880)، ومسلم (1355). (¬3) البقرة: 237. (¬4) البقرة: 178.

ماذا إذا عفا أحد الورثة؟

ماذا إِذا عفا أحد الورثة؟ وإِذا عفا أحد الورثة، سقط القِصاص. فعن زيد بن وهب أن عمر -رضي الله عنه- "أُتي برجل قَتَل قتيلاً، فجاء ورثة المقتول ليقتلوه، فقالت امرأة المقتول -وهي أخت القاتل-: قد عفوت عن حقي، فقال عمر: الله أكبر، عُتق القتيل، فأَمَر عمر لسائرهم بالدّية" (¬1). وعن زيد بن وهب أيضاً: "أنّ رجلاً دخل على امرأته. فوجد عندها رجلاً فقتلها، فاستعدى عليه إِخوتها عمر -رضي الله عنه- فقال بعض إِخوتها: قد تصدقت فقضى لسائرهم بالدية" (¬2). وفي رواية: "أنّ رجلاً قتَل امرأته، استعدى ثلاثة إِخوة لها عليه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فعفا أحدهم، فقال عمرُ للباقين: خذا ثلثي الدِّية؛ فإِنه لا سبيل إِلى قتله" (¬3). القَتْل شبه العمْد: شبه العمد أحد أقسام القتل، وهو: أن يقصَد ضرْبه بما لا يَقْتُلُ غالباً، إِمّا لقصد العدوان عليه، أو لقصد التأديب له، فيسرف فيه؛ كالضربِ بالسوط والعصا والحجر الصغير والوكْز واليد. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" وانظر "الإرواء" (2222). (¬2) أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2225): "وإسناده صحيح على شرط الشيخين". (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2225): "وإسناده صحيح".

وسائر ما لا يَقْتُل غالباً إِذا قتل؛ فهو شبه عمد؛ لأنه قصَد الضرب دون القتل، ويُسمّى عمدَ الخطأ وخطأ العمد؛ لاجتماع العمد والخطأ فيه فإِنه عَمَد الفعل وأخطأ في القتل (¬1). *ولما لم يكن عمداً محضاً، سقط القَوَد؛ لأن الأصل صيانة الدماء، فلا تُستباح إِلا بأمر بيّن، ولما لم يكن خطأ محضاً -لأن الضرب مقصود بالفعل دون القتل- وَجَبَت فيه دِيَة مُغلظة* (¬2). عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "عَقلُ (¬3) شبهِ العمد مُغَلّظ؛ مثل عقْلِ العمد، ولا يُقتَل صاحبه، وذلك أن ينزو (¬4) الشيطَان بين الناس فتكون دماء في عِمّيّا (¬5) في غير ضغينة (¬6) ولا حمْلِ سلاح" (¬7). ¬

_ (¬1) "المغني" (9/ 337). (¬2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 295). (¬3) العقل: أي: الدّية وأصلُه: أنّ القاتل إِذا قَتَل قتيلاً جمَع الدِّية من الإِبل فعَقَلها بفِناء أولياء المقتول: أي: شَدّها في عُقُلها ليُسَلمها إِليهم ويَقبضُوها منه، فسُميت الدِّية عَقلاً بالمصدر. يقال عَقَل البعير يَعْقله عقلاً، وجمعُها عقُول. وكان أصل الدِّية الإِبل، ثم قُوّمت بعد ذلك بالذهب والفضة والبقر والغنم وغيرها. "النهاية". (¬4) النزو: الوثوب والتسرّع إِلى الشّر؛ انظر "النهاية" و"عون المعبود" (12/ 200) وسيأتي كلام الحافظ -رحمه الله- قريباً بإِذن الله. (¬5) عِمّيّا: -بكسر العين والميم المشددة وتشديد الياء-: أي: في حالٍ يعمى أمْرُه، فلا يتبين قاتله ولا حالُ قتْله، فحُكمه حُكم قتيل الخطأ؛ تجب فيه الدِّية "النهاية" -بتصرف يسير-. (¬6) الضغينة: الحقد والعداوة والبغضاء. (¬7) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3819)، وانظر المشكاة (3501).

ماذا يترتب على قتل شبه العمد؟

جاء في "عون المعبود" (12/ 201): "والحاصل أن قتل شبه العمد يحصل بسبب وثوب الشيطان بين الناس، فيكون القتال بينهم من غير حقد وعداوة ولا حمْل سلاح، بل في حالٍ يعمى أمره، ولا يتبين قاتله ولا حال قتله، ففي مثل هذه الصورة؛ لا يُقتَل القاتل بل عليه دِيَة مغلظة مثل دية قتل العمد". وفي رواية من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أيضاً أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوم الفتح بمكة، ثم قال: "ألا إِنّ دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا" (¬1). ماذا يترتب على قتل شِبْه العمد؟ لا يجب في قتل شبه العمد القِصاص، ويجب فيه الدية المغلّظة على العاقلة (¬2). قال في "المغني" (9/ 337): "فهذا لا قَوَد فيه، والدّية على العاقلة في قول أكثر أهل العلم .. ". مسألة: جاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 144) "وَسئلَ -رحمه الله- عمن ضرب رجلاً ضربة فمكث زماناً ثمّ مات، والمدة التي مكث فيها كان ضعيفاً من الضربة: ما الذي يجب عليه؟ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3807)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2127)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4458)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2197). (¬2) انظر "الروضة" (2/ 639).

القتل الخطأ:

فأجاب: الحمد لله رب العالمين. إِذا ضربه عدواناً فهذا شبه عمد فيه دية مغلظة، ولا قَوَد فيه، وهذا إِن لم يكن موته من الضربة. والله أعلم". القتل الخطأ (¬1): هو أن لا يقصد ضربه، وإِنما قصَد غيره فأصابه، أو أن يفعل ما يجوز له ويُباح؛ كأن يحفر بئراً؛ فيتردّى فيه إِنسان، أو أن يرمي الصيد، أو يفعل ما يجوز له قتْله فيؤول إِلى قتْل آدمي، فلا قَوَد عليه ولا قِصاص، وإِنما تجب الدية مخفّفة؛ كما سيأتي -إِن شاء الله تعالى-. قال ابن المنذر: "أجمع كلُّ من نحفظ عنه مِن أهل العلم؛ أن القتل الخطأ؛ أنْ يرمي الرامي شيئاً؛ فيصيب غيره، لا أعلمهم يختلفون فيه. هذا قول عمر بن عبد العزيز وقتادة والنخعي والزهري وابن شبرمة والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي. فهذا الضرب من الخطأ تجب به الدية على العاقلة والكفّارة في مال القاتل بغير خلاف نعلمه. ماذا يترتب على قتل الخطأ؟ تجب الدّية مخفّفة على العاقلة (¬2) والكفّارة في مال القاتل، وهي عتق ¬

_ (¬1) ملتقط من "المغني" (9/ 338) و"الروضة الندية" (2/ 639). (¬2) قال في "النهاية": "والعاقلة: هي العَصَبة والأقارب مِن قِبل الأب الذين يُعْطُون ديَةَ قتيل الخطأ ... وأصلها اسم فاعلة من العقل، وهي مِن الصّفات الغالبة". وقال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (12/ 246): "العاقلة: بكسر القاف جمع =

رقبة مؤمنة فإِن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. والأصل في وجوب الدِّية والكفّارة قول الله -تعالى-: {ومن قَتَل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة وديِةٌ مُسلَّمة إِلى أهله إِلا أن يصّدقوا} وسواء كان المقتول مسلماً أو كافراً له عهد لقول الله -تعالى-: المتقدّم {وإِن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدِيَةٌ مسلَّمة إِلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة}. ولا قِصاص في شيء من هذا لأن الله -تعالى- أوجب به الدية ولم يذكر قصاصاً. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ الله وضَع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا ¬

_ = عاقل وهو دافع الدية، وسُمّيت الدية عقلاً تسميةً بالمصدر؛ لأن الإِبل كانت تُعْقَل بفناء ولي القتيل، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية ولو لم تكن إِبلاً. وعاقلة الرجل قرابته من قبل الأب، وهم عصبته، وهم الذين كانوا يعقلون الإِبل على باب ولي المقتول، وتَحمُّل العاقلة الدية ثابت بالسنة، وأجمع أهل العلم على ذلك، وهو مخالف لظاهر قوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} لكنه خُصّ من عمومها، ذلك لما فيه من المصلحة؛ لأن القاتل لو أُخِذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله، لأن تتابع الخطأ منه لا يؤمَن، ولو تُرك بغير تغريم لأهدر دم المقتول. قلت: [أي: الحافظ -رحمه الله تعالى-] ويحتمل أن يكون السر فيه أنه لو أفرد بالتغريم حتى يفتقر لآل الأمر إِلى الإِهدار بعد الافتقار، فجعل على عاقلته؛ لأن احتمال فقر الواحد أكثر من احتمال فقر الجماعة، ولأنه إذا تكرر ذلك منه كان تحذيره من العود إِلى مثل ذلك من جماعة أدعى إِلى القَبول؛ من تحذيره نفسه والعلم عند الله -تعالى-. وعاقلة الرجل عشيرته، فيبدأ بفخذه الأدنى فإِن عجزوا ضم إِليهم الأقرب إِليهم وهي على الرجال الأحرار البالغين أُولي اليسار منهم".

فائدة:

عليه" (¬1). ولأنه لم يوجب القِصاص في عمد الخطأ ففي الخطأ أولى (¬2). فائدة: جاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 170): "وإِذا ماتَ منْ عليه الكفّارة ولم يُكفّر، فليُطعم عنه وليّه ستّين مِسكيناً فإِنّه بدلُ الصيام الذي عَجزت عنه قوتُه، فإِذا أَطعَم عنه في صيام رمضان فهذا أولى. والمرأة إِنْ صامت شهرين متتابعين؛ لم يَقْطَع الحيضُ تتابُعَها، بل تَبني بعد الطهر باتفاق الأئمِّة، والله أعلم". عمْد الصبيّ والمجنون خطأ تحمله العاقلة: جاء في "الغني" (9/ 504): "عمْد الصبيّ والمجنون خطأ تحمله العاقلة، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا تحمله؛ لأنه عمد يجوز تأديبهما عليه، فأشبه القتل مِن البالغ. ولنا أنه لا يتحقق منهما كمال القصد فتحمله العاقلة كشبه العمد، ولأنه قتْلٌ لا يوجب القِصاص لأجل العذر، فأشبه الخطأ وشبه العمد، وبهذا فارَقَ ما ذكروه ويبطُل ما ذكروه بشبه العمد". قلت: والذي جاء في "المغني" هو الأرجح، وتعليله أقرب للنُّصوص المتصلة بالموضوع. والله -تعالى- أعلم. وجاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 158): "وسُئل -رحمه الله- تعالى ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1664)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (82). (¬2) انظر "المغني" (9/ 338) -بتصرف- وانظر "الروضة الندية" (2/ 652).

عن صبيّ دون البلوغ جنى جناية يجب عليه فيها دِية؛ مثل أن يَكسر سنَّا، أو يَفقأ عيناً، ونحو ذلك خطأ؛ فهل لأولياء ذلك أن يأخذوا دِيَة الجناية من أبي الصبيّ وحده إِنْ كان موسراً؟ أم يطلبوها من عمّ الصبي أو ابن عمّه؟ فأجاب: الحمد لله. أمّا إِذا فَعل ذلك خطأ؛ فديته على عاقلته بلا ريب؛ كالبالغ وأولى. وإِنْ فَعَل عمداً فعمدُه خطأ عند الجمهور: كأبي حنيفة، ومالك وأحمد في المشهور عنه، والشافعي في أحد قوليه، وفي القول الآخر عنه وعن أحمد أنّ عمده إِذا كان غير بالغ في ماله". وفيه (ص 159): "والذي تحمله العاقلة بالاتفاق ما كان فوق ثُلث الدية، مِثْل قلْع العين، فإِنّه يجب فيه نصف الدِّية. وأمّا دون الثلث، كدِيَة السن؛ وهو نصف عشر الديَة، ودِيَة الأصبع، هي عشر الديَة" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر تتمّة كلامه للمزيد من الفائدة ومعرفة رأي الأئمة الأربعة -رحمهم الله أجمعين-.

القصاص

القِصاص

شروط القصاص:

القِصاص القصاص من قولِكَ: قَصَصْتُ الأثَرَ، وأقْصَصتُه: إِذا اتَّبعْتَه، قال الله -تعالى-: {وقَاَلَتْ لأختِه قُصِّيهِ} (¬1) أي: اتْبَعِي أثَره. وقال في قصة موسى -عليه السلام- وفتاهُ: {فَارتدا عَلَى آثارِهما قَصَصاً} (¬2) كذلك القِصاص إِنِّما هو سُلوكُ مِثْل الطَّريقةِ التي فَعَلها الجارِحُ، لأنه يُؤتَى إِليه مثلَ ما أتَاَه هو (¬3). وجاء في كتاب "التعريفات": "هو أن يُفعل بالفاعل مثل ما فَعَل". وفي "طِلبة الطَّلَبَة": "القتل بإِزَاءِ القتلِ، وإِتْلاف الطَّرف بإِزَاءِ إِتْلاف الطَّرف. وقد اقتصَّ وليُّ المقتولِ من القاتلِ: أي: اسْتَوفَى قِصاصَهُ. وأقصَّه السّلطانُ منَ القَاتِل؛ أي: أوفَاه قصاصهُ، وهو من قولِكَ قصَّ الأَثرَ، واقْتَصَّه: أي: اتَّبَعَهُ، وقصَّ الحديث واقتصَّه؛ أي: رَوَاه على جهتِه، وهو كذلكَ أيضاً، أي: من الاتَّباع ... ". شروط القِصاص (¬4): 1 - أن يكون الجاني مُكلَّفاً، فأمّا الصبيّ والمجنون فلا قِصاص عليهما، لا ¬

_ (¬1) القصص: 11. (¬2) الكهف: 64. (¬3) انظر "حلية الفقهاء". (¬4) ملتقط من "الشرح الكبير" (9/ 350) و"فقه السنة" (3/ 301) بزيادة وتصرف.

خلاف بين أهل العِلم؛ في أنه لا قِصاص على الصبيّ والمجنون، وكذلك كلُّ زائل العقل بسببٍ يُعذر فيه كالنائم؛ لقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل" (¬1). ولأنّ القِصاص عقوبة مغلّظة؛ فلم تجب على الصبيّ وزائل العقل كالحدود ولأنهم ليس لهم قصدٌ صحيح، فهم كالقاتل خطأً. وإِذا كان المجنون يزول عنه جنونه أحياناً، فقَتل اقتصّ منه، وإِذا شرب رجلٌ شيئاً ظنّه غير مسكر، فزال عقله فقَتل في هذه الحال، فلا قِصاص عليه. 2 - أن يكون المقتول معصوماً؛ فلا يجب القِصاص بقتلِ حربيّ؛ ولا يجب بقتله؛ ديَة ولا كفارة، وكذا الزاني المحصَن أو المرتد. عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله قال: "لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إِله إِلا الله وأني رسول الله إِلا بإِحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيِّب الزانى، والمفارق لدينه التارك للجماعة" (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ أعمى كانت له أمّ ولد، تشتم النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتقَع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر. قال: فلمّا كانت ذات ليلة جَعَلت تقع في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتشتمه، فأخذ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3703)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1661) وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (297). وتقدّم. (¬2) أخرجه البخاري (6878)، مسلم (1676) وتقدّم.

المِغْوَل (¬1) فوضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتَلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم. فلمّا أصبح ذُكِر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجمَع الناس فقال: أنشد الله رجلاً فَعل ما فَعل لي عليه حقّ، إِلا قام. فقام الأعمى يتخطى الناس، وهو يتزلزل حتى قَعد بين يدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلمّا كانت البارحة جَعَلت تشتمك وتقع فيك، فأخذتُ المِغْوَل فوضعْتُه في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلْتُها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا اشهدوا أنّ دمها هدر" (¬2). 3 - أن يكون المجنيَّ عليه مسلماً، فلا يُقتل مؤمن بكافر. عن أبي جُحَيفةَ قال: "سألت علياً -رضي الله عنه-: هل عندكم شيء ما ليس في القرآن -وقال مُرة: ما ليس عند الناس- فقال: والذي فلقَ الحبَّةَ وبَرأ النَّسمةَ (¬3)، ما عندَنا إِلا ما في القرآن -إِلا فَهْماً يُعطَى رجلٌ في كتابه- وما في الصحيفة. قلتُ: وما في الصحيفة؟ قال: العقلُ، وفكاكُ الأسير، وأن لا يُقتل مسلمٌ ¬

_ (¬1) المِغْوَل: شبه سيف قصير، يشتمل به الرجل تحت ثيابه فيغطّيه، وقيل هو حديدة دقيقة لها حَدٌّ ماضٍ، وقيل هو سوط في جوفه سيف دقيق يشده الفاتك على وسطه ليغتال به الناس. "النهاية". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3665)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3794)، وتقدّم. (¬3) النسمة: أي خَلَقَ ذات الرُّوح. "النهاية".

بكافر" (¬1). وعن علي -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ألا لا يُقتل مؤمن بكافر" (¬2). وقد اختلف العلماء هل يُقتل الحُرّ بالعبد؛ والراجح أنه يُقتل لقوله -تعالى-: {وكَتَبْنا عليهم فيها أنّ النفسَ بالنفس} (¬3). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المسلمون تتكافأ (¬4) دماؤُهم ويسعى بذمّتهم أدناهم" (¬5). قال الإِمام الطبري -رحمه الله- فإِن قال قائل: فإِنه -تعالى-: ذكْره قال: {كُتِبَ عليكم القِصاص في القتلى الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبَدِ والأنثى بالأنثى} فما لنا أن نقتصّ للحرّ إِلا من الحرّ، ولا للأنثى إِلا من الأنثى؟ قيل: بل لنا أن نقتصّ للحرّ من العبد وللأنثى من الذَّكر، بقول الله -تعالى- ذكْره: {وَمَن قُتلَ مَظْلُوماً فَقَد جَعَلنا لوليّه سُلطَاناً} (¬6). وبالنقل المستفيَض عن رسول اللهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "المسلمون تتكافأ دماؤُهم". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6903). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3797)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2153) والنسائي، "صحيح سنن النسائي" (4412)، وصححه شيخنا - رحمه الله - في "الإرواء" (2208). (¬3) المائدة: 5. (¬4) تتكافأ: تتساوى في القصاص والدِّيات. "النهاية". (¬5) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2208). (¬6) الإِسراء: 33.

وقال: فإِنْ قال ذلك، فما وجه تأويل هذه الآية؟ قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: نَزَلت هذه الآية في قوم كانوا إِذا قَتَل الرجُل منهم عبدَ قومٍ آخرين؛ لم يرضوا مِنْ قتيلهم بدم قاتله؛ من أجل أنه عبد حتى يَقتُلوا به سيده. وإذا قَتَلَت المرأة من غيرهم رجلاً لم يرضوا من دم صاحبها بالمرأة القاتلة، حتى يقتلوا رجلاً من رهط المرأة وعشيرتها، فأنزل الله هذه الآية، فأعلمهم أن الذي فَرَض لهم من القِصاص أن يقتلوا بالرجل الرجل القاتل دون غيره، وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال، وبالعبد العبد القاتلَ دون غيره من الأحرار، فنهاهم أن يتعدُّوا القاتلَ إِلى غيره في القِصاص". ثم ذكر -رحمه الله تعالى- عدداً من الآثار في ذلك، وذكَر وجوهاً أُخرى ومناسبات عديدة ساقها بإسناده ثم قال -رحمه الله-: " .. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنقل العام؛ أنّ نفس الرجل قَوَدٌ قِصاصاً بنفس المرأة الحرة". ثم قال -رحمه الله-: "وإِذا كان كذلك؛ كان بيِّناً بذلك؛ أنه لم يُرَدْ بقوله -تعالى-: ذِكْره: {الحرّ بالحرِّ والعبدُ بالعبدِ والأنثى بالأنثى} أن لا يقادَ العبد بالحرّ، وأن لا تُقتَل الأنثى بالذكر، ولا الذكر بالأنثى ... " انتهى. قلت: أمّا حديث: "لا يُقاد مملوك من مالكه" فإِنه لا يثبُت، وانظر تفصيل ذلك في "الإِرواء" (7/ 270). وكذا أثرُ علي -رضي الله عنه-: "من السُّنة أن لا يُقتل حُرٌّ بعبد" فهو ضعيف جداً، وانظر "الإِرواء" أيضاً (2211).

وفي "صحيح سنن أبي داود" (3788) عن الحسن قال: "لا يُقاد الحر بالعبد" وهو صحيح مقطوع، ولا حُجّة فيه، كما لا يخفى على أهل العلم. والله -تعالى- أعلم. أقول: أمّا أن يقاد الرجل بالمرأة والعكس؛ ففيه عدد من الأدلة؛ إِضافة إِلى النصوص العامة المتقدمة. قال البخاري -رحمه الله- "باب القصاص بَيْن الرِّجالِ والنِّساءِ في الجرَاحَاتِ" وقال أهل العلمِ: يُقْتَل الرجل بالمرأة. ثم قال: ويذكَر عن عمر: "تُقادُ المرأة مِنَ الرَّجُلِ في كل عمدٍ يَبْلُغُ نفسه فما دونها مِنَ الجراحِ" (¬1). وبهِ قال عُمر بن عبدِ العَزيز وإِبْرَاهيمُ وأبو الزِّنادِ عَن أصحَابه (¬2). وَجَرَحتْ أخْتُ الرُّبيع إِنساناً فقالَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "القِصاصُ" (¬3). ¬

_ (¬1) وصله سعيد بن منصور من طريق النخعي، قال: كان فيما جاء به عروة البارقي إِلى شريح من عند عمر قال: جرح الرجال والنساء والأثر به سواء. وسنده صحيح، وانظر "مختصر البخاري" (4/ 224). (¬2) أما أثر عمر؛ فوصَله ابن أبي شيبه بسند صحيح عنه نحوه، وأما أثر إِبراهيم؛ وهو النخعي؛ فتقدم في أثر عمر الذي قبله، وأما أثر أبي الزناد؛ فوصله البيهقي بسند جيد عنه، "المصدر نفسه". (¬3) وصله مسلم في "صحيحه" قال شيخنا -رحمه الله- في "مختصر البخاري" (4/ 224) والراجح: "أن هذه القصة هي غير قصة الربيع نفسها المتقدمة في "الصلح" (ج2/برقم 1213) [أي في "صحيح البخاري"] لتغايرهما من وجوه" انتهى. ولعلها القصة نفسها انظر "صحيح النسائي" برقم (4428) من حديث أنس أن أُخت الرّبيع أم حارثة جرحت إِنساناً؛ فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وساق الحديث نفسه.

4 - أن لا يكون أباً للمقتول ولا أُمّاً؛ فلا يُقتَل الوالد بولده ولا الأمّ بولدها. عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يقاد الوالد بالولد" (¬1). وعن عمرو بن شعيب أنّ أبا قتادة، رجل من بني مُدْلِج، قَتَل ابنه، فأخذ منه عمر مائة من الإبل، ثلاثين حِقّة (¬2)، وثلاثين جَذَعَة (¬3)، وأربعين خَلِفَةً (¬4). فقال: أين أخو المقتول؟ سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ليس لقاتلٍ ميراث" (¬5). وأما الأمّ فلأنها أولى بالبِرّ كما قال بعض العلماء؛ فلا قِصاص عليها في قَتْل ولدها. وفي هذه الحالة يدفع الأب الدية للورثة، ويُستثنى هو منها، وكذا الأمّ تدفع الديَة إِنْ قتلت، وتُستثنى منها؛ فلا تأخُذ شيئاً. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1129)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2157) وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2214). (¬2) حِقّة: هو من الإِبل ما دخل في السّنة الرابعة إلى آخرها، وسُميَ بذلك؛ لأنه استحق الركوب والتحميل. "النهاية". (¬3) جَذَعَة: أصل الجذع من أسنان الدوابّ، وهو ما كان منها شاباً فتيّاً. وهو في الإبل ما دخل السنة الخامسة. "النهاية". (¬4) خَلِفَةً: الحامل من النُّوق، وقد خَلِفت: إذا حَملت. "النهاية". (¬5) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2141)، وانظر "الإِرواء" (1670، 1671).

عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "نُحِلت لرجل من بني مدلج جارية، فأصاب منها ابناً، فكان يستخدمها، فلما شبّ الغلام دعاها يوماً، فقال: اصنعي كذا وكذا، فقال: لا تأتيك، حتى متى تستأمي أمي (¬1)؟! قال: فغضب، فحذفَه بسيفه، فأصاب رجله، فنزف الغلام فمات. فانطلق في رهطٍ من قومه إِلى عمر -رضي الله عنه- فقال: يا عدو نفسه أنت الذي قتلت ابنك؟! لولا أنيّ سمْعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يقاد الأب من ابنه" لقتلتك، هلم دِيَته. قال فأتاه بعشرين أو ثلاثين ومائة بعير، قال: فخيّر منها مائة، فدفَعهَا إِلى ورثته، وتَرَك أباه" (¬2). 5 - أن يكون القاتل مختاراً فإِنّ الإِكراه يسلبه الإِرادة، ولا مسؤولية على من فقَد إِرادته. وقد تقدَّم هذا في أكثر من مسألة، وإِذا أَمَر مكلّفٌ غيرَ مكلفٍ بأن يقتل غيره، مثل الصغير والمجنون، فالقِصاص على الآخر، لأن المباشِر للقتل آلة في يده، فلا يجب القِصاص عليه، وإِنّما يجب على المتسبب. ¬

_ (¬1) تستأمي أمي: أي: تسترقّها. (¬2) أخرجه ابن الجارود والبيهقي بهذا التمام، والدارقطني من طُرُق، وقال شيخنا -رحمه الله-: "وهذا إِسناد جيد، رجاله كلهم ثقات، وفي عمرو بن أبي قيس كلام يسير لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن. وقد ذكر الحافظ الزيلعي عن البيهقي أنّه قال: "وهذا إِسنادٌ صحيح" ولعلّ هذا في كتابه "المعرفة" فإِنّي لم أره في "السنن". وقال الحافظ في "التلخيص": وصحح البيهقي سنده؛ لأنّ رواته ثقات. وانظر "الإِرواء" (7/ 269).

الجماعة تقتل بالواحد:

الجماعة تُقتَل بالواحد: عن سعيد بن المسيب: "أنّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قتَل نفراً: خمسة أو سبعة؛ برجلٍ واحدٍ قتلوه قتل غيلة (¬1)، وقال: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء (¬2) لَقَتْلتهم جميعاً" (¬3). جاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 190): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن جماعة اشتركوا في قَتْل رجل، وله وَرَثة صغار وكبار؛ فهل لأولاده الكبار أن يقتلوهم؛ أم لا؟ وإِذا وافَق وليّ الصغار -الحاكم أو غيره- على القتل مع الكبار: فهل يُقتَلون، أم لا؟ فأجاب: إِذا اشتركوا في قتْله؛ وجب القَوَد على جميعهم باتفاق الأئمة الأربعة، وللوَرَثة أن يقتلوا، ولهم أن يعفوا. فإِذا اتفق الكبار من الورَثة على قتْلهم فلهم ذلك عند أكثر العلماء: كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إِحدى الروايتين. وكذا إِذا وافق وليّ الصغار الحاكم أو غيره على القتل مع الكبار؛ فيُقتلون. ثبوت القِصاص: ويثبت القِصاص بالآتي: 1 - الإِقرار: عن وائل بن حجر -رضي الله عنه- قال: "إِني لقاعِدٌ مع النبي ¬

_ (¬1) غيلة: أي في خُفيةٍ واغتيال، وهو أن يُخدع ويُقتل في موضع لا يراه فيه أحد. "النهاية". (¬2) تمالأ عليه أهل صنعاء: أي تساعدوا واجتمعوا وتعاونوا. "النهاية"، وتقدّم. (¬3) أخرجه مالك في "الموطأ" والشافعي والبيهقي وغيرهم، وصححه شيخنا - رحمه الله- في "الإِرواء" (2201)، وتقدّم.

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا جاء رَجُلٌ يَقُودُ آخرَ بِنِسْعَةٍ (¬1). فقال: يا رسول الله هذا قَتَل أخي. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقَتَلْتَهُ؟ فقال: إِنَّه لَوْ لَمْ يعترِف أقمْتُ عَلَيْه البَيّنةَ قال: نعم قَتَلْتُهُ. قال: كيف قَتَلْتَهُ؟ قال: كنت أنا وهو نَختَبط (¬2) من شجَرَةٍ. فسَبَّني فأغَضَبني. فضرَبتُهُ بالفأس على قرْنِهِ (¬3) فقتلته. فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل لك مِنْ شَيءٍ تُؤدِّيه عَنْ نفسِك؟ قال: ما لي مَالٌ إلاَّ كِسائي وفأسي. قال: فَتَرى قومَك يشْتَرُونَكَ؟ قال: أنا أهْونُ على قومي من ذاك. فرمى إِليه بِنِسعَته. وقال: دُونَكَ صَاحبَكَ. فانطلَقَ به الرَّجل، فلما ولّى قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنْ قَتَلَهُ فَهو مِثْلُهُ، فَرَجَع فقال: يا رسول الله إِنَّه بَلَغني أنّكَ قُلتَ: إِنْ قَتَلَهُ فَهُو مِثْلُهُ، وأَخَذتُه بِأمرِكَ. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَا تُريد أن يَبُوء بإِثمِك وإِثمِ صَاحبِك؟ قال: يا نبي الله! بَلَى، قال: فإِنَّ ذَاك كَذاكَ قالَ: فَرَمى بِنِسْعَتهِ وخَلّى سَبيله" (¬4). ولعله لم يُرد قتْله، لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قُتِل رجل ¬

_ (¬1) النِّسعة: حبل من جلود مضفورة. (¬2) نختبط: أي نجمع الخبط -وهو ورق الثمر- بأن يضرب الشجر بالعصا فيسقط ورقه فيجمعه علفاً "شرح النووي". (¬3) قرنه: جانب رأسه. (¬4) أخرجه مسلم (1680).

ويسأل القاتل حتى يقر:

على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرُفع ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدفعَه إِلى ولي المقتول، فقال القاتل: يا رسول الله والله ما أردْتُ قتْله. قال: فقال رسول الله للولي: أمَا إِنه، إِنْ كان صادقاً ثمَّ قَتَلْتَهُ دَخَلْتَ النَّار قال: فخلَّى سبيله" (¬1). ويُسأَل القاتل حتى يُقرّ: قال الإِمام البخاري -رحمه الله-: "باب سؤال القاتل حتى يُقرّ، والإِقرار في الحدود". ثم ذكر حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أن يهودياً رَضّ رأس جارية بين حَجَرين، فقيلَ لها مَن فعَل بك هذا؟ أفلان أو فلان؟ حتى سُمِّيَ اليهودي، فأَتى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يَزَل به حتى أقرّ، فرُضّ رأسه بالحجارة" (¬2). وإِذا أقرّ بالقتل مرّة واحدة قتل به (¬3). للحديث السابق (¬4) وفيه: "فجيء باليهودي فاعترف". فإِنّه لم يذكُر فيه عدداً والأصل عدمه (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3775)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1135)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2178) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4403) وتقدّم. (¬2) أخرجه البخاري (6876)، ومسلم (1672) وتقدّم. (¬3) هذا العنوان من "صحيح البخاري" "كتاب الديات" (باب - 12). (¬4) وقد ذكر الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- هذا الحديث تحت الباب السابق. (¬5) انظر "الفتح" (12/ 213).

استيفاء القصاص:

2 - يثبت (¬1) بشهادة رجلين عدلين. عن رافع بن خديج قال: "أصبح رجل من الأنصار مقتولاً بخيبر، فانطلق أولياؤه إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكروا ذلك له، فقال: لَكمْ شاهِدان يَشهدَان على قَتْل صاحبكم؟ قالوا: يا رسول الله، لم يكن ثَمّ أحدٌ من المسلمين، وإِنما هم يهود، وقد يجترئون على أعظم من هذا. قال: فَاخْتارُوا مِنْهم خَمسِين فاستحلفوهم فأبوا، فوداه (¬2) النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده" (¬3). استيفاء القِصاص (¬4): ويُشترط لاستيفاء القِصاص ثلاثة شروط: 1 - أن يكون من يستحقّه مُكَلّفاً، فإِنْ كان صبيّاً أو مجنوناً لم يَجُز استيفاؤه، ويُحبَس القاتل حتى يبلغ الصبيّ، ويعقل المجنون -إِذا أمكن ذلك-. 2 - أن يتفق أولياء الدم جميعاً على استيفائه، وليس لبعضهم الاستيفاء دون بعض، وإِنْ عفا بعضهم سقط القِصاص؛ كما تقدَّم. ¬

_ (¬1) أي القِصاص. (¬2) وداه: أي أعطى ديِتَه. "النهاية". (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3793) وأصْل القصّة في "الصحيحين". (¬4) "الشرح الكبير" (9/ 383) -بتصرف وزيادة-.

بم يكون القصاص؟

3 - أن يُؤمَن في استيفاء القِصاص التَّعدّي إِلى غير القاتل، فلو وجب القِصاص على حامل، أو حَمَلت بعد وجوبه، لم تُقتَل حتى تضع الولد وتسقِيه اللبأ -وهو أوّل اللّبن عند الولادة (¬1). وقد قال الله -تعالى-: {فلا يُسرف في القتل} (¬2) وقتل ما في بطن الحامل منَ الإِسراف في القتل. عن بريدة -رضي الله عنه- قال: "جاءت امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله! طهرني. فقال: ويحكِ! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إِليه. فقالت: أراك تُريد أن تُرَدِّدَني كما ردّدْت ماعز بن مالك. قال: وما ذاك؟ قالت: إِنها حُبلى من الزنى، فقال: آنتِ؟ قالت: نعم، فقال لها: حتّى تضعي ما في بطنك. قال: فكَفَلهَا رجل من الأنصار حتّى وضعت، قال: فأتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: قد وضعت الغامدّية. فقال: إِذاً لا نرجمها وندَع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه. فقام رجل من الأنصار فقال: إِليّ رَضاعه يا نبي الله قال: فرجَمها" (¬3). بمَ يكون القِصاص (¬4)؟ الأصل في القصاص، أن يُقتَل القاتل بالطريقة التي قتَل بها؛ لأنّ ذلك ¬

_ (¬1) انظر "لسان العرب". (¬2) الإسراء: 33. (¬3) أخرجه مسلم (1695) وتقدّم. (¬4) عن "فقه السنة" (3/ 313) -بتصرف وزيادة-.

مُقْتَضى المماثلة والمساواة. إِلا أن يطول تعذيبه بذلك، فيكون السيف له أروح، ولأنّ الله -تعالى- يقول: {فمن اعتدى عَلَيْكم فاعْتَدوا عَلَيه بمِثْل ما اعْتَدى عَلَيْكُم} (¬1). ويقول -تعالى-: {وإِنْ عاقبتُم فعاقِبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتُم لهو خيرٌ للصابرين} (¬2) وقد رجّح الجمهور أن القاتل يُقتَل بما قتَل به، وتمسّكوا بالآيتين السابقتين (¬3). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "يأمر -تعالى- بالعدل والاقتصاد والمماثلة في استيفاء الحق .. ". وقال -تعالى-: {وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مِثلها} (¬4) وقد رضّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهودي بحجر لمّا رضّ هو رأس المرأة بحجر. فعن أنس من مالك -رضي الله عنه- أن يهودياً رضّ رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: مَن فعل بكِ هذا؛ أفلان أفلان حتى سُمي اليهودي فأومأت برأسها، فجيء باليهودي فاعترف، فأمَر النبي به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُضّ رأسُه بالحجارة" (¬5). ولا تجوز المثلة في القِصاص؛ لأنه من الإِسراف في القتل. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 194. (¬2) النحل: 126. (¬3) انظر "الفتح" (12/ 200). (¬4) الشورى: 40. (¬5) أخرجه البخاري (6884)، ومسلم (1672) وتقدّم.

استحباب العفو في القصاص:

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله: {فلا يُسرف في القتل} "قالوا: معناه، فلا يسرف الوليّ في قتْل القاتل، بأن يمثّل به أو يقتَصّ من غير القاتل". وعن عمران بن حصين قال: "كان رسول الله ينهانا عن المُثْلة" (¬1). بل يجب الإحسان في القِصاص. فعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة" (¬2). استحباب العفو في القِصاص: عن وائل بن حجر -رضي الله عنه- قال: "إِني لقاعِد مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا جاء رَجُلٌ يَقُودُ آخرَ بِنِسعَةً (¬3). فقال: يا رسول الله هذا قَتَل أخي. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقَتَلْتَهُ؟ فقال: إِنَّه لَوْ لَمْ يعترِف أقمْتُ عَلَيْه البَيّنةَ قال: نعم قَتَلْتُهُ. قال: كيف قَتَلْتَهُ؟ قال: كنت أنا وهو نَختَبط (¬4) من شجَرَةٍ. فسَبَّني ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وأبر داود "صحيح سنن أبي داود" (2322)، وانظر "الإِرواء" (2230). (¬2) أخرجه مسلم (1955). (¬3) النِّسعة: حبل من جلود مضفورة. (¬4) نختبط: أي نجمع الخبط -وهو ورق الثمر- بأن يضرب الشجر بالعصا فيسقط ورقه فيجمعه علفاً "شرح النووي".

فأغَضبني. فضرَبتُهُ بالفأس على قرْنِهِ (¬1) فقتلته، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك مِنْ شَيءٍ تُؤدِّيه عَنْ نفسِك؟ قال: ما لي مَالٌ إِلا كِسائي وفأسي. قال: فَتَرى قومَك يشْتَرُونَكَ؟ قال: أنا أهْونُ على قومي من ذاك. فرمى إِليه بِنسعَته. وقال: دُونَكَ صَاحبَكَ فانطلَقَ به الرَجُلُ فلمّا ولّى، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِن قَتَلَهُ فَهُو مِثله. فَرَجَع، فقال: يا رسول الله إِنَّه بَلَغني أنّكَ قُلتَ: إِن قَتَلَهُ فَهُو مِثْلُهُ وأَخَذتُهُ بِأمرِكَ. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمَا تُريد أن يَبُوء بإِثمِك وإِثمِ صَاحبِك؟ قال: يا نبي الله! (لعَلَّه قال) بَلَى قال: فإِنَّ ذَاك كَذاكَ قالَ: فَرَمى بنِسْعِته وخَلّى سَبيلهُ" (¬2). ولعله لم يُرد قتْله -كما تقدّم- لما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قُتِل رجل على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرُفع ذلك إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدفعَه إِلى وليّ المقتول، فقال القاتل: يا رسول الله والله ما أردْتُ قتْله قال: فقال رسول الله للولي: أمَا إِنه، إِنْ كان صادقاً ثُمَّ قَتَلْتَهُ دَخَلْتَ النَّار قال: فخلَّى سبيله" (¬3). وعن عطاء بن أبي ميمون قال: لا أعلمه إلاَّ عن أنس بن مالك قال: "ما رُفع ¬

_ (¬1) قرنه: جانب رأسه. (¬2) أخرجه مسلم (1680)، وتقدّم. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3775)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1135)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2178)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4403) وتقدّم.

إذا اعتدى على الجاني بعد العفو:

إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء فيه قِصاص؛ إلاَّ أمَر فيه بالعفو" (¬1). وفي لفظ: قال: أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "ما أُتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شيء فيه قِصاص؛ إلاَّ أمَر فيه بالعفو" (¬2). إِذا اعتدى على الجاني بعد العفو: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: "كان في بنى إِسرائيلَ القِصاصُ، ولم تكن فيهمُ الديَة، فقال الله تعالى لهذه الأمّة {كُتِبَ عليكم القصاص في القتلى الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبدِ والأنثى بالأنثى فمن عُفي لَه من أخيه شيء} فالعَفوُ أن يقبل الدِّية في العمدِ {فاتِّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إِليه بإِحسان} يتبعُ بالمعروف ويؤدِّي بإحسان {ذلك تخفيفٌ من ربكم ورحمة} مما كُتب على من كان قبلكم {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} أي: قَتَلَ بعد قَبول الدِّيَة" (¬3). سقوط القِصاص (¬4): ويسقُط القِصاص بعد وجوبه بأحد الأسباب الآتية: 1 - عفو جميع الأولياء أو أحدهم، لكن يشترط أن يكون العافي عاقلاً مميزاً؛ لأنه من التصرفات المحضة، التي لا يمكلها الصبي ولا المجنون. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2180). (¬2) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4452). (¬3) أخرجه البخاري (4498). (¬4) عن "فقه السنة" (3/ 314) -بتصرّف وحذْف-.

التراضي على الدية بالزيادة فرارا من القصاص:

2 - موت الجاني أو فوات الطرف الذي جنى به، فإِذا مات مَنْ عليه القِصاص، أو فقَد العضو الذي جنى به، سقط الِقصاص؛ لتعذر استيفائه. 3 - إِذا تمّ الصلح بين الجاني والمجني عليه، أو أوليائه وانظر العنوان الآتي: التراضي على الدِّية بالزيادة فِراراً من القِصاص: عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا جهم بن حذيفة مصدّقاً، فلاَجّه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم، فشجّه، فأتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: القَوَد يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لكم كذا وكذا فلم يرضوا، فقال: لكم كذا وكذا فلم يرضوا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لكم كذا وكذا فرضوا. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِني خاطبٌ العَشيَّة على النَّاس ومُخبرهُم بِرِضاكم فقالوا: نعم، فخطَب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إِنّ هؤلاء الليْثيِّين أتوني يريدون القَوَد، فعرضتُ عليهم كذا وكذا فرضوا، أرضيتم؟ قالوا: لا! فَهَمَّ المهاجرون بهم، فأمَرَهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن يكفّوا عنهم، فكفّوا، ثمّ دعاهم فزادهم، فقال: أرضيتم؟ قالوا نعم! قال: إِنِّي خاطبٌ النَّاس ومُخبرهُم بِرِضاكم فقالوا: نعم، فخطب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أرضيتم؟ قالوا: نعم" (¬1). استيفاء القِصاص بحضرة السلطان (¬2): ينبغي أن يكون استيفاء القصاص بحضرة السُّلطان؛ إذ واجب الحاكم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3801)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2133) وصححه شيخنا -رحمه الله- في "التعليقات الحسان" (4470). (¬2) "المغني" (9/ 393) -بزيادة وتصرُّفٍ يسير-.

تمَكِين أولياء المقتول مِن استيفاء حقّهم من القاتل؛ ويفعل فيه الحاكم ما يختاره الوالي من القتل أو العفو أو الدِّيَة. ثم إِنّ للسلطان أثراً في التذكير بالعفو -من غير إِلزام- وقد تقدّم أكثر مِن مرّة حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قُتِل رجل على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرُفع ذلك إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدفعَه إِلى وليّ المقتول، فقال القاتل: يا رسول الله والله ما أردْتُ قتْله قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للولي: أمَا إِنّه إِنْ كان صادقاً ثمَّ قَتَلْتَهُ دَخلت النَّار، قال: فخلَّى سبيله" (¬1). ولأَنّه أمْرٌ يفتقر إِلى الاجتهاد، ويحرُمُ الحيف فيه، فلا يُؤمَن الحيف مع قصد التشفّي، فإِنِ استوفاه من غير حضرة السلطان؛ فإِنه يُعزّر بفعل ما مُنع. وعلى السلطان تفقُّد الآلة؛ فإِن كانت كالّة - منعه الاستيفاء بها لئلا يُعذَّب المقتول (¬2). عن شداد بن أوس -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ الله كَتب الإِحسان على كل شيء، فإِذا قتلتم فأحسنوُا القِتْلَة وإذا ذَبَحتُم فأحسنوا الذَّبح، وليُحِدَّ أحدكُم شَفْرتَه فلْيُرح ذبيحَتَه" (¬3). وإنْ كان الوليّ لا يُحسن استيفاء حقّه؛ أمَرَه السلطان بالتوكيل فيه لأنه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3775)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1135)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2178)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4403) وتقدّم. (¬2) "المغني" (9/ 394). (¬3) أخرجه مسلم (1955)، وتقدم مختصراً في (باب بمَ يكون القِصاص).

حقُّه، فكان له التوكيل في استيفائه كسائر حقوقه، فإِن لم يجد من يوكّله إِلا بعِوض، أُخِذ العِوَض من بيت المال. أقول: ولا يخفى أن القِصاص من غير إِشراف الحاكم قد يؤدِّي إِلى الإِسراف في القتل والذي أشير إِليه آنفاً - ومِن أبشع صُوره اتساع دائرة القتل إِلى أبناء عشيرتين أو قبيلتين؛ انتقاماً وأخذاً بالثأر! وجاء في "فتح الباري" (12/ 216): "قال ابن بطال: اتفق أئمّة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد إِن يَقتَصّ مِن حقّه دون السلطان، قال: وإنما اختلفوا فيمن أقام الحد على عبده ... ". وهناك نُصوص تدلّ على أخذ الحق أو القِصاص في أشياء محدّدة دون السلطان. قال الإِمام البخاري -رحمه الله- (باب مَن أخَذَ حقّه أو اقتصّ دون السلطان) ثمّ ذكر تتمّة حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو اطلع في بيتك أحَدٌ ولم تأذن له، حذفته بحصاة ففقأت عينه (¬1)؛ ما كان عليك من جُناح (¬2) " (¬3). وعن حميد أنّ رجلاً اطّلع في بيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسدّد (¬4) إِليه ¬

_ (¬1) ففقأت عينه: أي أطفأت ضوءَها. (¬2) جُناح: أي إِثم أو مؤاخذة. (¬3) أخرجه البخاري (6888)، ومسلم (2158). (¬4) فسدّد: أي صوّب، وزْنُه ومعناه. والتصويب: توجيه السهم إلى مرماه "الفتح".

القصاص في الأطراف والجروح:

مِشقصاً (¬1) " (¬2). وذكر النسائي -رحمه الله- تحت (باب مَن اقتصّ وأَخذ حقّه دون السلطان) أثر (¬3) أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلّي إِلى شيء يَستُرهُ منَ الناسِ، فأَرادَ شابٌّ من بني أبي مُعَيط أن يجتازَ بينَ يدَيِه، فدفَعَ أبو سعيد في صدرهِ، فنظرَ الشابُّ فلم يَجِد مَساغاً إِلا بين يدَيه، فعادَ ليَجْتازَ؛ فدفعه أبو سعيد أشدَّ منَ الأولى، فنالَ مِن أبي سعيدٍ. ثمَّ دخلَ على مَروَانَ فشكا إِليهِ ما لَقيَ من أبي سعيدٍ، ودخل أبو سعيد خَلفهُ على مَروانَ، فقال: ما لَكَ ولابنِ أخيكَ يا أبا سعيد؟ قال: سَمعتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِذا صلى أحدُكم إِلى شيء يَستُرهُ منَ الناسِ، فأَرادَ أحدٌ أن يجتازَ بينَ يدَيه فليَدْفعْه. فإِنْ أبى فليُقاتلْهُ فإِنمَّا هو شيطانٌ" (¬4). القِصاص في الأطراف والجروح: ويثبت القِصاص في الأطراف ونحوها والجروح مع الإمكان؛ لقوله -تعالى-: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس والعينَ بالعينِ والأنف بالأنف ¬

_ (¬1) المشقص: قال جمعٌ من الشُّراح: "هو سَهْم ذو نصلٍ عريض" والنّصل: حديدة السهم. (¬2) أخرجه البخاري (6889)، ومسلم (2157) من حديث أنس -رضي الله عنه-. (¬3) انظر "صحيح سنن النسائي" (4518). (¬4) أخرجه البخاري (509)، ومسلم (505).

والسنّ بالسنّ والجروح قِصاص فمنْ تصدّق به فهو كفّارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (¬1). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إِلى أنّ شرعَ مَنْ قبلنا شرع لنا؛ إِذا حُكِى مُقرّراً ولم يُنسَخ؛ كما هو المشهور عن الجمهور، وكما حكاه الشيخ أبو إِسحاق الإِسفراييني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب بهذه الآية، حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة". وقال -رحمه الله- أيضاً في "تفسيره": "قال علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس، قال: تقتل النفس بالنفس، وتُفقَأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتُنزَع السنّ بالسنّ وتُقتَصّ الجراح بالجراح". وفي حديث أنس -رضي الله عنه- أنّ الرّبيِّع -وهي ابنةُ النّضر- كسرَت ثَنيَّة جاريةٍ، فطلبوا الأرشَ (¬2) وطلبوا العفو، فأبَوا. فأبَوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمَرهم بالقِصاص. فقال أنس بن النّضر: أتُكسر ثَنيَّة (¬3) الرّبيِّع يا رسول الله؟ لا والذي بعَثَكَ بالحقّ لا تُكسر ثنيّتها. فقال: يا أنس كتابُ الله القِصاص. فرضي القوم وعَفوا. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِن مِن عباد الله مَن لو أقسم على الله لأَبرّه". زاد الفزاري ¬

_ (¬1) المائدة: 45. (¬2) الأرش: الدِّية. (¬3) الثنية: إحدى الأسنان الأربع التي في مُقدّم الفم: ثنتان من فوق وثنتان من تحت.

عن حميد عن أنس "فرضيَ القوم وقَبِلوا الأرش" (¬1). وعن أنس بن مالك قال: إِنما سَمَل (¬2) النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء (¬3). وهو معنى قوله: {والجُرُوحَ قِصاص} وقد روي عن محمد بن سيرين قال: "إِنما فَعل بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا قبل أن تُنزل الحدود" (¬4). ويُقيّد القِصاص في الأطراف والجروح بالإِمكان. جاء في "المغني" (9/ 409): "وإِذا جرحه جرحاً يمكن الاقتصاص منه بلا حيف؛ اقتُصّ منه. وجملة ذلك أنّ القِصاص يجري فيما دون النفس من الجروح إذا أمكنَ؛ للنصّ والإِجماع". ثمّ استدل -رحمه الله- بقوله -تعالى-: {والجُرُوحَ قِصاص} ثمّ بحديث الرُّبَيِّع -رضي الله عنها-. ثم قال -رحمه الله-: "وأجمع المسلمون على جريان القِصاص فيما دون النفس إِذا أمكن، ولأنّ ما دون النفس كالنفس في الحاجة إِلى حفظه بالقِصاص؛ فكان كالنفس في وجوبه" ثم قال -رحمه الله- "ويشترط لوجوب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2703)، ومسلم (1675). (¬2) سَمَل: فقَأها وأذهب ما فيها. (¬3) أخرجه مسلم (1671)، وتقدّم. (¬4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (63).

القِصاص في الجروح ثلاثة أشياء: أحدها: أن يكون عمداً محضاً، فأمّا الخطأ فلا قِصاص فيه إِجماعاً، ولأن الخطأ لا يوجب القِصاص في النفس -وهي الأصل- ففيما دونها أولى. ولا يجب بعمد الخطأ، وهو أن يقصد ضَرْبه بما لا يفضي إِلى ذلك غالباً، مثل أن يضربه بحصاة لا يوضح مثلها فتوضحه فلا يجب به القِصاص؛ لأنه شبه العمد، ولا يجب القِصاص إِلا بالعمد المحض، وقال أبو بكر: يجب به القِصاص ولا يراعى فيه ذلك لعموم الآية. الثاني: التكافؤ بين الجارح والمجروح وهو أن يكون الجاني يقاد من المجني عليه لو قتَلَه ... فأما من لا يُقتَل بقتله فلا يُقتَص منه فيما دون النفس له كالمسلم مع الكافر ... والأب مع ابنه؛ لأنه لا تُؤخَذُ نفسه بنفسه فلا يؤخذ طرفه بطرفه، ولا يجرح بجرحه. الثالث: إِمكات الاستيفاء من غير حيف ولا زيادة؛ لأن الله -تعالى- قال: {وإِنْ عاقبتُم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} وقال: {فمن اعتدى عَلَيْكم فاعْتَدوا عَلَيه بمثْل مَا اعْتَدى عَلَيْكُم} ولأنّ دم الجاني معصوم إِلا في قدر جنايته، فما زاد عليها يبقى على العصمة فيحرم استيفاؤه بعد الجناية؛ كتحريمه قبلها ومن ضرورة المنع من الزيادة المنع مع القِصاص؛ لأنها مِن لوازمه، فلا يمكن المنع منها إِلا بالمنع منه، وهذا لا خلاف فيه نعلمه. وممن منَع القِصاص فيما دون الموضحة (¬1)؛ الحسن والشافعي وأبو عبيد وأصحابُ الرأي. ¬

_ (¬1) وهي التي تُبدي وَضح العظم، أي بياضَه. "النهاية".

ومنَعه في العظام عمر بن عبد العزيز وعطاء والنخعي والزهري والحكم وابن شبرمة والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. وإِذا ثبت هذا؛ فإِن الجرح الذي يمكن استيفاؤه من غير زيادة؛ هو كل جرح ينتهي إِلى عظم؛ كالموضحة في الرأس والوجه. ولا نعلم في جواز القِصاص في الموضحة -وهي كل جرح ينتهي إِلى العظم في الرأس والوجه- وذلك لأن الله -تعالى- نصَّ على القصاص في الجروح فلو لم يجب هاهنا لسقط حُكم الآية. وفي معنى الموضحة؛ كل جرح ينتهي إِلى عظم فيما سوى الرأس والوجه؛ كالساعد والعضد والساق والفخذ في قول أكثر أهل العلم، وهو منصوص الشافعي. وقال بعض أصحابه: لا قِصاص فيها .... ". قلت: يجب العمل بمقتضى عموم الآية {والجُرُوحَ قِصاص} في أي مكان من الجسم، إِذا أَمكن عدم الحيف أو الزيادة. وجاء في "الروضة النديّة" (2/ 647): "وأمّا تقييد ذلك بالإِمكان، فلكون بعض الجروح قد يتعذر الاقتصاص فيها؛ كعدم إمكان الاقتصار على مِثل ما في المجنيّ عليه. وخطاب الشرع محمول على الإِمكان، مِن دون مجاوزة للمقدار الكائن في المجنيّ عليه، فإِذا كان لا يمكن إِلا بمجاوزةٍ للمقدار، أو بمخاطرة وإضرار؛ فالأدلة الدّالة على تحريم دم المسلم، وتحريم الإِضرار به -بما هو خارج عن القِصاص- مُخصِّصة لدليل الاقتصاص. قلت: [-أي: صاحب "الروضة النديّة"-] إن كلّ طَرَف له مَفْصِل

معلوم، فَقَطَعه ظالم من مَفْصِله من إِنسان اقتُص منه؛ كالإِصبع يقطعها من أصلها، أو اليد يقطعها من الكوع، أو من المرفق، أو الرِّجل يقطعها من المفصل؛ يُقتصّ منه. وكذلك لو قلَع سِنّه، أو قطَع أنفه، أو أذنه، أو فَقأ عينه، أوجَبّ ذكَرَه، أو قطع أُنثيَيه؛ يُقتَصّ منه، وكذلك لو شَجَّه موضِحةً في رأسه أو وجهه؛ يُقتصّ منه. ولو جرح رأسه دون المُوضِحة، أو جرح موضعاً آخر من بدنه، أو هشم العظم؛ فلا قَوَد فيه؛ لأنه لا يمكن مراعاة المماثلة فيه. وكذلك لو قَطَع يَده من نِصف الساعد؛ فليس له أن يقطع يده من ذلك الموضع، وله أنْ يقتصّ من الكوع، ويأخذ حكومةً (¬1) لنصف الساعد، وعلى هذا أكثر أهل العِلم في الجملة، وفي التفاصيل لهم اختلاف". وجاء في كتاب "الإِجماع" لابن المنذر (ص 172): "وأجمعوا على أن الموضحة فيها القِصاص إِذا كانت عمداً". وعن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا قَودَ في المأمومةِ ولا الجائِفة ولا المنقّلة" (¬2). المأمومة: الشَّجَّة التي بلغت أمّ الرأس؛ وهي الجلدة التي تجمع الدماغ. ¬

_ (¬1) ما يحكُم فيه الحاكم من الجراحات التي ليس فيها دِيَةٌ مقدّرة، وسيأتي التفصيل إن شاء الله -تعالى-. (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2132) وأبو يعلى، وانظر "الصحيحة" (5/ 222).

القصاص في اللطمة والضربة واللكز والسب:

الجائفة: الطعنة التي تَصل إِلى الجوف، والمراد بالجوف هنا كل ما له قوة محيلة كالبطن والدماغ. المنقِّلة: هي التي تخرُج منها صغار العظام وتنتقل عن أماكنها. وقيل: التي تُنقِّل العظم، أي: تَكْسِره. كذا في "النهاية". قال أبو الحسن السندي: "وإنما انتفى القِصاص لعسر ضبطه" (¬1). أقول: في قوله -تعالى-: {فمن تصدَّق به فهو كفّارة له} بيان أجر من يتنازل عن القِصاص. وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال سمعتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما من رجلٍ يُجرح في جسده جراحة، فيتصدق بها؛ إِلا كَفّر الله عنه مِثل ما تصدّق به" (¬2). قال في "فيض القدير": "يعني إِذا جنى إِنسان على آخر فقلع سِنّه أو قطع يده مثلاً، فعفا المستحقّ عن الجاني لوجه الله؛ نال هذا الثواب". القِصاص في اللطمة والضربة واللكز والسبِّ: مذهب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين أنّ القِصاص ثابت في ذلك كلّه؛ وشرطُ ذلك أن يكون اللطمُ والضرب أو السبّ المراد إِيقاعه بالجاني؛ مساوياً لِلَطْم وضرب وسبِّ المقتصّ، أو قريباً من ذلك، دون تعمُّد الزيادة. ¬

_ (¬1) انظر "شرح سنن ابن ماجه" (2/ 141) للسندي -رحمه الله تعالى- و"الصحيحة" (5/ 223) لمعرفة غريب الحديث -إِن شئت-. (¬2) أخرجه أحمد بإِسناد صحيح، وانظر "الصحيحة" (2273).

وجاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 162): "وسئل -رحمه الله- عن الرجل يلطِم الرجل أو يكلمه، أو يسبّه؛ هل يجوز أن يُفعَل به كما فعَل؟ فأجاب: وأمّا القِصاص في اللطمة والضربة ونحو ذلك؛ فمذهب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين؛ أنّ القِصاص ثابت في ذلك كلّه، وهو المنصوص عن أحمد في رواية إِسماعيل بن سعيد الشالنجي، وذهب كثير من الفقهاء؛ إِلى أنه لا يشرع في ذلك قِصاص؛ لأنّ المساواة فيه متعذرة في الغالب. وهذا قول كثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؛ والأول أصحّ؛ فإِن سُنّة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مضَت بالقِصاص في ذلك وكذلك سُنّة الخلفاء الراشدين، وقد قال -تعالى-: {وجزاءُ سيئةٍ سيئة مِثلها} (¬1). وقال -تعالى-: {فمن اعتدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيه بمثْل ما اعْتَدى عَلَيْكُم} (¬2) ونحو ذلك. وأمّا قول القائل: إِنّ المماثلة في هذه الجناية متعذرة. فيقال: لا بدّ لهذه الجناية من عقوبة: إِمّا قِصاص، وإِمّا تعزير، فإِذا جوّز أن يُعزر تعزيراً غير مضبوط الجنس والقدر؛ فلأن يعاقب إِلى ما هو أقرب إِلى الضبط من ذلك أولى وأحرى. والعدل في القِصاص مُعتَبر بحسب الإِمكان. ومن المعلوم أن الضارب إِذا ضرب ضربة مثل ضربته أو قريباً منها كان هذا أقرب إِلى العدل من أن يُعزَّر بالضرب بالسوط؛ فالذي يمنَع القِصاص في ذلك ¬

_ (¬1) الشورى: 40. (¬2) البقرة: 194.

خوفاً من الظلم يبيح ما هو أعظم ظلماً مما فرّ منه. فعُلم أنما جاءت به السُّنة أعدل وأمثل. وكذلك له أن يسبّه كما يسبّه: مثل أن يلعنه كما يلعنه. أو يقول: قبّحك الله. فيقول: قبّحك الله. أو أخزاك الله فيقول: أخزاك الله. أو يقول: يا كلب! يا خنزير! فيقول: يا كلب! يا خنزير! فأمّا إِذا كان مُحرّم الجنس مثل تكفيره أو الكذب عليه، لم يكن له أن يُكفّره ولا يكذب عليه. وإِذا لعَن أباه لم يكن له أن يلعن أباه؛ لأنّ أباه لم يظلمه". انتهى. قال الإمام البخاري -رحمه الله-: "وأقاد أبو بكر وابن الزبير وعليّ وسُوَيد ابن مقرِّن مِنْ لطمة. وأقاد عمر من ضربةٍ بالدِّرة، وأقاد عليّ من ثلاثة أسواط واقتص شرَيحٌ من سوطٍ وخموش" (¬1). قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (12/ 227): قوله -أي الإِمام البخاري "وأقاد أبو بكر وابن الزبير وعليّ وسُوَيد بن مقرِّن مِنْ لطمة. وأقاد عمر من ضربة بالدِّرة، وأقاد عليّ من ثلاثة أسواط واقتص شرَيحٌ من سوطٍ وخموش". أمّا أثر أبي بكر -وهو الصِّدّيق-: فوصَله ابن أبي شيبة من طريق يحيى بن الحصين سمعت طارق بن شهاب يقول "لطم أبو بكر يوماً رجلاً لطمة، فقيل ¬

_ (¬1) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به (كتاب الديات باب 21 - إذا أصاب قومٌ من رجل ... ). وانظر -إن شئت- "مختصر البخاري" (4/ 226) لوصل التعليق، والحكم على إسناده.

ما رأينا كاليوم قط هنعة (¬1) ولطمة، فقال أبو بكر: إِن هذا أتاني ليستحملَني فحملتهُ فإِذا هو يتبعهم، فحلفت أن لا أحمله ثلاث مرات، ثمّ قال له: اقتصّ، فعفا الرجل". وأمّا أثر ابن الزبير فوَصلَه ابن أبي شيبة ومسدد جميعاً عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار "أن ابن الزبير أقاد من لطمة". وأمّا أثر علي الأول؛ فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق ناجية أبي الحسن عن أبيه "أن علياً أتى في رجلٍ لطَم رجلاً، فقال للملطوم: اقتصّ". وأما أثر سويد بن مُقرِّن فوصَلَه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه. وأمّا أثر عمر فأخرجه في "الموطأ" عن عاصم بن عبيد الله عن عمر منقطعاً (¬2)، ووصله عبد الرزاق عن مالك عن عاصم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: "كنت مع عمر بطريق مكة فبال تحت شجرة، فناداه رجل فضربه بالدِّرَّة فقال: "عجلت عليّ، فأعطاه المِخْفقة (¬3) وقال: اقتصّ، فأبى، فقال: لتفعلن، قال: فإِني أغفرها". وأمّا أثر علي الثاني فأخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور من طريق فضيل بن عمرو عن عبد الله بن مَعْقِل -بكسر القاف- قال: "كنت عند عليّ ¬

_ (¬1) جاء في "تاج العروس": الهنَع انحناء في القامَة، وفي "الصحاح" تطامُنٌ في عُنق البعير؛ فلعلّها تعني الذّل. والله أعلم. (¬2) وقال شيخنا -رحمه الله- في "مختصر البخاري" (4/ 226): وصله مالك وعبد الرزاق بسند ضعيف عنه. (¬3) ما يضرَبُ به من سوطٍ ونحوه.

فجاءه رجل فسارَّه فقال: يا قنبر اخرج فاجلد هذا، فجاء المجلود فقال: إنه زاد عليّ ثلاثة أسواط، فقال: صدَق. قال: خذ السوط فاجلده ثلاثة أسواط ثم قال: يا قنبر إِذا جلدت فلا تتعد الحدود". وأمّا أثر شُريح فوصَله ابن سعد وسعيد بن منصور من طريق إِبراهيم النخعي قال: "جاء رجل إِلى شريح فقال: اقدني من جلْوازك (¬1)، فسأله فقال: ازدحموا عليك فضربته سوطاً. فأقاده منه". ومن طريق ابن سيرين قال: اختصم إِليه -يعني: شريحاً- عبدٌ جَرَح حرّاً فقال: إِنْ شاء اقتص منه. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق إسحاق عن شريح أنه أقاد من لطمة، ومن وجه آخر عن أبي إِسحاق عن شريح أنه أقاد من لطمة وخُموش (¬2). وقال الليث وابن القاسِم: "يقاد من الضرب بالسوط وغيره؛ إِلا اللطمة في العين؛ ففيها العقوبة خشيةً على العين". انتهى. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المُسْتَبّان ما قالا؛ فعلى البادئ، ما لم يعتَدِ المظلوم" (¬3). (المُسْتَبان ما قالا): جاء في "العون" (13/ 238): "المُسْتَبان تثنية ¬

_ (¬1) أي: شرطيِّك. (¬2) الخُموش -بضم المعجمة- الخدوش وزنه ومعناه، والخماشة: ما ليس له أَرْش معلوم من الجراحة. "الفتح". (¬3) أخرجه مسلم (2587).

مستبّ وهما المتشاتمان اللذان يشتم كلّ منهما الآخر. (ما قالا) أي: إِثم قولهما من السبّ والشتم. (فعلى البادئ): أي: على الذي بدأ في السبّ، لأنه السبب لتلك المخاصمة. قال في "اللمعات": أما إِثم ما قاله البادئ فظاهر، وأمّا إِثم الآخر فلكونه الذي حمَله على السبّ وظلمه". (ما لم يعتدِ المظلوم): أي: يتجاوز الحدّ؛ بأن سبّه أكثر وأفحش منه، أمّا إِذا اعتدى كان إِثم ما اعتدى عليه، والباقي على البادي؛ كذا في "اللمعات". والحاصل إِذا سبَّ كلّ واحد الآخر؛ فإِثم ما قالا على الذي بدأ السبّ، وهذا إِذا لم يتعدّ ويتجاوز الحدّ، والله أعلم. قال النووي (16/ 141) -بحذف وتصرف يسيرين-: "معناه أنّ إِثم السباب الواقع من اثنين مختصٌ بالبادئ منهما كلّه، إلاَّ أن يتجاوز الثاني قدْر الانتصار فيقول للبادئ أكثر مِمّا قال له، وفي هذا جواز الانتصار ولا خلاف في جوازه. وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة، قال الله -تعالى-: {ولَمَنِ انتَصَر بعْدَ ظُلْمه فَأولئكَ مَا عليْهم مِن سَبيلٍ} (¬1) وقال -تعالى-: {والَّذين إذا أصَابهُمُ البَغيُ هُم يَنتَصرون} (¬2). ¬

_ (¬1) الشورى: 41. (¬2) الشورى: 39.

ومع هذا فالصبر والعفو أفضل، قال الله تعالى {ولمَن صَبَرَ وغَفَر إِنّ ذلك لمِنْ عَزْمِ الأمُورِ} (¬1) ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما زاد الله عبداً بعفو إِلا عزّاً" (¬2). واعلم أن سِباب المسلم بغير حقّ حرام كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سِباب المسلم فسوق". ولا يجوز للمسبوب أن ينتصر إلاَّ بمِثل ما سبّه، ما لم يكن كَذباً أو قذفاً أو سباً لأسلافه، فمِن صور المباح أن ينتصر بيا (¬3) ظالم، أو جافي، أو نحوه، ذلك لأنّه لا يكاد أحد ينفكّ من هذه الأوصاف. قالوا: وإِذا انتصَر المسبوب استوفى ظلامته وبرئ الأول من حقّه، وبقي عليه إِثم الابتداء أو الإِثم المستحقّ لله تعالى ... ". جاء في "إِكمال الإِكمال" (8/ 544): "ما لم يتعدّ: أي يتجاوز، فلأنّه إِنّما أُبيح له أن يَرُدّ مِثل ما قيل له؛ لقوله تعالى: {وإِنْ عاقبتُم فعاقبِوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتُم لهو خيرٌ للصابرين} (¬4) وقوله تعالى: {وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مِثلها} (¬5). والعداء في الردّ بالتكرار مِثل أن يقول البادئ: يا كلب فيردّ عليه مرّتين، ¬

_ (¬1) الشورى: 43. (¬2) أخرجه مسلم (2588). (¬3) أي أن يقول: يا ظالم ... (¬4) النحل: 126. (¬5) الشورى: 40.

وبأن يردّ بأفحش كما لو قيل له: يا كلب فقال له: أنت خنزيز. وكما لو سبّه البادئ فسبّ الراد آباء البادئ وكان ذلك عداء؛ لأنّه سبّ من لم يجْن عليه، وكانت هذه المذكورات عداءً؛ لأنَّ الانتصار إِنّما هو من باب القِصاص، والقِصاص إِنما يكون بالمِثل للآيتين السابقتين". والخلاصة: إِنّ إِثم السبّ والشتم الصادر من المسْتبّين المشاتمين على من بَدأَ لأنّه السبب في ذلك، ما لم يعْتد المظلوم ويتجاوز الحدّ؛ بأن يسبّه أكثر وأفحش ففيه جواز السب والشتم بالشرط المذكور، والعفو أفضل. ويُحمَل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المستبّان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان" (¬1) على الاعتداء في القِصاص. وتجاوز الحدّ، ومقابلة المعصية بمثلها أو أكثر؛ فقد تقدم أن المعصية لا تقابَل بالمعصية، وهنا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يتهاتران" أي: يتقاولان ويتقابحان في القول من الهِتر -وهو الباطل والسَّقط من الكلام، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيضاً: "يتكاذبان" وتقدّم القول بتحريمه. والله -تعالى- أعلم. وفي الحديث: "لَيُّ الواجد يُحِلّ عرضه وعقوبته (¬2) " (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "صحيح الأدب المفرد" (330). (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3086)، وابن ماجه، "صحيح سنن ابن ماجه" (1970)، وغيرهما. وانظر "الإرواء" (1434) ورواه البخاري معلّقاً "كتاب الاستقراض" (باب لصاحب الحقّ مقال). (¬3) قال ابن المبارك: "يُحِلّ عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له". ليّ الواجد: أي مطلق الغنى، والليّ بالفتح المطل، وأصله لوى فأُدغمت الواو في الياء. =

اشتراك الجماعة في القصاص:

اشتراك الجماعة في القِصاص: عن مطرّفٌ عن الشعبي في رجلين شهدا على رجلٍ أنّه سرق فقطعه علي -رضي الله عنه- ثم جاءا بآخر وقالا: أخطأنا، فأبطل شهادتهما، وأُخذا بدية الأول. وقال: "لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما" (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لَدَدْنَا (¬2) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه، وجعلَ يشيرُ إِلينا لا تَلُدُّوني. قال: فقلنا كراهية المريض بالدواء فلمّا أفاق قال: ألم أنهكنّ أن تَلُدُّوني، قال: قُلنا كراهيةً للدواء؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يبقى منكم أحدٌ إِلا لُدَّ وأنا ¬

_ = والواجد الغني من الوُجد بالضم بمعنى السعة والقدرة، ويقال وجَد في المال وجدا أي: استغنى. (يحل): بضم الياء من الإِحلال. (عرضه): بأن يقول له المدين: أنت ظالم، أنت مماطل، ونحوه مما ليس بقذف ولا فحش. (وعقوبته): بأن يُعزّره القاضي على الأداء؛ بنحو ضربٍ أو حبس حتى يؤدي. (¬1) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به (كتاب الديات باب - إِذا أصاب قومٌ من رجل ... ) ووصله الشافعي عن سفيان بن عيينة وانظر "الفتح" (12/ 336) وتقدّم. (¬2) اللَّدود: بفتح اللام وبمهملتين: هو الدواء الذي يُصبُّ في أحد جانبي فم المريض. واللُّدود -بالضم- الفعل ولدَدْت المريض: فَعَلْت ذلك به. "الفتح".

أنظر؛ إلاَّ العباسَ فإِنه لم يَشهدكم" (¬1). قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (8/ 147): "قوله: لا يبقى أحدٌ في البيت إِلا لُدَّ وأنا أنظر إلاَّ العباسَ فإِنه لم يَشهدكم" قيل: فيه مشروعية القِصاص في جميع ما يُصاب به الإِنسان عمداً، وفيه نظَر، لأنّ الجميع لم يتعاطَوا ذلك، وإنما فَعَل بهم ذلك عقوبة لهم لتركهم امتثال نهيه عن ذلك. أمّا مَن باشره فظاهر، وأمّا من لم يباشِره فلكونهم تركوا نهيهم عما نهاهم هو عنه. ويستفاد منه أن التأويل البعيد لا يُعْذَرُ به صاحبه، وفيه نظَر أيضاً لأن الذي وقع في معارضة النهي. قال ابن العربي: أراد أن لا يأتوا يوم القيامة، وعليهم حقّه فيقعوا في خَطبٍ عظيم، وتُعقِّب بأنه كان يمكن العفو؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه. والذي يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم لئلا يعودوا، فكان تأديباً لا قِصاصاً ولا انتقاماً. قيل: وإِنما كَره اللَّد مع أنه كان يتداوى؛ لأنه تحقق أنه يموت في مرضه، ومَن حقق ذلك كُره له التداوي. قلت: وفيه نظَر، والذي يظهر أن ذلك كان قبل التخيير والتحقق، وإِنما أنكَر التداوي؛ لأنه كان غيرَ ملائم لدائه؛ لأنهم ظنوا أنّ به ذات الجنب فداووه بما يلائمها؛ ولم يكن به ذلك كما هو ظاهر في سياق الخبر كما ترى، والله أعلم". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6897) مسلم (2213).

هل يشرع القصاص في إتلاف الأموال؟

قلت: والمترجّح لديّ أنّه مِن باب القِصاص، وقد رواه الإِمام البخاري -رحمه الله- في مواطن عديدة؛ منها باب الدِّيات، فدلّ هذا على أنه يراه من باب القِصاص ولا يمتنع عليه هذا الفعل؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما وصَفَه الله -سبحانه-: {وما ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلاّ وحْيٌ يوحى}. وتركُه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العفو في هذا الموطن -وهو قادرٌ عليه بلا ريب- يؤيّد الأصل العامّ -ألا وهو القِصاص- وهذا كما لا يخفى من باب التشريع للأمّة. وأما قول مَن قال إِنه تأديب وليس قِصاصاً، فلعل الأَوْلى أن يقول القائل: تأديبٌ بالقِصاص. والله -تعالى- أعلم. هل يشرع القِصاص في إِتلاف الأموال؟ إِذا أتلف المرء مال غيره؛ كأن يخرق ثوبه أو يهدم داره، أو يقطع ثمره، فهل له أن يقتصّ منه؛ بمثِل ما أصابه فيه قولان للعلماء: أحدهما: أن ذلك غيرُ مشروع لإِنه إِفساد، ولأنّ العقار والثيابَ غيرُ مماثلة. والثاني: أن ذلك مشروع؛ كما سيأتي البيان والتعليل بإِذن الله. جاء في "مجموع الفتاوى" (30/ 332): "وسئل -رحمه الله- هل يجوز له أن يَخرق ثَوبه كما يخرِق ثوبه؟ فأجاب: وأمّا القِصاص في إِتلاف الأموال؛ مِثل أن يخرق ثوبه فيخرق ثوبه المماثل له، أو يهدم داره فيهدم داره ونحو ذلك؛ فهذا فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد:

أحدهما: أن ذلك غيرُ مشروع لإِنه إِفساد، ولأنّ العقار والثيابَ غيرُ مماثلة. والثاني: أن ذلك مشروع؛ لأنّ الأنفس والأطراف أعظمُ قدْراً من الأموال، وإِذا جاز إِتلافها على سبيلْ القِصاص؛ لأجل استيفاء المظلوم، فالأموال أولى. ولهذا يجوز لنا أن نُفسد أموال أهل الحرب إِذا أفسدوا أموالنا، كقطع الشجر المثمِر. وإِن قيل بالمنعِ من ذلك لغير حاجة، فهذا فيه نزاع؛ فإِنه إِذا أتلف لى ثياباً أو حيواناً أو عقاراً ونحو ذلك، فهل يضمنه بالقيمة؟ أو يضمنه بجنسه مع القيمة؟ على قولين معروفين للعلماء. وهما قولان في مذهب الشافعي، وأحمد فإِن الشافعي قد نَصّ على أنه إِذا هَدَم داره بناها كما كانت، فضَمِنَه بالمثل. وقد رُوي عنه في الحيوان نحو ذلك ... وقصة داود وسليمان هي من هذا الباب، فإِنّ داود -عليه السلام- قد ضَمِن أهل الحرث الذي نفشت (¬1) فيه غَنَم القوم بالقيمة، وأعطاهم الماشية مكان القيمة. وسليمان -عليه السلام- أمَرَهم أن يعمروا الحرث حتى يعود كما كان، وينتفعوا بالماشية بدل ما فاتهم من منفعة الحرث. وبهذا أفتى الزهري لعمر بن عبد العزيز لما كان قد اعتدى بعض بني أميّة على بستان له فقلعوه، وسألوه ما يجب في ذلك؟ فقال: يغرسه كما كان. فقيل له: إِن ربيعة وأبا الزناد قالا: تجب القيمة، فتكلَّم الزهري فيهما بكلام مضمونه: أنهما خالفا السنة. ¬

_ (¬1) النَّفش: الرعي، قال شريح والزهري وقتادة: النفش لا يكون إلاَّ بالليل. قاله ابن كثير -رحمه الله-.

ولا ريب أنّ ضمان المال بجنسه مع اعتبار القيمة أقرب إِلى العدل من ضمانه بغير جنسه، وهو الدراهم والدنانير مع اعتبار القيمة؛ فإِنّ القيمة مُعتبرةٌ في الموضعين، والجنس مختصٌّ بأحدهما، ولا ريب أن الأغراض متعلقة بالجنس، وإِلا فمن له غرضٌ في كتابٍ أو فرس أو بستان؛ ما يصنع بالدراهم؟ فإِنْ قيل: يشتري بها مثله، قيل: الظالم الذي فوّته ماله هو أحقّ بأن يَضْمَن له مِثل ما فوّته إِياه؛ أو نظير ما أفسدَه من ماله. وقال ابن القيم -رحمه الله- (¬1) - في معرض الكلام عن القِصاص في إِتلاف الأموال-: "إِتلاف المال؛ فإِنْ كان مما له حُرمة، كالحيوان والعبيد، فليس له أن يُتلِف ماله، كما أتلف مالَه، وإِنْ لم تكن له حرمة، كالثوب يشقّه، والإِناء يكسره، فالمشهور، أنه ليس له أن يُتلِف عليه نظيرَ ما أتلفه، بل له القيمة أو المِثل. والقياس يقتضي أن له أن يفعل بنظير ما أتلفه عليه؛ كما فعله الجاني به، فيشقُّ ثوبه، كما شقَّ ثوبه، ويكسر عصاه كما كَسَر عصاه، إِذا كانا متساويين، وهذا من العدل، وليس مع منْ منَعَه نصّ، ولا قياس، ولا إِجماع، فإِنّ هذا ليس بحرام لحقّ الله، وليست حُرمة المال أعظم من حرمة النفوس والأطراف. وإِذا مكّنه الشارع أن يُتلف طرَفَه بطرَفِه؛ فتمكينه من إِتلاف ماله في مقابلة ماله هو أولى وأحرى، وإنّ حكمة القِصاص من التشفي، ودرك الغيظ، لا تحصل إِلا بذلك، ولأنه قد يكون له غرض في أذاه، وإتلاف ثيابه، ويعطيه قيمتها، ولا يشق ذلك ¬

_ (¬1) ذكره في "إعلام الموقعين" (1/ 327) ونقله السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (3/ 324).

عليه؛ لكثرة ماله، فيشفي نفسه منه بذلك، ويبقى المجني عليه بغبْنِه وغيظه، فكيف يقع إِعطاؤه القيمة من شفاء غيظه، ودرك ثأره، وبرد قلبه، وإِذاقة الجاني من الأذى ما ذاقه هو؟! فحكمة هذه الشريعة الكاملة الباهرة وقياسُها معاً؛ يأبى ذلك، وقوله -تعالى-: {فاعْتَدُوا عَلَيه بمثْل ما اعْتَدى عَلَيْكُم} (¬1) وقوله -تعالى-: {وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مِثلها} (¬2)، وقوله -تعالى-: {وإِنْ عاقبتُم فعاقبِوا بمثل ما عوقبتم به} (¬3) يقتضي جواز ذلك. وقد صرَّح الفقهاء بجواز إِحراق زروع الكفار، وقطْع أشجارهم، إِذا كانوا يفعلون ذلك بنا، وهذا عين المسألة. وقد أقرّ الله -سبحانه- الصحابة على قطع نخل اليهود؛ لما فيه من خزيهم، وهذا يدل على أنه -سبحانه- يحب خزي الجاني الظالم ويشرعه". قلت: يُشير -رحمه الله- إِلى قوله -سبحانه-: {ما قَطعتُم من لينةٍ (¬4) أو ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 194. (¬2) الشورى: 40. (¬3) النحل: 126. (¬4) قال الحافظ في "الفتح" (8/ 629): "قال أبو عبيدة في قوله -تعالى-: {ما قَطعتُم من لينةٍ}: أي: من نخلة، وهي من الألوان ما لم تكن عجوة أو برنية إلاَّ أن الواو ذهبت بكسر اللام، وعند الترمذي من حديث ابن عباس: "اللينة النخلة" في أثناء حديث، وروى سعيد بن منصور من طريق عكرمة قال: اللينة ما دون العجوة، وقال سفيان: هي شديدة الصفرة تنشق عن النوى".

تركتموها قائمةً على أُصولها فبإذن الله وليُخزِيَ الفاسقين} (¬1). عن ابن عمر -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حرَّق نخْل بني النّضير وقطَع، وهي البويرة (¬2)، فأنزَل الله -تعالى-: {ما قَطعتُم من لينةٍ أو تركتموها قائمةً على أُصولها فبإذن الله وليُخزِيَ الفاسقين} " (¬3). قال أبو عيسى: وقد ذهب قوم من أهل العلم، إِلى هذا، ولم يروا بأساً بقطع الأشجار وتخريب الحصون. وكَرِه بعضُهم ذلك، وهو قول الأوزاعي. قال الأوزاعي: ونهى أبو بكر الصديق، أن يقطع شجراً مُثمراً، أو يُخرّب عامراً، وعَمِل بذلك المسلمون بعده. وقال الشافعي: لا بأس بالتحريق في أرض العدو، وقطع الأشجار والثمار. وقال أحمد: وقد تكون في مواضع لا يجدون منه بُدّاً، فأمّا بالعَبَث فلا تُحرَق، وقال إِسحاق: التحريقُ سُنّة إِذا كان أنكى فيهم. قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (5/ 9) قوله (¬4): (باب قطْع الشجر والنخل) أي: للحاجة والمصلحة إِذا تعيّنت طريقاً في نكاية العدو ونحو ذلك. وخالف في ذلك بعض أهل العلم، فقالوا: لا يجوز قطع الشجر المثمر أصلاً ¬

_ (¬1) الحشر: 5. (¬2) البُوَيْرة: موضع نخل بني النضير "شرح النووي". (¬3) أخرجه البخاري (4884) وفي مواضع عديدة، ومسلم (1746). (¬4) أي: الإمام البخاري -رحمه الله-.

وحمَلوا ما ورَد من ذلك إِمّا على غير المثمر وإِمّا على أن الشجر الذي قُطع في قصة بني النضير كان في الموضع الذي يقع فيه القتال، وهو قول الأوزاعي والليث وأبي ثور. وقال أيضاً (6/ 155): "وقد ذهب الجمهور إِلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو، وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور، واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه أن لا يفعلوا شيئاً من ذلك. وأجاب الطبري بأن النهي محمول على القصد لذلك؛ بخلاف ما إِذا أصابوا ذلك في خلال القتال؛ كما وقع في نصب المنجنيق على الطائف، وهو نحو ما أجاب به في النهي عن قتل النساء والصبيان، وبهذا قال أكثر أهل العلم، ونحو ذلك القتل بالتغريق. وقال غيره: إِنما نهى أبو بكر جيوشه عن ذلك لأنه علم أن تلك البلاد ستُفتح فأراد إِبقاءها على المسلمين. والله أعلم". انتهى. والذي يترجّح لديَّ أن الحرق والقطع ونحوهما جائز بنصّ الكتاب والسُّنة، والأمر يرجع إِلى الحاكم في الفِعل أو الترك، فإِنْ رأى مصلحةً في مرحلةٍ ما في حرق الزروع والثمار - ومثل ذلك هدم مؤسسات ومبانٍ فعل ذلك، وإِنْ رجّح الاستفادة منها لنصرٍ يرجوه، ولم يرَ فائدة منْ قطْعها وحرْقها لم يفعل. أمّا أبو بكر -رضي الله عنه- فإِنه لم يفُته دليل الكتاب والسُّنة، ولكن لا يخفى أنّ الدليل يدل على المشروعية، والمشروعية قد تكون ركناً أو واجباً، أو مندوباً أو مستحباً. وقد كان موقف أبي بكر -رضي الله عنه- لمصلحةٍ رآها جمْعاً بين النصوص؛

ضمان المثل:

لا تأصيلاً لإِلغاء مقتضى الكتاب والسُّنة. والله -تعالى- أعلم. ثم قال ابن القيّم -رحمه الله- (¬1): "وإِذا جاز تحريق متاع الغالِّ، لكونه تعدى على المسلمين في خيانتهم في شيء من الغنيمة، فلأَنْ يحرق ماله، إِذا حَرَق مال المسلم المعصوم أولى وأحرى. وإِذا شرعت العقوبة المالية في حق الله الذي مسامحته به أكثر من استيفائه، فلأَنْ تُشرع في حقّ العبد الشحيح أولى وأحرى، ولأن الله -سبحانه- شرع القِصاص؛ زجراً للنفوس عن العدوان، وكان من الممكن أن يوجب الدية استدراكاً لظلامة المجني عليه بالمال، ولكن ما شرعه أكمل، وأصلح للعباد، وأشفى لغيظ المجني عليه، وأحفظ للنفوس والأطراف، وإِلا فمن كان في نفسه من الآخر؛ من قتله أو قطع طرفه، قتَله أو قطعَ طرفه، وأعطى ديته، والحكمة، والرحمة، والمصحلة تأبى ذلك، وهذا بعينه موجود في العدوان على المال. فإِن قيل: فهذا ينجبر بأن يعطيه نظير ما أتلفه عليه. قيل: إِذا رضي المجني عليه بذلك، فهو كما لو رضي بدية طرفه، فهذا هو محض القياس، وبه قال الأحمدان؛ أحمد بن حنبل، وأحمد بن تيمية. قال في رواية موسى بن سعيد: وصاحب الشيء يخيّر؛ إِن شاء شقّ الثوب، وإِنْ شاء أَخَذ مثله". ضمان المِثل: عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند بعض نسائِه، فأرسَلتْ إِحدى أُمّهاتِ المؤْمنين بصَحْفَةٍ فيها طعام، فضرَبتِ التي النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) انظر "إِعلام الموقعين" (1/ 328).

لا يستقاد من الجرح حتى يبرأ صاحبه:

في بيتها يدَ الخام، فسقَطَتِ الصحْفَةْ فانْفلقت، فجمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِلَقَ الصَّحْفَة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارَت أمّكم. ثم حبس الخادمَ حتى أُتي بصَحْفَةٍ من عند التي هو في بيتها، فدفَع الصحفةَ الصحيحة إِلى التي كُسِرتْ صحفَتها، وأمسكَ المكسورة في بيت التي كُسِرت فيه" (¬1). وفي رواية: "أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عند بعض نسائِه، فأرسَلتْ إِحدى أُمهاتِ المؤْمنين مع خادم بقَصْعةٍ فيها طعامٌ، فضربَتْ بيدِها فكسَرَت القَصعة (¬2)، فضمَّها وجعل فيها الطعام وقال: كلوا. وحَبسَ الرسولَ والقصعةَ حتى فرَغوا، فدفع القصعةَ الصحيحةَ وحَبسَ المكسورة" (¬3). لا يُستقاد من الجُرح حتى يبرأ صاحبُه: لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحة المجنيّ عليه، فإِن اقتصّ منه قبل الاندمال ثمّ زاد جرحه؛ فلا شيء له. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن رجلاً طعنَ رجلاً بقرن في ركبته فجاء إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أقِدْني. قال: حتى تبرأ ثم جاء إِليه فقال: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5225). (¬2) قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح": "بقَصعة: إِناء من الخشب وفي رواية ابن عليّة في النكاح عند المصنّف "بصحفة وهي قصعة مبسوطة وتكون من غير الخشب" قلت: يشير -رحمه الله- إلى الرواية السابقة برقم (5225). (¬3) أخرجه البخاري (2481).

موت المقتص منه:

أقدني فأقاده. ثم جاء إِليه فقال: يا رسول الله عرجت فقال: قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله وبطل عرجك (¬1). ثم نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقتص مِن جرح؛ حتى يَبْرأ صاحبُه" (¬2). وفي رواية: "لا يُستقاد من الجُرح حتى يبرأ" (¬3). موت المقتصّ منه (¬4): إِذا مات المقتصّ منه بسبب الجرح الذي أصابه من أجل القِصاص، فقد اختلفت فيه أنظار العلماء؛ فذهب الجمهور منهم إلى أنه لا شيء على المقتص؛ لعدم التعدي، ولأن السارق إِذا مات من قطع يده، فإِنه لا شيء على الذي قطع يده بالإِجماع. وهذا مِثل ذلك. وقال أبو حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى: إِذا مات، وجب على عائلة المقتص الدية؛ لأنه قتل خطأ. قلت: والأول أصح وأقوى لما علّله الجمهور، ولأن المتعدّي هو الذي جرّ إِلى نفسه ذلك؛ والله أعلم. ¬

_ (¬1) بَطَل عَرَجُك: أي: ذهَب ضياعاً وخُسراً وهدراً. (¬2) أخرجه أحمد والدارقطني والبيهقي وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2237). (¬3) أخرجه الطحاوي وغيره، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (7/ 299). (¬4) عن "فقه السنة" (3/ 330).

الديات والضمان

الدِّيات والضمان

تعريفها:

الدِّيات تعريفها: الدِّيات -بتخفيف التحتانية-: جمع دِيَة مِثْل عِدات وعِدَة، وأصلها وَدْية -بفتح الواو وسكون الدال- تقول: ودى القتيل يدِيِه إِذا أعطى وليه دِيَتَه، وهي ما جُعِل في مقابلة النفس، وسُمّي دِيَة تسميةً بالمصدر، وفاؤها محذوفة والهاء عِوَض (¬1). قال في "حلية الفقهاء" (ص 196): "وأمّا الدِّيةَ، فهي دِيَةٌ وعَقلٌ، وسُمّيت عقلاً؛ لأنّها تعقِل الدماء عن أن تُسْفَك. وقال قوم: كان أصل الدِّية الإِبل؛ فكانت تُجمع وتُعْقل بفِناء وليّ المقتول، فسميّت الدِّية عقلاً، وإنْ كانت دراهم أو دنانير". مشروعيتها: قال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "الفتح" (12/ 187). (¬2) النساء: 92.

حكمتها:

وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "كانت قيمةُ الدِّية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانمائةَ دينار، أو ثمانيةَ آلاف درهم، ودِية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين. قال: فكان ذلك كذلك؛ حتى استخلف عمر -رحمه الله- فقام خطيباً فقال: ألا إِنّ الإِبل قد غَلَت (¬1). قال: فَفَرَضها عمر على أهل الذهب: ألفَ دينار، وعلى أهل الورق: اثني عشرَ ألفاً، وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحُلل مائتي حلة. قال: وترك دِيَة أهل الذمة لم يرفعها فيما رفَع من الدِّيَة" (¬2). حِكمتها: الأصل في الدِّيَة أنها تجب أن تكون مالاً عظيماً يغلبهم وينقص من مالهم، ويجدون له ألماً عندهم، ويكون بحيث يؤدّونه بعد مقاساة الضيق ليحصل الزجر، وهذا القدْر يختلف باختلاف الأشخاص (¬3). ¬

_ (¬1) قلت: فيه تصرف الوالي في الدية مراعاةً للغلاء والانخفاض، ليحقّق معنى الدِّية، وليذوق القاتل وبال أمره، وكذا يراعى في الدَّين هذا الأمر ليُنصف الدائن؛ مع انخفاض العملة الورقية. والله -تعالى- أعلم. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3806) وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2247). (¬3) انظر "الروضة الندية" (2/ 655).

مقدار دية الرجل المسلم:

مقدار دِية الرجل المسلم: ديَة الرجل المسلم مائة مِن الإِبل، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة، أو ألف دينار ذهب، اثنا عشرَ ألف درهم أو مائتا حُلّة (¬1). لحديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ... ألا إِنّ ديَة الخطأ- شبه العمد؛ ما كان بالسوط والعصا مائة من الإِبل؛ منها أربعون في بطونها أولادها" (¬2). وفي كتاب عمرو بن حزم "وفي النفس مائة من الإِبل" (¬3). وللحديث المتقدّم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "كانت قيمةُ الدِّية على عهد الرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانمائةَ دينار، أو ثمانيةَ آلاف درهم، ودِية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين. قال: فكان ذلك كذلك؛ حتى استخلف عمرُ -رحمه الله- فقام خطيباً فقال: ألا إِنّ الإِبل قد غَلَت. قال: فَفَرَضها عمر على أهل الذهب: ألفَ دينار، وعلى أهل الورق: اثني عشرَ ألفاً، وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى ¬

_ (¬1) الحُلَل: جمع حُلّة، قال ابن الملك: "وهي إزار ورداء مِن أيّ نوعٍ من أنواع الثياب، وقيل: الحُلَل: برود اليمن، ولا يسمّى حُلّة؛ حتى يكون ثوبين. "المرقاة" (7/ 62). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2126) والنسائي وابن ماجه وغيرهم وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2197). (¬3) صححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2243).

أهل الحلل مائتي حلة. قال: وترك دِيَة أهل الذمة لم يرفعها فيما رفَع من الدية" (¬1). وفي رواية عنه أيضاً -رضي الله عنه-: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يُقوِّم دِيَة الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار، أو عدلها من الورق يُقوِّمها على أثمان الإِبل، فإِذا غلت رفع في قيمتها، وإذا هاجت رخَصاً نقص من قيمتها، وبَلَغت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بين أربعمائة دينار إِلى ثمانمائة دينار، وعدلها من الورق ثمانية آلاف درهم. وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أهل البقر مائتي بقرة، ومن كان دِيَة عقْله في الشاء؛ فألفي شاة. قال: وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِن العقل ميراث بين ورثة القتيل على قرابتهم، فما فضل فللعصبة. قال: وقضى رسول الله في الأنف إِذا جُدِعَ الدية كاملة، وإِنْ جُدعت ثَنْدُوته فنصف العقل؛ خمسون من الإِبل، أو عدلها من الذهب أو الورق، أو مائة بقرة أو ألف شاة. وفي اليد إِذا قطعت نصف العقل، وفي الرِّجل نصف العقل، وفي المأمومة ثلث العقل ثلاث وثلاثون من الإِبل وثُلثُ أو قيمتها من الذهب، أو الورق، أو البقر أو الشاة، والجائفةُ مثل ذلك. وفي الأصابع في كل أصبع عَشْرٌ من الإِبل وفي الأسنان في كل سِنَّ خمس من الإِبل" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3806) وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2247) وتقدّم. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3818) وتقدّم.

القتل الذي تجب فيه:

وقد تقدم أن الدينار = 4.25 غراماً. والدية من الذهب = 800 دينار = 3400 غراماً. وحين فرضها عمر -رضي الله عنه- ألف دينار = 4250 غراماً. والدرهم (¬1) = 2.975 غراماً. والدية من الفضة = 8000 درهم = 23800 غراماً. وحين غَلَت: 12 ألفاً = 35700 غراماً. القتل الذي تجب فيه (¬2): تجب الدية في القتل الخطأ، وشِبه العمد، وفي العمد الذي وقَع ممّن فَقد شرطاً من شروط التكليف؛ مثل الصغير والمجنون. وكذا في العمد الذي تكون فيه حُرمة المقتول ناقصةً عن حُرمة القاتل؛ مِثل الحُر إِذا قتَل العبد ... وسيأتي التفصيل بإِذن الله. تغليظ الدِّية (¬3): اختلفت الأحاديث الشريفة في الدِّيات تغليظاً وتخفيفاً لكل قسم، فالدِّية المغلّظة في الخطأ الذي هو شبه العمد، والدّيَة المخفّفة في الخطأ المحض والأحاديث مُصرّحةٌ بذلك. ¬

_ (¬1) انظر المكاييل والأوزان الإسلامية ترجمة الدكتور كامل العسلي (ص 9) وفيه أن الدرهم = 2.97 غراماً. (¬2) عن "فقه السنة" (3/ 333) -بحذف وتصرف يسير-. (¬3) عن "الروضة الندية" (652) -بتصرف-.

وتغلّظ الدية بأن تكون المائة من الإِبل؛ في بطون أربعين منها أولادها. عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطَب يوم الفتح فقال: ألا إِنّ ديَة الخطأ -شبه العمد- ما كان بالسوط والعصا مائة من الإِبل؛ منها أربعون في بطونها أولادها" (¬1). وفي رواية عن عقبة بن أوس عن رجُلٍ مِن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خطَب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة فقال: ألا وإِنّ قتيل الخطأ -شِبه العمد-؛ بالسوط والعصا والحجر مائة من الإِبل، فيها أربعون ثنية إِلى بازل عامها (¬2) كلهنّ خَلِفةٌ (¬3) " (¬4). وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "عَقلُ شِبهِ العمد مُغَلّظ، مثل عقْلِ العمد، ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في عِمّيَّا في غير ضغينة ولا حمْل سلاح" (¬5). وعنه أيضاً: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى: أنّ مَن قتَل خطأ؛ فديته مائة من ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3807) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2127)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4458)، وصححه شيخنا - رحمه الله- في "الإِرواء" (2197) وتقدّم. (¬2) بازل عامها: هي البازل من الإبل الذي أتمّ ثماني سنين، ودخل في التاسعة وحينئذ يطلع نابه وتكمل قوته، ثم يقال له بعد ذلك: بازلُ عامٍ وبازلُ عامين. "النهاية". (¬3) الخَلِفةٌ: الحامل من النوق، وقد خلفته إِذا حَمَلت. "النهاية". (¬4) أخرجه أبو داود والنسائي واللفظ له، "صحيح سنن النسائي" (4461). (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3819) وتقدّم.

الإِبل: ثلاثون بنت مخاض (¬1)، وثلاثون بنت لَبون (¬2)، وثلاثون حِقّة (¬3)، وعشرة بني لبون ذكر" (¬4). وعن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت: في المغلظة: أربعون جَذَعة (¬5) خَلِفَة، وثلاثون حِقّة، وثلاثون بنات لبون. وفي الخطأ ثلاثون حِقّة، وثلاثون بنات لَبون، وعشرون بنو لبون ذكور، وعشرون بنات مخاض" (¬6). وقد ذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم إِلى أن القتل على ثلاثة أضرب: عمد، خطأ، وشبه عمد. ففي العمد القِصاص، وفي الخطأ الدية، وفي شبه العمد وهو ما كان بما مثله لا يَقْتُل في العادة، كالعصا والسوط والإِبرة مع كونه قاصداً للقتل ديَة مغلظة، وهي مائة من الإِبل أربعون منها في بطونها أولاد. ¬

_ (¬1) مخاض: اسم للنوق الحوامل، واحدتها خَلِفة، وبنت المخاض وابن المخاض: ما دخَل في السنة الثانية؛ لأنّ أمّه قد لحقت بالمخاض: أي الحوامل وإن لم تكن حاملاً. "النهاية". (¬2) لبون: بنت الّلبون وابن اللبون: هما من الإِبل ما أتي عليه سنتان، ودخل في الثالثة، وصارت أمّه لَبوناً؛ أي ذاتَ لبن، لأنّها تكون قد حملت حمْلاً آخر ووضعته. "النهاية". (¬3) حقّة: هو منْ الإِبل ما دخل في السّنة الرابعة إِلى آخرها، وسميّ بذلك؛ لأنه استحقّ الركَوب والتحميل. "النهاية". (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3805). (¬5) جَذَعَة: أصل الجذع من أسنان الدوابّ، وهو ما كان منها شاباً فتياً. فهو من الإِبل ما دخل في السنة الخامسة. "النهاية". (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3808).

تغليظ الدية في الحرم والشهر الحرام:

وممن ذهب إِلى هذا زيد بن علي والشافعية والحنفية وأحمد وإِسحاق. وقال مالك والليث: إِن القتل ضربان: عمد وخطأ، فالخطأ ما وقع بسبب من الأسباب، أو غير مكلف، أو غير قاصد للمقتول ونحوه، أو للقتل بما مثله لا يقتل في العادة. والعمد ما عداه. والأول لا قَوَد فيه (¬1). والقول إِنّه على ثلاثة أضرب؛ ثبت من خلال نصوصٍ صريحة الدلالة. 1 - فقوله -تعالى-: {ومن قتل مؤمناً خطأً} في قتل الخطأ. 2 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن قتَل عمداً فهو قَوَد (¬2) (¬3) في قتل العمد. 3 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عَقلُ شِبهِ العمد مُغَلّظ، مثل عقْلِ العمدَ" (¬4) في قتل شبه العمد (¬5). تغليظ الدِّية في الحَرَم والشهر الحرام: عن أبي نُجيح: "أن امرأةً وُطئت في الطواف، فقضى عثمان -رضي الله عنه- فيها بستة آلاف، وألفين تغليظاً للحرم" (¬6). وفي لفظ: "أن عثمان -رضي الله عنه- قضى في امرأة قُتلت في الحرام بدية ¬

_ (¬1) عن "الروضة الندية" (2/ 659). (¬2) القود: القِصاص وقتل القاتل بدل القتيل وتقدّم. (¬3) تقدّم تخريجه في "أنواع القتل". (¬4) تقدّم تخريجه في "أنواع القتل". (¬5) وهو كذلك في إِثبات نوع قتل العمد. (¬6) صححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2258).

على من تجب الدية؟

وثلث دِيَة" (¬1). وفي لفظ: "أن رجلاً وطئ امرأةً بمكة في ذي القَعدة فقَتَلها، فقضى فيها عثمان -رضي الله عنه- بدية وثلث" (¬2). على مَن تَجب الدِّية؟ الدية الواجبة على القاتل نوعان: 1 - نوعٌ يجِب على الجاني في ماله، وهو القتل العمد إِذا سقط القِصاص، ولا تحمل العاقلة العمد، ولا الإقرار بالقتل أو الصُلح في عمد. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لا تحمل العاقلة عمداً، ولا ما جنى المملوك (¬3)، ولا صُلحاً، ولا اعترافاً" (¬4). وعن عامر الشعبي -رحمه الله- قال: "العمد والعبد والصُلح والاعتراف لا تعقله العاقلة" (¬5). وجاء في كتاب " الإِجماع" (ص 120) لابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ العاقلة لا تحمل دية العمد، وأنها تحمل دية الخطأ". *2 - ونوعٌ يجب على القاتل، وتتحمله عنه العاقلة، إِذا كانت له عاقلة ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي، وانظر المصدر السابق. (¬2) أخرجه البيهقي وقال شيخنا -رحمه الله- وإسناده صحيح وانظر المصدر السابق. (¬3) أي: ما جنى من قتل. (¬4) أخرجه البيهقي، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2304). (¬5) أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة بإسناد صحيح، وانظر "الإرواء" (7/ 337).

تعريف العاقلة:

بطريق التعاون، وهو قتل شبه العمد وقتل الخطأ (¬1)، والقاتل كأحد أفراد العاقلة؛ لأنه هو القاتل، فلا معنى لإِخراجه. تعريف العاقلة: العاقلة مأخوذة من العقل؛ لأنها تَعقل الدماء؛ أي؛ تُمسكها من أن تسفك، يقال: عقَل البعير عقلاً. أي: شدَّه بالعقال، ومنه العقل؛ لأنه يمنع من التورط في القبائح. والعاقلة: هي الجماعة الذين يعقلون العقل، وهي الدية، يقال: عقلْت القتيل، أي: أعطيت دِيته، وعقلْت عن القاتل، أدّيت ما لزمه من الدِّية. والعاقلة هم عَصَبةَ الرجل، أي: قرابته الذكور، البالغون من قِبل الأب الموسرون، العقلاء ويدخل فيهم الأعمى والزَّمِن (¬2)، والهرم إِن كانوا أغنياء، ولا يدخل في العاقلة أنثى، ولا فقير ولا صغير ولا مجنون، ولا مخالف لدين الجاني؛ لأنّ مبنى هذا الأمر على النصرة، وهؤلاء ليسوا من أهلها* (¬3). قال ابن الأثير -رحمه الله- في "النهاية":- "والعَصَبة: الأقارب من جهة الأب؛ لأنّهم يُعصّبونه ويعتصب بهم يحيطون ويشتدّ بهم". قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (34/ 158): "وأمّا العاقلة التي تحمِل: فَهُم عَصَبته: كالعمّ وبنيه، والإِخوة وبنيهم باتفاق العلماء وأمّا أبو الرجل وابنه فهو من عاقلته أيضاً عند الجمهور؛ كأبي حنيفة، ¬

_ (¬1) وكذا عمد الصغير والمجنون؛ كما سيأتي؛ إِن شاء الله. (¬2) من الزمانة: أي مرض يدوم. (¬3) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 336).

ومالك، وأحمد في أظهر الروايتين عنه، وفي الرواية الأخرى، وهو قول الشافعي: أبوه وابنه ليسا من العاقلة". وقال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (1983): "العصبة: هم بنو الرجل وقرابته لأبيه، وفي "الفرائض": مَن ليست له فريضة مُسمّاة في الميراث وإِنّما يأخُذُ ما أبقى ذوو الفرائض". وقال ابن المنذر -رحمه الله-: "وأجمعوا أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ؛ لا يعقلان مع العاقلة شيئاً" (¬1). ودليل وجوب الدِّيَة على العاقلة؛ ما ورَدَ في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن امرأتين من هذيل رمت إِحداهما الأخرى فطرحت جنينها، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها بغُرّةٍ: عبدٍ أو أَمة" (¬2). وفي الحديث: "العقل (¬3) على العَصَبة، وفي السّقط غُرَّة عبدٍ أو أَمة" (¬4). قال ابن المنذر -رحمه الله-: "أجمع أهل العلم على أن دِيَة الخطأ تحمِله العاقلة" (¬5). *ويرى مالك وأحمد -رحمهما الله تعالى- أنه لا يجب على واحدٍ من ¬

_ (¬1) انظر "الإِجماع" (120). (¬2) أخرجه البخاري (6904)، ومسلم (1681). (¬3) أي: الدِّية؛ كما تقدّم. (¬4) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" وإسناده صحيح كما في "الصحيحة" (1983). (¬5) انظر "الإِجماع" (120).

العَصبَة قدْرٌ مُعيَّنٌ مِن الدِّية، ويجتهد الحاكم في تحميل كلّ واحدٍ منهم ما يسهُل عليهِ، ويبدأ بالأقرب فالأقرب. وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "وتُؤخذ الدّيَة من الجاني خطأً عند تعذُّر العاقلة؛ في أصحّ قولي العلماء. وإذا قتل المسلمون رجلاً في المعركة ظناً أنه كافر؛ ثمّ تبيّن أنه مُسلم؛ فديَته في بيت المال؛ وكذلك مَن مات من الزِّحام (¬1)، تجب ديته في بيت المال* (¬2). عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما كان يوم أُحد هُزِم المشركون، فصاح إِبليسُ: أي عباد الله أخراكم. فرجَعَت أولاهم فاجتَلَدَت هي وأخراهم فنظر حذيفة فإِذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد الله، أبي أبي. قالت: فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه، قال حذيفة: غفرَ الله لكم. قال عروة: فما زالت في حذيفة منه بقية خير حتى لحقَ بالله" (¬3). قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح": "قال ابن بطّال: اختلف عليٌّ وعمرُ هل تجب دِيَته في بيت المال أو لا؟ وبه قال إِسحاق -أي: بالوجوب- وتوجيهه أنه مسلم مات بفعل قوم من المسلمين، فوجبت ديته في بيت مال المسلمين" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر حديث عائشة -رضي الله عنها- الآتي في "صحيح البخاري" (كتاب الدِّيات باب إِذا مات في الزِّحام أو قُتِل). (¬2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 339) -بتصرف-. (¬3) أخرجه البخاري (6890). (¬4) انظر للمزيد -إن شئت- ما قاله الحافظ -رحمه الله- (12/ 218).

عن بُشير بن عُبيد عن سهل بن أبي حَثْمة: "أخبرهُ أن نَفَراً مِن قومه انطلقوا إِلى خَيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلاً وقالوا: للذي وُجد فيهم: قَتَلْتُم صاحِبنا، قالوا ما قَتلنا ولا عَلِمنا قاتلاً. فانطلقوا إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول الله، انطلقنا إِلى خَيبر، فوجدنا أحدنا قتيلاً فقال الكُبْرَ الكُبْرَ، فقال لهم: تأتونَ بالبَيِنّة على من قَتَله؟ قالوا: ما لنا بيّنة، قالوا: فيحلفون؟ قالوا: لا نرضى بأيْمانِ اليهود، فكَرِه رسول الله أن يُبطل دمَهُ فوداه (¬1) مائة من إِبل الصدقة" (¬2). وجاء في "سنن ابن ماجه": "الدية على العاقلة، فإِن لم يكن عاقلة؛ ففي بيت المال" (¬3). ثم ذكر حديث المقدام الشامي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنا وارثُ مَن لا وارث له، أعقِل عنه وأرثُه، والخال وارثُ من لا وارث له؛ يَعقِلُ عنه ويَرثُه" (¬4). ونخلُص بهذا إِلى أنّ الدِّية إِن تعذّر الحصول عليها؛ فإِنها تُؤْخَذ من بيت مال المسلمين. ¬

_ (¬1) أي: دفع دِيته. (¬2) أخرجه البخاري (6898) ومسلم (1669). (¬3) انظر الكتاب المذكور (كتاب الديات باب - 7). (¬4) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2130) وغيره، وانظر "الإِرواء" (6/ 138).

فائدة:

فائدة: قال ابن المنذر -رحمه الله- في كتاب " الإِجماع" (ص 120):- "وأجمعوا على أنّ الفقير لا يلزمه من ذلك شيء" (¬1). مقدار دية الأعضاء والشّجاج: لقد ورَدَ في دية الأعضاء والشّجاج عددٌ من النصوص؛ ومن ذلك: 1 - عن عمر -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "في الأنف الدية إِذا استُوعِب جَذعُه مائة من الإِبل، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي الآمة ثلث النفْس، وفي الجائفة ثلث النفس، وفي المنَقّلة خمس عشرة، وفي الموضِحِة خمسٌ، وفي السِّنِّ خمسٌ، وفي كل إِصبع مما هنالك عشر" (¬2). 2 - عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يُقوِّم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار، أو عدلها من الورق يُقوِّمها على أثمان الإِبل، فإِذا غلت رفع في قيمتها، وإذا هاجت رخَصاً نقص من قيمتها. وبَلَغت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بين أربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار، وعدلها من الورق ثمانية آلاف درهم. وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: على أهل البقر مائتي بقرة، ومن كان دية عقله الشاء فألفي شاة، قال: وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِن العقل ميراث بين ورثة القتيل على قرابتهم، فما فضل فللعصبة. قال: وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأنف إِذا جُدعَ الدية كاملة وإن جدعت ¬

_ (¬1) أي لا يعقل مع العاقلة شيئاً. (¬2) أخرجه البزار وغيره وانظر "الصحيحة" (1997).

ثَنْدُوته فنصف العقل؛ خمسون من الإِبل، أو عدلها من الذهب أو الورق، أو مائة بقرة أو ألف شاة. وفي اليد إِذا قطعت نصف العقل، وفي الرِّجل نصف العقل، وفي المأمومة ثلث العقل ثلاث وثلاثون من الإبل وثُلثُ، أو قيمتها من الذهب، أو الورق، أو البقر أو الشاء، والجائفةُ مثل ذلك. وفي الأصابع في كل أصبع عَشْرٌ من الإبل، وفي الأسنان في كل سِنٍّ خمس من الإِبل. وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئاً إِلا ما فضل عن ورثتها. وإِن قتلت فعقلها بين ورثتها، وهم يقتلون قاتلهم. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس للقاتل شيء، وإن لم يكن له وارث فوارثه أقرب الناس إِليه، ولا يرث القاتلُ شيئاً" (¬1). وفي لفظٍ من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أيضاً قال: "كانت قيمةُ الدِّية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانمائةَ دينار، أو ثمانيةَ آلاف درهم، ودِية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين، قال: فكان ذلك كذلك؛ حتى استخلف عمر -رحمه الله- فقام خطيباً فقال: ألا إِنّ الإِبل قد غَلَت. قال: فَفَرَضها عمر على أهل الذهب: ألفَ دينار، وعلى أهل الورق: اثني عشرَ ألفاً، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3818).

قال: وترك دِيَة أهل الذمة لم يرفعها فيما رفَع من الدية" (¬1). 3 - عن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الأصابع سواء: عشْرٌ عشْرٌ من الإِبل" (¬2). 4 - وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دِيَة أصابع اليدَين والرِّجلين سَواء، عشْرُ من الإِبل لكل إِصبع" (¬3). 5 - وعنه أيضاً -رضي الله عنه- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "هذه وهذه سواء" يعني الخِنصر والإِبهام (¬4). 6 - وعنه -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الأصابع سَواء، والأسنان سَواء؛ الثّنِيَّة (¬5) والضِّرسُ سواء، وهذه وهذه سواء" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3806) ومن طريقه البيهقي، وانظر "الإِرواء" (2247) وتقدّم. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3810) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2147) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4503)، وانظر "الإِرواء" (2272). (¬3) أخرجه أحمد والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1123)، وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (2271). (¬4) أخرجه البخاري (6895). (¬5) الثنيّة: إِحدى الأسنان الأربع التي في مقدّم الفم: ثنتان من فوق وثنتان من تحت. (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3813) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2148) وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (2277).

وورد في حديث عمرو بن حزم عدد من ديات الأعضاء والشجاج الأخرى، والراجح فيه الإِرسال وإِسناد المرسل صحيح (¬1) ولبعض أفراده شواهدُ ثابتة مرفوعة، ولذلك ضربت صفحاً عن التفصيل فيه وما يترتّب على ذلك من الأحكام (¬2). ونخلُص من النصوص المتقدّمة -والآتية- بما يأتي: 1 - دية الأنف إِذا استوعب جدْعه وقُطع جميعه؛ الدية كاملة، وهي مائة ¬

_ (¬1) انظر "الإرواء" (2212)، وورد في عدة مواطن فيه. وانظر كذلك ضعيف النسائي (339) و"هداية الرواة" (3421). (¬2) وهذا لفظه: "عن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جدّه -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إِلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، فقرئت على أهل اليمن، هذه نسختها: من محمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى شرحبيل بن عبد كُلال، ونعيم بن عبد كُلال، والحارث ابن عبد كُلال، قَيْلِ ذي رُعَيْنٍ، ومُعَافِرَ وهَمدان. أمّا بعد، وكان في كتابه: أن من اعتَبطَ (أ) مؤمناً قتلاً عن بينةٍ فإِنّه قَودٌ، إِلا أن يرضى أولياء المقتول، وأنّ في النفس الدّيَة مائة من الإبل، وفي الأنف إِذا أُوعِب جَدعُهُ الدِّية، وفي اللسان الدّيَة، وفي الشَّفتين الدّيَة، وفي البَيضَتَينِ الدّيَة، وفي الذَّكر الدّيَة، وفي الصُلبِ الدّيَة، وفي العينين الدّيَة، وفي الرجل الواحدة نِصف الدّيَة، وفي المأمومةِ ثلث الدية، وفي الجَائفة ثلث الدية، وفي المُنقِّلَة خمس عشرةَ من الإِبل، وفي كل أُصبع من أصابع اليد والرجل عشرٌ من الإِبل، وفي السنّ خمسٌ مِن الإبل، وفي الموضحَة خمس مِن الإبل، وأنّ الرّجُل يُقْتَل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار".

من الإِبل. وإِذا جدُعت أرنبة أنفه؛ فله نصف الدية؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه: "أن رسول الله قضى في الأنف إِذا جُدع كلّه بالعقل كاملاً؛ وإِذا جدُعت أرنبته؛ فنصف العقل" (¬1). 2 - في اليد نصف الدية؛ خمسون من الإِبل. 3 - في اليد الشلاّء ثلث ديتها، ودية اليد كاملة نصف الديَة، فتكون ديتها -أي اليد الشلاّء- سدس الدية وهي ستة عشر من الإِبل وثُلُثان. عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: في العين القائمة، والسنّ السوداء واليد الشلاّء ثلث ديتها" (¬2). 4 - في الرِّجل نصف الدية؛ خمسون من الإِبل. 5 - في أصابع اليدين والرِّجلين سَواء، عشْرٌ من الإبل. 6 - دية الظفر إِذا لم يُعدْ أو عاد أسود، أو اعورّ خُمس دية الإِصبع (¬3). عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "في الظّفر إِذا اعْوَرّ خُمس دية ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" وغيره وقال شيخنا -رحمه الله- في "التعليقات الرضية" (3/ 380): "سنده حسن". (¬2) أخرجه البيهقي بإِسناد صحيح، وانظر "الإِرواء" (2294). وهذا ورد مرفوعاً عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أخرجه النسائي وغيره، وهو حسن احتمالاً، انظر "الإرواء" (2293). (¬3) يذكّر ويؤنّث، وفيه خمس لغات؛ انظرها في المعاجم -إِنْ شئت-.

الإِصبع" (¬1). وتقدم أن دية الإِصبع عَشْرٌ من الإِبل -وهي عُشر الدية- فتكون دية الظفر خُمس العشر وهي: اثنان من الإِبل. 7 - في العين نصف الدية؛ خمسون من الإِبل لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وفي العين خمسون من الإِبل" (¬2). وفي العين إِذا طُمست: ثلث ديتها، ستة عشر من الإبل وثُلُثان (¬3). وفي عين الأعور؛ دِيةٌ كاملة. ثبت ذلك عن عمر وعلي وابن عمر -رضي الله عنهم أجمعين-. فعن أبي مجلز: "أن رجلاً سأل ابن عمر: وفي رواية عنه: سألت عبد الله ابن عمر عن الأعور تفقأ عينه، فقال عبد الله بن صفوان: قضى فيها عمر الدية" (¬4). وعن قتادة عن علي -رضي الله عنه-: "في الرجل الأعور إِذا أصيبت عينه الصحيحة قال: إِن شاء أنَ يفقأ عيناً مكان عينٍ ويأخذ النصف، وإِن شاء أخذ الدية كاملة" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة وسنده صحيح على شرط مسلم كما في "الإرواء" (2274). (¬2) حسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2269). (¬3) تقدّم تخريجها في اليد الشلاّء، وانظر "هداية الرواة" (3432). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي بإِسناد صحيح، وانظر "الإِرواء" (7/ 315). (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة بإِسناد صحيح وانظر "الإِرواء" (7/ 316).

فائدة:

عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: إِذا فُقئت عين الأعور ففيها الدية كاملة" (¬1). 8 - وفي الأذن خمسون. فعن ابن شهاب قال: قرأت كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كتَبه لعمرو بن حزم -رضي الله عنه- ... فكتب: "وفي الأذن خمسون من الإِبل" (¬2). فائدة: عن عمران بن حصين -رضي الله عنه-: "أنّ غلاماً لأُناس فقراء؛ قطَع أُذن غلامٍ لأُناسٍ أغنياء، فأتى أهلُهُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: إِنّا أُناسٌ فقراء، فلم يجعل عليه شيئاً" (¬3). 9 - في كل سنن خمسٌ من الإِبل. رجاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 171): "وسُئِل -قدس الله روحُه- عن رَجُلٍ ضَرَب رجُلاً فتحوّل حنكُه، ووَقَعت أنيابه، وخيّطوا حنَكَه بالإِبر؛ فما يجب؟ فأجاب: يجب في الأسنان؛ في كل سنٍّ نصف عشر الدية (¬4)؛ خمسون ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق. (¬2) أخرجه البيهقي بسند صحيح ويقويه قول عمر وعلي بما فيه، كما في البيهقي بسندين صحيحين؛ قاله شيخنا -رحمه الله- في "التعليقات الرضية" (3/ 382). (¬3) أخرجه أبو داود والنسائي، وقال شيخنا -رحمه الله- في "هداية الرواة" (3435): إِسنادهُ صحيح على شرط مسلم. (¬4) لأن الخَمس من الإِبل = 5/ 100 = 1/ 20 وهو ما ذكره الفقهاء أنه نصف العُشر.

ديناراً أو خمس من الإِبل أو ستمائة درهم. ويجب في تحويل حنك الأرش؛ يقوم المجني عليه كأنه عبد سليم، ثم يقوم وهو عبد معيب، ثم ينظر تفاوُت ما بين القيمتين، فيجب بنسبته من الدية. وإِذا كانت الضربة مما تقلع الأسنان في العادة؛ فللمجني عليه القِصاص، وهو أن يقلع له مِثْل تلك الأسنانِ من الضارب". 10 - الثَّندُوَة (¬1) نصف الدية، خمسون من الإِبل (¬2). 11، 12 - الضلع والتَرقوة. عن أسلم مولى عمر -رضي الله عنه- "أن عمر قضى في الترقوة وفي الضلع بجمل" (¬3). 13 - إِذا ذهب سمعه ولسانه وعقْله وذَكَره، فيه أربع ديات، عن أبي المهلّب قال: "رُمي رجل بحجر في رأسه، فذهب سمْعه ولسانه وعقْله وذَكَره، فلم يقرب النساء، فقضى فيه عمر بأربع ديات" (¬4). وجاء في كتاب "الإِجماع عند أئمّة أهل السُّنة الأربعة" (ص 174): ¬

_ (¬1) الثَّندُوَة للرجل: كالثدي للمرأة، وانظر "النهاية". (¬2) أو عدلها من الذهب أو الورِق، أو مائة بقرة، أو ألف شاة كما ورَد في الحديث الذي أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3818). وهذا عامّ في الدية كاملة؛ كانت أو مجزّأة، وسيأتي عما قريب -إِن شاء الله تعالى- التنبيه على ذلك. (¬3) أخرجه مالك، وعنه البيهقي بإسناد صحيح، وانظر "الإرواء" (2291). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة، وعنه البيهقي، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2279).

وأجمعوا على أن: في اللسان الدية. وأجمعوا على أن: في الذكر الدية. وأجمعوا على أن: في ذهاب العقل الدية. وأجمعوا على أن: في ذهاب السمع الدية. ومن تأمّل ما ثَبت من نصوصٍ وآثارٍ في الديَة؛ فإِنه يرى أنّ في العضوين الدِّيَة كاملة، وفي العضو الواحد نصف الدية. ففي الأُذُن نصف الدية. وفي الرِّجل نصف الدية. وفي العين نصف الدية. وفي اليد نصف الدية. وفي الثندوة نصف الدية. وفي الأنف إِذا استوعب الدية كاملة. وفي أصابع اليدين الدية كاملة. وفي أصابع الرجلين الدية كاملة. وفي عين الأعور الدية كاملة. وعلى هذا يحمل قضاء عمر -رضي الله عنه- فيمن فقد سمْعه ولسانه وعقْله وذَكَره، أنّ لكل واحدٍ منها الدية كاملة. وبهذا تجدني أميل إِلى تصحيح معنى حديث عمرو بن حزم -رضي الله

عنه- (¬1) واعتماد ما تبقّى من الأعضاء التي لم أرَ لها -فيما أعلم- شواهد من السّنة النبوية. وقد تقدم في قضاء عمر -رضي الله عنه- وأجمع عليه الأئمّة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد -رحم الله الجميع- (¬2). ففي اللسان الدّية. وفي الشفتين الدّية. وفي البيضتين الدّية. وفي الذَّكَر الدّية. وفي الصُّلب الدية. فكل ما تقدّم في حديث عمرو بن حزم -رضي الله عنه- إِما عضوٌ واحد في الجسد أو عضوان استُئصلا؛ كالشفتين والبيضتين. والله أعلم. تنبيه: كلّ ما يذكر من الديات في الأعضاء والشجاج من الإِبل؛ يمكن أن يخرجَ عدله من الذهب أو الورق أو البقر أو الشياه. وقد تقدّم أن دية الرجل المسلم مائة مِن الإِبل، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة، أو ¬

_ (¬1) ولا سيّما أن هناك من صحّح هذا الحديث؛ مثل ابن حبّان والحاكم والبيهقي، ونُقل عن أحمد أنه قال: أرجو أن يكون صحيحاً، وصحّحه أيضاً من حيث الشهرة؛ لا مِن حيث الإسناد جماعة من الأئمة؛ منهم الشافعي ... وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السِّير معروف ما فيه عند أهل العلم؛ يُستغنى بشهرته عن الإِسناد؛ لأنه أشبه بالتواتُر في مجيئه؛ لتلقّي الناس له بالقَبول والمعرفة. وانظر "النيل" (7/ 163). (¬2) انظر "الإِجماع عند أئمة أهل السُّنة الأربعة" للوزير يحيى بن هبيرة (ص 174).

الجراح وأقسامها ودياتها

ألف دينار ذهب، أو اثنا عشرَ ألف درهم من فضة أو مائتا حُلّة. وبعض الديَة تقسّم بحسبها: فنصف الدية مثلاً خمسون من الإِبل؛ أو مائة بقرة، أو ألف شاة، أو ألف دينار ذهب، أو ستة آلاف درهم فضة، مائة حُلّة. وثلث الدّية هكذا ... وتقدّم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإِنْ خدعت ثَنْدُوته فنصف العقل؛ خمسون من الإِبل، أو عدْلها من الذهب أو الورق، أو مائة بقرة أو ألف شاة". الجراح وأقسامها ودِياتها جاء في "المحلى" (12/ 211) -في تقسيم الجراح-: أولها الحارضة (¬1) ثمّ الدامية، ثمّ الدامعة، ثمّ الباضعة، ثمّ المتلاحمة، ثمّ السمحاق، ثمّ الموضحة، ثمّ الهاشمة، ثمّ المنقلة، ثمّ المأمومة، -وهي الآمة أيضاً-. وفي الجوف وحده: الجائفة، وهي التي نفذت إِلى الجوف. والحارِضة (1) -التي تشق الجلد شقاً خفيفاً- يقال حرض القصار الثوب إِذا شقه شقاً لطيفاً. والدامية: هي التي ظهر فيها شيء من دم ولم يَسِل. والدامعة: هي التي سال منها شيءٌ من دمٍ كالدمع. والباضعة: هي التي شقّت الجلد، ووصلت إِلى اللحم. ¬

_ (¬1) وهكذا جاءت -بالضّاد- ومن خلال مراجعاتي في كتب الغريب والمعاجم؛ رأيتها (الحارصة) بمهملتين؛ -بالحاء والصاد-.

دية الشجاج:

والمتلاحمة: هي التي شقّت الجلد، وشرعت في اللحم. والسمحاق: -هي الملطا- وهي التي قطَعت الجلد واللحم كله، ووصلت إِلى القشرة الرقيقة التي على العظم. والموضحة: التي شقّت الجلد واللحم، وتلك القشرة، وأوضحت عن العظم. والهاشمة: هي التي قطعت الجلد واللحم والقشرة، وأثّرت في العظم فهشمت فيه. المنقلة: -وهي المنقولة أيضاً- التي فعلت ذلك كلّه، وكسرت العظم؛ فصار يخرج منها العظام. والمأمومة: التي نفذت ذلك كله، وشقّت العظم كلّه، فبلغت أمّ الدماغ. هذا الكلام كله هكذا، حدَّثناه أحمد بن محمد بن الجسور قال: نا محمد بن عيسى بن رفاعة قال: نا علي بن عبد العزيز نا أبو عبيد عن الأصمعي وغيره فذكر كما ذكَرْنا". دية الشجاج: ويتلخص مما تقدّم من النّصوص -وما يأتي- ما يلي: 1 - في الآمة أو المأمومة (¬1) ثلث الدية (¬2) ثلاث وثلاثون من الإِبل وثُلث. ¬

_ (¬1) الآمة أو المأمومة: هما الشجّة التي بلغَت أمْ الرأس، وهي الجلدة التي تجمع الدّماغ. وانظر "النهاية". (¬2) انظر "الإِرواء" (2289).

2 - في الجائفة (¬1): ثلث الدية (¬2)، وهي ثلاث وثلاثون من الإِبل وثُلث، فإِذا خَرَجت من الجانب الآخر، ففيها ثلثا الدية. عن سعيد بن المسيب: "أن قوماً يرمون، فرمى رجل منهم بسهم خطأ، فأصاب بطن رجل، فأنفذه إِلى ظهره، فدووي فبرأ، فرفع إِلى أبي بكر، فقضى فيه بجائفتين" (¬3). 3 - في المنقّلة (¬4) خمس عشرة من الإِبل (¬5). 4 - في المواضح (¬6) خمس خمس. عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "لما افتتحَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة قال في خطبته: وفي المواضح: خمس خمسٌ" (¬7). ¬

_ (¬1) الجائفة: هي الطعنة التي تبلغ الجوف "طلبة الطَلَبة" (328). (¬2) انظر "الإِرواء" (2296). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة وانظره والشواهد الأخرى في "الإرواء" تحت الأثر (2298). (¬4) المنقلة: هي التي تخرج منها صِغار العظام، وتنتقل عن أماكنها، وقيل: التي تنقُل العظم: أي تكسره "النهاية". (¬5) انظر "الإرواء" (2286، 2287). (¬6) جمع موضحة: هي التي تُبدي وَضَحَ العظم: أي بياضه، وانظر "النهاية". (¬7) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4512) وأبو داود "صحيح سنن أُبي داود" (3820) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1122) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2150).

وجاء في "المغني" (9/ 643): "وإنْ أوضَحه في رأسه موضحتين بينهما حاجز؛ فعليه أرش موضحتين؛ لأنهما موضحتان، فإِنْ أزال الحاجز الذي بينهما؛ وجب أرش موضحة واحدة؛ لأنّه صار الجميع بفعله موضحة ... ". وهذا الذي ثبت فيه الحديث والأثر من الشجاج -فيما أعلم- وقد ورد في حديث عمرو بن حزم -رضي الله عنه- عددٌ من الشّجاج، والأعضاء ولا يثبت الحديث مرفوعاً -كما تقدّم-. وتقدم ذكر دِية الآمة والجائفة والمنقّلة والموضحة؛ مع الأدلة، وبقي من ذلك: الحارصة، والدامية والدّامعة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق والهاشمة. فبحثتُ عن نصوصٍ وآثار ثابتة، فلم أعثر على ذلك، وتأمّلت تقسيم ابن حزم -رحمه الله- الذي أفاده من الأصمعي وغيره، وتدرّجَه (التصاعدي) في الجراح؛ فرأيت أربعة أنواع من الجراح ذُكرت قبل الموضّحة، ولمّا كان في الموضّحة خمس من الإبل، ترجّح أن تكون دية ما دون هذه الجراح دون الخمس. ووجدت ابن قدامة -رحمه الله- يقول في "المغني" (9/ 657): عن الموضّحة: وهي أول الشجاج المؤقته، وما قبلها من الشجاج الخمس؛ فلا توقيت فيها في الصحيح من مذهب أحمد، وهو قول أكثر الفقهاء. يروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن أحمد رواية أُخرى أن في الدامية بعيراً، وفي الباضعة بعيرين وفي المتلاحمة ثلاثة، وفي السمحاق أربعة؛ لأن هذا يروى عن زيد بن

ثابت ... وبقيت الهاشمة وهي تقع بين الموضحة والمأمومة، وتقدّم أنّ في الموضحة خمساً، وفي المنقلة خمس عشرة، وهذا يلتقي ما ذكَره الفقهاء أن فيها عشراً من الإِبل. وقيل: إِنه روي موقوفاً على زيد ين ثابت؛ كما في "سنن الدارقطني" "والسنن الكبرى" للبيهقي و"مصنف عبد الرزاق" وانظر "الروضة الندية" (2/ 666). وعلى أيّ حالٍ فإِنّ هذا العدد -وهو العشر من الإِبل- راجحٌ في الهاشمة؛ لأنه -كما ذكرت- يقع بين الموضحة والمأمومة، أي بين إِيجاب الخمس والخمس عشرة. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد فيها عشْر من الإِبل (¬1). وجاء في كتاب "الإجماع عند أئمّة أهل السُّنة الأربعة": لابن هبيرة -رحمه الله- (ص 172): "واتفقوا على أنّ: الجروح قصاص في كل ما يتأتى منه القِصاص، ومن الجراح التي لا يتأتّى فيه القِصاص: الحارصة، هي: التي تشقّ الجلد قليلاً، وقيل: بل تكشطه ومنه قولهم حرص القصارُ الثوبَ، أي: شقّه، وتسمّى: (القاشرة) وتسمى: (المليطاء). ثم الباضعة: وهي التي تشق اللحم بعد الجلد. ثم البازلة: وهي تنزل الدم وتُسمّى الدامية والدامعة. ¬

_ (¬1) انظر "الإِجماع عند أئمّة أهل السُّنة الأربعة" (ص 173).

والمتلاحمة وهي: التي تغوص في اللحم. والسمحاق وهي: التي يبقى بينها وبين العظم جلدة رقيقة. فهذه الجراح الخمسة ليس فيها تقدير شرعي بإِجماع الأئمّة المذكورة -رضي الله عنهم- إِلا ما روي عن أحمد أنه ذهب إِلى حُكم زيد في ذلك، وهو أنّ زيداً -رضي الله عنه- حَكَم في الدامية ببعير، وفي الباضعة ببعيرين، وفي المتلاحمة بثلاثة أبعرة، وفي السمحاق بأربعة أبعرة. وقال أحمد: فأنا ذاهب إليه، وهذه رواية أبي طالب المسكاني عن أحمد، والظاهر مِن مذهبه؛ أنه لا مقدر فيها كالجماعة وهي الرواية المنصورة عند أصحابه. وأجمعوا على أنّ في كل واحدة منها حكومةً بعد الاندمال، والحكومة: أن يُقوّم المجني عليه قبل الجناية -كأنه كان عبداً- أو يقال: كم كانت قيمته قبل الجناية، وكم قيمته بعدها، فيكون له بقدر التفاوت من ديته. والخلاصة أن في الآتي من الشّجاج؛ ما يلي من الدِّيات: الحارصة فيها دون البعير وقدّرها بعضهم بخمس الدامية (¬1). والدامية والدامعة (¬2) فيها بعير واحد. والباضعة فيها بعيران. ¬

_ (¬1) جاء في "السيل الجرار" (4/ 449): "وقُدّر في حارصة رأس الرِّجل خمسة مثاقيل [أي خمسة دنانير من ذهب] وفي الدامية اثنا عشَر ونصف" ووافق الإمام الشوكاني صاحب "الأزهار" في هذا القول. (¬2) قال في "المغني" (9/ 657) بعد أن ذكَر الحارصة: قال "ثم البازلة وهي التي يبزُل منها الدم؛ أي يسيل، وتُسمى الدامية أيضاً والدامعة".

ما جاء في أرش الجروح غير المسماة والحكومة:

والمتلاحمة فيها 3 من الإِبل. والسّمحاق فيها 4 من الإِبل. والموضحة فيها 5 من الإِبل. والهاشمة فيها 10 من الإِبل. والمنقّلة فيها 15 من الإِبل. والمأمومة فيها 1/ 33.3 من الإِبل. والله -تعالى- أعلم. ويحسب عدل ذلك بالذهب؛ بالنظر إِلى أجزاء الدية؛ كالربع والنصف والعُشر ... لخ والدية كاملة من الذهب؛ تعدل ألف دينار؛ كما تقدّم أكثر من مرّة. ما جاء في أرش الجروح غير المسمّاة والحكومة: جاء في "الروضة الندية" (2/ 666): "وما عدا هذه الجروح المسمّاة، فيكون أرشهُ بمقدار نِسبته إِلى أحدهما تقريباً؛ لأنّ الجناية قد لَزِم أرْشها بلا شك، إِذ لا يُهدَر دم المجني عليه بدون سبب، ومع عدم ورود الشرع بتقدير الأرش؛ لم يبق إِلا التقدير بالقياس على تقدير الشارع. وبيان ذلك: أنّ المُوضحة إِذا كان أرْشها نصف عشر الدية -كما ثبتَ عن الشارع- نظَرْنا إِلى ما هو دون الموضحة من الجنايات، فإِنْ أخذت الجناية نصف اللحم، وبقي نصفه إِلى العظم؛ كان أَرش هذه الجناية نصف أرش الموضحة، وإِنْ أخذت ثلثه؛ كان الأرش ثلث أرش الموضحة، ثم هكذا. وكذلك إِذا كان المأخوذ بعض الأصبع؛ كان أرشه بنسبة ما أُخذ من

الأصبع؛ إِلى جميعها، فأرشها نصف الأصبع؛ عشر الدية، ثم كذلك. وهكذا الأسنان؛ إِذا ذهب نصف السن؛ كان أرشه نصف أرش السن. ويُسلك هذا في الأمور التي تلزم فيها الدية كاملة كالأنف؛ فإذا كان الذاهب نصفَه؛ ففيه نصف الدية، ... ، ونحو ذلك، فهذا أقرب المسالك إِلى الحق، ومطابقة العدل، وموافقة الشرع. أقول ... [الكلام لصاحب الروضة]: اعلمْ أنّ كل جناية فيها أرش مُقدَّر من الشارع -كالجنايات التي في حديث عمرو بن حزم الطويل (¬1) وفي غيره؛ مما ورد في -معناه- فالواجب الاقتصار في المقدار، على الوارد في النصّ. وكل جناية ليس فيها أرش من الشارع، بل ورَد تقرير أرشها عن صحابي أو تابعي، أو من بعدهما- فليس في ذلك حُجّة على أحد، بل المرجع في ذلك نظر المجتهد، وعليه أن ينظر في مِقدار نِسبتها؛ من نسبة الجناية التي ورد في أرش مُقدَّر من الشارع، فإِذا غلب في ظنه مقدار النسبة؛ جعل لها من الأرش مقدارَ نِسْبتها. مثلاً الموضِحة ورد في الشرع تقدير أرشها، فإِذا كانت الجناية دون الموضحة كالسِّمْحَاق والمتلاحمة والباضعة والدامية؛ فعليه أن ينظر -مثلاً- مقدار ما بقي من اللحم إِلى العظم، فإِن وجده مقدار الخمس، والجناية قد قطعت من اللحم أربعة أخماس؛ جعل في الجناية أربعاً من الإِبل أو أربعين (¬2) مثقالاً؛ لأن مجموع أرش الموضحة خمس من الإِبل، وإِنْ وجد الباقي من اللحم ثلثاً؛ جعل ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه. (¬2) وذلك لأنها على أهل الذهب ألف دينار؛ كما تقدم في أثر ابن عمر -رضي الله عنهما-.

أرش الجناية بمقدار الثلثين من أرش الموضحة، ثم كذلك إِذا بقي النصف أو الربع أو الخمس أو العشر وهكذا في سائر الجنايات التي لم يَرِدْ تقدير أرْشها، فإِنه ينبغي النسبة بينها وبين ما وَرَد تقدير أرشه من جنسها ... ". وجاء في "السيل الجرّار" (4/ 450): "أقول: قد تقرر عصمة الدّماء، وأنه لا يَحلّ إِراقة شيء منها بغير حقِّه، ولا الجناية على مَعْصوم الدم؛ من غير فرق بين أن تكون صغيرة أو كبيرة وَرَد في الشرع تقديرها أو لم يَرِد. فمن جنى على غيره جنايةً ظاهرة الأثر، ولم يَرِد في الشرع لها تقدير، كما في دون الموضحة وسائر ما أشار إِليه المصنّف؛ فلا يكون عدم ورود الشرع بتقديرها مقتَضياً لإِهدارها، وعدم لزوم أرْشها بلا خلاف، وإِلا لزم إِهدار ما هو معصوم بعصمة الشرع، واللازم باطل بالإِجماع فالملزوم مثله. فالجناية التي لم يَرِد الشرع بتقديرها؛ لابدّ من الرجوع في التقدير إِلى شيء يكون على طريقة العدل لا حَيْف فيها على الجاني، ولا على المجني عليه، فيُنظر مثلاً في قدر اللحم الذي ذَهَب بالجناية، وقَدْر ما بقي إِلى ما ورد فيه التّقدير من الشرع، فيلزم فيه بنسبته إِلى ذلك الذي ورد فيه التقدير. فإِذا كان المأخوذ نِصفَ اللحم والباقي فوق العظم نصفه كان أرشها نصف أرش الموضِحة. وإذا كان المأخوذ ثلثاً كان أرشها ثلث أرش الموضِحة، ثمّ كذلك، ويكون المرجع في هذا التقدير إِلى أهل الاختبار بالجنايات. فإِذا أخبروا الحاكم بأن المأخوذ كذا؛ قَرّبه الحاكم إِلى أرش ما وَرَد به الشَّرع بحسب نِسبته إِليه، وهكذا في العضو الزائد، وسِنّ الصبي، وذهاب الشّعر

دية المرأة:

والجمال، وما لا نَفْع فيه. وقد قدَّمنا ما يدل على أنه لم يَثْبت في الشرع، تقدير ما دون الموضِحة، فما ذكَره المصنف هنا من تَقدير أرش الدامية والباضعة والسِّمحَاق؛ هو مِن هذا القبيل الذي ذكَرناه، فإِنْ وافق نظَر الحاكم الخبير بما ورد قرّره، وإِلا فعل ما يَتَرجّح له، فليس في ذلك حَجر، ولا يكون تقْدير المتقدم حُجّةً على المتأخر؛ إِذا كان الصواب عنده في مخالفته. وهكذا الكلام في أرش الدامية (¬1) والمتلاحمة والحارصة (¬2) والوارمة". دية المرأة: دية المرأة إِذا قُتلَت خطأً؛ على النصف من دِيَة الرجل. عن شريح قال: "أتاني عروة البارقي من عند عمر: أنّ جراحات الرجال والنساء؛ تستوي في السنِّ والموضّحة، وما فوق ذلك؛ فدية المرأة على النّصف من دية الرجل" (¬3). جاء في "المغني" (9/ 531): قال ابن المنذر وابن عبد البرّ: "أجمع أهل ¬

_ (¬1) وكان تقدير المصنف الذي أشار إِليه الإِمام الشوكاني -رحمه الله- في الدامية اثنا عشر ونصف من المثقال، وفي الباضعة عشرون، وفي السمحاق أربعون مثقالاً؛ على اعتبار المثقال هنا هو الدينار من الذهب. (¬2) وقدّر صاحب "الأزهار" الحارصة بثلث دية الدامية. انظر "السيل" (4/ 449). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة بإِسناد صحيح، وانظر "الإِرواء" (2250).

العلم أنّ دية المرأة نصف دية الرجل" (¬1). وأمّا حديث عمرو بن حزم: "دِية المرأة على النّصف من دية الرجل" فلم يثبت مرفوعاً (¬2). وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: "قلت لسعيد بن المسيب: كم في أصبع المرأة؟ قال عشرٌ من الإِبل. قلت: فكم في أصبعين؟ قال: عشرون، قلت: ففي ثلاث أصابع، قال ثلاثون، قلت: ففي أربع؟ قال: عشرون. قال: فقلت: لمّا عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقَص عقلها؟! قال سعيد: أعراقي أنت؟ قلت بل عالم متثبت أو جاهل متعلم، قال: هي السُّنة يا ابن أخي" (¬3). وقول سعيد بن المسيب: "هي السُّنة يا ابن أخي" ليس في حُكم المرفوع؛ لأنه تابعيّ، فلا يترتّب على ذلك الحكم المنصوص به؛ والله -تعالى- أعلم. ¬

_ (¬1) وقال في تتمّة الكلام: "وحكى غيرهما عن ابن عليّة والأصمّ؛ أنهما قالا: ديتها كدِية الرجل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "في النفس المؤمنة مائة من الإِبل" وهذا قول شاذٌ يخالف إِجماع الصحابة وسُنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... ". (¬2) قال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (7/ 308): "لم أره في شيء من طُرُق حديث عمرو بن حزم، وتقدّم عن الحافظ ابن حجر جزْمه بنفي وجود الشطر الأوّل من هذا في حديث ابن حزم ... ". (¬3) أخرجه مالك في "الموطأ" وغيره وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده إِلى سعيد في "الإِرواء" (2255) وقال: "وقوله "السُّنّة" ليس في حُكم المرفوع؛ كما هو مقرّرٌ في "المصطلح".

دية أهل الكتاب:

دية أهل الكتاب: ودية أهل الكتاب في قتل الخطأ على النّصف مِن دية المسلمين. عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "دية المعاهد (¬1) نصف دية الحر" (¬2). وفي لفظ: "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بأنّ عقْل أهل الكتاب نصف عقْل المسلمين" (¬3). وفي لفظ: "عقْل الكافر نصف عقْل المؤمن" (¬4). وفي لفظ: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قضى أنّ عقْل أهل الكتابين؛ نصف عقْل المسلمين، وهم اليهود والنصارى" (¬5). وهناك من يقول إِنّ دِيَته مثل دية المسلم، واحتجّوا بقوله -تعالى-: {وإِن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدِيةٌ مُسلَّمة إِلى أهله وتحرير رقبة ¬

_ (¬1) دية المعاهد: أي الذمّي. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3831) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2139) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4469) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1142)، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2251). (¬3) انظر "الإِرواء" (2251) والمصادر السابقة. (¬4) انظر "صحيح النسائي" (4470). (¬5) انظر "صحيح النسائي" (4469) و"صحيح ابن ماجه" (2139).

فائدة:

مؤمنة} (¬1). ويجاب بأن هذا إِجمالٌ مُبيَّنٌ في السُنّة النبويّة المطهرة، وأنها على النصف مِن دية المسلم. ثمّ إِن لفظ (ديَة) قد جاء نكرة غير معلومة القيمة، وحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرّف قدْرها وقيمتها. وهناك عددٌ من الآثار؛ ذَكرها جمْعٌ من العلماء (¬2)؛ بعضها ينصُّ أن دية أهل الكتاب كدية المسلمين، وبعضها ينصّ على أنّ ديتهم على النصف من دية المسلمين، وبعضها ينصّ على أن ديتهم على الثلث من دية المسلمين. والفصل في ذلك حديث النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخير الهدي هدي محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وبالله التوفيق. فائدة: إِذا قَتَل مسلمٌ كافراً عمْداً؛ أُضعفت ديته لإِزالة القَوَد؛ وقد قضى بذلك عثمان -رضي الله عنه-. عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّ رجُلاً مسلماً قَتلَ رجُلاً مِن أهل الذّمة عمداً، ورُفع إِلى عثمان -رضي الله عنه- فلم يقتُله، وغلّظ عليه الديَة مثل دم المسلم" (¬3). ¬

_ (¬1) النساء: 92. (¬2) انظر لذلك -إِن شئت- تفسير الإمام الطبري -رحمه الله-. (¬3) أخرجه أحمد، والدارقطني، وعنه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2262).

دية الجنين:

وجاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 146): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن رجل يهودي قَتلَه مسلم: فهل يُقتَل به؟ أو ماذا يجب عليه؟ فأجاب: الحمد لله، لا قِصاص عليه عند أئمّة المسلمين، ولا يجوز قتْل الذمّي بغير حقّ؛ فإنه قد ثبَت في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يقتَل مسلم بكافر" (¬1). ولكن تجب عليه الدية، فقيل: الدِّية الواجبة نصف دِيَة المسلم. وقيل: ثُلُث دِيتَه، وقيل: يفرّق بين العمد والخطأ، فيجب في العمد مثل دية المسلم ويُروى ذلك عن عثمان بن عفّان -رضي الله عنه- أنّ مسلماً قتَل ذمّياً فغلظ عليه، وأوجب عليه كمال الدية، وفي الخطأ نصف الدية، ففي السنن عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنه جعل دية الذمّي نصف دية المسلم". وعلى كل حال تجب كفّارة القتل أيضاً، وهي عتق رقبة مؤمنة، فإِن لم يَجِدْ فصيام شهرين متتابعين". دية الجنين: "إِذا مات الجنين بسبب الجناية على أمّه عمداً أو خطأ، ولم تمُت أمّه وجَب فيه غُرَّة (¬2)، سواء انفصل عن أمه وخرج ميتاً، أم مات في بَطنها، وسواء أكان ذكراً أم أنثى" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6903)، وتقدّم. (¬2) سيأتي معنى الغُرَّة -إن شاء الله تعالى- في العنوان الآتي بعده. (¬3) عن "فقه السنة" (3/ 346).

ما هي الغرة؟

هُذيل اقتَتَلتا، فرمت إِحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنَها وهي حامل، فقَتلت ولدها الذي في بَطنها. فاختصَموا إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقضى أن دية ما في بطنها غُرَّة عبدٌ أو أمة. فقال وليُّ المرأة التي غَرِمت: كيف أغرَمُ يا رسول الله من لا شَرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهلّ (¬1)، فمثل ذلك يُطلّ (¬2)؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنما هذا من إِخوان الكهان (¬3) " (¬4). ما هي الغُرة؟ قال الإِمام النووي -رحمه الله-: "قال أهل اللغة: الغُرّة عند العرب أنفس شيء". وقال ابن الأثير -رحمه الله- في "النهاية": "الغُرّة: العبد نفْسُه أو الأمة، وأصل الغُرّة: البياض الذي يكون في وجه الفَرس، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: الغرّة عبدٌ أبيض أو أمة بيضاء، وسمي غرّةً لِبياضِه، فلا يُقبَل في الدية عبدٌ أسود ولا جارية سوداء، وليس ذلك شرطاً عند الفقهاء ... ". قال الإِمام النووي -رحمه الله- (11/ 176): "واعلم أنّ المراد بهذا كلِّه؛ إِذا انفصل الجنين ميتاً أمّا إذا انفصل حيّاً ثم مات؛ فيجب فيه كمال الدّية؛ ¬

_ (¬1) استهلال الصبيّ: تصويته عند ولادته. "النهاية". (¬2) أي يُهدَر، يقال: دم فلان هُدر إِذا تُرك الطَّلب بثأره "الفتح". (¬3) أي لمشابهة كلامه كلامهم. "الفتح". (¬4) أخرجه البخاري (5758)، مسلم (1681).

لمن تجب وعلى من؟

فإِنْ كان ذكراً وجب مائة بعير، وإِن كان أُنثى؛ فخمسون، وهذا مُجمع عليه، وسواء في هذا كلّه العمدُ والخطأ". قال الحافظ في "الفتح" (12/ 250): "وعلى قول الجمهور فأقل ما يجزئ من العبد والأمة؛ ما سلم من العيوب التي يثبت بها الرد في البيع؛ لأن المعيب ليس من الخيار. واستنبط الشافعي من ذلك أن يكون منتفعاً به، فشرط أن لا ينقص عن سبع سنين؛ لأن من لم يبلغها لا يستقل غالباً بنفسه؛ فيحتاج إِلى التعهد بالتربية، فلا يجبر المستحق على أخذه" انتهى. وعن بريدة " أن امرأة حذفت امرأة (¬1) فأسقطت، فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ولدها خمسين شاة، ونهى يومئذ عن الخذف (¬2) " (¬3). لمن تجب وعلى من؟ تجب للورثة؛ وهي على عاقلة الجاني. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في جنين امرأة من بني لحْيان؛ بغُرّة عبد أو أمَة، ثمّ إِن المرأة التي قضى عليها بالغرة تُوفّيت فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل (¬4) على عَصبَتها" (¬5). ¬

_ (¬1) أي: رَمَتها. (¬2) الخذف: أي رمي الحصاة. (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائى" (4476). (¬4) قال الكرماني (24/ 34): "أي دية الجنين على عَصَبَة المقضي عليها". (¬5) أخرجه البخاري (6909).

مسألة:

وقد ورد في بعض الروايات أنّ المرأة التي قَتلت، ضربت ضَرَّتها بعمود فسطاط وفيه:- "فقضى في الجنين بغرّة". وفي لفظ: "فقضى فيه بغُرّة، وجعلَه على أولياء المرأة" (¬1). قال الإِمام النووي -رحمه الله- (11/ 176): "ومتى وَجبت الغُرّة فهي على العاقلة؛ لا على الجاني، هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وسائر الكوفيين -رضي الله عنهم- وقال مالك والبصريون: تجب على الجاني، وقال الشافعي وآخرون: يلزم الجاني الكفّارة. وقال بعضهم: لا كفّارة عليه، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة -رضي الله عنهما- والله أعلم". انتهى. ورجّح شيخ الإِسلام -رحمه الله- الكفّارة؛ كما في العنوان الآتي: مسألة: إِذا قال الرجل لزوجته أسقطي ما في بطنك والإثم عليّ: جاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 159): "وسئل -رحمه الله- عن رجل قال لزوجته: أسقطي ما في بطنك والإِثم عليّ، فإِذا فعَلت هذا، وسَمعت منه؛ فما يجب عليهما من الكفّارة؟ فأجاب: إِنْ فعَلت ذلك فعليهما كفّارة رقبة مؤمنة، فإن لم يجدا فصيام شهرين متتابعين، وعليهما غُرّة عبد أو أَمَة لوارثه الذي لم يقتله؛ لا للأب، فإِنّ الأب هو الآمر بقتله، فلا يستحق شيئاً". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1682).

وجاء فيه (ص 161): "وسئل -رحمه الله- عن امرأة حامل تعمّدت إِسقاط الجنين إِمّا بضربٍ، وإِما بشرب دواء؛ فما يجب عليها؟ فأجاب: يجب عليها بسُنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واتفاق الأئمّة؛ غرّة عبد أو أَمَة، تكون هذه الغرة لورثة الجنين؛ غير أمّه، فإنْ كان له أب كانت الغرة لأبيه، فإنْ أحب أن يسقط عن المرأة فله ذلك، وتكون قيمة الغرة عشر ديَة، أو خمسين ديناراً وعليها أيضاً عند أكثر العلماء عتْق رقبة، فإِن لم تجِدْ؛ صامت شهرين متتابعين، فإِن لم تستطِع؛ أطعمت ستين مسكيناً" (¬1). وجاء في "الروضة النديّة" (2/ 668): "وأمّا إِذا خرج الجنين حيّاً، ثم مات مِن الجناية؛ ففيه الدِّيَة أو القَوَد". قلت: وهذا القَوَد إِذا كان عمداً. وقد اختلف العلماء في وجوب القِصاص في القتل بالمثقل. قال الحافظ في "الفتح": "عقب الحديث المتقدّم: "واستدل به على عدم وجوب القِصاص في القتل بالمثقل؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر فيه بالقَوَد وإِنما أمر بالدية. وأجاب من قال به بأن عمود الفسطاط يختلف بالكبر والصغر؛ بحيث يقتل بعضه غالباً ولا يقتل بعضه غالباً، وطرد المماثلة في القصاص إِنما يشرع فيما إِذا وقعت الجناية بما يقتل غالباً. ¬

_ (¬1) وبناء على قوله -رحمه الله- (عشر دية) أقول: إِذا كانت الخمسون ديناراً عشر دية؛ فالدية كاملة خمسمائة دينار من ذهب. وقد سبق أن الدية ألف دينار من ذهب، وفي حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- بلغت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بين أربعمائة دينار إِلى ثمانمائة دينار، وذكر بعض الفقهاء أنها نصف عشر الدية والأول أرجح. والله -تعالى- أعلم.

وفي هذا الجواب نظر، فإن الذي يظهر أنه إنما لم يوجب فيه القَوَد؛ لأنها لم يقصد مثلها، وشرط القَوَد العمد، وهذا إنما هو شبه العمد، فلا حُجّة فيه لقتلٍ بالمثقل ولا عكسه" (¬1). وجاء في "السيل الجرار" (4/ 414): " ... وأمّا إذا كانت الآلة مثلها يقتل في العادة، وإن لم يكن من المحدّد؛ فإن القصاص فيها واجب، كما تقدم في رضّ رأس اليهودي الذي رضّ رأس الجارية، وكما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث حمل بن مالك قال: "كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فَقَتلتها وجنينها، فقضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جنينها بغُرّة، وأن تُقتل بها" (¬2). وقد ذهب إلى وجوب القصاص في مثل هذا الجمهور -وهو الحقّ- وأدلة الكتاب والسنة المثبتة للقصاص تشمله، وليس بيد من قال إنه لا قصاص في القتل بغير المحدّد مطلقاً دليل تقوم به الحجة، ولا حجة فيما ورد من طريق الكذّابين والوضّاعين. وقد بيّن لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخطأ الذي هو شبه العمد بياناً شافياً، فلنقتصر عليه، ونردّ ما عداه إلى ما شرعه الله لعباده من القصاص في العمد العدوان". ¬

_ (¬1) "الفتح" (12/ 250). (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2136) من حديث عمر بن الخطاب، أنه نشد الناس قضاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك -يعني في الجنين- فقام حمل بن مالك بن النابعة فقال: "كنت بين امرأتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وقتلت جنينها، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنين بغرة عبد، وأن تقتل بها". أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3825).

فائدة:

فائدة: إِذا خَرج الجنين حيّاً ثمّ مات؛ ففيه الكفّارة مع الدّيَة لأنه يتبع الأصل العام في حُكم الدِّيات، وتقدّم ما قاله الإِمام النووي -رحمه الله- غير بعيد. لا ديَة إِلا بعد البُرء: تقدّم في باب القِصاص أنه لا يجوز أن يقتصّ من الجراحة حتى تندمل جراحة المجني عليه، مع الدليل على ذلك، وكذلك الحال في الدية، فإِنه لا يُعقل حتى يبرأ المجروح ويصحّ. وجود قتيل بين قومٍ متشاجرين: إِذا عميَ أمرُ قتيل في قوم؛ كان بينهم رمْيٌ بالحجارة أو السياط، أو ضرْبٌ بالعصيّ، أو نحو ذلك؛ فهو خطأ، وديته دية الخطأ، أمّا مَن قَتَل عمداً؛ فإِنه يقتصّ منه. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَنْ قُتِلَ في عمِّيًّا في رمي يكون بينهم بحجارة، أو بالسياط، أو ضربٍ بعصا؛ فهو خطأ وعقْله عقْل الخطأ، ومن قُتِل عمداً فهو قَوَد، ومن حال دونه (¬1)، فعليه لعنة الله وغضبه، لا يقبل منه صرف (¬2) ولا عدل (¬3) " (¬4). ¬

_ (¬1) ومن حال دونه: أي دون القاتل بأن منَع الوليَّ عن القِصاص منه، أو مَنْ حال دون القِصاص: أي منَع المستحقّ عن استيفاء القِصاص. انظر "المرقاة" (7/ 38). (¬2) الصرف: التوبة، وقيل النافلة "النهاية". (¬3) العدل: الفدية وقيل الفريضة. "النهاية". (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3804) وابن ماجه "صحيح سنن =

هل يضمن راكب الدابة؟

هل يضمن راكب الدابّة؟ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "العَجْماء (¬1) جرحُها جُبار (¬2)، والمعدِنُ جُبار، وفي الركاز الخمس" (¬3). بيّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن العجماء جرحها جُبار، أي: ما أتلفته بجرح أو غيره هدر، لا يضمنه صاحبها ما لم يفرط، لأنّ الضمان لا يكون إِلا بمباشرة أو سبب، وهو لم يَجْن ولم يتسبب، وفِعْلها غير منسوب إِليه، نعم إِنْ كان معها ضمن ما أتلفته ليلاً ونهاراً عند الشافعي" (¬4). قال الإِمام النووي -رحمه الله- (11/ 225) -بحذف-: "فأمّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: العجماء جرْحها جُبار؛ فمحمول على ما إِذا أتلفَت شيئاً بالنهار، أو أتلفت بالليل بغير تفريطٍ من مالكها، أو أتلفت شيئاً وليس معها أحد، فهذا غير مضمون وهو مراد الحديث. فأمّا إِذا كان معها سائق أو قائد أو راكب فأتلفَت بيدها أو برجلها أو فمها ونحوه؛ وجَب ضمانه في مال الذي هو معها، سواءٌ كان مالكاً أو مستأجراً أو ¬

_ = ابن ماجه" (2131) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4456)، وانظر "المشكاة" (3478) وتقدّم. (¬1) العجماء: -بالمدّ- هي كل الحيوان سوى الآدميّ، وسمّيت البهيمة عجماء؛ لأنّها لا تتكلّم. (¬2) جُبار: أي هدْر. (¬3) أخرجه البخاري (6912)، ومسلم (1710). (¬4) انظر "فيض القدير" (4/ 376).

مستعيراً أو غاصباً أو مودِعاً أو وكيلاً أو غيره، إِلا أن تتلف آدمياً فتجب ديته على عاقلة الذي معها والكفّارة في ماله، والمراد بجرح العجماء إِتلافها سواء كان بجرح أو غيره. قال القاضي: أجمع العلماء على أنْ جناية البهائم بالنهار لا ضمان فيها إِذا لم يكن معها أحد، فإِن كان معها راكب أو سائق أو قائد فجمهور العلماء على ضمان ما أتلفته ... وجمهورهم على أن الضارية من الدواب كغيرها على ما ذكَرناه، وقال مالك وأصحابه: يضمن مالكها ما أتلفت، وكذا قال أصحاب الشافعي: يضمن إِذا كانت معروفةً بالإِفساد، لأن عليه ربطها والحالة هذه ... ". وقال الإِمام البخاري -رحمه الله- في كتاب "الديات: باب - 29": "قال ابن سِيرين: كانوا لا يُضمِّنونَ مِن النَّفْحَةِ (¬1) ويضمّنون مِن ردِّ العِنان (¬2). وقال حمّادٌ: لا تُضمَنُ النَّفْحة إِلا أن يَنْخُسَ إِنسان الدَّابة (¬3). وقال شريح: لا يُضمنُ ما عاقَبَت أن يَضْرِبها فَتَضرِبَ بِرِجْلها (¬4). ¬

_ (¬1) أي: الضربة بالرِّجل. يقال: نفحَت الدابة إِذا ضَرَبَت بِرجلها. "الفتح". (¬2) العِنان: هو ما يوضع في فم الدابة ليصرّفها الراكب كما يختار، والمعنى: إِنّ الدابة إِذا كانت مركوبه فَفَلتَ الراكب عِنانها، فأصابت بِرجلها شيئاً؛ ضَمنه الراكب، وإذا ضَرَبت برجلها من غير أن يكون له في ذلك تسبُّب لم يضمن. "الفتح". (¬3) وصل بعضه ابن أبي شيبة من طريق شعبة: سألْتُ الحكم عن رجل واقف على دابته فضَربَت برجلها؟ فقال: يضمن، وقال حمّاد: لا يضمن. (¬4) وصله ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور.

وقال الحكم وحمّاد: إِذا ساق المُكَاري حِماراً عليه امرأة فتَخِرُّّ، لا شيء عليه. وقال الشعبي: إِذا ساق دابَّة فأتعبَها، فهو ضامِنُ لِمَا أصابَتْ، وإِنْ كان خلفها مُترسِّلا؛ لم يَضمَن (¬1) ". وجاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 149): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن رجل راكب فرس، مرّ به دباب ومعه دبّ، فجفَل الفرس ورمى راكبه، ثمّ هرب ورمى رجلاً فمات؟ فأجاب: لا ضمان على صاحب الفرس والحالة هذه؛ لكنّ الدباب عليه العقوبة. والله أعلم". وممّا تقدّم يظهر لنا أن جرح الدابة هدر ولا ضمان على صاحبها، إلاَّ إِنْ كان هناك تفريط أو تسبُّبٌ مِن صاحبها، وفيما مضى من التفصيل كفاية. والله -تعالى- أعلم. وما تقدّم مِن قول؛ فغالبه يمضي على المراكب المعاصرة؛ كالسيارات ونحوها، فإِنْ كان السائق أو صاحب السيّارة مُفرِّطاً أو متسبّباً؛ لزِمه الضمان، كأن يسير في إِطارات مهترئة، أو أن يقف في مكان مُرتفع ويستهتر فيجعلها عُرضة للسقوط أو الانتقال، لعدم رفعه الكابح اليدوي ... ¬

_ (¬1) وصله سعيد بن منصور وابن أبي شيبة. وانظر "الفتح" و"مختصر البخاري" (4/ 232) للتخريجات السابقة.

ماذا إذا صدم راكب السيارة أو الدابة سيارة أو دابة واقفة؟

ماذا إِذا صدم راكب السيارة أو الدابة سيارةً أو دابةً واقفة؟ جاء في "المغني" (10/ 360): "وإنْ كان أحدهما (¬1) يسير والآخر واقِفاً؛ فعلى السائر قيمة دابّة الواقف". نصّ أحمد على هذا لأنّ السائر هو الصادم المتلف، فكان الضمان عليه، وإِنْ مات هو أو دابته فهو هدْر، لأنه أتلف نفسَه ودابّته، وإن انحرفَ الواقف فصادفت الصدمة انحرافه، فهما كالسّائرين لأنّ التلف حصل مِنْ فِعْلهما". ماذا إِذا كان الواقف متعدّياً؟ وجاء في "المغني" (10/ 360) أيضاً: "وإِنْ كان الواقف متعدياً بوقوفه مثل أن يقف في طريق ضَيق فالضمان عليه دونَ السائر؛ لأنّ التلف حَصَل بتعدِّيه، فكان الضمان عليه؛ كما لو وضع حجراً في الطريق، أو جلس في طريقٍ ضيق؛ فعثُر به إِنسان". حُكم قتْل الدابَّة والجناية عليها: وأمّا الدابة إِذا قَتلَها قاتل ففيها قيمتها، وإِذا جنى عليها كان الأرشُ مقدارَ نقْصِ قيمتها بالجناية. وهذا وإنْ لم يقم عليه دليل بخصوصه؛ فهو معلوم من الأدلة الكلية، لأنّ العبد وسائر الدواب مِن جملة ما يملكه الناس، فمَن أتلفه كان الواجب عليه قيمته، ومَن جنى عليه جناية تنقصه؛ كان الواجب عليه أرش النقص. كما لو جُني على عينٍ مملوكة من غير الحيوانات؛ وكان الأولى أن يكون المملوك كسائر ¬

_ (¬1) أي أحد الفارِسَين.

ما أفسدت البهائم بالليل من الزرع فهو مضمون على أهلها وما أفسدت من ذلك نهارا لم يضمنوه:

الدواب؛ يجب في الجناية عليه نقْص القيمة" (¬1). ما أفسدت البهائم بالليل من الزرع فهو مضمون على أهلها وما أفسدت من ذلك نهاراً لم يضمنوه: يعني إِذا لم تكن يدُ أحدٍ عليها؛ فإِِن كان صاحبها معها أو غيره؛ فعلى مَنْ يده عليها ضمان ما أتلفته مِن نفس أو مال ... وإِنْ لم تكن يدُ أحدٍ عليها، فعلى مالكها ضمانُ ما أفسدته من الزرع ليلاً دون النّهار، وهذا قولُ مالك والشافعي وأكثر فقهاء الحجاز (¬2). ودليل ذلك: "أن ناقةً للبراء بن عازب -رضي الله عنه- دخَلت حائط رجل، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ على أهل الحوائطِ حفظَها في النّهار، وأنّ ما أفسدت المواشي بالليل ضامنٌ على أهلها (¬3) ". قال في "المغني" (10/ 357): "قال بعض أصحابنا: إِنما يضمَن مالكُها ما أتلفته ليلاً، إِذا كان التفريط منه بإِرسالها ليلاً، أو إِرسالها نهاراً ولم يضمّها ليلاً، أو ضَمّها بحيث يمكنها الخروج، أما إِذا ضَمَّها فأخرَجها غيره بغير إِذنه، أو فتَح عليها بابها؛ فالضمان على مُخرِجها أو فاتحِ بابها لأنه المتِلف". ¬

_ (¬1) انظر "الروضة الندية" (2/ 662). (¬2) انظر "الغني" (10/ 356). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3048) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1888)، وانظر "الصحيحة" (238).

ضمان صاحب الكلب العقور ونحوه:

ضمان صاحب الكلب العقور ونحوِه: ومن اقتنى كلباً عقوراً؛ فأطلقه، فعقَر إِنساناً أو دابَّة، ليلاً أو نهاراً، أو خرق ثوب إِنسان؛ فعلى صاحبه ضمانُ ما أتلفه لأنه مُفرط باقتنائه؛ إِلا أن يدخل إِنسانٌ داره بغير إِذنه، فلا ضمان فيه؛ لأنه مُتعدٍ بالدخول متسبِّبٌ بعدوانه إِلى عَقْر الكلب له، وإنْ دخَل بإِذن المالك فعليه ضمانهُ، لأنه تسبب إِلى إِتلافه. وإِنْ أتلفَ الكلبُ بغير العقر؛ مِثْل أن ولَغ في إِناء إِنسان أو بال؛ لم يضمنهُ مقتنيه، لأنّ هذا لا يختص به الكلب العَقور. قال القاضي: وإِن اقتنى سنوراً يأكل أفراخ الناس ضَمِن ما أتلفه كما يضمن ما أتلفه الكلب العقور، ولا فرق بين الليل والنهار (¬1). ضمان صاحب الطيور: وإِن اقتنى حماماً أو غيره من الطير؛ فأرسله نهاراً فلقط حباً؛ لم يضمنه؛ لأنه كالبهيمة، والعادة إِرساله (¬2). وإِن كان له طيرٌ جارح -كالصقر والبازي- فأفسد طيور الناس وحيواناتهم؛ ضمن (¬3). لا ضمان في قتْل الحيوان الضارّ: ويشرع قتل الحيوان الذي ورد النَصُّ بقتْله. ¬

_ (¬1) انظر "المغني" (10/ 358). (¬2) انظر المصدر السابق. (¬3) انظر "فقه السنة" (3/ 355).

عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خمسٌ من الدواب كلهنّ فاسقٌ؛ يُقتلن في الحرم: الغراب (¬1) والحِدَأة (¬2)، والعقرب والفأرة والكلب العَقور" (¬3). وفي لفظ: "خمسٌ فواسقُ يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العَقور والحُدَيّا" (¬4). وفي رواية: "العقرب" بدل الحيّة (¬5). وقد ورد النهي عن قتل أربع من الدواب، كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصُّرَد (¬6) " (¬7). ¬

_ (¬1) وفي رواية عند مسلم (1198) والغراب الأبقع. قال ابن قُدامة -رحمه الله- "يلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء وتحريم الأكل"، وانظر للمزيد من الفائدة في مسألة الغراب الأبقع. ما جاء في "الفتح" تحت الحديث (1831). (¬2) الحِدَأة: طائر من الجوارح؛ ينقضّ على الجُرذان والدواجن والأطعمة ونحوها. (¬3) أخرجه البخاري (1829)، ومسلم (1198). (¬4) أخرجه مسلم (1198). (¬5) أخرجه البخاري (1829) ومسلم (1199). (¬6) الصُّرد: طائرٌ ضخْم الرأس والمنقار، له ريش عظيم، نصفه أبيض، ونصفه أسود. "النهاية". (¬7) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (4387) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2609)، وانظر "الإِرواء" (2490).

قال النووي: "فالمنصوص عليه الستّ" أي: الحية والغراب والفأرة والكلب العَقور والحِدَأة والعقرب. وعن أم شريك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أمَرَها بقتل الأوزاغ" (¬1). ولا ضمان في قَتْلها، ولا في غيرها من السباع والحشرات الضارّة. قال النووي -رحمه الله-: "واتفق جماهير العلماء على جواز قتْلهنّ في الحِلّ والإِحرام، واتفقوا على أنه يجوز للمحرم أن يقتُل ما في معناهنّ، ثمّ اختلفوا في المعنى فيهنّ وما يكون في معناهنّ، فقال الشافعي -رحمه الله-: "المعنى جواز قتلهنّ؛ كونهنّ ممّا لا يُؤكل، وكل ما لا يُؤكَل ولا هو متولد من مأكول وغيره؛ فقتْله جائز للمحرم، ولا فدية عليه". وقال مالك: "المعنى فيهن: كونهنّ مؤذيات، فكلّ مؤذٍ يجوز للمحرم قتله، وما لا فلا". قلت: وقول الإِمام مالك -رحمه الله- أصحّ لاشتراط علّة الإِيذاء. والله -تعالى- أعلم. وفي الكلب العقور قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 39): "واختلف العلماء في المراد به هنا، وهل لوصفه بكونه عقوراً مفهوم أو لا؟ فررى سعيد بن منصور بإِسناد حسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: الكلب العقور الأسد. وعن سفيان عن زيد بن أسلم أنهم سألوه عن الكلب العقور فقال: وأيّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3307)، ومسلم (2237).

إذا كانت الجناية من الظالم المعتدي فلا ضمان فيها:

كلب أعقر من الحية؟ وقال زفر: المراد بالكلب العقور هنا الذئب خاصة. وقال مالك في "الموطأ": كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب هو العقور. وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان، وهو قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: "المراد بالكلب هنا الكلب خاصة، ولا يلتحق به في هذا الحكم سوى الذئب" ...... واحتج بقوله -تعالى-: {وما عَلَّمتم من الجوارح مُكَلِّبين}، فاشتقها من اسم الكلب، فلهذا قيل لكل جارح: عَقور. واحتج الطحاوي للحنفية، بأن العلماء اتفقوا على تحريم قتل البازي والصقر -وهما من سباع الطير- فدلّ ذلك على اختصاص التحريم بالغراب والحِدَأة". إِذا كانت الجناية من الظالم المعتدي فلا ضمان فيها: إِذا كانت الجناية مِن ظالمٍ معتدٍ، فجنايته هدْرٌ، وليس له المطالبة بالقِصاص أو الدية، ومن صُور ذلك: 1 - سقوط أسنان العاضّ: عن عمران بن حصين "أن رجلاً عضّ يد رجل فنزع يده من فمه، فوقعت ثنيّتاه، فاختصموا إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يَعَضُّ أحدكم أخاه كما يعَضُّ الفحل، لا ديَة لك" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6892)، ومسلم (1673) وتقدّم.

وبوّب لذلك الإِمام النووي -رحمه الله- في "صحيح مسلم" فقال: "الصائل على نفس الإِنسان أو عضوه إِذا دفعه المصول عليه، فأتلف نفسه أو عضوه؛ لا ضمان عليه" (¬1). 2 - النظر في بيت غيره من غير إِذنه، فإِذا اطّلع رجُلٌ في بيت إِنسانٍ مِنْ ثُقب أو شقّ بابٍ أو نحوه؛ فرماه صاحب البيت بحصاة، أو طعَنَه بعود أو نحوه فقلَع عينه؛ لم يضمنها (¬2). عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال أبو القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو أنّ امرءاً اطلع عليك بغير إِذن، فحَذفته بحصاةٍ، ففقأت عينه؛ لم يكن عليك جُناح" (¬3). وفي رواية: "من اطّلع في بيت قوم بغير إِذنهم؛ ففقأُوا عينه، فلا دية له، ولا قِصاص" (¬4). وعن سهل بن سعد أن رجلاً اطّلع في جُحرٍ في باب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِدرَى (¬5) يحكُّ به رأسه -فلما رآه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو ¬

_ (¬1) انظر "صحيح مسلم" "كتاب القسامة" (باب - 14). (¬2) انظر -إِن شئت- المزيد ما جاء في "المغني" (10/ 355). (¬3) أخرجه البخاري (6902)، ومسلم (2158). (¬4) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4516) وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "الإِرواء" (2227). (¬5) المِدرى: شيءٌ يُعمل من حديد أو خشب، على شكل سنّ من أسنان المُشط وأطول منه، يسرّح به الشَّعر المتلبّد، ويستعمله مَن لا مُشط له. "النهاية".

أعلم أنك تنظرني لطعنْتُ به في عينيك، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنما جُعل الإِذن من قِبَل البصر" (¬1). فمن مجموع هذه النّصوص؛ يتضح لنا أنه لا جُناح على المرء في طعْن العين وفقْئها؛ عند الاطلاع غير المشروع، وكذلك لا دِيَة له ولا قِصاص. *فأمّا إِنْ تَرك الإِطلاع ومضى؛ لم يَجُز رمْيه، لأنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يطعن الذي اطلع ثم انصرف (¬2)، ولأنه ترَك الجناية، فأشبه من عضّ ثمّ ترَك العَضّ، فلم يجز قلْع أسنانه. وليس لصاحب الدار رمْي الناظر بما يقتله ابتداءً، فإِنْ رماه بحجر فقتَلَه، أو حديدة ثقيلة؛ ضَمنه بالقِصاص، لأنه إِنما له ما يَقْلع به العين المبصرة التي حصَل الأذى منها دون ما يتعدّى إِلى غيرها* (¬3). 3 - القتْل دفاعاً عن النّفس أو المال أو العرض: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاءَ رجُلٌ إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أرأيتَ إِنْ جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال فلا تعطِه مالك قال: أرأيت إِنْ قاتلني؟ قال: قاتِلْه قال: أرأيتَ إِنْ قتَلني؟ قال: فأنت شهيد قال: أرأيت إِنْ قتلتُه؟ قال: هو في النار" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6901)، ومسلم (2156). (¬2) في رواية: "فانقمع الأعرابي فذَهَب" "صحيح الأدب المفرد" برقم (815) وفي رواية أُخرى "فسدّده [أي: السهم] نحو عينيه حتى انصرف"، انظر "الصحيحة" (612). (¬3) ما بين نجمتين من كتاب "المغني" (10/ 356). (¬4) أخرجه مسلم (140).

ادعاء القتل دفاعا:

ولا يبدأ المرء بالقتل؛ فإِنه لا يجوز، وعليه أن يبذُل الأسباب في منْعَه وطرْده، فإِنْ أبى ضربه بأسهل ما يُخرجه به، فإِنْ رجّح أنه يخرج بضَرْب عصا؛ لم يجُز أن يضربه بحديد؛ لأنّ الحديد آلةٌ للقتل بخلاف العصا، وإِنْ ذَهب مُولِّياً؛ لم يكن له قَتْله ولا اتباعه، وإِنْ ضربَه ضربةً عطَّلته؛ لم يكن له أن يُثنّي عليه؛ لأنه كُفي شرّه (¬1). ادعاء القتل دفاعاً: إِذا قتلَ رجلٌ رجلاً، وقال: إِنه قد هجَم منزلي؛ فلم يمكنني دفعه إِلا بالقتل، لم يُقبَل قوله إِلا ببيّنة، وعليه القَوَد، سواء كان المقتول يُعرفُ بسرقة أو عيارة، أو لا يعرف بذلك. فإِنْ شهدت البينة أنهم رأوا هذا مُقبِلاً إِلى هذا بالسلاح المشهور، فضَرَبه هذا، فقد هُدر دمه، وإِن شهدوا أنهم رأوه داخلاً داره، ولم يذكروا سِلاحاً، لم يسقط القوَدَ بذلك، لأنه قد يدخل لحاجة، ومجرد الدخول المشهود به لا يوجب إِهدار دمه (¬2). هل يضمن ما أتلفته النار؟ *مَن أوقدَ ناراً في داره كالمعتاد، فهبّت الريح، فأطارت شرارةً؛ أحرقَتْ نفساً أو مالاً؛ فلا ضمان عليه. ¬

_ (¬1) انظر "المغني" (10/ 351). (¬2) المصدر السابق (10/ 354) -بحذف وتصرف يسيرين-.

في إفساد زرع الغير:

في إِفساد زرْعِ الغير: ولو سقَى أرضه سقياً زائداً على المعتاد، فأفسَد زَرْع غيره ضَمِن، فإِذا انصبَّ الماء مِنْ موضعٍ لا عِلْم له به؛ لم يضمن؛ حيث لم يَحدُث منه تعدٍّ. في غرق السفينة: مَنْ كان له سفينةٌ يعبر بها الناس ودوابّهم، فغَرِقت دون سبب مباشر منه؛ فلا ضمان عليه فيما تلف بها، فإِنْ كان غرقُها بسببٍ منه ضمن* (¬1). ضمان الطبيب: إِذا لم تكن درايةٌ بالطب للمرء، وتكلّف ذلك فعالجَ مريضاً، فآذاه أو أتلف شيئاً من بدنه؛ فإِنه ضامِنٌ مسؤول عما جنت يداه، والدِّيَة في ماله. عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تطبّبَ (¬2) ولا يُعلَمُ منه طبّ فهو ضامن" (¬3). وعن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: "حدّثني بعض الوفد الذين قدِموا على أبي، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيما طبيب تطبّب على قومٍ لا ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 261، 262) بتصرف يسير. (¬2) مَن تطبّب: أي تعاطى عِلم الطبِّ، وعالج مريضاً. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3834) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (3834) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4491)، وانظر "الصحيحة" (635).

يُعرف له تطبُّبٌ قبل ذلك، فأعنَتَ (¬1)؛ فهو ضامن". قال عبد العزيز: "أما إِنه ليس بالعَنَت، إِنما هو قطع العروق والبطّ (¬2) والكي (¬3) " (¬4). جاء في "سُبُل السلام" (3/ 472): "الحديث دليل على تضمين المتطبّب ما أتلفَه مِن نفسٍ فما دونها، سواء أصابَ بالسراية أو بالمباشرة، وسواء كان عمداً أو خطأ، وقد ادُّعي على هذا الإِجماع. وفي "نهاية المجتهد" إِذا أعنَت -أي المتطبب- كان عليه الضرب والسجن، والدية في ماله، وقيل على العاقلة. واعلم أن المتطبب هو من ليس له خِبرةٌ بالعلاج، وليس له شيخٌ معروف، والطبيب الحاذِق هو مَن له شيخ معروف؛ وَثِقَ مِنْ نفسه بجودة الصنعة وإحكام ¬

_ (¬1) فأعنَتَ: أي أضرَّ بالمريض وأفسده. (¬2) أي الشَّقّ. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3835)، وابن أبي شيبة في "المصنف"، وانظر "الصحيحة " تحت (635)، (2/ 227). (¬4) جاء في "عون المعبود": (12/ 215): "ومراد عبد العزيز -والله أعلم بمراده- أنّ لفْظ الطبيب الواقع في الحديث؛ ليس المقصود منه معناه الوصفي العامّ الشامل لكل من يُعالج؛ بل المقصود منه قاطع العروق والباطّ والكاوي، ولكن أنت تعلم أنّ لفْظ الطبيب في اللغة عامّ لكلّ من يعالج الجسم؛ فلا بدّ للتخصيص ببعض الأنواع من دليل". قلت: لعلّ قول عبد العزيز -رحمه الله تعالى- تفسير للحديث، فهو على سبيل المثال لا الحصر، والأخْذ بعموم النصّ هو الأولى، إذا الجاهل بالطبّ يلزمه الضمان في عموم ما يقع منه من إِضرارٍ أو إِفساد. والله -تعالى- أعلم.

الحائط يقع على شخص فيقتله:

المعرفة (¬1). قال ابن القيم في "الهدي النبوي": إِنّ الطبيب الحاذق هو الذي يراعي في علاجه عشرين أمراً وسَرَدها هنالك. قال: والطبيب الجاهل إِذا تعاطى عِلْم الطّبّ أو عَلمَه ولم يتقدم له به معرفة فقد هجم بجهله على إِتلاف الأنفس، وأقدمَ بالتهور على ما لا يعلمه، فيكون قد غرّر بالعليل فيلزمه الضمان. وهذا إِجماعٌ من أهل العلم. قال الخطّابي: لا أعلم خلافاً في أنّ المعالج إِذا تعدّى فتلفَ المريض كان ضامناً، والمتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه متعدٍّ، فإِذا تولّد مِنْ فِعْله التلف، ضَمِن الديَة وسقط عنه القَوَد؛ لأنه لا يستبد بذلك دون إِذن المريض وجناية الطبيب؛ على قول عامّة أهل العِلم على عاقلته. انتهى. وأمّا إِعنات الطبيب الحاذق؛ فإِنْ كان بالسراية لم يضمن اتفاقاً، لأنها سراية فِعْل مأذونٍ فيه مِن جهة الشرع، ومِن جهة المعالج، وهكذا سراية كلّ مأذونٍ فيه؛ لم يتعد الفاعل في سببه، كسراية الحد وسراية القِصاص عند الجمهور". الحائط يقع على شخصٍ فيقتله: إِذا بنى الرجُل في ملْكِه حائطاً مائلاً إِلى الطريق، أو إِلى ملك غيره، فتلف به شيء، وسقط على شيء فأتلَفَه؛ ضَمِنه؛ لأنه متعدٍّ بذلك، فإِنه ليس له الانتفاع بالبناء في هواء ملْك غيره، أو هواءٍ مشترك، ولأنه يُعرّضه للوقوع على غيره في غير ملكه. قال في "المغني" (9/ 571): "وهذا مذهب الشافعي -رحمه الله- ولا ¬

_ (¬1) والميزان الآن بيِّنٌ مِن خلال الدراسة الجامعية، ونظام معادلة الشهادات، وشهادة أهل الاختصاص.

ضمان حافر البئر:

أعلم فيه خلافاً". ثمّ قال (ص 572): "وإِنْ بناه في ملكه مستوياً ... فسقط مِن غير استهدام ولا ميل؛ فلا ضمانَ على صاحبه فيما تلِف به؛ لأنه لم يتعدَّ ببنائه، ولا حصَل منه تفريطٌ بإِبقائه". ضمان حافر البئر: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "العجماء جرحها جُبار، والبئر جُبار، والمعدن جُبار، وفي الرِّكاز الخمس" (¬1). قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (12/ 255): "قال أبو عبيد: المراد بالبئر هنا العادية القديمة، التي لا يُعلم لها مالك، تكون في البادية، فيقع فيها إِنسان أو دابة، فلا شيء في ذلك على أحد. وكذلك لو حفَر بئر في ملكه أو في موات، فوقع فيها إِنسان أو غيره فتلف، فلا ضمان إِذا لم يكن منه تسبب إِلى ذلك ولا تغرير، وكذا لو استأجر إِنساناً ليحفر له البئر فانهارت عليه فلا ضمان. وأمّا مَن حفر بئراً في طريق المسلمين، وكذا في ملك غيره بغير إِذن، فتلف بها إِنسان فإِنه يجب ضمانه على عاقلة الحافر والكفّارة في ماله. وإِنْ تلف بها غير آدمي؛ وجب ضمانه في مال الحافر، ويلتحق بالبئر كل حفرة على التفصيل المذكور، والمراد بجرحها -وهي بفتح الجيم لا غير كما نقله في "النهاية" عن الأزهري- ما يحصل بالواقع فيها من الجراحة، وليست الجراحة مخصوصة بذلك بل كل الإِتلافات ملحقة بها. قال عياض وجماعة: إِنما عبر بالجرح؛ لأنه الأغلب، أو هو مثالٌ نبّه به على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6912)، ومسلم (1710) وتقدّم.

ضمان المعدن:

ما عداه، والحكم في جميع الإِتلاف بها سواء، سواءٌ كان على نفسٍ أو مال". ضمان المعدن: في الحديث المتقدّم: "والمعدن جُبار" والحُكم فيه ما تقدّم في البئر، فلو حَفَر معدناً في ملْكِه أو في موات؛ فوقع فيه شخص فمات، فدمه هدْر، وكذا لو استأجر أجيراً يعمل له، فانهار عليه فمات (¬1). من استؤجر على صعود شجرة فسقط منها: ويُلحق بالبئر والمعدن في ذلك كل أجير على عمل؛ كمن استُؤجر على صعود نخلةٍ، فسقط منها فمات (¬2). هل في أخْذ الطعام مِن غير إِذن ضمان؟ عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يَحلُبنَّ أحد ماشية أمرئ بغير إِذنِه، أيحب أحدُكم أن تُؤتى مَشْرُبَتُه (¬3) فتُكْسَرَ خِزانته فينتقل طعامه؟ فإِنما تَخزُن لهم ضُروعُ (¬4) ماشِيتِهم أطعُماتِهم، فلا يحلُبنَّ أحدٌ ماشية أحدٍ إِلا إِذنِه" (¬5). واختلف العلماء في هذا النهي وذكروا استثناءات مِن ذلك (¬6): ¬

_ (¬1) انظر "شرح النووي" (11/ 226) و"فتح الباري" (12/ 255). (¬2) انظر "فتح الباري" (12/ 255). (¬3) مشرُبَتُه: قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" "-بضم الراء وقد تفتح- أي: غُرفته: والمشربة: مكان الشرب بفتح الراء خاصة، والمشربة بالكسر إِناء الشرب". (¬4) الضرع للبهائم؛ كالثدي للمرأة. (¬5) أخرجه البخاري (2435)، ومسلم (1726). (¬6) وأفاض الحافظ -رحمه الله- في تفصيل ذلك في "الفتح" (5/ 89).

منها: حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه-: أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا أتى أحدكم على ماشية: فإِنْ كان فيها صاحبها فليستأذنْه، فإِن أَذِن له فليحْلِب وليشرب، فإِن لم يكن فيها فليُصَوِّت ثلاثاً، فإِن أجابه فليستأذنه، وإِلا فلَيحْتلِب وليشرب ولا يحمل" (¬1). وكذلك حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا أتَيْت على راعٍ، فناده ثلاث مرارٍ. فإِنْ أجابك، وإِلا فاشرب في غير أن تُفسد، وإِذا أتَيْت على حائط بُستان، فنادِ صاحب البُستان ثلاث مراتٍ، فإِنْ أجابك، وإِلا فكل في أن لا تُفسد" (¬2). وأيضاً؛ حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا مرّ أحدكم بحائط، فليأكل ولا يتخّذ خُبْنَةً (¬3) " (¬4). والذي يترجّح لديّ: 1 - أنه يُراعَى فيما إِذا كان البستان عليه حائطٌ أو لا، وسمعْت من شيخنا -رحمه الله- يقولُ به. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2280)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1042)، وانظر "الإرواء" (2521). (¬2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1862) وابن حبّان وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (2521). (¬3) الخُبْنَة: معطف الإِزار وطرف الثوب، أي لا يأخذ منه في ثوبه، يقال: أخْبنَ الرجل: إِذا خبّأ شيئاً في خُبْنة ثوبه أو سراويله. "النهاية". (¬4) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1863) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1034)، وصححه الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (5/ 90) تحت الحديث (2435).

2 - وأنّ الأخْذ مِن غير إِذْنٍ يجوز؛ إِذا عَلِم أو رجّح طِيب نفسِ صاحب الطعام. ويفيدنا في ذلك قول الإمام البخاري -رحمه الله- في كتاب "الأدبَ المفرد" (باب دالّة أهل الإِسلام بعضهم على بعض) ثم ذِكْر لأثر محمد بن زياد قال: "أدركت السَّلف، وإِنَّهم ليكونون في المنزل الواحد بأهاليهم، فربما نزل على بعضهم الضيف، وقِدْرُ أحدهم على النَّار، فيأخذها صاحب الضيف لضيفه، فيفقد القِدرَ صاحَبُها، فيقول: من أخذ القِدر؟ فيقول صاحب الضيف: فحن أخذناها لضيفنا، فيقول صاحب القِدر. بارك الله لكم فيها أو كلمةً نحرها. قال بقية: قال محمّد: والخبز إِذا خَبَزوا مثل ذلك، وليس بينهم إلاَّ جُدُرُ القَصبِ" (¬1). 3 - وأنه يجوز للحاجة والضرورة: ويعود تقدير الحاجة والضرورة للمرء نفسه. عن عباد بن شرحبيل -رضي الله عنه- قال: "أصابتني سَنَة (¬2)، فدخَلْتُ حائطاً من حيطان المدينة، ففركْتُ سنبلاً، فأكلْتُ وحملتُ في ثوبي، فجاء صاحبه، فضربني وأخَذ ثوبي. فأتيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: ما علّمته إِذْ كان جاهلاً، ولا أطعمته إِذ كان ساغباً (¬3) أو جائعاً، وأمَره، فردَّ عليّ ثوبي، وأعطاني وسْقاً (¬4) أو نصف ¬

_ (¬1) انظر "صحيح الأدب المفرد" (576). (¬2) السَّنَة: الجدب، في "سنن ابن ماجه": "أصابنا عام مخمصة". (¬3) ساغباً: جائعاً، وقيل: لا يكون السَّغَب إِلا مع التعب. "النهاية". (¬4) الوَسْق: ستون صاعاً ... والأصل في الوَسْق الحمل، وكل شيء وسَقْته فقد حَملته. "النهاية".

وسْقٍ من طعام" (¬1). فعباد بن شرحبيل -رضي الله عنه- قال: أصابتني سَنَة -أي: جدب- فدخل حائطاً من حيطان المدينة ... وقد لام النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صاحب الحائط، فقال له: " ... ولا أطعمته إِذْ كان ساغباً". فهذا واجب متعيّن على القادر؛ أن يطعم الجائع، سواء أكان من الزكاة الواجبة أو الصدقة، أو فيما دخل في قاعدة "في المال حقٌّ سوى الزكاة". وجاء في تمام النصِّ "وأعطاني وسْقاً أو نصف وسْقٍ من طعام" طرداً لجوعه وجبراً لخاطره، وتفريجاً لكربه. وهذا كله شريطة عدم الإفساد والحمل واتخاذ الخبيئة، ففي هذه الحالة وبهذه الضوابط؛ لا يضمن ما أخَذه من طعام أو شراب. ومن الأدلّة على عدم الضمان؛ أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر المارّ على الماشية بعد أن يُصوّت؛ بضمان ما شَرِبه؛ لكن نهاه عن الحمل والإِفساد فحسب. والله -تعالى- أعلم. وقد ورَد الضّمانُ في أَخْذ الطعام كما في النصّ الآتي: عن عمير مولى آبي اللحم قال: "أقبلتُ مع سادتي نُريد الهجرة، حتى دَنَوْنا من المدينة، قال: فدخلوا المدينة وخَلَّفوني في ظهرهم، قال: فأصابني مجاعة شديدة، قال: فمرَّ بي بعض من يخرُجُ من المدينة فقالوا لي: لو دخَلْتَ المدينة فأصبْتَ من ثمرِ حوائطها، فدخلتُ حائطاً فقطعتُ منه قِنْوينِ (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وأحمد وانظر "الصحيحة" (453). (¬2) القِنو: هو العِذق: وهو الغضن له شعب بما يحمله من الرُّطب.

فأتاني صاحبُ الحائط، فأتى بي إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبَره خبري، وعليّ ثوبان، فقال لي: "أيُّها أفضل؟ فأشَرْتُ له إِلى أحدهما، فقالك خُذْهُ، وأعطى صاحب الحائط الآخر، وخلّى سبيلي" (¬1). قال شيخنا -رحمه الله-: "فيه دليلٌ على جواز الأكل من مال الغير بغير إِذنه عند الضرورة، مع وجوب البَدل. أفاده البيهقي. قال الشوكاني: (8/ 128): "فيه دليلٌ على تغريم السارق قيمة ما أخذه مما لا يجب فيه الحدّ، وعلى أنّ الحاجة لا تبيح الإِقدام على مال الغير مع وجود ما يمكن الانتفاع به، أو بقيمته، ولو كان مما تدعو حاجة الإِنسان إِليه، فإِنّه هنا أخذ أحدَ ثوبيه ودَفعَه إِلي صاحب النخل". انتهى. قلت: وقطْع عمير قِنوين -وهما غصنان ذو شُعبٍ من الرُّطب- لا يدخل في المأذون فيه، مما سبق تَفصيله، فلزم من ذلك التغريم والله -تعالى- أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2580).

القسامة

القَسامة

القسامة في الجاهلية:

القَسامة (¬1) القَسامة: هي مصدر أقسم قَسَماً وقَسَامة، وهي الأيمان تُقسَم على أولياء القتيل إِذا ادعوا الدم أو على المُدَّعَى عليهم الدم، وخُصّ القَسَم على الدم بلفظ القَسامة. وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "القَسامة: هي في عرف الشرع حلف معيّن عن التّهمة بالقتل على الإِثبات أو النفي، وقيل: هي مأخوذة من قسمة الأيمان على الحالفين". القَسامة في الجاهلية (¬2): عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إِنّ أول قَسامةٍ كانت في الجاهلية لَفِينا بني هاشم. كان رجل من بني هاشم؛ استأجرهُ رجل من قريش من فَخِذٍ أخرى، فانطلق معه في إِبله، فمرّ به رجل من بني هاشم قد انقطعتْ عُروة جُوالقِهِ (¬3) فقال: أغِثني بعقال أشد به عروة جُوالقي لا تنفر الإِبل، فأعطاه عقالاً فشدَّ به عروة جُوالَقه، فلما نزلوا عُقِلَتِ الإِبل إِلا بعيراً واحداً، فقال الذي استأجره: ما ¬

_ (¬1) انظر -إِن شئت- "طلبة الطلبة" (332) و"حلية الفقهاء" (198). (¬2) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (باب - 27). (¬3) جُوالَقه: -بضم الجيم وفتح اللام- الوعاء مِن جلود وثياب وغيرها، فارسي معَرب وأصلها كُوالَة "الفتح".

شأن هذا البعير لم يُعقَلْ من بين الإِبل؟ قال: ليس له عقال، قال: فأين عِقالهُ؟ قال: فحذَفَهُ (¬1) بعصاً كان فيها أجله. فمرَّ به رجل من أهل اليمن، فقال: أتشهد الموسم؟ قال: ما أشهد، وربَّما شهدته، قال: هل أنت مُبْلِغٌ عني رسالة مرةً من الدهر؟ قال: نعم، قال فكتب: إِذا أنت شهدتَ الموسم فنادِ يا آل قريش، فإِذا أجابوك فنادِ يا آل بني هاشم، فإِنْ أجابوك فاسأل عن أبي طالب فأخبِره أن فلاناً قَتَلَني في عقال. ومات المستأجر فلمّا قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب فقال: ما فعَل صاحِبُنا؟ قال: مرض فأحسنتُ القِيام عليه، فوليتُ دَفنَه، قال: قد كان أهل ذلك منك. فمكَث حِيناً ثمّ إِن الرجل الذي أوصى إِليه أن يُبلغ عنه وافى الموسم فقال: يا آل قريش، قالوا: هذه قريش، قال: يا بني هاشم، قالوا: هذه بنو هاشم، قال: أين أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب، قال: أمرني فلان أن أبلِغك رسالة أنّ فلاناً قتَلهُ في عقال. فأتاهُ أبو طالب فقال له: اختر منّا إِحدى ثلاث: إِن شئت أن تؤدي مائةً من الإبل؛ فإِنك قتَلْت صاحبنا، وإنْ شئت حلَف خمسون من قومك؛ إِنك لم تقتله، وإِن أبيتَ قتلناك به، فأتى قومه فقالوا نحلِف. فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم، قد ولدت له، فقالت: يا ¬

_ (¬1) فحذَفَه: أي رماه.

بيان صورة القسامة:

أبا طالب أحبُّ أن تجِيزَ ابني هذا برجل من الخمسين ولا تُصبِر (¬1) يمينَه حيث تُصبَر الأيمان (¬2)، ففعل. فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب أردتَ خمسين رجلاً أن يَحلِفوا مكان مائةٍ من الإِبل، يصيبُ كل رجل بعيران، هذان بعيران فاقبلهما منّى ولا يصبر يميني؛ حيث تُصْبر الأيمان، فقبلهما، وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا. قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده ما حال الحول (¬3) ومن الثمانية وأربعين عينٌ تَطرِفُ (¬4) " (¬5). وعن سليمان بن يَسار مولى ميمونة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل من أصحاب رسول الله من الأنصار: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقَرّ القَسامة على ما كانت عليه في الجاهلية" (¬6). بيان صورة القَسامَة: *صورة القَسامة أن يوجدَ قتيلٌ وادعى وليّه على رجلٍ، أو على جماعةٍ ¬

_ (¬1) تُصبر يمينَه: أصل الصبر: الحبس والمنع، ومعناه في الأيمان الإلزام، تقول: صبرتُه: أي ألزمتُه أن يحلف بأعظم الإِيمان حتى لا يسعه أن لا يحلف. "الفتح". (¬2) أي: بين الرّكن والمقام. (¬3) أي: من يوم حلفوا. (¬4) أي: تتحرّك. (¬5) أخرجه البخاري (3845). (¬6) أخرجه مسلم (1670).

وعليهم لوثٌ ظاهر. واللوث: ما يَغلب على القلب صدق المدّعي، بأن وجد فيما بين قوم أعداء لا يخالطهم غيرُهم، كقتيل خيبر وُجد بينهم، والعداوة بين الأنصار وبين أهل خيبر ظاهرة، أو اجتمع جماعةٌ في بيت أو صحراء وتفرقوا عن قتيل، أو وُجد في ناحية قتيلٌ وثمّ رجل مختضب بدمه، أو يشهد عدل واحد على أن فلاناً قتَله* (¬1). فيحلف أولياء المقتول خمسين يميناً، أن ذلك الخاصم هو الذي قتلَه ويستحقون دمه. فإِن أبَوا القَسم؛ ردّ ذلك إِلى أولياء المدَّعَى عليه بالقتل، فيحلفون خمسين يميناً على نفي القتل، فإِن حلفوا؛ لم يُطالبوا بالدِّية، وإن أبَوا؛ وجبت الدية عليهم. وإذا لم يتمكن الوالي مِن تمحيص الأمر -لالتباس أو غموض- كأن يأبى أولياء المدعي أيمان أولياء المدعي عليه- كانت الدية مِن بيت مال المسلمين. ودليل ذلك ما رواه رافع بن خَديج وسهل بن أبي حَثْمة: "أن عبد الله بن سهل ومحيِّصة بن مسعود أتيا خيبر، فتفرقا في النّخل، فقُتل عبد الله بن سهل، فجاء عبد الرحمن بن سهل وحوَيِّصة ومحيِّصة ابنا مسعود إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتكلموا في أمرِ صاحبهم، فبدأ عبد الرحمن -وكان أصغر القوم- فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كبِّر الكُبْرَ. قال يحيى: لِيليَ الكلام الأكبر، فتكلموا في أمرَ صاحبهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتستَحِقون قتيلَكم -أو قال:- صاحبَكم- بأيمان خمسين منكم. ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "الروضة الندية" (2/ 669).

الرد على من يقول بعدم مشروعية القسامة:

[وفي رواية لمسلم: يُقسم خمسون منكم على رجل منهم فيُدفع برُمّته (¬1)]. قالوا يا رسول الله، أمرٌ لم نرَه قال: فتُبرِؤكم يهود في أيمان خمسين منهم: قالوا: يا رسول الله، قومٌ كفّارٌ: فوَداهم (¬2) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِن قِبَله. قال سهل فأدركت ناقة من تلك، فدخلت مِربداً (¬3) لهم، فركضتني (¬4) برجلها" (¬5). الردّ على من يقول بعدم مشروعيّة القَسامة: عن أبي قلابة "أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريرَه يوماً للناس، ثمّ أذِنَ لهم فدخلوا، فقال: ما تقولون في القَسامة؟ قالوا: نقول القسامة القَوَد بها حقّ وقد أقادَت بها الخلفاء. قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونَصبني للناس؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، عندَك رؤوس الأجناد وأشراف العرب، أرأيتَ لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل مُحصَن بدمشق أنه قد زنى ولم يرَوْه أكنت ترجمه؟ قال: لا، ¬

_ (¬1) يدفع بُرمّته: الرُّمّة: بضم الراء: الحبل، والراد هنا: الحبل الذي يُربط في رقبة القاتل؛ ويُسلم فيه إِلى وليّ القتيل، وفي هذا دليل لمن قال: إِنّ القَسامة يثبت فيها القِصاص ... قاله النووي -رحمه الله-. (¬2) فوداهم: أعطاهم ديته. (¬3) المِربد: الموضع الذي تجتمع فيه الإِبل وتحبس. (¬4) أي: رَفَستني. (¬5) أخرجه البخاري (6142، 6143)، ومسلم (1669).

قلتُ: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سَرق أكنت تَقطعُه ولم يَرَوه؟ قال: لا" (¬1). فقد ورَد في هذا الأثر؛ أنّ القَسامة القَوَد بها حقٌّ، وقد أقادَت بها الخلفاء. وأمّا قول أبي قلابة -رحمه الله-: "أرأيتَ لو أن خمسين منهم، شهدوا على رجل مُحصَن بدمشق أنه قد زنى ولم يرَوْه؛ أكنت ترجمه؟ ". فالجواب عنه؛ أنّ أحكام القَسامة تختلف عن أحكام حدّ الزنى والسرقة، والقياس هنا باطل، إِذ لكل شيءٍ حُكمه وبيانه. وأيضاً؛ هؤلاء شهدوا على رجل أنه قد زنى ولم يَرَوه، وعلم الأمير أنهم لم يَروه، فلا يأخذ بقولهم فتنَبَّهْ -رحمني الله وإياك- إِلى قوله: (ولم يَروه) فعدم الرؤية متحقّقة متيقّنة، بخلاف القَسامة التي يمكن تحقُّق ذلك من قِبَل بَعضهم، ومن كذَب منهم فعليه كذبه. لكن لو سأله عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- فقال: لو جاءك خمسون شهدوا على رجل أنه سَرق أكنت تَقطعُه؟ فماذا يجيبه؟ وحسْبُنا أنه قد تقدّم حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة وفيه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتستَحِقون قتيلَكم -أو قال: صاحبَكم بأيمان خمسين منكم؟ قالوا: يا رسول الله؛ أمرٌ لم نرَه قال: فتُبرِؤكم يهود في أيمان خمسين منهم ... ". قال الحافظ -رحمه الله- عقب هذا الحديث: "وفي حديث الباب من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6899).

الفوائد مشروعية القَسامة، قال القاضي عياض: هذا الحديث أصْلٌ من أصول الشرع وقاعدةٌ من قواعد الأحكام، ورُكن من أركان مصالح العباد، وبه أخَذ كافَّة الأئمّة والسلف؛ من الصَحابة والتابعين وعلماء الأمّة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين، وإِن اختلفوا في صورة الأخذ به. ورُوِيَ التوقف عن الأخذ به عن طائفة فلم يروا القَسامة، ولا أثبتوا بها في الشرع حُكماً، وهذا مَذهب الحكم بن عتيبة وأبي قلابة وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار وقتادة ومسلم بن خالد وإِبراهيم بن علية، وإِليه ينحو البخاري، وروي عن عمر بن عبد العزيز باختلاف عنه، قلت: هذا ينافي ما صدَّر به كلامه أن كافّة الأئمّة أخَذوا بها" انتهى كلام الحافظ -رحمه الله تعالى-. قلت: وتوقّف بعضهم لا ينافي ثبوت هذا الحُكم، فحسبُنا قضاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، وعمل السلف من الخلفاء والصحابة والتابعين وعلماء الأمة وفقهاء الأمصار. وبالله التوفيق. وجاء في "سبل السلام" (3/ 480): بعد الحديث المشار إِليه-: "اعلم أنّ هذا الحديث أصْلٌ كبير في ثبوت القَسامة عند القائلين بها، وهم الجماهير؛ فإِنهم أثبتوها وبيّنوا أحكامها". وجاء أيضاً في "مجموع الفتاوى" (34/ 155): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن أهل قريتين بينهما عداوة في الاعتقاد، وخاصَم رجل آخر في غنم ضاعت له، وقال: ما يكون عِوَض هذا إِلا رقبتك، ثم وجد هذا مقتولاً، وأثر الدم أقرب إِلى القرية التي منها المتهم، وذكر رجل له قتْله؟ فأجاب: إِذا حلَف أولياء المقتول خمسين يميناً، أنّ ذلك المخاصِم هو الذي

هل في قتل الخطأ قسامة؟

قَتلَه حُكِم لهم بدمه؛ وبراءة من سواه، فإِنما بينهما من العداوة والخصومة والوعيد بالقتل وأثَر الدم، وغير ذلك لوْث وقرينة وأمارة على أن هذا المتهم هو الذي قتَله، فإِذا حلفوا مع ذلك أيمان القَسامة الشرعية استحقوا دم المتهم، وسلم إليهم برُمّتة (¬1)، كما قضى بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصية الذي قُتل بخيبر". هل في قتل الخطأ قَسامة؟ اختلف العلماء فيما إِذا كان القتل خطأ؛ هل تشرع فيه القسامة! والراجح أنّ القَسامة في قَتْل العمد دون الخطأ، لأنّ النصّ قد وَرَد في قتل العمد؛ لا في الخطأ. جاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 154): "وسئل -رحمه الله- عن رجل تخاصَم مع شخص، فراح إِلى بيته، فحصَل له ضعف، فلمّا قارب الوفاة أشهد على نفسه أنّ قاتله فلان، فقيل له كيف قتَلَك؟ فلم يذكر شيئاً، فهل يلزمه شيء، أم لا؟ وليس بهذا المريض أثرُ قتْلٍ ولا ضربٍ أصْلاً، وقد شهِد خلق من العدول أنه لم يضربه، ولا فعَل به شيئاً؟ فأجاب: أمّا بمجرد هذا القول فلا يلزمه شيء بإِجماع المسلمين؛ بل إِنما يجب على المدَّعى عليه اليمين بنفي ما ادعى عليه، إِمّا يمين واحد عند أكثر العلماء: كأبي حنيفة وأحمد، وإِمّا خمسون يميناً: كقول الشافعي. ¬

_ (¬1) وتقدّم المراد من ذلك، وهو أن القاتل يُربط بحبلٍ في رقبته، ويُسلّم إِلى وليّ القتيل.

هل يضرب المتهم ليقر؟

والعلماء قد تنازعوا في الرجل إِذا كان به أثر القتل -كجرح أو أثر ضرْب- فقال: فلان ضرَبني عمداً: هل يكون ذلك لوثاً؟ فقال أكثرهم كأبي حنيفة والشافعي وأحمد: ليس بلوث؛ وقال مالك: هو لوث. فإِذا حلَف أولياء الدم خمسين يميناً حُكم به، ولو كان القتل خطأ فلا قَسامة فيه في أصح الروايتين عن مالك، وهذه الصورة قيل: لم تكن خطأ، فكيف وليس به أثرُ قتْل، وقد شهِد الناس بما شَهدوا به، فهذه الصورة ليس فيه قَسامة بلا ريب على مذهب الأئمّة". وجاء في "المغني" (10/ 9): " ... أن يزدحم الناسُ في مضيق؛ فيوجد فيهم قتيل، فظاهر كلام أحمد أن هذا ليس بلوث؛ فإِنه قال فيمن مات بالزحام يوم الجمعة؛ فدِيَتُه في بيت المال وهذا قول إسحاق ... قال أحمد: فيمن وُجد مقتولاً في المسجد الحرام؛ يُنظر مَن كان بينه وبينه شيء في حياته -يعني: عداوة- يؤخذون فلم يجعل الحضور لوثاً، وإنما جعلَ اللوث العداوة ... ". هل يُضرب المتهم ليُقرّ؟ جاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 154): "وسئل عمن اتُّهم بقتيل: فهل يُضرَب ليقرّ؟ أم لا؟ فأجاب: إِنْ كان هناك لوث -وهو ما يغلِب على الظن أنه قتَله- جاز لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يميناً ويستحقّون دمه. وأمّا ضرْبُه ليقرّ فلا يجوز إِلا مع القرائن التي تدُلّ على أنه قتَله، فإِنّ بعض العلماء جوّز تقريره بالضرب في هذه الحال، وبعضهم منَع مِن ذلك مطلقاً".

قلت: قد ورَد في هذا أثرٌ عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه-: "أنه رُفع إِليه نفر من الكلاعيين، أن حاكةً سرقوا متاعاً فحبَسهم أياماً، ثم خلّى سبيلَهم فأتوه فقالوا: خلّيتَ سبيل هؤلاء بلا امتحان ولا ضرْب؟ فقال النعمان: ما شئتم إِنْ شئْتم أضربهم، فإِنْ أخرَج الله متاعكم فذاك، وإِلا أخذْتُ مِن ظهوركم مثلَه؟ قالوا: هذا حُكمك، قال: هذا حُكْم الله عز وجل ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4529).

التعزير

التعزير

تعريفه:

التعزير تعريفه: التعزير لغةً: مصدر عزر من العَزْر -بفتح العين وسكون الزاي المعجمة- هو الردّ والمنع. وهو في الشرع: تأديبٌ على ذنبٍ لا حدّ فيه ولا كفّارة (¬1). *أي: أنه عقوبة تأديبية يَفْرِضها الحاكم على جنايةٍ أو معصية، لم يُعيِّن الشرع لها عقوبة، أو حدّد لها عقوبة ولكن لم تتوفر فيها شروط التنفيذ، مثل المباشرة في غير الفرج، وسرقة ما لا قطْع فيه، وجنايةٍ لا قِصاص فيها، وإِتيان المرأة المرأة، والقذف بغير الزنى. ذلك أنّ المعاصي ثلاثة أقسام: 1 - نوع فيه حدّ، ولا كفّارة فيه، وهي الحدود التي تقدم ذِكْرها. 2 - ونوع فيه كفّارة، ولا حدَّ فيه، مِثْل الجماع في نهار رمضان، والجماع في الإِحرام. 3 - ونوع لا كفّارة فيه، ولا حدَّ فيه، كالمعاصي التي تقدم ذِكْرها فيجب فيها التعزير* (¬2). قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 107): "الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا يتمُّ إِلا بالعقوبات الشرعية؛ فإِن الله يزَعُ ¬

_ (¬1) "سبل السلام" (4/ 66) بزيادة كلمة "كفّارة". (¬2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 369).

بالسلطان مال لا يزَعُ بالقرآن، وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور؛ وذلك يحصُل بالعقوبة على ترْك الواجبات وفِعْل المحرمات. فمنها عقوبات مُقدّرة؛ مثل جلْد المفتري ثمانين، وقطعْ السارق ومنها عقوبات غير مُقدَّرة قد تُسمى "التعزير"، وتختلف مقاديرها وصفاتها بحسب كِبَر الذنوب وصِغَرها؛ وبحسب حال المذنب؛ وبحسب حال الذنب في قلّته وكثرته. وجاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 343): "وأمّا المعاصي التي ليس فيها حدٌّ مقدَّر ولا كفّارة؛ كالذي يُقبِّل الصبيّ والمرأة الأجنبية، أو يباشر بلا جِماع أو يأكل ما لا يحلّ، كالدم والميتة، أو يقذف الناس بغير الزنا، أو يسرق من غير حِرز، -ولو شيئاً يسيراً- أو يخون أمانته، كولاة أموال بيت المال أو الوقوف، ومال اليتيم ونحو ذلك، إِذا خانوا فيها، وكالوكلاء والشركاء إِذا خانوا، أو يغش في معاملته، كالذين يغشّون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك، أو يطفف المكيال والميزان، أو يشهد بالزور، أو يلقِّن شهادة زور، أو يرتشي في حُكْمه، أو يحكُم بغير ما أنزل الله، أو يعتدي على رعيته، أو يتعزّى بعزاء الجاهلية، أو يلبّي داعي الجاهلية، إِلى غير ذلك من أنواع المحرمات. فهؤلاء يعاقبون تعزيراً وتنكيلاً وتأديباً، بقدر ما يراه الوالي، على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلّته، فإِذا كان كثيراً زاد في العقوبة؛ بخلاف ما إِذا كان قليلاً، وعلى حسب حال المذنب؛ فإِذا كان مِن المدمنين على الفجور؛ زِيدَ في عقوبته؛ بخلاف المقلّ من ذلك، وعلى حسْب كِبَر الذنب وصِغَره؛ فيُعاقبُ من يتعرض لنساء الناس وأولادهم، بما لا يعاقب من لم يتعرض إِلا

مشروعيته:

لمرأة واحدة، أو صبيٍّ واحد. وليس لأقل التعزير حدّ؛ بل هو بكل ما فيه إِيلام الإِنسان من قول وفِعل، وترْك قول، وترك فِعل. فقد يُعزَّر الرجل بوعْظِه وتوبيخه والإِغلاظ له، وقد يُعزّر بهَجْره وترْك السلام عليه حتى يتوب؛ إِذا كان ذلك هو المصلحة، كما هجَر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابَه "الثلاثة الذين خُلّفوا". وقد يُعزّر بترك استخدامه في جُند المسلمين؛ كالجندي المقاتل إِذا فر من الزحف؛ فإِنّ الفرار من الزحف من الكبائر، وقطْع أجرِه نوعُ تعزيرٍ له، وكذلك الأمير إِذا فعل ما يُستعظَم؛ فعزْله عن إِمارته تعزير له، وكذلك قد يُعزّر بالحبس وقد يُعزر بالضرب ... ". مشروعيّته: عن بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده -رضي الله عنه-: "أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَس رجلاً في تُهمة" (¬1). وعن أبي بُردة -رضي الله عنه- قال: كان النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يُجلَد فوق عشر جلدات؛ إِلا في حدٍّ من حدود الله" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3087)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1145) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4530)، وانظر "الإرواء" (2397). (¬2) أخرجه البخاري (6848)، ومسلم (1708).

هل يشرع الجلد في التعزير فوق عشر جلدات؟

ففي هذا الحديث مشروعية الجلد في غير الحدود -أي: التعزير-. هل يشرع الجلد في التعزير فوق عشر جلدات؟ في الحديث المتقدّم بيان الاقتصار على عشر جلدات في غير الحدود. قال الإِمام النووي -رحمه الله-: "اختلف العلماء في التعزير؛ هل يقتصر فيه على عشرة أسواط فما دونها، ولا تجوز الزيادة؛ أَم تجوز الزيادة؟ فقال أحمد بن حنبل، وأشهب المالكي، وبعض أصحابنا: لا تجوز الزيادة على عشرة أسواط. وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ إِلى جواز الزيادة ... " (¬1). قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (12/ 178): "وقد اختلف السلف في مدلول هذا الحديث، فأخَذ بظاهره الليث وأحمد -في المشهور- عنه وإسحاق وبعض الشافعية. وقال مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة: تجوز الزيادة على العشر، ثم اختلفوا، فقال الشافعي: لا يبلغ أدنى الحدود، وهل الاعتبار بحدّ الحر أو العبد؟ قولان، وفي قولٍ أو وجه يستنبط كل تعزير من جنس حدّه، ولا يجاوزه، وهو مقتضى قول الأوزاعي: "لا يبلغ به الحدّ" ولم يفصل. وقال الباقون: هو إِلى رأي الإِمام بالغاً ما بلغ، وهو اختيار أبي ثور. وعن عمر أنه كتب إِلى أبي موسى: "لا تجلد في التعزير أكثر من عشرين" ¬

_ (¬1) انظر "شرح النووي" (11/ 221).

وعن عثمان ثلاثين، وعن عمر أنه بلغ بالسوط مائة، وكذا عن ابن مسعود وعن مالك وأبي ثور وعطاء: لا يعزر إِلا من تكرر منه ومَن وقع منه مرة واحدة معصية لا حدّ فيها فلا يُعزَّر، وعن أبي حنيفة لا يبلغ أربعين، وعن ابن أبي ليلى وأبي يوسف لا يزاد على خمس وتسعين جلدة. وفي رواية عن مالك وأبي يوسف لا يبلغ ثمانين، وأجابوا عن الحديث بأجوبة منها ما تقدم، ومنها قصره على الجلد وأمّا الضرب بالعصا مثلاً وباليد فتجوز الزيادة لكن لا يجاوز أدنى الحدود، وهذا رأي الأصطخري من الشافعية وكأنه لم يقِف على الرواية الواردة بلفظ الضرب، ومنها أنه منسوخ دلّ على نسخه إِجماع الصحابة. ورُدّ بأنه قال به بعض التابعين، وهو قول الليث بن سعد أحد فقهاء الأمصار، ومنها معارضة الحديث بما هو أقوى منه وهو الإِجماع على أن التعزير يخالف الحدود وحديث الباب يقتضي تحديده بالعشر فما دونها؛ فيصير مثل الحد، وبالإِجماع على أن التعزير موكول إِلى رأي الإِمام فيما يرجع إِلى التشديد والتخفيف، لا من حيث العدد، لأن التعزير شرع للردع ففي الناس من يردعه الكلام ومنهم من لا يردعه الضرب الشديد، فلذلك كان تعزير كلّ أحد بحسبه. وتُعُقِّب بأنّ الحدّ لا يزاد فيه، ولا ينقص فاختلفا، وبأن التخفيف والتشديد مُسلّم، لكن مع مراعاة العدد المذكور، وبأن الردع لا يراعى في الأفراد بدليل أن من الناس من لا يردعه الحدّ ... ". وجاء في "فيض القدير" (6/ 446): "يعني لا يُزاد على عشْرة أسواط بل

بالأيدي والنعال أو الأولى ذلك، فتجوز الزيادة إِلى ما دون الحد بقدْر الجرم عند الشافعي وأبي حنيفة. أخذ أحمد بظاهر الخبر؛ فمنع بلوغ التعزير فوقها، واختاره كثير من الشافعية، وقالوا: لو بلغ الشافعي لقال به، لكن يردّه نقْل إِمامهم الرافعي إِنه منسوخ محتجّاً بما منه عمل الصحابة، بخلافه مع إِقرار الباقين. ونُوزع بما لا يُجدي، ونقَل المؤلف عن المالكية؛ أنّ الحديث مختص بزمن المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر. قال القرطبي في "شرح مسلم": ومشهور مذهب مالك أنّ ذلك موكول إِلى رأي الإِمام بحسب ما يراه أليق بالجاني؛ وإن زاد على أقصى الحدود، قال: والحديث خرج على أغلب ما يحتاج إِليه في ذلك الزمان" انتهى. وقد وردَ بعض الآثار عن السلف في الزيادة على عشرة أسواط: فعن داود عن سعيد بن المسيب: "في جارية كانت بين رجُلين؛ فوقَع عليها أحدهما (¬1)؟ قال: يضرب تسعةً وتسعين سوطاً" (¬2). وعن عمير بن نمير قال: "سُئل ابن عمر -رضي الله عنهما- عن جاريةٍ؛ ¬

_ (¬1) أي سُئل ما حكمه؟ (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة وصحح إسناده شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2398).

كانت بين رجلين؛ فوقَع عليها أحدهما؟ قال: ليس عليه حدّ هو خائن، يُقوّم عليه قيمة، ويأخذها" (¬1). وعن عطاء بن مروان عن أبيه قال: "أُتيَ عليٌّ -رضي الله عنه- بالنّجاشي قد شرب الخمر في رمضان، فضربه ثمانين، ثمّ أمَر به إِلى السّجن، ثمّ أخرجه من الغد فضربه عشرين، ثمّ قال: إِنّما جَلْدتك هذه العشرين؛ لإِفطارك في رمضان، وجَرأتك على الله" (¬2). والمترجّح لديّ هو التمسُّك بالنصّ، ولكن قد ثبَت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التعزير بالقتل؛ لمن شرب الخمر في المرّة الرابعة (¬3). وورَد عن عدد من الصحابة -رضي الله عنهم- الزيادة على عشرة جلدات، فهذا يقوّي أن الإِمام موكولٌ بحسب ما يراه أليق بالجاني. ولا نحمل ما فعَلَه بعض الصحابة -رضي الله عنهم- في الزيادة؛ إلاَّ أَنهم استفادوه من صحبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والجمع بين أَحاديثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لدرء المفاسد، وردع الجاني، وتحقيق المصالح. والله -تعالى- أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (8/ 57) ورجاله ثقات رجال الشيخين غير عمير بن نمير، أورده ابن حبان في "الثقات" (1/ 172) وقال: " ... أبو وَبَرة الهمداني، مِن أهل الكوفة، يروي عن ابن عمر، روى عنه إِسماعيل بن خالد وموسى الصغير". (¬2) أخرجه الطحاوي، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2399): "وإسناده حسن أو قريب من ذلك ... ". (¬3) وسيأتي - إن شاء الله تعالى- (باب التعزير في حالات مخصوصة).

الفرق بينه وبين الحدود:

الفرق بينه وبين الحدود: التعزير مخالف للحدود مِن ثلاثة أوجُه: الأول: أنه يختلف باختلاف الناس، فتعزير ذوي الهيئات أخفّ، ويستوون في الحدود مع الناس. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أقيلوا (¬1) ذوي الهيئات (¬2) عثراتهم (¬3) إِلا الحدود (¬4) " (¬5). الثاني: أنها تجوز فيه الشفاعة دون الحدود؛ كما تقدّم في الحديث السابق: "إِلا الحدود". الثالث: التالف به مضمون؛ خلافاً لأبي حنيفة ومالك. وقد فَرَّق قومٌ بين التعزير والتأديب، ولا يتمّ لهم الفَرق، ويُسمّى تعزيراً؛ ¬

_ (¬1) أقيلوا: من الإِقالة، وهي الترك. (¬2) ذوي الهيئات: جمع هيئة، والمراد هنا: أهل المروءة والخصال الحميدة التي تأبى عليهم الطِّباع، وتجمع بهم الإِنسانية والألفة؛ أن يرضَوا لأنفسهم بنسبة الفساد والشرّ إِليهم. "فيض القدير". (¬3) عثراتهم: زلاتهم: أى ذنوبهم. (¬4) إِلا الحدود: أي إِلا فيما ما يوجب الحدود؛ إِذا بلغت الإِمام، وإلا الحقوق البشرية؛ فإِن كُلاًّ منهما يُقام، فالمأمور بالعفو عنه هفوة أو زلّة لا حدّ فيها، وهي مِن حقوق الحقّ؛ فلا يعزّر عليها وإِنْ رُفعت إِليه. "فيض القدير" أيضاً. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3679)، وأحمد والطحاوي في "مشكل الآثار" وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (638).

صفة التعزير:

لدفعه وردّه عن فِعْل القبائح، ويكون بالقول والفعل على حسب ما يقتضيه الحال (¬1). صفة التعزير (¬2): التعزير أجناس، فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب فإِنْ كان لترك واجب مثل الضرب على ترك الصلاة أو ترك أداء الحقوق الواجبة: مثْل ترك وفاء الدين مع القدرة عليه؛ أو على ترْك ردّ المغصوب؛ أو أداء الأمانة إِلى أهلها: فإِنه يُضرَب مرّة بعد مرّة حتى يؤدي الواجب، ويُفرّق الضرب عليه يوماً بعد يوم، وإِنْ كان الضرب على ذنب ماضٍ؛ جزاءً بما كسب ونكالاً من الله له ولغيره؛ فهذا يفعل منه بقدر الحاجة فقط، وليس لأقله حدّ. وإليكَ التفصيل في هذه الأصناف وغيرها: التعزير بالتوبيخ والزجر والكلام: قال في "الروضة الندية" (2/ 616): " ... ومن ذلك قول يوسف -عليه السلام- لإِخوته: {أَنْتُم شرٌّ مَكاَناً} (¬3) لمّا نسبوه إِلى السرقة. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: "إِنك امرؤ فيك جاهلية" (¬4). لمّا سمعه يُعيّر رجلاً ¬

_ (¬1) انظر "سبل السلام" (4/ 66). (¬2) انظر "مجموع الفتاوى" (27/ 107). (¬3) يوسف: 77. (¬4) أخرجه البخاري (30)، ومسلم (1661).

بأُمّه. وعن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-: "أن رجلاً أكل عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشماله فقال: كُلْ بيمنك، فقال: لا أستطيع، فقال: لا استطعتَ؛ ما منَعَه إِلا الكِبْرُ، قال: فما رفَعَها إِلى فيه" (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن سَمِعَ رجلاً يَنْشُدُ ضالّةً في المسجدِ، فليقل: لا رَدَّها الله عليك؛ فإِنّ المساجد لم تُبْن لهذا" (¬2). وعن بريدة -رضي الله عنه- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: "لا وجَدْتَ" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا رأيتُم من يبيعُ أو يبتاعُ في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتَكَ" (¬4). وعن عديّ بن حاتم -رضي الله عنه-: "أن رجلاً خطَب عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: مَن يطِع الله ورسولَه فقد رشَد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بئس الخطيب أنت، قُل: ومن يعصِ الله ورسولَه" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2021). (¬2) أخرجه مسلم (568). (¬3) أخرجه مسلم (569). (¬4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1066) والدارمي وابن خزيمة في "صحيحه" وغيرهم وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1295). (¬5) أخرجه مسلم (870).

التعزير بالمقاطعة والامتناع عن الكلام:

التعزير بالمقاطعة والامتناع عن الكلام: ومن ذلك ما كان من شأن الثلاثة الذين خُلِّفوا: عن كعب بن مالك -رضي الله عنه- يحدّث حين تخلّف عن غزوة تبوك: قال: "لم أتخلَّف عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوةً غزاها، إلاَّ في غزوة تبوك ... كان من خبري أنِّي لم أكنْ قطُّ أقوى ولا أيسر؛ حين تخلَّفْتُ عنه في تلك الغَزاة، والله ما اجتَمَعَتْ عندي قبله راحلتان قطُّ؛ حتى جمعتُها في تلك الغزوة. ولم يكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريد غزوة، إِلا ورَّى بغيرها (¬1)، حتى كانت تلك الغزوة؛ غزاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حرٍّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً (¬2) وعدوّاً كثيراً، فجلَّى للمسلمين أمرهم؛ ليتأهَّبوا أُهبة (¬3) غزوِهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثير (¬4)، ولا يجمعهم كتاب حافظ (يريد: الديوان). قال كعب: فما رجلٌ يريد أن يتغيَّب؛ إلاَّ ظنَّ أنْ سيخفى له؛ ما لم يَنْزِلْ فيه وحْي الله. ¬

_ (¬1) قال في "الفتح": "أي: أوهم غيرها، والتورية: أن يذكر لفظاً يحتمل معنيين، أحدهما أقرب من الآخر، فيوهم إرادة القريب، وهو يريد البعيد". (¬2) المفاز والمفازة: البريَّة القفْر. (¬3) تأهَّب: استعدَّ، والأهبة: الحرب عدَّتها وجمعها. "المختار". (¬4) في رواية لمسلم (2769): "وغزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بناس كثير، يزيدون على عشرة آلاف، ولا يجمعهم ديوان حافظ".

وغزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلك الغزوة حين طابت الثِّمار والظِّلال، وتجهَّز رسول الله والمسلمون معه، فطفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّز معهم، فأرجع ولم أقضِ شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي؛ حتى اشتدَّ بالنَّاس الجِدُّ، فأصبح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون معه، ولم أقْضِ مِن جَهازي شيئاً، فقلتُ: أتجهَز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقُهُم، فغدوْتُ بعد أن فَضَلوا لأتجهَّزَ، فرجعْتُ ولم أقْضِ شيئاً، ثم غَدَوْتُ، ثم رجَعْتُ ولم أقْضِ شيئاً. فلم يَزَلْ بي حتى أسرعوا، وتفارطَ الغزو (¬1)، وهَمَمْتُ أنْ أرتَحِل فأدرِكهم -وليتني فعَلْت فلم يُقدَّر لي ذلك- فكنتُ إِذا خرجتُ في الناس بعد خروج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فطُفْتُ فيهم؛ أحزَنَني أنِّي لا أرى إِلا رجلاً مغموصاً (¬2) عليه النِّفاق، أو رجلاً ممَّن عذَرَ الله من الضُّعفاء. قال كعب بن مالك: "فلمَّا بَلَغَني أنَّه توجَّه قافلاً (¬3)؛ حَضَرني همِّي، وطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكذب، وأقول: بماذا أخرُجُ من سَخَطه غداً؟ واستَعَنْتُ على ذلك بكلِّ ذي رأيٍ من أهلي، فلمَّا قيل: إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أظلَّ قادماً؛ زاح عنِّي الباطل، وعرفْتُ أنِّي لن أخرجَ منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجْمَعْتُ صِدقَه. ¬

_ (¬1) أي: فات وسبق. (¬2) أي: مطعوناً عليه في دينه، متَّهماً بالنَِّفاق، وقيل: معناه: مُستحقراً، تقول: غَمَصْتُ فلاناً: إِذا استحقرْته. "النهاية". (¬3) القفول: الرُّجوع من السَّفر.

وأصبح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قادماً، وكان إِذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ؛ بدأ بالمسجد، فيركعُ فيه ركعتين، ثم جلس للنَّاس، فلمَّا فعَل ذلك؛ جاءهُ المُخَلَّفون، فطفقوا يعتَذرون إِليه، ويحلفون له -وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً- فقَبِلَ منهُم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علانِيَتَهُم، وبايعَهُم، واستغفرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إِلى الله. فجئتهُ، فلمَّا سلَّمتُ عليه؛ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغْضَب، ثمّ قال: تعالَ. فجئتُ أمشي حتى جلستُ بين يديِه، فقال لي: ما خَلَّفَكَ؟ ألمْ تكن قد ابتَعْتَ ظهركَ (¬1)؟ ". فقلتُ: بلى؛ إِنِّي والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدُّنيا؛ لرأيتُ أن سأخرُجُ مِن سخطه بعُذرٍ، ولقد أُعطيتُ جَدلاً، ولكنِّي والله، لقد عَلمْت؛ لئن حدَّثْتُك اليوم حديث كَذِبٍ ترضى به عنِّي؛ ليوشِكنَّ الله أن يُسْخِطكَ عليَّ، ولئن حدَّثْتُك حديث صدقٍ تجِد عليَّ فيه (¬2)؛ إِنِّي لأرجو فيه عفو الله (¬3)، لا والله؛ ما كان لي مِن عُذرٍ؛ واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسر منِّي؛ حين تخلَّفْتُ عنك. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمَّا هذا؛ فقد صَدَقَ، فقُمْ حتى يقضي الله فيك، فقُمت ... ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين عن كلامنا -أيُّها الثلاثة- من بين مَن تخلَّف عنه، فاجتَنبَنا النَّاس، وتغيَّروا لنا، حتى تَنكَّرتْ في نفسي الأرض، فما هي ¬

_ (¬1) اشتريت راحلتك. (¬2) أي: تغضب. (¬3) في "صحيح مسلم": "عقبى".

التي أعرف، فلبِثنا على ذلك خمسينَ ليلة. فأمَّا صاحباي؛ فاسْتَكانا وقعدا في بيوتِهما يبكيان، وأمّا أنا؛ فكنتُ أشبَّ القوم وأجلَدَهُم، فكنتُ أخرجَ فأشهد الصَّلاة مع المسلمين، وأطوفُ في الأسواق، ولا يكلِّمني أحدٌ، وآتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأسلِّم عليه وهو في مجلسه بعدَ الصَّلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيهِ بردِّ السلام عليَّ أم لا؟ ثمَّ أصلِّي قريباً منه، فأسارقهُ النَّظر، فإِذا أقبَلْتُ على صلاتي؛ أقبَل إِليَّ، وإذا التَفَتُّ نحوَه؛ أعرَضَ عنِّي. حتى إِذا طال عليَّ ذلك من جفوة الناس (¬1) مشيتُ حتى تسوَّرتُ (¬2) جِدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمِّي وأحبُّ النَّاس إِلىَّ، فسلَّمتُ عليه، فوالله؛ ما ردَّ عليَّ السَّلام. فقلتُ: يا أبا قَتادة! أنشُدك بالله هل تعلمني أحبُّ الله ورسولَه؟ فسَكَت، فعُدْت له فنَشَدْتُه؟ فسكَتَ، فعُدْت له فنَشَدْتُه؟ فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضتْ عيناي، وتولَّيت حتى تسوَّرت الجدار ... حتى إِذا مضتْ أربعون ليلة من الخمسين؛ إِذا رسولُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتيني، فقال: إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمُرُك أنْ تعتَزِل امرأتَكَ. فقلتُ: أطلِّقُها؟ أم ماذا أفعل؟ قال: لا؛ بل اعتَزلها ولا تقرَبْها، وأرسل إِلى صاحبيَّ مثلَ ذلك. فقلتُ لامرأتي: الحَقي بأهلِك، فتكوني عندهم حتى يقضيَ الله في هذا ¬

_ (¬1) أي: إِعراضهم. (¬2) أي: علوْت سور الدَّار.

التعزير بالنفي:

الأمر. قال كعبٌ: فجاءت امرأة هلال بن أميَّة رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إِنّ هلال بن أميَّة شيخٌ ضائع، ليس له خادم، فهل تكره أن أخدُمَه؟ قال: لا؛ ولكن لا يَقربْكِ، قالت: إِنّه والله ما به حَرَكة إِلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إِلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذَنْتَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في امرأتِكَ كما أذِنَ لامرأة هلال بن أميَّة أن تخْدمَه. فقلتُ: والله لا أستأذن فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما يدريني ما يقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا استأذنْتُهُ فيها، وأنا رجل شابّ؟! فلَبِثْتُ بعد ذلك عشر ليالٍ، حتى كَمَلَتْ لنا خمسونَ ليلةً من حين نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كلامِنا، فلمَّا صلَّيت صلاة الفجر صُبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيتٍ مِن بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذَكَر الله، قد ضاقتْ عليَّ نفسي، وضاقتْ عليَّ الأرض بما رَحُبت؛ سمِعتُ صوت صارخٍ أوفى على جبل سَلْع (¬1) بأعلى صوته: يا كعب بن مالك! أبْشِرْ. قال: فخَرَرتُ ساجداً، وعرفْتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ، وآذَنَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتوبة الله علينا حين صلَّى صلاة الفجر، فذهب النَّاسُ يبشِّروننا" (¬2). التعزير بالنفي: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتي بمُخنّث، قد خضب ¬

_ (¬1) أي: صعده وارتفع عليه، وسَلْع: جبل بالمدينة معروف. (¬2) أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769).

التعزير بالحبس:

يديه ورجليه بالحنّاء! فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما بال هذا؟ قيل: يا رسول الله، يتشبّه بالنساء، فأمر فنُفي إِلى البقيع، فقالوا: يارسول الله ألا نقتله؟ فقال: إِنّي نهيت عن قتْل المصلّين" (¬1). التعزير بالحبس: عن بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده -رضي الله عنه-: "أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَس رجلاً في تُهمة" (¬2). وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه-: "أنه رُفع إِليه نفر من الكلاعيين، أن حاكةً سرقوا متاعاً؛ فحبَسهم أياماً، ثم خلّى سبيلَهم فأتوه فقالوا: خلّيتَ سبيل هؤلاء بلا امتحان ولا ضرْب، فقال النعمان: ما شئتم، إِنْ شئْتم أضربهم، فإِنْ أخرَج الله متاعكم فذاك، وإِلا أخذْتُ مِن ظهوركم مثلَه؟ قالوا: هذا حُكمك، قال: هذا حُكْم الله عز وجل ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). التعزير بالضرب: عن ابن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبْعِ سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (4119)، وانظر "المشكاة" (4481). (¬2) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وانظر "الإِرواء" (2397) وتقدّم. (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4529) وتقدّم. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (247).

التعزير بالإتلاف والتحريق والتكسير:

وعن المسيب بن دارم قال: "رأيت عمر بن الخطّاب ضرب جمّالاً، وقال: لِمَ تَحْمِلُ على بعيرك ما لا يُطيق؟ " (¬1). وعن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب: "أن رجلاً حدَّ شفرةً، وأخذ شاةً ليذْبحَها، فضربهُ عمر بالدِّرّةِ، وقال: أتُعذِّبُ الرُّوح! ألا فعَلْتَ هذا قبل أن تأخذها؟! " (¬2). عن محمد بن سيرين: "أنّ عمر -رضي الله عنه- رأى رجلاً يجرُّ شاةً ليذْبحَها، فضربهُ بالدِّرَّةِ، وقال: سُقْها -لا أُمَّ لك- إِلى الموتِ سَوْقاً جميلاً" (¬3). التعزير بالإِتلاف والتحريق والتكسير: قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 113): فيما يجوز إِتلافه: " ... مثل الأصنام المعبودة من دون الله؛ لما كانت صورها منكرة جاز إِتلاف مادتها؛ فإِذا كانت حجراً أو خشباً ونحو ذلك؛ جاز تكسيرها وتحريقها. وكذلك آلات الملاهي مثل: الطنبور يجوز إِتلافها عند أكثر الفقهاء، وهو مذهب مالك وأشهر الروايتين عن أحمد". ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" قال شيخنا -رحمه الله-: "وسنده صحيح إِلى المسيب بن [دارم] "، وانظر "الصحيحة" (30). (¬2) أخرجه البيهقي (9/ 280 - 281)، وانظر "الصحيحة" (30). (¬3) أخرجه البيهقي أيضاً، وانظر "الصحيحة" تحت الحديث (30).

التعزير بأخذ المال:

قلت: ويُحمل التكسير والتحريق والإِتلاف؛ على الأشياء التي لا يستفاد من إِبقائها. التعزير بأخْذ المال: ومن صور ذلك أن يمتنع المرء عن أداء الزكاة غيرَ مُنكرٍ وجوبَها، فإِنّ للحاكم -وهذه الحال- أن يأخذ الزكاة منه قهراً، وشطْر ماله عقوبةً. فعن بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده (¬1) -رضي الله عنه-: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يفرق إِبل عن حسابها (¬2) من أعطاها مؤتجِراً (¬3) فله أجرها، ومن أبى فإِنّا آخذوها وشطر ماله، عَزْمةً (¬4) من عَزَمات ربّنا، لا يحلّ لآل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها شيء" (¬5). ومن ذلك إِباحة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلب الذي يصطاد في حرم المدينة -لمن وجده- ¬

_ (¬1) هو معاوية بن حيدة؛ من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬2) معناه: أن المالك لا يفرّق مُلكَه عن ملك غيره؛ حيث كانا خليطين، أو المعنى: يحاسب الكلّ في الأربعين، ولا يُترك هزال ولا سمين، ولا صغير ولا كبير، نَعَم العامل لا يأخذ إِلا الوسط "عون" (4/ 317). (¬3) قاصداً للأجر بإِعطائها. (¬4) العَزْمة في اللغة: الجدّ والحق في الأمر، يعني: أُخذ ذلك بجدّ لأنّه واجب مفروض، قاله بعض العلماء. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (193)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2292) وغيرهم، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (791) وتقدم في كتاب "الزكاة".

فعن عامر بن سعد: "أن سعداً ركب إِلى قصره بالعقيق، فوجد عبداً يقطع شجراً أو يخبطه؛ فسَلَبَه (¬1)، فلمّا رجَع سعد جاءه أهل العبد؛ فكلّموه أن يردّ على غلامهم أو عليهم ما أخَذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرُدَّ شيئاً نفَّلنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! وأبى أنّ يَرُدّ عليهم" (¬2). وفي رواية: من حديث سليمان بن أبي عبد الله قال: "رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلاً يصيد في حرم المدينة -الذي حرّم رسول الله- فسلبَه ثيابه، فجاء مواليه فكلّموه فيه، فقال: إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرّم هذا الحرم وقال: "من وجَد أحداً يصيد فيه؛ فليسلُبْه، فلا أردّ عليكم طُعْمَةً أطعَمنيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن إِن شئتم دفعت إِليكم ثمنَه (¬3) " (¬4). وفي رواية: "سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى أن يُقطع من شجر المدينة شيء، وقال: من قطع منه شيئاً؛ فلمن أخذه سَلَبُه" (¬5). ¬

_ (¬1) أي: أخذ ما عليه من الثياب وغيره. "المرقاة" (5/ 628). (¬2) أخرجه مسلم (1364). (¬3) أي: تبرعاً، قاله الطيبي -رحمه الله- أو احتياطاً للاختلاف فيه "المرقاة" (5/ 627). (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1791)، وانظر "المشكاة" (2747). (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1792)، وانظر "المشكاة" (2748).

التعزير بالتغريم:

التعزير بالتغريم: لقد تقدم قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمضاعفة الغُرم والعقوبة على مَن سَرَق ما لا قطْع فيه؛ كما في سارق الثمار المعلّقة، وكذا سارق الشّاة من المرتع. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنه سُئل عن الثمر المعلق، فقال: "من أصاب بفيه (¬1) من ذي حاجة غير مُتّخذٍ خُبْنَةً (¬2)، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مِثلَيْه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجَرين (¬3)، فبلغ ثمن المجنّ (¬4)؛ فعليه القطع" (¬5). وفي رواية من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رجلاً من مُزَيْنة أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! كيف ترى حريسة (¬6) الجبل، ¬

_ (¬1) فيه دليل على أنّه إِذا أخَذَ المحتاج بُغيته لسدّ فاقته؛ فإِنه مباح "عون" (5/ 91). (¬2) الخُبنة: مِعطف الإِزار وطرف الثوب: أي لا يأخذ منه في ثوبه، وتقدّم. (¬3) الجَرين: موضع تجفيف التّمر، وهو له كالبيدر للحِنطة "النهاية". (¬4) المجنّ: هو التُرس؛ لأنه يواري حامله: أي يستره والميم زائدة "النهاية" أيضاً. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1504)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4593) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2104)، وانظر "الإِرواء" (2413) وتقدّم. (¬6) الحريسة: فعيلة بمعنى مفعولة: أي أنّ لها مِن يحرسها ويحفظها، ومنهم من يجعل الحريسة السرقة نفسها ... "النهاية"، والمراد: ليس فيما يُسرق من الجبل قطع لأنه ليس بحرز.

التعزير بتغليظ الدية:

فقال: هي وَمِثْلُها والنَّكَالُ. ولَيْس في شَيْء مِنَ الماشِيَة قَطعٌ، إِلا فِيما آوَاه المُراحُ (¬1). فَبَلغ ثمن المِجَنّ، فَفيه قَطْع اليد، وما لم يبلُغ ثمن المِجَنِّ، ففيه غرامةُ مِثْليه، وجَلَدَات نَكَال (¬2). قال: يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلّق؟ قال: هو ومِثلُه معهُ والنّكالُ، وليس في شيء من الثمر المعلق قَطعٌ إِلا فيما آواه الجَرينُ، فما أُخِذ من الجَرين فبَلَغ ثمنَ المِجَنّ، ففيه القَطعُ، وما لم يَبْلغ ثَمَنَ المِجَن فَفيه غَرَامةُ مِثليْه وجَلداتُ نَكَال" (¬3). التعزير بتغليظ الدِّية: عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّ رجلاً مسلماً قَتلَ رجلاً مِن أهل الذّمة عمداً، ورُفع إِلى عثمان -رضي الله عنه- فلم يقتُله، وغلّظ عليه الدية مثل دَيِة المسلم" (¬4). وعُلّل ذلك لإِزالة القَوَد. ¬

_ (¬1) المُراح: الموضع الذي يريح الراعي إليه الماشية إِذا أمسى، وانظر "غريب الحديث" للهروي. (¬2) النكال: العقوبة التي تُنكلُ الناسَ عن فِعْل ما جعلت له جزاءً "النهاية". (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4594)، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2413) وتقدّم. (¬4) أخرجه أحمد والدارقطني وعنه البيهقي وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2262) وتقدّم.

التعزير بالقتل في حالات مخصوصة:

التعزير بالقتل في حالات مخصوصة: وقد يبلغ حدّ التعزير القتل (¬1) في حالات مخصوصة؛ كمن لم يرتدع من إِقامة حدّ الخمر، فإِنه يُقتَل في الرابعة. فعن معاوية بن سفيان -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثمّ إِنْ شربوا فاجلدوهم، ثمّ إنْ شربوا فاجلدوهم، ثمّ إِن شربوا [الرابعة] فاقتلوهم" (¬2). قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة": "وقد قيل إِنه حديث منسوخ، ولا دليل على ذلك، بل هو محكم غير منسوخ كما حقّقه العلامة أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (9/ 49 - 92) واستقصى هناك الكلام على طرقه بما لا مزيد عليه، ولكنّا نرى أنه من باب التعزير؛ إِذا رأى الإمام القتل، وإِن لم يره لم يقتل بخلاف الجلد، فإِنه لا بد منه في كل مرة، وهو الذي اختاره الإِمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-". التعزير على قول: يا كافر! يا فاسق! يا خبيث! يا حمار!: عن علي -رضي الله عنه-: "في الرجل يقول للرجل: يا خبيث! يا فاسق! قال: ليس عليه حدّ معلوم، يُعزِّر الوالي بما رأى" (¬3). ¬

_ (¬1) وهذا لا يعارض الحديث المتقدم: "لا يجلَد فوق عشر جلدات إِلا في حد من حدود الله" لأن هذا قد وردَ فيه نَصّ بيِّن فأزال الإِشكال. (¬2) أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم وأحمد، وانظر "الصحيحة" (1360). (¬3) أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن منصور وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2393).

تعزير الخطباء الذين لا يتحرون ثبوت الأحاديث:

وفي لفظة: عن علي -رضي الله عنه- قال: "إِنّكم سألتموني عن الرجل يقول للرجل يا كافر! يا فاسق! يا حمار! وليس فيه حدّ، وإِنّما فيه عقوبةُ السلطان، فلا تعودوا فتقولوا" (¬1). تعزير الخطباء الذين لا يتحرّون ثبوت الأحاديث: جاء في فتوى الإِمام ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- في خطيب لا يُبيِّن مُخرّجي الأحاديث، في فتاواه الحديثية (ص 32) ما نصه: "وسئل -رضي الله عنه- في خطيب يرقى المنبر في كل جمعة؛ ويروي أحاديث كثيرة، ولم يبين مُخَرِّجيها، ولا رواتَها فما الذي يجب عليه؟ فأجاب بقوله: ما ذكَره من الأحاديث في خُطبِهِ من غير أن يُبيّن رواتها، أو مَنْ ذَكَرَهَا، فجائزٌ بشرط أن يكون من أهل المعرفة في الحديث، أو بنقْلها مِنْ مؤلفه كذلك. وأمّا الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرَّد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه مِنْ أهل الحديث، أو في خطبٍ ليس مؤلفها كذلك، فلا يَحِلُّ ذلك! ومَن فعله عُزِّرَ عليه التعزير الشديد. وهذا حال أكثر الخطباء، فإِنهم بمجرد رؤيتهم خطبةً فيها أحاديث؛ حفظوها وخطبوا بها من غير أن يعرفوا أنّ لتلك الأحاديث أصلاً أم لا، فيجب على حُكّام كل بلد أن يزجروا خطباءَها عن ذلك، ويجب على حُكام بلد هذا ¬

_ (¬1) قال شيخنا -رحمه الله - في المصدر السابق: "وهو عندي جيد الإسناد من الطريق الأولى؛ لأن رجاله ثقات معروفون؛ غير أصحاب عبد الملك بن عمير؛ وهم جمْعٌ تنجبر به جهالتهم".

التعزير على نفي النسب:

الخطيب، منعُهُ من ذلك إِن ارتكَبه". ثم قال: "فعلى هذا الخطيب أن يُبيِّن مستنده في روايته؛ فإِنْ كان مستنداً صحيحاً، فلا اعتراض عليه، وإِلا ساغ الاعتراض عليه، بل وجاز لوليّ الأمر -أيّد الله به الدين، وقمعَ بِعَدْلِه المعاندين- أن يعزله مِن وظيفة الخطابة؛ زجراً له عن أن يتجرأ على هذه المرتبة السنيّة بغير حقّ" انتهى ملخصاً (¬1). التعزير على نفي النسب: عن الأشعث بن قيس قال: "أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في وفد كنْدَة ولا يروني إِلا أفضلهم، فقلت: يا رسول الله ألستم منّا؟ فقال: نحن بنو النّضْر بن كنانة، لا نقفوا أمَّنَا، ولا نَنْتفي من أبينا. قال: فكان الأشعث بن قيس يقول: لا أُوتى برجل نفى رجلاً من قريش من النضر بن كنانة؛ إِلا جلَدْتُه الحدّ (¬2) " (¬3). التعزير على الاستمناء: جاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 229): وسُئل -رحمه الله تعالى- "عن ¬

_ (¬1) عن "قواعد التحديث" للعلاّمة القاسمي -رحمه الله تعالى-. (¬2) والذي يبدو أنّ كلمة الحدّ هنا؛ بالمعنى اللغوي؛ لا الاصطلاحي الفقهي؛ فإِنني لم أَرَ -فيما أعلم- حدّاً مسمّى فيمن نفى النَّسب. وهذا كقول أنس -رضي الله عنه- "آلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نسائه، وكانت انفكّت رجله ... " أخرجه البخاري (5289)، فكلمة (آلى) هنا مشتقّة من الإِيلاء اللغوي، لا من الإيلاء الفقهي؛ كما قال الكرماني -رحمه الله- والله -تعالى- أعلم. (¬3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2115)، وانظر "الإِرواء" (2368).

التعزير من حق الحاكم:

الاستمناء، هل هو حرام؟ أَم لا؟ فأجاب: أمّا الاستمناء (¬1) فالأصل فيه التحريم عند جمهور العلماء، وعلى فاعِلِه التعزير؛ وليس مِثْل الزنا. والله أعلم". التعزير من حقّ الحاكم: والتعزير يتولاه الحاكم؛ لأنّ له الولاية العامّة على المسلمين، وليس التعزير لغير الإِمام، إِلا لثلاثة: 1 - الأوّل الأب، فإِن له تعزير وَلَده الصغير؛ للتعليم والزَّجر عن سيئ الأخلاق، والظاهر أنّ الأمّ في مسألة زمن الصِّبا في كفالته لها ذلك، والأمر بالصلاة، والضرب عليها. 2 - والثاني السيد، يعزِّر رقيقه في حقِّ نفسه، وفي حقّ الله -تعالى- على الأصحّ. 3 - والثالث الزوج، له تعزير زوجته في أمر النشوز، كما صرّح به القرآن، وهل له ضرْبها على ترك الصلاة ونحوها؟ الظاهر، أن له ذلك إِن لم يكْفِ فيها الزجر؛ لأنه من باب إِنكار المنكر، والزوج من جملة مَنْ يُكلّف بالإِنكَار باليد، أو اللسان، أو الجنان، والمراد هنا الأولان (¬2). ¬

_ (¬1) ولشيخ الإِسلام -رحمه الله- تفصيل في حُكم الاستمناء، في مواطن أخرى وليس هذا موضعه، وتقدّم القول فيه في كتابي هذا. (¬2) "سبل السلام" (4/ 69) -بحذف- ونقله السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (3/ 374).

هل في التعزير ضمان؟

هل في التعزير ضمان (¬1)؟ وليس على الزوج ضمانُ الزوجة إذا تلِفت من التأديب المشروع في النّشوز ولا على المعلم إِذا أدب صبيَّه الأدب المشروع وبه قال مالك؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة يضمن ... قال الخلال: إِذا ضرب المعلّم ثلاثاً -كما قال التابعون وفقهاء الأمصار- وكان ذلك ثلاثاً، فليس بضامن، وإِنْ ضَربه ضْرباً شديداً مثله لا يكون أدباً للصبي ضمن، لأنه قد تعدّى في الضرب. قال القاضي: وكذلك يجيء على قياس قول أصحابنا؛ إِذا ضَرب الأب أو الجد الصبي، تأديباً فهلك، أو الحاكم أو أمينه أو الوصي عليه تأديباً؛ فلا ضمان عليهم كالمعلّم. قلت: ضابط الأمر هو أن يؤدب التأديب المشروع، دون إِسراف ولا تعدٍّ، فهذا لا ضمان له، وإِلا ضمن، ولا دليل في اقتصار ضرب المعلم على ثلاث. والله -تعالى- أعلم. يُعزِّر الوالي بما يرى: عن علي -رضي الله عنه- في الرجل يقول للرجل: "يا خبيث! يا فاسق! قال: ليس عليه حدّ معلوم، يُعزِّر الوالي بما رأى" (¬2). وفي لفظ: عن علي -رضي الله عنه- قال: "إِنّكم سألتموني عن الرجل ¬

_ (¬1) استفدت مادّة هذا العنوان من "المغني" (9/ 349) وانظر الكتاب المذكور للمزيد من الفائدة تحت "فصول فيما لا يُضمن". (¬2) أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن منصور وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2393) وتقدّم.

الجمع بين نوعين من أنواع التعزير:

يقول للرجل يا كافر! يا فاسق! يا حمار! وليس فيه حدّ، وإنّما فيه عقوبةٌ من السلطان، فلا تعودوا فتقولوا" (¬1). الجمع بين نوعين من أنواع التعزير: عن جعفر بن برقان قال: "بلغَنا أنّ عمر بن عبد العزيز أُتِيَ بجارية كانت بين رجلين فوطئها أحدهما، فاستشار فيها سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير، فقالوا: نرى أن يجلد دون الحد، ويقيمونه قيمة، فيدفع إِلى شريكه نصف القيمة" (¬2). وعن عمير بن نمير قال: "سُئل ابن عمر عن جارية كانت بين رجلين فوقَع عليها أحدهما، قال: ليس عليه حد هو خائن، يقوم عليه قيمة ويأخذها" (¬3). وعن عطاء بن مروان عن أبيه قال: "أتي علي بالنجاشي قد شرب الخمر في رمضان، فضربه ثمانين، ثم أمَر به إِلى السجن، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين، ثم قال: إِنما جلدتك هذه العشرين لإِفطارك في رمضان، وجُرأتك على الله" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "الإِرواء" (8/ 54) تحت الأثر (2393) وتقدّم. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، وانظر "الإِرواء" (8/ 157) وتقدّم. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، وقال شيخنا -رحمه الله-: ورجاله ثقات رجال الشيخين غير عمير بن نمير أورده ابن حبان في "الثقات"، وانظر "الإِرواء" (8/ 157) وتقدّم. (¬4) أخرجه الطحاوي، وقال شيخنا -رحمه الله-: وإسناده حسن أو قريب من ذلك رجاله كلهم ثقات معروفون غير أبي مروان والد عطاء، وثقه ابن حبان والعجلي، وقال النسائي: "غير معروف: لكن روى عنه جماعة، وقيل له صحبة"، وانظر "الإرواء" (2399) وتقدّم.

ما لا يجوز فيه التعزير:

وتقدم أكثر من مرَة حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رجلاً من مُزَيْنة أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! كيف ترى في حريسة الجبل، فقال: "هي وَمِثْلُها والنَّكَالُ، ولَيْس في شَيْء مِنَ الماشِيَة قَطعٌ، إِلا فِيما آوَاه المُراحُ. فَبَلغ ثمن المِجَنّ، فَفيه قَطْع اليد، وما لم يبلُغ ثمن المِجَنِّ، ففيه غرامةُ مِثْليه، وجَلَدَات نَكَال" (¬1). وكذا الأمر فيما وَرَد في الثمر المعلّق. ما لا يجوز فيه التعزير: ولا يجوز التعزير بحلق اللحية، ولا بتخريب الدور، وقلْع البساتين، والزروع، والثمار والشجر، كما لا يجوز بجدع الأنف، ولا بقطع الأذن، أو الشفة، أو الأنامل؛ لأن ذلك لم يُعهَد عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- (¬2). مسائل متفرقة في التعزير: جاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 225): "سئل شيخ الإِسلام أبو العباس عن رجل من أمراء المسلمين له مماليك، وعنده غلمان: فهل له أن يقيم على أحدهم حَدّاً إِذا ارتكبه؟ وهل له أن يأمرهم بواجب إِذا تركوه؛ كالصلوات الخمس ونحوها؟ وما صفة السوط الذي يعاقبهم به؟ فأجاب: الحمد لله، الذي يجب عليه أن يأمرهم كلَّهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر والبغي. وأقلّ ما يفعل أنه إِذا استأجر أجيراً منهم يشترط عليه ذلك، كما يشترط ما ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4594) وتقدّم. (¬2) انظر "فقه السنة" (3/ 372).

يشترطه من الأعمال، ومتى خرج واحد منهم عن ذلك طرَدَه. وإذا كان قادراً على عقوبتهم بحيث يُقرُّه السلطان على ذلك في العرف الذي اعتاده الناس وغيره؛ لا يعاقبهم على ذلك؛ لكونهم تحت حمايته، ونحو ذلك، فينبغي له أن يُعزِّرهم على ذلك؛ إِذا لم يؤدوا الواجبات ويتركوا المحرمات إِلا بالعقوبة، وهو المخاطَب بذلك حينئذ، فإِنه هو القادر عليه، وغيره لا يقدر على ذلك؛ مراعاة له. فإِن لم يستطع أن يقيم هو الواجب، ولم يَقُم غيرُه بالواجب، صار الجميع مستحقين العقوبة، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ الناس إِذا رأوا المنكر فلم يغيروه؛ أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه" (¬1). وقال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإِن لم يستطع فبلسانه، فإِنْ لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإِيمان" (¬2). لا سيّما إِذا كان يضربهم لما يتركونه مِن حقوقه، فمن القبيح أن يعاقبهم على حقوقه، ولا يعاقبهم على حقوق الله. والتأديب يكون بسوطٍ معتدل، وضرْبٍ معتدل، ولا يَضرب الوجه، ولا المقاتِل". وفيه (ص 226): وسئل -قدّس الله رُوحه-: "عن رجل يُسفِّه على والديه: فما يجب عليه؟ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه "صحيح ابن ماجه" (3236) وهذا لفظه وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3644) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1761)، وانظر "الصحيحة" (1564). (¬2) أخرجه مسلم (49).

فأجاب: إِذا شتَم الرجل أباه واعتدى عليه؛ فإِنه يجب أن يعاقَب عقوبة بليغة تردعه وأمثاله عن مِثل ذلك، بل وأبلغ من ذلك أنه قد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في "الصحيحين" أنه قال: "إِن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسبّ أبا الرجل، فيسبّ أباه، ويسبّ أمّه فيسبّ أمّه" (¬1). فإِذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد جَعل من الكبائر؛ أن يسبّ الرجل أبا غيرِه؛ لئلا يسبّ أباه، فكيف إِذا سبّ هو أباه مباشرة! فهذا يستحق العقوبة التي تمنعه عن عقوق الوالدين ... ". وفيه (ص 228): وسُئل -قدّس الله رُوحه-: "عمَّن شتَم رجلاً وسبّه؟ فأجاب: إِذا اعتدى عليه بالشتم والسب؛ فله أن يعتدي عليه بمثل ما اعتدى عليه؛ فيشتمه إِذا لم يكن ذلك مُحرَّماً لعينه؛ كالكذِب، وأمّا إِنْ كان محرماً لعينه كالقذف بغير الزنا فإِنه يُعزَّر على ذلك تعزيراً بليغاً يردعه وأمثاله من السفهاء، ولو عزر على النوع الأول من الشتم جاز؛ وهو الذي يشرع إِذا تكرر سفهه أو عدوانه على من هو أفضل منه. والله أعلم". وجاء في الصفحة نفسها: وسئل -رحمه الله-: "عمن شتم رجلاً فقال له: أنت ملعون، ولد زنا؟ فأجاب: "يجب تعزيزه على هذا الكلام، ويجب عليه حدّ القذف إنْ لم يقصِد بهذه الكلمة ما يقصده كثير من الناس مِنْ قَصْدهم بهذه الكلمة، أن المشتوم فِعله خبيث كفِعْل وَلد الزنا". تم بحمد الله وتوفيقه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5973) ومسلم (90).

الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الجزء السابع كِتابُ الجِهاد وَالهدنَة وعَقد الذمَّة والجِزيَة والغَنائِمِ والفَيء وعَقْد الأمان وقِتَال البُغَاة بقلم حسين بن عودة العوايشة دار ابن حزم

بسم الله الرحمن الرحيم حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1429 هـ - 2008 م الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص ب: 6366/ 14 هاتف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

الموسوعة الفقهية الميسَّرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الجزء السابع كِتابُ الجِهاد وَالهدنَة وعَقد الذمَّة والجِزيَة والغَنائِمِ والفَيء وعَقْد الأمان وقِتَال البُغَاة بقلم حسين بن عودة العوايشة دار ابن حزم

بسم الله الرحمن الرحيم حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1429 هـ - 2008 م الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص ب: 6366/ 14 هاتف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

-[المقَدّمَة]- إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُه وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3). أمَّا بعد: فإِنَّ أصدَقَ الحديثِ كتابُ الله، وخير الهدْي هدْي محمّد، وشرّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النَّار. فهذا الجزء السابع من كتابي "الموسوعة الفقهيّة" أقدّمه للقرّاء الكِرام، بعد أن طال الزّمن، لأمورٍ عديدة؛ منها إنجاز بعض الأعمال العلميّة الأُخرى، أسأل الله -تعالى- أنْ يحفظني بالإيمان والعمل الصالح؛ لاستكمال ما تبقّى مِن الكتاب ¬

_ (¬1) آل عمران: 102. (¬2) النساء: 1. (¬3) الأحزاب: 70 - 71.

وغير ذلك مما أرجو أن يكون نافعاً مفيداً للأمة. وهذا الجزء مُخَصّصٌ في الجهاد في سبيل الله -سبحانه- وما يتصل به من أبحاث. سائلاً الله -تعالى- أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأنْ ينفع بي وبكتابي، ويجعلني مفتاح خير مغلاق شرّ، إنّه سميع مجيب. وكتب: حسين بن عودة العوايشة عمّان- 28 جمادى الآخرة 1429 هـ

الجهاد

الجهاد

إيحابه:

الجهاد الجهاد -بكسر الجيم- أصْلهُ لغةً: المشقّة، يقال: جَهدْتُ جهاداً: بَلغْت المشقّة. وشرعاً: بَذْل الجهد في قتال الكُفّار، وتقع مجاهدة الكفار باليد والمال واللسان والقلب (¬1). إيحابه: قال الله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله-: "هذا إيجابٌ من الله -تعالى- للجهاد على المسلمين أن يكفّوا شرَّ الأعداء عن حوزة الإسلام. وقال الزهري: الجهاد واجب على كل واحد، غزا أو قعَد، فالقاعد عليه إِذا استُعين أن يُعين، وإذا استُغيث أن يُغيث، وإذا استُنفر أن يَنْفِر، وإنْ لم يُحتَجْ إليه قعَد. ولهذا ثَبَت في "الصحيح" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من مات ولم يغزُ ولم يحدِّث به نفسه؛ مات على شُعبة من نفاق" (¬3). ¬

_ (¬1) "الفتح" بتصرف يسير. (¬2) البقرة: 216. (¬3) أخرجه مسلم: 1910.

الجهاد فرض كفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين

وقال- عليه الصلاة والسلام- يوم الفتح: "لا هجرة، ولكن جهاد ونيّة، وإذا استُنفرتم فانفروا" (¬1). الجهاد فرضُ كفاية إذا قام به قومٌ سقط عن الباقين جاءفي "المغني" (10/ 364): "معنى فرضِ الكفاية، الذي إنْ لم يقم به من يَكْفي، أَثِم النّاس كلهم، وإنْ قام به من يكفي، سقَط عن سائر النّاس. فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع، كفرض الأعيان، ثمّ يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض النّاس له، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفِعل غيره، والجهاد من فروض الكفايات؛ في قول عامّة أهل العِلم. وحُكي عن سعيد بن المسيب، أنه مِن فروض الأعيان؛ لقول الله -تعالى-: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) وقال: {إلاَّ تنفروا يُعَذِبْكُم عَذَابًا أَليماً} (¬3). وقوله -سبحانه-: {كُتِبَ عَليكمُ القِتَالُ} (¬4). ورَوَى أبو هريرة -رضي الله عنه- أنّ النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من مات ولم يغزُ، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1834، ومسلم: 1353. (¬2) التوبة: 41. (¬3) التوبة: 39. (¬4) البقرة: 216.

ولم يحدِّثْ نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق" (¬1). ولنا قول الله -تعالى-: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬2). وهذا يدلّ على أنّ القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، وقال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (¬3). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثَ بَعْثاً إلى بني لحِيان من هذيل، فقال: لينبعِثْ مِن كل رجلين أحدهما، والأجرُ بينهما" (¬4). ولأنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث السرايا، ويقيم هو وسائر أصحابه. فأمّا الآية التي احتجّوا بها، فقد قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نَسَخَها قوله -تعالى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} (¬5). ويُحتمل أنه أراد حين استنفَرَهم النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى غزوة تبوك، وكانت إجابتهم إلى ذلك واجبةً عليهم، ولذلك هجر النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كعب بن مالك وأصحابه الذين خُلِّفوا، حتى تاب الله عليهم بعد ذلك، وكذلك يجب على من استنفَرَه الإمام؛ ¬

_ (¬1) تقدّم. (¬2) النساء: 95. (¬3) التوبة: 122. (¬4) أخرجه مسلم: 1896. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2187).

متى يتعين الجهاد

لقول النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا استُنفرتم فانفروا" (¬1). ومعنى الكفاية في الجهاد: أن ينهض للجهاد قوم يَكْفُون في قتالهم؛ إمّا أن يكونوا جندا لهم دواوين (¬2) من أجل ذلك، أو يكونوا قد أعدّوا أنفسهم له تبرعاً؛ بحيث إذا قَصَدَهم العدو حصلَت المنَعَة بهم، ويكون في الثغور من يدفع العدوَّ عنها، ويُبعَث في كل سنة جيش يغيرون على العدوِّ في بلادهم". متى يتعيّن الجهاد (¬3) يتعيّن الجهاد في ثلاثة مواضع: أحدها، إذا التقى الزحفَان، وتقابَل الصفّان؛ حَرُم على مَن حَضَر الانصراف، وتعيّن عليه المُقام، لقوله -تعالى-: {يا أيُّهُا اَلَذِينَءَامَنُوا إذَا لَقِيتُم فِئَةَ فَاثبُتُوا وَاَذكرُوا الله كثِيراً} (¬4). وقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬5). وقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬6). ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه. (¬2) الدفتر الذي يُكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء. "النّهاية". (¬3) انظر "المغني" (13/ 8). (¬4) الأنفال: 45. (¬5) الأنفال: 46. (¬6) الأنفال: 15 - 16.

ماذا يشترط لوجوب الجهاد:

الثاني: إذا نَزل الكفار ببلدٍ، تعيَّن على أهله قتالهم ودَفْعُهم. الثالث: إذا استنفَر الإمام قوماً لزِمهم النفير معه؛ لقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1). وقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا استُنفرتم فانفروا" (¬2). ماذا يُشترَط لوجوب الجهاد (¬3): ويُشتَرط لوجوب الجهاد سبعة شروط:. الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكوريّة، والسلامة من الضرر، ووجود النفقة. فأمّا الإسلام والبلوغ والعقل، فهي شروطٌ لوجوب سائر الفروع، ولأنَّ الكافر غير مأمونٍ في الجهاد، والمجنون لا يتأتى منه الجهاد، والصبيُّ ضعيفُ البِنية. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنَّ النَبِى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَضَهُ يَوْمَ أحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْهُ وَعَرَضَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ؛ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَهُ" (¬4). وأمّا الحريّة فتُشتَرط؛ لِما رُوي أنَ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبايع الحرَّ على الإسلام ¬

_ (¬1) التوبة: 38، 39. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) "المغني" (13/ 8) بتصرف. (¬4) أخرجه البخاري: 4097 واللفظ له، ومسلم: 1868.

والجهاد (¬1)، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد، ولأنَّ الجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة، فلم تجب على العبد كالحج. وأمّا الذكورية فتُشتَرط؛ لما رَوَت عائشة أمّ المؤمنين -رضي الله عنها- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سأله نساؤه عن الجهاد فقال: "نِعْمَ الجهاد الحجّ" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها أيضاً- أنَّها قالت: "يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: لا، لكن أفضل الجهاد حجٌّ مبرور" (¬3). وعن أمّ سلمة -رضي الله عنها- أَنَّها قالت: "يغزُو الرجال ولا تَغْزُو النساء وإنَّما لنا نصف الميراث، فأنزَل الله -تبارك وتعالى-: {وَلَا تَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اَللهُ به بَعضَكُم عَلى بَعضٍ} (¬4) " (¬5). ولا يجب على خُنثى مُشْكِل؛ لأنه لا يُعلَم كونُه ذَكَراً، فلا يجب مع الشك في شرطِه. وأمّا السلامة مِن الضرر. فمعناه السلامة مِن العمى والعَرَج والمرَض، وهو شرط؛ لقول الله -تعالى-: {ليسَ على الأعمى حَرَجٌ وَلَا عَلَى اَلأَعرَجِ حرجٌ وَلَا عَلَى اَلمَرِيضِ حَرَجٌ} (¬6). ¬

_ (¬1) قلت لعموم النّصوص الواردة في البيعة على الجهاد، وستأتي بإذن الله -تعالى-. (¬2) أخرجه البخاري: 2876. (¬3) أخرجه البخاري: 1520. (¬4) النساء: 32. (¬5) أخرجه الترمذي، "صحيح سنن الترمذي" (2419). (¬6) النور: 61.

ولأنّ هذه الأعذار تمنعه من الجهاد؛ فأمّا العَمَى فمعروف، وأمّا العَرَج، فالمانع منه هو الفاحش الذي يمنع المشي الجيِّدَ والرُّكوب؛ كالزَّمَانَة (¬1) ونحوها. وأمّا اليسير الذي يتمكن معه من الركوب والمشي، وإنما يتعذر عليه شدة العَدْو؛ فلا يَمنَع وجوب الجهاد؛ لأنه يَتَمكن منه، فشابَه الأعور. عن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: "أتى عمرو بنُ الجَمُوحِ إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! أرأيتَ إنْ قَاتَلْتُ في سبيل الله حتى أُقتل! أَمشي برجلي هذه صحيحةً في الجنة؟ وكانت رِجْلُه عَرْجاءَ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم، فَقُتلوا يوم أُحُد: هو وابنُ أخيه ومولىً لهم، فَمَرَّ عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كأني أنظرُ إليك تمشي بِرِجْلِك هذه صحيحةً في الجنةِ، فأمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهما وبمولاهما، فَجُعِلوا في قبر واحدٍ" (¬2). وكذلك المرض المانع هو الشديد، فأمَّا اليسير منه الذي لا يمنع إمكان الجهاد؛ كوجع الضرس والصداع الخفيف، فلا يَمنَع الوجوب؛ لأنه لا يتعذَّرُ معه الجهاد؛ فهو كالعَوَر. وأمّا وجود النفقة، فيُشترط؛ لقول الله -تعالى-: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬3). ولأنَّ الجهاد لا يمكن إلاَّ بآلة، فيُعتبر القدرة عليها. ¬

_ (¬1) الزّمانة: مرضٌ يدوم. (¬2) أخرجه أحمد بسند حسن كما قال الحافظ، كذا في "أحكام الجنائز" (ص 185). (¬3) التوبة: 91.

متى تشرع الحرب

فإنْ كان الجهاد على مسافة لا تُقصَر فيها الصلاة؛ اشتُرط أن يكون واجداً للزاد، ونفقة عائلته في مدة غيبته، وسلاح يقاتل به، ولا تُعتَبر الرّاحلة؛ لأنّه سفر قريب. وإنْ كانت المسافة تُقصَر فيها الصلاة، اعتُبِر مع ذلك الراحلة؛ لقول الله - تعالى-: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (¬1). متى تُشرع الحرب (¬2) تُشرع الحرب في حالة الدفاع عن النفس، والعرض، والمال، والوطن؛ عند الاعتداء. يقول الله -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬3). عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "مَن قُتل دون ماله فهو شهيد" (¬4). وعن سعيد بن زيد -رضي الله عنه- أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَن قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومَن قُتِل دون دمه، فهو شهيد، ومَن قُتِل دون دينه فهو شهيد، ومن ¬

_ (¬1) التوبة: 92. (¬2) عن "فقه السُّنَّة" (3/ 394) بتصرف وزيادة. (¬3) البقرة: 190. (¬4) أخرجه البخاري: 2480، ومسلم: 141.

قتل دون أهله فهو شهيد" (¬1). ويقول الله -سبحانه-: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} (¬2). وتُشرع الحرب أيضاً؛ حالةَ الدفاع عن الدعوة إلى الله، إذا وقَف أحدٌ في سبيلها بتعذيبِ مَنْ آمَن بها، أو بصدِّ مَن أراد الدخول فيها، أو بمنع الداعي مِن تبليغها، لقوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ *وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (¬3). وقد تضمنت هذه الآيات ما يأتي: 1 - الأمر بقتال الذين يبدؤون بالعدوان، ومقاتلة المعتدين، لكفّ عدوانهم. 2 - أمّا الذين لا يبدؤون بعدوان، فإنه لا يجوز قتالهم ابتداءً، لأنّ الله -تعالى- نهى عن الاعتداء، وحرّم البغيَ والظلمَ في قوله: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 57). (¬2) سورة البقرة: 246. (¬3) سورة البقرة: 190 - 193. (¬4) البقرة: 190.

3 - وتعليل النهي عن العدوان، بأنّ الله لا يُحب المعتدين، دليل على أنَّ هذا النهي محُكم غير قابل للنسخ، لأنّ هذا إخبار بعدم محبة الله للاعتداء، والإخبار لا يدخله النسخ؛ لأنَّ الاعتداء هو الظلم، والله لا يحبُّ الظلم أبداً. 4 - أنّ لهذه الحرب المشروعة غاية تنتهي إليها، وهي منع فتنةِ المؤمنين والمؤمنات، بترك إيذائهم، وترك حريّاتهم؛ ليمارسوا عبادة الله ويقيموا دينه، وهم آمِنون على أنفسهم مِن كلّ عدوان. ويقول الله -سبحانه-: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (¬1). وقد بيَّنَت هذه الآية سببين مِن أسباب القتال: (أولهما) القتالُ في سبيل الله، وهو الغاية التي يسعى إليها الدين، حتى لا تكونَ فتنة، ويكون الدين لله. (وثانيهما) القتال لنُصرة المستضعفين، الذين أسلموا بمكة، ولم يستطيعوا الهجرة، فعذَّبَتْهم قريش، وفَتَنَتْهم حتى طلبوا من الله الخلاص، فهؤلاء لا غِنى لهم عن الحماية التي تَدفعُ عنهم أذى الظالمين، وتمُكّنهم مِن الحرية، فيما يدينون ويعتقدون. ويقول الله -سبحانه-: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا ¬

_ (¬1) النساء: 75.

جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (¬1). قال ابن كثير -رحمه الله-: "هؤلاء قوم آخرون من المُسْتَثنَين عن الأمر بقتالهم، وهم الذين يجيئون إلى المصاف، وهم حَصِرَةٌ صدورهم، أي: ضيّقةٌ صدورهم مُبْغضين أن يقاتلوكم، ولا يَهونُ عليهم أيضاً أن يقاتلوا قومهم معكم، بل هم لا لكم ولا عليكم. {ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم} أي: من لُطفه بكم أن كفَّهم عنكم {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم} أي: المُسالمة {فَما جَعَلَ الله لكم عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} أي: فليس لكم أن تقتلوهم، ما دامت حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر مِن بني هاشم مع المشركين، فحضروا القتال وهم كارهون، كالعباس ونحوه". انتهى فهؤلاء القوم الذين لم يقاتِلوا قومهم، ولم يقاتِلوا المسلمين واعتزلوا محاربة الفريقين، وكان اعتزالهم هذا اعتزالاً حقيقياً؛ يُريدون به السلام، فهؤلاء لا سبيلَ للمؤمنين عليهم. ويقول الله- تعالى-: {وَإِنْ جَنَحُوا (¬2) لِلسَّلْمِ (¬3) فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} (¬4). ففي هذه الآية الأمر بالجنوح إلى السَّلم؛ إذا جنح العدو إليها، حتى ولو ¬

_ (¬1) النساء: 90. (¬2) جنحوا: أي مالوا. وانظر "تفسير ابن كثير". (¬3) السَّلم: أي المسالمة والمصالحة والمهادنة. وانظر "تفسير ابن كثير". (¬4) الأنفال: 61 - 62.

مراتب الجهاد

كان جنوحه خِداعاً ومكراً [قلتُ: ويرجع هذا إلى تقدير الإمام مراعاةً لمصلحة المسلمين ولما يقتضيه الحال]. وقد شرع الله -تعالى- قتال المشركين من العرب، وكانوا قد نكثوا الأيمان ونقضوا العهود وهمّوا بإخراج الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال الله -تعالى-: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬1). ولمّا تجمّعوا جميعاً ورَمَوا المسلمين عن قوس واحدة، أمَرَ الله بقتالهم جميعا؛ كما في قوله -سبحانه-: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (¬2). مراتب الجهاد *لمَّا كان الجِهاد ذِروةَ سنامِ الإسلام وقُبّتَه، ومنازل أهلِه أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرِّفعةُ في الدنيا، فهم الأعْلَوْنَ في الدنيا والآخرةِ، كان رسول الله في الذِّروة العُليا منه، واسْتولى على أنواعه كلِّها فجاهدَ في الله حقَّ جهاده؛ بالقلبِ، والجنانِ، والدعوةِ، والبيانِ، والسيفِ، والسِّنانِ، وكانت ساعاته موقوفةً على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده. ولهذا كان أرفعَ العالمين ذِكْراً، وأعظمَهم عند الله قَدْراً. ¬

_ (¬1) التوبة: 13 - 15. (¬2) التوبة: 36.

وأمَرَه الله -تعالى- بالجهاد مِن حين بعثَه، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (¬1). فهذه سورة مكيّة أَمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجَّة، والبيان، وتبليغِ القرآن، وكذلك جهادُ المنافقين، إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فَهُم تحت قهر أهلِ الإسلام، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬2). فجهادُ المنافقين أصعبُ مِن جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمَّه، ووَرَثةِ الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ في العالم، والمشاركون فيه، والمعاونون عليه -وإنْ كانو اهم الأقلِّين عدداً- فهم الأَعْظمون عند الله قَدْراً. ولمَّا كان مِن أفضلِ الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعَارِضِ، مِثل انْ تتكلَّم به عند مَن تُخاف سطوتُه وأذاه، كان للرسلِ -صلوات الله عليهم وسلامُهُ- مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبيِّنا -صلوات الله وسلامُه عليه- مِن ذلك أكملُ الجهاد وأَتّمُّه. ولمَّا كان جهاد أعداء الله في الخارج؛ فَرْعاً على جهاد العبد نفسه في ذات اللهِ، وكما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المجاهدُ مَنْ جَاهدَ نفسَهُ في طاعةِ الله (¬3)، والمُهاجِر مَنْ هَجَرَ ¬

_ (¬1) الفرقان: 51، 52. (¬2) التوبة: 73. (¬3) أقول: وبهذا فجهاد أعداء الله -تعالى- في الخارج مفتقرٌ إلى جهاد النفس، ولا يُقبَل الجهاد، ولا تُنالُ الشهادة في سبيل الله -سبحانه- إلاَّ بمجاهدة النفس، وتجريدها مِن الحظوظ والهوى، فرُبَّ رجلٍ قُتِل في الميدان؛ سُحِب على وجهه في النار يوم القيامة، لأنه قاتَل رياءً وسمعةً، ورُبَّ رجلٍ مات على فراشه لمرضٍ أو عذرٍ؛ بلَّغه الله منازل الشهداء لإخلاصه وَصِدْقِه.

ما نهى الله عنه" (¬1). كان جهادُ النفس مُقَدَّماً على جهاد العدوِّ في الخارج، وأصلاً له، فإنَّه ما لم يجاهِد نفسه أوّلاً لتَفْعلَ ما أُمِرَتْ به، وتتركَ ما نُهِيَتْ عنه، ويُحارِبْها في الله، لم يُمْكِنْهُ جهادُ عدوِّه في الخارج. فكيف يمكنُه جهاد عدوِّه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلِّطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يحاربه في الله، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوّه؛ حتى يجاهِدَ نفسه على الخروج. فهذان عدوَّان قد امْتُحِن العبد بجهادهما، وبينهما عدوٌّ ثالث لا يمكنه جهادُهما إلاَّ بجهاده، وهو واقف بينهما يُثبِّط العبدَ عن جهادهما، ويُخذِّلُه ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّلُ له ما في جهادهما من المشاقِّ وترْك الحظوظ وفَوْتِ اللذاتِ والمشتهيات ولا يُمكنه أن يجاهِدَ ذَيْنكَ العدوَّيْن إلاَّ بجهاده، فكان جهادُه هو الأصلَ لجهادهما، وهو الشيطان. قال -تعالى-: {إن الشيطان لكم عدوٌّ فاتخِذُوُه عَدُوّاً} (¬2). والأمر باتخاذه عدوّاً تنبيهٌ على استفراغ الوُسع في محاربته ومجاهدته، كأنَّه عدوٌّ لا يَفْتُر ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس. فهذه ثلاثة أعداء أُمِرَ العبد بمحاربتها وجهادها، وقد بُلي بمحاربتها في هذه الدار، وسلَّطتْ عليه امتحاناً من الله له وابتلاءً، فأعطى الله العبدَ مَدَداً وعُدَّةً وأعواناً وسلاحاً لهذا الجهاد، وأعطى أعداءه مَدَداً وعُدَّةً وأعواناً وسلاحاً، وبَلاَ أحدَ الفريقين بالآخر وجعل بعضَهم لبعض فتنةَ لِيَبْلُوَ أخبارهم، ويمتحن من يتولَّاه ويتولَّى رسُلَه، ممن يتولّى الشيطان وحزبه، كما قال -تعالى-: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "الصحيحة" (549). (¬2) فاطر: 6.

لبعضٍ فتنةً أتصبرون وكان ربك بصيراً} (¬1)، وقال -تعالى-: {ذَلِكَ وَلَو يشاء الله لَاَنتصَرَ منهُم ولكن ليبلوا بعضكم ببعضٍ} (¬2)، وقال -تعالى-: {ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم ونبلوا أخباركم} (¬3). فأعطى عباده الأسماعَ والأبصارَ، والعقول والقُوى، وأنزل عليهم كُتبه، وأرسل إليهم رسُله، وأمدّهم بملائكته، وقال لهم: {أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} (¬4)، وَأَمَرَهُم مِن أمره بما هو مِن أعظم العون لهم على حرب عدوِّهم، وأخبَرَهم أنهم إنِ امتثلوا ما أمَرَهم به؛ لم يزالوا منصورين على عدوِّه وعدوِّهم، وأنه إِنْ سلَّطه عليهم فلِتَرْكِهم بعضَ ما أُمِروا به؛ ولمِعصيتهم له، ثمّ لم يُؤْيسهُم، ولم يُقَنِّطْهُم، بل أَمَرَهُم أن يستقْبِلوا أمْرَهم، ويُداووا جِرَاحَهُم، ويعودوا إلى مناهضة عدوِّهم فينصرهم عليهم، ويظفرهم بهم، فأخبَرَهُم أنه مع المتقين منهم، ومع المحسنين، ومع الصابرين، ومع المؤمنين، وأنَّه يُدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوِّهم، ولولا دفاعُه عنهم؛ لتخطَّفَهم عدوُّهم واجتاحَهم ... وهذه المدافعةُ عنهم بحسب إيمانِهم، وعلى قدْرِه، فإنْ قَوِيَ الإيمانُ قويتِ المدافعة، فمَنْ وجد خيراً، فليحمد الله، ومَن وجد غيرَ ذلك، فلا يلومنَّ إلاَّ نفسه. وأمَرَهم أنْ يُجاهدوا فيه حقّ جهاده، كما أمَرَهم أن يتَّقوه حقَّ تقاته. وكما أن حقّ تقاته أن يُطاع فلا يُعصى، ويذكَرَ فلا يُنسى، ويُشكَر فلا يُكفر، فحقُّ جهادِه أن يجاهد العبد نفسه؛ لِيُسلِم قلبَه ولسانَه وجوارحَه لله، فيكون كلُّه لله، وبالله، لا ¬

_ (¬1) الفرقان: 20. (¬2) محمد: 4. (¬3) محمد: 31. (¬4) الأنفال: 12.

لنفسِه ولا بنفسه، ويُجاهدَ شيطانه بتكذيبِ وعده، ومعصيةِ أمرهِ، وارتكابِ نهيه، فإنه يَعِدُ الأمانيِّ، ويمنِّي الغرور، ويعِدُ الفقرَ، ويأمرُ بالفحشاء، وينهى عن التُّقى والهُدى والعفةِ والصبرِ، وأخلاقِ الإيمان كلِّها، فجاهده بتكذيب وعْدِه، ومعصية أمره، فينشأ له من هذين الجهادين قوةٌ وسلطانٌ، وعُدَّةٌ يجاهد بها أعداء الله في الخارج؛ بقلبه ولسانه ويده ومالهِ، لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا. واختلفَت عبارات السلف في حقِّ الجهاد: فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: هو استفراغ الطاقة فيه، وألاَّ يخافَ في الله لومةَ لائم. وقال مُقاتل: اعملوا لله حقَّ عمَلِه، واعبدُوه حقَّ عبادته. وقال عبد الله بن المبارك: هو مجاهدةُ النفس والهوى. ولم يُصِبْ مَن قال: إنَّ الآيتين منسوختان؛ لظنِّه أنّهما تضمَّنَتا الأمر بما لا يُطاق، وحقّ تقاته وحقّ جهاده: هو ما يُطيقه كلُّ عبد في نفسه، وذلك يختلف باختلافِ أحوال المكلفين في القدرة، والعجز، والعلم والجهل. فحقُّ التقوى وحقُّ الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيءٌ، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيءٌ. وتأمَّل كيف عقَّب الأمرَ بذلك بقوله: {هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عليكم في الدين مِنْ حَرَجٍ} (¬1)، والحَرَج: الضِّيقُ، بل جَعَلَه واسعاً يَسَعُ كلَّ أحدٍ، كما جَعل رزقه يَسَعُ كلَّ حي، وكلَّف العبد بما يسَعه العبدُ، ورَزَق العبدَ ما يسَعُ العبد، فهو يسَعُ تكليفَه وَيَسَعُهُ رزقُهُ، وما جعَل على عبده في الدين مِن حَرَجٍ بوجه ما. وقد وسَّع الله -سبحانه وتعالى- على عباده غايةَ التَّوسِعة في دينه، ورِزْقِه، ¬

_ (¬1) الحج: 78.

وعفْوِه، ومغفرته، وبسَطَ عليهم التوبة ما دامت الروحُ في الجسد، وفتَحَ لهم باباً لها لا يُغْلِقُهُ عنهم إلى أنْ تطلُعَ الشمسُ مِن مغربها، وجعلَ لكلِّ سيئةٍ كفَّارةً تكفِّرها؛ مِن توبة، أو صدقة، أو حسنة ماحية، أو مصيبة مُكفِّرة، وجعَل بكلِّ ما حرَّم عليهم عِوضاً مِن الحلال أنفعَ لهم منه، وأطيبَ وألذَّ، فيقومُ مقامَه ليستغني العبد عن الحرام، ويسعه الحلال، فلا يَضيقُ عنه، وجعَل لكل عُسرٍ يمتحنُهم به يُسراً قبله، ويُسراً بعده ... ، فإذا كان هذا شأنه -سبحانه- مع عباده، فكيف يُكلِّفُهم ما لا يَسَعُهُم فضلاً عمَّا لا يُطيقونه ولا يقدرون عليه. إذا عُرف هذا، فالجهادُ أربعُ مراتبَ: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين. فجهاد النفس أربعُ مراتب أيضاً: إحداها: أنْ يُجاهِدَها على تعلُّم الهُدى، ودينِ الحقِّ الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلاَّ به، ومتى فاتها عِلْمُه شقيت في الدَّارين. الثانية: أنْ يُجاهدَها على العمل به بعد عِلْمِه، وإلا فمُجرَّدُ العلم بلا عمل إنْ لم يضرَّها لم ينفعها. الثالثة: أنْ يُجاهدَها على الدعوة إليه، وتعليمِهِ مَنْ لا يَعْلَمهُ، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله مِن الهدى والبينات، ولا ينفعهُ عِلْمه، ولا يُنْجِيه مِن عذاب الله. الرابعة: أنْ يُجاهدَها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمّلَ ذلك كلَّه لله. فإذا استكمَل هذه المراتب الأربع، صار من الرّبَّانيين، فإنَّ السلف مُجْمِعُون

على أنَ العَالِم لا يستحقُّ أن يُسمَّى ربّانياً حتى يعرِفَ الحقَّ، ويعملَ به، ويعلِّمَه، فمَن عَلِمَ وعَمِلَ وعلَّم؛ فذاك يُدعى عظيماً في ملكوتِ السماوات. وأمَّا جهاد الشيطان فمرتبتان: إحداهما: جهادُه على دَفْعِ ما يُلقي إلى العبد؛ مِن الشُّبُهات والشكوك القادحة في الإيمان. الثانية: جهادهُ على دفع ما يُلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات. فالجهادُ الأول يكون بعدَه اليقين، والثاني يكون بعدَه الصبر. قال -تعالى-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬1)، فأخبَرَ أنَّ إمامة الدين، إنَّما تُنال بالصبر واليقين، فالصبر يَدْفَع الشهواتِ والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات. وأمَّا جهاد الكُفّار والمنافقين، فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخصُّ باليد، وجهاد المنافقين أخصُّ باللسان. وأمَّا جهادُ أرباب الظلم والبِدَعِ والمنكرات، فثلاث مراتب: الأولى: باليدِ إذا قَدِرَ، فإنْ عَجَزَ، انتقل إلى اللسان، فإن عَجَزَ، جاهَد بقلبه، فهذه ثلاثةَ عشرَ مرتبةً مِن الجهاد، و"مَن مَاتَ ولَم يغْزُ، ولم يُحدِّث نفسه بالغزْوِ، مات على شعبةٍ من النفاق" (¬2). ولا يتمُّ الجهادُ إلاَّ بالهجرةِ، ولا الِهجرة والجهادُ إلاَّ بالإيمان، والرّاجُون ¬

_ (¬1) السجدة: 24. (¬2) أخرجه مسلم: 1910.

رحمةَ الله هم الذين قاموا بِهذِهِ الثلاثة. قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). وكما أنَّ الإيمان فرض على كلّ أحد، ففرْضٌ عليهِ هجرتان في كل وقت: هجرةٌ إلى الله -عزَّ وجلَّ- بالتوحيدِ، والإخلاص، والإنابة، والتَّوكُّلِ، والخوفِ، والرجاءِ، والمحبةِ، والتوبةِ. وهجرةٌ إلى رسوله بالمتابعة، والانقيادِ لأمره، والتصديق بخبرِه، وتقديم أمرِه وخبرِه على أمرِ غيرِه وخبرِه: "فمن كانت هجرتُهُ إلى الله ورسوله، فهجرتُهُ إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرتُهُ إلى دُنيا يصيبها، أو امرأةِ يتزوَّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" (¬2). وفَرَضَ عليه جهاد نفسِه في ذات الله، وجهاد شيطانه، فهذا كُلُّهُ فرضُ عينٍ لا ينوبُ فيه أحدٌ عن أحدِ. وأمَّا جهادُ الكُفار والمنافقين، فقد يُكتفى فيه ببعضِ الأمَّةِ إذا حصلَ منهم مقصود الجهاد. وأكمل الخلق عند الله، مَن كَمَّلَ مراتبَ الجهاد كُلَّها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله، تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلقِ وأكرمهم على الله، خاتِم أنبيائه ورسلِهِ، فإنَّه كمَّل مراتب الجهاد، وجاهد في الله حقَّ جهاده، وشَرع في الجهاد من حين بُعِثَ إلى أن توفاه الله -عزَّ وجلَّ-* (¬3). ¬

_ (¬1) البقرة: 218. (¬2) البخاري: 1، ومسلم: 1907. (¬3) ما بين نجمتين من "زاد المعاد" (3/ 5 - 12).

الإخلاص في الجهاد

الإخلاص في الجهاد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إنّما الأعمال بالنيّات وإنّما لكل امرئٍ ما نوى" (¬1). وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: الرجل يُقاتِل للمَغْنَم، والرجل يُقاتل للذِّكر، والرجل يُقاتل ليُرى مكانُه، فمَن في سبيل الله، قال: مَن قَاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رجلا قال: "يا رسول الله رجلٌ يُريد الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغي عرَضَاً (¬3) من عرَض الدنيا؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا أجر له، فأعظَمَ ذلك الناس وقالوا للرجل: عُد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلعلك لم تُفَهِّمْهُ، فقال: يا رسول الله، رجل يُريد الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغي عرَضاً من عرَض الدنيا، فقال: لا أجر له، فقالوا للرجل: عُد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له الثالثة، فقال له: لا أجر له" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 1، ومسلم: 1907. (¬2) أخرجه البخاري: 2810، ومسلم: 1904. (¬3) قال القاري -رحمه الله- في المرقاة (7/ 406): "عَرَضاً -بفتح الراء وُيسكن- قيل العَرَض -بالتحريك-: ما كان من مالٍ قلَّ أو كَثُر، والعَرْض -بالتسكين-: المتاع، وكلاهما هنا جائز، وكل شيء فهو عرض، سوى الدراهم والدنانير، فإنها عين [والمعنى:] يطلب شيئاً". (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2196)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2943)، وانظر "الصحيحة" (52).

عذاب من يرائي في جهاده

عذاب من يرائي في جهاده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ النّاس يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَى أُلقِيَ فِي النَارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا، قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ ليقالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيقالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلقِيَ فِي النَارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ المالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا، قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلا أنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ ليُقالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُم أُلقِيَ فِي النارِ" (¬1). وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَن غزا في سبيل الله ولم ينو إلاّ عقالاً، فله ما نوى" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1905. (¬2) أخرجه النسائي وابن حبَّان في "صحيحه"، وحسنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1334).

الترهيب من أن يموت الإنسان ولم يغز

الترهيب من أن يموت الإنسان ولم يغزُ (¬1) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مات ولم يَغزُ، ولم يُحدِّث به نفسه، مات على شعبة من نفاق" (¬2). وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من لم يغزُ أو يُجهِّز غازياً، أو يخلِف غازياً في أهله بخير، أصابه الله تعالى بقارعةٍ قبل يوم القيامة" (¬3). وعن أبي بكر -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما ترَك قومٌ الجهاد؛ إلّا عمّهُم الله بالعذاب" (¬4). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا تبايعتم بالعينة (¬5)، وأخذتم أذناب البقر (¬6)، ورضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد؛ سلّط الله ¬

_ (¬1) هذا العنوان من كتاب "الترغيب والترهيب" للمنذري -رحمه الله-. (¬2) أخرجه مسلم: 1910. (¬3) أخرجه أبو داود وغيره، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (139). (¬4) أخرجه الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1392)، و"الصحيحة" (2663). (¬5) العِينَة: هو أن يبيع مِن رجُلٍ سلعة بثمنٍ معلوم؛ إلى أجلٍ مسمَّى، ثم يشترِيها منه بأقلَّ من الثمن الذي باعها به ... وسُمِّيت عِينَة لحصول النقد لصاحب العينة؛ لأنَّ العين هو المال الحاضر من النقد، والمشتري إنّما يشتريها ليبيعها بعينٍ حاضرة؛ تَصِلُ إليه معجّلة. "النّهاية". وتقدّم. (¬6) كناية عن الاشتغال عن الجهاد بالحرث. "فيض القدير".

الجهاد في سبيل الله تجارة منجية

عليكم ذُلاًّ لا ينزِعُهُ حتى ترجعوا إلى دينكم" (¬1). الجهاد في سبيل الله تجارة مُنجية قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). الجهاد من أفضل الأعمال عند الله -تعالى- وأَحبِّها إليه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "سُئل أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثمّ ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثمّ ماذا؟ قال: حجٌّ مبرورٌ" (¬3). وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيّ العمل أحبّ إلى الله -تعالى-؟ قال: الصلاة على وقتها، قلتُ: ثمّ أيّ؟ قال: برّ الوالدين، قلتُ: ثمّ أيّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" برقم (11). (¬2) الصف:10 - 13. (¬3) أخرجه البخاري: 26، ومسلم: 83. (¬4) أخرجه البخاري: 527، ومسلم: 85.

الجنة تحت ظلال السيوف

الجنة تحت ظلال السيوف عن أبي بكر بنِ أبي موسى الأشعري قال: "سمعت أبي -رضي الله عنه- وهو بحضرة العدوّ يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّ أبواب الجنّة تحت ظلال السيوف فقام رجل رثُّ الهيئة، فقال: يا أبا موسى آنت سمعْتَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول هذا؟ قال: نعم، قال فرَجع إلى أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام، ثمّ كسَر جَفْن سيفه (¬1) فألقاه، ثمّ مشى بسيفه إلى العدو، فَضَرب به حتى قُتل" (¬2). لا يجتمع غُبارٌ في سبيل الله ودخان جهنّم عن أبي عبس عبد الرحمن بن جبر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما اغبرَّت قدما عبد في سبيل الله فتمسَّهُ النار" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يلِجُ النار رجل بكى من خشية الله -تعالى- حتى يعود اللبن في الضَّرع، ولا يجتمع على عبد غُبارٌ في سبيل الله ودُخان جهنّم" (¬4). يُنجّي الله -تعالى- بالجهاد من الهمّ والغمّ عن عُبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "جاهِدوا في ¬

_ (¬1) أي: غمده أو غلافه. (¬2) أخرجه مسلم: 1902. (¬3) أخرجه البخاري: 2811. (¬4) أخرجه الترمذي وغيره، وصححه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" برقم (1269).

المجاهد أفضل الناس

سبيل الله القريب والبعيد، في الحضر والسفر، فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة، إنّه لينجّي الله -تبارك وتعالى- به من الهمّ والغمّ" (¬1). المجاهد أفضل النّاس عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "قيل: يا رسول الله أيّ النّاس أفضل؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مؤمنٌ يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، قالوا: ثمّ مَن؟ قال: مؤمنٌ في شِعب (¬2) من الشعاب، يتقي الله ويَدَعُ النّاس من شرّه" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "مِن خير معاش (¬4) الناس لهم؛ رجلٌ مُمسكٌ عِنان (¬5) فَرَسه في سبيل الله يطيرُ، على متنه، كلمّا سمع هيْعَة (¬6) أو فزْعَة (¬7)؛ طار عليه يبتغي القتل والموت مظانّه (¬8)، أو رجلٌ في ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" برقم (770). (¬2) ما انفرَج بين جبلين، وليس المراد نفس الشِّعب خصوصاً، بل المراد الانفراد والاعتزال. "شرح النّووي". (¬3) أخرجه البخاري: 2786، مسلم: 1888. (¬4) المعاش: هو العيش وهو الحياة، وتقديره -والله أعلم- مِن خير أحوال عيشهم رجل ممسك. انظر "شرح النّووي". (¬5) العِنان: سيرُ اللجام. (¬6) الهيعة: الصوت عند حضور العدو. (¬7) الفزعة: النهوض إلى العدو. (¬8) يبتغي القتل مظانّه: يطلُبه في مواطنه التي يُرجى فيها لشدّة رغبته في الشهادة. "شرح النّووي".

ذكر التسوية بين طالب العلم ومعلمه وبين المجاهد في سبيل الله

غُنيمة (¬1) في رأس شعَفَة (¬2) من هذه الشَّعَف، أو بطن وادٍ من هذه الأودية، يُقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبُد ربّه، حتى يأتيه اليقين، ليس من النّاس إلاّ في خير" (¬3). ذِكر التسويةِ بين طالب العلم ومعلِّمهِ وبين المجاهدِ في سبيل الله (¬4) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَن جاء مسجدي هذا، لم يأتِهِ إلاَّ لخير يتعلَّمُه، أو يُعلِّمه؛ فهو بمنزلة المجاهدين في سبيل الله، ومَن جاء لغير ذلك، فهو بمنزلة الرجل ينظُر إلى متاع غيرِه" (¬5). أي القتل أشرف عن عبد الله بن حبشي الخثعمي -رضي الله عنه- " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل: أي القتل أشرف؟ قال: من أُهريق دمه وعُقِر جواده" (¬6). مقام الرجل في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "مرّ رجلٌ مِن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) الغُنيمة: تصغير الغَنم، أي قطعة منها. "شرح النّووي". (¬2) شَعَفَةُ كلّ شيء أعلاه، يريد به رأس جبلٍ من الجبال، "النّهاية". (¬3) أخرجه مسلم: 1989. (¬4) هذا العنوان من "صحيح ابن حبان"، انظر "التعليقات الحِسان" (1/ 203). (¬5) أخرجه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (87)، و"التعليقات الحِسان" (87). (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1286)، وابن ماجه بلفظ: أي الجهاد أفضل، "صحيح سنن ابن ماجه" (2253)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2366)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1318).

للمجاهد في الجنة مائة درجة

بشِعبٍ فيه عُيَيْنَة مِن ماء عذبة، فأعجَبَتْه لطيبها، فقال: لو اعتزلْتُ الناس فأقمتُ في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكَر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: لا تفعل، فإنّ مَقام (¬1) أحدكم في سبيل الله أفضل مِن صلاته في بيته سبعين عاماً، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويُدخلَكم الجنة، اغزو في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فُواق ناقةٍ (¬2) وجَبت له الجنّة" (¬3). وعن عمرانَ بنِ حصين -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَقام الرجل في الصف في سبيل الله؛ أفضل عند الله من عبادة الرجل ستين سنة" (¬4). للمجاهد في الجنّة مائة درجة عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا أبا سعيد، من رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيّاً؛ وجبَت له الجنة، فعَجِب لها أبو سعيد، فقال: أعِدها عليّ يا رسول الله ففَعل، ثمّ قال: وأخرى يُرفع بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض، قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله" (¬5). ¬

_ (¬1) قال العلاّمة القاري -رحمه الله- في "المرقاة" (7/ 393): "بفتح الميم، أي قيامه، وفي نسخة: بضمّها، وهي الإقامة، بمعنى ثبات أحدكم". (¬2) قدْر ما بين الحلبتين وتُضَمّ فاؤُه وتُفتَح. "النّهاية". (¬3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1348) وحسَّن شيخنا -رحمه الله- إسناده في "المشكاة" (3830). (¬4) أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري، وصححه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1303). (¬5) أخرجه مسلم 1884.

ما يعدل الجهاد في سبيل الله -عز وجل-؟

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: "إنّ في الجنّة مائَة درجة، أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوهُ الفردوس، فإنّه أوسط الجنّة، وأعلى الجنّة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفَجَّر أنهار الجنّة" (¬1). ما يعدِل الجهاد في سبيل الله -عزّ وجلّ-؟ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قيل للنبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما يعدل الجهاد في سبيل الله- عز وجل-؟ قال: لا تستطيعونه (¬2)، قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً، كلّ ذلك يقول: لا تستطيعونه، وقال في الثالثة: مَثَل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت (¬3) بآيات الله، لا يفتر مِن صيامِ ولا صلاةٍ حتى يرجع المجاهد في سبيل الله -تعالى-" (¬4). فضل الشهادة في سبيل الله -سبحانه- قال الله -تعالى-: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْواَتَاً بَل أَحْيَاءٌ عَندَ رَبِهِمْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2790. (¬2) وردت بالنون وحذْفها، قال الإمام النّووي -رحمه الله-: " ... هكذا هو في مُعظم النُّسخ: (لا تستطيعوه) وفي بعضها (لا تستطيعونه) -بالنون-، وهذا جارٍ على اللغة المشهورة، والأول صحيح أيضاً، وهي لغة فصيحة حذْف النون من غير ناصب ولا جازم، وقد سبَق بيانها ونظائرها مرات". (¬3) القانت: أي المطيع. (¬4) أخرجه البخاري: 2785، ومسلم: 1878. واللفظ له.

{يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "والذي نفسي بيده، لا يُكْلَم (¬2) أحدٌ في سبيل الله -والله أعلم بمن يُكلَمُ في سبيله- إلاّ جاء يوم القيامة واللون لون الدم، والريح ريح المسك" (¬3). وعن مسروق قال: "سألنا عبد الله- هو ابن مسعود- عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قال: أمَا إنّا قد سأَلنْا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جَوف طيرٍ خُضْر، لها قناديلُ مُعلَّقة بالعرش، تَسرَحُ من الجنة حيث شاءت، ثمّ تأوي إلما تلك القناديل، فاطلَع إليهم ربهم اطِّلاعَة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أيَّ شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنّة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلمّا رأوا أنهم لن يُترَكوا مِن أن يسألوا؟ قالوا يا ربّ نريد أن تَرُدَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتَل في سبيلك مرّة أخرى، فلمّا رأى أنْ ليس لهم حاجة تُرِكوا" (¬4). وعن عبادةَ بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "للشهيد ¬

_ (¬1) آل عمران: 169 - 171. (¬2) أي: يُجرح. (¬3) أخرجه البخاري: 2803، مسلم: 1876. (¬4) أخرجه مسلم: 1887.

عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنّة، ويُجار من عذاب القبر، ويَأمن الفَزع الأكبر، ويُحلّى حِلية الإيمان، ويُزوّج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه" (¬1). وعن رجلٍ من أصحاب النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنّ رجلاً قال: يا رسول الله ما بال المؤمنين يُفتَنون في قبورهم إلاّ الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف (¬2) على رأسه فتنة" (¬3). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- " أنّ النبيّ مرَّ بخِباء (¬4) أعرابي، وهو في أصحابه يريدون الغزو، فرفَع الأعرابي ناحيةً مِن الخِباء، فقال: من القوم؟ فقيل: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه يُريدون الغزو، فقال: هل مِن عرَض الدنيا يصيبون؟ قيل له: نعم، يصيبون الغنائم، ثمّ تُقسَّم بين المسلمين. فعمد إلى بَكْر (¬5) له فاعتقله (¬6)، وسار معهم فجعل يدنو ببَكْره إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجَعل أصحابه يذودون بَكْره عنه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دعوا لي النجدي، فوالذي نفسي بيده؛ إنه لمن ملوك الجنّة. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1358) وصححه، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2257)، وأحمد، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 50). (¬2) أي: لمعانها، يقال: برَق بسيفه، وأبرَق: إذا لمع به. "النّهاية". (¬3) أخرجه النسائي وصححه شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 50). (¬4) الخِباء: بيتٌ صغيرٌ من صوفٍ أو شعَر. "لسان العرب". (¬5) البكر: الفتيّ من الإبل، بمنزلة الغلام مِن الناس. "النّهاية". (¬6) يُقال: اعتَقَل الشاة: هو أن يضَعَ رِجْلَها بين ساقه وفَخِذه، ثم يحلبَها. وانظر "النّهاية".

قال: فلقوا العدو، فاستشهد، فأُخبر بذلك النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتاه فقعَد عند رأسه مستبشراً -أو قال: مسروراً- يضحك، ثمّ أعرض عنه. فقلنا: يا رسول الله! رأيناك مُستبشِراً تضحك، ثمّ أعرضْتَ عنه؟ فقال: أمّا ما رأيتم مِن استبشاري -أو قال من سروري-، فلِما رأيتُ مِن كرامة روحِهِ على الله -عزّ وجلّ-، وأمّا إعراضي عنه؛ فإنّ زوجته من الحور العين الآن عند رأسه" (¬1). وعن مجاهد عن يزيد بن شجرة -وكان يزيد بن شجرة ممن يصدق قوله فعله-[قال:] خطبنا فقال: "يا أيها النّاس، اذكروا نعمة الله عليكم، ما أحسن نعمة الله عليكم، تُرى مِن بين أخضر وأحمر وأصفر، وفي الرحال (¬2) ما فيها. وكان يقول: إذا صفَّ النّاس للصلاة، وصفَّوا للقتال، فُتِحتْ أبوابُ السماء وأبوابُ الجنةِ، وغُلّقت أبواب النار، وزيِّن الحور العين واطّلعن، فإذا أقبل الرجل قلن: اللهم انصره، وإذا أدبر احتَجَبْنَ منه، وقُلن: اللهم اغفر له، فانهكوا وجوه القوم فدىً لكم أبي وأمي، ولا تخزوا الحور العين؛ فإن أول قطرة تنضح من دمِه؛ يُكفّر عنه كل شيء عَمِلَه، وتنزل إليه زوجتان من الحور العين، يمسحان التراب عن وجهه، ويقولان: قد أنى (¬3) لك، ويقول: قد أنى لكما، ثمّ يُكسى مائة حُلّةٍ، ليس من نسيج بني آدم، ولكن من نَبْتِ الجنةِ، لو وضعْنَ بين أصبعين لوسعن. وكان يقول: نبئتُ (¬4) أن السيوف مفاتيح الجنّة" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي بإسنادٍ حسن، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1382). (¬2) أي: الدور والمساكن والمنازل. (¬3) أي: قد آن. (¬4) قال شيخنا -رحمه الله-: كأنه يعني عن النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد جاء مرفوعاً من طُرُق، أحدها صحيح ... وقد خرّجتها في "الصحيحة" (2672). (¬5) أخرجه الطبراني وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1377).

فضل الرباط في سبيل الله -تعالى-

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سأَل جبرائيل عن هذه الآية {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (¬1). مَن الذين لم يشأ الله أن يصعَقَهم؟ قال: هم شهداء الله" (¬2). فضل الرباط في سبيل الله -تعالى- عن سلمان -رضي الله عنه- قال: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "رباط يومٍ وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامِه، وإن مات جرى عليه عملُه الذي كان يعمله، وأُجريَ عليه رزقُهُ (¬3)، وأمِن الفتّان (¬4) " (¬5). وعن فَضالة بن عبيد: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كل ميتٍ يُختم على عمله، إلاَّ المرابط، فإنّه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمّنُ من فتّان القبر" (¬6). ¬

_ (¬1) الزمر: 68. (¬2) أخرجه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد"، وصححه شيخنا -رحمه الله-: في "صحيح الترغيب والترهيب" (1387). (¬3) قال النّووي -رحمه الله تعالى-: "موافقٌ لقول الله -تعالى- في الشهداء {أَحْيَاءٌ عَندَ رَبِّهِمْ يُرزَقُونَ} والأحاديث السابقة أنّ أرواح الشهداء تأكل مِن ثمار الجنة". (¬4) أي في القبر، والفتّان: جمع فاتن. (¬5) أخرجه مسلم: 1913. (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2182)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1322)، وصحح شيخنا -رحمه الله- إسناده في "المشكاة" (3823)، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 58).

فضل الرمي بنية الجهاد والتحريض عليه

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنه كان في الرباط ففزعوا إلى الساحل، ثمّ قيل: لا بأس، فانصرف النّاس وأبو هريرة واقفٌ، فمرّ به إنسان، فقال: ما يُوقفُك يا أبا هريرة! قال: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: موقفُ ساعة في سبيل الله؛ خير من قيام ليلة القدر، عند الحجر الأسود" (¬1). وعن عثمانَ بنِ عفان -رضي الله عنه- قال: "سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "رباط يوم في سبيل الله؛ خيرٌ من ألف يوم فيما سواه من المنازل" (¬2). فضل الرمي بنيّة الجهاد والتحريض عليه عن عقبةَ بن عامر -رضي الله عنه- قال: "سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ}، ألا إنّ القوة الرمي، ألا إنّ القوة الرمي، ألا إنّ القوة الرمي" (¬3). وعن عقبةَ بن عامر -رضي الله عنه أيضاً- قال: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ستُفتح عليكم أرضون، ويَكفيكم الله، فلا يَعجَزْ أحدكم أن يلهو بأسهمه" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" والبيهقي وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1223). (¬2) أخرجه النسائي وغيره، وحسنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1224). (¬3) أخرجه مسلم: 1917. (¬4) أخر جه مسلم: 1918.

اللهو بأدوات الحرب

وعن سلمةَ بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: "مرّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على نفرٍ مِن أسلَم ينتضلون (¬1)، فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارموا بني إسماعيل، فإنّ أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان، قال: فأمسَك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ قال النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارموا فأنا معكم كُلِّكُم" (¬2). اللهو بأدوات الحرب (¬3) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بينا الحبشة يلعبون عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحرابهم، دخَل عمر فأهوى إلى الحصى فحَصَبَهم (¬4) بها، فقال: دعهم يا عمر" (¬5). إثم مَن تعلّم الرمي ثمّ تَركه (¬6) عن عقبَة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن عَلِمَ الرمي ثمّ تركه؛ فليس منّا، أو قد عصى" (¬7). ¬

_ (¬1) أي: يرتمون بالسهام، يُقال انتضل القوم وتناضلوا: أي رَمَوا للسبق. "النّهاية". (¬2) أخرجه البخاري: 2889. (¬3) هذا العنوان مقتبس من تبويب البخاري (باب اللهو بالحراب ونحوها) انظر (كتاب الجهاد) (باب - 79). (¬4) فحَصَبهم: رماهم بالحصباء، وهي الحصى الصغار. (¬5) أخرجه البخاري: 2901، ومسلم: 893. (¬6) انظر -إن شئت للمزيد من الفائدة- كتاب "صحيح الترغيب والترهيب" (2/ 94). "الترغيب في الرمي في سبيل الله وتعلّمه". (¬7) أخرجه مسلم: 1919.

فضل احتباس الخيل للجهاد في سبيل الله

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: "مَن تعلّم الرمي ثمّ نسيَهُ، فهي نعمة جحَدها" (¬1). فضل احتباس الخيل للجهاد في سبيل الله عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن احتبسَ فرساً في سبيل الله؛ إيماناً بالله وتصديقاً بوعده (¬2)، فإنّ شِبَعَهُ (¬3) ورِيَّهُ (¬4) ورَوثَه وبولَه؛ في ميزانه يوم القيامة" (¬5). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الخيل معقود (¬6) في نواصيها (¬7) الخير إلى يوم القيامة" (¬8). وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما مِن فرس عربي؛ إلاَّ يُؤذَن له عند كل سحَر، بكلمات يدعو بهنّ: اللهم خوّلتَني (¬9) من بني آدم، ¬

_ (¬1) أخرجه البزّار والطبراني في "الصغير" و"الأوسط" بإسنادٍ حسن وصححه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1294). (¬2) أي الذي وعَد به من الثواب على ذلك "فتح". (¬3) ما يشبع به. (¬4) ما يروى به. (¬5) أخرجه البخاري: 2853. (¬6) ملوي مضفور فيها، "شرح النووي". (¬7) الشعر المسترسل على الجبهة، "شرح النّووي". (¬8) أخرجه البخاري: 2852، مسلم: 1872. (¬9) التخوُّل: التمليك والتّعهُد.

فضل النفقة في سبيل الله وتجهيز الغزاة

وجعلتني له، فاجعلني أحبّ أهله ومالِه، أو مِن أحبِّ أهله ومالِه إليه" (¬1). فضل النفقة في سبيل الله وتجهيز الغزاة (¬2) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أنفَق زوجين في سبيل الله، دعاه خَزَنَة الجنّة -كُلُّ خَزَنةِ باب - أي فُل (¬3)، هلُمَّ" قال أبو بكر: يا رسول الله، ذاك الذي لا توى (¬4) عليه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني لأرجو أن تكون منهم" (¬5). وفي رواية: "مَن أنفق زوجين في سبيل الله مِن ماله؛ دعتهُ حَجَبَة الجنّة: أي فُلُ، هَلُمّ! هذا خيرٌ -مراراً-، فقال أبو بكر: يا رسول الله! هذا الذي لا تَوَى عليه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما إنّي أرجو أن تدعوك الحجَبة كلها" (¬6). وعن زيد بن خالد -رضي الله عنه- أنّ رسول الله قال: "مَن جهَّز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خَلَف غازياً في سبيل الله بخيرٍ فقد غزا" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1251). (¬2) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 37). (¬3) أي فُل: معناه يا فلان "النهاية". وانظر "الفتح" للمزيد من الفائدة. (¬4) لا توى: أي لا ضياع ولا خسارة، وهو من التوى: الهلاك. "النّهاية". (¬5) أخرجه البخاري: 2841، ومسلم: 1027، وانظر "صحيح البخاري" الأرقام الآتية (1897، 3216، 3666). (¬6) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" "التعليقات الحسان" (4622) وأبو عوانة في "صحيحه" وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (2260). (¬7) أخرجه البخاري: 2843، ومسلم: 1895.

أجر الشهادة بالنية لمن لم يستطع الجهاد

عن خريم بن فاتك -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أنفق نفقة في سبيل الله، كُتبت له سبعُ مائة ضعف" (¬1). وعن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل بناقة مخطومة (¬2)، فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لك بها يوم القيامة سبع مائة ناقة كلّها مخطومة" (¬3). أجر الشهادة بالنيّة لمن لم يستطع الجهاد عن سهل بن حُنيف أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَن سأَل الله الشهادة بصِدق، بلّغه الله منازل الشهداء، وإنْ مات على فراشه" (¬4). وعن أنس -رضي الله عنه- "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في غزاة، فقال: إنّ أقواماً بالمدينة خَلفَنا، ما سلَكْنا شِعباً ولا وادياً إلاّ وهم معنا فيه، حَبَسهُم العُذر" (¬5). من صفات القائد 1 - أن يُعرَف بالورع والتقوى، والائتمار بما أمَرَ الله به، والانتهاء عمّا نهى الله عنه. ¬

_ (¬1) أخرجه النّسائي والترمذي وقال: حديث حسن، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1236). (¬2) مخطومة: أي فيها خِطَام، وهو أن يُؤْخذ حَبْل من ليف أو شَعر أو كَتَّان، فيُجْعَل في أحَد طَرَفيه حَلْقة، ثمّ يُشَدّ فيها الطَّرف الآخر؛ حتى يَصِير كالحلْقة، ثُم يُقَاد البَعير. وانظر "النّهاية". (¬3) أخرجه مسلم: 1892. (¬4) أخرجه مسلم: 1909. (¬5) أخرجه البخاري: 2839، مسلم: 1911.

2 - أن يكون من أهل الخِبرة في الأمور العسكرية وميادين القتال. 3 - أن يُشهد له بالجرأة والشجاعة، عن أبي اسحاق قال: قال رجلٌ للبراء بن عازب -رضي الله عنهما-: "أفررتم عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومَ حُنين، قال: لكنَّ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرّ، إنَّ هوازن كانوا قوماً رُماةً، وإنَّا لمَّا لقِيناهم حَمَلْنا عليهم فانهزموا، فأَقْبَل المسلمون على الغنائم، واستقبلونا بالسِّهام، فأما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يفِرّ، فلقد رأيتُه، وإنّه لعلى بغلته البيضاء، وإنّ أبا سفيانَ (¬1) آخِذٌ بلجامها، والنبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أنا النبيُّ لا كَذِب أنا ابن عبد المطَّلِب" (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله- (¬3): "وهذا في غاية ما يكون مِن الشجاعة التامَّة، إنّه في مِثْل هذا اليوم في حَوْمة الوغى، وقد انكشَفَ عنه جيشه، هو مع ذلك على بغلة وليست سريعةَ الجري، ولا تصلُح لكرٍّ ولا لفرٍّ ولا لهَرَبٍ، وهو مع هذا أيضاً يُركِضها إلى وجوههم، ويُنَوِّه باسمه، ليعرفه مَن لم يعرفه -صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يومِ الدين- وما هذا كلُّه إلاَّ ثقةً بالله، وتوكُّلاً عليه، وعِلماً منه بأنه سينصره، ويتمُّ ما أرسَلَه به، ويُظهِرُ دينَه على سائر الأديان". قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "لا يُعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا ْعُرف بالهزيمة وتضييع المسلمين، وإنمّا يغزو مع مَن له شَفَقة وحيطةٌ على المسلمين" (¬4). ¬

_ (¬1) هو أبو سفيان بنُ الحارث بن عبد المطلب -رضي الله عنه- كما في البخاري (2874)، وفي رواية عند مسلم (1776 - 78). (¬2) أخرجه البخاري: 2864، ومواضع أخرى، ومسلم: 1776. (¬3) انظر تفسير "سورة التوبة" (آية: 25). (¬4) "المغني" (13/ 14).

من وصايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قواده

4 - أن يُشهَد له بالصبر والجلد والحكمة. 5 - أن يكون ذا فطنة وبديهة، حتى يُحسِن التصرف عند الشدّة، وهذه الصفات يتفاوت قدر تحقّقها في النّاس فيُسعى إلى أفضل الموجود؛ وذلك لتحقيق أفضل الخيرين، ما أمكن ذلك. قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 253): "فالقُوَّةُ في إمارة الحرب تَرْجِع إلى شجاعة القلب، وإلى الخِبرة بالحروب، والمخادَعة فيها؛ فإنَّ الحرب خَدْعَة، وإلى القدرة على أنواع القتال: مِنْ رميٍ وَطعْنٍ وضَرْبٍ، ورُكوبٍ، وكَرٍّ، وفرٍّ، ونحوِ ذلك؛ كما قال الله -تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (¬1) ". من وصايا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قُوّاده عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا بَعَث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: بشِّروا ولا تُنفِّروا، ويسِّروا ولا تُعسِّروا" (¬2). وفي رواية: "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثه ومُعاذاً إلى اليمن فقال: "يسِّرا ولا تُعسِّرا، وبشِّرا ولا تُنفِّرا وتطاوَعا ولا تختلفا" (¬3). وعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض ¬

_ (¬1) الأنفال: 60. (¬2) أخرجه مسلم: 1732. (¬3) أخر جه البخاري: 4344، 4345، ومسلم: (1733 - 7).

أيامه التي لقي فيها العدو، انتظَر حتى مالت الشمس، ثمّ قام في النّاس فقال: "لا تمَنَّوا لقاء العدو وسَلُوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السيوف، ثمّ قال: اللهمّ مُنْزِلَ الكتاب، ومجُريَ السحاب، وهازِمَ الأحزاب اهزمهم، وانصرنا عليهم" (¬1). وعن عليّ -رضي الله عنه- قال: "بعثَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سريّةً وأمَّر عليهم رجلاً من الأنصار، وأمَرَهم أن يطيعوه فغَضِب عليهم، وقال: أليس قد أَمَرَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تطيعوني؟ قالوا: بلى. قال: عَزمْتُ عليكم لَمَا جمعتم حطبا وأوقدتم ناراً ثمّ دخلتم فيها، فجمَعوا حطباً فأوقدوا، فلما همّوا بالدخول؛ فقام ينظُر بعضهم إلى بعض، قال: بعضهم إنما تَبِعْنا النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فراراً مِن النار أفندخلها؟ فبينما هم كذلك؛ إذ خَمَدت النار، وسكَنَ غضبه، فُذكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً، إنّما الطاعة في المعروف" (¬2). وعن بريدة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذا أمّرَ أميراً على جيش أو سريَّة (¬3) أوصاه في خاصَّته بتقوى الله ومَن معه مِن المُسلمين خير اً. ثمَّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3024، ومسلم: 1742. (¬2) أخرجه البخاري: 7145، ومسلم: 1840. (¬3) السريَّة: هي قطعة من الجيش؛ تخرج منه، تَغِير وترجع إليه، قالوا: سُمّيت سريّة؛ لأنها تسري في الليل ويخفى ذهابُها. "شرح النّووي".

قال: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتِلوا مَن كَفر بالله. اغْزوا ولا تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا ولا تَمْثُلوا (¬1) ولا تَقْتُلُوا وليداً (¬2). وإذا لقيتَ عدوّك من المشركين فادْعُهم إلى ثلاث خصالٍ (أو خِلال). فأيّتُهُنَّ ما أجابوك؛ فاقبل منهم، وكُفّ عنهم. ثمّ ادعهم إلى الإسلام، فإنْ أجابوك فاقبل منهم، وكُفَّ عنهُم، ثمّ ادعهم إلى التَحُّول مِن دارِهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنّهم إنْ فعَلوا ذلك؛ فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإنْ أبَوا أن يتَحوَّلوا منها، فأخبِرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين؛ يجري عليهم حُكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء؛ إلاَّ أن يجاهدوا مع المسلمين. فإنْ هم أبَوا فسَلْهم الجزية، فإنْ هم أجابوك فاقَبَل منهم وكُفَّ عنهُم. فإنْ هم أبَوا فاستَعِن بالله وقاتِلهم، وإذا حاصرْتَ أهل حِصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذِمّة الله (¬3) وذِمّة نبيّه، فلا تجعل لهم ذِمّة الله ولا ذِمّة نبيّه. ولكن اجعل لهم ذمّتك وذمّة أصحابك فإنكم أنْ تُخفِروا (¬4) ذممكم وذِمَم أصحابكم، أهون مِن أنْ تُخفِروا ذِمَّة الله وذِمَّة رسوله، وإذا حاصرتَ أهل حِصنٍ ¬

_ (¬1) تَمْثُلُوا: أي لا تُشَوّهوا القتلى بقَطْع أنوفهم، أو آذانهم، أو مذاكِيرهم، أو شيئاً مِن أطرافهم. وانظر "النّهاية". (¬2) الوليد: الصبي. (¬3) قال العلماء: الذمّة هنا العهد. (¬4) تُخفِروا -بضم التاء-، يُقال: أخفرت الرجل: إذا نقضْتَ عهده، وخفرته: أمّنْتَه وحميته ... "شرح النّووي".

ما يجب على أمير الجيش أو قائده

فأرادوك أن تُنزِلهم على حُكم الله؛ فلا تَنزِلْهم على حُكم الله، ولكن أنزلهم على حُكمك، فإنك لا تدري أتصيب حُكم الله فيهم أم لا" (¬1). ما يجب على أمير الجيش أو قائده (¬2) 1 - يجب على القائد أن يشاور أهل الرأي، لقول الله -تعالى-: {وَشَاوِرهُم في الأَمر} (¬3). ولما ثَبَت عن أنس -رضي الله عنه- "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاور حين بَلَغه إقبالُ أبي سفيان قال: فتكلَّم أبو بكر فأعرَض عنه، ثمّ تكلَّم عمر فأعرَض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده لو أَمَرتنا أن نُخيضَها البحر لأخَضناها، ولو أَمَرْتنا أن نضرِب أكبادها (¬4) إلى بَرْك (¬5) الغِماد لفَعَلنا، قال: فندَب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النّاس فانطلقوا حتى نزلوا بدرا" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1731. (¬2) انظر للمزيد- إن شئت- "الروضة الندية" (2/ 723). (¬3) آل عمران: 159. (¬4) قال بعض العلماء في تفسير قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو أمَرْتنا أن نضربَ أكبادها" أي: الخيل والمراد ركوبها والسير عليها مهما نأى المكان، وخصَّ ضرب الأكباد بالذكر؛ لأن الفارس كان إذا أراد إسراع مركوبه؛ حرّك رجليه ضارباً على موضع كبده. (¬5) انظر للمزيد -إن شئت- في ضبط هذه الكلمة ما جاء في "شرح النووي" (12/ 125)، وهو موضع من وراء مكّة بخمس ليال، بناحية الساحل، وقيل غير ذلك وانظر المصدر السابق. (¬6) أخرجه مسلم: 1779.

وعن ابن عباس -رضي الله- عنهما- قال: "قدم عيينةُ بن حِصن بن حذيفة فنزَل على ابن أخيه الحُرّ بن قيس، وكان من النّفر الذين يُدنِيهم عمر، وكيان القُرّاء أصحابَ مجالس عمر ومُشاورته كهولاً (¬1) كانوا أو شُبّاناً ... " (¬2). واستشار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكرٍ وعمر -رضي الله عنهما- في أُسارى بدر. فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لمّا أسروا الأسارى قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " (¬3). وقال قتادة: "ما تشاور قومٌ يبتغون وجه الله؛ إلاَّ هدوا لأرشد أمورهم". 2 - الرفق بهم والاجتهاد والنصح لهم. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "اللهمّ مَن ولِيَ مِن أمر أُمتي شيئاً فَشَقَّ عليهم فاشقُق عليه، ومَن وَلِيَ من أمر أُمّتي شيئاً فرَفَق بهم، فارفُق به" (¬4). وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتَخلّف في المسير ¬

_ (¬1) الكَهْل من الرجال: مَنْ زاد على ثلاثين سنة إلى الأربعين، وقيل: هو مِن ثلاث وثلاثين إلى تمام الخمسين. "النهاية". (¬2) أخرجه البخاري: 4642. (¬3) أخرجه مسلم: 1763 من حديث عمر -رضي الله عنه-.، ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في "الكَلِم الطيّب" (ص 71). (¬4) أخرجه مسلم: 1828.

فيُزْجي (¬1) الضعيف، ويُرْدِفُ (¬2) ويدعو لهم" (¬3). وعن مَعْقِل بن يَسار -رضي الله عنه- قال: سمعْتُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما مِنْ عبدِ استرعاه الله رَعيّة، فلم يَحُطها بنصيحة؛ إلاّ لم يَجِد رائحة الجنَّة" (¬4). وفي رواية: "ما من والٍ يلي رعيّةً من المسلمين، فيموت وهو غاشٌّ لهم؛ إلاَّ حرّم اللهُ عليه الجنّة" (¬5). وفي لفظ: "ما من أميرٍ يلي أمرَ المسلمين، ثمّ لا يَجْتَهد لهم وينصح؛ إلاَّ لم يدخُل معهم الجنَّة" (¬6). 3 - عقد الألوية والرايات، وذلك لاسترداد ما اغتُصِب من ديار المسلمين، وتحقيق الفتوحات؛ لنشر التوحيد والدعوة إلى الله -تعالى- وإخراج النّاس مِن الظُلمات إلى النور بإذن الله -سبحانه-. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان لواءُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبيض ¬

_ (¬1) يزجي: أي يسوق ويدفع. (¬2) الردف: الراكب خلف الراكب، والمراد أنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُرْدفُ خلفه من ليس له راحلة؛ إذا كان يضعف عن المشي. انظر "نيل الأوطار" (8/ 48). (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2298) والحاكم وانظر "الصحيحة" (2120). (¬4) أخرجه البخاري: 7150، ومسلم: 142. (¬5) أخرجه البخاري: 7151، ومسلم: 142. (¬6) أخرجه مسلم: 142 كتاب الإمارة (5) باب فضيلة الإمام العادل رقم (22)، (ص 1460).

ورايته سوداء" (¬1). وعن عطاء بن أبي رباح قال: كنت مع عبد الله بن عمر فأتاه فتى يسأله عن إسدال العمامة، [فذكر الحديث إلى أن قال]: " ... ثمّ أمر (¬2) عبد الرحمن بن عوف يتجهز لسرية بعثه عليها، وأصبح عبد الرحمن قد اعتمّ بعمامة من كرابيس سوداء، فأدناه النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ نقضه وعمّمه بعمامة بيضاء، وأرسل من خلفه أربع أصابع، أو نحو ذلك، وقال: هكذا يا ابن عوف اعتمّ فإنه أعرب وأحسن، ثمّ أمَر النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالاً أن يدفع إليه اللواء، فحمد الله وصلى على النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمّ قال: خذ ابن عوف؛ فاغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا مَن كفَر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد الله وسيرة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). 4 - تخيُّر المنازل المُلائمة للقتال والمواقع الصالحة لذلك. 5 - أن يكون على دراية بأحوال الجنود، * فلا يستصحب الأمير معه مُخَذِّلاً، وهو الذي يُثبِّط النّاس عن الغزو، ويُزهِّدهُم في الخروج إليه والقتال والجهاد، مِثل أنْ يقول: الحرُّ أو البردُ شديدٌ، والمشقَّة شديدة، ولا ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1374)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2274) وانظر "الصحيحة" (2100). (¬2) أي: النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 540) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في "التلخيص": صحيح. قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (106): بل هو حسن الإسناد؛ فإن ابن غيلان هذا قد ضعفه بعضهم، ولكن وثقه الجمهور، وقال الحافظ في "التقريب": "صدوق، فقيه، رمي بالقدر".

تُؤمَنُ هزيمةُ هذا الجيش. وأشْباه هذا، ولا مُرجِفاً، وهو الذي: يقول هَلَكَت سريَّةُ المسلمين، وما لَهم مدَدٌ، ولا طاقة لهم بالكُفَّار، والكفّار لهم قوّةٌ ومَدَدٌ وصبرٌ، ولا يَثبُتُ لهم أحدٌ، ونحو هذا. ولا مَن يُعين على المسلمين بالتّجسُُّس للكفَّار، وإطْلاعِهم على عَوْراتِ المسلمين، ومُكاتَبَتِهم بأخبارهم، ودلالتِهم على عَوْراتِهم، أو إيوَاءِ جواسيسهم. ولا مَن يُوقِعُ العداوة بين المسلمين، ويسعى بالفساد، لقول الله -تعالى-: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ (¬1) وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا (¬2) وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ (¬3)} (¬4). ولأنّ هؤلاء مضرّةٌ على المسلمين، فيلزَمهُ مَنعُهُم"* (¬5). ¬

_ (¬1) فثبَّطهم أي: فثقَّل عليهم الخروج، حتى استخفوا القعود في منازلهم خلافك، واستثقلوا السفر والخروج معك. "تفسير الطبري". (¬2) خَبالاً: فساداً. وضُرّاً. (¬3) أي: ولأسرعوا السير والمشي بينكم؛ بالنميمة والبغضاء والفتنة. وانظر "تفسير ابن كثير". (¬4) التوبة: 46، 47. (¬5) ما بين نجمتين من كتاب "المغني" (13/ 15).

ذكر ما يستحب للإمام أن يستعين بالله -جل وعلا- على قتال الأعداء إذا عزم على ذلك

ذكر ما يُستحَبّ للإمام أن يستعين بالله -جلّ وعلا- على قتال الأعداء إذا عزَم على ذلك (¬1) عن صهيبٍ -رضي الله عنه- قال: "كان إذا صلّى هَمس ... [وذكر الحديث إلى أن قال:] فهَمْسِي الذي تَرون أنّي أقول: اللهمّ بك أقاتل وبك أصاول (¬2) ولا حولَ ولا قوّةَ إلاّ بك" (¬3). الاستنصار بالضعفاء: بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم عن مصعب بن سعد قال: "رأى سعدٌ -رضي الله عنه- أنّ له فضلاً على مَن دونه (¬4)، فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل تُنصَرون وتُرزقون إلاّ بضعفائكم" (¬5). وفي لفظ: "إنّما يَنْصُر الله هذه الأُمّة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم" (¬6). وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "صحيح ابن حبان" "التعليقات الحِسان" (7/ 137). (¬2) أصاوِل: أسطو وأقهر، والصولة: الحملة والوثبة. "النهاية". (¬3) أخرجه ابن حبان في "التعليقات الحِسان" (4738)، وابن نصر في "الصلاة" وغيرهما، وهو في "الصحيحة" (1061)، وسيأتي بتمامه في أسباب النصر والتمكين. (¬4) أي في المغنم. (¬5) أخرجه البخاري: 2896. (¬6) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2978)، وانظر "الصحيحة" (2/ 409).

جواز تخلف الإمام عن السرية لمصلحة

أُبغوني (¬1) الضعفاء، فإنما تُرزَقون وتُنصَرون بضُعفائكم" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رُبَّ أَشْعَثَ (¬3) مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أقْسَمَ عَلَى الله لأبَرَّهُ" (¬4). وقال الإمام البخاري -رحمه الله-: (باب من استعَان بالضعفاء والصالحين في الحرب) (¬5). ثم قال: وقال ابن عباس: "أخبرني أبو سفيان قال لي قيصر: سألتك أشرافُ الناس اتَّبعوه أم ضعفاؤُهم؟ فزعمْتَ ضعفاءَهم، وهم أتباع الرُّسل" (¬6). جواز تخلّفِ الإمام عن السرية لمصلحة (¬7) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "انتدَب الله لمن خرَج في سبيله، لا يُخْرجه إلاَّ إيمان بي وتصديق برُسُلي، أن أُرجِعه بما نال من أجرٍ ¬

_ (¬1) بوصل الهمزة وقطعها، وانظر -للمزيد من الفائدة إن شئت- "النّهاية" و"فيض القدير" (1/ 82). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2260)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1392)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2979)، وانظر "الصحيحة" (779). (¬3) الأشعث: المُلبّد الشعر المُغبَرّ غير مدهون ولا مُرجَّل. انظر "شرح النّووي". (¬4) أخرجه مسلم: 2622. (¬5) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 76). (¬6) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به في المصدر المشار إليه آنفاً، ووصله في (بدء الوحي) برقم (6)، وأخرجه مسلم: 1773. (¬7) في "صحيح ابن حبان" "ذكْرِ الأخبار عن جواز تخلُّف الإمام عن السرية إذا خَرَجَت في سبيل الله -جلّ وعلا-".

إذا طلب الإمام قتل رجل

أو غنيمة، أو أُدخِلَه الجنّة، ولولا أن أشقّ على أمّتي، ما قَعَدْتُ خلف سريّة، ولوددت أنّي أُقتَل في سبيل الله، ثمّ أُحيا، ثمّ أُقتل، ثمّ أُحيا، ثمّ أُقتل" (¬1). إذا طلَب الإمام قَتْلَ رجل عن عبد الله بن أنيس الجهني -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَن لي بخالد بن نبيح؟ رجل من هذيل -وهو يومئذ قبل عرفة بعرنة- قال عبد الله بن أُنيس: أنا يا رسول الله، انعَتْه لي، قال: إذا رأيته هِبته، قال: يا رسول الله والذي بعثَك بالحق ما هِبْت شيئاً قطّ. قال: فخَرج عبدُ الله بنُ أُنيس حتى أتى جبال عرفة قبل أن تغيب الشمس، قال عبد الله: فلقيتُ رجلاً، فرعبْتُ منه حين رأيتُه، فعرفْتُ حين رعبت منه أنه ما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لي: مَن الرجل؟ فقلت: باغي حاجة، هل من مبيت؟ قال: نعم، فالحْقْ، فَرُحتُ في أثره، فصليت العصر ركعتين خفيفتين، وأشفقت أن يراني، ثمّ لحقْتُه، فضربتُه بالسيف، ثمّ خرجْتُ، فأتيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرتُه. قال محمّد بن كعب: فأعطاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخِصرة (¬2)، فقال: تخصّر بهذه حتى تلقاني، وأقلّ النّاس المتخصّرون، قال محمّد بن كعب: فلمّا تُوفي عبد الله بن أُنيس أُمِر بها فوُضِعت على بطنه وكُفّن، ودُفن ودُفِنت معه" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 36، ومسلم: 1876. (¬2) المخصرة: ما يَختصره الإنسان بيده، فيُمسِكه من عصا أو عُكَّازةٍ أو مِقْرَعَةٍ أو قضيب وقد يتكئ عليه. "النّهاية". (¬3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" و"أخبار أصبهان" وغيره، وانظر "الصحيحة" (2981).

وفي رواية: "دعاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنّه قد بلغني أن سفيان بن نبيح الهذلي جَمع لي النّاس ليغزوني، وهو بنخلة أو بعُرنة فأتِه فاقتُله، قال: قلت: يا رسول الله، انعته لي حتى أعرفَه، قال: آيةُ ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وجَدْت له قُشَعْريرةً. قال: فخرجت متوشِّحاً بسيفي حتى دفعْتُ إليه، وهو في ظعنٍ يرتاد لهنَّ منزلاً، حتى كان وقت العصر، فلمّا رأيْته وجدْتُ ما وَصَفَ لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الاقشعريرة. فأخذْتُ نحوه، وخشيت أن يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه، وأُومئ برأسي، فلمّا انتهيت إليه، قال: ممّن الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاء لذلك، قال: فقال: إنَّا في ذلك. فمشيتُ معه شيئاً حتى إذا أمكنني حَمَلْتُ عليه بالسيف حتى أقتله، ثمّ خرجْتُ وتركْت ظعائنه (¬1) مُنكَبّاتٍ عليه، فلمّا قدمتُ على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورآني، قال: قد أفلح الوجه، قلت: قتلْتُه يا رسول الله، قال: صدقْتَ. قال: ثمّ قام معي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأدخلني بيته وأعطاني عصاً، فقال: أمسِك هذه العصا عندك يا عبد الله بن أُنيس، قال: فخرجتُ بها على النّاس فقالوا: ما هذه العصا؟ قلتُ: أعطانيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمَرني أن أمسِكها، قالوا: ¬

_ (¬1) الظعائن: النساء، جمع ظعينة، وأصل الظعينة: الراحلة التي يُرحل ويُظعَن عليها أي يُسار، وقيل للمرأة ظَعينة لأنها تَظْعَن مع الزَّوج حَيثُما ظَعَن أو لأنَّها تُحمَل على الرَّاحِلَة إذا ظَعَنت ... "النهاية".

أفلا ترجعُ إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتسأله لِمَ ذلك؟ قال: فرجعْت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله، لم أعطيتني هذه العصا، قال: آية بيني وبينك يوم القيامة، إنّ أقلّ النّاس المتخصرون يومئذ، فَقَرنها عبد الله بسيفه، فلم تزل معه حتى إذا مات أُمِر بها، فضُمّت معه في كفنه، ثمّ دُفِنا جميعاً} (¬1). وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مَن لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى اللهَ ورسوله، فقام محمّد بن مَسْلَمة فقال: يا رسول الله أتُحِبّ أنْ أقتله؟ قال: نعم، قال: فأذَنْ ليِ أن أقول شيئاً (¬2). قال: قُلْ. فأتاه محمّد بن مَسلَمة فقال: إنّ هذا الرجل قد سألَنا صَدَقةً، وإنه قد عنّانا (¬3) وإني قد أتيتك أستَسلِفك (¬4) قال: وأيضاً (¬5) والله لتملُّنَّه (¬6)، قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندَعَه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه وقد أردنا أن تُسلِفنا وَسْقاً (¬7) أو ¬

_ (¬1) صححه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح موارد الظمآن " برقم (490). (¬2) قال الحافظ -رحمه الله-: "كأنه استأذنَه أن يفتعل شيئاً يحتال به، ومن ثمّ بوَّب عليه المصنف "الكذب في الحرب" وقد ظَهر من سياق ابن سعد للقصة أنهم استأذنوا أن يشكوا منه ويعيبوا رأيه، ولفظه: "فقال له: كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء، حاربتنا العرب، ورمَتْنا عن قوس واحدة". (¬3) من العناء وهو التعب. (¬4) السّلفُ: القرض الذي لا منفعة فيه للمقرض. "النّهاية". (¬5) أي: زيادة على ذلك. (¬6) من الملال. (¬7) الوَسْق: سِتُّون صاعاً وهو ثلاثُماثة وعِشْرون رِطْلا عند أهْل الحِجاز وأربَعمائة وثمانون رِطْلا عنْد أهْل العِراق على اخْتِلافِهِم في مِقدار الصَّاع والمُدِّ. والأصل في الوَسْق: الحِمْل، وكُلُّ شيءٍ وَسَقتَه فقد حَمَلْتَه، والوَسْق أيضا: ضَمُّ الشَّيء إلى الشَّيء. "النّهاية".

وَسْقَين -وحدثنا عمرو غير مرّة فلم يذكر وَسْقاً أو وَسْقين- فقلت له: فيه وسْقاً أو وَسْقين فقال: أرى فيه وسْقاً أو وسْقين، فقال: نعم ارهَنوني، قالوا: أي شيء تريد؟ قال ارهَنوني نساءكم، قالوا كيفَ نَرْهَنُك نساءَنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهَنوني أبناءكم، قالوا: كيف نَرْهَنُك أبناءَنا فَيُسَبُّ أحدهم فيقال: رُهِن بوسْق أو وسْقين، هذا عار علينا ولكنّا نرهنك اللأمة، قال سفيان يعني: السلاح. فواعَدَه أن يأتيه، فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة -وهو أخو كعب مِن الرضاعة- فدعاهم إلى الحِصن فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ فقال: إنما هو محمّد بن مسلمة وأخي أبو نائلة، وقال غير عمرو: قالت: أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم، قال: إنما هو أخي محمّد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إنّ الكريم لو دعي إلى طعنة بليلٍ لأجاب. قال: ويُدخِلُ محمّد بن مسلمة معه رجلين، قيل لسفيان: سماهم عمرو؟ قال: سمّى بعضهم، قال عمرو: جاء معه برجلين، وقال غير عمرو: أبو عبس بن جبر والحارث بن أوس وعباد بن بشر، قال عمرو: جاء معه برجلين فقال: إذا ما جاء فإني قائل (¬1) بشعره، فأشمَّه فإذا رأيتموني استمكنْتُ مِن رأسه؛ فدونكم فاضربوه، وقال مرّةً ثمّ أُشِمُّكم. فنزل إليهم متوشحاً (¬2) وهو ينفَحُ منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحاً -أي أطيب- وقال غير عمرو: قال عندي أعطرُ نساء العرب وأكملُ ¬

_ (¬1) هو من باب إطلاق القول على الفعل. "الفتح". (¬2) يعني لابساً الوشاح: وهو شيءٌ يُنسَج عريضاً من أديم، وربّما رُصّع بالجوهر والخرز. وانظر "النهاية".

العرب، قال عمرو فقال أتأذن لي أن أشَمَّ رأسَك قال: نعم فشَمَّه ثم أَشَمَّ أصحابه ثم قال أتأذن لي؟ قال نعم فلما استمكن منه قال دونكم، فقتلوه، ثمّ أتوا النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبروه" (¬1). وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "بعثَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أبي رافعٍ اليهوديّ رجالاً من الأنصار، فأمّرَ عليهم عبد الله بن عَتيك، وكان أبو رافع يُؤْذي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويُعين عليه، وكان في حِصنٍ له بأرض الحجاز، فلمّا دَنَوا منه وقد -غربت الشمس وراح النّاس بسَرْحِهم (¬2) - فقال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإني منطلقٌ ومتلطّفٌ للبوّاب، لعلي أن أدخل، فأقبَل حتى دنا مِن الباب، ثمّ تقنّع بثوبه (¬3) كأنه يقضي حاجةً وقد دخل النّاس، فهتَف به البوّاب يا عبد الله إنْ كنت تريد أن تدخل فادخل، فإنّي أريد أن أغلق الباب، فَدَخَلْتُ فكَمَنْت (¬4)، فلمّا دخَل الناس أغلق الباب، ثمّ علّق الأغاليق على وَدّ (¬5)، قال: فقمت إلى الأقاليد (¬6)، فأخذتها ففَتَحْتُ الباب وكان أبو رافعٍ يُسمَرُ عنده، وكان في عَلاليّ (¬7) له، فلمّا ذهَب عنه أهل سمرِه صَعِدتُ إليه، فجعلْتُ كلّما فتحْتُ باباً أغلقت عليّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4037، ومسلم: 1801. (¬2) أي: رجَعوا بمواشيهم التي ترعى، وسَرْح -بفتح المهملة وسكون الراء بعدها مهملة-: هي السائمة من إبِل وبقر وغنم "الفتح". (¬3) تغطّى به لئلا يُعرف. (¬4) أي: اختبأت. (¬5) هو الوتد. (¬6) جمع أقليد وهو المفتاح. (¬7) العَلاليّ: الغرفة.

مِن داخل، قلتُ إنِ القوم نَذِروا بي (¬1)؛ لم يخلصوا إلي حتى أقتله. فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مُظلم وسْط عياله، لا أدري أين هو مِن البيت. فقلت يا أبا رافع، قال: مَنْ هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضرِبُه (¬2) ضربةً بالسيف وأنا دَهِشٌ فما أغنيتُ شيئاً (¬3)؛ وصاح فخرجْتُ من البيت، فأمكثُ غير بعيد، ثمّ دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمّك الويل، إنّ رجلاً في البيت ضربني قبلُ بالسيف، قال: فأضرِبُه ضربةً أثخَنَته ولم أقتُله، ثمّ وضعْت ضبيب السيف (¬4) في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفتُ أني قتلتهُ فجعلْتُ أفتح الأبواب باباً باباً، حتى انتهيت إلى درجةٍ له فوضعْتُ رِجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعْتُ في ليلة مقمرةٍ، فانكَسَرت ساقي فعَصَبْتُها بعِمامة ثمّ انطلقتُ حتى جلسْتُ على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أَقَتَلْتُه؟. فلمّا صاح الديك قام الناعي (¬5) على السُّور فقال أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النَّجاء (¬6)، فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيتُ إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحدَّثته فقال لي: ابسُط رجلك، فبسطْتُ رجلي فمسَحَها فكأنها لم أشتكِها قطُّ" (¬7). ¬

_ (¬1) أي: علموا وأحسوا بمكاني. "النّهاية". (¬2) قال في "الفتح": ذكره بلفظ المضارع مبالغةً لاستحضار صورة الحال، وإنْ كان ذلك قد مضى. (¬3) أي: لم أقْتُله. (¬4) قال الحافظ -رحمه الله-: "حرف حدِّ السيف"، وفي "القاموس المحيط": "حدّ السيف". (¬5) النعي: خبر الموت والاسم الناعي. "الفتح". (¬6) أي: أسرعوا. (¬7) أخرجه البخاري: 4039.

البيان بأن صاحب السرية إذا خالف الإمام فيما أمره به كان على القوم أن يعزلوه ويولوا غيره

البيان بأن صاحبَ السرية إذا خالَف الإمام فيما أمَره به كان على القوم أنْ يَعْزِلوه وُيولُّوا غيره (¬1) عن عقبةَ بنِ مالك -رضي الله عنه- قال: "بعَث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سريةً، فسلَّح رجلاً سيفاً، فلمّا انصرفنا، ما رأيت مِثل ما لامنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: "أعَجَزتم إذا أمّرْتُ عليكم رجلاً، فلم يمض لأمري الذي أمرْتُ، أو نهيْتُ أن تجعلوا مكانه آخر، يُمضي أمري الذي أمرْتُ؟ " (¬2). من تَأمَّر في الحرب مِن غير إمرةٍ إذا خاف العدو (¬3) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "خَطَب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أخَذ الراية زيدٌ فأُصيب ثمّ أخَذَها جعفرٌ فأُصيب ثمّ أخذها عبد الله بن رواحة فأُصيب، ثمّ أخَذَها خالدُ بن الوليد من غير إمرةٍ ففُتح عليه وما يسرّني -أو قال: ما يُسرّهم- أنّهم عندنا، وقال: وإنّ عينيه لتَذْرِفان" (¬4). توليةُ الإمِام أمراءَ جماعة واحداً بعد الآخر عند قَتْل الأول (¬5) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أمَّرَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة مؤتة ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "التعليقات الحِسان" (4720). (¬2) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" "التعليقات الحِسان" (4720) وأبو داود وغيرهما، وانظر تخريجه في "صحيح سنن أبي داود" (الأمّ) (2362). (¬3) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 183). (¬4) أخرجه البخاري: 1246، 3063. (¬5) مُقتبَسٌ مِن تبويب "صحيح ابن حبان" انظر "التعليقات الحِسان" (7/ 124).

متى تجب طاعة الجنود الأمير أو القائد

زيدَ بن حارثة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ قُتل زيد فجعفر، وإنْ قُتل جعفر؛ فعبد الله ابن رواحة، قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمَسْنا جعفرَ بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين مِن طعنةٍ ورَمْية" (¬1). متى تجب طاعة الجنود الأمير أو القائد تَجِب طاعةُ الجنود الأميرَ أو القائدَ في غير معصية. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومَن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومَن عمى أميري فقد عصاني" (¬2). وتتضمّن الطاعة ما أحبَّ المرءُ أو كَرِه، ما لم يُؤمَر بارتكاب المعاصي، أو اقتراف الآثام. عن عبد الله -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم، فما أحَبَّ وكَرِه، ما لم يُؤمَر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية، فلا سَمْع ولا طاعة" (¬3). وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬4) قال: نَزَلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي، إذ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4261. (¬2) أخرجه البخاري: 7137، ومسلم: 1835. (¬3) أخرجه البخاري: 7144، ومسلم: 1839. (¬4) النساء: 59.

بَعثهُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سريّة" (¬1). وعن علي -رضي الله عنه- قال؛ " بَعث النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سريّة، وأمَّر عليهم رجلا من الأنصار، وأمَرَهم أن يطيعوه فغضب عليهم، وقال: أليس قد أمَرَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: قد عَزمْتُ عليكم لَمَا جمعْتم حطباً، وأوقدتم ناراً ثمّ دخلتم فيها، فجمَعوا حطبَاً فأوقدوا ناراً، فلمّا همُوا بالدخول؛ فقاموا ينظُر بعضهم إلى بعض، فقال بعضهم: إنما تَبِعْنا النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فراراً مِن النار أفندخلها؟ فبينما هم كذلك، إذ خَمَدت النار، وسكَن غضبُه، فُذكِر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف" (¬2). عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لقد أتاني اليوم رجل فسألني عن أمرٍ؛ ما دريت ما أردّ عليه، فقال: أرأيت رجلاً مؤدِياً (¬3) نشيطاً، يَخرُج مع أمرائنا في المغازي، فيَعْزِم علينا في أشياء لا نُحصيها (¬4)، فقلت له: والله ما أدري ما أقول لك، إلاّ أنّا كنّا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعسى أن لا يَعزِمَ علينا في أمرٍ إلاَّ مرّة حتى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4584، ومسلم: 1834. (¬2) أخرجه البخاري؛ 7145، ومسلم: 1840، وقد تقدم، وانظر -إن شئت- رقم (4340) وما قاله الحافظ -رحمه الله- في شرح هذا الحديث. (¬3) مؤديِاً: أي كامل الأداء، أي أداة الحرب، وقال الكرماني -رحمه الله-: معناه قويّاً؛ وكأنّه فسره باللازم. "فتح الباري". (¬4) قال الحافظ -رحمه الله-: "لا نُحصيها: أي لا نطيقها، وقيل: لا ندري أهي طاعةٌ أم معصية، والأول مُطابِقٌ لما فَهِم البخاري فترجَم به، والثاني مُوافِقٌ لقول ابن مسعود "وإذا شك في نفسه شيء سأل رجلاً فشفاه منه"، أي مِن تقوى الله أن لا يُقدّم المرء على ما يشكّ فيه حتى يسأل مَن عنده عِلْم فيدلّه على ما فيه شفاؤه".

عقوبة من عصى الأمير أو القائد

نفعَلَه، وإنّ أحدَكم لن يزال بخير ما اتقى الله، وإذا شكَّ في نفسه شيء سأل رجلاً فشفاه منه، وأوشك أن لا تجدوه والذي لا إله إلاَّ هو ما أذكر ما غَبَر (¬1) من الدنيا إلاّ كالثَّغْب (¬2) شُرِبَ صَفْوُه وبقي كَدَرُه" (¬3). عقوبة مَن عصى الأمير أو القائد (¬4) عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: "جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الرَّجَّالة (¬5) يوم أحدٍ -وكانوا خمسين رجلاً- عبد الله بن جُبَيْر فقال: إنْ رأيتمونا تَخْطَفُنا الطَّير (¬6)؛ فلا تَبْرحُوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإنْ رأيتمونا هَزَمْنا القومَ وأوْطأناهُم (¬7)؛ فلا تبرحوا حتى أُرسِل إليكم، فهزموهم. ¬

_ (¬1) ما غَبر: أي ما مضى، وهو مِن الأضداد؛ يُطلَق على ما مضى وعلى ما بقي، وهو هنا محتمَلٌ للأمرين. "الفتح". (¬2) الثَّغْب:: الموضع المطمئنّ في أعلى الجبل؛ يستنقع فيه ماء المطر، وقيل: هو غديرٌ في غِلَظٍ مِن الأرض، أو على صخرةٍ ويكون قليلاً" "النّهاية". (¬3) أخرجه البخاري: 2964. (¬4) مقتبس من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد والسِّير) (باب - 164). (¬5) الرَّجَّالة: جمع الرجل: الفارس. "الكرماني". (¬6) تخطفنا الطّير: مَثَلٌ يريد به الهزيمة، أي: إذا رأيتمونا انهزمنا؛ فلا تفارقوا مكانكم. "شرح الكرماني". (¬7) قال ابن التين: يريد مشينا عليهم وهم قتلى على الأرض، وقال الكرماني: الهمزة في أوطأناهم للتعريض، أي: جعلناهم في معرض الدوس بالقدم. قاله العيني في "عمدة القاري" (14/ 283).

مبادرة الإمام عند الفزع

قال: فأنا والله رأيت النساء يشْتَدِدْن (¬1)، قد بدت خلاخلُهن وأسْوُقُهنّ (¬2)، رافعاتٍ ثيابَهُنّ. فقال أصحاب عبد الله بن جبيرٍ: الغنيمةَ أيْ قومُ الغنيمةَ، ظهر أصحابُكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبيرٍ: أنسيتم (¬3) ما قال لكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالوا: والله لنأتينّ الناس فلنصيبنّ من الغنيمة، فلمّا أتَوْهم صُرِفت وُجُوههم، فأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أُخْراهم. فلم يبْقَ مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيرُ اثني عشر رجلاً، فأصابوا منّا سبعين وكان النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابُه أصابَ مِن المشركين يوم بدر أربعين ومائةً، سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً" (¬4). مبادرة الإمام عند الفزع عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان بالمدينة فَزَع، فاستعار النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرساً لأبي طلحة، فقال: ما رأينا مِن شيء وإنْ وجَدناه لبحراً (¬5) " (¬6). ¬

_ (¬1) يشْتَدِدْن: أي على الكُفّار، يقال: شدَّ عليه في الحرب: أي: حَمَل عليه، ويقال: معناه: يَعْدُون، والاشتداد: العَدْوُ ... "المصدر السابق". (¬2) جمع ساق. (¬3) انقسم الصحابة -رضي الله عنهم- قسمين: قسماً أخذ بالنَّص، وقسماً تأوّل؛ والمصيب هو المتمسك بالنَّص. (¬4) أخرجه البخاري: 3039. (¬5) لبحراً: أي واسعَ الجري، وسمّي البحر بحراً لسَعَته، وتبحّر في العلم: أي اتّسَع "النهاية". (¬6) أخرجه البخاري: 2968، 2627، ومسلم: 2307.

تشييع المجاهدين ووداعهم والدعاء لهم

تشييع المجاهدين ووداعُهم والدعاءُ لهم يُسنّ تشييع المجاهدين في سبيل الله والغزاة، والدعاء لهم؛ وقد شيَّع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النفر الذين وجَّهَهم إلى كعب بن الأشرف؛ إلى بقيع الغرقد ودعا لهم. فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "مشى معهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بقيع الغرقد ثمّ وجّهَهُم، وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعِنْهم" (¬1). وكان النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يستودع الجيش قال: "أستَودِع الله دينَك، وأمانتَك، وخواتيمَ عَمَلِك" (¬2). وقال الإمام البخاري -رحمه الله-: (باب التوديع) (¬3): ثم ذكرَ حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "بعَثَنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بَعْث فقال لنا: إنْ لقيتم فلاناً وفلاناً -لرجلين من قريش سمّاهما- فحرِّقوهما بالنار، قال ثمّ أتيناه نودِّعه حين أردنا الخروج، فقال: إنّي كنت أمرتكم أنْ تحرّقوا فلاناً وفلاناً بالنار، وإنّ النار لا يُعذِّب بها إلاَّ الله، فإنْ أخذتموهما فاقتلوهما" (¬4). من هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجهاد، واقتداء الصحابة به في المعارك واستبسالهم فيها (¬5) عن زياد بن جبير بن حية قال: "أخبرني أبي أنَ عمر بن الخطاب -رضي الله ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وغيره، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1191). (¬2) أخرجه أبو داود، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"، والحاكم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" برقم (15). (¬3) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 107). (¬4) أخرجه البخاري: 2954. (¬5) هذا العنوان من "السلسلة الصحيحة".

عنه- قال للهُرمُزان: أما إذ فُتَّنِي بنفسك فانصح لي، وذلك اّنه قال له: تكلَّم لا بأس، فأمَّنه، فقال الهُرمُزان: نعم؛ إنّ فارسَ اليوم رأس وجناحان. قال: فأين الرأس؟ قال: نهاوند مع بُنْدار، قال: فإنه معه أساورة كسرى وأهل أصفهان، قال: فأين الجناحان؟ فذكَر الهُرمُزان مكاناً نسيته، فقال الهُرمُزان: اقطع الجناحين توهن الرأس. فقال له عمر -رضي الله عنه-: كذبْتَ يا عدوَّ الله، بل أعمد إلى الرأس فيقطعه الله، فإذا قَطَعه الله عني انقطَع عنّي الجناحان. فأراد عمر أنْ يسير إليه بنفسه، فقالوا: نُذكِّرك الله يا أمير المؤمنين أن تسير بنفسك إلى العجم، فإن أُصِبْت بها لم يكن للمسلمين نظامٌ (¬1)، ولكن ابعث الجنود. قال: فَبَعث أهل المدينة وبَعَثَ فيهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وبَعَث المهاجرين والأنصار، وكتَب إلى أبي موسى الأشعري أنْ سِرْ بأهل البصرة، وكتَب إلى حذيفة بن اليمان أن سِرْ بأهل الكوفة حتى تجتمعوا بنهاوند جميعاً، فإذا اجتمعتم فأميركم النعمان بن مُقَرِّن المزني. فلمّا اجتمعوا بنهاوند، أرسَل إليهم بُندارُ العلج (¬2) أنْ أرسِلوا إلينا يا معشر العرب رجلاً منكم نكلّمه، فاختار النّاس المغيرة بن شعبة، قال أبي: فكأني أنظر إليه: رجل طويل أشعر أعور، فأتاه، فلمّا رجع إلينا سألناه؟ فقال لنا: إنّي وجدْتُ العلج قد استشار أصحابه في أيّ شيء تأذنون لهذا العربي؟ أبشارتنا وبهجتنا وملكنا؟ أو نتقشف له فنزهده عما في أيدينا؟ فقالوا: بل نأذن له بأفضل ما يكون ¬

_ (¬1) وهذا لاهتمامهم العظيم في تنظيم أمور الدولة: داخلها وخارجها. (¬2) العِلْج: الرجل من كُفّار العجم وغيرهم، والأعلاج جمعُه ويُجمع على علوج، "النّهاية".

من الشارة والعدة. فلمّا رأيتهم رأيت تلك الجراب (¬1) والدَّرَق (¬2) يلمع منها البصر، ورأيتهم قياماً على رأسه، فإذا هو على سريرٍ من ذهب، وعلى رأسه التاج، فمضيت كما أنا، ونكستُ رأسي لأقعد معه على السرير، فقال: فدُفعتُ ونُهرت، فقلت: إنّ الرسل لا يُفعَل بهم هذا. فقالوا لي: إنما أنت كلب، أتقعد مع الملِك؟! فقلتُ: لأنا أشرف في قومي مِن هذا فيكم. قال: فانتهرني وقال: اجلس فجلست. فتُرجم لي قوله، فقال: يا معشر العرب، إنكم كنتم أطولَ النّاس جوعاً، وأعظمَ النّاس شقاءً، وأقذرَ النّاس قذراً، وأبعدَ النّاس داراً، وأبعدَه مِن كل خير، وما كان منَعَني أن آمر هذه الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب؛ إلاَّ تنجُّساً لجِيَفِكم لأنكم أرجاس، فإنْ تذهبوا نُخْلِ عنكم، وإنْ تأبوا نبوّئْكم مصارعَكم. قال المغيرة: فحمْدتُ الله وأثْنَيت عليه وقلت: والله ما أخطأت من صِفَتِنا ونَعْتِنا شيئاً، إن كنا لأبعد النّاس داراً، وأشدّ النّاس جوعاً، وأعظم النّاس شقاءً، وأبعد النّاس من كل خير، حتى بَعَث الله إلينا رسولاً، فوعدَنا بالنصر في الدنيا، والجنّةِ في الآخرة، فلم نزل نتعرف مِن ربّنا -مذ جاءنا رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- الفلاح والنصر، حتى أتيناكم، وإنّا والله نرى لكم مُلكاً وعيشاً لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبداً، حتى نغلبَكم على ما في أيديكم، أو نُقتَل في أرضكم. فقال: أمّا الأعور فقد صدقَكم الذي في نفسه. فقمتُ مِنْ عنده وقد والله أرعبت العِلْج جهدي، فأرسَل إلينا العِلج: إمّا أنْ تعبروا إلينا بنهاوند وإمّا أنْ نعبر إليكم. فقال النعمان: اعبروا فَعَبرنا. فقال أبي: ¬

_ (¬1) الجراب: إناء مصنوع من الجِلد، يُحمل فيه الزّاد أثناء السفر "غريب الحديث" للحربي. (¬2) جمع الدَّرَقةَ: التُّرس من جِلد ليس فيه خشب ولا عَقَب.

فلم أر كاليوم قطّ، إنّ العلوج يجيئون كأنهم جبالُ الحديد، وقد تواثقوا أن لا يَفرّوا مِن العرب، وقد قُرِن بعضهم إلى بعض حتى كان سبعة في قران، وألقوا حَسَك (¬1) الحديد خلفهم، وقالوا: مَن فرَّ منّا عقَرَه حَسَكُ الحديد. فقال: المغيرة بن شعبة حين رأى كثرتهم: لم أر كاليوم قتيلاً، إن عدوّنا يتركون أن يتناموا، فلا يُعجلوا. أمَا والله لو أن الأمر إليَّ لقد أعجلتهم به. قال: وكان النعمان رجلاً بكّاءَ، فقال: قد كان الله -جلّ وعزّ- يُشهِدك أمثالها فلا يحْزنك ولا يعيبك موقفك. وإني والله ما يمنعني أنْ أناجزهم إلاّ لشيء شهِدْته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا غزا فلم يُقاتِل أول النهار لم يَعَجَل حتى تحضر الصلوات وتهب الأرواح ويطيب القتال. ثمّ قال النعمان: اللهم إني أسألك أن تُقرَّ عيني بفتْحٍ يكون فيه عزُّ الإسلام وأهله، وذلُّ الكفر وأهلِه. ثمّ اختِمْ لي على أثر ذلكَ بالشهادة. ثمّ قال: أمِّنوا رَحِمكم الله. فأمّنّا وبكى فبكينا. فقال النعمان: إنّي هازٌّ لوائي فتيسّروا للسلاح، ثمّ هازُّها الثانية، فكونُوا متيسَّرين لقتال عدوكم بإزائكم، فإذا هززتها الثالثة؛ فليحمِل كل قوم على مَن يليهم مِن عدوِّهم على بركة الله. قال: فلمّا حَضَرت الصلاة وهبَّت الأرواح كبّر وكبَّرنا. وقال: ريح الفتح والله إن شاء الله، وإني لأرجو أن يستجيب الله لي، وأن يفتح علينا. فهزّ اللواء فتيسروا، ثم هزَّها الثانية، ثمّ هزَّها الثالثة، فحمَلْنا جميعاً كلّ قوم على مَن يليهم. وقال النعمان: إنْ أنا أُصِبت، فعلى النّاس حذيفة بن اليمان، فإنْ أُصِيب حذيفة؛ ففلان، فإنْ أُصِيب فلان ففلان حتى عدَّ سبعة آخرهم المغيرة بن شعبة. ¬

_ (¬1) الحَسَك: ما يُعمل على مثال شوكة، أداة للحرب من حديد أو قصَب، فيُلقى حول العسكر، "القاموس المحيط".

قال أبي: فوالله ما علمْتُ من المسلمين أحداً يُحبُّ أن يرجع إلى أهله حتى يُقْتل أو يَظفَر. فَثَبتوا لنا، فلم نسمع إلاَّ وقْع الحديد على الحديد، حتى أصيب في المسلمين عصابة عظيمة. فلما رأوا صبرنا ورأونا لا نريد أن نرجع انهزموا، فجعل يقع الرجل فيقع عليه سبعة في قران، فُيقتلون جميعا، وجَعل يعقرهم حَسَكُ الحديد خلفهم. فقال النعمان: قدِّموا اللواء، فجعلنا نُقدّم اللواء فنقتلهم ونهزمهم. فلمّا رأى النعمان قد استجاب الله له ورأى الفتح، جاءته نُشَّابَة (¬1) فأصابت خاصرته، فقتلته. فجاء أخوه معقل بن مُقَرِّن فسجى عليه ثوباً (¬2)، وأخذ اللواء، فتقدَّم ثمّ قال: تقدَّموا رحمكم الله، فجعلنا نتقدم فنهزمهم ونقتلهم، فلمَّا فرغنا واجتمع النّاس قالوا: أين الأمير؟ فقال معقل: هذا أميركم قد أقرَّ الله عينه بالفتح، وختَم له بالشهادة. فبايع الناس حذيفةَ بنَ اليمان. قال: وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالمدينة يدعو الله، وينتظر مثل صيحة الحبلى، فكتَب حذيفة إلى عمر بالفتح مع رجل من المسلمين، فلمّا قَدِم عليه قال: أبشِر يا أمير المؤمنين بفتحٍ أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله، وأذلَّ فيه الشرك وأهله. وقال: النعمان بعثك؟ قال: احتسبْ النعمان يا أمير المؤمنين، فبكى عمر واسترجع، فقال: ومن ويحك؟ قال: فلان وفلان -حتى عدّ ناساً- ثمّ قال: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم. فقال عمر رضوان الله عليه -وهو يبكي-: لا يضرهم أن لا يعرفهم عمر، لكن الله يعرفهم" (¬3). ¬

_ (¬1) مفرد النُشَّاب، وهو النَّبْل. (¬2) أي: غطّاه بثوب. (¬3) أخرجه ابن جرير الطبري في التاريخ، وابن حبان والسياق له، وإسناده صحيح، وأصْلُه في البخاري (3159، 3160) وانظر للمزيد من الفوائد الحديثية "الصحيحة" برقم (2826).

عدد غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم -

عدد غزوات النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- "أن رسول الله غزا تسعَ عشرَةَ غزوة وحجّ بعدما هاجر حَجّةً؛ لم يحجّ غَيرها؛ حجَّة الوَدَاعِ" (¬1). وعن بريدة -رضي الله عنه- قال: "غزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسع عشرة غزوة؛ قاتل في ثمانٍ منهن" (¬2). الطليعة واستطلاع الأخبار وابتعاث العيون عن جابر -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يعني في غزوة ذات الرقاع- فأصاب رجلٌ امرأةَ رجلٍ من المشركين، فحلفَ أن لا أنتهيَ حتى أهريق دماً في أصحاب محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخَرج يتبع أثر النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزل النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منزلاً، فقال: مَنْ رجلٌ يكلأُنا (¬3) فانتُدِب رجلٌ من المهاجرين ورجلٌ من الأنصار فقال: كونا بفم الشّعْبِ، قال: فلما خرَج الرجلان إلى فم الشِّعب؛ اضطجع المهاجريّ وقام الأنصاريّ يُصلّي، وأتى الرجل فلمّا رأى شخصه، عَرَف أنه ربيئة (¬4) للقوم، فرماه بسهم، فوضَعه فيه، فنزعَه حتى رماه بثلاثة أسهم، ثمّ ركع وسجَد ثمّ انتبه صاحبه، فلما عَرف أنهم قد نَذِروا به (¬5) هَرب، ولما رأى المهاجريّ ما بالأنصاري ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4404، ومسلم: 1254، واللفظ له. (¬2) أخرجه مسلم: 1814. (¬3) يكلأُنا: أي يحرسنا. (¬4) ربيئة: أي هو العين، والطليعة الذي ينظر للقوم؛ لئلاّ يَدْهمهم عدوّ، ولا يكون إلاَّ على جبل أو شَرَف ينظرُ منه، "النّهاية". (¬5) نذِروا به: أحسّوا بمكانه.

التورية في الغزو

من الدماء قال: سبحان الله ألا أنبهتني أوّل ما رمى، قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحبَّ أن أقطعَها" (¬1). عن ابن المنكَدِر قال: سمعتُ جابراً -رضي الله عنه- يقول: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومَ الأحزاب: مَن يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزُّبير: أنا، ثم قال: مَن يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا، ثمّ قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا، ثمّ قال: إنّ لكل نبيٍّ حَوارِيّاً، وإنّ حَواريَّ الزبير" (¬2). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "بعث رسول الله بُسيسةَ (¬3) عيناً ينظرُ ما صَنَعَت عيرُ (¬4) أبي سفيان ... " (¬5). التورية في الغزو عن عبد الله بن كعب -رضي الله عنه، وكان قائدَ كعبٍ مِن بنيه -قال: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (182) وغيره. (¬2) أخرجه البخاري: 4113، ومسلم: 2415. (¬3) قال الإمام النّووي -رحمه الله-: "هكذا هو في جميع النُّسخ بُسيسة -بباء موحدة مضمومة وبسينين مُهملتين مفتوحتين بينهما ياء مثناة تحت ساكنة- قال القاضي: هكذا هو في جميع النسخ، قال: وكذا رواه أبو داود وأصحابُ الحديث، قال والمعروف في كُتب السيرة بَسْبَس -ببائين موحدتين مفتوحتين بينهما سين ساكنة- وهو بَسبَس بن عمرو، ويقال ابن بشر مِن الأنصار من الخزرج، ويُقال حليف لهم، قلت: يجوز أن يكون أحد اللفظين اسماً له والآخر لقباً". (¬4) العير: هي الإبل والدواب تَحْمِل الطعام وغيره من التجارات. (¬5) أخرجه مسلم: 1901.

الكذب والخداع في الحرب

"سمعْتُ كعبَ بن مالك -رضي الله عنه- حين تخلَّف عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريد غزوة؛ إلاَّ وَرّى بغيرها" (¬1). الكَذِب والخداع في الحرب عن جابر -رضي الله عنه- أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الحربُ خُدْعة" (¬2). جاء في "الفتح": "قال ابن العربي -رحمه الله-: "الخِداع في الحرب يقع بالتعريض وبالكمين ونحو ذلك، وفي الحديث الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب: بل الاحتياج إليه آكد مِن الشجاعة، ولهذا وقع الاقتصار على ما يشير إليه بهذا الحديث، وهو كقوله "الحجّ عرفة" (¬3). قال ابن المنير: معنى الحرب خُدعة، أي: الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في مقصودها؛ إنما هي المخادعة لا المواجهة، وذلك لخَطَر المواجهة، وحصول الظَّفر مع المخادعة بغير خطَر". وقال الإمام النووي -رحمه الله- (12/ 45): "واتفقَ العلماء على جواز خِداع الكُفّار في الحرب، وكيفما أمكَن الخداع؛ إلاَّ أن يكون فيه نقْضُ عهدٍ أو أمان؛ فلا يَحِلّ". وعن أمّ كلثوم بنت عقبة -رضي الله عنها- أنها سَمِعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2947 واللفظ له، ومسلم: 2769. (¬2) أخرجه البخاري: 3030، ومسلم 1739. (¬3) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي وغيرهم، وصحَّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1064).

يقول: "ليس الكذّاب الذي يُصلح بين النّاس فيَنْمي (¬1) خيراً أو يقول خيراً" (¬2). وفي رواية قال ابن شهاب: "ولم أسمع يُرخَّص في شيء مما يقول النّاس كَذِبٌ إلاَّ في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأتَه، وحديث المرأة زوجَها" (¬3). قال الإمام البخاري -رحمه الله-: "باب الكذب في الحرب" (¬4) ثمّ ذكر تحته حديث قَتْل كعبِ بن الأشرف" (¬5). وفي استئذان محمد بن مسْلَمة -رضي الله عنه- الكذِب للخدعة؛ إذ قال: "ائذن لي فلأقُل، قال: قل" (¬6). وفي رواية: "فقال محمّد بن مسلمة -رضي الله عنه- لكعب بن الأشرف: إنّ هذا -يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- قد عنّانا (¬7) وسأَلنا الصدقة ... فلم يزَلْ يكلّمه، حتى استمكَن منه فقتلَه" (¬8). ¬

_ (¬1) ينمي -بفتح أوله وكَسْر الميم- أي: يُبلغ، تقول: نميت الحديث أنميه، إذا بلّغتَه على وجه الإصلاح وطلب الخير، فإذا بلّغتَه على وجه الإفساد والنميمة قلت: نمّيته -بالتشديد- كذا قال الجمهور، قاله الحافظ -رحمه الله- في "الفتح". (¬2) أخرجه البخاري: 2692، ومسلم: 2605. (¬3) أخرجه مسلم: 2605. (¬4) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد والسِّير) (158 - باب). (¬5) انظر إن -شئت- بر قم: 3031. (¬6) أخرجه البخاري: 3032، ومسلم: 1801 وهذا لفظه. (¬7) عنّانا: أي أتعَبنا. (¬8) أخرجه البخاري: 3031 وهذا لفظه، ومسلم: 1801.

التسبيح إذا هبط واديا والتكبير إذا علا شرفا

وقال لنا شيخنا -رحمه الله- في بعض مجالسه -وهو يناقش ما يجوز وما لا يجوز من الكَذِب-: "ليس تحريم الكذب لأجل (ك، ذ، ب) ولا وجوب الصدق لأجل (ص، د، ق). قلت: يريد شيخنا -رحمه الله- أنّ تحريم الكَذِب يُدرَك مغزاه ويُعقل مرماه، فلا يجوز أن تَصْدُق الأعداء وتدلّهم على مواقع المسلمين إذا سألوا؛ تَحرُّجاً من الكَذِب، فالكَذِب هنا واجب، والصدق حرام؛ لما لا يخفى مِن أثَر ذلك لكلّ ذي لُبٍّ وبصيرة. التسبيح إذا هَبط وادياً والتكبير إذا عَلا شَرَفاً (¬1) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كنا إذا صَعِدنا كبّرنا، وإذا نزَلنا سبَّحنا" (¬2). إباحة تعاقب الجماعة الركُوبَ الواحد في الغزو عند عدم القدرة على غيره (¬3) عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنهم كانوا يوم بدر بين كلّ ثلاثة بعير، وكان زميلَيْ (¬4) رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليّ وأبو لُبابة، فإذا حانت عُقبةُ (¬5) النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالا: اركب ونحن نمشي، فيقول النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أنتما بأقوى مني، وما أنا بأغنى ¬

_ (¬1) هذان بابان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب 132، 133). (¬2) أخرجه البخاري: 2993. (¬3) هذا العنوان من "صحيح ابن حبان" بتصرف يسير، انظر "التعليقات الحِسان" (7/ 117). (¬4) الزميل هنا: هو الذي يركب مع غيره على دابّة واحدة بالنوبة؛ وانظر "المرقاة" (7/ 459). (¬5) أي: نوبة نزولهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. "المرقاة".

باب الرجز في الحرب

عن الأجر منكما" (¬1). باب الرَّجز (¬2) في الحرب (¬3) عن البراء -رضي الله عنه- قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الخندق وهو ينقل الترابُ؛ حتى وارى التراب شعْرَ صدْرِه وكان رجلا كثير الشعر، وهو يرتجز برجز عبد الله: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلَّينا فأنزِلَنْ سكينةً علينا ... وَثَبّتِ الأقدام إنْ لاقينا إنَّ الأعداء قد بغَوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا يرفع بها صوته" (¬4). مَن أَحبَّ الخروج للغزو يومَ الخميس (¬5) عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن كعب بنَ مالك -رضي الله عنه- كان ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وابن حبان "التعليقات الحِسان" (4713) وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (2257)، و"فقه السيرة" (ص 255). (¬2) قال الحافظ -رحمه الله-: "الرَّجَز بفتح الراء والجيم والزاي مِن بحور الشعر على الصحيح، وجَرَت عادة العرب باستعماله في الحرب ليزيد في النشاط ويبعث الِهمَم، وفيه جوازُ تمثَّل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشِعر غيرِه". (¬3) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب 161). (¬4) أخرجه البخاري: 3034، ومسلم: 1803. (¬5) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب-103).

ما يؤمر من انضمام العسكر

يقول: "لقلّما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرُج إذا خَرَج في سفر؛ إلاّ في يوم الخميس" (¬1). وعن كعب -رضي الله عنه- " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرَج يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يحبُّ أن يخرج يوم الخميس" (¬2). ما يُؤمَر من انضمام العسكر (¬3) عن أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- قال: "كان النّاس إذا نَزَلوا مَنزِلاً؛ تفرَّقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ تفرّقكم في هذه الشعاب والأودية؛ إنما ذلكم مِن الشيطان، فلم ينزل بعد ذلك منزلاً؛ إلاَّ انضَمَّ بعضهم إلى بعض، حتى يُقال لو بُسِط عليهم ثوب لَعَمّهُم" (¬4). في المياسرة والمرافقة في الغزو (¬5) *قال -تعالى-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬6). وقال -تعالى-: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (¬7) وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2949. (¬2) أخرجه البخاري: 2950. (¬3) هذا العنوان من "سنن أبي داود". (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2288). (¬5) هذا العنوان من كتاب "الإنجاد في أبواب الجهاد" (1/ 137). (¬6) المائدة: 2. (¬7) خصاصة: يعني حاجة، أي: يقدِّمون المحاويج؛ على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.

فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1). وفي حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الغزو غزوانِ: فأمّا مَن ابتغى وجه الله، وأطاعَ الإمام وأنفَق الكريمةَ (¬2)، وياسَرَ الشريك (¬3)، واجتنَب الفساد، فإنَّ نومه ونُبْهَهُ (¬4) أجرٌ كلُّه" (¬5). وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّ الأشعريين إذا أرملوا (¬6) في الغزو، أو قلَّ طعامُ عيالهم بالمدينة؛ جَمَعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحد، ثمّ اقتسموه بينهم؛ في إناءٍ واحدٍ بالسَّويَّة، فهم منّي وأنا منهم" (¬7). وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، حدَّث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، "أنه أراد أن يغزو فقال: يا معشر المهاجرين والأنصار، إنَّ من إخوانكم قوماً؛ ليس لهم مال ولا عشيرة، فَلْيَضُمَّ أحدكم إليه الرجلين أو الثلاثة، فما لأحدنا مِن ظَهْرٍ يحمله إلاَّ عُقبةٌ كعُقْبَةِ (¬8) -يعني- ¬

_ (¬1) الحشر: 9. (¬2) أنفَقَ الكريمة: العزيزة على صاحبها. "النّهاية". (¬3) ياسَر الشريك: ساهَلَه. "المصدر السابق". (¬4) النُّبْهُ: الانتباه من النوم. "المصدر السابق". (¬5) أخرجه أبو داود (2515)، وهو في "الصحيحة" (1990). (¬6) أرملوا: فَنِي زادهم، وأصله من الرَّمل؛ كأنّهم لصقوا بالرَّمل من القلَّة، كما قيل في {ذَا مَتْرَبَةٍ}. "فتح". (¬7) أخرجه البخاري: 2486، ومسلم: 2500. (¬8) عُقبة: العُقبة بالضم: ركوب مركب واحد بالنوبة على التعاقُب، وهو أن يركب هذا قليلاً، ثم ينزل، فيركب الآخر بالنوبة، حتى يأتي على سائرهم. ملتقط من "الفتح" و"عون المعبود". والمعنى: لم يكن لي فضلٌ في الركوب على الذين ضممتُهم إليَّ، بل كان لي عُقبةٌ من جملي مثل عُقبة أحدهم. "عون المعبود".

أحَدِهِمْ (¬1)، فضَمَمْتُ إليَّ اثنين أو ثلاثة، قال: ما لي إلاَّ عُقبة كعقبة أحدِهم مِن جملي" (¬2) * (¬3). عن أبي موسى (¬4) -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاة، ونحن ستة نفر، بيننا بعير نَعْتَقِبُهُ (¬5) فَنَقِبَتْ أقدامُنا، ونَقِبَت قدماي، وسقَطَت أظفاري، وكنَّا نلفُّ على أرجُلنا الخِرَقَ، فسُمِّيت غزوةَ ذاتِ الرِّقاع، لمِا كنّا نعْصِبُ من الخِرَق على أرجلنا، وحدَّث أبو موسى بهذا ثمّ كَرِه ذاك، قال: ما كنت أصنع بِأنْ أذكُرَه -كأنّه كَرِه أن يكون شيءٌ مِن عَمَلِه أفشاه-" (¬6). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كنا يوم بدرٍ، كلّ ثلاثة على بعير -أي يتعاقبون- وكان أبو لبابة وعليّ بن أبي طالب زميلَي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: فكانت عُقبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالا له: نحن نمشي عنك -ليظلّ راكباً-. فقال: ما أنتما بأقوى مني على المشي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما" (¬7). وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتخلَّف ¬

_ (¬1) جاءت كلمة (أحدِ) مجرورة بالإضافة لأنَّ تقدير الجملة: "كعقبةِ أحدِهم". (¬2) أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود، "صحيح سنن أبي داود" (2209) وغيرهما. (¬3) ما بين نجمتين من كتاب "الإنجاد" (1/ 137). (¬4) هذا الحديث إشارة من محقِّقَي كتاب "الإنجاد" -حفظهما الله تعالى-. (¬5) نعتقبه: أي نركَبُه عُقبة عُقبة. (¬6) أخرجه البخاري: 4128، ومسلم: 1816. (¬7) أخرجه أحمد في "مسنده" والحاكم: وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم"، وانظر تخريج "فقه السيرة" (ص 255).

حرمة نساء المجاهدين ومن خان غازيا في أهله:

في المسير، فيُزجي (¬1) الضعيف، ويُردف، ويدعو لهم" (¬2). حرمة نساء المجاهدين ومن خان غازياً في أهله (¬3): عن بريدة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حُرمَةُ نساء المجاهدين على القاعدين؛ كحُرمةِ أمَّهاتهم، وما مِن رجلٍ من القاعدين يخلُف رجلاً من المجاهدين في أهله، فيخونه فيهم؛ إلاَّ وُقِفَ له يوم القيامة؛ فيأخذ مِن عَمَله ما شاء، فما ظنُّكم؟ " (¬4). وفي رواية: "فقال: فخُذ مِن حسناته ما شئت فالتفَتَ إلينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: فما ظنُّكُم؟ (¬5). وفي رواية: " ... وما مِن رجل مِن القاعدين؛ يخلُف رجلاً من المجاهدين في أهله؛ إلاَّ نُصب له يوم القيامة، فيُقال: يا فلانُ، هذا فلانٌ، فخُذ مِن حسناته ما شئت، ثمّ التفَتَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أصحابه فقال: ما ظنُّكُم تَرَون، يَدَعُ له مِن حسناته شيئاً؟ " (¬6). وفي رواية: "ألا كُلَّما نفَرنا غازين في سبيل الله، خَلَف أحدُهم، له نبيبٌ ¬

_ (¬1) يزجي: أي يسوقه ليُلحقه بالرَّفاق. "النّهاية". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2298) والحاكم، وانظر "الصحيحة" (2120) وتقدّم. (¬3) هذا العنوان من "سنن النسائي" (كتاب الجهاد) (باب 47، 48). (¬4) أخرجه مسلم: 1897. (¬5) مسلم: 1897 - 140. (¬6) "صحيح النسائي": (2990).

خروج النساء للتمريض ونحوه

كنبيب التيس (¬1)، يمنح أحدُهم الكُثْبة (¬2)، أمَا والله إنْ يُمكِنِّي مِن أحدِهم؛ لأُنكِّلَنَّه عنه (¬3) " (¬4). خروج النساء للتمريض ونحوه عن أنس -رضي الله عنه- قَالَ: "لمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ الناس عَنْ النَبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ، وَإِنَّهُمَا لمُشَمِّرَتَانِ، أرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا (¬5) تَنْقُزَانِ الْقِرَبَ -وَقَالَ غَيْرُهُ تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ- عَلَى مُتُونِهِمَا (¬6) ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أفْوَاهِ الْقَوْمِ، ثُمَّ تَرْجِعَانِ فتَمْلَآَنِهَا، ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهَا فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ" (¬7). وعن أنس -رضي الله عنه أيضاً- قال: "كَانَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ ¬

_ (¬1) نبيب التيس: صوته عند الوقاع، لشِدّة رغبته فيه. (¬2) الكُثْبة: القليل من اللبن وغيره. "شرح النووي". (¬3) لأُنكِّلنَّه عنه: أي لأمنعنَّه عن ذلك بالعقوبة والحدِّ، وفي رواية لمسلم (1692 - 18) "إلاَّ جعلتُه نكالاً أو نكَّلته" أي: عِظةً وعِبرةًَ لمَن بعده، بما أصبْتُه منه من العقوبة؛ ليمتَنعوا من تلك الفاحشة. قاله النّووي -رحمه الله- أيضاً. (¬4) أخرجه مسلم: 1692، وانظر رقم (1694) أيضاً. (¬5) قال الإمام النّووي -رحمه الله- (12/ 189): "قوله: (أرى خَدَم سوقها) هو بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة، الواحدة خدمة، وهي الخلخال، وأمّا السوق: فجمع ساق، وهذه الرواية للخَدَم لم يكن فيها نهي؛ لأنّ هذا كان يوم أحد قبل أمْرِ النساء بالحجاب، وتحريم النظر إليهن، ولأنه لم يَذكُر هنا أنه تعمّد النظر إلى نفس الساق، فهو محمول على أنه حَصَلَت تلك النظرة فجأة بغير قصد، ولم يستدِمْها". (¬6) أي على ظهورهما. (¬7) أخرجه البخاري: 2880، ومسلم: 1811.

حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه

وَنِسْوَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مَعَهُ إِذَا غَزَا، فَيَسْقِينَ الماءَ، وَيُدَاوِينَ الجرْحَى" (¬1). حَمل الرجل امرأتَه في الغزو دون بعض نسائه (¬2) عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كان النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أرادَ أن يخرُج؛ أقرع بين نسائه؛ فأيتُهُنّ يخرج سهمها؛ خرج بها النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجْتُ مع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ما أُنزِل الحجاب" (¬3). غزوة النساء مع الرجال عن أنس -رضي الله عنه- " أنّ أم سُليم اتّخذَت يوم حنين خَِنْجراً فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، هذه أمُّ سُليم معها خِنَجرٌ، فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما هذا الخِنَجر؟ قالت: اتخذتهُ إنْ دنا مني أحد من المشركين؛ بَقَرتُ (¬4) به بطنه، فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضحك ... " (¬5). تحريم إسناد القتال إلى النّساء عن أبي بكرةَ -رضي الله عنه- قال: لقد نفعني الله بكلمةٍ سَمِعْتها مِن رسول الله أيّام الجَمل؛ بعدما كِدْتُ أن ألحقَ بأصحاب الجمل (¬6) فأقاتلَ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1810. (¬2) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (باب - 64). (¬3) أخرجه البخاري: 2593، 2879، ومسلم: 2770. (¬4) أي شَقَقتُ. (¬5) أخرجه مسلم: 1809. (¬6) يعني عائشة -رضي الله عنها- ومن معها.

فضل الخدمة في الغزو

معهم (¬1)، قال لما بلَغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى، قال: لن يُفْلِح قومٌ ولَّوا أمرَهم امرأة" (¬2). وما ورد من مشاركة بعض النساء في القتال -في حدودٍ ضيقةٍ- يختلف عن تولّيها أمرَ القتال والقيادة. فضل الخدمة في الغزو عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "صَحِبْتُ جريرَ بن عبد الله؛ فكان يخدمني وهو أكبر من أنس. قال جرير: إنّي رأيت الأنصار يصنعون شيئاً لا أجد أحداً منهم إلاَّ أكْرمتُه (¬3) " (¬4). وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كنّا مع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثرنا ظِلاًّ الذي يستظل بكسائه، وأمّا الذين صاموا فلم يعملوا شيئاً، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا، فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذهب المفطرون اليوم بالأجر" (¬5). ¬

_ (¬1) تأمّل كيف نَفَع الله -تعالى- أبا بكرة -رضي الله عنه- لأنه عَمِل بمقتضى الحديث، ولم يتأوّله فيقول: هذه أم المؤمنين -رضي الله عنها- والأمر سائغ، بل إنّ الله -تعالى- نجّاه من الفتنة والقتال؛ ببركة تعظِيم الحديث وإمضائه. (¬2) أخرجه البخاري: 4425. (¬3) قال الحافظ -رحمه الله-: في رواية نصر "آليت -أي حَلَفْت- أن لا أصحب أحداً منهم إلاَّ خَدَمْته". (¬4) أخرجه البخاري: 2888، ومسلم: 2513. (¬5) أخرجه البخاري: 2890، واللفظ له، ومسلم: 1119.

إذن الوالدين في جهاد التطوع

إذن الوالدين في جهاد التطوع الجهاد الواجب لا يلزم فيه إذن الوالدين. أمّا جهادُ التطوّع؛ فإنّه لا بد فيه من إذن الوالِدَيْن المسلِمَين. عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "سألْتُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثمَّ أيُّ؟ قال: بِرُّ الوالدين، قال: ثمَّ أيُّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله" (¬1). وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "جاء رجل إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستأذنه في الجهاد، فقال: أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهِد" (¬2). وفي رواية: "جاء رجلٌ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال: ارجع إليهما فأضحِكهما كما أبكيتَهما" (¬3). وعن جاهمة السُّلمي -رضي الله عنه- قال: "أنّه جاء رجل إلى النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، أردتُ أن أغزو، وقد جئت أستشيرك؟ فقال: هل لك من أمّ، قال: نعم، قال: فالزمها؛ فإنّ الجنّة تحت رجليها" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 527، ومسلم: 85. (¬2) أخرجه البخاري: 3004، ومسلم: 2549. (¬3) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الأدب المفرد" برقم 10. (¬4) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2908) وابن ماجه وغيرهم، وانظر تعليق شيخنا -رحمه الله- في "التعليقات الرضيّة على الروضة النديّة" (3/ 439).

وقال في "الروضة النديّة" (2/ 718): "وقد ذَهَب الجمهور؛ إلى أنَّه يَجب استئذان الأبوين في الجهاد، ويَحرُم إذا لم يأذنا أو أحدهما، لأنّ بِرّهما فَرْضُ عين، والجهاد فرضُ كفاية، قالوا: وإذا تعيَّن الجهاد فلا إِذْن ... ". وقال العلّامة أحمد شاكر -رحمه الله-: "ولعل الأحسن في التوفيق بين الحديثين، أن يُجْعَل ذلك إلى رأي الإمام أو المكلِّف، فإنْ كانت المصلحة تقتضي بأحدهما وجب تقديمه، وقد كان المهاجرون والأنصار يجاهدون، ولم نر في شيء من الروايات، أنهم كانوا يلتزمون استئذان الوالدين في كل غزو". وجاء في "المغني" (10/ 383): " (وإذا خوطب في الجهاد فلا إذْن لهما، وكذلك كلّ الفرائض لا طاعة لهما في تركها) يعني إذا وجَب عليه الجهاد لم يُعتَبَرْ إذن والديه، لأنه صار فرْضَ عين، وترْكه معصية، ولا طاعة لأحد في معصية الله، وكذلك كلّ ما وجب، مثل: الحجّ، والصلاة في الجماعة والجمع، والسفر للعِلم الواجب. قال الأوزاعي: لا طاعة للوالدين في تَرْك الفرائض والجُمَع والحجّ والقتال، لأنها عبادة تعيّنت عليه، فلم يُعتَبر إذن الأبوين فيها كالصلاة، ولأنّ الله -تعالى- قال: {وَللهِ عَلَى اَلنَّاسِ حِجُّ اَلبَيتِ مَنِ اَسْتَطَاعَ إليَهِ سبيلاً}، ولم يَشتَرِط إذن الوالدين". وجاء في كتاب "الإنجاد في أبواب الجهاد" (¬1) (1/ 52): "وأمَّا مَن له ¬

_ (¬1) تصنيف الإمام أبي عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ الأزدي القرطبي المعروف بابن المُناصف -رحمه الله-، علّق عليه وخرّج أحاديثه مشهور بن حسن آل سلمان ومحمد بن زكريا أبو غازي -حفظهما الله-.

أبوان؛ فإنْ كانا يَضيعان بخروجه إلى الجهاد؛ فهو إجماعٌ على أنّ فرضَ الجهاد ساقِطٌ عنه، ذكَره أبو محمد بنُ حزمٍ في "مراتب الإجماع". وإنْ كانا ممّن لا يَضيع، فذهب الجمهور إلى أنّ عليه أن يستأذنهما، فإنْ أذِنا له خرَج، وإنْ أبَيَا عليه لم يجُزْ له أن يخرج. رُوي ذلك عن مالكِ، والأوزاعي، وسفيان الثوري، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أهل العلم، قال أبو عمر بن عبد البَرِّ: "لا خلاف أعلمه أنّ الرجل لا يجوز له الغزو ووالداه كارهان، أو أحدهما". قلت [والكلام لصاحب "الإنجاد"]: ذلك إذا لم يتعيَّن الفرض، مِثْل أنْ يفْجأ العدوُّ (¬1)، فيُحتاج إليه في الدفع، ونحوِ ذلك ممّا يتعيّن فيه، لأنه ما لم يتعيَّن، يعصي والديه ويعقُّهما في غير شيء أوجَبَه الشرع، فذلك حرامٌ عليه، وأمّا إذا تعيَّن الفرض، فلا يستأذنهما في تَرْك الفرائض". ثمّ ذكَر الأدلة على ذلك، ثمّ قال: "وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "إذا أذِنَت له أمُّه في الجهاد، وعلِمَ أنّ هواها أن يجلس؛ فليجلس". وقال في "المغني" (10/ 383) أيضاً: ¬

_ (¬1) وجاء في "التعليق": "هل حضور الولد الصّف بعد الإذن، يُؤثّر فيه رجوع الأبوين عن الإذن؟ خلافٌ بين أهل العلم، بخلاف رجوعهما قبل حضورِ الصفّ، فالواجب على الولد الرجوع، ما لم يتعيَّن عليه الجهاد، انظر بسط المسألة في: "روضة الطالبين" (10/ 212)، "أسنى المطالب" (4/ 177 - 178)، "مغني المحتاج" (4/ 218)، "كشاف القناع" (3/ 40)، "أحكام إذْن الإنسان" (2/ 624 - 625)، "رسالة الإرشاد إلى بيان الحقّ في حُكم الجهاد" (ص 74 - وما بعدها) ".

هل يستأذن الدائن

"وإنْ خرَج في جهاد تطوّعٍ بإذنهما، فمنَعاه منه بعد سَيْرِه وقبل وجوبه، فعليه الرجوع، لأنه معنى لو وجد في الابتداء مُنِع، فإذا وُجد في أثنائه منع؛ كسائر الموانع، إلاَّ أن يخاف على نفسه في الرجوع، أو يحدث له عذر؛ مِن مرض أو ذهاب نفقة أو نحوه، فإنْ أمكنه الإقامة في الطريق، وإلا مضى مع الجيش، فإذا حضَر الصفّ، تعيّن عليه بحضوره، ولم يَبْقَ لهما إذن. وإن كان رجوعهما عن الإذن بعد تعيُّن الجهاد عليه، لم يؤثّر رجوعهما شيئاً". هل يُستأذَن الدائن (¬1) ومن كان عليه دين حالٌّ أو مُؤجَّل، لم يجُز له الخروج إلى الغزو إلاَّ بإذن غريمه، إلاَّ أن يَتْرُك وفاءً، أو يقيمَ به كفيلاً، أو يُوَثِّقَه برهن، وبهذا قال الشافعي. ورخَّص مالك في الغزو لمن لا يقدر على قضاء دينه؛ لأنه لا تتوجه المطالبة به، ولا حبْسه من أجله، فلم يُمنَع من الغزو، كما لو لم يكن عليه دين، ولنا أنّ الجهادَ تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس، فيفوت الحقُّ بفواتها. عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يُغفر للشهيد كلُّ ذنبٍ إلاّ الدَّيْن" (¬2). وعن أبي قتادة -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله قام فيهم، فذَكَر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إنْ قُتلتُ في سبيل الله تُكفّر عنِّي خطاياي؟ فقال له رسول الله: نعم، إن ¬

_ (¬1) عن "المغني" (13/ 27) بتصرف يسير، وزيادة حديث ابن عمرو -رضي الله عنهما-. (¬2) أخرجه مسلم: 1886.

قُتلتَ في سبيل الله، وأنت صابرٌ محُتسب، مُقبِل غيرُ مُدبر، ثمّ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف قلت؟ قال: أرأيتَ إنْ قُتلتُ في سبيل الله أتُكفّرُ عني خطاياي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم؛ وأنت صابرٌ محُتسب مُقبل غيرُ مدبر إلاّ الدَّيْن، فإنّ جبريلَ -عليه السلام- قال لي ذلك" (¬1). وأمّا إذا تَعيَّن عليه الجهاد، فلا إذْن لغريمه، لأنّه تعلّق بعينِه، فكان مُقدَّماً على ما في ذمّته؛ كسائر فروض الأعيان، ولكن يُستحَبّ له أن لا يتعرض لمظانّ القتل؛ من المُبارزة، والوقوف في أول المقاتلة، لأن فيه تغريراً بتفويت الحق (¬2)، وإنْ ترَك وفاءً، أو أقام به كفيلاً، فله الغزو بغيرِ إذْن. نصّ عليه أحمد، في مَن تَرك وفاءً، لأنّ عبد الله بن حرام أبا جابر بن عبد الله خرَج إلى أُحُد، وعليه دَينٌ كثير، فاستُشهِد، وقضاه عنه ابنه بعِلم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يذمّه النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، ولم يُنكر فِعْلَه، بل مَدَحه، وقال: "ما زالت الملائكة تُظِلّه بأجنحتها، حتى رفعتموه" (¬3). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجابر: "ألا أُخبرك ما قال الله -عزّ وجلّ- لأبيك، قلتُ: بلى، قال: ما كَلَّم الله أحداً إلاّ من وراء حجاب، وكلّم أباك كِفاحاً (¬4) " (¬5). قلتُ: أراد المصنف -رحمه الله- أن يجمع بين تلبية واجب الجهاد وأداء ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1885. (¬2) انظر تعليقي في المتن، بعد قليل إن شاء الله -تعالى-. (¬3) أخرجه البخاري: 1244، ومسلم: 2471. (¬4) كفاحاً: أي مواجهة، ليس بينهما حجابٌ ولا رسول. "النّهاية". (¬5) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2258) وغيره.

الحقوق. ولكن: لا بُدّ من تفصيلٍ فيما يتعلق بالتّعرض للمبارزة والوقوف في أول المقاتلة. فإنْ كان أُوتي من الشجاعة والإقدام، ما يُمكنه أن يُحقّق نصراً أو يكون سبباً في استجلاب نفعٍ عامّ أو مصلحة راجحة؛ فلا حرج من مبادرته بذلك. فأمّا الدين، فلا يضرُّه عدم أدائه؛ إذا كان قد بذَل الأسباب المطلوبة منه، ولا يخفى دور الإمام في سدِّ هذا الأمر، والله -تعالى- أعلم. قلت: ثمّ اطلعت على ما جاء في "الإنجاد" (1/ 57) وفيه: "وأمّا المِدْيان (¬1) فاختلفوا فيه، فرُوي عن الأوزاعي أنّه أرخص في خروجه إلى الجهاد مِن غير إذْنِ صاحب الحقِّ، ورُوي عن الشافعي أنه ليس له أن يغزو بحالٍ؛ إلاَّ بإذْن أهل الدَّيْن، وسواءٌ كان الدَّين لمسلمٍ أو كافر، وفرَّق مالكٌ بين أن يجد قضاءً أو لا يجد، واختلفت مع ذلك فيه الروايات عنه ... ... وقد جاء في أمر الدَّين تشديدٌ كثير غير هذا؛ فأقول [الكلام لصاحب "الإنجاد"]: إنّ تعلّق المأثم بالدَّين، إنما يكون حيث التقصيرُ المُتْلِفُ لذلك الحقِّ، إمّا بالمَطْلِ أو الجحود، أو تَرْكِ أنْ يوصيَ به، وإمّا أنْ يَدَّانَ في غير الواجب، وهو ممَّن لا يقدر على الأداء، وما أشبه ذلك. وللمِدْيان عند إرادة الغزو حالان: مَلاَءٌ أو عَدَمٌ. فأمّا المليء، فإنْ كان حَلَّ دينُه، فالظاهر أنّه لا يجوز أنْ يغزوَ بغير إذْنِ صاحب الحقِّ، فإنْ كان دينه لم يحلَّ بعدُ، فهذا له أن يغزو، وعليه أن يوكِّل مَن ¬

_ (¬1) المِدْيان: هو الذي يُقرض كثيراً ويستَقْرِض كثيراً. انظر "المحيط".

يقضيه عنه عند حلوله، والدليل على ذلك أنَّ مَن كان مليئاً، وقد حلَّ الحقُّ عليه، فهو مأمورٌ كلَّ وقتٍ بالقضاء، ففِعْلُه ما يحول بينه وبين ذلك؛ مِن غير إذن صاحب الحق لا يحلُّ له. خرَّج مسلم (¬1) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَطْلُ (¬2) الغني ظُلْم، وإذا أُتبع أحدكم على مليءٍ فَلْيتْبَعْ" (¬3). وأمّا إذا لم يَحُلْ، فلا حَقَّ عليه الآن في الأداء، فلا يتَّصف بالمطلِ، فليس عليه أنْ يستأذنه، لكن عليه باتفاقٍ أن يوصيَ به، ويُوكِّل على قضائه، فإذا فعَل ذلك فقد أدَّى ما لزِمه ساعتئذِ، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإذا أُتبع أحدكم على مليءٍ فَلْيتْبَعْ". وأمَّا إنْ كان عديماً لا يَجِدُ قضاءً، ولا يرجو كَسْباً، فهذا روي عن مالك أنه سُئِل عنه فلم يرَ بجهاده بأساً، يعني: وإن لم يستأذِن غريمه، وهذا ظاهر؛ لأنه لا منفعة له في منْعِه، وليس ممّن عليه حَبْسٌ ولا سلطان، بل هو مخلَّى بإنظار الله -عزّ وجلّ- إياه، فلا يَجِب له عليه شيءٌ، ما دام على حالته تلك. قال بعض المتأخرين: ولعله يُرزق في الغزو ما يؤدي به دَينه، ففي الغزو خيرٌ لهما. وقد رُوي -أيضاً- عن مالك ما ظاهِرُه، أنه يَجِب الاستئذانُ على مَن لم يجد وفاءَ من دَيْنِهِ، ولا استئذان على من ترَك وفاءً". ¬

_ (¬1) برقم (1564)، وانظر "صحيح البخاري" 2287، 2288، 2400. (¬2) هو مَنْع قضاء ما استُحِق أداؤُه. (¬3) معناه: إذا أُحيل بالدَّين الذي له على موسر، فليَقْبَل الحوالة.

حكم الاستعانة بالمشركين في الجهاد

حكم الاستعانة بالمشركين في الجهاد اختلَف العلماء في مشروعية الاستعانة بالمشركين، فذهَب جماعة من العلماء إلى عدم جواز الاستعانة بالمشركين، وذهَب آخرون إلى جوازها. ومن أهم أدلة المانعين: حديث عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: "خرَج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبَل بدر فلمّا كان بِحَرَّة الوَبَرَة (¬1)، أدركه رجل قد كان يُذكَر منه جُرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين رأوه، فلمّا أدركه قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: جئت لأتَّبِعَك وأصيبَ معك، قال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك. قالت: ثمّ مضى، حتى إذا كنّا بالشجرة (¬2)، أدركه الرجل فقال له كما قال أوّل مرّة، فقال له النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قال أول مرة، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، قال: ثمّ رَجَع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أوّل مَرّة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فانطَلِق" (¬3). ومن أبرز أدلّة المجوّزين: حديث ذي مخِبَر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ستصالحون الروم صُلحاً آمناً (¬4)، فتغزون أنتم وهم عدواً مِن ورائكم، ¬

_ (¬1) الوَبَرَة: موضع على نحو من أربعة أميال من المدينة. (¬2) اسم موضع. (¬3) أخرجه مسلم: 1817. (¬4) أي صلحاً ذا أمن.

فتُنصَرون وتَغنَمون وتَسلمون ثمّ تَرجعون، حتى تنزِلوا (¬1) بمَرْج (¬2) ذي تُلول (¬3)، فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب، فيقول: غَلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيدقه (¬4)، فعند ذلك تغدر الروم وتجمعُ للملحمة (¬5) " (¬6). وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ الله يؤيّد الدين بالرّجُل الفاجِر" (¬7). فيُجمَع بين الأحاديث بأنّ الاستعانة بالمشركين لا تجوز إلاّ لضرورة؛ لا إذا لم تكن ثمّ (¬8) ضرورة (¬9). وبوّب الإمام النّووي -رحمه الله- لمسلم في كتاب "الجهاد والسِّير"، فقال: "باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر إلاَّ لحاجة، أو كونه حَسن الرأي في المسلمين" وذكر الحديث السابق ثمّ قال -رحمه الله- في الشرح: "قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فارجع فلن أستعين بمشرك"، وقد جاء في الحديث الآخر أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان ¬

_ (¬1) أي أنتم وأهل الروم. (¬2) مرج: أرض واسعة ذات نبات كثير. (¬3) ذي تُلول: جمع تَل: موضع مرتفع. (¬4) أي: فيكسر المسلم الصليب. (¬5) أي للقتال. وانظر "المرقاة" (9/ 318). (¬6) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3607)، وابن ماجه. وانظر للمزيد من شرح الحديث -إن شئت- "المرقاة" (9/ 318) و"عون المعبود"، (11/ 268). (¬7) البخاري: 4203، ومسلم: 111. (¬8) انظر إن شئت المزيد "الروضة الندية" (2/ 722). (¬9) قال شيخنا -رحمه الله- في "التعليقات الرضية" (3/ 443): "انظر رأي الشافعي في "الأم" ففيه تفصيل جيّد".

بصفوان بن أُميّة قبل إسلامه، فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه، وقال الشافعي وآخرون: إنْ كان الكافر حَسَن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به؛ استُعين به وإلاّ فيُكره، وحَمْل الحديثين على هاذين الحالين". والله -تعالى- أعلم. وجاء في نيل الأوطار (8/ 45) بعد عَرْض الأدلة ومناقشة الفريقَين: "والحاصل أنّ الظاهر من الأدلّة عدم جواز الاستعانة بمن كان مشركاً مُطلقاً؛ لما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إنا لا نستعين بمشرك" من العموم ... ". انتهى. قلتُ: ولا أرى معارضة بين هذا وما تقدّم؛ مما جاء في كلام النّووي ونقولاته، وكذا مما قاله صاحب "الروضة" -رحمهما الله- إذْ أصل الحُكم عدم جواز الاستعانة، وتبقى الضرورة مسألة أخرى لا يمكن إغفالها، والنصوص فيها معلومة معروفة، ولكن ينحصر الخلاف ومدار البحث والنظر؛ في تحقيق مناط الحُكم، إذْ هو مرتبط بتنقيح مناطه (¬1). وأقول: لو أنّ المسلمين عملوا ما أوجب الله -تعالى- عليهم من أسبابٍ لاستجلاب النصر؛ مِنْ إعدادٍ عَقَديّ ومنهجي وروحي ومادي وعسكري ... ، وتآلفوا فيما بينهم، وتعاونوا على البرِّ والتقوى؛ لما احتاجوا إلى الاستعانة. ثمّ اطلعت على ما جاء في كتاب "الإنجاد في أبواب الجهاد" (ص 158): فقد قال مصنّفه -رحمه الله-: "واختلَف أهل العِلم في ذلك: فالجمهور على كراهة الاستعانة بهم في شيءٍ من الغزو، -وهو الصحيح-، لما دلّ عليه القرآن ¬

_ (¬1) وانظر -للمزيد إن شئت-: "المغني" (10/ 456)، و"نيل الأوطار" (8/ 42) و"سُبُل السلام" (4/ 91).

والسُّنة الثابتة، ورُوي عن مالك أنه أجاز أن يُستعان بهم في خدمةٍ أو صنعَة. وعن ابن حبيب: أن يُستعان بهم في هدم الحصون ورمي المنجنيق، ... " (¬1). وجاء في التعليق من قِبَل محقِّقي الكتاب -حفظهما الله تعالى-: "واشترط بعضهم في الاستعانة بهم؛ إحسانهم الرأي في المسلمين، وأن يأمن المسلمون خيانتهم، وأن يكون المسلمون قادرين عليهم؛ لو اتفقوا مع العدو، فإذا وُجِدت هذه الشروط الثلاثة، جازت الاستعانة بهم. وقيل: لا يجوز استصحابهم في الجيش، مع موافقتهم العدو في المعتقد، فعلى هذا تكون الشروط أربعة". وجاء في التعليق (ص 160): "فالاستعانة بالمشرك في القتال تجوز عند الحاجة إليه. قال ابن القيم -رحمه الله- في "الزاد" (3/ 301) في مَعْرِض كلامه على ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية: "ومنها: أنّ الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة؛ لأن عَيْنَهُ الخزاعيَّ كان كافراً إذ ذاك -يشير المصنف إلى ما سبق أن ذكره (ص 288) أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كان بذي الحليفة؛ أرسَل عيناً له مُشركاً مِن خزاعة (¬2) يأتيه بخبر قريش- وفيه في المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم". أسأل الله -تعالى- أن يُفرّج كربات المسلمين وأن ينصرهم على الأعداء، إنّه على كل شيء قدير. ¬

_ (¬1) انظر تتمة كلامه وردّه -إن شئت-. (¬2) انظر ما جاء في "صحيح البخاري" برقم (4178، 4179).

النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض الحرب

النهي عن السفر بالمصحف إلى أَرض الحرب عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أنْ يُسافَر بالقرآن إلى أرض العدوِّ" (¬1). وفي رواية: "أنَّه كان ينهى أنْ يُسافَر بالقرآن إلى أرض العدوِّ؛ مخافةَ أن ينالَه العدوُّ" (¬2). وفي رواية أخرى: "لا تسافروا بالقرآن؛ فإنّي لا آمَنُ أنْ ينالَه العدوُّ" (¬3). ما يُنهى عنه في الحرب قال الله -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬4). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": وقوله: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي: قاتلوا في سبيل الله، ولا تعتدوا في ذلك، ويَدْخُل في ذلك ارتكاب المناهي -كما قاله الحسَن البصري- من المُثلة، والغُلول، وقتل النساء، والصبيان، والشيوخ الذين لا رأيَ لهم ولا قتالَ فيهم، والرُّهبانِ وأصحابِ الصوامع، وتحريقِ الأشجار، وقتلِ الحيوانات لغير مصلحة، كما قال ذلك ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، ومقاتل بن حيان وغيرهم ... ". وتقدّم حديث بريدة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذا أمّرَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2990، ومسلم: 1869. (¬2) مسلم: 1869 - 94. (¬3) مسلم: 1869 - 94. (¬4) البقرة: 190.

أميراً على جيش أو سريَّة (¬1) أوصاه في خاصَّته بتقوى الله ومَن معه مِن المُسلمين خيراً، ثمَّ قال: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا مَن كَفر بالله اغْزوا ولا تَغُلّوا ولا تَغدرِوا ولا تَمْثُلوا ولا تقتلوا وليداً" (¬2). ومما ينهى عنه في الحرب: 1 - قَتْل النساء والوِلدان. عن عبد الله ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إنّ امرأةً وُجِدت في بعض مغازي النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقتولة، فأنكَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْل النساء والصبيان" (¬3). وعن رباح بن ربيع -رضي الله عنه- قال: "كُنّا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، فرأى النّاس مجُتمعين على شيء، فبعَث رجلاً فقال: انظر عَلامَ اجتمع هؤلاء؟ فجاء فقال: على امرأةٍ قَتيل، فقال: ما كانت لتُقاتِل! قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعَث رجلاً ففال: قُل لخالد لا تقتلنَّ امرأةً ولا عسيفاً (¬4) " (¬5). قال القاري -رحمه الله-: ولعلّ علامته أن يكون بلا سلاح. ¬

_ (¬1) السريَّة: هي قطعة من الجيش؛ تخرج منه، تغير وترجع إليه، قالوا: سُميّت سريّة؛ لأنّها تسري الليل ويخفى ذهابُها. "شرح النّووي" وتقدّم. (¬2) أخرجه مسلم: 1731 وتقدم غير بعيد. (¬3) أخرجه البخاري: 3014، ومسلم: 1744. (¬4) عسيفاً: أي أجيراً. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2324)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2294)، وانظر "الصحيحة" (701).

قال الخطابي -رحمه الله-: "في الحديث دليل على أنّ المرأة إذا قاتَلت قُتِلَت، ألا ترى أنه جَعل العِلَّة في تحريم قَتْلها لأنّها لا تُقاتِل، فإذا قاتَلَت دَلّ على جواز قتْلها" (¬1). قلت: ويجوز قتْلها إذا كان هناك سببٌ يدعو إلى ذلك. فقد ورَد قتل المرأة صريحاً؛ كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لم يُقتَل مِن نِسائهم -تعني بني قريظة- إلاَّ امرأة إنها لعندي تُحَدِّثُ: تضحك ظهراً وبطناً، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقتُل رجالَهم بالسيوف، إذ هتَف هاتف باسمها أين فلانة؟ قالت: أنا، قُلت وما شَأنُكِ؟ قالت: حَدَثٌ أحْدَثْتُهُ قالت: فانطُلِق بها، فضُرِبَت عنُقها، فما أنسى عجَباً منها، أنّها تضحك ظهراً وبطناً، وقد عَلِمت أنها تُقتَل" (¬2). قال الخطّابي -رحمه الله-: "يُقال إنّها كانت شَتَمت النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الحَدث الذي أحدَثَتْهُ، وفيه دلالة على وجوب قَتْلِ مَنْ فَعَل ذلك ... " (¬3). وعن الأسود بن سريع -رضي الله عنه- قال: "أتيتُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغزوت معه، فأصبْتُ ظهرَ أفضل النّاس يومئذٍ، حتى قتلوا الوِلدان- وقال مرَّةً: الذرِّيَّة. فبلَغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ما بال قومٍ جاوزهم القَتْلُ اليومَ حتى قَتَلُوا الذرِّيَّة؟! فقال رجلٌ: يا رسول الله! إنَّما هُمْ أولاد المشركين! فقال: ألا إنَّ خِيارَكُم أبناء المشركين. ثمَّ قال: ألا لا تقتلوا ذُرِّيَّةً، ألا لا تقتلوا ذُرِّيَّةً. ¬

_ (¬1) انظر "عون المعبود" (7/ 236). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2325). (¬3) انظر "عون المعبود" (7/ 238).

قال: كلّ نَسَمَةٍ تُولد على الفطرة (¬1)، حتى يَهُبَّ (¬2) عنها لسانها (¬3)؛ فأبواها يُهَوِّدانها ويُنَصِّرانها" (¬4). وعن الصَّعب بن جَثَّامة "أنه سأل النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الدار من المشركين يُبَيَّتُون فيُصاب مِن ذراريِّهم ونسائهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُم مِنهُم". [قال الزهري: ثمّ نَهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك عن قتل النساء والولدان.] (¬5). قال الإمام النّووي -رحمه الله- في "شرح مسلم" (12/ 49) -بحذف- ¬

_ (¬1) التي فطَر النّاس عليها أي الخِلقة التي خَلَق النّاس عليها، من الاستعداد لقَبول الدين والنُّهي للتحلّي بالحق، وقَبول الاستعداد، والتأبّي عن الباطل، والتمييز بين الخطأ والصواب. "فيض القدير". (¬2) وفي لفظ (يُعرب)، انظر "صحيح الجامع" (4435)، وانظر لزاماً "الصحيحة" (401). (¬3) فحينئذ إنْ تُرك بحاله، وخُلّي وطَبعه؛ ولم يتعرض له مِن الخارج مَن يصدُّه عن النظر الصحيح مِن فساد التربية، وتقليد الأبوين، والإلف بالمحسوسات، والانهماك في الشهوات، ونحو ذلك؛ لينظر فيما نصب من الدلالة الجلية على التوحيد، وصِدْق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغير ذلك نظرًا صحيحاً؛ يوصله إلى الحق، وإلى الرشد، عَرف الصواب، ولَزِم ما طُبع عليه في الأصل، ولم يختر إلاَّ الملة الحنيفية، وإن لم يُترك بحاله بأن كان أبواه نحو يهوديين أو نصرانيين، فأبواه هما اللذان يهوّدانه أي يُصيِّرانه يهوديّاً، بأن يُدخلاه في دين اليهودية المحرَّف المبدَّل، بتفويتهما له أو ينصرانه، أي يصيِّرانه نصرانيّاً ... "فيض القدير" (5/ 34). (¬4) أخرجه أحمد والنسائي في "الكبرى" والدارمي وغير هم وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (402). (¬5) أخرجه البخاري: 3012، ومسلم: 1745، وما بين المعقوفتين لأبي داود (2672) وانظر "صحيح سنن أبي داود" (2326).

"وتقديره: سُئل عن حُكمِ صبيان المشركين الذين يُبَيَّتون فيُصاب مِن نسائهم وصبيانهم بالقتل، فقال: هم مِن آبائهم أي لا بأس بذلك؛ لأنّ أحكام آبائهم جارية عليهم في الميراث وفي النكاح وفي القِصاص والدِّيات وغير ذلك، والمراد إذا لم يُتعمَّدوا مِن غير ضرورة، وأمّا الحديث السابق (¬1) في النهي عن قتل النساء والصبيان، فالمراد به إذا تميّزوا، وهذا الحديث الذي ذكرناه من جواز بياتهم وقتْل النساء والصبيان في البيات؛ هو مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور، ومعنى البيات وُيبَيَّتُون: أن يُغار عليهم بالليل، بحيث لا يُعرف الرجل من المرأة والصبي. وفي هذا الحديث: دليلٌ لجواز البيات، وجواز الإغارة على مَن بلَغتهُم الدعوة مِن غير إعلامهم بذلك". انتهى. قلت: وخلاصة القول: عدم جواز تعمُّد قَتْل النساء والصبيان (¬2)، وجواز ذلك إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء المقاتلين، لاختلاطهم. والضابط في عدم قتل الصبيان؛ عدم الإنبات، جاء في "صحيح ابن حبان": "الأمر بقتل مَن أنْبَت الشعر في دار الحرب والإغضاء (¬3) على مَن لم يُنْبِت" (¬4) ثمّ ذكَر تحته حديث عطية القُرظي -رضي الله عنه- قال: "عُرضْتُ على ¬

_ (¬1) يشير إلى حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- الذي ذَكَرْتُه في بداية البحث. (¬2) قال النّووي -رحمه الله- في "شرح مسلم" (12/ 48): "أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث! نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قَتْل النساء والصبيان" وتحريم قَتْل النساء والصبيان إذا لم يقاتِلوا، فإنْ قاتلوا؛ قال جماهير العلماء: يُقتلون". (¬3) أي الأمر بإبقائه والسكوت عنه. (¬4) هذا العنوان من "صحيح ابن حبان" "التعليقات الحِسان" (7/ 154).

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم قريظة، فشكُّوا فيّ، فقيل لي: هل أنبتَّ (¬1)، ففتّشوني (¬2)، فوجدوني لم أُنبِت، فُخلّيَ سبيلي" (¬3) ". 2 - قتْل الأُجَراء، لحديث رباح -رضي الله عنه- المتقدّم: "لا تَقْتُلَنَّ امرأةً ولا عَسيفاً". 3 - قتل المجانين: لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفِع القلم عن ثلاث ... وعن المجنون حتى يستيقظ". قال في "الإنجاد" (1/ 228): "وأمّا المجنون فلا ينبغي أن يكون فيه خلاف أنّه لا يُقتَل ... ". 4 - قَتْل الرهبان وأصحاب الصوامع الذين لا يخالطون النّاس، وليسوا مِن أهل القتال ولا هم من أهل المشورة والرأي فيه (¬4). وجاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 659): "الرهبان الذين تنازَع العلماء في قَتْلِهم، وأخْذِ الجزية منهم: هم المذكورون في الحديث المأثورِ عن خليفةِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنّه قال في وصيته ليزيد بن أبي سفيان لمّا بَعَثَه أميراً على فَتْح الشام، فقال له في وصيته: وستجدون أقواماً قد حبَسوا أنفسهم في الصوامع، فذروهم وما حبَسوا أنفسهم له، وستجدون أقواماً قد ¬

_ (¬1) أي: هل نبَت شعر عانتك؟ (¬2) يعني كشفوا العانة، ونظروا أأنبَتُّ أم لا. (¬3) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" "التعليقات الحِسان" (4760) وأبو داود وابن ماجة وغيرهم. (¬4) قال في "المغني" (1/ 543): "لأنّ الرأي مِن أعظم المعونة في الحرب".

فحصوا (¬1) عن أوساط رءوسهم، فاضربوا ما فحصوا عنه بالسيف، وذلك بأنّ الله يقول: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} (¬2). وإنما نَهَى عن قَتْل هؤلاء، لأنهم قوم مُنقَطعون عن الناس، محبوسون في الصوامع، يُسمَّى أحدُهم حبيساً، لا يعاوِنون أهلَ دينهم على أمرٍ فيه ضررٌ على المسلمين أصْلاً، ولا يخالطونهم في دنياهم؛ ولكن يكتفي أحدُهم بقدر ما يتبلّغ به. فتنازَع العلماء في قَتْلهم، كتنازُعهم في قَتْل مَن لا يضُرّ المسلمين؛ لا بيده ولا لسانه؛ كالأعمى، والزَّمِن، والشيخ الكبير، ونحوِه؛ كالنساء والصبيان. فالجمهور يقولون: لا يُقتَل إلاَّ مَن كان مِن المعاونين لهم على القتال في الجملة، وإلا كان كالنساء والصبيان. ومِنهم مَن يقول: بل مجرّد الكفر، هو المبيح للقتل، وإنّما استثني النساء والصبيان، لأنهم أموال. وعلى هذا الأصل ينبني أخْذ الجزية. وأمّا الراهب الذي يعاوِن أهلَ دينه بيده ولسانه: مثل أن يكون له رأي يرجعون إليه في القتال، أو نوع مِن التحضيض: فهذا يُقتَل باتفاق العلماء، إذا قُدِر عليه، وتُؤخَذ منه الجزية -وإنْ كان حبيساً منفرداً في مُتعبّده- فكيف بمن هم كسائر النصارى في معائشهم، ومخالطتهم الناس، واكتساب الأموال بالتجارات والزراعات والصناعات، واتخاذ الديارات الجامعات لغيرهم، وإنّما تميَّزوا على غيرهم بما يُغلِظ كفرهم، ويجعلهم أئمةً في الكُفر، مثل التعبّد بالنجاسات، وترْك النكاح واللحم واللباس؛ الذي هو شعار الكفر، لا سيما وهم الذين يقيمون دين ¬

_ (¬1) أي: كشفوا عنها بإزالة الشعر. (¬2) التوبة: 12.

النصارى؛ بما يُظهرونه مِن الحِيَل الباطلة التي صَنَّف الفضلاء فيها مُصنّفات، ومِن العبادات الفاسدة، وقَبول نذورهم وأوقافهم. والراهب عندهم شَرْطُه تَرْك النكاح فقط، وهم مع هذا يُجوِّزون أن يكون بتركاً، وبطرقاً، وقسيساً، وغيرهم مِن أئمّة الكفر، الذين يَصْدُرون عن أمْرِهم ونَهْيهم؛ ولهم أنْ يكتسبوا الأموال، كما لغيرهم مِثْل ذلك. فهؤلاء لا يَتنازَع العلماء في أنّهم مِن أحقّ النصارى بالقتل عند المحاربة، وبأخذ الجزية عند المسالمة، وأنّهم مِن جنس أئمّة الكفر الذين قال فيهم الصدِّيق -رضي الله عنه- ما قال، وتلا قوله -تعالى-: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} ". 5 - قتل الهَرِم والأعمى، والمقعد -بالقيد السابق-. جاء في "الإنجاد" (1/ 227): "وذهب مالك إلى أنه لا يُقتَل الهَرِم، ولا الأعمى، ولا المعتوه، ولا المُقْعَد، ولا أصحاب الصوامع الذين لا يخالطون النّاس، يعني: أنه لا أذى عندهم بقتال ولا مشاركة رأي؛ لانفرادهم ونحو ذلك، ورُوي عن أبي حنيفة وأصحابه، وقال الأوزاعيّ: "لا يُقْتل الحرّاث، ولا الراهب ولا الشيخ الكبير ولا المجنون". وجاء في "المغني" (10/ 542): "ولنا في الزَّمِن (¬1) والأعمى أنّهما ليسا من أهل القتال فأشبها المرأة". قلت: وقد اختلف العلماء في العِلَّة الموجبة للقتل، فمنهم مَن قال: ¬

_ (¬1) الزَّمِن: مَنْ مَرِض مرضاً يدوم زماناً طويلاً وضعف بكِبر سنٍّ أو مطاولة عِلَّة.

العِلَّة هي الكُفر (¬1) لقوله -تعالى-: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬2)، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُمِرتُ أن أُقاتل النّاس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله ... " (¬3). ومنهم من قال: العِلَّة هي القتال وما في معناه؛ كالمشاركة في الرأي والمشورة. قلت: والراجح هو الثاني لما يأتي: أ. قوله -تعالى-: {وَقاتلُوا في سَبِيلِ اللهِ الذين يُقاتلُونَكم} (¬4)، ففيه عدم قتال من لم يُقاتِل. ب. لاستثناء أصنافٍ من الكُفار؛ كالنساء والصبيان والعسفاء، كما في النصوص الثابتة المتقدِّمة، فلا يُسلَّم لهم بما ذهبوا إليه مِن عموم قوله -تعالى-: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬5). ج. تعليل إنكار النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْل المرأة في الحديث المتقدّم بقوله: "ما كانت تقاتل". ¬

_ (¬1) انظر "المحلى" (المسألة 928). (¬2) التوبة: 5. (¬3) أخرجه البخاري: 1399، ومسلم: 20. (¬4) البقرة: 190. (¬5) قلت: بل إنّ هذه الآية الكريمة هي إباحةٌ بعد حظر، ونَصُّ الآية: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، فبعد الإباحة يَرجع الحُكم إلى ما كان قبل الحظر -واجباً كان أو مستحباً- كما في "المسوَّدة" وهو هنا يرجع إلى وجوب القتال، وما هي سِمة القتال: إنها على النَّحو الذي كان قبل حظر القتال، وليس له علاقة بما ذهبوا إليه من قَتْلِ كلّ مشرك؛ ومنهم الرهبان وأصحاب الصوامع ... !! بل ينبغي تقييد الآية السابقة بقوله -تعالى-: {وَقاتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ الذين يُقاتِلُونَكم} فيكون المعنى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الذين يقاتلونكم حيث وجدتموهم}، وكذا ينبغي إخراج الأصناف الثابت إخراجها من هذه الآية؛ كالنساء والصبيان والعسفاء ... إلخ. والله -تعالى- أعلم.

د. وهذا يقوِّي ما قاله الفقهاء من عدم مشروعية مقاتلة مَن لا رأيَ لهم في القتال، ولا هم فيه مِن أهل المشورة. وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 354): "وإذا كان أَصْل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصودُه هو أن يكونَ الدين كلُّه لله، وأن تكونَ كلمة الله هي العليا، فمن امتنَع مِن هذا قوتل باتفاق المسلمين. وأمّا من لم يكن مِن أهل الممانعة والمقاتَلة، كالنساء والصبيان، والراهب، والشيخ الكبير، والأعمى، والزَّمِن، ونحوِهم فلا يُقْتَل عند جمهور العلماء؛ إلاَّ أن يُقاتِل بقولِه أو فِعْلِه، وإنْ كان بعضهم يرى إباحةَ قَتْلِ الجميع لمجرد الكفر؛ إلاَّ النساءَ والصبيان؛ لكونهم مالاً للمسلمين. والأوّل هو الصواب؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أرَدْنا إظهارَ دينِ الله، كما قال الله -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬1)، وفي "السنن" عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنَّه مرَّ على امرأةٍ مقتولة في بعض مغازيه، قد وقف عليها الناس. فقال: ما كانت هذه لتُقاتِل" (¬2). وقال لأحدهم: "الحَقْ خالداً فقل له: لا تَقْتُلوا ذُريّةً ولا عسيفاً" (¬3). وذلكَ أنّ الله تعالى أباحَ مِنْ قَتْلِ النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال -تعالى-: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (¬4). أي: أنّ القتل وإنْ كان فيه شرٌّ وفساد، ففِي فِتْنة الكُفّار مِن الشرّ والفساد ما هو أكبر منه. ¬

_ (¬1) البقرة: 190. (¬2) تقدّم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) البقرة: 217.

فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مَضَرَّةُ كُفْره إلاَّ على نفسه؛ ولهذا قال الفقهاء: إنّ الداعية إلى البِدع المخالفةِ للكتاب والسنة؛ يعاقَب بما لا يُعاقَب به الساكت ... ". 6 - النهي عن التحريق بالنّار: عن حمزةَ الأسلمي -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَّره على سريَّة، قال: فخرجْتُ فيها، وقال: إنْ وَجدْتُم فلاناً فأحرقوه بالنار، فولَّيْتُ، فناداني فرجعتُ إليه، فقال: إنْ وجدتم فلاناً فاقتلوه، ولا تُحْرِقُوه، فإنّه لا يُعذِّبُ بالنار إلاَّ ربُّ النَّار" (¬1). وعن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه قال: "كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرَة (¬2) معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمَّرَة فجعلت تُفَرِّشُ (¬3)، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: مَن فَجَع هذه بولدها؟ ردُّوا ولدها إليها. ورأى قرية نملٍ قد حرقناها، فقال من حَرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنّه لا ينبغي أن يُعذّب بالنار إلاَّ ربّ النار" (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "بَعَثَنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعثٍ فقال: إنْ وجدْتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنّار، ثمّ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -حين أردنا الخروج-: إنّي أمرتُكم أن تُحرقوا فلاناً وفلاناً، وإنَّ النّار لا يُعذِّب بها إلاَّ الله، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2327). (¬2) طائر صغير كالعصفور، "النّهاية". (¬3) هو أن تفْرش جناحيها وتقرُب من الأرض وتُرفرف، "النّهاية". (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2329).

فإنْ وجدتموهما فاقتُلوهما" (¬1). وأمّا ما ورد في إحراق زروع الكفّار وقطْع أشجارهم، فهذا مِن باب قوله -تعالى-: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬2). وقوله -تعالى-: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (¬3). وقوله -تعالى-: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (¬4). قال ابن القيم -رحمه الله- في "أعلام الموقعين" (1/ 328): "وقد صرَّح الفقهاء بجواز إحراق زروع الكفار وقطْع أشجارهم إذا كانوا يفعلون ذلك بنا وهذا عين المسألة، وقد أقرّ الله -سبحانه- الصحابة على قطْع نخل اليهود لما فيه مِن خزيهم، وهذا يدلّ على أنه -سبحانه- يُحبّ خزي الجاني الظالم ويُشرِّعُه". قلت: يُشير -رحمه الله- إلى قوله- سبحانه-: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ (¬5) أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3016. (¬2) البقرة: 194. (¬3) الشورى: 40. (¬4) النحل: 126. (¬5) قال الحافظ في "الفتح" (8/ 629): "قال أبو عبيدة في قوله -تعالى-: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ}: أي مِن نخلة، وهي من الألوان، ما لم تكن عجوة أو برنية، إلاَّ أن الواو ذهبَت بكسر اللام، وعند الترمذي من حديث ابن عباس "اللينة: النخلة" في أثناء حديث، وروى سعيد بن منصور من طريق عكرمة قال: اللينة: ما دون العجوة. وقال سفيان: هي شديدة الصفرة تنشق عن النّوى". (¬6) الحشر: 5.

عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "حرَّق نخل بني النّضير وقطع، وهي البويرة (¬1)، فأنزَل الله -تعالى-: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} " (¬2). قال أبو عيسى: "وقد ذهَب قومٌ من أهل العلم، إلى هذا، ولم يروا بأساً بقطع الأشجار، وتخريب الحصون، وَكَرِهَ بعضُهم ذلك وهو قول الأوزاعي، قال الأوزاعي: ونهى أبو بكر الصديقُ يزيدَ أن يَقطَع شجراً مُثمراً أو يُخرِّب عامراً، وعمل بذلك المسلمون بعده. وقال الشافعي: لا بأس بالتحريق في أرض العدو وقطْع الأشجار والثمار، وقال أحمد: وقد تكون في مواضع لا يجدون منهُ بداً، فأمَّا بالعَبَث فلا تُحرَق، وقال إسحق: التحريقُ سُنة إذا كان أنكى فيهم" (¬3). قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (5/ 9) قوله (¬4): " (بابُ قطعِ الشجر والنخل) أي: للحاجة والمصلحة؛ إذا تعيّنَت طريقاً في نكاية العدو، ونحو ذلك. وخالف في ذلك بعض أهل العلم، فقالوا: لا يجوز قطْعُ الشجر المثمر أصلاً، وحَملوا ما ورَدَ مِن ذلك إمّا على غير المُثمر، وإمّا على أنّ الشجر الذي قُطع في قصة بني النضير؛ كان في الموضع الذي يقع فيه القتال، وهو قول الأوزاعي والليث وأبي ثور. وقال أيضاً (6/ 155): وقد ذهَب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب ¬

_ (¬1) البُويرة: موضع نخل بني النضير "شرح النّووي". (¬2) أخرجه البخاري: 4884، وفي مواضع عديدة، ومسلم: 1756. (¬3) انظر "سنن الترمذي" تحت حديث رقم (1552). (¬4) أي الإمام البخاري -رحمه الله-.

في بلاد العدو، وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور، واحتجُّوا بوصية أبي بكر لجيوشه أن لا يفعلوا شيئاً مِن ذلك. وأجاب الطبري بأنَّ النَّهي محمولٌ على القصد لذلك، بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في خلال القتال؛ كما وقَع في نصب المنجنيق على الطائف، وهو نحو ما أجاب به في النهي عن قَتْل النساء والصبيان، وبهذا قال أكثر أهل العلم، ونحو ذلك القتل بالتغريق. وقال غيرُه: إنما نهى أبو بكر جيوشَه عن ذلك؛ لأنّه علم أنّ تلك البلاد ستُفتَح فأراد إبقاءها على المسلمين. والله أعلم". انتهى. قلت: والذي يترجّح لديّ أنّ الحرق والقطع ونحوَهما جائز بنص الكتاب والسُّنة، والأمر يرجع إلى الحاكم في الفعل والترك، فإنْ رأى مصلحةً في مرحلةٍ ما في حرق الزروع والثمار -ومثل ذلك هدم مؤسسات ومبانٍ (¬1) - فعلَ ذلك، وإنْ رجّح الاستفادة منها لنصرٍ يرجوه، ولم يرَ فائدةً مِن قطعها وحرْقها لم يفعل. أمّا أبو بكر -رضي الله عنه- فإنّه لم يَفُتهُ دليل الكتاب والسنّة، ولكن لا يخفى أنّ الدليل يدلّ على المشروعية، والمشروعية قد تكون ركناً أو واجباً، أو مندوباً أوُ مستحَبّاً. وقد كان موقف أبي بكر -رضي الله عنه- لمصلحةٍ رآها جمْعاً بين النصوص؛ والله -تعالى- أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) قال الإمام البخاري -رحمه الله- في (كتاب الجهاد باب - 154): (باب حرق الدور والنخيل). (¬2) انظر ما جاء في كتابي "الموسوعة" (6/ 205 - 211).

7 - النهي عن المُثلَة: كما في حديث بريدة -رضي الله عنه- المتقدم "ولا تَمثُلُوا". أمّا ما ورد في حديث أبي قلابةَ عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنّ رهطاً من عُكل -أو قال: عُرَيْنةَ، ولا أعلَمُه إلاّ قال: مِن عُكْلٍ- قَدموا المدينة، فأمَر لهم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلِقاح (¬1)، وأمَرَهم أن يخرجوا فيشربوا مِن أبوالها وألبانها، فشربوا حتى إذا برئوا قَتَلوا الراعي، واستاقوا النَّعَم، فبلغَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُدوةً، فبعَث الطّلبَ في إثرِهم، فما ارتفَع النهار حتى جيء بهم، فأمَرَ بهم فقطَع أيديَهم وأرجلَهم، وسمَر (¬2) أعينهم، فأُلْقُوا بالحرّة يَسْتَسْقُون فلا يُسقَون" (¬3). قال أبو قِلابةَ: "هؤلاء قوم سَرَقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله" (¬4). وفي رواية: "فأنزل الله -تبارك وتعالى- في ذلك: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (¬5) " (¬6). وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ونَزَلت فيهم آية المحاربة" (¬7). ¬

_ (¬1) اللقاح: جمع لِقحة وهي الناقة الحَلوب، "شرح الكرماني". (¬2) سمرَ: -مخفّفة ومشددة- أي كَحَلَها بمسامير، "شرح الكرماني". (¬3) أخرجه البخاري: (6805)، ومسلم (1671). (¬4) أخرجه البخاري: (6805). (¬5) المائدة: 33. (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3670). (¬7) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي": (3772).

وفي رواية: " ... فلمّا صحّوا كفروا بعد إسلامهم، وقتَلوا راعيَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤمِناً، واستاقوا ذود (¬1) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانطلقوا محاربين" (¬2). فهذا من باب عقوبة الحِرابة وقد قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). وعن عبد الله بن يزيد -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أنّه نهى عن النُّهْبَة والمُثْلَة" (¬4). وعن الهيّاج بن عمران أنّ عمران أبَقَ (¬5) له غلام، فجعَل لله عليه لئن قدر عليه ليقطعن يده، فأرسلني لأسأل له، فأتيت سَمَرة بن جُنْدُب فسألتُه، فقال: كان نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحثنا على الصدقة وينهانا عن المُثْلَة، فأتيت عمران بن حصين فسألته، فقال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحثّنا على الصدقة وينهانا عن المُثلَة" (¬6). 8 - الغُلول والنُّهْبَة: كما في حديث بريدة -رضي الله عنه- المتقدّم" ... ولا تغُلُّوا". ¬

_ (¬1) الذّود من الإبل: ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل ما بين الثلاث إلى العشر "النّهاية". (¬2) "صحيح سنن النسائي" (3762)، وأصل أكثر هذه الألفاظ في "الصحيحين" كما تقدّم. (¬3) المائدة: 33 - 34. (¬4) أخرجه البخاري: 5516. (¬5) أي: هرب. (¬6) أخرجه أبو داود (2676)، وصححه شيخنا -رحمه الله- وانظر "الإرواء" (2230).

وسيأتي الحديث عن الغلول في باب خاصٍّ؛ حين التحدّث عن الغنيمة؛ بإذن الله -تعالى-. وعن عبد الله بن يزيد -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنّه نهى عن النُّهْبَة والمُثْلَة" (¬1). وقال الحافظ -رحمه الله- (9/ 644): "النّهب: أخْذ مال المسلم قهراً جهراً، ومنه أخذ مال الغنيمة؟ قبل القسمة، اختطافاً بغير تسوية". 9 - النهي عن الغدر: كما في حديث بريدة -رضي الله عنه- أيضاً المتقدّم: " ... ولا تغدِروا". وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت النبيّ يقول: "لكل غادرٍ لواء يُنصب بغدرته يوم القيامة" (¬2). قلت: وهذا اللفظ عام يتضمن الغدر للمسلم والكافر. لذلك بوّب له الإمام البخاري -رحمه الله- في "صحيحه" بقوله: "باب إثم الغادر للبَرِّ والفاجر" (¬3). ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5516، وتقدّم. (¬2) أخرجه البخاري: 3188، ومسلم: 1735. (¬3) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجزية والموادعة باب - 22).

هل ترمى حصون العدو بالمنجنيق ونحوه من المهلكات وفيهم النساء والذرية؟

هل تُرمى حصون العدوّ بالمنجنيق ونحوه من المهلكات وفيهم النساء والذرية؟ قال في "الإنجاد" (1/ 236) -بتصرف يسير-: "اختلفوا في رمي حصون العدو بالمنجنيق ونحوِه من المُهْلِكات، وفيهم النساء والذُّرِيَّة، وأُسارى المسلمين؛ فذهَب مالك والشافعيّ وأبو حنيفة والأوزاعي وغيرهم إلى جواز ذلك في الجملة؛ على ما نُفصِّله عنهم، وقيل: لا يجوز ذلك. ذَكرَ فَضْلٌ أنَّ ابنَ القاسم مِن أصحاب مالكٍ رَوَى عنه المنعَ مِن رَمْيِهم بالمجانيق، أو إرسالِ الماء عليهم ليغرقوا؛ إذا كان معهم النساء والأطفال. فأمَّا أبو حنيفة، فذَهَب إلى جواز رَمْيها وتحريقها عليهم بالنّار، وإنْ كان فيها الأسارى والأطفال، وكذلك عنده: لو تَتَرَّسوا بالمسلمين، رُموا -أيضاً-. قال: ويُقصد بذلك مَن فيها من الكُفَّار، فإنْ أصابوا في ذلك مُسلِماً فلا دِيَة ولا كفّارة. وقال الشافعي: لا بأس برمي الحصن بالمنجنيق والنّار، وكلّ ما فيه نكاية، وفيه النساء والأطفال، ولم يَرَ رَمْيَهم إذا تَتَرَّسوا بالمسلمين إلاَّ في حال الاضطرار؛ حيث يخافهم المسلمون على أنفسهم إنْ كَفُّوا عنهم، فحينئذٍ يُقاتَلون، ولا يُتَعَمَّدُ قَتْلُ مسلم. وقد قيل: يُكَفّ عنهم على كلِّ حال إذا لم يكن بُدٌّ مِن إصابة المسلم، وأيُّ مسلمٍ أصيب ممّن لم يَقْصِد الرامي قَصْدَه بالرمية ولم يره، فعليه تحرير رقبة، ولا دِيَة له، وإنْ كان رآه، وعَرَف مكانه ورمى، وهو مضطرٌ إلى الرَّمي، فعليه دِيَة وكفّارة، وإنْ تعمَّده ولم يكن مضطراً فالقِصاص.

وقال الأوزاعي: يُرمى الحصن بالمنجنيق والنار، وإنْ كان فيه أسرى المسلمين، فإنْ أُصيب أحدٌ مِن المسلمين؛ فهو خطأ تكون فيه الكفّارة والدِّيَة، ورأى أن يُكَفَّ عنهم، إذا تترّسوا بالمسلمين. وعن مالك إجازةُ الرمي بالمنجنيق، ومنْع التحريق بالنار، إلاَّ أن يكون الحصن ليس فيه إلاَّ المُقاتِلَة فقط، فعنه في ذلك روايتان: الإجازة والمنع، ولا أعلم له في التترّس قولاً، وظاهر مذهبه المنع. فأمّا دليل جواز رمي الحصون في الجملة -وفيها الذراريّ-: فما خرّجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، عن الصعب بن جثّامة قال: "سُئِل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الدار مِن المشركين يُبيَّتون (¬3)، فيصيبون مِن نسائهم وذراريّهم، فقال: "هم منهم" (¬4). زاد البخاريّ (¬5)، قال: وسَمِعْتُه يقول: "لا حِمى إلاَّ لله ولرسولِه" (¬6). وقوله ¬

_ (¬1) (رقم: 3012). (¬2) (رقم: 1745). (¬3) قال بعض العلماء: أي أن يُغار عليهم بالليل، بحيث لا يُعرَف الرجل مِن المرأة والصبيّ. (¬4) قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح": "قوله: (هم منهم) أي في الحُكم تلك الحالة، وليس المراد إباحةَ قَتْلِهم بطريق القصد إليهم؛ بل المراد إذا لم يُمكِن الوصول إلى الآباء؛ إلاَّ بوطء الذريّة، فإذا أُصيبوا لاختلاطهم بهم؛ جاز قَتْلُهم. وقال الكرمانيّ -رحمه الله- (13/ 24): "والنهي عن قَتْلهم فيما إذا كانوا هم المقصودين، وكذلك النساء إذا قاتَلْن قُتِلْن أيضاً". (¬5) (رقم: 3012). (¬6) لا حِمى إلاَّ لله ولرسوله: قال الكرماني -رحمه الله- (10/ 182): "حِمى -بغير التنوين- لغةً: المحظور، واصطلاحاً: ما يَحمي الإمام من الموات والمواشي بعينها، ويمنع سائر =

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وقد قيل له: لو أنّ خيلاً أغارَت من الليل، فأصابت مِن أبناء المشركين-قال: "هم مِن آبائهم" (¬1). فهذا في نِساء المسلمين وأبنائهم ظاهر، فأمَّا الأسرى مِن المسلمين يكونون معهم في الحصون، فدليلُ مَن أجاز ذلك؛ هو مِن طريق المعنى، وذلك أنَّ قولَه في أبناء المشركين: "هم من آبائهم" ليس على معنى أنهم كُفَّار؛ لأنهم لم يبلُغوا، فلم يخاطَبوا بَعْدُ بالإيمان، ولم يَجْرِ عليهم التكليف، فلا يصحُّ إطلاق وصْفِ الكفر عليهم، لكن معنى: "هم منهم": رَفْعُ الخرج عن المسلمين في إصابتهم بحُكم الاضطرار، ومعرَّة الاقتحام، أي: لا مأثم يلحق في إصابتهم، فكذلك يجري المعنى في حُكْم الأسرى من المسلمين؛ إنْ أُصيب منهم أحدٌ في أثناء الاقتحام. ووجه المنعِ في الجملة على نحو ما رُوِي عن ابن القاسم: أن لا يُرموا بالمجانيق إذا كان معهم النساء والأطفال؛ عُموم النهي عن قَتْلهم؛ ولأنّ الحديث في إرخاص ذلك؛ إنَّما جاء في البيات والغارات، حيث تدعو الضرورة إلى المباغتة، ولا يوقَن بالذراريّ أن يُصابوا. وأمَّا رمي الحصون -وقد عُلم ما فيها من الذريَّة، والأمر فيهم على الرَّوية وعدم الاضطرار- فليس ممَّا أبيح مِن ذلك، هذا ونحوه هو الذي يتوجه لهذا القول. ¬

_ = الناس من الرعي فيها، والمقصود مِن الحصر؛ إبطال ما كان يحميه الرجل العزيز مِن أهل الجاهلية؛ يأتي الأرض الخصبة فيستَعوي كلباً؛ فيحمي مدى صوت الكلب من كل وجهة، ويمنع الناس أن يرعوا حوله". (¬1) أخرجه مسلم: (1745 - 28).

والأَوْلَى -إن شاء الله- والذي نختاره التفصيل في ذلك، فنقول [القول لمصنِّف "الإنجاد"]: أمَّا إنْ لم يُعلم في الحِصنِ أحدٌ من أُسارى المسلمين؛ فالأظهر جواز رميِهم، مع كون النساء والذريَّة في جملتهم، بدليل الحديث في قوله: "هم منهم"، إذا لم يُقصَدوا، وكان إصابتهم لضرورة الاقتحام، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم: "لا حِمى إلاَّ لله ولرسوله". وأمَّا إنْ كان في الحصن أحدٌ من أسارى المسلمين، يُعلم ذلك، فالأظهر توقِّي استعمال ما لا يُؤمَن فيه إصابتُهم، فإْنْ عُلم أنّ ذلك لا يصيب الأسرى، فلا بأس، وذلك لأنّ حديث الصّعب بن جثَّامة؛ لم يجرِ فيه ذِكْر مُسلمٍ، إنما هو في نساء المشركين وأبنائهم، فلا يستباح بذلك الاجتراء في أمر المسلمين. وأظهرُ من هذا والأتمُّ حُجَّةً قولُ الله -تعالى- في تأخير القتال عن أهل مكة عام الحديبية: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬1). فهذا نصٌ في وجوب التَوقِّي. فإن قيل: إنَّ ذلك خاصٌّ بأهل مَكَّة، فهو دعوى؛ لأن الله -تعالى- إنَّما جعل الحُرمة في ذلك للإيمان لا للبلد، وهذا التفصيل والفَرْق الذي اخترناه؛ إنما نَعْني به الحُكمَ في قتال الحصون، وحيث لا ضرورة تدعو المسلمين؛ لكَسْر العدو ومدافعتهم. وأمَّا عند لقاء جيوش المشركين، وفيهم أُسارى من المسلمين، فأرجو -إن ¬

_ (¬1) الفتح: 25.

شاء الله- أن يكون كلّ شيءٍ مما يُنْكَى به العدوّ سائغاً، سواءٌ أُمِن أن يصيب الأسرى مِن ذلك شيءٌ أوْ لا، إلاَّ أنّهم لا يُتَعَمَّدون، ويُتحفَّظ عنهم بقَدْر الوُسع، وذلك أنَّ في الكفِّ عن القتال، وتَرْك الدِّفاع في مِثل هؤلاء الذين بَرزوا للمسلمين هلاكاً للناس، وتمكيناً لأهل الكُفر مِن الإسلام {وَلَن يجعَلَ اَللهُ لِلكافِرينَ عَلَى المؤمِنِينَ سَبِيلاً} (¬1). وهذا كلّه ما لم يتترس الكُفّار بالمسلمين، فإنْ تترسوا بهم، بحيث لا يُمكِن قتالُهم إلاَّ مِن وراء قَتْل مسلم، فالأرجح الذي نختاره؛ الكفُّ جُملةً، والقتال لا نراه على حالٍ مِنْ غير تفصيلٍ في قِتال الحصون أو الجيوش؛ لأنّ ذلك إنْ لم تكن ضرورة، فلا خفاءَ به، وإنْ كانت ضرورة بحيث يُبْقي المسلمون على أنفسهم في الكفِّ عن القتال؛ فذلك أيضاً موجودٌ إذا قاتَلوا بقَتْلهم المسلمين الذين تترَّس بهم العدوّ؛ من غير حقٍّ وجب عليهم مُبيحٍ لدمائهم، وليس لأحدٍ أن يَقْتُل مسلماً بريئاً؛ لينجو بذلك مِن القتل ... ". انتهى. قلت: والراجح عندي: أنَّ الأمر يدور حول ترجيح المصالح، واختيارِ أقلِّ الضرَرين وأخفّ الشرَّين؛ مع التحرُّجِ من قَتْل أُسارى المسلمين، ونساء وذراريِّ المشركين؛ تقصُّداً وتعمُّداً. ونلاحظ أنّ ترجيح المصنِّف؛ كان يدور حول المعنى المتقدِّم، وسوَّغ إصابة النّساء والذّّرّية من المشركين؛ إن لم يكن بُدٌّ مِن ذلك لضرورة الاقتحام، وقد يكون القتال ليلاً، لا يُميَّز فيه الرجل من المرأة، ولا الصبيُّ من الرجل؛ كما ذكَر بعض العلماء. وذكروا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا حِمى إلاَّ لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". ¬

_ (¬1) النساء: 141.

ثمّ بيَّن وجوب توقِّي إصابة أُسارى المسلمين؛ حينما يكونون في حصون العدوِّ، ثمّ استدَلَّ بقوله -تعالى-: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬1). قال الحافظ ابن كثيرٍ -رحمه الله-: " {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} أي: بين أظهُرهم ممن يكتُم إيمانَه ويُخْفيه منهم خيفةً على أنفسهم مِن قومهم، لكُنَّا سلّطْناكم عليهم فقتلتموهم، وأبدْتُم خضراءَهم [يعني: سوادهم أو معظمهم]، ولكن بين أفنائِهم مِن المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالةَ القتل؛ ولهذا قال -تعالى-: {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ} أي: إثم وغرامة {بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي: يؤخر عقوبتَهم ليخلِّص مِن بين أظهرهم المؤمنين، وليرجع كثيرٌ منهم إلى الإسلام. ثمّ قال -تبارك وتعالى-: {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: لو تميَّز الكُفّار مِن المؤمنين الذين بين أظهرهم {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي: لسلّطناكم عليهم فلقتلتموهم قَتْلاً ذريعاً". ثمّ ذكَر صاحب "الإنجاد" -رحمه الله-: ما يكون مِن شأن لقاءِ جيوش المشركين، وفيهم أسارى مِن المسلمين، فبيَّن تحريمَ تعمُّدِ إصابتهم، والتحفّظ عنهم بقدر الوُسع، وتسويغَ القتل لطالما هو ممّا يُنكى به العدوّ، مُبَيِّناَ خَطَر الكفّ عن القتال وتَرْك الدفاع، وأنّ في ذلك مفسدةً أعظم من إصابة بعض الأُسارى. ثمّ ذكَر مسألة تترُّس الكُفَّار بالمسلمين، واختار الكفَّ عن ذلك. ¬

_ (¬1) الفتح: 25.

الدعوة قبل القتال

قلت: والراجح عندي في مسألة التترس كلام شيخ الإسلام، فقد قال - رحمه الله-: "وقد اتفق العلماء على أنّ جيش الكُفّار إذا تترَّسوا بمَن عندهم مِن أسرى المسلمين؛ وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتِلوا؛ فإنهم يقاتَلون، وإن أَفضى ذلك إِلى قَتْل المسلمين الذين تترَّسوا بهم، وإِن لم يُخَف على المسلمين؛ ففي جواز القتال المفضي إِلى قَتْل هؤلاء المسلمين؛ قولان مشهوران للعلماء، وهؤلاء المسلمون إذا قُتلوا كانوا شهداء، ولا يُتَرك الجهاد الواجب لأجل مَن يُقتَل شهيداً" (¬1). أقول: إِن تترُّس الكُفَّار بالمسلمين؛ ممّا يدلّ على عدم إقامة وزنٍ للأسارى، فهم مُعرّضون للقتل مِن قِبَل الكُفّار في أيّ لحظة؛ فإنْ كان في حال عدمِ قتال الكُفّار؛ لا يُؤمَن سلامة الأسارى، ويُخشى انجرار القتل إلى غيرهم، واحتلال بعض مواقع المسلمين؛ فالقتال هو الأولى، ولو أُصيب المسلم ضرورةً مِن غير تعمُّد ولا تقصُّد، والله -تعالى- أعلم. الدعوة قبل القتال قال الله -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِبِينَ حَتى نَبعَثَ رَسُولاً} (¬2). عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- "أنّه سمِع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول يوم خَيبر: لأُعطينّ الرايةَ رجلاً يَفتَحُ الله على يديه، فقاموا يرجون لذلك أيُّهُم يُعطى، فغَدوا وكلّهم يرجو أن يُعطى، فقال: أين عليّ؟ فقيل: يشتكي عينيه، فأمرَ فدُعي له فبصَق ¬

_ (¬1) انظر "مجموع الفتاوى" (28/ 546). وجاء ذِكرُه في التعليق على كتاب: الإنجاد" (1/ 241). (¬2) الإسراء: 15.

في عينيه، فبَرأ مكانَه؛ حتى كأنه لم يكن به شيء، فقال: نقاتلُهُم حتى يكونوا مثلَنا (¬1) فقال؛ على رِسلك (¬2) حتى تنزل بساحتهم، ثمّ ادْعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأَن يُهدَى بك رجلٌ واحد؛ خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم (¬3) " (¬4). وفي حديث بريدة -رضي الله عنه- المتقدم: " ... وإذا لقيتَ عدوّك مِن المشركين فادْعُهم إلى ثلاثِ خصالٍ (أو خِلال). فأيتُهُنَّ ما أجابوك؛ فاقبَل منهم، وكُفَّ عنهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام، فإنْ أجابوك فاقبَل منهم، وكُفَّ عنهُم، ثمّ ادْعهم إلى التحول مِن دارِهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إنْ فعَلوا ذلك؛ فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبَوا أن يتَحوَّلوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين؛ يجري عليهم حُكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء؛ إلاَّ أنْ يجاهدوا مع المسلمين، فإنْ هم أبَوا فسَلْهم الجزية، فإنْ هم أجابوك فاقَبَل منهم وكُفَّ عنهُم، فإن هم أبَوا فاستَعِن بالله وقاتِلهم" (¬5). جاء في "نيل الأوطار" (8/ 53) عقب قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثمّ ادْعهم إلى الإسلام": ¬

_ (¬1) جاء في "نيل الأوطار" (8/ 55): المراد من المثليّة المذكورة؛ أن يتصفوا بوصف الإسلام، وذلك يكون في تلك الحال بالتكلم بالشهادتين، وليس المراد أنهم يكونون مثلَهم في القيام بأمور الإسلام كلِّها، فإنّ ذلك لا يمكن امتثاله حال المقاتَلَة. (¬2) أي اتّئد ولا تعجل. (¬3) هي الإبِل الحُمْر، وهي من أنفس أموال العرب، يضربون بها المثَل في نفاسة الشيء، وأنه ليس هناك أعظم منه. "شرح النّووي". (¬4) أخرجه البخاري: 2942، ومسلم: 2406. (¬5) أخرجه مسلم: 1731 وتقدّم.

"وفيه دليل على وجوب تقديم دعاء الكفار إلى الإسلام قبل المقاتَلَة". وفي المسألة ثلاثة مذاهب: الأول: أنّه يَجِب تقديم دعاء الكُفّار إلى الإسلام، مِن غير فرْقٍ بين من بلَغتْه الدعوة منهم، ومن لم تبلغه، وبه قال مالك والهادوية وغيرهم، وظاهر الحديث معهم. والمذهب الثاني: أنّه لا يَجب مطلقاً. المذهب الثالث: أنّه يَجب لمن لم تبلغهم الدعوة، ولا يَجِب إنْ بلغَتْهم لكن يُستحَبّ. قال ابن المنذر: وهو قول جمهور أهل العلم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث. وقال الإمام البخاري -رحمه الله-: " (باب دعوة اليهود والنصارى، وما يقاتلون عليه، وما كتب النبيّ إلى كسرى وقيصر والدعوة قبل القتال (¬1)) (¬2). وعن ابن عون قال: كتبتُ إلى نافع، فكتَب إليّ إنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغارَ على بني المُصْطَلِق وهم غارّون، وأنعامُهم تُسقى على الماء، فقَتَل مُقاتِلتَهم وسبى ذراريَّهم، وأصاب يومئذٍ جُوْيرية. حدثني به عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش" (¬3). وفي لفظ: قال ابن عون: "كتبتُ إلى نافعٍ أسأله عن الدعاء قبل القتال، قال: ¬

_ (¬1) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد والسِّير) (باب 101). (¬2) ثم ذكر تحته حديثين انظرهما -إن شئت- برقم (2938، 2939). (¬3) أخرجه البخاري: 2541، ومسلم: 1730.

فكتَب إليّ إنما كان ذلك في أوّل الإسلام، قد أغار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بني المصطلِق وهم غارّون ... " (¬1). جاء في "كتاب الإنجاد" (ص 168): -بعد ذكر حديث سهل رضي الله عنه-: "فتضمَّن ظاهرُ القرآن، ونصُّ حديث سهلٍ؛ الأمرَ بالدعاء إلى الإسلام قبل القتال، وجاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مباغتَتُهم، والإغارةُ عليهم وهم غارُّون، فوجَب أن يُرجَع ذلك إلى اختلاف أحوال الكُفّار؛ فيمن كان قد علِمَ بأمر النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما يُقاتِلُهم عليه، داعياً إلى الله -تعالى-، وإلى دين الإسلام، أو كان لم يعلم شيئاً من ذلك. والدليل على ذلك قوله في الحديث: "إنما كان ذلك في أول الإسلام"، يعني: دعاءَهم قبل القتال، حيث كانوا جاهلين بأمر النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأحوالُ الكُفّار لا تخلو مِن هذين الوجهين، فأمّا من عُلِمَ، وتُحُقِّق أنّه لم تبلغه دعوة الإسلام، ولا عُلِمَ ماذا يراد منه بالقتال، فلا خِلافَ يُعرفُ أنّه يجب أن يُدعى قبلُ إلى الإسلام، ويعلم بما يجب في ذلك، فإنِ امتنعوا قوتلوا حينئذٍ" (¬2). وقال (ص 171): "قال ابن المنذر: ... وكان الشافعيّ وأبو ثور يقولان: فإنْ كان قومٌ لم تبلُغهم الدعوة، ولا عِلْم لهم بالإسلام، لم يقاتَلوا حتى يُدْعَوا إلى الإسلام، قال ابن المنذر: وكذلك نقول". انتهى. قلت: وقد بوّب الإمام النّووي -رحمه الله- للنص الذي قاله نافع، وكان قد حدّثه هذا الحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قائلاً: (باب جواز ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1730. (¬2) انظر تتمة الكلام للمزيد من الفائدة -إن شئت-.

الدعاء عند القتال

الإغارة على الكُفّار الذين بلَغتْهم دعوة الإسلام، مِنْ غير تقدُّم الإعلام بالإغارة". الدعاء عند القتال عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لمّا كان يومُ بدر؛ نظَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعةَ عشرَ رجلاً، فاستقبل نبيُّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القبلة، ثمّ مدّ يديه فجعَل يهتف بربّه: اللهم أنجِز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعَدتَني، اللهم إنْ تُهلِكْ هذه العِصابة (¬1) مِن أهل الإسلام لا تُعبَد في الأرض، فما زال يهتف بربه مادّاً يديه مستقبل القبلة، حتى سَقَط رداؤه عن مَنْكِبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه، فألقاه على مَنْكِبيه ثمّ التزمه مِن ورائه، وقال: يا نبيّ الله كفاك مناشدتُك ربِّك (¬2)؛ فإنه سيُنجِز لك ما وعدَك فأنزَل الله -عزّ وجلّ-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (¬3)} (¬4) فأمدّه الله بالملائكة. قال أبو زُمَيل: فحدَّثني ابن عباس قال: بينما رجل مِن المسلمين يومئذ، يَشتدّ في أَثر رجل من المشركين أمامه؛ إذ سمع ضربةً بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدِم حيزوم (¬5) فنظَر إلى المشرك أمامه فخرَّ مُستلقياً. ¬

_ (¬1) أي: الجماعة. (¬2) المناشدة: السؤال، مأخوذة مِن النشيد، وهو رفْع الصوت، "شرح النّووي". (¬3) أي: يردف بعضهم بعضاً، فهم متتابعون، وراء كلّ ملَك، ملَك، على أثر بعضهم، "ملتقط من تفسير ابن كثير". (¬4) الأنفال: 9. (¬5) اسم فرس المَلك.

فنظَر إليه، فإذا هو قد خُطِمَ أنفُه (¬1)، وشُقَّ وجهُه كضربةِ السوط، فاخضرَّ ذلك أجمَعُ، فجاء الأنصاري، فحدَّث بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: صدْقتَ ذلك مِن مَدَد السماء الثالثة، فقَتَلوا يومئذٍ سبعين وأسروا سبعين" (¬2). وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خاف قوماً قال: "اللهمّ إنّا نجعلُكَ في نحورهم، ونعوذُ بك مِن شرورهم" (¬3). وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثنتان لا تُردّان -أو قلّما تُردّان-: الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يُلْحِمُ (¬4) بعضُهم بعضاً" (¬5). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله إذا غزا قال: "اللهم أنت عَضُدي ونَصيري، بك أحول، وبك أصول (¬6)، وبك أقاتل" (¬7). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " {حَسْبُنَا اَللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ} ¬

_ (¬1) الخطم: الأثر على الأنف. (¬2) أخرجه مسلم: 1763. (¬3) أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه شيخنا -رحمه اللهَ في "الكَلِم الطيب"، رقم (124). (¬4) بضم الياء وكسر الحاء كما قال المناوي، وجاء في "النّهاية": "أيْ يَشْتَبِك الحرْبُ بينهم، ويَلْزَم بعضُهم بَعْضاً". (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2215)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "المشكاة" (672). (¬6) أي: أسطوا وأقهر، والصولة: الحملة والوثبة. "النّهاية". (¬7) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2291)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2836) وانظر "الكَلِم الطيب"، بتحقيق شيخنا -رحمه الله- رقم (125).

الإلحاح على الله -تعالى- في طلب النصر

قالها إبراهيم -عليه السلام- حين أُلقي في النّار، وقالها محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (¬1) " (¬2). وعن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "لمّا كان يومُ الأحزاب، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَلأ الله بيوتَهم وقُبورهم ناراً، شغلونا عن الصلاة الوسطى؛ حين غابت الشمس" (¬3). وعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنهما- قال: دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الأحزاب على المشركين فقال: "اللهم مُنْزِل الكتاب، سريع الحساب، اللهمّ اهزم الأحزاب، اللهمّ اهزمهم وزَلْزِلهم" (¬4). وفي لفظ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ" (¬5). الإلحاح على الله -تعالى- في طلب النصر فيه حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- المتقدّم: " ... فما زال يهتف بربه مادّاً يديه، مُستقبل القبلة حتّى سقَط رداؤه عن مَنْكِبيه". وفي رواية: "قال: قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في قُبّة (¬6): اللهمّ إني أَنشُدُك عهدَك ¬

_ (¬1) آل عمران: 173. (¬2) أخرجه البخاري: 4563. (¬3) أخرجه البخاري: 2931، ومسلم: 627. (¬4) أخرجه البخاري: 2933، ومسلم: 1742. (¬5) أخرجه البخاري: 3024، ومسلم: 1742. (¬6) القُبّة: كلّ بناء مدور، وقال ابن الأثير: القبّة من الخيام: بيت صغير وهو من بيوت العرب، ذكَره العيني -رحمه الله- في "عمدة القاري" (14/ 193).

كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء

ووعدَك، اللهم إنْ شئتَ لم تُعْبَد بعد اليوم، فأخَذ أبو بكرٍ بيده فقال: حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على ربك -وهو في الدرع (¬1) - فخرَج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (¬2). وقال وُهَيب: حدّثنا خالد يوم بدر" (¬3). كراهةُ تمنّي لقاءَ العدْوّ، والأمرُ بالصبر عند اللقاء (¬4) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّه قال: "لا تَتَمنَّوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبِروا" (¬5). وجوب الثبات عند لقاء العدوّ ومتى يجوز الفرار يَجِبُ ثبات المقاتلين عند لقاء العدوّ، لقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً (¬6) فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬7). وتقدّم حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- "لا تتمنّوا لقاء العدوّ ... ". ويحرُم الفِرار لقوله -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الذين كفروا ¬

_ (¬1) الدرع: هي الزَّرَديّة وهي: قميص من حلقاتٍ من الحديد متشابكة، يُلبس وقاية من السلاح. (¬2) القمر:45 - 46. (¬3) أخرجه البخاري: 2915. (¬4) هذا العنوان من "صحيح مسلم" (كتاب الجهاد والسِّير) (باب - 6). (¬5) أخرجه البخاري: 3024، ومسلم: 1742. وتقدّم. (¬6) أي تقاربتم منهم، ودنوتم إليهم. (¬7) الأنفال: 45.

زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬1) (¬2). قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "يقول -تعالى- مُتوعّداً على الفرار من الزحف بالنار لمن فعَل ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} أي: تقاربتم منهم ودنوتم إليهم، {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} أي: تَفرّوا وتتركوا أصحابكم، {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} أي: يَفرّ بين يدي قِرْنِه (¬3) مكيدة؛ ليُريَه أنّه قد خاف منه فيتبعه، ثمّ يكرّ عليه فيقتله، فلا بأس عليه في ذلك، نصّ عليه سعيد بن جبير، والسدي. وقال الضحاك: أن يتقدَّم عن أصحابه ليرى غرةً مِن العدو فيصيبُها. {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} أي: فرَّ مِن هاهنا إلى فئةٍ أخرى مِن المسلمين، يُعاونهم ويعاونوه، فيجوز له ذلك، حتى ولو كان في سريةٍ ففرَّ إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم، دخَل في هذه الرخصة" انتهى. وعن عمر -رضي الله عنه- قال: "لو أنّ أبا عبيدة تحيَّز إلي، لكنت له فئة، وكان أبو عبيدة في العراق" (¬4). ¬

_ (¬1) الأنفال: 15، 16. (¬2) عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: نَزَلت في يوم بدر {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}. أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2648). (¬3) أي: مثلِه في الشجاعة والشدّة والقتال. (¬4) صححه شيخنا -رحمه الله في "الإرواء" (1205).

وفي لفظ عن سويد أنّه سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- "يقول لمّا هُزم أبو عبيدة: لو أتوني كنت أنا فئتَهم" (¬1). وقال الضحاك في قوله: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} المتحيز: الفارّ إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وكذلك مَن فرّ إلى أميره وأصحابه. فإمّا إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب؛ فإنّه حرام، وكبيرة من الكبائر (¬2). عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات (¬3)، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقَتْل النفس التي حرّمَ الله إلاّ بالحقّ، وأكْلُ الربا، وأكْل مال اليتيم، والتَّولي يومَ الزَّحف، وقذْف المحصناتِ (¬4) المؤمنات الغافلات (¬5) " (¬6). ويجوز الفرار مِن الثلاثة ولا يجوز من الاثنين: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إنْ فَرَّ رجلٌ من اثنين فقد فرّ، ومَن فرّ مِن ثلاثة لم يَفرّ" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1205). (¬2) انظر "تفسير ابن كثير". (¬3) الموبقات: المُهلِكات. (¬4) المحصنات: العفائف. (¬5) الغافلات: أي الغافلات عن الفواحش وما قُذفن به. "شرح النّووي". (¬6) أخرجه البخاري: 6857، ومسلم: 89. (¬7) أخرجه البيهقي وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1206).

وهو وإنْ كان موقوفاً؛ فله حُكم المرفوع؛ بدليل القرآن وسبب النزول (¬1). فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لمّا نَزَلَتْ هذه الآية: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (¬2). فَكُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، فَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ: أَنْ لَا يَفِرَّ عِشْرُونَ مِنْ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ نزَلَتْ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (¬3) فكَتَبَ أَنْ لَا يَفِرَّ مِائَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ. زَادَ سُفْيَانُ مَرَّةً نَزَلَتْ: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} (¬4) " (¬5). وفي لفظ: "لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى المسْلِمِينَ حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةِ، فَجَاءَ التَّخْفِيفُ فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ: فَلَمَّا خَفَّفَ اللهُ عَنْهُمْ مِنْ الْعِدَّةِ نَقَصَ مِنْ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خُفِّفَ عَنْهُمْ" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر الإرواء (1206) للمزيد من الفائدة. (¬2) الأنفال: 65. (¬3) الأنفال: 66. (¬4) الأنفال: 65. (¬5) أخرجه البخاري: 4652. (¬6) أخرجه البخاري: 4653.

وخلاصة القول: وجوب الثبات عند لقاء العدوّ، وعدم التولي مِن ميدان القتال، إلاّ إذا رأى أنّ الأفضل والأنفع؛ أن يفرّ ويكرّ، أو يفرّ مِن فئة إلى أخرى من المسلمين؛ يعاونهم ويعانوه ويقوِّي بعضهم بعضا، مع جواز فِرار الرجل من الثلاثة، وتحريم فِراره من الرجلين. لأنه ربّما رجّح أنّه سيُقتل مِن غير فائدة مِن قِبَل الثلاثة، ففراره على التفصيل السابق، أو لأجل معركة أُخرى، وهو الأنفع، والله -تعالى- أعلم. وجاء في "المغني" (10/ 553): "وإذا كان العدوّ أكثرَ من ضِعف المسلمين، فغلَبَ على ظنّ المسلمين الظَّفَر، فالأولى لهم الثبات؛ لما في ذلك من المصلحة. وإنْ انصرفوا جاز؛ لأنّهم لا يأمنون العَطَب والحُكم عُلّق على مظنّته، وهو كونهم أقلَّ مِن نصف عددهم، ولذلك لَزمَهم الثبات؛ إذا كانوا أكثر من النصف، وإنْ غلَب على ظنّهم الهلاك فيه، ويحتمل أن يلزَمهم الثبات إنْ غلَب على ظنّهم الظَّفَر، لما فيه مِن المصلحة. وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة، والنجاة في الانصراف؛ فالأولى لهم الانصراف، وإنْ ثبتوا جاز، لأنّ لهم غرضاً في الشهادة، ويجوز أن يغلبوا أيضاً. وإنْ غلَب على ظنهم الهلاك في الإقامة والانصراف، فالأولى لهم الثبات، لينالوا درجة الشهداء المُقبِلين على القتال محُتسِبين، فيكونون أفضل مِن المولّين، ولأنه يجوز أن يَغلِبوا أيضاً، فإنّ الله -تعالى- يقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬1) ولذلك صبَر عاصم وأصحابُه، فقاتلوا ¬

_ (¬1) البقرة: 249.

المبايعة على الموت أو عدم الفرار

حتى أكرَمهم الله بالشهادة". جاء في "المغني" (10/ 550): "ولا يحلُّ لمسلم أن يهرب مِن كافِرَين، ومُباح له أن يهرب مِن ثلاثة، فإن خشي الأسرَ قاتل حتى يُقتَل" انتهى. أقول: فينبغي علينا أن نتعرّف حقيقةً مُرَّة: وهي أنّ الإنسان -لو وقع الجهاد!!! - قد يفرّ مِن عشرين أو ثلاثين؛ إذا عَلِمت أنّ الكُفار بعضهم أولياء بعض وأن المسلمين متفرّقون متناحرون متنازعون، وأنّ الكفّار أكثر إعداداً وعدداً وسلاحاً وقوةً وتقدُّماً علميّاً، ونكاد أن نكون في مرتبة المتخلّفين!. فلماذا لا يكون التقويم سديداً في أمور الجهاد والقتال؟! وليس مرادي أن نَكِلَّ ونيأس؛ فقد قال ربُّنا سبحانه على لسان يعقوب -عليه السلام-: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (¬1). بل مرادي مِنْ ذلك، أن نسلُك الطريق الصحيح في الإعداد الجهادي المفضي إلى النصر بإذن الله -تعالى- (¬2). المبايعة على الموت أو عدم الفرار عن مَعْقِل بن يَسار -رضي الله عنه- قال: "لقد رأيتُني يومَ الشجرة، والنبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبايع النّاس وأنا رافع غُصْناً مِن أغصانها عن رأسه، ونحن أربعَ عَشْرَةَ مائةً، قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفرّ" (¬3). ¬

_ (¬1) يوسف: 87. (¬2) وانظر عنوان (عَجَباً مِن التخبط والعشوائية في طلب النّصر). (¬3) أخرجه مسلم: 1858، ورواه النسائي "سنن النسائي" عن جابر، وقال شيخنا -رحمه الله - "صحيح".

التحنط عند القتال

وعن يزيدَ بنِ أبي عبيد مولى سلمةَ بن الأكوع قال: "قلت لسلمة: على أيِّ شيء بايعتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الحديبية؟ قال: على الموت" (¬1). قلت: ليس في هذا تعارُض؛ لأن المبايعة على عدم الفرار -وهو المطلوب- لا يلزم منها الموت دائماً. قال الحافظ -رحمه الله-: " ... المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفرّوا ولو ماتوا، وليس المراد؛ أن يقع الموت ولا بُدّ". التحنُّط (¬2) عند القتال (¬3) عن موسى بن أنس قال: وذَكر يوم اليمامة -قال: "أتى أنسٌ ثابت بن قيس وقد حَسَرَ (¬4) عن فَخِذيه، وهو يتحنَّط، فقال: يا عَمِّ ما يَحبِسُك أن لا تجيء؟ قال: الآن يا ابن أخي؟ وجعل يتحنَّط -يعني من الحنُوط-. ثمّ جاء فجلَس فذكرَ في الحديث انكشافاً من الناس (¬5) فقال: هكذا عن وجوهنا (¬6) حتى نضارب القوم، ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬7)، بئس ما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2960، مسلم: 1860. (¬2) التحنّط عند القتال: أي استعمال الحَنوط، وهو ما يُطيَّب به الميت. "الفتح". (¬3) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (باب - 39). (¬4) حسَر: كشف. (¬5) في رواية ابن أبي زائدة: "فجاء حتى جلَس في الصفّ، والناس ينكشفون" أي: ينهزمون، "الفتح". (¬6) هكذا عن وجوهنا: أي افسحوا لي حتى أقاتِل. (¬7) أي بل كان الصف لا ينحرف عن موضعه. "الفتح".

ما يتعوذ من الجبن

عوَّدْتُم أقرانكُم (¬1) " (¬2). مَا يُتَعَوَّذُ مِنْ الْجُبْنِ (¬3) عن عمرو بن ميمون الأودي قال كان سعدٌ يُعلّم بنيه هؤلاء الكلمات كما يُعلّم المعلمُ الغلمان الكتابة، ويقول: "إنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوّذ منهنّ دُبرَ الصلاة، اللهمّ إنّي أعوذ بك مِن الجُبن، وأعوذ بك أن أُرَدَّ إلما أرذل العُمُر، وأعوذ بك مِن فتنة الدنيا، وأعوذ بك مِن عذاب القبر" (¬4). وعن أنس -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "اللهمَّ إنّي أعوذ بكَ من العَجْز والكَسَل، والجُبن والهرَم، وأعوذ بك مِن فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك مِن عذاب القبر" (¬5). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "شرُّ ما في ¬

_ (¬1) أقرانكم: نظراءَكم، أراد توبيخ المنهزمين، أي: عودتموهم الفرار حتى طمعوا فيكم. "الفتح" بتصرف. قلت: فواحرّ قلباه ماذا لو رأى -رضي الله عنه- ما نحن عليه الآن وماذا لو رأى ما عَوّدْنا به أعداءَنا الآن؟! (¬2) أخرجه البخاري: 2845. (¬3) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد والسير) (باب - 25). (¬4) أخرجه البخاري: 2822. (¬5) أخرجه البخاري: 2823، ومسلم: 2706.

ما جاء في المبارزة

الرجل شحٌّ (¬1) هالع (¬2)، وجُبْنٌ خالع (¬3) " (¬4). قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "المجموع" (28/ 26): "ومِن شرط الجندي أنْ يكون دَيِّناً شجاعاً. ثمّ قال: الناس على أربعة أقسام: أعلاهم الدَّيِّن الشجاع؛ ثمّ الدَّيِّن بلا شجاعة؛ ثمّ عكسه؛ ثمّ العري عنهما". ما جاء في المبارزة (¬5) عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضيَ اللهُ عنْهُ- قالَ: "أنا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو (¬6) بَيْنَ يَدَيْ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ: وَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ {هَذَانَ خَصْمَانِ اَخْتَصمُوا في رَبّهِم} (¬7) قَالَ: هُمْ الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، حَمْزَةُ وَعَليٌّ وَعُبَيْدَةُ -أَوْ أَبو عُبَيْدَةَ بْنُ الحْارِثِ- وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ" (¬8). ¬

_ (¬1) قال في "النّهاية": "الشُّحُّ: أشدّ البُخل، وهو أبلغ في المنع من البُخل، وقيل: هو البُخل مع الحِرص، وقيل: البُخل في أفراد الأمور وآحادها، والشُّحُّ عامٌّ: وقيل البخل بالمال، والشُّحُّ بالمال والمعروف". (¬2) الهَلَع: أشدّ الجزَع والضَّجَر. (¬3) أي: شديدٌ؛ كأنه يخلع فؤاده من شدّة خوفه ... والمراد به: ما يَعْرِض من نوازع الأفكار، وضعف القلب عند الخوف. "النّهاية". (¬4) أخرجه أبو داود وغيره، وصحَّحه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (560). (¬5) ملخص من كتاب "الإنجاد" (1/ 196) وأضفْتُ له أثرَ أنسِ بن مالك -رضي الله عنه-. (¬6) يجثو: أي يقعُد على رُكبتيه مخُاصِماً، والمراد بهذه الأوَّليَّة؛ تقييده بالمجاهدين مِن هذه الأمّة؛ لأنّ المبارزة المذكورة؛ أول مبارزةٍ وقَعَت في الإسلام، قاله الحافظ في "الفتح". (¬7) الحج: 19. (¬8) أخرجه البخاري: 3965.

وفي رواية: قال عَليٌّ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ-: "تَقَدَّمَ -يَعْنِي عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ- وَتَبِعَهُ ابْنُهُ وَأَخُوهُ، فَنَادَى: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَانْتَدَبَ لَهُ شَبَابٌ مِنْ الأنصَارِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوه، ُ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيكُمْ، إِنَّمَا أَرَدْنَا بَنِي عَمِّنَا، فَقَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُمْ يَا حَمْزَةُ، قُمْ يَا عَلِيُّ، قُمْ يَا عُبَيْدَةَ بْنَ الحارِثِ، فَأَقْبَلَ حَمْزَةُ إِلَى عُتْبَةَ، وَأَقْبَلْتُ إِلَى شَيْبةَ، وَاخْتُلِفَ بَيْنَ عُبَيْدَةَ وَالْوَليدِ ضَرْبَتَانِ، فَأثخَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ مِلْنَا عَلَى الْوَلِيدِ فَقَتَلْنَاهُ، وَاحْتَمَلْنَا عُبَيْدَةَ" (¬1). عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ فيها قَسَماً إِنَّ هَذِهِ الآيةَ: {هَذَانَ خَصْمَانِ اختصموا في رَبّهِم} نَزَلَتْ فِي حَمْزةَ وَصَاحِبَيْهِ وَعُتْبةَ وَصَاحِبَيْهِ؛ يَوْمَ بَرَزُوا فِي يَوْمِ بَدْرٍ" (¬2). وعن أبي إسحاق قال: "سأل رجلٌ البراء وأنا أسمع؛ قال: أَشَهِد عليٌّ بدراً؟ قال: بارَز وظاهر (¬3) " (¬4). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- "أنّ البراء بنَ مالك -أخا أنس بن مالك- بارَز مرزبان الزارة (¬5)، فطعَنه طعنةً فكسر القَرَبوس (¬6)، وخلَص إليه فقتَله ... " (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2321). (¬2) أخرجه البخاري: 4743 واللفظ له، ومسلم: 3033. (¬3) ظاهَر: أي لَبِس دِرْعاً على دِرْع، "الفتح". (¬4) أخرجه البخاري: (3970). (¬5) بلدة كبيرة بالبحرين، وفُتحت الزارة في سنة (12) هـ، في أيام أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وصالحوا. ذكَرَه شيخنا -رحمه الله- في التعليق، انظر "الإرواء" (5/ 57). (¬6) قال في القاموس المحيط: "القَرَبوس: حِنو السَّرج، وهما قَرَبوسان"، والحِنو: عود الرحل. (¬7) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1224).

ما يجوز للرجل من الحمل وحده على جيش العدو وتأويل قول الله -تعالى-: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}:

قال أبو بكر بن المنذر: "وأجمعوا على أنّ للمرء أن يُبارِزَ ويدعو إلى البِراز بإذن الإمام، وانفرَد الحسَن؛ فكان يكرهه ولا يعرف البِراز" (¬1). ما يجوز للرجل مِنَ الحَمْل وحده على جيش العدوِّ وتأويل قول الله -تعالى-: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬2): عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: "غَزَوْنَا مِنْ المدِينَةِ نُرِيدُ الْقُسْطَنْطِينيَّةَ وَعَلَى الجماعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَليدِ، وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ المدِينَةِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَالَ النَّاسُ: مَهْ مَهْ (¬3) لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ! يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَالَ أبو أيُّوبَ: إِتَما أنزلَتْ هَذ الآيةُ فِينَا مَعْشَرَ الأنصَارِ، لَمَّا نَصَرَ اللهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، قُلْنَا: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا فَأَنْزَلَ اللهُ -عزّ وجلّ-: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬4). فَالْإِلْقَاءُ بِالْأَيْدِي إِلَى التَهْلُكَةِ: أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَع الجهَادَ. ْقَالَ أبو عِمْرَانَ: فَلَمْ يَزَلْ أبو أيُّوبَ يجاهِدُ فِي سَبِيلِ الله حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينيَّةِ" (¬5). وقد اختُلف في تأويل الآية، ذَكَر إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" عن ¬

_ (¬1) انظر كتاب "الإجماع" (ص 59) (رقم 229)، وذكَرَه صاحب الإنجاد (1/ 197). (¬2) انظر "الإنجاد" (ص 188). (¬3) اسم فِغل أمر مبنيّ على السكون بمعنى اكفُف. (¬4) البقرة: 195. (¬5) أخرجه أبو داود (2512) والنسائي في "الكبرى" وابن حبان وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (13).

حفص، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء: قال: قلت: أرأيت قول الله -عزّ وجلّ-: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، أهو الرجل يَحْمِل على الكتيبة فيها ألْفٌ، قال: لا، ولكن الرجل يُذنب، فيلقي بيده ويقول: لا توبة (¬1). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَجِب ربُّنا -عزّ وجلّ- مِن رجلٍ غزا في سبيل الله، فانهزم -يعني: أصحابه- فَعَلِمَ ما عليه، فرجَع حتى أُهريق دمُه، فيقول الله -عزّ وجلّ- لملائكته: انظروا إلى عبدي رجَع رَغْبَةً فيما عندي، وشفقةً ممّا عندي، حتى أُهريق دَمُه" (¬2). [قلت: وفي الباب، حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاثة يُحبُّهم الله ويَضْحَك إليهم، ويستَبْشِر بهم: الذي إذا انكشَفَت فِئَة؛ قاتل وراءَها بنفسه لله -عزّ وجلّ- فإمَّا أن يُقتَل، وإمَّا أنْ ينصرَه الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا؛ كيف صبَر لي بنفسه"] (¬3). واختَلَف أهل العلم في حَمْل الرجل وحدَه على الجيش؛ والعدد الكثير مِن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" وكذا ابن جرير وغيرهما وانظر ما قاله محققا كتاب "الإنجاد" (ص 191)، قلت؛ وأخرج الحاكم نحوه في "المستدرك" ولفظه: "قال له [أي للبراء -رضي الله عنه-] يا أبا عمارة {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، الرجل يلقى العدوَّ، فيقاتل حتى يُقتَل؟ قال: لا، ولكن هو الرجل يذنب الذنب، فيقول: لا يغفره الله لي"، وصحَّحه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1624). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2211)، ورواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان في "صحيحه"، وحسَّنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1384). (¬3) أخرجَه الطبراني، وحسَّنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1384).

العدوِّ؛ فأقول [الكلام لمُصنِّف الإنجاد]: أحوال الذي يَحْمِل وحده ثلاث: حال اضطرار، وذلك حيث يحيط به العدوّ، فهو يخاف تَغَلُّبَهم عليه وأسْرَهُم إياه، فذلك جائزٌ أن يَحْمِل عليهم باتفاق. وحالٌ يكون فيها في صفِّ المسلمين وَمَنَعتِهم، فيَحْمِل إرادةَ السُّمعة والاتصافَ بالشجاعة، فهذا حرام باتفاق. وحالٌ يكون كذلك مع المسلمين، فيحمل غَضَباً لله، محُتَسِباً نفسه عند الله، ففي هذا اختلف أهل العلم، فمنهم مَن كَرِهَ حَمْلَه وحده، ورآه مما نهى الله عنه مِن الإلقاء باليد إلى التهلكة، ومنهم مَن أجاز ذلك واسْتَحْسَنه؛ إذا كانت به قُوّة، وفي فِعله ذلك منفعةٌ، إمَّا لنكاية العدوِّ أو تَجرئةِ المسلمين -حتى يفعلوا مِثل ما فَعَل- أو إرهابِ العدوِّ؛ ليعلموا صلابة المسلمين في الدين (¬1). ¬

_ (¬1) وجاء في التعليق في الكتاب المذكور: تكاد تُجمِع كلمة الفقهاء على جواز ذلك، بل حكى ابن أبي زمنين في "قدوة الغازي" (ص 198) الإجماع عليه، ونصُّ عبارتِه: "قال ابن حبيب: ولا بأس أن يَحْملَ الرجل وحده على الكتيبة، وعلى الجيش؛ إذا كان ذلك منه لله، وكانت فيه شجاعةٌ وجَلَدٌ وقوةٌ على ذلك، وذلك حَسَنٌ جميل لم يكرهه أحدٌ من أهل العلم، وليس ذلك مِن التهلكة، وإذا كان ذلك منه للفخر والذِّكر فلا يفعل -وإنْ كانت به عليه قوة- وإذا لم يكن به عليه قوة فلا يفعل وإنْ أراد به الله؛ لأنه حيئذٍ يُلقي بيده إلى التهلكة" ... وجاء في "البيان والتحصيل" (2/ 564) ما يلي: "قال أشهب: وسُئل مالك عن رجل من المسلمين يحمل على الجيش من العدوّ وحدَه، قال: قال الله -تعالى-: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} فجعَل كلَّ رجلٍ برجلين؛ بعد أنْ كان كلّ رجُلٍ بعشرة، فأخافُ هذا يلقي بيده إلى التهلكة، وليس ذلك بسواء أنْ يكون الرجل في الجيش الكثيف =

............................ ¬

_ = فيحمل وحده على الجيش، وأنْ يكون الرجل قد خلفه أصحابُه بأرض الروم، أحاطوه فتركوه بين ظهرانَيِ الروم، فهو يخاف الأسر فيستقتل فيحمل عليهم، فهذا عندي خفيف، والأول عندي في كثفٍ وقُوَّة، وليس إلى ذلك بمضطر، يختلف أن يكون الرجل يحمل احتساباً بنفسه على الله، كما قال عمر بن الخطاب: الشهيد من احتسَب نفسَه على الله، أو يكون يريد بذلك السمعة والشجاعة. قال محمد بن رشد: أمّا إذا فعَل ذلك إرادةَ السمعة والشجاعة، فلا إشكال ولا اختلافَ في أنّ ذلك من الفعل المكروه، وأمّا إنِ اضطرَّ إلى ذلك بإحاطة العدوِّ به، فَفَعلَهُ مخافة الأسر؛ فلا اختلاف في أنّ ذلك من الفعل الجائز، إنْ شاء أن يستأسر، وإنْ شاء أن يحمل على العدوِّ، ويحتسب نفسه على الله، وأمّا إذا كان في صفِّ المسلمين، وأراد أن يُحمل على الجيش من العدوِّ وحده؛ مُحْتسِباً بنفسه على الله ليُقوِّي بذلك نفوس المسلمين، ويُلقي الرعب في قلوب المشركين، فمِن أهل العلم مَن كَرهه ورآه مما نهى الله عنه مِن الإلقاء إلى التهلكة؛ لقوله- عز وجل-: {وَلَا تُلْقُوا بِأيدِيكم إلى التهلُكَةِ}، وممَن رَوَىَ ذلك عمرو بن العاص، ومنهم من أجازه واستحبَّه لمن كانت به قوة عليه، وهو الصحيح" ... قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "قاعدة في الانغماس في العدوِّ، وهل يباح ... " (ص 24): "والرجل يَنْهزِم أصحابُه، فيقاتِل وحده، أو هو وطائفة معه العدوَّ، وفي ذلك نكاية في العدوِّ، ولكن يظنُّون أنهم يُقْتلون، فهذا كلّه جائز عند عامّة علماء الإسلام؛ مِن أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وليس في ذلك إلاَّ خلاف شاذّ. وأمّا الأئمّة المتبوعون كالشافعي وأحمد وغيرِهما؛ فقد نصّوا على جواز ذلك، وكذلك هو مذهب أيى حنيفة ومالك وغيرهما"، ودلَّل عليه بتطويلٍ من الكتاب والسنة وإجماع السلف، ونحوه في "مجموع الفتاوى" (28/ 540) له. وقال الشافعي -رحمه الله- في "الأم" (4/ 92): "لا أرى ضيقاً على الرجل أن يُحْمل على الجماعة حاسراً، أو يبادر الرجل، وإنْ كان الأغلب أنّه مقتول؛ لأنه قد بودر بين يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحَمَل رجلٌ من الأنصار حاسراً على جماعة من المشركين يوم بدر، بعد =

وبالجملة، فكل مَن بَذَلَ نفسه لإعزاز الدِّين، وتوهينِ أهْلِ الكفر؛ فهو المقام الشريف الذي تَتَوجّه إليه مُدْحَةُ الله -تعالى-، وكريمُ وعْدِه في قوله -سبحانه-: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} (¬1)، وقال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (¬2). قلت: والراجح: جوازُ حَمْلِ الرجل وحده على جيش العدوِّ حال الاضطرار، إذا أحاط به العدوُّ، لخوفه تغلُّبَهم عليه وأسْرَهم إيّاه. ويجوز في حالٍ يكون في صفِّ المسلمين ويجد في نفسه القوة فيحمل غضباً لله، محتسباً نفسه لله، يفعله لنكاية العدوِّ أو إرهابه، أو ليُجرِّئَ المسلمين، ويفعلوا مِثْل ما فَعَل، إذا ترجَّح لديه الظنُّ أنّ في هذا منفعةَ المسلمين. ولا يجوز هذا الحمل إرادة السمعة ¬

_ = إعلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما في ذلك من الخير فقُتِل". وانظر: "الأوسط" (11/ 306 - 307). وكلام الإمام أحمد في "مسائل صالح" (2/ 469) قال: "قلت: الأسير يَجِدُ السيف أو السلاح فيحمل عليهم؛ وهو لا يعلم أنّه لا ينجو، أعان على نفسه؟ قال: أما سمعْتَ قولَ عمر حين سأله الرجل فقال: إنّ أبي أو خالي ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال عمر: "ذلك اشترى الآخرة بالدنيا". وقال أبو داود في "مسائله" (247): "سمعت أحمدَ بنَ حنبل يقول: إذا عَلِم أنهُ يؤسَر فليقاتل حتى يُقْتل أحب إليَّ". وقال: "لا يستأسر، الأسر شديد". وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل سُئل عن الأسير إذا أُسر؛ له أن يقاتلهم؟ قال: "إذا علم أنّه يقوى بهم". (¬1) التوبة: 111. (¬2) البقرة: 207.

الخيلاء في الحرب

والاتصاف بالشجاعة، والله تعالى -أعلم-. أقول: والأصل في هذا؛ التشاور والرجوع للقائد، فقد أمَر ربُّنا -تبارك وتعالى- رسولَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمشاورة؛ فقد قال -سبحانه-: {وَشَاوِرْهُم في الأمر} (¬1)، وقال -سبحانه-: {وَأَمرُهُمْ شوُرَى بينهم} (¬2). الخُيَلاء في الحرب (¬3) عن جابر بن عتيك أنّ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "مِن الغَيرة ما يُحِبّ الله، ومنها ما يُبغِض الله، فأما التي يُحبها الله فالغَيرة في الريبة، وأمّا الغَيرة التي يُبغضها الله؛ فالغَيرة في غير ريبة، وإنّ مِن الخيلاء ما يُبغض الله، ومنها ما يُحبّ الله، فأمّا الخيلاء التي يُحب الله؛ فاختيالُ الرجل نفسَه عند القتال، واختيالُه عند الصدقة (¬4)، وأمّا التي يبغض الله فاختيالُه في البغي -قال موسى- والفخر" (¬5). ... ¬

_ (¬1) آل عمران: 159. (¬2) الشورى: 38. (¬3) هذا العنوان من "سنن أبي داود" (كتاب الجهاد) (باب - 114). (¬4) الاختيال في الصدقة: أن يُعطيَها طيبةً بها نفسه، فلا يَستكثر، ولا يُبالي بما أعطى، ولا يُعطي منها شيئاً إلاّ هو له مستقلّ. انظر "النّهاية" و"عون المعبود" (7/ 230). (¬5) أخرجه أبو داود (2659)، "صحيح سنن أبي داود" (الأمّ) (2388)، وابن حبان في "صحيحه" "التعليقات الحِسان" (4742)، وانظر "الإرواء" (1999).

التكبير عند الحرب

التكبيرُ عند الحرب (¬1) عن أنس -رضي الله عنه- قال: "صبَّح النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبرَ، وقد خرَجوا بالمساحِي (¬2) على أعناقهم، فلمّا رأَوه قالوا: هذا محمّد والخميس، محمّد والخميس، فَلَجؤا إلى الحصن فرفع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه، وقال: الله أكبر، خَرِبت خيبر، إنّا إذا نَزَلْنا بساحة قوم {فساء صَبَاحُ المنذَرِينَ (¬3)} " (¬4). الغارة على الأعداء ليلاً عن الصّعب بن جثّامة -رضي الله عنه- قال: مرّ النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأبواء -أو بودّان- فسُئل عن أهل الدار يُبيَّتون (¬5) مِن المشركين، فيُصاب مِن نسائهم وذراريِّهم، قال: هم منهم" (¬6). ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 56). (¬2) المساحي: جمع مِسحاة، وهي المِجرفة من الحديد. "النّهاية". (¬3) الصافات: 177. (¬4) أخرجه البخاري: 2991 واللفظ له، ومسلم: 1365 كتاب النكاح - 48، 87 (باب فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها) نحوه. (¬5) أي: يُصابون ليلاً، وتبييت العدو: هو أن يُقصَد في الليل مِن غير أن يَعلم؛ فيُؤخَذ بغتة، وهو البَيات. "النّهاية". (¬6) قال الحافط -رحمه الله-: "هم منهم أي في الحُكم تلك الحالة، وليس المراد إباحة قتْلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد: إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلاّ بوطء الذريّة، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم، جاز قتْلهم.

القتال أول النهار أو الانتظار حتى تهب الريح

وسمْعتُه يقول: "لا حمى إلاّ لله ولرسوله" (¬1). قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "لا بأس بالبيات، ولا أعلم أحداً كَرِهَه" (¬2). القتال أول النهار أو الانتظار حتى تهُبّ الريح عن صخرٍ الغامديِّ -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهمَّ بارِك لأمّتي في بُكورها (¬3) وكان إذا بعثَ سريَّة أو جيشاً؛ بَعَثهُم من أوّل النهار، وكان صخرٌ رجلاً تاجراً، وكان يبعث تجارتَه مِن أوّل النهار؛ فأثرى وكثُر مالُه" (¬4). وعن جُبَير بن حَيَّة قال: "بَعَث عُمر النّاس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين فأسلم الهرمُزان ... وذكر الحديث إلى أن قال: فقال النعمان: ربما أشهدَك الله مثلها مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يُندِّمك ولم يُخْزِك ولكني شهْدتُ القتال مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا لم يقاتِل في أول النهار؛ انتظر حتى تهبَّ الأرواح (¬5) وتحضرَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3012 وهذا لفظه، ومسلم: 1745 وتقدّم. قال العلاّمة العيني - رحمه الله- في "عمدة القاري": "معناه: لا حمى لأحد يخصُّ به نفسه، وإنما هو لله ولرسوله، ولمن وَرِث ذلك عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الخلفاء؛ للمصلحة الشاملة للمسلمين، وما يَحتاجون إلى حمايته". (¬2) انظر "الفتح". (¬3) قال في "المرقاة" (7/ 454): "أي صَباحِها وأوّل نهارِها ... ، وهو يشمَل طلبَ العِلم والكَسب". (¬4) أخرجه الترمذي وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2207)، وانظر "المشكاة" (3908). (¬5) الأرواح: جمع ريح وأصله الواو، لكن لما انكسر ما قبل الواو الساكنة انقلبت ياء والجمع يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها ... "الفتح".

إذا ارتد على المقاتل سلاحه فقتله فله أجره مرتين

الصلوات (¬1) " (¬2). ولا تعارُض بين هذا وما تقدّم مِن الغارة على الأعداء ليلاً، فهذا يختلف حسبما تقتضيه الحاجة، ويتطلّبه الحال، ويُقدّره القائد، والله -تعالى- أعلم. إذا ارتدّ على المقاتل سلاحه فقتله فله أجرُه مرّتين عن سلَمة بنِ الأكوع -رضي الله عنه- قال: "لمّا كان يومُ خيبر، قاتل أخي قتالاً شديداً مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فارتدَّ عليه سيفه فقَتَلَه، فقال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، وشكّوا فيه؛ رجل مات في سِلاحه، وشكّوا في بعض أمرِه. قال سَلَمَة: فقفَل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِن خيبر، فقلتُ يا رسول الله ائذَن لي أن أرجُزَ لك فأَذِن له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: عمر بن الخطاب أعلم ما تقول، قال: فقلت: والله لولا اللهُ ما اهتدَيْنا ... ولا تصدَّقْنا ولا صَلَّينا فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدَقْتَ. وأنزِلَن سكينةً علينا ... وثبِّتِ الأقدام إنْ لاقينا والمشركون قد بغَوا علينا قال: فلمّا قضيتُ رَجَزِي قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَن قال هذا؟ قلت: قاله ¬

_ (¬1) قال الحافظ -رحمه الله-: "في رواية ابن أبي شيبة: "وتزول الشمس" وهو بالمعنى. (¬2) انظر البخاري: 3159، 3160، وقد تقدّم الحديث بطوله.

من لهم ثواب الشهداء

أخي، فقال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرحمُه الله، قال: فقلت يا رسول الله إنّ ناساً ليهابون الصلاة عليه يقولون: رجلٌ مات بسلاحِه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مات جاهداً مجُاهِداً. قال ابن شهاب: ثمّ سألتُ ابناً لسلمةَ بنِ الأكوع. فحدَّثني عن أبيه مثل ذلك. غير أنّه قال: حين قُلت: إنّ ناساً يهابون الصلاة عليه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كذبوا، ماتَ جاهداً مجُاهداً، فله أجره مرّتين، وأشار بإِصبَعَيْه" (¬1). من لهم ثواب الشهداء هناك أصناف تُعدّ مِن شهداء الآخرة، كما في حديث مخارق -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المقاتل دون ماله بلفظ: "قاتِل دون مالك حتى تكون من شهداء الآخرة" (¬2). فهؤلاء يُغسّلون (¬3) ويُصلّى عليهم، ولهم أجر الشهداء في الآخرة، وهم: 1 - مَن قُتل دون دِيْنِه. 2 - المطعون (¬4). 3 - الغريق. 4 - صاحب ذات الجنب (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1802، وأصله في البخاري: 6891. (¬2) سيأتي تخريجه -إنْ شاء الله تعالى-. (¬3) إذ لا يُشرع غَسْل الشهيد قتيل المعركة، ولو اتفق أنّه كان جُنُباً وانظر "أحكام الجنائز" (ص 54). (¬4) أي: الذي يموت في الطاعون. (¬5) الدُمّل الكبيرة، التي تظهر في باطن الجنب، وتَنْفَجر إلى داخل، وقلّما يسلم صاحبها. "النّهاية".

5 - المبطون (¬1). 6 - صاحب الحريق (¬2). 7 - الذي يموت تحت الهدم. 8 - المرأة تموت في نفاسها بسبب ولدها. 10 - من قُتل دون ماله. 11 - من قُتِل دون أهله. 12 - من قُتل دون دمه ونفسه ومظلمته. 13 - الموت بداء السِّلّ. وأدلّة ذلك: 1 - عن جابر بن عتيك -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الشهادة سبعٌ سوى القتل في سبيل الله، المطعون شهيد، والغَرِق شهيد، وصاحب ذات الجنْب (¬3) شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجُمْع شهيدة (¬4) " (¬5). ¬

_ (¬1) من مات في البطن. (¬2) هو الذي يقع في حَرْق النار فيلتهب. "النّهاية". (¬3) تقدم، وانظر للمزيد -إنْ شثت- "فيض القدير". (¬4) أي تموت وفي بطنها ولد، أو تموت من الولادة، والمعنى: ماتت مع شيء مجموع فيها غير منفصل عنها. "فيض القدير" بحذف. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2668)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2261)، والنسائي "صحيح سنن النسائي، (1742)، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 54).

2 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما تَعُدّون الشّهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله مَن قُتِل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إنّ شُهداء أُمّتي إذاً لقليل، قالوا: فمَن هم يا رسول الله؟ قال: مَن قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومَن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومَن مات في الطّاعون فهو شهيد، ومَن مات في البطن فهو شهيد" (¬1). 3 - عن عُتبة بن عبدٍ السُّلمي -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يأتي الشهداء والمُتوَفَّون بالطاعون، فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء، فيقال: انظروا، فإنْ كانت جِراحهم كجراح الشهداء تسيل دماً ريحَ المسك؛ فهم شُهداء، فيجدونهم كذلك" (¬2). 4 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغَرِق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله" (¬3). 5 - وعن راشد بن حبيش -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على عبادةَ بن الصامت يعوده في مرضه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتعلمون مَن الشهيد مِن أمّتي؟ فأرَمَّ (¬4) القوم، فقال عبادة: ساندوني. فأسندوه، فقال: يا رسول الله! الصابرُ المحتسبُ. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّ شهداء أمّتي إذاً لقليلٌ، القتلُ في ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1915. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" بسند حسن، وحسنه شيخنا -رحمه الله- بشواهده كما في "أحكام الجنائز" (ص 52). (¬3) أخرجه البخاري: 2829، ومسلم: 1914. (¬4) أي: سكتوا ولم يجيبوا. "النّهاية".

سبيل الله -عزّ وجلّ- شهادةٌ، والطاعونُ شهادة، والغَرق شهادة، والبَطْنُ شهادة، والنُفساء يجرُّها ولدها بسَرَرِه (¬1) إلى الجنّة، والحرِق، والسِّلُّ" (¬2). 6 - وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: مَن قُتِل دون ماله فهو شهيد" (¬3). 7 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، أرأيت إنْ جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تُعطِه مالك، قال: أرأيت إنْ قاتلني؟ قال: قاتِلْه، قال: أرأيتَ إنْ قَتَلني، قال: فأنت شهيد، قال: أرأيتَ إنْ قتلتُه؟ قال: هو والنار" (¬4). 8 - وعن مخارق -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: الرجل يأتيني فيُريد مالي؟ قال: ذكِّره بالله، قال: فإن لم يَذْكُر؟ قال: فاستعن عليه مَن حولك مِن المسلمين، قال: فإنْ لم يكن حولي أحَدٌ مِن المسلمين؟ قال: فاستعن عليه السلطان، قال: فإنْ نأى السلطان عنّي (وعَجِل عليَّ)؟ قال: قاتِل دون مالك؛ حتى تكون من شهداء الآخرة، أو تمنع مالك" (¬5). ¬

_ (¬1) ما يُقطع من سُرّة المولود. (¬2) رواه أحمد بإسناد حسن، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1396). (¬3) أخرجه البخاري: 2480، ومسلم: 141. (¬4) أخرجه مسلم: 140. (¬5) أخرجه النسائي وأحمد، والزيادة له وسنده صحيح على شرط مسلم، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 57).

ماذا يجد الشهيد من مس القتل

7 - وعن سويد بن مقرّن -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قُتل دون مظلمته فهو شهيد" (¬1). 8 - وعن سعيد بن زيد -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومَن قُتِل دون دمه فهو شهيد" (¬2). ماذا يجد الشهيد من مسّ القتل عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما يجدُ الشهيد من مسّ القتل إلاّ كما يجدُ أحدكم مِن مسّ القَرْصَة" (¬3). فضل الحرب في البحر عن أمّ حرام -رضي الله عنها- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "المَائِدُ (¬4) في البحر الذي يُصيبُه القيء له أجرُ شهيد، والغَرِقُ له أجرُ شهيدين" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي وصححه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1413). (¬2) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه، وأحمد، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 57). (¬3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1362)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2260)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2963)، وانظر "الصحيحة" (960). (¬4) المائد: هو الذي يُدارُ برأسه من ريح البحر واضطراب السّفينة بالأمواج. "النّهاية". (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2177)، وحسنه شيخنا الألباني -رحمه الله- في "الإرواء" (1194).

في زيادة الأجر للمجاهدين عند الإخفاق:

في زيادة الأجر للمجاهدين (¬1) عند الإخفاق (¬2): عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما مِن غازية تغزو في سبيل الله، فيصيبون غنيمةً؛ إلاَّ تعجَّلوا ثُلُثَي أجرهِم مِن الآخرة، ويبقى لهم الثُّلُث، فإن لم يصيبوا غنيمةً؛ تمَّ لهم أجرهم" (¬3). وفي لفظ: "ما مِن غازية أو سريّة، تغزو فتغنم وتسلم؛ إلاَّ كانوا قد تعجّلوا ثُلُثي أُجورِهم، وما من غازيةٍ أو سريّة تخفق وتُصاب، إلاّ تم أجورهم" (¬4). ظاهر هذا الحديث أنَّ مَن غزا فغنِمَ، نَقَصَ أجرُ جهادِه -كما ذهَب إلى ذلك قوم-، وليس معنى ذلك كذلك عند أهل العلم والتحقيق، بل أجْرُ الجهاد كاملٌ لكلِّ واحدٍ منهم، بفضل الله -تعالى-، وإنّما يفترقون في زيادة الأجر فوق ثوابِ الجهاد؛ فأمّا مَن غَنِم، فقد حَصَل له في الحال من السرور، ونشاط النفس بالظهور والغُنْم، ما يَدْفعُ عنه آثارَ الجهد في الغزو، وتخلّف المال في النفقة، ونحو ذلك ممّا تَفترق فيه حالُه مِنْ حال مَنْ غزا فلم يُصبْ شيئاً، ولا عفَّى على كدِّه ونفقته خَلَفٌ، فلهؤلاء زيادةُ أجرٍ فوق أجر الجهاد، مِن حيثُ تضاعُفِ آثار الجَهدِ والكرب بفوت المغنم، كما يُؤجَر مَن أُصيب بجهدٍ في نفسه، أو تَلفِ شيءٍ مِن ماله، وذلك أنَّ حالهَم بالإضافة إلى مَن غَنِمَ حالُ مَن أُصيب بفوتِ مثل ذلك. ¬

_ (¬1) هذا العنوان وما يتضمنه من "الإنجاد" (1/ 87). بزيادة وتصرُّف. (¬2) قال أهل اللغة: الإخفاق: أن يغزوا فلا يغنموا شيئاً، وكذلك كلّ طالب حاجة إذا لم تحصُل فقد أخفَق، ومنه أخفق الصائد: إذا لم يقع له صيد "شرح النّووي". (¬3) أخرجه مسلم: 1906. (¬4) أخرجه مسلم: 1906.

فعلى نحو هذا تترتَّبُ زيادةُ الأجر لمِن لم يغنم، ويَتَّصِفُ مَنْ غَنِمَ؛ بنقصان الأجر إذا أضيف أجرُه في ذلك؛ إلى الحَظِّ الذي زِيدَ في ثواب مَنْ لم يغنم، والله أعلم. ... وأدلُّ دليلٍ في ذلك وأوضحه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وقد ذكر ما فضَّله الله -تعالى- به، وخصَّه من كَرمِه-: "أُعطيتُ خمساً لم يُعطهنَّ أحدٌ قبلي؛ كان كلُّ نبيٍّ يُبعث إلى قومه خاصَّةً، وبُعثتُ إلى كلِّ أحمر وأسود، وأُحِلَّت لي الغنائم، ولم تَحِلَّ لأحدٍ قبلي" ... الحديث، ثبت في "الصحيحين": البخاري ومسلم (¬1) ". فلو كانت الغنيمة تُحبطُ أجر الجهاد أو تُنْقِصُه، ما كانت فضيلةً، وهذا ظاهر". قلت: إنَّ أَجْر مَن أخفَق ومَنْ غَنِم؛ لا يعلمه إلاَّ الله -تعالى-، وكذا الأجر الكامل وثلثاه، وفي كُلٍّ خيرٌ، وجزالةُ مثوبة، ولكن المراد من الحديث تحفيز هِمّةِ مَن لم يغنَموا؛ بما لهم عند الله -تعالى-؛ فحين يَعْلَم مَن أخفَق أَنَّ له ما هو أفضل من الغنيمة -وهو الأجر المُدَّخَرُ عند الله تعالى-؛ كان ذلك سبيلاً للمزيد مِن الصبر والاحتساب. وفي مِثل هذا قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَيَوَدَّنَّ أهل العافية يومَ القيامة؛ أنَّ جلودهم قُرضت بالمقاريض؛ مما يَرَوْن مِن ثواب أهل البلاء" (¬2). وعن أبي سعيد -رضي الله عنه-: "أنّه دخَل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مَوْعوكٌ عليه قَطيفَةٌ، فوضَع يدَه فَوْقَ القَطيفَةِ، فقال: ما أشَدَّ حُمَّاك يا رسول الله! ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 335، 438، ومسلم: 521. (¬2) أخرجه الترمذي، وغيره، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2206).

قال: إنا كذلك يُشَدَّدُ علينا البَلاءُ، ويضاعَفُ لنا الأجْرُ. ثمّ قال: يا رسول الله! مَنْ أشدُّ الناس بلاءً؟ قال: الأنبياءُ. قال؛ ثمّ مَن؟ قال: العُلماءُ. قال: ثمّ مَنْ؟ قال: الصالحِونَ، وكان أحدُهم يُبتلى بالقَمْلِ حتى يَقْتُلَه، ويُبْتلى أحدُهم بالفقر حتى ما يجدَ إلاَّ العباءةَ يلبَسُها، ولأَحدُهم كان أشدَّ فَرَحاً بالبلاءِ مِنْ أحدِكُم بالعطاء" (¬1). والشاهد فيه: "إنَّا كذلك يُشدَّد علينا البلاء، ويُضاعف لنا الأجر". فإذا قُلنا إنَّ الإخفاق مِن البلاء، فإنَّ فيه زيادةَ الأجر والثواب. والله -تعالى- أعلم بالصواب. قال الإمام النّووي -رحمه الله- في "شرحه" (13/ 52): "وأمّا معنى الحديث: فالصواب الذي لا يجوز غيره، أنَّ الغزاة إذا سَلِموا أو غنموا؛ يكون أجْرُهم أقلّ مِن أجرِ مَن لم يَسلَم أو سَلِم ولم يَغنم، وأنّ الغنيمة هي في مقابلة جُزءٍ مِنْ أجرِ غزوهم، فإذا حَصَلَت لهم فقد تعجَّلوا ثُلُثي أجرِهم المترَتِّب على الغزو، وتكون هذه الغنيمة مِنْ جملة الأجر، وهذا موافق للأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة كقوله: "مِنَّا مَن مات ولم يأكل مِن أجرِه شيئاً، ومِنَّا من أينعَت له ثمرتُه فهو يهدبها " أي: يجتنيها. فهذا الذي ذَكَرْنا هو الصواب، وهو ظاهر الحديث ولم يأتِ حديث صريح صحيح يخالِفُ هذا؛ فتعيَّن حَمْلُه على ما ذَكَرنا ... ". قلت: وكلام الإمام النّووي -رحمه الله- هو الأرجح لدلالة النصوص على ذلك، ويؤيد هذا ما ثبَت عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها قالت: "أُهْدِيَتْ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه، وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (3403).

هل يسلم المجاهد نفسه للأسر؟

لرسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاةٌ، قال: اقْسِميها، فكانت عائشةُ إذا رَجَعَتِ الخادِمُ تقولُ: ما قالوا؟ تقولُ الخادم: قالوا: بارَكَ الله فيكُم، فتقول عائشةُ: وفيهِمْ بارَكَ الله، نرُدُّ عليهم مثلَ ما قالوا، ويبقى أجْرُنا لنا" (¬1). هل يسلم المجاهد نفسه للأسر (¬2)؟ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشَرَة رهطٍ (¬3) سريّةً عيناً، وأمَّرَ عليهم عاصمَ بنَ ثابت الأنصاري -جدَّ عاصم بن عمر بن الخطاب- فانطلقوا، حتى إذا كانوا بالهَدَأَة -وهو بين عُسْفَانَ ومكة- ذُكِروا لحِيٍّ من هُذَيْلٍ، يقال لهم بنو لِحْيَانَ (¬4)، فَنَفروا لهم قريباً من مائتي رجل كلُّهم رامٍ، فاقْتصُّوا آثارَهم حتى وجدوا مأكلهم تمراً، تَزَوَّدوه مِن المدينة، فقالوا: هذا تمرُ يثرب. فاقتصُّوا (¬5) آثارهم، فلمّا رآهم عاصمٌ وأصحابُه لجئوا إلى فَدْفَدٍ (¬6)، وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزِلوا وأعطونا بأيديكم، ولكم العهدُ والميثاقُ ولا نَقْتُل ¬

_ (¬1) أخرجه ابن السني من طريق النسائي بسند جيِّد، وانظر "الكَلِم الطيب" (238). (¬2) هذا العنوان مُقتبس من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 170). (¬3) الرهط مِن الرجال ما دون العشرة، وقيل إلى أربعين، ولا يكون فيهم امرأة، ولا واحدَ له من لفظه. "عمدة القاري" (14/ 291). (¬4) بكسر اللام، وقيل بفتحها. (¬5) أي: اتَّبَعوها. (¬6) قال الحافظ -رحمه الله-: "هي الرابية المشرِفة، قال ابن الأثير: هو الموضع المرتفِع، ويُقال الأرض المستوية، والأول أصحّ".

منكم أحداً. فقال عاصم بن ثابت -أمير السريّة-: أمّا أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمّة كافر، اللهم أخبر عنّا نبيّك، فرموهم بالنَّبْل، فقتلوا عاصماً في سبعة، فنزَلَ إليهم ثلاثة رهطٍ بالعهد والميثاق، منهم خُبَيْبٌ الأنصاريّ، وابن دَثِنَةَ ورجلٌ آخر، فلمّا استمكنوا منهم أطلقوا أوتارَ قِسِيِّهم (¬1) فأوثقوهم. فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبُكم، إنّ لي في هؤلاء لأُسوةً -يريد القتلى- فجرّروه وعالجوه على أن يصحبَهم فأبى، فقتلوه، فانطلقوا بخبيب وابن دَثِنة؛ حتى باعوهما بمكّة بعد وقعة بدرٍ، فابتاع خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيبٌ هو قَتَل الحارث بن عامر يوم بدرٍ، فلبِثَ خبيبٌ عندهم أسيراً. فأخبرني عبيد الله بن عِياض أنّ بنت الحارث أخبرته أنّهم حين اجتمعوا؛ استعار منها موسى يَسْتَحِدُّ بها (¬2) فأعارته، فأخذ ابناً لي وأنا غافلةٌ حين أتاه. قالت: فوجدته مُجْلِسَه على فخذه والموسى بيده، ففزعْت فزعةً عَرفها خبيب في وجهي، فقال: تخشَيْن أنْ أقتلَه؟ ما كنت لأفعل ذلك. والله ما رأيت أسيراً قطُّ خيراً من خبيب، والله لقد وجدتُه يوماً يأكل من قِطْف عِنَبٍ في يده، وإنّه لموثَقٌ في الحديد وما بمكَّةَ مِن ثمر. وكانت تقول إنّه لَرِزق من الله رَزَقَه خُبيباً. ¬

_ (¬1) جمع قوس. (¬2) يستحِدُّ بها: مِن الاستحداد، وهو حلْق شعر العانة، وهو استفعال مِن الحديد. "عمدة القاري".

فلمّا خرجوا مِن الحرَم ليقتلوه في الحِلِّ، قال لهم خُبَيب: ذروني أركعْ ركعتين، فتركوه فركَع ركعتين ثمّ قال: لولا أنْ تظنّوا أنّ ما بي جَزَع (¬1) لطوّلتُها، اللهم أحْصِهِم عَدَداً (¬2). ولست أبالي حين أُقْتَلُ مسلماً ... على أي شِقٍّ كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإنْ يَشَأْ ... يُبارِك على أوصال (¬3) شِلْوٍ (¬4) مُمَزَّعِ (¬5) فقتَله ابن الحارث، فكان خبيبٌ هو سنَّ الركعتين لكل امرئ مُسْلم قُتِلَ صَبْراً (¬6)، فاستجاب الله لعاصم بن ثابتٍ يوم أصيب. فأخبَر النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابَه خَبَرهم وما أُصِيبُوا، وبعَث ناسٌ من كُفّار قريش إلى عاصم حين حُدِّثوا أنّه قُتِل ليُؤْتَوا بشيء منه يُعْرَفُ، وكان قد قتل رجلاً مِن عظمائهم يوم بدر، فبُعِث على عاصمٍ مِثْلُ الظُّلّة (¬7) مِن الدَّبْرِ (¬8) فَحَمَتْه (¬9) من رسولهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا ¬

_ (¬1) الجزع: نقيض الصبر. (¬2) دعا عليهم بالهلاك استِئصالاً، أي: لا تُبْقِ منهم أحَداً. "عمدة القاري". (¬3) الأوصال: جَمْع وَصل، وهو العضو. (¬4) الشِّلو -بكسر المعجمة-: الجسد، وقد يطلق على العضو، ولكن المراد به هنا الجسد. (¬5) الممزَّع: المُقطَّع. (¬6) قال في "النّهاية": " ... وكلّ من قُتل في غير معركة، ولا حَرْب، ولا خطأ، فإنه مقتولٌ صبراً". (¬7) الظُلَّة: السَّحابة. (¬8) الدَّبر -بفتح المهملة وسكون الموحَّدة-: الزنانبير، وقيل ذكور النحل، ولا واحد له من لفظه. "الفتح". (¬9) مَنَعتْه منهم.

من ركع ركعتين عند القتل

مِنْ لحمه شيئاً" (¬1) قال العلامة العيني -رحمه الله- في "عمدة القاري" (14/ 294): "في نزول خُبَيبٍ وصاحبِه، جواز أن يَسْتأْسر الرجل (¬2). قال المهلَّب: إذا أراد أن يأخذ بالرخصة في إحياء نفسه؛ فعَل كفِعل هؤلاء، وعن الحَسن لا بأس أن يَستأسِر الرجَل إذا خاف أن يُغلَب. وقال الثوريُّ: أكره للأسير المسلم؛ أن يُمكِّن مِن نفسه إلاَّ مجبوراً، وعن الأوزاعي: لا بأس للأسير المسلم أن يأبى أن يُمكِّن مِن نفسه، بل يأخذ بالشدة والإِباء مِن الأسر والأَنَفة؛ من أن يجري عليه مَلِكٌ كافر -كما فعَل عاصم-". قلت: والأسير هو الذي يرجِّح مصلحته، ويُقرّر أمْرَه، بحسب يقينه وعزمه وما يشاهده، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس الخبر كالمعاينة" (¬3). من ركع ركعتين عند القتل للحديث المتقدم وفيه: "فلمّا خرجوا مِن الحرَم ليقتلوه في الحِلِّ، قال لهم خُبَيب: ذروني أركعْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3045، 3989، 4086. (¬2) أي: يُسْلِم نفسه للأسر. (¬3) أخرجه أحمد وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "تخريج الطحاوية" برقم (401)، وقال شيخنا -رحمه الله- في "هداية الرواة" (5670): "حديث صحيح، صحَّحه ابن حبان وكذا صحَّحه الحاكم ووافقه الذهبي".

استقبال الغزاة

ركعتين، فتركوه فركَع ركعتين ثمّ قال: لولا أنْ تظنّوا أنّ ما بي جَزَع لطوّلتُها، اللهم أحْصِهِم عَدَداً. ولست أبالي حين أُقْتَلُ مسلماً ... على أي شِقٍّ كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإنْ يَشَأْ ... يُبارِك على أوصال شِلْوٍ مُمَزَّعِ فقتَله ابن الحارث، فكان خبيبٌ هو سنَّ الركعتين لكل امرئ مُسْلم قُتِلَ صَبْراً". استقبال الغزاة (¬1) عن ابن أبي مُليكة قال: قال ابن الزبير لابن جعفر -رضي الله عنهم-: أتذكر إذ تلقّينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وأنت وابن عبّاس؟ قال: نعم، فحَمَلَنا وترَكَك" (¬2). وعن السائب بن يزيد -رضي الله عنه- قال: "أَذْكُرُ أني خَرجْتُ مع الغِلمان إلى ثنيّة الوداع؛ نتلقّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). مراسلة المجاهدين والديهم وأهليهم يُشرَع للمجاهدين مراسلةُ، والدِيهم وأهلِيهم، لتذكيرِهم بالله، وطَلَبِ الدعاء منهم. ¬

_ (¬1) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد والسِّير) (باب - 196). (¬2) أخرجه البخاري: 3082، ومسلم: 2427. (¬3) أخرجه البخاري: 3083، 4426.

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إني لأرى لجِواب الكتاب حقّاً كردِّ السلام" (¬1). وجاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 48) -بحذف-: "مِنْ أحمدَ بن تيمية إلى الوالدة السعيدة، أقرَّ الله عينيها بنعمه، وأسبَغ عليها جزيل كَرَمِه، وجعَلَها مِن خِيار إمائه وخَدَمِه. سلام الله عليكم، ورحمة الله وبركاته. فإنَّا نَحْمَد إليكم الله الذي لا إله إلاَّ هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. ونسأله أن يصلّيَّ على خاتَم النبيين، وإمام المتقين، محمّدٍ عبدِه ورسولِه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً-. كتابي إليكم عن نِعَمٍ مِن الله عظيمة، ومنَنٍ كريمة، وآلاء جسيمة نشكُر الله عليها، ونسأله المزيد مِنْ فضله، ونِعَمُ الله كلَّما جاءت في نموٍّ وازدياد، وأياديه جلَّت عن التعداد، وتعلمون أنّ مقامنا الساعة في هذه البلاد، إنّما هو لأمورٍ ضرورية؛ متى أهملناها فسَد علينا أمْر الدين والدنيا. ولسنا والله مختارين للبعد عنكم، ولو حَمَلَتْنا الطيور لسِرنا إليكم، ولكن الغائب عذره معه، وأنتم لو اطلعتم على باطن الأمور، فإنّكم -ولله الحمد- ما تختارون الساعة إلاَّ ذلك، ولم نعزِم على المقام والاستيطان شهراً واحداً، بل كلّ يوم نستخير الله لنا ولكم، وادعوا لنا بالخِيَرة (¬2)، فنسأل الله العظيم أن يَخيرَ لنا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" انظر "صحيح الأدب المفرد" (850). (¬2) انظر -إن شئت- لمعرفة الفَرقَ بين الخِيْرة -بسكون الياء- والخِيَرة: -بفتح الياء "النّهاية" (باب الخاء مع الياء) كلمة (خير).

انتهاء الحرب

ولكم وللمسلمين ما فيه الخِيَرة، في خيرٍ وعافية. ومع هذا فقد فتَح الله مِن أبواب الخير والرحمة، والهداية والبركة، ما لم يكن يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، ونحن في كل وقت مهمومون بالسفر، مستخيرون الله -سبحانه وتعالى-. فلا يظنّ الظانُّ أنّا نُؤثِر على قُربكم شيئاً مِن أمور الدنيا قطّ، بل ولا نُؤْثِر مِن أمور الدين ما يكون قربكم أرجح منه، ولكن ثَمّ أمورٌ كِبار، نخاف الضرر الخاصّ والعامّ مِن إهمالها. والشاهد يرى ما لا يرى الغائب. والمطلوب، كثرةُ الدعاء بالخِيرَة، فإنّ الله يَعلم، ولا نعلم ويَقْدِر ولا نَقْدِر. وهو علّام الغيوب. والتاجر يكون مسافراً فيخاف ضياعَ بعضِ مالِه فيحتاج أن يقيمَ حتى يستوفيَه، وما نحن فيه أمْر يَجِلّ عن الوصف، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته كثيراً كثيراً، وعلى سائِر مَنْ في البيت مِن الكبار والصغار، وسائِر الجيران والأهل والأصحابِ واحداً واحداً، والحمد لله رب العالمين. وصَلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلَّم تسليماً". انتهاء الحرب (¬1) تنتهي الحرب بأحد الأمور الآتية: 1 - إسلامِ المحاربين أو إسلامِ بعضهم، ودخولِهم في دين الله، وفي هذه الحال يُصبحون مسلمين، ويكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم مِن ¬

_ (¬1) عن "فِقه السنة" (3/ 442) بتصرف.

لا يجوز نزع ثياب الشهيد التي قتل فيها

الحقوق والواجبات. 2 - طلَبِهم إيقافَ القتالِ مدة مُعيَّنة، وحينئذٍ يُحقق القائد الاستجابة إلى ما طلَبوا، [إنْ رأى المصلحة في ذلك] كما فعَل ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صُلح الحديبية. 3 - رغبتِهم في أن يبقوا على دينهم، مع دفْع الجزية، ويتمّ بمقتضى هذا عقد الذّمة بينهم وبين المسلمين. 4 - هزيمتِهم، وظَفَرِنا بهم، وانتصارِنا عليهم، وبهذا يكونون غنيمةً للمسلمين. 5 - وقد يحدُث أن يطلب بعض المحاربين الأمان (¬1)، فيُجاب إلى ما طلَب، وكذلك إذا طلَب الدخول في دار الإسلام. لا يجوزُ نزْعُ ثيابِ الشهيد التي قُتل فيها (¬2) لا يجوز نزْعُ ثيابِ الشهيدِ التي قُتل فيها، بل يُدفن وهي عليه لقولهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قتلى أُحُد: "زمِّلوهم في ثيابهم" (¬3)، وفي رواية له: "زمِّلوهم بدمائهم" (¬4). استحبابُ تكفين الشهيد بثوبٍ واحدٍ أو أكثر فوق ثيابهِ (2) يُستحبُّ تكفينُ الشّهيد بثوبٍ واحدٍ أو أكثر فوقَ ثيابهِ. ¬

_ (¬1) وله شروطه وضوابطه، وسيأتي بإذن الله -تعالى-. (¬2) انظر "أحكام الجنائز" (ص 80). (¬3) أخرجه أحمد، وانظر أحكام الجنائز (ص 80). (¬4) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1892)، وانظر أحكام الجنائز (ص 80).

فعن شَدّاد بن الهاد: "أن رجلاً من الأعراب، جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فآمن به واتَّبعَه، ثمّ قال: أُهاجرُ معك، فأوصى به النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعضَ أصحابه، فلمّا كانت غزوة [خَيْبرَ] غَنِمَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فيها] شيئاً، فَقَسم، وَقَسَمَ له، فأعطى أصحابه ما قَسَم له، وكان يرعى ظَهْرَهم، فلمّا جاءهم دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قَسَمَ لك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فأخذه فجاء به إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما هذا؟ قال: قَسَمْتُه لك، قال: ما على هذا اتَّبعْتُك، ولكن اتَّبعْتُك على أن أرمى إلى هاهنا -وأشار إلى حَلْقهِ- بسهمٍ فأموتَ، فأدخلَ الجنة، فقال: إن تَصدُقِ الله يَصْدُقْك. فَلَبِثُوا قليلاً، ثمّ نهَضُوا في قتال العَدُوِّ، فأُتي به النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْمَل، قد أصابه سهمٌ حيث أشار، فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدَق الله فصدَقَه. ثمّ كفَّنه النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جُبَّةِ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ قدَّمه فصلَّى عليه، فكان فيما ظَهرَ مِن صلاتِهِ: اللهمَّ هذا عبدك، خرج مهاجراً في سبيلك، فقُتِل شهيداً، أنا شهيدٌ على ذلك" (¬1). وعن الزُّبَير بن العَوّام -رضي الله عنه- قال: "لمّا كان يومُ أُحُد؛ أقبَلتِ امرأةٌ تسعى، حتى إذا كادت أن تُشرِف على القتلى، قال: فَكرِهَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تَراهم، فقال: المرأةَ المرأةَ! قال: فتوسَّمْتُ أنها أمّي صفيّةُ، فخرجْتُ أسعى إليها، فأدْركْتُها قبل أن ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1845) والحاكم وغيرهم وصححه شيخنا رحمه الله في "أحكام الجنائز" (ص 81).

لا يشرع غسل الشهيد قتيل المعركة ولو كان جنبا

تنتهيَ إلى القتلى، قال: فَلَدَمَتْ (¬1) في صدري، وكانت امرأةً جَلْدةً، قالت: إليك لا أرضَ لك، فقلتُ: إن رسولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَزَمَ عليك، فَوقَفتْ، وأخرجَتْ ثوبين معها، فقالت: هذان ثوبانِ جئتُ بهما لأخي حمزَةَ، فقد بلغني مقتلُه، فكفِّنْهُ فيهما. قال؛ فجئنا بالثوبين لِنُكفِّن فيهما حمزة، فإذا إلى جَنْبهِ رجلٌ من الأنصار قتيل، قد فُعل بهِ كما فُعل بحمزة، فوجدنا غضاضةً (¬2) وحياءً، أن نُكفِّنَ حمزةَ في ثوبين، والأنصاريُّ لا كَفنَ له، فقلنا: لحمزةَ ثوبٌ، وللأنصاريِّ ثوبٌ، فقدَّرناهما فكان أحدُهما أكبرَ مِن الآخر، فأقْرَعْنا بينهما، فكفَّنّا كلَّ واحدٍ منهما في الثوبِ الذي صار له" (¬3). لا يُشْرَعُ غَسْلُ الشهيد قتيلِ المعركة ولو كان جُنُباً (¬4) لا يُشْرع غسْل الشهيد قتيل المعركة، ولو كان جُنُباً، وفي ذلك أحاديث: الأول: عن جابرٍ قال: "قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ادفنوهم في دمائهم -يعني يوم أحد- ولم يَغْسِلْهم" (¬5). ¬

_ (¬1) أي: ضربت ودفعت. (¬2) الغضاضة: العيب والمنقصة. (¬3) أخرجه أحمد -والسياق له بسند حسَن- والبيهقي وسنده صحيح وانظر "أحكام الجنائز" (ص 81). (¬4) انظر "أحكام الجنائز" (ص 72). (¬5) أخرجه البخاري: 1346. وفي رواية "وقال: أنا شهيدٌ على هؤلاء، وأمَر بدفنهم بدمائهم، ولم يُصلِّ عليهم، ولم يُغسّلهم"، البخاري: 1347.

وفي رواية: فقال: "أنا شهيدٌ على هؤلاء، لُفُّوهم في دمائهم، فإنه ليس جريح يُجرح [في الله] إلاَّ جاء وجرحه يوم القيامة يدْمي، لونُه لونُ الدم، وريحهُ ريحُ المسك" (¬1). وفي رواية: "لا تغْسِلوهم، فإنّ كلّ جرحٍ يفوح مِسْكاً يوم القيامة، ولم يُصلِّ عليهم" (¬2). الثاني: عن أبي بَرْزَةَ -رضي الله عنه-: "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في مغْزىً له، فأفاءَ اللهُ عليه، فقال لأصحابه: هل تفقدون مِن أحدٍ؟ قالوا: نعم، فلاناً، وفلاناً، وفلاناً. ثمّ قال: هل تفْقِدون مِن أحدٍ؟ قالوا: لا: قال: لكني أفقد جُليْبِيباً، فاطلُبوه. فطُلب في القتلى، فوجدوه إلى جَنْبِ سبعةٍ قد قَتَلهم، ثمّ قتلوه! فأتى النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوقفَ عليه فقال: قَتَلَ سبعةً ثم قَتَلوه! هذا منِّي، وأنا منه، هذا منِّي، وأنا منه، قال: فَوَضَعه على ساعِدِيْه، ليس له إلاّ ساعدا (¬3) النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فحُفر له ووُضِع في قبره، ولم يَذْكُر غَسْلاً" (¬4). الثالث: عن أنس: "أنّ شهداء أُحُد لم يُغَسَّلوا، ودُفنوا بدمائهم، ولم يصلِّ ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" وابن أبي شيبة في "المصنف" وغيرهما وانظر "أحكام الجنائز"، (ص 72). (¬2) أخرجه أحمد في "المسند" وغيره وصححه شيخنا -رحمه الله- في: الإرواء" (3/ 164). (¬3) أي: لم يكن له سرير إلاَّ ساعدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي رواية ثابتة، انظر "أحكام الجنائز" (ص 73). (¬4) أخرجه مسلم: 2472.

عليهم [غير حمزة] " (¬1). الرابع: عن عبد الله بن الزُّبير في قصة أُحُدٍ واستشهاد حنظلَة بن أبي عامر، قال: "فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّ صاحِبَكم تَغسِلُه الملائكةُ، فاسألوا صاحِبَتَه، فقالت: خَرَجَ وهو جُنُبٌ لمّا سَمِع الهائعة (¬2)، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لذلك غسَّلتْهُ الملائكة" (¬3). الخامس: عن ابن عباس قال: "أصيبَ حمزةُ بن عبد المطّلب، وحنظلةُ بن الراهب، وهما جُنُبٌ (¬4)، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رأيتُ الملائكةَ تُغَسِّلُهما" (¬5). قال شيخنا -رحمه الله - في "أحكام الجنائز" (ص 75): "واعلم أن وجه دلالة الحديث على عدم مشروعية غَسْل الشهيد الجنبِ؛ هو ما ذكَره الشافعيةُ وغيرهُم؛ أنّه لو كان واجباً لما سَقَطَ بغسل الملائكةِ، ولأَمرَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغسلِه، لأنّ المقصودَ منه تعبُّدُ الآدمى به، انظر "المجموع" (5/ 263) و"نيل الأوطار" (4/ 26) ". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والزيادة له وللحاكم والترمذي وحسّنه، وغيرهم وانظر "أحكام الجنائز" (ص 73). (¬2) هو الصوتُ الذي تفْزَعُ منه، وتخافه من عدوّ. "النّهاية". (¬3) أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم، والبيهقي بإسناد جيد، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 74). (¬4) كذا في "السنن والآثار" للبيهقي، وفي "معجم الطبرانيّ الكبير" "جُنُبان". (¬5) أخرجه الطبرانيّ في "الكبير" وإسناده حسنٌ، كما قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 23). وانظر "أحكام الجنائز"، (ص 75).

أين يدفن الشهيد

أين يُدفن الشهيد (¬1) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- "أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَر بقتلى أُحُد؛ أن يُرَدّوا إلى مصارعهم، وكانوا قد نُقِلوا إلى المدينة" (¬2). عن نُبيح العَنَزي، عن جابر: أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ادْفِنُوا القتْلَى في مَصَارعِهِمْ" (¬3). دفنْ أكثر من شهيد في قبر واحد إذا كَثُر القتلى عن هشام بن عَامِرٍ، قال: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ الله الحْفْرُ عَلَيْنَا لِكُلِّ إِنْسَانٍ شَدِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احْفِرُوا، وَأَعْمِقُوا، وَأَحْسِنُوا، وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثلَاثَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، قَالُوا: فَمَنْ نُقَدِّمُ يَا رَسُولَ الله؛ قَالَ: قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآناً، قَالَ: فَكَانَ أَبي ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ، فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ" (¬4). وقال الإمام البخاري -رحمه الله- (باب دفْنِ الرجلين والثلاثة في قبرٍ) (¬5) ثمّ ذكر حديث جابر -رضي الله عنه-: "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع بين الرجلين من ¬

_ (¬1) هذا العنوان من سنن النسائي "صحيح سنن النسائي" (2/ 431) (¬2) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1893). (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1894)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1230). (¬4) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي، (1899)، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2754)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1400)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1266). (¬5) انظر "صحيح البخاري" كتاب الجنائز (باب - 73).

من غلب العدو فأقام على عرصتهم ثلاثا

قتلى أُحد" (¬1). من غَلب العدوّ فأقام على عرْصتهم (¬2) ثلاثاً (¬3) عن قتادةَ قال: "ذكَر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة -رضي الله عنهما- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه كان إذا ظهَر على قوم، أقام بالعَرْصة ثلاثَ ليال" (¬4). ما يقول إذا رجع من الغزو (¬5) عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قَفَل (¬6) مِن غزوٍ أو حجٍّ أو عُمرة؛ يُكبّر على كل شَرَف (¬7) مِن الأرض ثلاث تكبيرات، ثمّ يقول: لا إله إلاَّ الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، آيبون (¬8) تائبون عابِدون ساجدون لربنا حامدون، صدَق الله ¬

_ (¬1) انظر "صحيح البخاري": 1345. (¬2) العَرْصة: هي البقعة الواسعة بغير بناء، من دارٍ وغيرها. "الفتح". (¬3) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 185)، وجاء في تبويب "صحيح ابن حبان" نحوه بزيادة: "إذا لم يكن يخاف على المسلمين فيه". انظر "التعليقات الحِسان" (7/ 151). (¬4) أخرجه البخاري: 3065، ومسلم: 2875. (¬5) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 97). (¬6) قفَل: أي رَجع. (¬7) شَرَف: الموضع العالي الذي يُشرِف على ما حولَه. (¬8) آيبون: راجعون.

إذا قدم الإمام أو القائد من الغزو يبدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين

وعدَه (¬1)، ونصَر عبدَه، وهزَم الأحزاب وحده (¬2) " (¬3). إذا قَدِمَ الإمام أو القائد مِن الغزو يبدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين عن كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال: " ... وصبَّح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قادماً، وكان إذا قَدِم مِن سفرٍ (¬4) بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثمّ جَلَس للناس" (¬5). مراجعة الإمام أو القائد مَن تخلّف من الغزو والقتال في الحديث المتقدّم: "ثمّ جلَس للناس، فلمّا فَعل ذلك جاءه المخلَّفون، فطفِقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً، فقَبِل منهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علانِيَّتَهم وبايعَهَم واستغَفَر لهم وَوَكَل سرائرهم إلى الله، فجئتُه (¬6) فلمّا سلّمتُ عليه تبسَّم تبسُّم المُغضَب، ثمّ قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي: ما خلَّفَك؟ ألم تكن قد ابتعتَ ظهرك؟ ... " (¬7). ¬

_ (¬1) أي صدَق وَعْدَه في إظهار الدين، وكون العاقبة للمتقين، وغير ذلك من وعْدِه -سبحانه-. "شرح النّووي". (¬2) وهزم الأحزاب وحده: أي: مِن غير قتال من الآدميين، والمُراد بالأحزاب: الذين اجتمعوا يوم الخندق، وتحزّبوا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأرسَل الله عليهم ريحاً وجنوداً لم يَروها. (¬3) أخرجه البخاري: 1979 واللفظ له، ومسلم: 1344. (¬4) هكذا ورَد في السَّفَر، وهو أعمّ مِن الغزو في مفارقة الوطن، وقد ورَد هذا السياق في غزوة تبوك في قصة توبة كعب بن مالك وصاحبيه -رضي الله عنهم-. (¬5) أخرجه البخاري: 4418، أخرجه مسلم: 2769. (¬6) أي كعب بن مالك. (¬7) أخرجه البخاري: 4418، ومسلم: 2769.

قتال الإمام مانعي الزكاة

قتال الإمام مانعي الزكاة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لمّا تُوفّيَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستُخلِف أبو بكر بعده، وكفَر مَن كفَر من العرب؛ قال عمر لأبي بكر: كيف تُقاتل النّاس وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُمِرتُ أنْ أقاتِل النّاس حتى يقولوا لا إله إلاَّ الله، فمَن قال: لا إله إلاَّ الله عَصَمَ مني ماله ونفسه إلاَّ بحقّه، وحسابهُ على الله، فقال: والله لأُقاتلنّ مَن فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإنّ الزكاة حقُّ المال، والله لو منعوني عِقالاً (¬1) كانوا يؤدّونه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتَلْتُهم على مَنْعِه. فقال عمر: فوالله ما هو إلاَّ أنْ رأيتُ الله قد شَرح صدْرَ أبي بكر للقتال، فعرفْتُ أنّه الحقّ، قال ابن بكير وعبد الله عن الليث: عَناقاً؛ وهو أصح" (¬2). قتل الجاسوس (¬3) عن سلمةَ بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: "أتى النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عينٌ من المشركين وهو في سفر، فجلَس عند أصحابه يتحدث ثمّ انفَتَل، فقال: النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اطلبوه واقتلوه، فقَتَله فنفَّله سَلَبَه" (¬4). وهذا ما يتعلّق الجاسوس الحربيّ، وأمّا المعاهَد والذمّي؛ فقال مالك ¬

_ (¬1) قال الإمام النّووي -رحمه الله-: "هكذا في مسلم عِقالاً، وكذا في بعض روايات البخاري وفي بعضها (عَنَاقا) بفتح العين وبالنون وهي الأنثى مِن ولد المعز، وكلاهما صحيح". والعقال: الذي يُعقل به البعير. (¬2) أخرجه البخاري: 7284، 7285، ومسلم: 20. (¬3) عن "الروضة الندية" (2/ 752) بتصرفٍ يسير. (¬4) أخرجه البخاري: 3051، ومسلم مُطولاً: 1754.

في حكم قتل الجاسوس إذا كان مسلما

والأوزاعي: ينتقض عهده بذلك. وعن فرات بن حيّان أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَرَ بقتله -وكان عيناً لأبي سفيان، وحليفاً لرجُل مِن الأنصار-، فمرّ بحلقة من الأنصار، فقال: إنّي مسلم، فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله إنه يقول إنّى مُسلم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنّ منكم رجالاً نَكِلُهم إلى إيمانهم؛ منهم فُراتُ بنُ حيان (¬1) " (¬2). في حُكم قتل الجاسوس إذا كان مُسلماً فيه الحديث المتقدّم في شأن فُرات بن حيّان. وعن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "بعثَني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا والزبيرَ والمقدادَ ¬

_ (¬1) فُرات بن حَيان بن ثعلبة بن عبد العزى بن حبيب بن حية بن ربيعة بن صعب بن عجل بن لجيم الربعي اليشكري ثمّ العجلي حليف بني سهم ... قال البخاري: وتَبِعَه أبو حاتم، كان هاجَر إلى النبي -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم-، زاد أبو حاتم أنّه كوفي، وقال البغوي: سكن الكوفة، وابتنى بها داراً، وله عقب بالكوفة، وأقطعه أرضاً بالبحرين. وقال ابن السكن: له صُحبة وذكَره ابن سعد في طبقة أهل الخندق وقال نزَل الكوفة، روى عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "إنّ منكم رجالاً نَكِلُهم إلى إيمانهم؛ منهم فرات بن حيان". أخرجه أبو داود والبخاري في "التاريخ" وفيه قصّةٌ. وروى عنه حارثة بن مضرب، وقيس بن زهير، والحسن البصريّ، وكان عيناً لأبي سفيان في حروبه، ثمّ أسلَم، فحسُن إسلامه، وقال المرزباني كان ممن هجا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمّ مدَحه فقَبِل مدْحه. (¬2) أخرجه البخاري في "التاريخ" وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2310) والحاكم وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (1701).

ابنَ الأسودِ، وقال: انطلِقوا حتى تأتوا روضة خاخ (¬1) فإنّ بها ظعينةً (¬2) ومعها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تَعادَى (¬3) بنا خيلنا؛ حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أَخْرجي الكتاب، فقالت: ما معي مِن كتاب، فقلنا: لتُخْرِجِنّ الكتاب أو لنُلقينّ الثياب، فأخرَجَتْه مِن عِقاصها (¬4). فأتينا به رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا فيه: من حاطب بن أبي بَلْتَعة إلى أناسٍ مِن المشركين مِن أهل مكة؛ يُخبِرهم ببعض أمْرِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله لا تعجَلْ عليّ، إنّي كنتُ امرَءاً مُلصَقاً في قريش، ولم أكن مِن أنفُسِها وكان مَن معك مِن المهاجرين لهم قَرابات بمكّة؛ يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببتُ إذ فاتني ذلك مِن النَّسَب فيهم؛ أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلتُ كُفراً ولا ارتداداً، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقد صدَقكم. فقال عمرُ: يا رسولَ الله دعني أضربْ عُنُقَ هذا المنافق، قال: إنه قد شهِد بدراً، وما يدريك لعلّ الله أن يكون قد اطَّلَع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرْتُ لكم" (¬5). قال ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (3/ 115): "فاستدلَّ به مَن لا ¬

_ (¬1) موضع بين مكّة والمدينة. (¬2) الظعينة: هنا الجارية، وأصلها الهودج، وسُميّت بها الجارية لأنها تكون فيه. "شرح النّووي". (¬3) أي: تجري. (¬4) أي: شعرها المضفور، وهو جمع عقيصة "شرح النّووي". (¬5) أخرجه البخاري: 3007، 3081 ومواطن أخرى، ومسلم: 2494.

يرى قَتْل المسلم الجاسوس؛ كالشافعي وأحمد، وأبي حنيفة -رحمهم الله- واستدل به من يرى قَتْلَه؛ كمالك، وابن عقيل من أصحاب أحمد -رحمه الله- وغيرهما. قالوا: لأنه علّل بعلّة مانعةٍ من القتل، منتفية في غيره (¬1)، ولو كان الإسلام مانعاً من قَتْله؛ لم يُعلّل بأخص منه (¬2)، لأن الحكم إذا علّل بالأعم (¬3) كان الأخص (¬4) عديم التأثير وهذا أقوى. والله أعلم". وقال -رحمه الله أيضاً- (ص 422): "وفيها (¬5) جواز قَتْل الجاسوس -وإنْ كان مُسلِماً- لأن عمر -رضي الله عنه- سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْل حاطب بن أبي بلتعة، لمّا بعَث يُخبر أهل مكة بالخبر، ولم يَقُل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يحلّ قتلُه إنه مسلم، بل قال وما يدريك لعل الله قد اطلَع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم. فأجاب بأنّ فيه مانعاً مِنْ قَتْله وهو شهودُه بدراً، وفي الجواب بهذا؛ كالتنبيه على جواز قَتْل جاسوسٍ ليس له مِثل هذا المانع. وهذا مذهب مالك، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يُقتَل وهو ظاهر مذهبِ أحمد والفريقان يحتجّون بقصة حاطب. والصحيح أن قَتْله راجع إلى رأي الامام فإنْ رأى في قَتْله مصلحة ¬

_ (¬1) وهي شهود بدر. (¬2) أي لو كان الإسلام مانعاً مِن قتله؛ فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعلّل عدم الإذن بقتله؛ لكونهِ من أهل بدر، بل لإسلامه فحسب. (¬3) وهو الإسلام هنا. (¬4) وهو شهود بدر هنا. (¬5) أي في قصة فتح مكة.

من قفز من عسكر المسلمين إلى عسكر الكفار

للمسلمين، قَتله وإن كان استبقاؤه أصلح استبقاه، والله أعلم". وأشار إلى هذا شيخنا -رحمه الله- في "التعليقات الرضيّة" (3/ 477). قلت: والذي يبدو لي أنّ هذا يتعلّق بدراسةِ سببِ فِعْل هذا الجاسوس، والنظر فيما إذا كانت ثمّه قرائن تدلّ على توبته، ففي قصة حاطب -رضي الله عنه- ظَهَر سبب انجراره إلى هذا الفعل، وهو اتخاذ أسباب الحماية من قِبَل أقاربه، وتصريحه أنّه لم يكن لكُفرٍ أو ارتداد، ثمّ ما كان مِن قولِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لعلّ الله أن يكون قد اطّلعَ على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرْتُ لكم". فالأمر متعلِّق بالتوفيق للتوبة المستجلِبة للمغفرة، والأمر يعود إلى الإمام فيما يترجّح لديه مِن حال هذا الجاسوس مِن هذا الجانب، والنظر كذلك فيما يتعلَّق بمصلحة المسلمين، سواءٌكان ذلك في القتل أو عدمه والله -تعالى- أعلم. من قفز من عسكر المسلمين إلى عسكر الكُفّار جاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 534): "فمن قفَز عنهم إلى التتار كان أحقَّ بالقتال مِنْ كثيرٍ من التتار؛ فإنَّ التتار فيهم المُكْرَه وغيرُ المكْرَه، وقد استقرَّت السُّنَّة بأنَّ عقوبةَ المرتدّ أعظمُ مِن عقوبة الكافر الأصلي مِن وجوهٍ متعددة. منها أنَّ المرتدَّ يُقتَل بكل حال، ولا يُضرَب عليه جزية، ولا تُعقَد له ذِمَّة؛ بخلاف الكافر الأصلي. ومنها أنَّ المرتد يُقتل -وإنْ كان عاجزاً عن القتال-؛ بخلاف الكافر الأصليّ الذي ليس هو مِن أهل القتال، فإنّه لا يُقتَل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد؛ ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتدَّ يُقتَل؛ كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد.

الهدنة

ومنها أن المرتدَّ لا يَرِث ولا يُناكَح ولا تُؤكَل ذبيحته بخلاف الكافر الأصلي. إلى غير ذلك من الأحكام". الهدنة الهدنة لغةً: السكون. واصطلاحاً: الصُّلح والموادعة بين المسلمين والكفار، وبين كلّ متحارِبَين، والاتفاق على عدم القتال فترة زمنية معيّنة (¬1). قال العلماء: "إذا مال العدوّ للمسالمة؛ فإنّه يجاب طَلَبُه، إذا كانت مصلحة المسلمين تقتضي ذلك؛ كأن يكون العدوّ كثيفاً، وكان الأنفع تأجيل القتال؛ حتى يتقوى المسلمون". وقد يريد العدوّ المكر والخديعة، فيجب الحذَر والتيقّظ قال الله -تعالى-: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ (¬2) هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (¬3). قال ابن كثير -رحمه الله-: يقول -تعالى-: إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء، فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم، {وإنْ جَنَحُوا} أي: مالوا {لِلسَّلْمِ} أي: المسالمة والمصالحة والمهادنة، {فَاَجْنَحْ لَهَا} أي: ¬

_ (¬1) "النّهاية" بتصرف وزيادة. (¬2) قال ابن القيم -رحمه الله- أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك، فلا تحتاجون معه أحد انظر "التفسير القيّم" (ص 292). (¬3) الأنفال: 61 - 62.

فمِلْ إليها، واقبَلْ منهم ذلك؛ ولهذا لما طلَبَ المشركون عام الحديبية الصلحَ ووضْعَ الحرب بينهم وبين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسعَ سنين؛ أجابهم إلى ذلك؛ مع ما اشترطوا من الشروط الأُخَر. قال الإمام البخاريّ -رحمه الله-: (باب ما يُحذَر من الغدر) وقول الله - تعالى-: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} (¬1). ثمّ ذكر تحته حديث عوف بن مالك -رضي الله عنه- وفيه "اعدُد ستّاً بين يدي الساعة"، ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثمّ هُدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر (¬2)، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية (¬3)، تحت كل غاية اثنا عَشَرَ ألفاً" (¬4). وعن البراء -رضي الله عنه- قال: "اعتمَر النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يَدَعوه يدخُل مكة؛ حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام. فلمّا كتبوا الكتاب، كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا لا نقرّ بها، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، لكن أنت محمّد بن عبد الله، قال: أنا رسول الله وأنا محمّد بن عبد الله، ثمّ قال لعليّ: امْحُ رسولَ الله، قال: لا والله لا أمحوك أبداً. فأخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكتاب فكتَب: هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد الله، ¬

_ (¬1) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجزية والموادعة) (باب - 15). (¬2) هم الروم. (¬3) أي: راية. (¬4) انظر "صحيح البخاري" (3176).

لا يدخُلُ مكة سلاح إلاَّ في القِراب (¬1)، وأن لا يَخرُجَ مِن أهلها بأحدٍ إنْ أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع أحدا مِن أصحابه أراد أن يُقيمَ بها. فلمّا دخَلها ومضى الأجل، أَتَوا عليّاً فقالوا: قل لصاحِبِك اخرُج عنّا فقد مضى الأجل، فخَرج النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬2). وعن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكَم: أنّهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين، يأمَن فيهن النّاس، وعلى أن بيننا عيْبَةً (¬3) مكفوفة، وأنّه لا إسلال ولا إغلال (¬4) " (¬5). قال الإمام البخاري -رحمه الله-: (باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره، وإثم من لم يفِ بالعهد) (¬6). وجاء في "السيل الجرار" (4/ 564): تعليقاً على عبارة "ويجوز للإمام ¬

_ (¬1) أي: غِمد السيف، جمعها: قُرُب، وأقربَة. (¬2) أخرجه البخاري: 2699، ومسلم: 1783. (¬3) عيْبَةً: ما يُجعَل فيها الثياب، مكفوفة: أي مشدودة ممنوعة، قال في "النيل" أي: أمراً مطويّاً في صدورٍ سليمةٍ، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة؛ بما تقدَّم بينهم مِن أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقَع بينهم. (¬4) لا إسلال ولا إغلال: أي: لا سرقة ولا خيانة، يُقال: أغلّ الرجل أي: خان، والإسلال: من السّلّة، وهي: السرقة، والمراد: أن يأمن النّاس بعضهم من بعض؛ في نفوسهم وأموالهم سرّاً وجهراً. "عون المعبود" (7/ 320). وانظر للمزيد من الفائدة، -إن شئت- "النّهاية" (سلل، غلل). (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2404). (¬6) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجزية والموادعة) (باب - 12).

عقد الصلح لمصلحة": أقول: وَجْهُ هذا أنّ الله -سبحانه- قال في كتابه {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} فدلّ ذلك على جواز المصالحة؛ إذا طلَبها الكُفّار وجَنحُوا إليها. وقيل لا يجوز ذلك لقوله -سبحانه-: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} (¬1). ولا يخفاك أنّه لا معارضة بين الآيتين، فإنّ الآية الأولى دلَّت على أن الكُفّار إذا نجحوا للسَّلم جَنَحْنا لها، والآية الأخرى دلّت على عدم جواز الدعاء مِن المسلمين إلى السَّلم، فالجمع بينهما بأنّه يجوز عَقد الصُّلح إذا طلَب ذلك الكفّار، ولا يجوز طَلبُه مِن المسلمين؛ إذا كانوا واثقين بالنصر ... وقيل: لا يجوز المصالحة أصلاً، وأنّ ما ورَد في جوازها منسوخ بقوله: {فاقْتُلُوا المُشْركِينَ} (¬2). ونحوها، ولا وَجْهَ لدعوى النسخ، وأيضاً الجمعُ ممكِن بأنهم يُقتَلون ويُقاتَلون؛ ما لم يجنحوا إلى السَّلم. وأمّا كون المدّة معلومةً، فوجْهُه أنّه لو كان الصلحُ مُطلقاً أو مؤبَّداً؛ لكان ذلك مُبطلاً للجهاد الذي هو مِن أعظم فرائض الإسلام، فلا بُدّ مِن أن يكون مُدّةً معلومة على ما يَرَى الإمام من الصلاح، فإذا كان الكفّار مُستظهرِين وأمرهم مُستعلناً؛ جاز له أن يعقده على مُدّة طويلة، ولو فوق عشر سنين، وليس في ذلك مخالفة لعقده -صلى الله عليه وآله وسلّم- للصُّلح الواقع مع قريش عشر سنين، ¬

_ (¬1) محمد: 35. (¬2) التوبة: 5.

فإنّه ليس في هذا ما يدّل على أنّه لا يجوز أن تكون المدة أكثرَ مِن عشر سنين؛ إذا اقتضت المصلحة" انتهى. والخلاصة: جواز المصالحة إذا طلبها الكفّار؛ إذا كان فيها نفعٌ للمسلمين، ولا يجوز ابتداؤها من المسلمين إذا كانوا واثقين بالنصر. ولا بُدّ أن تكون المُدّة معلومة -طالت أم قصرت- على ما يرى الإمام فيه تغليب المصلحة وترجيح المنفعة؛ والله -تعالى- أعلم. قال العلاّمة ابن القَيِّم -رحمه الله- في زاد المعاد (5/ 93): (في حُكمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الهُدنة وما ينقضُها): "ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه صالَح أهل مكّة، على وضْع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، ودخَل حلفاؤهم مِن بني بكر معهم، وحلفاؤه مِن خزاعة معه، فَعَدَتْ حلفاءُ قريش على حلفائه. فغدروا بهم، فرضِيَت قريش ولم تُنكِره، فجعَلَهم بذلك ناقضين للعهد، واستباح غزْوَهم مِن غير نبْذِ عهدِهم إليهم، لأنهم صاروا محاربين له، ناقضين لعهده؛ برضاهم وإقرارهم لحلفائهم على الغدر بحلفائه، وألحَقَ رِدأهم (¬1) في ذلك بمباشِرِهم. وثبت عنه أنّه صالَح اليهود، وعاهَدَهم لمّا قَدِمَ المدينة، فغَدَروا به، ونقَضوا عهده مراراً، وكلّ ذلك يُحاربهم ويظْفَر بهم، وآخرُ ما صالَح يهود خيبر؛ على أنّ الأرض له، ويُقرّهم فيها عُمّالاً له ما شاء، وكان هذا الحكمُ منه فيهم حُجّةً؛ على جواز صُلح الإمام لعدوِّه ما شاء مِن المدّة، فيكون العقدُ جائزاً له ¬

_ (¬1) أي: المعين والمناصر.

عقد الذمة

فسْخُه متى شاء، -وهذا هو الصواب-، وهو مُوجِب حُكْم رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي لا ناسخ له". عقد الذمّة الذمّة هي: العهد والأمان، وعقد الذّمة: هو أنْ يُقرّ الحاكم أو نائبه بعض أهل الكتاب من الكُفّار على كفرهم بالضوابط الشرعية (¬1). جاء في "المغني" (10/ 572): "ولا يجوز عَقْد الذمّة المؤبَّدة إلاّ بشرطين: أحدهما: أن يلتزموا إعطاء الجزية في كلّ حول. والثاني: التزام أحكام الإسلام، وهو قَبول ما يُحكَم به عليهم مِن أداء حقّ، أو تَرْك محُرّم، لقول الله -تعالى-: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬2). وقول النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث بريدة: "فادْعُهم إلى أداء الجزية، فإنْ أجابوك فاقبَل منهم، وكُفَّ عنهم". وفيه (10/ 573): "ومَن سواهم، فالإسلام أو القتل". يعني مَن سوى اليهود والنصارى والمجوس؛ لا تُقبَل منهم الجزية، ولا يُقرّون بها، ولا يُقبَل منهم إلاَّ الإسلام، فإنْ لم يسلموا قُتلوا ... (¬3). وقال -رحمه الله-: "ولنا، قَوْل الله -تعالى-: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ ¬

_ (¬1) عن "فقه السُّنَّة" (3/ 446) بتصرّف. (¬2) التوبة: 29. (¬3) انظر -إن شئت- "المصدر المذكور" لمعرفة أقوال العلماء؛ مع شيء من التفصيل.

وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬1) وقول النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُمرتُ أن أقاتِل النّاس؛ حتى يقولوا لا إله إلاَّ الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم؛ إلاَّ بحقّها". ثمّ بين ما خُصِّص مِن ذلك بالكتاب والسنة (¬2). أقول: خُصّص أهل الكتاب بالآية كما ذكَر المصنّف -رحمه الله-، والمجوس، بما يأتي: عن بَجَالة قال: "كُنت كاتباً لجزء بن معاوية عمّ الأحنف، فأتانا كتابُ عمر ابن الخطاب قبل موته بسنة: فرِّقوا بين كل ذي مَحْرَم مِن المجوس، ولم يكن عمر أخذَ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف، أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذَها مِن مجوس هجَر" (¬3). وعن المِسور بن مخرَمة أنّه أخبَرَه أنّ عمرَو بن عوف الأنصاري -وهو حليفٌ لبني عامر بن لؤي، وكان شهِدَ بدراً- أخبره أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "بعثَ أبا عُبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو صالحَ أهلَ البحرين، وأمّر عليهم العلاء بن الحضرمي" (¬4). قال الحافظ -رحمه الله- في شرح قوله (بعثَ أبا عبيدة بن الجرّاح إلى البحرين): " ... وكان أغلب أهلها إذ ذاك المجوس، ففيه تقويةٌ للحديث الذي ¬

_ (¬1) التوبة: 5. (¬2) وقال -رحمه الله-: [وخصّ] المجوس بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "سُنُّوا بهم سُنّة أهل الكتاب" وقد ضعَّفه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1248) فانظر تفصيل تخريجه فيه -إن شئت-. (¬3) أخرجه البخاري: 3156، 3157. (¬4) أخرجه البخاري: 3158، ومسلم: 2961.

موجب هذا العقد:

قبله، ومِن ثمّ ترجم عليه النسائي (بابُ أخذ الجزية مِن المجوس) ". وقال الإمام البخاري -رحمه الله-: (باب الجزية والموادعة، مع أهل الذّمة والحرب) وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (¬1)} (¬2). وما جاء في أخذ الجزية مِن اليهود والنّصارى والمجوس والعجم (¬3). ثمّ ذكَر -رحمه الله- ما تقدّم عن بجَالة. فائدة: وجاء في "المغني" (10/ 574): "وإذا عقَدَ الذّمة لكفارٍ زعموا أنهم من أهل الكتاب؛ ثمّ تبيّن أنهم عَبَدَة الأوثان؛ فالعقد باطلٌ مِن أصْلِه، وإنْ شكَكْنا فيهم، لم ينتقض عهدُهم بالشك؛ لأن الأصل صحته، فإنْ أقرّ بعضهم بذلك دون بعض، قُبل من المقرّ في نفسه، فانتقض عهْدُه، وبقي في حقّ مَن لم يُقرَّ بحاله". موجب هذا العقد: *وإذا تمّ عقْد الذمّة، ترتَّبَ عليه حُرمة قتالهم، والحِفاظ على أموالهم، وصيانة أعراضهم، وكفالة حرّياتهم، والكفّ عن أذاهم. ¬

_ (¬1) قال الإمام البخاري -رحمه الله-: "يعني أذلاّء والمسكنة: مصدر المسكين، (فلانٌ) اسكنُ مِن فُلان: احوجُ منه، ولم يذهب إلى السكون .. ". (¬2) التوبة: 29. (¬3) "صحيح البخاري" (كتاب الجزية والموادعة) (باب - 1)، وانظر -إن شئت- ما قاله الحافظ -رحمه الله- مُفصلاً في هذا الأمر.

الأحكام التي تجري على أهل الذمة:

الأحكامُ التي تجري على أهل الذِّمَّة: وتجري أحكام الإسلام على أهل الذمّة في ناحيتين: الناحية الأولى: المعاملات المالية، فلا يجوز لهم أن يتصرَّفوا تصرُّفاً لا يتفق مع تعاليم الإسلام؛ كعقد الربا، وغيره مِن العقود المحرّمة. الناحية الثانية: العقوبات المقرّرة، فيُقتصّ منهم، وتُقام الحدود عليهم متى فعلوا ما يوجب ذلك، وقد ثبَت أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجَم يهوديين، زنيا بعد إحصانهما (¬1). وإنْ تحاكموا إلينا، فلنا أن نحكم لهم بمقتضى الإسلام، أو نرفض ذلك، يقول الله -تعالى-: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬2) * (¬3). قال ابن جرير -رحمه الله-: "ثمّ اختلَف أهل التأويل في حكم هذه الآية، هل هو ثابتٌ اليوم؟ وهل للحكّام مِن الخِيار في الحُكم والنّظَر بين أهل الذمّة والعهد إذا احتكموا إليهم، مثل الذي جعَل لنبيّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه الآية، أم ذلك منسوخ؟ ¬

_ (¬1) انظر "صحيح البخاري" (6841)، و"صحيح مسلم" (1699)، وتقدم في كتاب (الحدود). (¬2) المائدة: 42. (¬3) ما بين نجمتين من "فقه السنّة" (3/ 446) بحذف.

فقال بعضهم: ذلك ثابتٌ اليوم، لم ينسخه شيء، وللحُكّام من الخِيار في كلّ دهر بهذه الآية، مثلُ ما جعَله الله لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثمّ ذكَر مَن قال ذلك. ثمّ قال -رحمه الله-: وقال آخرون: بل التخيير منسوخٌ (¬1)، وعلى الحاكم إذا احتكَم إليه أهل الذمَّة أن يحكُم بينهم بالحقّ، وليس له تْرك النظرِ بينهم. ثمّ ذكرَ من قال ذلك. ثمّ قال -رحمه الله-: "وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب: قول مَن قال: إنّ حُكم هذه الآية ثابتٌ لم يُنسَخ، وأنّ للحُكَّام مِن الخِيار في الحُكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا، وترْكِ الحكم بينهم والنظر، مثلُ الذي جَعَله الله لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِن ذلك في هذه الآية" (¬2) انتهى. ¬

_ (¬1) وجاء في "سنن أبي داود": (باب الحُكم بين أهل الذِّمّة)، وجاء تحته نصّان، الأول: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فنُسخت قال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بما أنزل الله} " أخرجه أبو داود (3590)، "صحيح سنن أبي داود" (3061). والثاني: عن ابن عباس -رضي الله عنهما أيضاً- قال: "لما نزَلت هذه الآية {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} الآية، قال: كان بنو النضير إذا قتَلوا من بني قريظة، أدَّوا نصف الدية، وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير، أدَّوا إليهم الدّية كاملة، فسوّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم". أخرجه أبو داود (3591) وغيره، "صحيح سنن أبي داود" (3062). (¬2) انظر تتمة كلامه وتفصيله -إنْ شئت المزيد من الفائدة- في المصدر المذكور.

الجزية

قلت: والذي يبدو لي -والله تعالى أعلم- أن الأصل على بقاء الحُكم بالتخيير، وهذا التخيير قائمٌ على تقدير المصلحة، والنسخ المذكور هو إعادة إلى أصل الأمر؛ وهو التحاكم إلى شرع الله، ولكن إذا كان هناك تلعّبٌ وأهواء، ورجّح الحاكم الإعراض عن طَلَبِهم؛ فله ذلك، ففي السياق القرآني ما يُبِّين هذا، وذلك لأنهم قالوا {إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} أي: الجلد والتحميم {فَخُذُوهُ} أي: اقبلوه، {وَإن لمْ تُؤتَؤهُ فَاَحذَرُوا} أي: مِن قَبوله واتّباعه. {سَمّاَعُونَ لِلكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (¬1). فلأجل تلاعبهم وأهوائهم، ولأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتّباع الحق واجتناب الضلال، بل ما وافَق أهواءهم، لأجل ذلك قال الله -تعالى-: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} (¬2). الجزية تعريفها: مِن جزأت الشيء: إذا قَسمْته، ثمّ سُهّلت الهمزة، وقيل: مِن الجزاء، أي: لأنها جزاء ترْكِهم ببلاد الإسلام، أو مِن الإجزاء؛ لأنها تكفي مَن توضَع عليه في عصمة دمِه (¬3). فالجزية: مبلغٌ مِن المال، يُؤخَذ من الكافر؛ لإقامته بدار الإسلام في كل ¬

_ (¬1) السُّحت: الحرام وهو الرشوة. (¬2) المائدة: 42. (¬3) "الفتح" (6/ 259).

مشروعيتها:

عام (¬1). مشروعيتها: قال الله -تعالى-: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ (¬2) وَهُمْ صَاغِرُونَ (¬3)} (¬4). عن بَجَالة قال: "كُنت كاتباً لجزء بن معاوية عمّ الأحنف، فأتانا كتابُ عمر ابن الخطاب قبل موته بسنة: فرِّقوا بين كل ذي محَرَم مِن المجوس. ولم يكن عمر أخذَ الجزية من المجوس، حتى شَهِد عبد الرحمن بن عوف أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذَها مِن مجوس هجر" (¬5). عن جبير بن حية قال: "بعثَ عمرُ النّاس في أفناء الأمصار يُقاتلون المشركين [وذكر الحديث إلى أن قال:] ... فلْينفِروا إلى كسرى وقال: فندَبَنا عمرُ، واستعمل علينا النعمانَ بنَ مُقرِّن حتى إذا كُنّا بأرض العدوّ وخرَج علينا عاملُ كسرى في أربعينَ ألفاً، فقام تَرجُمانٌ فقال: ليكلّمْني رجلٌ منكم. فقال المغيرة: سل عمّا شئتَ، قال: ما أنتم؟ قال: نحن أناسٌ من العرب، كنّا في شقاءٍ شديدٍ، وبلاءٍ شديدٍ، نمصُّ الجلْدَ والنوى من الجوع، ونلْبسُ الوَبَرَ ¬

_ (¬1) "المغني" (10/ 567) بتصرف. (¬2) عن قهر وغَلَبة. (¬3) أي: ذليلون حقيرون مُهانون. (¬4) التوبة: 29. (¬5) أخرجه البخاري: 3156، 3157، وتقدّم في الباب السابق.

ممن تقبل؟

والشَّعَرَ، ونعبد الشَّجر والحجرَ، فبينا نحن كذلك؛ إذ بعَث ربُّ السماوات وربُّ الأرَضِينَ -تعالى ذكره وجَلّت عَظَمَتُه- إلينا نبيّاً من أنفسِنا، نعرفُ أباه وأمّهُ، فأمرَنا نبيُّنا رسولُ ربِّنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقاتِلَكُمْ حتّى تعبُدوا اللهَ وحدهُ، أو تؤدّوا الجزيَة" (¬1). ممن تُقبَل؟ تُقبل الجزية من كل المِلَل والنّحل والأمم، عربهم وعجمهم. قال الإمام البخاري -رحمه الله-: (باب الجزية والموادعة ... وما جاء في أخْذِ الجزية مِن اليهود والنصارى والمجوس والعَجَم). ثمّ ذكَر -رحمه الله- حديث بجَالة المتقدّم، وفيه أنّ رسول الله أخذ الجزية مِن مجوس هجر (¬2). وقال العلاّمة ابن القَيِّم -رحمه الله- في حكمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجزية: "قد تقدَّم أنَّ أول ما بَعَث -الله عزّ وجلّ- به نبيّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدعوة إليه بغير قتالٍ ولا جزية، فأقام على ذلك بضع عشرة سنةً بمكّة ثمّ أذِنَ له في القتال؛ لمّا هاجر مِن غير فرضٍ له، ثمّ أمَرَه بقتال مَن قاتلَه، والكفِّ عمّن لم يقاتله، ثمّ لمّا نزلت (براءة) سنة ثمان، أمَرَه بقتال جميع مَن لم يُسلِم من العرب؛ مَن قاتله أو كفَّ عن قتاله إلاَّ مَن عاهدَه ولم يَنْقُصْه مِن عهده شيئاً فأمَرَه أن يفيَ له بعهده، ولم يأمره بأخذ الجزيةِ مِن المشركين، وحارَب اليهود مراراً، ولم يُؤمَر بأخذ الجزية منهم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3159، وتقدّم. (¬2) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجزية والموادعة) (باب - 1)، وتقدّم.

ثمّ أَمَره بقتال أهل الكتاب كلِّهم حتى يُسلِموا، أو يُعطوا الجزية، فامتَثَل أمْر ربِّه فقاتَلهم، فأسلَم بعضُهم، وأعطى بعضُهم الجزية، واستمرَّ بعضُهم على محاربته .... ولم يأخذها مِن مشركي العرب، فقال أحمد والشافعي: لا تُؤخَذ إلاَّ مِن الطوائف الثلاث التي أخذَها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهم، وهم اليهود والنصارى والمجوس (¬1). ومَن عداهم فلا يُقبل مِنهم إلاّ الإسلام أو القتل. وقالت طائفة: في الأمم كلِّها إذا بذَلُوا الجزية؛ قُبلت منهم: أهل الكتابين بالقرآن، والمجوس بالسُّنَّة، ومَن عَداهم مُلحقٌ بهم؛ لأن المجوس أهلُ شركٍ لا كتاب لهم، فأخذُها منهم دليل على أخْذِهِا من جميع المشركين؛ وإنمّا لم يأخذها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عَبَدة الأوثانِ مِن العرب؛ لأنّهم أسلموا كلُّهم قبل نزول آية الجزية، فإنها نزلت بعد تبوك، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فرَغ مِن قتال العرب، واستوثَقَت كُلّها له بالإسلام، ولهذا لم يأخُذْها مِن اليهود الذين حاربوه، لأنّها لم تكن نزَلَت بعد، فلما نزَلت، أخَذَها مِن نصارى العرب، ومِن المجوس، ولو بقي حينئذ أحدٌ مِن عَبَدَة الأوثان بذَلهَا؛ لقَبِلها منه، كما قَبِلها من عَبَدَة الصُّلبان والنِّيران، ولا فرق ولا تأثير، لتغليظ كُفرِ بعض الطوائف على بعض. ¬

_ (¬1) وجاء في "الروضة الندية" (2/ 763): "وقال الشافعي: إن الجزية تُقبَل مِن أهل الكتاب؛ عرباً كانوا أو عَجَماً، ويُلحَق بهم المجوس في ذلك". وقال -رحمه الله- كذلك (2/ 764): "الجزية على الأديان، لا على الأنساب، فتُؤخَذ مِن أهل الكتاب، عرباً كانوا أو عَجَماً، ولا تؤخذ مِن أهل الأوثان، والمجوس لهم شبهة كتاب".

ثمّ إن كُفر عَبَدَة الأوثان ليس أغلظَ مِن كُفر المجوس، وأيُّ فرقٍ بين عَبَدة الأوثانِ والنّيران، بل كُفرُ المجوس أغلظ، وعُبّادُ الأوثان كانوا يُقرّون بتوحيد الربوبية، وأنّه لا خالق إلاَّ الله، وأنّهم إنّما يعبدُون اَلهتم لتُقرِّبهم إلى الله -سبحانه وتعالى- ولم يكونوا يُقِرّون بصانِعَيْن للعالم، أحدهما: خالقٌ للخير، والآخر للشر - كما تقوله المجوس- ولم يكونوا يستحلّون نكاح الأمّهات والبنات والأخوات، وكانوا على بقايا مِن دين إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه-. وأمّا المجوس فلم يكونوا على كتاب أصلاً، ولا دانوا بدين أحدٍ مِن الأنبياء - لا في عقائدهم ولا في شرائِعهم-، والأثر الذي فيه أنّه كان لهم كتابٌ فرُفِع، ورُفِعت شريعتهم لما وقع مَلِكُهم على ابنته لا يَصحُّ البتة، ولو صحّ لم يكونوا بذلك مِن أهل الكتاب، فإنّ كتابهم رُفِع، وشريعتهم بطلت، فلم يبقوا على شيء منها. ومعلومٌ أنّ العرب كانوا على دين إبراهيم -عليه السلام- وكان له صُحُف وشريعة، وليس تغيير عَبَدَة الأوثان لدين إبراهيم -عليه السلام- وشريعته بأعظم مِن تغيير المجوس لدين نبيهم وكتابهم -لو صحّ-، فإنّه لا يُعرف عنهم التّمسك بشيء مِن شرائع الأنبياء -عليهم الصلوات والسلام- بخِلاف العرب، فكيف يُجعَل المجوس الذين دينهُم أقبحُ الأديان، أحسنَ حالاً مِن مشركي العرب، وهذا القول أصحُّ في الدليل كما ترى (¬1). ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" (5/ 90) بحذف. قلت: وحديث أبي داود عن أنس -رضي الله عنه- "أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعَث خالداً إلى [أكيدردومة]، فأخذوه فأتَوا بِه، فحقَن دمه، وصالحَه على الجزية". ضعيف لإرساله انظر التعليقات الرضية (3/ 488).

مقدار الجزية

مقدار الجزية عن معاذ -رضي الله عنه- "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمّا وجَّهَه إلى اليمن؛ أمَرَه أن يأخذ مِن كُلّ حالمٍ (¬1) ديناراً أو عدله من المعافر (¬2) " (¬3). ثمّ زاد فيها عمر -رضي الله عنه- فجَعَلَها على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعين درهماً، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام" (¬4). وعن ابن أبي نُجيح قال: "قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جُعل ذلك مِن قبَل اليَسار" (¬5). فرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِم ضعف أهل اليمن، وعمر -رضي الله عنه- عَلِم غنى أهل الشام وقوّتهم (¬6). وقال شيخنا -رحمه الله في "التعليقات الرضية" (3/ 492) بعد ذكر بعض أقوال الأئمة-: "لعلّ الأقربَ إلى الصواب، أن يُقال أن لا حدّ في الجزية يُرجَع إليه، فيقدّرها ولي الأمر بحسب المصلحة، وبهذا قال ابن تيمية -رحمه الله- ... ". انتهى. ¬

_ (¬1) يعني محتلماً. (¬2) ثياب معروفة باليمن. (¬3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1394)، الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (509) وغيرهما وانظر "الإرواء" (3/ 269) تحت الحديث (795). (¬4) أخرجه مالك وإسناده صحيح وانظر "الإرواء" (1261). (¬5) رواه البخاري معلقاً (كتاب الجزية والموادعة مع أهل الحرب) (باب - 1) ووصله عبد الرزّاق. وانظر "فتح الباري" (6/ 259)، والإرواء (1260) (¬6) انظر "زاد المعاد" (5/ 93).

ما يجوز للإمام اشتراطه

وجاء في "المغني" (10/ 575): قال الأثرم: "قيل لأبي عبد الله، فيُزاد اليوم فيه ويُنقص؟ يعني -الجزية- قال: نعم، يُزاد فيه ويُنقص على قَدْر طاقتهم، على قدر ما يرى الإمام". ما يجوز للإمام اشتراطه ويجوز للإمام أن يَشْترِط على أهل الجزية، ضيافة من يمرّ بهم من المسلمين، وإصلاح القناطر -وهي الجسور المتقوّسة المبنية فوق الأنهار لتسهيل العبور-، وأن يدفعوا دِيَة مَن يُقتَل مِن المسلمين بأرضهم. فعن أسلم مولى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- " أنّ عمر بن الخطاب ضرَبَ الجزية على أهل الذّهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعين درهماً، ومع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام" (¬1). وقال ابن قدامة في "المغني" (10/ 602): "حديث عمر -رضي الله عنه- لا شكَّ في صحتة وشهرته بين الصحابة -رضي الله عنهم- وغيرهم، لم يُنكِره مُنكر، ولا خلاف فيه، وعَمِل به مَن بعده من الخلفاء -رضي الله عنهم- فصار إجماعاً لا يجوز الخطأ عليه". الزيادة من غير إجهاد ولا مشقّة ولأثر عمر -رضي الله عنه- السابق طريق أخرى يرويه شعبة، قال: أخبرني ¬

_ (¬1) أخرجه مالك ومن طريقه، أخرجه أبو عبيد (100)، وأخرجه البيهقي من طريق آخر عن نافع به أتمّ منه. وقال شيخنا -رحمه الله-: "وإسناده صحيح غاية". وتقدّم.

الحَكَم قال: "سمعت عمرو بن ميمون، يُحدّث عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فذكره، قال: ثمّ أتاه عثمان بن حنيف، فجعَل يُكلّمه مِن وراء الفسطاط، يقول: والله لئن وضعْتَ على كل جريبٍ (¬1) من أرضٍ درهماً وقفيزاً (¬2) مِنْ طعام، وزدت على كل رأسٍ درهمين؛ لا يشق ذلك عليهم ولا يجهدهم، قال: نعم، فكان ثمانية وأربعين، فجعلها خمسين" (¬3). وعن الأحنف بن قيس: "أنّ عمر شرَطَ على أهل الذِّمّة ضيافة يوم وليلة، وأن يُصلحوا القناطر، وإنْ قُتِل رجل من المسلمين بأرضهم؛ فعليهم ديَته" (¬4). وقد روى أسلَم عن عمر أنّه ضَرَبَ عليهم ضيافة ثلاثة أيام، كما تقدّم في الأثر قبل هذا، وقال البيهقي: "حدث أسلم أشبه، لأنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعَل الضيافة ثلاثاً، وقد يجوز أن ¬

_ (¬1) جاء في كتاب "المكاييل والأوزان الإسلامية"، ترجمة الدكتور كامل العسلي (ص 96): كان الجريب، [مقياساً] للأرض، يساوي شرعاً في أوائل العصور الوسطى، وفي أوجها 100 قصبة مربعة، وبذلك يكون الجريب -على وجه الدقة 1592 متراً مربعاً (القصبة تساوي 399 سم). (¬2) جاء في المصدر السابق (ص 66) القفيز: أقدم رواية مؤكدة عن هذا المكيال تتعلق بقفيز الحجاج، وبمقتضاها كان القفيز يساوي صاع النبيّ، أي: 4.2125 لتر. في القرن العاشر كان في العراق قفيزان: القفيز الكبير، ويستعمل بالتحديد في بغداد والكوفة ويتسع لـ 8 مكاكيك، كل مكوك 3 كيلجات كل كيلجة 600 درهم، أي حوالي 45 كغم (قمح). (¬3) أخرجه أبو عبيد والبيهقي والسياق له. وقال شيخنا -رحمه الله-: "وإسناده صحيح أيضاً على شرطهما". (¬4) أخرجه البيهقي وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1262).

تحريم أخذ ما يشق على أهل الجزية

يكون جَعَلَها على قومٍ ثلاثاً، وعلى قومٍ يوماً وليلة، ولم يجعل على آخرين ضيافةً؛ كما يختلف صلحه لهم، فلا يَرُدّ بعضُ الحديث بعضاً". وقال شيخنا -رحمه الله -: "هذا هو الوجه وقد توبع الأحنف على اليوم والليلة، فقال الشافعي: أنبأ سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب أنّ عمر بن الخطاب فرَض على أهل السواد ضيافة يوم وليلة، فمن حَبَسَه مرض أو مطر أنفَق مِن ماله" (¬1). تحريم أخْذ ما يَشُقُّ على أهل الجزية عن صفوان بن سليم، عن عِدّةٍ من أبناء أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن آبائهم دِنْيةً (¬2) عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ألا مَن ظلم مُعاهَداً (¬3)، أو انتقصَه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخَذ منه شيئاً بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة (¬4) " (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "الإرواء" (5/ 102). (¬2) أي: لاصقي النَّسَب. "عون المعبود" (8/ 211). (¬3) مضى ضبطها من النّهاية "بالفتح" وجاء في "عون المعبود" (8/ 211) معاهِداً -بكسر الهاء-: أي ذمّياً أو مستأنفاً". انتهى. قلت: ويجوز الفتح والكسر هنا، إذ لا معارضة من حيث المعنى في السياق؛ اسماً للفاعل أو المفعول. (¬4) حجيجه أي: خَصْمُه، قال في "النّهاية": "فأنا حجيجه: أي محُاجِجه ومُغالبُه بإظهار الحُجّة عليه، والحُجّة الدليل والبرهان، يوم القيامة". (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبو داود" (2626) وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "غاية المرام" (471).

إعفاء من لم يقدر على أدائها

إعفاء من لم يقدر على أدائها ويعفى من الدفع مَن كان عاجزاً عن ذلك لقول الله -تعالى-: {لَا يُكَلِفُ الله نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} (¬1) ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتقدّم "مَن ظلم معاهداً ... أو كلّفه فوق طاقته، فأنا حجيجه يوم القيامة". وذكر بعض العلماء أنّ الجزية لا تؤخذ مِن الأعمى والزَّمِن، والشيخ الفاني (¬2). قلت: قد تكون هذه الأصناف غنيّة فلا تسقط عنها، وإنما تسقط عند العجز عن الدفع، فلا يلزم مِن العمى مثلاً الفقر؛ كما لا يلزم من الإبصار الغنى. لا تُؤخَذ الجزية مِن النساء والصبيان عن نافع عن أسلَم أنّ عمر -رضي الله عنه- كتَب إلى أمراء الأجناد: "أن يُقاتِلوا في سبيل الله، ولا يُقاتِلوا إلاّ مَنْ قاتَلَهم، ولا يقتُلوا النساء والصبيان، ولا يقتلوا إلاَّ من جَرَت عليه الموسى، وكتَب إلى أمراء الأجناد: أن يضْربوا الجزية، ولا يَضْرِبوها على النّساء والصبيان، ولا يَضْرِبوها إلاّ على مَن جَرَت عليه الموسى" (¬3). ثمّ قال أبو عبيد: "وهذا الحديث هو الأصل فيمن تَجِب عليه الجزية، ومَن ¬

_ (¬1) البقرة: 286. (¬2) انظر "المغني" (10/ 586). (¬3) أخرجه أبو عبيد في كتاب الأموال، وكذا البيهقي من طريقين آخرين عن نافع به، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1255): "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين".

لا تؤخذ الجزية ممن أسلم ولو كان إسلامه فرارا من دفع الجزية

لا تَجِب عليه، ألا تراه إنما جَعَلَها على الذكور المدرِكين، دون الإناث والأطفال، وذلك أنّ الحُكم كان عليهم القتل لو لم يؤدّوها، وأسقطَها عمن لا يستحقّ القتل، وهم الذّرية". قال: وذكَر حديث معاذ الذي قبله: "وقد جاء في كتاب النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى معاذ باليمن أنّ على كلّ حالمٍ ديناراً، ما فيه تقوية لقول عمر، ألا ترى أنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّ الحالم دون المرأة والصبي، إلاّ أنّ في بعض ما ذكَرْنا مِن كُتُبِه: "الحالم والحالمة"، فترى -والله أعلم- أنّ المحفوظ مِن ذلك هو الحديث الذي لا ذِكْر للحالمة فيه، لأنه الأمر الذي عليه المسلمون" (¬1). لا تؤخذ الجزية ممن أسلم ولو كان إسلامه فراراً من دفع الجزية عن عبيد الله بنِ رواحة قال: "كنت مع مسروق بالسلسلة، فحدّثني أنّ رجلاً مِن الشعوب أسلَم، فكانت تُؤخَذ منه الجزية، فأتى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين إني أسلمْتُ والجزية تُؤخَذ منّي. قال: لعلك أسلمت مُتعوِّذاً؟ فقال: أمَا في الإسلام ما يُعيذُني؟ قال: بلى، قال: فكتَب عمر: أن لا تُؤخَذ منه الجزية" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "الإرواء" (5/ 96). (¬2) أخرجه أبو عبيد في "الأموال" وعنه البيهقي، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1259) وقال: "ورجاله كلهم ثقات رجال مسلم، غير عبيد الله بن رواحة أورده ابن حبان في "ثقات التابعين" (1/ 119) فقال: "يروي عن أنس عداده في المصريين (كذا ولعله: البصريين) روى عنه إسماعيل بن أبي خالد وحماد بن سلمة". قلت [أي شيخنا - رحمه الله-]: "وروى عنه أيضاً أبان بن خالد كما في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم فالإسناد عندي حسن أو قريب منه -والله أعلم-".

ختم رقاب أهل الجزية في أعناقهم

قال أبو عبيد: الشعوب: الأعاجم. خَتْم رقابِ أهل الجزية في أعناقهم عن أسلَم قال: "كتب عُمرُ بنُ الخطاب إلى أمراء الأجناد؛ أن اختِموا رقابَ أهلِ الجزية في أعناقهم" (¬1). بمَ يُنقض العهد *ويُنقَض عهد الذّمّة بالامتناع عن الجزية، أو إباء التزام حُكْم الإسلام؛ إذا حَكَم حاكمٌ به، أو تعدّى على مُسلم بقَتْلٍ، أو بفتنتهِ عن دينه، أو زَنَى بمسلمة، أو أصابها بزواج، أو عَمِلَ عَمَل قوم لوط، أو قطَع طريقاً، أو تجسَّس، أو آوى الجاسوس، أو ذكَر الله أو رسوله أو كتابه أو دينه بسوء، فإنّ هذا ضررٌ يعُمّ المسلمين في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وأخلاقهم ودينهم* (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أنّ أعمى كانت له أمّ ولَدٍ تشتم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلمّا كانت ذات ليلة جعَلت تقع في النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتشتمه، فأخذ المِغْوَل (¬3)، فوضعَه في بطنها، واتكأ عليها فَقَتلها، فوقَع بين رجليها طِفْل، فلطخَت ما هناك بالدم. فلمّا أصبح ذُكِر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجمَع النّاس، فقال: أُنشِد الله رجُلاً ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي، وقال شيخنا -رحمه الله-: إسناده صحيح. انظر "الإرواء" (5/ 104). (¬2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 454). (¬3) المِغوَل: شبه سيفٍ قصير؛ يَشْتمل به الرجل تحت ثيابه فيغطّيه، وقيل غير ذلك وانظر "النّهاية".

فَعَل ما فعَل لي عليه حقّ، إلاَّ قام، فقام الأعمى يتخطّى الناس، وهو يتزلزل، حتى قعَد بين يديِ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشْتمك، وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مِثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلمّا كانت البارحة، جَعَلَت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المِغْوَل فوضعتُه في بطنها، واتكأتُ عليها حتى قتلتُها، فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا اشهدوا أنّ دَمَها هَدَر" (¬1). ورُفع إلى عمر -رضي الله عنه- رجلٌ أراد استكراهَ امرأةٍ مسلمة على الزنا، فقال: ما على هذا صالحناكم، فأَمَر به فصُلب في بيت المقدس. فعن سويد بن غفلة قال: "كنّا مع عمرَ بن الخطاب -وهو أمير المؤمنين بالشام-، فأتاه نبطي مضروب مُشجَّج مستعدى، فغضب غضباً شديداً، فقال لصهيب: انظر من صاحب هذا؟ فانطلق صهيب، فإذا هو عوف بن مالك الأشجعي، فقال له: إن أمير المؤمنين قد غضِب غضباً شديداً فلو أتيت معاذ بن جبل، فمشى معك إلى أمير المؤمنين فإني أخاف عليك بادرته، فجاء معه معاذ، فلمّا انصرف عمر من الصلاة قال: أين صهيب؟ فقال: أنا هذا يا أمير المؤمنين، قال: أجئت بالرجل الذي ضرَبَه؟ قال: نعم، فقام إليه معاذ بن جبل فقال: يا أمير المؤمنين إنه عوف بن مالك فاسمع منه ولا تعجَل عليه، فقال له عمر: مالك ولهذا؟ قال: يا أمير المؤمنين رأيته يسوق بامرأةٍ مسلمةٍ، فنخس الحمار ليصرعَها، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3665)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3794)، وصحَّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (5/ 92) تحت الحديث (1251) وتقدّم في الحدود.

فلم تُصرَع، ثمّ دفعها فخرّت عن الحمار، ثمّ تغشاها، فَفَعلْتُ ما ترى. قال: ائتني بالمرأة لنصدقك، فأتى عوف بالمرأة، فذكر الذي قال له عمر -رضي الله عنه- قال أبوها وزوجها: ما أردْتَ بصاحبتنا؟ فضَحْتَها! فقالت المرأة: والله لأذهبنّ معه إلى أمير المؤمنين، فلمّا أجمعَت على ذلك، قال أبوها وزوجها: نحن نُبلّغ عنك أمير المؤمنين، فأَتَيا فصدَّقا عوف بن مالك، بما قال. قال: فقال عمر لليهودي: والله ما على هذا عاهدناكم، فَأَمَر به فصُلب ثمّ قال: يا أيها الناس فُوْا (¬1) بذمّة محمّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن فعَل منهم هذا فلا ذمّة له، قال سويد بن غفلة: وإنه لأوّل مصلوب رأيته" (¬2). وعن زياد بن عثمانَ أنّ رجُلاً من النصارى استكرَه امرأةً مسلمةً على نفسها، فرُفع إلى أبي عبيدة بن الجرّاح، فقال: "ما على هذا صالحناكم، فضَرَب عُنقه" (¬3). ... ¬

_ (¬1) أي: أوفوا. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" تحت الحديث (1278). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، وقال شيخنا -رحمه الله-: ورجاله ثقات رجال الشيخين غير زياد هذا؛ أورده ابن أبي حاتم (1/ 2/539) وقال: "روى عن عباد بنِ زياد عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسل، روى عنه حجاج بن حجاج" وذكَره ابن حبّان في "الثقات". وانظر "الإرواء" (5/ 120). قلت: وليست الرواية هنا عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى يُحكم عليها بالإرسال.

الغنائم

الغنائم (¬1) تعريفها: الغنائم، جمع غنيمة، وهي في اللغة، ما يناله الإنسان بسعي، وأَصْل الغُنم: الرِّبح والفضل، يقول الشاعر: وقد طوَّفتُ في الآفاق حتى ... رَضِيتُ مِن الغنيمة بالإياب وفي الشّرع؛ هي المال المأخوذ مِن أعداء الإسلام؛ عن طريق الحرب والقتال. وتشمل الأنواع الآتية: 1 - الأموال المنقولة. 2 - الأسرى. 3 - الأرض. وتُسمّى الأنفال -جمع نَفَل- لأنها زيادة في أموال المسلمين، وكانت قبائل العرب في الجاهلية قبل الإسلام إذا حاربت وانتصر بعضها على بعض؛ أخذَت الغنيمة ووزَّعَتْها على المحاربين، وجَعَلَت منها نصيباً كبيراً للرئيس: أشار إليه أحد الشعراء فقال: لك المرباع (¬2) منها والصفايا (¬3) ... وحُكْمك والنشيطة (¬4) والفضول (¬5) ¬

_ (¬1) عن "فقه السُّنَّة" (3/ 458) بتصرفٍ وزيادةٍ وإضافاتٍ مِن أقوال العلماء. (¬2) المرباع: ربع الغنيمة. (¬3) الصفايا: ما يصطفيه الإمام عن عُرض الغنيمة من شيء قبل أن يقسم؛ مِن عبد أو جارية أو فرس أو سيف أو غيرها، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- في (الفيء). (¬4) النشيطة: ما يقع في أيدي المقاتلين قبل الموقعة. (¬5) الفضول: ما يَفْضُل بعد القسمة.

إحلالها لهذه الأمة دون غيرها

إحلالها لهذه الأمّة دون غيرها وقد أحلَّ الله الغنائم لهذه الأمَّة: فيُرشِد الله -سبحانه- إلى حِلِّ أخْذِ هذه الأموال بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). ويشير الحديث الصحيح إلى أنّ هذا خاصٌ بالأمّة المسلمة، فإنّ الأمم السابقة لم يكن يحلُّ لها شيءٌ من ذلك. عن جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُن أَحَدٌ قَبْلي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُوراً، فَأيمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي المغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلي، وَأعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النّاس عامّة" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أحلّ الله لنا الغنائم، رأى ضعْفَنا وعَجْزنا فأحلّها لنا" (¬3). وجوب المجيء بالغنائم إذا نادى المُنادي في الناس بذلك عن عبد الله بن عمرو قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أصاب غنيمة، أمَرَ بلالاً فنادى في الناس، فيجيئون بغنائمهم، فيخمِّسُه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزِمامٍ مِن شعر فقال: يا رسول الله هذا فيما كنّا أصبنا من الغنيمة، فقال: ¬

_ (¬1) الأنفال: 69. (¬2) أخرجه البخاري: 335، ومسلم: 521. (¬3) جزء من حديث أخرجه البخاري: 3124، ومسلم: 1747.

كيفية تقسيم الغنائم

أسمعتَ بلالاً يُنادي ثلاثاً؟ قال: نعم، قال: فما مَنَعك أن تجيء به؟ فاعتذَرَ فقال: كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبَلَه عنك" (¬1). كيفية تقسيم الغنائم لقد بيَّن الله -سبحانه وتعالى- كيفية تقسيم الغنائم، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2). قال الإمام الطبري -رحمه الله-: "وهذا تعليمٌ من الله -عزّ وجلّ- المؤمنين قَسْم غنائمهم إذا غَنِموها". واختلفَ أهل التأويل في قوله تعالى: {فأنَّ لله خُمُسَهُ} والراجح أنها مفتاحُ كلام. وعن قيس بن مسلم قال: "سألْتُ الحسن بن محمّد عن قوله -عزّ وجلّ-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قال: هذا مفاتح كلام الله: الدنيا والآخرة لله ... " (¬3). فالآية الكريمة نصَّت على الخُمس، وأنه يُصرَف على المصارف التي ذكَرها الله -سبحانه وتعالى-، وهي: الله ورسوله، وذو القربى، واليتامى، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2359). (¬2) الأنفال: 41. (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (3863)، وقال شيخنا -رحمه الله-: "صحيح الإسناد مرسل".

والمساكين، وابن السبيل، فيُنفق سهم الله ورسوله على الفقراء، والسلاح والخيل وغير ذلك مِن المصالح العامّة. عن عمرو بن عَبَسة -رضي الله عنه- قال: "صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بعيرٍ (¬1) مِن المغنم، فلمّا سلَّم، أخذ وَبَرَة مِن جنب البعير، ثمّ قال: ولا يَحِلُّ لي مِن غنائمكم مثل هذا إلاّ الخُمس، والخُمس مردودٌ فيكم" (¬2). وعن عبادةَ بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين إلى جنب بعيرٍ مِن المقاسم، ثمّ تناوَل شيئاً مِن البعير، فأخَذ منه قَرَدَةً -يعني وَبَرَة (¬3) - فجَعل بين إصبعيه، ثمّ قال: يا أيها الناس إنّ هذا مِن غنائمكم، أدّوا الخَيْط والمِخْيَط، فما فوق ذلك، فما دون ذلك، فإنّ الغُلول عارٌ على أهله يوم القيامة وشَنارٌ (¬4) ونار" (¬5). وفي الحديث: "وأيّما قرية عَصَت الله ورسولَه، فإنّ خمسَها لله ورسوله، ثمّ هي لكم" (¬6). قال في "عون المعبود" (7/ 309): "أي مصروفٌ في مصالحكم مِن ¬

_ (¬1) أي: جَعَلَهُ سُترة. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2393)، والبيهقي والحاكم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1240). (¬3) أي: شعرة. (¬4) الشنّار: العيب والعار، وقيل: هو العيب الذي فيه عار. "النّهاية". (¬5) أخرجه ابن ماجه وغيره، وانظر "الصحيحة" (985)، و"الإرواء" (5/ 74). (¬6) أخرجه مسلم: 1756.

السلاح والخيل وغير ذلك، فيه أنّ أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، وأنّها لم تكن لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال الشوكانّي: لا يَأْخُذ الإمامُ من الغنيمة إلاَّ الخُمس، ويقسم الباقي منها بين الغانمين، والخُمس الذي يَأخذه أيضاً ليس هو له وحده، بل يجب عليه أن يرُدّه على المسلمين على حسب ما فصَّله الله -تعالى- في كتابه بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ". انتهى. أمّا نفقات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد كانت ممّا أفاء الله -سبحانه وتعالى- عليه من أموال بني النضير كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في باب (الفيء). عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "رأيت المغانم تُجزّأ خمسة أجزاء، ثمّ يُسْهَم عليها، فما كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو له يَتَخير" (¬1). وعن رجل مِن بلقين قال: "أتيت النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بوادي القرى فقلت: يا رسول الله لمن المغنم؟ فقال: لله سهم، ولهؤلاء أربعة أسهم، قلت: فهل أحد أحقّ بشيء من المغنم من أحد؟ قال: لا؛ حتى السهم يأخذه أحدكم من حينه؛ فليس بأحقَّ به مِن أخيه" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي وأحمد، وانظر "الإرواء" تحت الحديث (1225). (¬2) أخرجه الطحاوي وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (5/ 60) تحت الحديث (1225).

وأمّا الأربعة الأخماس الباقية، فتُعطى للجيش، ويختصُّ بها الذكور، الأحرار، البالغون، العقلاء. جاء في "الروضة الندية" (2/ 732): "وما غَنِمَه الجيش كان لهم أربعةُ أخماسهِ، وخُمُسه يَصرفهُ الإمام في مصارفهِ لقوله -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} قلت: اتفق أهل العلم على أن الغنيمة تُخَمّس، فالخُمُس للأصناف التي ذُكِرت في القرآن، وأربعة أخماسها للغانمين". وسَهْم ذوي القُربى: أي قرابة رسولِ الله، وهم بنو هاشم، وحُلفاؤُهم مِن بني المطلب (¬1) ممّن آزرَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وناصَرَه، دون مَن خذَلَه منهم. عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: "مَشَيْتُ أنا وَعثْمانُ بنُ عفانَ إلى رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله أَعْطَيْتَ بَني المطَّلِبِ وتركْتنا، ونحْنُ وَهُمْ منكَ بِمنْزلةٍ وَاحدةٍ، فقالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّما بنو المطَّلبِ وبنُو هاشمٍ شيءٌ واحدٌ" (¬2). وفي لفظٍ: قال جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: "مَشَيْتُ أنا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: أَعْطَيْتَ بَنِي المطَّلبِ مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ وَتركْتنا وَنحْنُ بِمنْزلَةٍ واحدةٍ مِنْكَ، فقال: إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو المطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، قَالَ جُبَيْرٌ: وَلم يَقْسِمْ النَبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ترجيح ابن جرير الطبري في "تفسيره"، وأدلته في ذلك. (¬2) أخرجه البخاري: 3140. (¬3) أخرجه البخاري: 4229.

يأخذ الفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم، والراجل سهما

وفي لفظٍ: قال جبير بن مطعم: "لما كان يوم خيبر قَسَم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب، فأتيتُ أنا وعُثمان بن عفّان، فقلْنا: يا رسول الله، أمّا بنو هاشم، فلا نُنكر فضلَهم؛ لمكانِك الذي وضعكَ اللهُ بهِ منْهم، فما بالُ إخواننا من بَني المُطلب أعطيتَهم وتركْتَنا، وإنّما نحنُ وَهُمْ بمنزلةٍ واحدة؟! فقال: إنّهم لمْ يفارِقوني في جاهليةٍ ولا إسْلام، وإنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبك أصابعه" (¬1). وقد ثبت عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه كان سيُعطي منه عمّه العبّاس -وهو غنيّ-، ويُعطي عمّته صفيّة -رضي الله عنهما- (¬2). والعبّاس -رضي الله عنه- كان موسراً في الجاهلية والإسلام؛ كما جزَم بذلك غيرُ واحدٍ من الحُفّاظ؛ منهم أبو جعفر الطحاوي -رحمه الله- (¬3). يأخذ الفارس مِن الغنيمة ثلاثة أسهم، والراجل (¬4) سهماً عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعَل للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً" (¬5)، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور (¬6). وفي لفظٍ: عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضيَ اللهُ عَنْهما- قال: "قَسَمَ رَسُولُ الله ¬

_ (¬1) انظر "الإرواء" (1242). (¬2) انظر "الإرواء" (1243). (¬3) انظر "الإرواء" (5/ 79). (¬4) وهو الماشي على رجليه. (¬5) أخرجه البخاري: 2863، ومسلم: 1762. (¬6) انظر "الروضة النّديّة" (2/ 735).

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خيْبرَ لِلْفرَس سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِل سَهْماً، قَالَ: فَسَّرَهُ نَافِعٌ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسٌ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَسٌ فَلَهُ سَهْمٌ" (¬1). وقال مالك: "يُسهم للخيل والبراذين (¬2) منها لقوله: {وَالخيلَ وَالبِغَالَ وَاَلحَمِيرَ لِتَركَبُوهَا (¬3)} (¬4) ولا يُسهَم لأكثر من فرس" (¬5). قال الإمام النّووي -رحمه الله- (12/ 83): "واختلف العلماء في سهم الفارس والراجل مِن الغنيمة؛ فقال الجمهور: يكون للراجل سهمٌ واحد وللفارس ثلاثة أسهم، سهمان بسبب فرسه، وسهم بسبب نفسه. ممّن قال بهذا: ابن عباس ومجاهد والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4228، ومسلم: 1762 بلفظ: "قَسَمَ فِي النَّفَلِ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّجُلِ سَهْماً". والمراد بالنفل هنا: الغنيمة. (¬2) البراذين: جمع بِرذَون، والمراد: الجفاة الخِلْقة من الخيل، وأكثر ما تُجلَب مِن بلاد الروم، ولها جَلَدٌ على السير في الشعاب والجبال والوعر، بخلاف الخيل العربية. "الفتح". (¬3) جاء في "الفتح" (6/ 67): "قال ابن بطال: وجه الاحتجاج بالآية؛ أنّ الله -تعالى- امتنّ بركوب الخيل وقد أسهم لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. واسم الخيل يقع على البِرذَون والهجين؛ بخلاف البغال والحمير، وكأنّ الآية استوعَبت ما يُركَب من هذا الجنس؛ لما يقتضيه الامتنان، فلمّا لم ينصّ على البِرذَون والهجين فيها، دلّ على دخولها في الخيل. قلت: وإنما ذكَر الهجين لأن مالكاً ذكَر هذا الكلام في الموطأ وفيه "والهجين" والمراد بالهجين: ما يكون أحد أبويه عربيا والآخر غير عربي، وقيل: الهجين: الذي أبوه فقط عربي وأمّا الذي أمّه فقط عربية، فيُسمّى المقرف، وعن أحمد: الهجين: البِرذَون". (¬4) النحل: 8. (¬5) انظر "صحيح البخاري" تحت الحديث السابق (2863).

ومالك والأوزاعي والثوري والليث والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن جرير وآخرون. وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان فقط، سهم لها وسهم له، قالوا: ولم يقل بقوله هذا أحد إلاَّ ما روي عن علي وأبي موسى. وحُجّة الجمهور هذا الحديث، وهو صريح على رواية مَن روى "للفرس سهمين، وللرجل سهماً" بغير ألف في (الرجل) وهي رواية الأكثرين، ومن روى (وللراجل) روايتهُ محتَملة، فيتعيّنَ حمْلها على موافقة الأولى جمعاً بين الروايتين، قال أصحابنا وغيرهم: ويرفَع هذا الاحتمال ما وَرَدَ مُفسَّراً في غير هذه الرواية، في حديث ابن عمر هذا؛ من رواية أبي معاوية وعبد الله بن نمير وأبي أسامة وغيرهم بإسنادهم عنه "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه"، ومِثْلُه من رواية ابن عباس وأبي عمرة الأنصاري -رضي الله عنهم-. والله أعلم". أقول: المراد مِن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "جعَل للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً" أي غير سهمي الفرس، فيصير للفارس ثلاثة أسهم كما قال الحافظ رحمه الله-: "وسيأتي في غزوة خيبر أنّ نافعاً فسّره كذلك، ولفظه: "إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس فله سهم" (¬1). وعن أبي عمرة عن أبيه قال: "أتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعةَ نَفَر، ومعنا فرس، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4228.

يستوي في الغنائم من أفراد الجيش القوي والضعيف ومن قاتل ومن لم يقاتل

فأعطى كلّ إنسان منّا سهماً، وأعطى للفرس سهمين" (¬1). قال أبو داود -رحمه الله-: وعن أبي عمرة -بمعناه- إلاَّ أنّه قال: "ثلاثة نفر: فزاد: فكان للفارس ثلاثة أسهم" (¬2). يستوي في الغنائم مِن أفراد الجيش القوي والضعيف ومَن قاتَل ومن لم يُقاتِل وَيستوي فيما تقدم مِن تقسيم الغنائم؛ القوي والضعيف، ومَن قاتَل ومن لم يُقاتل مِن أفراد الجيش. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر: "مَن فَعَل كذا وكذا؛ فله من النفل كذا وكذا. قال: فتقدَّم الفتيان، ولَزِم المشيخةُ الراياتِ فلم يبرحوها، فلمّا فتح الله عليهم، قال المشيخة: كنا ردْءاً (¬3) لكم، لو انهزمتم لفِئْتُم إلينا فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى. فأبى الفِتيان وقالوا: جعَلَه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنا، فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} إلى قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (¬4). يقول: فكان ذلك خيراً لهم، فكذلك أيضاً فأطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم، زاد في رواية: "فقسَمَها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسواء" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2374). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2375). (¬3) الردء: العون والنصر. (¬4) الأنفال: 1 - 5. (¬5) أخرجه أبو داود (2737، 2739)، وهو في "صحيح سنن أبي داود"، (الأمّ) برقم =

السلب للقاتل

وعن مصعب بن سعد قال: "رأى سعد -رضي الله عنه- أنّ له فضلاً على مَن دونه، فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل تُنصَرون وتُرزقون إلاّ بضعفائكم" (¬1). قال الحافظ -رحمه الله- "الفتح": "وعلى هذا؛ فالمراد بالفضل؛ إرادة الزيادة مِن الغنيمة، فأعلَمَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ سهام المقاتِلة سواء؛ فإنْ كان القوي يترجّح بفضل شجاعته فإن الضعيف يترجّح بفضل دعائه وإخلاصه". ويستوي كذلك في تقسيم الغنائم مَن تغيَّب لعُذر، أو مَن بعَثَه الأمير لمصلحةِ الجيش. فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "إنما تغيّب عثمانُ عن بدر، فإنّه كانت تحته بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانت مريضة، فقال له النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّ لك أجرَ رجُلٍ ممن شهِد بدراً وسهمَه" (¬2). وجاء في "الروضة النديّة" (2/ 736) وفي كتاب حُجّة الله البالغة: "ومَن بَعثَه الأمير لمصلحة الجيش؛ كالبريد، والطليعة، والجاسوس؛ يُسهَم له، وإن لم يَحْضُر الواقعة، كما كان لعثمان يوم بدر". السَّلَب للقاتل السَّلَب: هو ما يأخذه المقاتل في الحرب مِن المقتول، ممّا يكون عليه، ¬

_ = (2445)، وقال شيخنا -رحمه الله- فيه: "إسناده صحيح، وصححه ابن حبّان والحاكم والذهبي -دون الزيادة-، والضياء في "المختارة"". (¬1) أخرجه البخاري: 2896 وتقدم في (الاستنصار بالضعفاء). (¬2) أخرجه البخاري: 3135.

ومعه من سلاح وثياب ودابّة وغيرها، وهو (فَعَل) بمعنى (مفَعول) أي: مسلوب (¬1). وللإمام أو القائد أن يُحفّز المجاهدين في سبيل الله، وأن يُرَغّبهم بأخذ سَلَب المقتول والتفرّد به. عن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: "مَن قَتَل قتيلاً له عليه بيّنة؛ فله سَلَبُهُ" (¬2). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حُنين: مَن قتل قتيلاً فله سلَبُه، فقَتَل أبو طلحة يومئذٍ عشرين رجلاً، وأخَذَ أسلابهم" (¬3). وعن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالسَّلب للقاتل، ولم يُخمّس السَّلب" (¬4). وعن سَلمةَ بن الأكوع عن أبيه قال: "أتى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عينٌ من المشركين -وهو في سفر- فجلَس عند أصحابه يتحدّث، ثمّ انفَتَل، فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اطلبوه واقتلوه، فقَتَلَه، فنفَّله (¬5) سَلَبَه" (¬6). ¬

_ (¬1) "النّهاية" بتصرف. (¬2) أخرجه البخاري: 3142، ومسلم: 1751. (¬3) أخرجه أبو داود والدارمي وابن حبان وغيرهم، وانظر "الإرواء" (1221). (¬4) أخرجه أبو داود (2721) وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله - في "الإرواء" (1223). (¬5) قال الحافظ -رحمه الله-: "فيه الْتِفات مِن ضمير المتكلّم إلى الغَيْبة، وكان السياق يقتضي أن يقول (فنفلني) وهي رواية أبي داود" قلت: يمضي على قوله (فقَتَلَه) ففي رواية: (فقتلْتُه). (¬6) أخرجه البخاري: 3051.

تخميس السلب إذا بلغ مالا كثيرا

تخميس السَّلَب إذا بلغ مالاً كثيراً لقد تقدّم أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالسَّلَب للقاتل، ولم يُخمّس السَّلَب، ولكن وردت بعض الآثار في التخميس. فقد بارز البراء مرزبان الزارة (¬1) فقتله، فبلغ سواره ومِنطَقَته (¬2)، ثلاثين ألفاً فخمّسه (¬3) عمر ودفَعَه إليه. عن أنس بن مالك: أنّ البراء بن مالك أخا أنس بن مالك؛ بارز مرزبان الزارة، فطَعنه طعنة فكسر القَرَبوس (¬4)، وخَلص إليه فَقَتَله، فقوَّم سَلَبَه ثلاثين ألفا، فلمّا صلّينا الصبح، غدا علينا عمر، فقال لأبي طلحة: إنّا كنّا لا نُخمِّس الأسلاب، وإنَّ سَلَب البراء قد بلغ مالاً، ولا أرانا إلاَّ خامسيه، فقوَّمناه ثلاثين ألفا، فدفَعْنا إلى عمر ستة آلاف" (¬5). وفي لفظ: "إن أول سَلَبٍ خمّس في الإسلام، سَلَب البراء بن مالك، كان حَمَل على المرزبان فطعَنه، فقتَله، وتفرّق عنه أصحابه، فنزل إليه، فأخذ منطقته وسواريه، فلمّا قَدِم، مشى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، حتى أتى أبا طلحة الأنصاري ... " فذكره مثل رواية الطحاوي، دون قوله في آخرها: ¬

_ (¬1) الزارة: بلدة كبير: بالبحرين. (¬2) ما يُشدّ به الوسط. (¬3) أي: أخذ منه الخُمس: ستة آلاف، وأعطى البراء -رضي الله عنه- الباقي. (¬4) هو حِنو السرج، قال في "القاموس المحيط" القَرَبوس: "حِنو السرج" والحِنو عود الرَّحل. (¬5) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (5/ 58) تحت الحديث (1224).

الرضخ من الغنيمة لمن حضر

"فدفعنا إلى عمر ستة آلاف" (¬1). وفي لفظ: "فنَفَلَه السلاح وقوّم المنطقة ثلاثين ألفاً، فخمَّسَها، وقال: إنها مال" (¬2). أقول: ولا تعارُض بين عدم تخميسه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّلَب، وبين فِعْل عمر -رضي الله عنه-، لأنّ السَّلَب الذي عُرف بقيمته المتداولة الشائعة؛ هو الذي لا يُخمَّس، أمّا إذا بلغَ مالاً كثيراً؛ فإنّه يُخمّس ليكون النفع أكثر، والفائدة أعمّ، مع تحقيق معنى استفادة المقاتل مِن ذلك، والله -تعالى- أعلم. الرّضخ (¬3) من الغنيمة لمن حضر وَيرْضَخ الإمامُ لمن حضَر، مِن النساء والعبيد -ممن لا سهم له في الغنيمة-. عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ "أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْألهُ عَنْ خَمْسِ خِلَالٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْلَا أَنْ أَكْتُمَ عِلْمًا مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ، كَتَبَ إِلَيْهِ نَجْدَةُ: أَمَّا بَعْدُ فَأَخْبِرْنِي هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنِّسَاءِ؟ وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لهُنَّ بِسَهْمٍ؟ وَهَلْ كَانَ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ؟ وَمَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ؟ وَعَنْ الْخُمْسِ لمِنْ هُوَ؟ فكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَتبتَ تَسْألُني هَلْ كَانَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ِيَغْزُو بِالنِّسَاءِ؟ ¬

_ (¬1) وصحّح إسناده شيخنا -رحمه الله- في المصدر السابق. (¬2) وقال شيخنا -رحمه الله- في المصدر المذكور: وإسناده لا بأس به. (¬3) الرضخ: هو العطية القليلة. "النّهاية".

وَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ فَيُدَاوِينَ الجرْحَى وَيُحْذَيْنَ (¬1) مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لهُنَّ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يَكُنْ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ، فَلَا تَقْتُلْ الصِّبْيَانَ. وَكَتَبْتَ تَسْألنِي مَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتيمِ؛ فَلَعَمْرِي إِنَّ الرَّجُلَ لتنْبُتُ لحيَتُهُ وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ ضَعِيفُ الْعَطَاءِ مِنْهَا، فَإِذَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ صَالِحِ مَا يَأْخُذُ النّاس؛ فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ الْيُتْمُ. وَكَتَبْتَ تَسْألنِي عَنْ الْخُمْسِ لمِنْ هُوَ؟ وَإِنَّا كُنَّا نَقُولُ: هُوَ لَنَا فَأبى عَلَيْنَا قَوْمُنَا ذَاكَ" (¬2). وفي رواية: "وسألت عن المرأة والعبد: هل كان لهما سهم معلوم إذا حضروا البأس؟ فإنهم لم يكن لهم سهمٌ معلوم إلاَّ أن يُحذَيا مِن غنائم القوم" (¬3). وفي زيادة: "وأما العبد فليس له من المغنم نصيب، ولكنهم قد كان يُرضَخ لهم" (¬4). وعن عمير مولى آبي اللحم قال: "شَهِدْت خيبر مع سادتي، فكلّموا فيَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمَرَ بي، فقُلّدْتُ سيفاً، فإذا أنا أجرّه (¬5)، فأُخبِر أني مملوك، فأَمَر لي ¬

_ (¬1) أي: يُعطين. (¬2) أخرجه مسلم: 1812. (¬3) أخرجه مسلم: 1812. (¬4) انظر "الإرواء" تحت الحديث (1236). (¬5) أي: أسحب السيف على الأرض مِن صِغَر سنّي أو قِصَر قامتي. "عون المعبود".

جواز تنفيل بعض الجيش من الغنيمة

بشيء مِن خُرثيِّ المتاع (¬1) " (¬2). وعن ثابت بن حارث الأنصاري -رضي الله عنه- قال: "قسَم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر؛ لسهلةَ بنتِ عاصم بن عدي، ولابنةٍ لها وُلِدَت" (¬3). وعن زينب امرأة عبد الله الثقفية " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاها بخيبر خمسين وَسْقاً (¬4) تمراً، وعشرين وسْقاً شعيراً بالمدينة" (¬5). جواز تنفيل بعض الجيش مِن الغنيمة يجوز للإمام تنفيل بعض الجيش، وإعطاؤهم سوى قسم عامّة الجيش، إذا كان لهم مِن العناية، والمقاتلة ما لم تكن لغيرهم. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعَثَ سرِيّة فيها عبد الله بن عمر قِبَلَ نجد، فغنموا إبلاً كثيرة، فكانت سُهمانهم اثني عشَر بعيراً، أو أحدَ ¬

_ (¬1) الخُرثي: أثاث البيت ومتاعه. "النّهاية". (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2730) والترمذي، "صحيح سنن الترمذي" (1261)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2304)، وصححه شيخنا -رحمه الله في "الإرواء" (1234). (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (5/ 72) تحت الحديث (1237). (¬4) الوَسْق: ستون صاعاً، والأصل في الوَسْق: الحِمْل، وكلُّ شيء وسَقْته فقد حملته "النّهاية" بحذف وتقدم في "كتاب الزكاة". (¬5) أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وانظر "الإرواء" (5/ 72) تحت الحديث (1237).

عشَر بعيراً، ونُفِّلوا بعيراً بعيراً" (¬1). وفي رواية: قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "بَعَثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جيش قِبَلَ نجدٍ، وانبعثت سرية من الجيش، فكان سُهمان الجيش اثني عشَر بعيراً، اثني عشر بعيراً، ونفل أهل السريّة (¬2) بعيراً بعيراً، فكانت سُهْمانُهُم (¬3) ثلاثةَ عشَر ثلاثةَ عشَر" (¬4). جاء في "عون المعبود" (7/ 296): "فيه دليلٌ على أنّه يجوز للإمام أن يُنفِّل بعض الجيش ببعض الغنيمة، إذا كان له مِن العناية والمقاتلة ما لم يكن لغيره". وعَن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أَنَّ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنْ السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قَسْمِ عامّة الجيْشِ [وَالْخُمْسُ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ كُلِّهِ (¬5)] " (¬6). جاء في "عون المعبود" (7/ 300): "وهذا تصريحٌ بوجوب الخُمُس في كل الغنائم، قاله النّووي، وقال في "فتح الودود": يفيد أنّ الخُمُس يُؤخَذ أولاً من الغنيمة، ثمّ يُنفَّل من الباقي ثمّ يُقْسم ما بقي". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3134، ومسلم: 1749. (¬2) أي: أعطاهم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زائداً على سهامهم. (¬3) أي: مع النفل. (¬4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2379). (¬5) كلِّه: مجرور لأنه توكيد لكلمة (في ذلك). (¬6) أخرجه البخاري: 3135، ومسلم: 1750، وما بين معقوفتين من "صحيح مسلم" (1750 - 40).

وعن حبيب بن مسلمة الفهري -رضي الله عنه- أنّه قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنفل الثلث بعد الخُمُس" (¬1). وعنه: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُنفّل الرُّبع (¬2) بعد الخُمس (¬3)، والثُّلث بعد الخُمس، إذا قَفَل (¬4) " (¬5). وعن أبي وَهْبٍ يَقُولُ: "سَمِعْتُ مَكْحُولاً يَقُولُ: كُنْتُ عَبْداً بِمِصْرَ لِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي هُذَيْلٍ، فَأَعْتَقَتْنِي، فَما خَرَجتُ مِنْ مِصْرَ وَبِهَا عِلْمٌ إِلا حَوَيْتُ عَلَيْهِ فِيمَا أرَى، ثُمَّ آليْتُ الحجَازَ، فَمَا خَرَجْتُ مِنْهَا وَبِهَا عِلْمٌ إِلَّا حَوَيْتُ عَلَيْهِ فِيمَا أُرَى، ثُمَّ أتيْتُ الْعِرَاقَ، فَمَا خَرَجْتُ مِنْهَا وَبِهَا عِلْمٌ إِلا حَوَيْتُ عَلَيْهِ فِيمَا أُرَى، ثُمَّ أَتَيْتُ الشَّامَ، فَغَرْبَلْتُهَا، كُلُّ ذَلِكَ أَسْأل عَنْ النَّفَلِ، فَلَمْ أَجِدْ أحَدًا يُخْبِرُنِي فِيهِ بِشَيْءٍ، حَتَّى لَقِيتُ شَيْخاً يُقَالُ لَهُ زِيَادُ بْنُ جَارِيَةَ التَّمِيمِيُّ، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ سَمِعْتَ فِي النّفلِ شَيْئاً؟ قَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ يَقُولُ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَّلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدْأَةِ، وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ" (¬6). وجاء في "عون المعبود" (7/ 300): "وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال مكحول والأوزاعي: لا يجاوز بالنّفل الثُّلُث، وقال الشافعي: ليس في النّفل حدٌّ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2387). (¬2) أي: في البَدْأةَ أي: ابتداء السفر للغزو. (¬3) أي: بعد أن يُخرِج الخُمس. (¬4) إذا رجع من الغزو. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2388)، وابن ماجه وابن حبان وغيرهم. (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2389).

رد أموال وسبايا التائبين

لا يُجاوَز؛ إنما هو اجتهاد الإمام". انتهى. قلت: هو اجتهاد الإمام بما ورَد في النّصوص. ردّ أموال وسبايا التائبين عن ابن شهاب قال: وزعم عروة أنّ مروانَ بن الحكم والمِسْوَرَ بن مَخْرَمَةَ -رضي الله عنهما- أخبراه: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قامَ حين جاءه وفْدُ هوازنَ مسلمين، فسألوه أن يَرُدّ إليهم أموالهم وسبْيَهم، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أحبُّ الحديثِ إليّ أصدقُه، فاختاروا إحدى الطائفتين إمّا السبي وإمّا المال، وقد كنت استأنَيت (¬1) بهم، وقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتظَرَهم بضعَ عشَرةَ ليلةً؛ حين قَفَل من الطائف، فلمّا تبيّن لهم أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيرُ رادٍّ إليهم إلاَّ إحدى الطائفتين؛ قالوا: فإنّا نختار سَبْيَنا. فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله ثمّ قال: أمّا بعد؛ فإنّ إخوانكم هؤلاء قد جاءونا تائبين، وإنّي قد رأيت أن أردّ إليهم سبْيَهم، فمن أحبَّ منكم أن يَطيب بذلك فليفعل، ومَن أحبَّ منكم أن يكون على حظّه حتى نعطيَه إياه مِن أوّل ما يفيء الله علينا فليفعل. فقال النّاس: قد طيّبنا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنا لا ندري مَنْ أذِن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يَرفَعَ إلينا عرفاؤكم أمرَكم، فرجَع النّاس فكلَّمهم عرفاؤهم ثمّ رجعوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبروه ¬

_ (¬1) أي: انتظَرْتُ وتربّصت، يُقال: أنيت وأنَّيْت وتأنَّيْت واسْتَأنيْت. "النّهاية".

إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم

أنهم قد طيَّبوا وأذِنوا" (¬1). وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أعطَى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمرَ ابن الخطاب جارية من سَبْيِ هوازن، فوهَبَها لي فبعثْتُ بها إلى أخوالي من بني جمح ليُصلحوا لي منها، حتى أطوف بالبيت، ثمّ آتيَهم وأنا أريد أن أصيبَها إذا رجعْت إليها. قال: فخرجْت مِن المسجد حين فرغْتُ فإذا النّاس يشتدّون، فقُلت: ما شأنكم؟ قالوا: ردَّ علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبناءنا ونساءنا، قال: قلت: تلك صاحبتكم في بني جمح، فاذهبوا فخذوها، فذهبوا فأخَذوها" (¬2). إذا غنم المشركون مال المسلم ثمّ وجده المسلم (¬3) إذا غنم المشركون مال المسلم، أو وجد المسلم ماله عند الأعداء، فإنّه يُرَدُّ على صاحبه، ولا يُضاف إلى الغنائم ولا يُخمّس. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "ذهَب (¬4) فرسٌ له فأخذَه العدوّ، فظَهر عليه المسلمون، فرُدَّ عليه في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأَبَقَ (¬5) عبدٌ له، فَلَحِقَ بالروم، فظَهر عليه المسلمون، فردَّه عليه خالد بن الوليد بعد النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: (2307، 2308، 2539، 2540). (¬2) أخرجه أحمد، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (5/ 37). (¬3) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد والسير) (باب - 187). (¬4) أي: نَفَر وشرَد إلى الكُفّار "عون المعبود" (7/ 212). (¬5) أي: هَرَب. (¬6) أخرجه البخاري: 3067.

إذا أسلم قوم في دار حرب ولهم مال أو أرضون فهي لهم

وعن عمرانَ بن حصين قال: "كانت ثقيفُ حلفاءَ لبني عُقَيل، فأسرَت ثقيفُ رجلين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأسَر أصحاب رسول الله رجُلاً من بني عُقيلٍ، وأصابوا معه العضباء [وذكر الحديث إلى أن قال:] وأُسِرت امرأةٌ مِن الأنصار، وأصيبت العضباء، فكانت المرأة في الوَثاق، وكان القوم يُريِحُون نَعَمَهُم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذاتَ ليلةٍ مِن الوَثاق، فأتت الإِبِلَ؛ فجعَلت إذا دنَت من البعير رغا فتتركه، حتى تنتهي إلى العضباء، فلم تَرْغُ، قال: وناقة مُنَوّقَة (¬1)، فقعدَت في عَجُزِها ثمّ زجَرَتْها فانطلَقت ونذِروا بها (¬2) فطلبوها، فأعجَزَتْهم، قال: ونَذَرت لله إنْ نجاها الله عليها لتنحَرَنَّها. فلمّا قَدِمت المدينة رآها النّاس فقالوا: العضباء ناقةُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إنها نَذَرَت إنْ نجّاها الله عليها لتنحرنّها، فأتَوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكروا ذلك له. فقال: سبحان الله بئسما جَزَتْها، نَذَرت لله إنْ نجّاها الله عليها لتنحرَنَّها، لا وفاء لنذرٍ في معصية ولا فيما لا يملك العبد" (¬3). إذا أسلَم قومٌ في دار حرب ولهم مالٌ أو أرضون (¬4) فهي لهم (¬5) عن صخر بن عيلة "إنّ قوماً مِن بني سليم؛ فرّوا عن أرضهم حين جاء الإسلام، فأخَذْتُها فأسلموا، فخاصموني فيها إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فردَّها عليهم وقال: ¬

_ (¬1) ناقة مُنَوّقة: أي مُذللة. (¬2) نذِروا بها: أي علموا. (¬3) أخرجه مسلم: 1641. (¬4) انظر -إن شئت المزيد من الفائدة- ما قاله ابن حزم -رحمه الله- تحت المسألة (937). (¬5) هذا العنوان مِن "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 180).

إذا أسلَم الرجل فهو أحقّ بأرضه وماله" (¬1). قال الإمام البخاري -رحمه الله- (باب إذا أسلم قوم ... ) وذكر العنوان السابق ثم ذكر تحته حديثين (¬2). قال الحافظ -رحمه الله - في "الفتح" (6/ 175): "أشار [أي: الإمام البخاري -رحمه الله-] بذلك إلى الردّ على من قال مِن الحنفية إنّ الحربي إذا أسلَم في دار الحرب، وأقام بها حتى غلَب المسلمون عليها، فهو أحقُّ بجميع ماله إلاَّ أرضَه وعقاره، فإنّها تكون فيئاً للمسلمين، وقد خالفَهم أبو يوسف في ذلك فوافق الجمهور ... ". ثمّ ذكَر حديث صخر بن عيلة المتقدّم، وأشار شيخنا إلى استدلال الحافظ -رحمهما الله- في "الصحيحة" (1230). جاء في "السيل الجرار" (4/ 554): "الإسلام عصمةٌ لمال الرجل ولأولاده الذين لم يبلغوا، فمَن زعَم أنّه يَحِلُّ شيءٌ مِن مال مَن أسلم؛ لكون المال في دار الحرب؛ لم يُقبل منه ذلك إلاّ بدليلٍ يدلّ على النقل مِن عصمة الإسلام، ولا دليل ... فإنّ الأحاديث الصحيحة المُصرّحة بأنّ الكُفَّار إذا تكلَّموا بكلمة الإسلام؛ عصموا بها دماءهم وأموالهم، يُغني عن غيرها ... ". انتهى. قلت: يُشير -رحمه الله- إلى حديث: ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أُمِرتُ أنْ أُقاتِل النّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله، وأنّ محمداً ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وإسناده حسن، وانظر الصحيحة (1230). (¬2) انظرهما -للمزيد من الفائدة إن شئت- برقم (3058، 3059) وكذا انظر وجه مطابقة الترجمة في "عمدة القاري" (14/ 304).

حكم الأرض المغنومة

رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعَلوا؛ ذلك فقد عصَموا منّي دماءهم وأموالهم؛ إلاَّ بحقّ الإسلام وحسابهم على الله" (¬1). حُكم الأرض المغنومة (¬2) الأرض المغنومة أمْرُها إلى الإمام، يفعل الأصلح مِن قِسمَتها، أو ترْكِها مشتركةً بين الغانمين، أو بين جميعِ المسلمين، لأنّ النبيّ -صلى الله عليه وآله وسلّم- قَسَم نصفَ أرض خيبر بين المسلمين، وجَعل النصف الآخر لمن ينزل به مِن الوفود والأمور ونوائبِ الناس. فعن بُشير بن يَسار مولى الأنصار، عن رجالٍ مِن أصحاب النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ظَهَر على خيبر؛ قسَّمها على ستة وثلاثين سهماً، جمَع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وللمسلمين النصفُ مِن ذلك، وعزَل النصف الباقي؛ لمن نَزَل به من الوفود والأمور ونوائب النّاس" (¬3). وفي رواية مِن حديث سهل بن أبي حثمة -رضي الله عنه- قال: "قَسَم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر نصفين: نصفاً لنوائبه وحاجته، ونصفاً بين المسلمين، قسَمَها بينهم على ثمانيةَ عشَرَ سهماً" (¬4). وقد ترَك الصحابة ما غَنِموه من الأراضي مُشترَكَةً بين جميع المسلمين، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 25، ومسلم: 21. (¬2) من "الروضة النّديّة" (2/ 755) بتصرف يسير. (¬3) أخرجه أبو داود: "صحيح سنن أبي داود" (2603). (¬4) أخرجه أبو داود: "صحيح سنن أبي داود" (2601).

يَقسِمون خَراجها بينهم، وقد ذهَب إلى هذا جمهور الصحابة ومَن بعدهم، وعمل عليه الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم-. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيُّما قريةٍ أتيتموها وأقمتم فيها؛ فسَهْمُكم فيها، وأيُّما قريةٍ عَصت الله ورسوله؛ فإنَّ خُمُسَها لله ولرسوله، ثمّ هي لكم" (¬1). وجاء في "الروضة الندية" (2/ 756): أقول: قسمة الأموال المجتمعة للمسلمين مِن: خراجٍ، ومعاملةٍ، وجزيةٍ، وصُلحٍ، وغير ذلك؛ ينبغي تفويض قِسْمتها إلى الإمام العادل الذي يمحض النّصح لرعيته، ويبذْل جهده في مصالحهم، فيَقْسِم بينهم ما يقوم بكفايتهم، ويدَّخر لحوادثهم ما يقوم بدفعها. ولا يلزمه في ذلك سلوكُ طريقٍ مُعيَّنة سلَكَها السلف الصالح، فإنّ الأحوال تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فإنْ رأى الصلاح في تقسيم ما حَصل في بيت المال في كلّ عامٍ فعَل، وإنْ رأى الصلاح في تقسيمه في الشهر أو الأسبوع أو اليوم فَعَل. ثمّ إذا فاضَ مِن بيتِ مال المسلمين على ما يقوم بكفايتهم، وما يدخِر لدفْع ما ينوبهم، جعل ذلك في مُناجزة الكَفَرة، وفتْح ديارِهم، وتكثير جهاتِ المسلمين، وفي تكثير الجيوش والخيل والسلاح، فإنّ تقويةَ جيوش المسلمين هي الأصلُ الأصيل في دفْع المفاسد وجَلْبِ المصالح. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1756.

ومِن أعظم موجبات تكثيرِ بيت المال وتوسيع دائرته؛ العدلُ في الرعية، وعدمُ الجور عليهم، والقَبولُ من مُحْسِنهم، والتجاوزُ عن مسيئهم، وهذا معلومٌ بالاستقراء في جميعِ دول الإسلام والكُفر ... ". وعن زيدٍ عن أبيه أنّه سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "أما والذي نفسي بيده؛ لولا أن أتركَ آخر النّاس بَبَّاناً (¬1) ليس لهم شيء ما فُتِحت عليَّ قرية إلاَّ قَسمْتُها كما قسَم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر، ولكنّي أتركها خِزانةً لهم يقتسمونها (¬2) " (¬3). وفي رواية: "لولا آخر المسلمين؛ ما فُتِحَت عليهم قرية، إلاّ قسمْتُها كما قسَم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر" (¬4). ¬

_ (¬1) جاء في "الفتح": "قال أبو عبيدة بعد أن أخرجه عن ابن مهدي: قال: ابن مهدي يعني شيئاً واحداً، قال الخطابي: ولا أحسب هذه اللفظة عربية، ولم أسمعها في غير هذا الحديث، وقال الأزهريّ: بل هي لغة صحيحة، لكنها غيرُ فاشية في لغة معد، وقد صحَّحَها صاحب العين وقال: ضوعفت حروفه، وقال: البَبَّان: المعدَم الذي لا شيء له، ويقال: هم علىَ بَبَّان واحدٍ، أي: على طريقةٍ واحدة، وقال ابن فارس: يقال هم بَبَّان واحد، أي: شيء واحد، قال الطبري: البَبَّان: المعدَم: الذي لا شيء له، فالمعنى: لولا أن أتركهم فقراءَ مُعدمين، لا شيء لهم، أي: متساوين في الفقر". (¬2) أي: يقتسمون خراجها. "الفتح". (¬3) أخرجه البخاري: 4235، ومسلم: 2334، قال الحافظ -رحمه الله -: زاد ابن إدريس في روايته: "ما افتَتَح المسلمون قَريةً مِن قرى الكُفَّار؛ اِلا قَسَمْتها سُهماناً". (¬4) أخرجه البخاري: 4636، 2334. وانظر إن شئت المزيد من الفائدة "نيل الأوطار" (8/ 162) (كتاب الجهاد) (باب حُكم الأرض المغنومة).

الغلول

الغُلول تعريفه: الغلول: هو الخيانة في المغنم، والسّرقة مِن الغنيمة قبل القِسمة (¬1). تحريم الغُلول: قال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬2). عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}، قال: "ما كان لنبيّ أن يتَّهمَه أصحابُه (¬3) " (¬4). وفي رواية: قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نزلت هذه الآية {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} في قطيفة حمراء فُقِدت يوم بدر، فقال بعضُ النّاس: لعلّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها، فأنزل الله- عزّ وجل- {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} إلى آخر الآية" (¬5). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "خَرجْنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر، فلم نغنم ذهباً ولا فضة؛ إلاّ الأموال والثياب والمتاع، فأهدى رجل من بني الضُّبَيب -يقال له: رِفاعة بن زيد- لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلاماً يقال له مِدعَم، فوجَّه ¬

_ (¬1) "النّهاية". (¬2) آل عمران: 161. (¬3) أي ما كان لنبيٍّ أن يخون أصحابه؛ فيما أفاء الله عليهم، مِن أموال أعدائهم. وانظر "تفسير الطبري". (¬4) أخرجه البزّار في مسنده، وانظر "الصحيحة" (2788). (¬5) أخرجه أبو داود (3971) والترمذي وغيرهما، وانظر "الصحيحة" تحت الحديث (2788).

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى وادي القُرى، حتى إذا كان بوادي القُرى -بينما مِدْعَم يحطُّ رَحْلاً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سهْمٌ عائر (¬1) فقتَله، فقال النّاس: هنيئاً له الجنّة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كلاّ؛ والذي نفسي بيده؛ إنّ الشملة (¬2) التي أخذَها يوم خيبر مِن المغانم؛ لم تُصبها المقاسم، لتَشْتَعل عليه ناراً، فلمّا سَمِع ذلك النّاس جاء رجل بشِراكٍ (¬3) أو شِراكين إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: شِراك من نار أو شِراكان من نار" (¬4). وعن عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لمّا كان يومُ خيبر أقْبَل نفرٌ مِن صحابة النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: فلانٌ شهيد، فلانٌ شهيد، حتى مرّوا على رجلٍ فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كلاّ إني رأيته في النار في بُردةٍ (¬5) غلَّها أو عباءةٍ" (¬6). ¬

_ (¬1) سهم عائر: أي لا يُدرى من رمى به. "الفتح". (¬2) الشملة: كساءٌ يُتغطَّى به، ويُتلفّف فيه. "النّهاية". (¬3) الشِّراك: -بكسر السين- وهو السير المعروف؛ الذي يكون في النعل على ظهر القدم. "شرح النّووي". (¬4) أخرجه البخاري: 6707، ومسلم: 115. (¬5) قال النّووي -رحمه الله-: "أمّا البردة -بضم الباء- فكساءٌ مخُطَّط وهي الشملة والنَّمِرة، وقال أبو عبيد: هو كساء أسود فيه صور وجمعها بُرَد -بفتح الراء-" انتهى. والنّمرة: كل شملة مخطوطة من مآزر الأعراب؛ لأنها أُخذت مِن لون النَّمِر، لما فيها مِن السواد والبياض. "النّهاية". (¬6) أخرجه مسلم: 114.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قام فينا النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكَر الغلول فعظَّمَه، وعظَّم أمْرَه، قال: "لا أُلفِيَنَّ (¬1) أحدكم يوم القيامة؛ على رقبته شاةٌ لها ثُغاء (¬2)، وعلى رقبته فرسٌ له حَمْحَمَة (¬3) " (¬4). وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "كان على ثَقَل (¬5) النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلٌ يقال له كِركَرة، فمات، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو في النار، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءةً قد غلَّها" (¬6). وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أنّه نهى أن تُباع السهام حتى تُقسم" (¬7). وعن عبادةَ بن الصامت -رضي الله عنه- أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "أدّوا الخِياط والمِخْيَط (¬8)، وإيّاكم والغُلول، فإنّه عارٌ على أهله يوم القيامة" (¬9). ¬

_ (¬1) أي: لا أجدنَّ. (¬2) ثُغاء: صوت الشاة. (¬3) حمحمة: صوت الفرس عند العلف، وهو دون الصهيل. "فتح". (¬4) أخرجه البخاري: 3073، ومسلم: 1831. (¬5) الثّقَل -بمثلثة وقاف مفتوحتين-: العيال: وما يثقُل حَمْلُه من الأمتعة "الفتح". (¬6) أخرجه البخاري: 3074. (¬7) أخرجه الدارمي بسند حسن، وانظر "هداية الرواة" برقم (3945). (¬8) الخِياط: الخيط، والمِخيط -بالكسرة-: الإبرة. "النّهاية". (¬9) أخرجه الدارمي وإسناده حسن، وانظر "هداية الرواة" برقم (3952).

ما يجوز الانتفاع به قبل قسمة الغنائم

ما يجوز الانتفاع به قبل قسمة الغنائم يُباح للمقاتلين أن ينتفعوا بالطعام وعَلَف الدواب؛ ما داموا في أرض العدوّ، قبل أنْ تُقسّم عليهم. عن عبد الله بن مُغَفَّلٍ -رضي الله عنه- قال: "كنّا محاصِرين قصرَ خيبر، فرمى إنسانٌ بجرابٍ (¬1) فيه شحم، فنزوت (¬2) لآخذه، فالتفتُّ، فإذا النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستحييتُ منه" (¬3). وفي رواية " فالتَفَتُّ فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتبسّماً" (¬4). وعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: "أصبنا طعاماً يوم خيبر، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثمّ ينصرف" (¬5). وعن ابن -عمر رضي الله عنهما- " كنّا نُصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله ولا نرفعه (¬6) " (¬7). ¬

_ (¬1) الجراب: وعاء مِن جِلد. (¬2) أي: وَثَبْت، وهي رواية مسلم: 1772. (¬3) أخرجه البخاري: 3153 واللفظ له، ومسلم: 1772. (¬4) أخرجه مسلم: 1772. (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2353)، والحاكم (2/ 126) وقال: صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي، وشيخنا -رحمه الله- في "التعليقات الرضية" (3/ 468) وكذا البيهقي. (¬6) قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح": "أي ولا نحمله على سبيل الادّخار، ويُحتمل أن يُريد ولا نرفعه إلى متولّي أمر الغنيمة، أو إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا نستأذنه في أكْلِه، اكتفاءً بما سَبَق منه مِن الإذن". (¬7) أخرجه البخاري: 3154.

جاء في "الروضة النديّة" (2/ 745): "قال مالك في "الموطأ": لا أرى بأساً أن يأكُل المسلمون إذا دخلوا أرض العدو مِن طعامهم؛ ما وجدوا مِن ذلك كلّه، قبل أن تقع في المقاسم". وقال أيضاً: "أنا أرى الإبل والبقر والغنم بمنزلة الطعام؛ يأكُلُ منه المسلمون إذا دخَلوا أرض العدو؛ كما يأكلون الطعام". وقال: "ولو أنّ ذلك لا يُؤكَل حتى يحضُر النّاس المقاسم ويُقسَم بينهم؛ أضرَّ ذلك بالجيوش، قال: فلا أرى بأساً بما أُكل من ذلك كلّه؛ على وجه المعروف والحاجة إليه، ولا أرى أن يدّخِرَ ذلك شيئاً؛ يَرجِع به إلى أهله. قلت: وعليه أهل العلم". انتهى. قلت: ويجوز ركوب الدوابّ وما في معناها، ولبس الثياب، مِن غير إتلاف ولا إخلاق. فعَنْ رُوَيْفعِ بْنِ ثَابِتٍ الأنصَارِيِّ -رضي الله عنه- أَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ المسْلِمِينَ، حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا (¬1) رَدَّهَا فِيهِ (¬2)، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلَا يَلْبَسْ ثَوْباً مِنْ فَيْءِ المسْلِمِينَ، حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ (¬3) رَدَّهُ فِيهِ" (¬4). ¬

_ (¬1) أعْجَفَها: أي أضعَفها وأهزلها "عون المعبود" (7/ 268). (¬2) أي: الفيء. (¬3) أخلَقَه: أي أبلاه. (¬4) أخرجه أحمد وأبو داود (2078) وغيرهما، وقال شيخنا -رحمه الله- حسن صحيح، وانظر "التعلقيات الرضية على الروضة الندية" (3/ 467).

جاء في عون المعبود (7/ 268): "قال في "السبيل": يُؤخَذ منه جوازُ الركوبِ ولبسِ الثوب، وإنما يتوجه النهي إلى الإعجاف والإخلاق للثوب، فلو رَكِب من غير إعجاف، وَلَبِس من غَير إخلاق وإتلافٍ؛ جاز. انتهى. قال في "الفتح": وقد اتفقوا على جواز رُكوب دوابِّهم يعني؛ أهلَ الحرب ولبس ثيابِهم، واستعمال سلاحهم حال الحرب، ورد ذلك بعد انقضاء الحرب. وشرط الأوزاعي فيه إذن الإمام وعليه أن يردّ كلما فرغت حاجته، ولا يستعمله في غير الحرب، ولا ينتظر بردّه انقضاء الحرب لئلا يُعرّضه للهلاك". قلت: وقوله بإذن الإمام ليس على الإطلاق، لحديث عبد الله بن مغفّل -رضي الله عنه- قال: "أصبت جراباً من شحم يوم خيبر، فقال: فالتزمتُه، فقلت: لا أُعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً؛ فالتفتّ فإذا رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متبسَّماً" (¬1). قال النّووي -رحمه الله-: "ويجوز بإذن الإمام وبغير إذنه، ولم يشترط أحد من العلماء استئذانه إلاَّ الزهري ... ". ... ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1772.

أسرى الحرب

أسرى الحرب ومن جملة الغنائم الأسرى، ولا خلافَ في ذلك (¬1)، وهم على قسمين: 1 - النساء والصبيان، وهذا القسم يكون رقيقاً بمجرّد السبي، لأن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قَتْل النساء والصبيان (¬2). فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغار على بني المُصطَلَق وهم غارُّون (¬3) وأنعامُهم تُسقى على الماء، فقَتَل مُقاتِلتَهم (¬4)، وسبى ذراريَّهم، وأصاب يومئذ جُوَيْرية (¬5) " (¬6). ¬

_ (¬1) انظر "الروضة الندية" (2/ 748). (¬2) وفي ذلك أحاديث منها حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "وُجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قَتْل النساء والصبيان" أخرجه البخاري: 3015، ومسلم: 1744 وتقدّم. (¬3) وهم غارُّون: جمع غار بالتشديد أي غافل، أي أخَذَهم على غِرة. "الفتح". (¬4) أي: الطائفة البالغين الذين هم على صدد القتال. "الكرماني". (¬5) قال النّووي -رحمه الله- (12/ 36): وفي هذا الحديث جواز الإغارة على الكُفّار الذين بلغتهم الدعوة مِن غير إنذار بالإغارة ... " وانظر تتمة كلام النّووي -رحمه الله- إن شئت المزيد. (¬6) أخرجه البخاري: 2541، ومسلم: 1730، ولفظ مسلم من حديث ابن عون قال: "كتبت إلى نافعٍ أسأله عن الدعاء قبل القتال، قال: فكتَب إليَّ إنما كان ذلك في أول الإسلام؛ قد أغار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... " وذكره، وتقدّم. وانظر رواية الإمام أحمد -رحمه الله- وما جاء في "الإرواء" تحت رقم (1212) -إنْ شئت-.

2 - الرجال البالغون المقاتِلون، والإمام فيهم مخُيَّرٌ بينَ قَتْلٍ وَرِقٍّ ومَنٍّ وفداءٍ بمالٍ أو بأسيرٍ مسلم. أمّا القَتل: فلقوله تعالى: {فاقتُلُوا المُشْركِينَ حَيْثُ وَجَدتمُوهُم} (¬1). وقَتَل النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجالاً مِن بني قريظة حين حكَم فيهم سعد بن معاذ -رضي الله عنه- فقال: أَحْكُم فيهم أن تُقتل مُقاتلتهم وتُسبَى ذراريُّهُم وتُقسّم أموالهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد حكمْتَ بحُكم الله -عزّ وجل- وحُكم رسوله" (¬2). وجاء في "سنن أبي داود " تحت (بابُ قتلِ الأسير ولا يُعرَض عليه الإسلام) عن سعد قال: "لمّا كان يوم فتح مكة أمَّنَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس إلاَّ أربعةَ نفر وامرأتين وسمّاهم، وابن أبي سَرْح، فذكَر الحديث. قال: وأمّا ابنُ أبي سرح؛ فإنّه اختَبأ عند عثمان بن عفان، فلمّا دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النّاس إلى البيعة؛ جاء به حتى أوقَفَه على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا نبيَّ الله بايعْ عبد الله، فرفَع رأسه فنظَر إليه ثلاثاً، كلّ ذلك يأبى، فبايَعَه بعد ثلاث، ثمّ أقبَلَ على أصحابه فقال: أمَا كان فيكم رجل رشيد؛ يقوم إلى هذا حيث رآني كَففْتُ يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأتَ إلينا بعينك؟ قال: إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن تكون له خائنةُ الأعين" (¬3). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخَل مكَّة عام ¬

_ (¬1) التوبة: 5. (¬2) أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (67) و"الإرواء" (1213). (¬3) أخرجه أبو داود: (2683، 4359) وغيره وانظر "الصحيحة" (1723).

الفتح وعلى رأسه المِغفَر (¬1)، فلمَّا نَزَعَه جاءه رجل فقال: ابن خَطَل متعلِّقٌ بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه. قال أبو داود: ابن خَطَل اسمه عبد الله، وكان أبو برزة الأسلمي قَتَله" (¬2). وأمّا دليل الرِّق، فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوفد هوازن: " ... وأحبّ الحديث إليّ أصدقُه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إمّا المال وإمّا السبي" (¬3). قال في "منار السبيل" (ص 272): "ولأنه يجوز إقرارهم بالجزية، فبالرقّ أولى؛ لأنّه أبلَغُ في صَغارهم". وأمّا المنّ -وهو إطلاق سراح الأسير مجّاناً-، فلقوله -تعالى-: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (¬4). ولأنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنّ على ثُمامة بن أُثال، وسيأتي بتمامه -إن شاء الله تعالى- في (باب ما جاء في الإحسان إلى الأسرى). وكذلكَ منَّ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أبي العاص بن الربيع. فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لمّا بعَثَ أهلُ مكّةَ في فداء أسراهم؛ بَعَثَتْ زينبُ بنتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فداء أبي العاص بن الربيع بمال، وبَعَثَتْ فيه ¬

_ (¬1) زرَد يُنسج من الدروع، على قدر الرأس، يُلبس تحت القلنسوة. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2335). (¬3) أخرجه البخاري: 2539، 2540 من حديث مروان والمسور بن مخرمة -رضي الله عنهما-. وتقدم غير بعيد. (¬4) محمد: 4.

بقلادة لها؛ كانت خديجة أدخلَتْها بها على أبي العاص؛ حينَ بنَى عليها. قالت: فلمّا رآها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رقَّ لها رِقّةً شديدة، وقال؛ إنْ رأيتم أنْ تُطلِقوا لها أسيرها، وترُدُّوا عليها مالها، فافعلوا، فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلَقوه وردُّوا عليها الذي لها" (¬1). وأمّا الفداء بالمال، فإنّه قد ثبَت عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه فدى أهل بدرٍ بمال (¬2). ْوأمّا الفداء بالأسير المسلم، فلأنّه قد ثبَت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه فدّى رجلين مِن أصحابه برجلٍ مِن المشركين من بني عُقَيل. عن عمرانَ بنِ حصين قال: "كانت ثقيف حلفاء لبنى عُقَيل، فأسرَت ثقيف رجلين مِن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأسرَ أصحابُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً مِن بني عقيل ... ففُدِي بالرجلين" (¬3). ويَجب على الحاكم فِعْل الأصلح، فمتى رأى المصلحة للمسلمين في إحدى الخصال، تعيَّنَت عليه، لأنّه ناظرٌ للمسلمين، وتخييره تخيير اجتهاد لا شهوة (¬4). قال ابن المناصف -رحمه الله-، في "الإنجاد" (1/ 269): "يكون نَظَر ¬

_ (¬1) أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" ومن طريقه أبو داود وابن الجارود والحاكم وأحمد وحسَّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1216/ 2). (¬2) أخرجه أبو داود (2991) وغيره، وانظر للمزيد من الفائدة والتفصيل ما جاء في "الإرواء" (1218). (¬3) أخرجه مسلم: 1641 مُطوّلاً، وانظر للمزيد من الفائدة -إن شئت- ما جاء في: الإرواء" (1217). (¬4) انظر "منار السبيل" (ص 272).

الإمام في الأسرى؛ بحسب الاجتهاد والمصلحة لأهل الإسلام، فمَن خُشيت شجاعته منهم وإقدامُهُ، أو رأيُهُ وتدبيرُه، وما أشبه ذلك مِن الوجوه التي تعود بتقوية بأس العدو على المسلمين في بقائه؛ كان الأولى قَتْلُهُ، إلاَّ أن يَعْرضَ هناك ما يمنع، وتكونُ مراعاته أهمّ، مِثل أن يكون في بلاد الكفر أسيرٌ مِن المسلمين، لا يُستطاع إخراجُه إلاَّ بالمفاداة بهذا، وما أشبهَ ذلك مِن وجوه النَّظَرِ في الحال، وذلك غير مُنْحَصرٍ، بل هو بحسب ما يرى الحاضر والمجتهد، ومَن لم يكن مِن الأسرى على هذه الصِّفة، وكان في المفاداة به مصلحةٌ وتقويةٌ للمسلمين بالمال، وما أشبه ذلك مما لا ينحصر أيضاً مِن وجوه النَّظَر - فالأوْلَى المفاداةُ. ومن يُرجى إسلامُه بَعدُ، أو الانتفاع به في استمالة أهل الكفر، أو كَسْرِ شوكتهم، وما في معنى ذلك إذا رُدَّ وأُنعِم عليه؛ فالأَوْلَى المَنُّ. ومَن كان صانعاً أو عسيفاً يُنتفع بمِثله في الخدمة، ولم يعرض فيه وجهٌ مِن الوجوه المتقدمة؛ اسْتُرِقَّ هؤلاء، أو ضُربت عليهم الجزية -إن كانوا من أهلها- على حسب ما يظهر من ذلك. وبالجملة، فالنَّظَر في هذه الوجوه لمصالح المسلمين بحسب الحال؛ أوسَعُ من هذا، وإنما نَبَّهْنا على أنموذج من طريق النَّظَر، لا أنَّ ذلك واجبٌ بعينه، إلاَّ أنّه لا ينبغي أن يميل إلى واحدٍ من هذه الوجوه؛ إلاَّ لمصلحةٍ في حقِّ المسلمين؛ يغلب على نَظَرِه واجتهاده أنهأ أَوْلى. فأمَّا القتل، فما دام الإمام مُرتئياً؛ لم يَعزِم على واحدةٍ مما سواه؛ ساغَ له القتل -ولو بعد مدةٍ-. قال بعض الفقهاء: لو عَرَضَهم للبيع ليختبر أثمانهم، ويناظر بها وجه

جواز استرقاق الكفار من عرب أو عجم

المصلحة في إحرازها للمسلمين، أو قتلهم، وما أشبه هذا؛ كان له من ذلك ما رآه بعد، فإذا أنفَذَ نظَرَهُ في واحدةٍ من ذلك غير القتل، أو أسقَط عنه القتل، وبقي مرتئياً فيما عداه من الوجوه؛ لم يكن له الرجوع إلى القتل؛ لأنه حُكْمٌ وَقَعَ، يتضمَّن التأمين، والله أعلم". جوازُ استرقاقِ الكُفّار مِنْ عربٍ أو عَجَم (¬1) يجوزُ استرقاقُ العرب، لأنّ الأدلة الصحيحة قد دلَّت على جواز استرقاق الكُفَّار، مِن غير فَرْقٍ بين عربيٍّ وعجمي، وذَكَرٍ وأنثى. ولم يقُم دليلٌ يصلُح للتمسك قطّ في تخصيص أسْرى العرب بعدم جواز استرقاقهم؛ بل الأدلّة قائمةٌ متكاثرة على أن حُكْمهم حُكمُ سائر المشركين. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "ما زلت أُحبُّ بني تميم منذ ثلاثٍ، سمعتُ مِن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول فيهم: سمعته يقول: هم أشدّ أمّتي على الدجّال، قال: وجاءت صدقاتهم فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذه صدقات قومِنا، وكانت سَبِيَّةٌ منهم عند عائشة؛ فقال: أعتقيها؛ فإنها مِن وَلَد إسماعيل" (¬2). وعن مروان والمِسْوَر بنِ مخرمة -رضي الله عنهما-: "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام حين جاءه وفْد هوازن، فسألوه أن يَرُدّ إليهم أموالهم وسبْيَهم فقال: إنّ معي من ترون وأَحَبُّ الحديث إليّ أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إمّا المال وإمّا السبي ... " (¬3). ¬

_ (¬1) عن الروضة الندية (2/ 750) بتصرف يسير. (¬2) أخرجه البخاري: 2543، ومسلم: 2525. (¬3) أخرجه البخاري: 2539، 2540، وتقدّم.

إذا أسلم الأسير حرم قتله

وعن ابن عون قال: "كتبتُ إلى نافع، فكتَب إليّ أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغارَ على بني المصطلِق وهم غارّون وأنعامُهم تُسقى على الماء فَقَتل مُقاتلتهم وسبَى ذراريَّهم وأصاب يومئذٍ جُوْيرية ... " (¬1). وقد ذهَب إلى جوازِ استرقاق العرب الجمهور، والحاصل: أنّ الواجب الوقوفُ على ما دلّت عليه الأدلة الكثيرة الصحيحة؛ مِن التخيير في كلِّ مُشرك بين القتل والمَنّ والفداء والاسترقاق، فمن ادَّعى تخصيصَ نوعٍ منهم، أو فرْدٍ مِن أفرادهم فهو مُطالَب بالدليل. وأمّا أسْرُ نساء العرب فالأمر أظهر مِن أن يُذكر، والوقائع في ذلك ثابتة في كُتُب الحديث: الصحيحين وغيرِهما، وفي كتب السِّيَر جميعها". إذا أسلم الأسير حَرُمَ قتْلُه عن ابن شُماسةَ المَهْري قال: حَضَرْنا عمرو بنَ العاص وهو في سياقةِ الموت، فبكى طويلا وحوّل وجهَه إلى الجدار، [وذكر الحديث وفيه] أما علِمت أنّ الإسلام يَهْدِم (¬2) ما كان قبله، وأنّ الهجرة تهدِم ما كان قبلها، وأنّ الحجَّ يَهدِم ما كان قبله" (¬3). قلت: فيستفاد من هذا الحديث؛ أن الإسلام يهدِم ما استوجبه هذا الأسير من قَتْل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2541، ومسلم: 1730، وتقدّم. (¬2) وفي رواية أحمد "يجُبّ" وإسنادها صحيح وانظر "الإرواء" (1280). (¬3) أخرجه مسلم: 121.

ما ورد في الإحسان إلى الأسرى

ما وَرَد في الإحسان إلى الأسرى قال الله -تعالى-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ (¬1) مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (¬2). قال ابن جرير -رحمه الله-: {وَأَسِيرًا}: وهو الحربيّ مِن أهل دار الحرب، يُؤخَذ قهراً بالغَلبَة، أو مِن أهل القبلة يُؤخذ فيُحبَس بحقّ. وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فُكّوا العاني -يعني الأسير- وأطعموا الجائع، وعودوا المريض" (¬3). ومِن جملة الإحسان المنّ على الأسرى إذا رأى الإمام مصلحةً في ذلك. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بَعثَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجُلٍ مِن بني حنيفة يقال له ثُمامةُ بن أُثال، فرَبطوه بساريةٍ من سواري المسجد، فخرَج إليه النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ماذا عندك يا ثُمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد إنْ تَقْتلني تقتْل ذا دم، وإن تُنْعم تُنْعِم على شاكر، وإنْ كنت تريد المال فَسلْ منه ما شئت. فتُرك حتى كان الغد ثمّ قال: له ما عندك يا ثُمامة فقال: ما قلت لك، إنْ تُنْعِم تُنْعِم على شاكر، فترَكَه حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثُمامة فقال: عندي ما قلت لك، فقال: أطلقوا ثُمامة. ¬

_ (¬1) أي: وهم يشتهون هذا الطعام. (¬2) الإنسان: (8، 9). (¬3) أخرجه البخاري: 3046.

فانطلق إلى نخْلٍ (¬1) قريب من المسجد، فاغتسل ثم دَخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمّد والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغَضُ (¬2) إليّ مِن وجهك، فقد أصبَحَ وجهُك أحبَّ الوجوه إليّ، والله ما كان مِن دينٍ أبغضَ إليّ من دينك فأصبح دينُك أحبَّ الدين إليّ، والله ما كان مِن بلدٍ أبغضُ إليّ مِن بلدِك، فأصبَح بلدُك أحبَّ البلاد إليّ، وإنَّ خيلَك أخذتني وأنا أريد العمرة؛ فماذا ترى؟ فبشَّره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمرَهَ أن يعتمر، فلمّا قَدم مكة قال له قائل: صَبَوْت؟ قال: لا ولكنْ أسلمتُ مع محمّد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا والله لا يأتيكم مِن اليمامة حبّةُ حِنطة حتى يأذَن فيها النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬3). وفي زيادة: "وانصَرف إلى بلده، ومنَع الحمل إلى مكّة؛ حتى جَهِدَت قريش، فكتبوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة، يُخلِّي إليهم حمْل الطعام، ففعَل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬4). وفي زيادة أُخرى: حتى قال عمر: "لقد كان والله في عيني أصغر من الخنزير، وإنّه في عيني، أعظم من الجبل" (4). ¬

_ (¬1) وردت بالجيم: وهو المال القليل المُنبعث، ووردت بالخاء، وتقديره: انطلَق إلى نخلٍ فيه ماء، فاغتسَل منه. وانظر "شرح النّووي" (8912). (¬2) وردَ بالرفع والنّصب، وهما وجهان في النحو. (¬3) أخرجه البخاري: 4372، ومسلم: 1764. (¬4) أخرجهما أحمد وإسنادهما حسن، انظر "الإرواء" (5/ 42).

وعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: "لما قَسَمَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبايا بني المُصْطَلِق؛ وقعَت جويرية بنت الحارث في السّهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عمٍّ له، وكاتَبته على نفسها، وكانت امرأةً حلوة مُلاّحة (¬1)، لا يراها أحد إلاَّ أخذَت بنفسه، فأتَت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تستعينه في كِتابتها. قالت: فوالله ما هو إلاّ أن رأيتها على باب حجرتي؛ فكرِهْتُها، وعرفت أنّه سيرى منها ما رأيت، فدخَلَت عليه، فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيّد قومه، وقد أصابني ما لم يخفَ عليك، فوقعْتُ في السهم لثابت بن قيس بن الشِّماس أو لابن عمٍّ له، فكاتَبْتُه على نفسي، فجئتك أستعينك على كِتابتي. قال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي كتابتَك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله، قال: قد فعَلْتُ، قالت: وخرَج الخبر إلى النّاس أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوَّجَ جويريةَ بنتَ الحارث، فقال النّاس: أصهار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسَلُوا ما بأيديهم. قالت: فلقد أعتقَ بتزويجه إياها مائةَ أهلِ بيتٍ مِن بني المُصطَلِق، فما أعلَمُ امرأةً كانت أعظمَ بركةً على قومها منها" (¬2). ¬

_ (¬1) مُلاّحة أي: شديدةَ المَلاحَة، وهو من أبنية المبالغة. "النّهاية". قلت: على وزن فُعّال كقوله -تعالى-: {وَمَكرُوا مَكْراً كُبَّاراً}. وانظر "التطبيق الصرفي" (ص 87) للدكتور عبده الراجحي. (¬2) أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما، وحسّن شيخنا -رحمه الله- إسناده في "الإرواء" (5/ 37) تحت الحديث (1212).

ما ورد في الإحسان إلى الرقيق

ما ورَد في الإحسان إلى الرقيق قال الله -تعالى-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى (¬1) وَالْجَارِ الْجُنُبِ (¬2) وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ (¬3) وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬4). عن أبي ذرِ الغِفاريّ -رضي الله عنه- قال: "قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنّ إخوانكم خوَلُكم (¬5) جعَلَهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليُطعمِه مما يأكل وليُلبِسْه مما يلبس، ولا تُكلّفوهم ما يغلبهم، فإنْ كلّفتموهم ما يَغْلِبهُم، فأعينوهم" (¬6). وعن أبي هريرة- ر ضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "للمملوك طعامه وكسوته ولا يُكلَّف مِن العمل إلاَّ ما يُطيق" (¬7). عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوصي ¬

_ (¬1) أي: الجار ذي القرابة والرّحم، فله حقّان اثنان: حقّ القرابة وحقّ الجار. (¬2) هو الجار الغريب البعيد المجانِب للقرابة. (¬3) والصاحب بالجنب، قال بعضُ أهل التأويل: هو رفيق الرجل في سفره، وقال آخرون: هو امرأة الرجل التي تكون معه إلى جنبه، وقال آخرون: هو الذي يلزَمُك ويصحبُك رجاء نفْعِك، قال ابن جرير -رحمه الله - "فالصواب أن يُقال: جميعهم معنيّون بذلك، وكلّهم قد أوصى الله بالإحسان إليه". (¬4) النساء: 36. (¬5) هم الخَدَم، سُمّوا بذلك لأنهم يتخوّلون الأمور: أي يُصلحونها. "الفتح". (¬6) أخرجه البخاري: 2545، ومسلم: 1661. (¬7) أخرجه مسلم: 1662.

بالمملوكين خيراً ويقول: أطعِموهم مما تأكلون، وألبِسوهم من لَبوسكم، ولا تُعذِّبوا خَلْق الله -عزّ وجلّ-" (¬1). وعن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: كنت أضرب غلاماً لي، فسمِعْت مِن خلفي صوتاً: اعلم أبا مسعود للهُ أقدَرُ عليك منك عليه، فالتفتُّ فإذا هو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول الله! هو حرٌّ لوجه الله، فقال: أما لو لم تفعل، للفَحَتْك النار، أو لمسَّتك النار" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعْتُ أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "مَن قذَف مملوكه وهو بريء ممّا قال؛ جُلدَ يوم القيامة، إلاّ أن يكون كما قال" (¬3). وعن عمّار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: "لا يَضْرب أحدٌ عبداً له، وهو ظالمٌ له؛ إلاّ أُقيدَ (¬4) منه يوم القيامة" (¬5). عن أبي ليلى قال: "خرَج سلمان فإذا علَفُ دابّته يتساقط من الآريّ (¬6)، فقال لخادمه: لولا أنّي أخاف القِصاص لأوجعتك ضَرْباً" (¬7). وعن زاذان: "أن ابن عمر -رضي الله عنهما- دعا بغلام له فرأى بظهره أثراً ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب المفرد" (139). (¬2) أخرجه مسلم: 1659. (¬3) أخرجه البخاري: 6858، ومسلم: 1660. (¬4) أُقيد منه: مِن القَوَد وهو القِصاص، أي: أُقتصّ منه يوم القيامة. (¬5) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب المفرد" (134). (¬6) الآريّ: محبس الدّابة. (¬7) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب المفرد" (135).

ربط الأسير وحبسه

فقال له: أوجعتك؟ قال: لا قال: فأنت عتيقٌ. قال: ثم أخذ شيئاً مِن الأرض فقال: ما لي فيه من الأجر ما يَزِن هذا، إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: مَن ضرَب غلاماً له حدّاً لم يأته، أو لَطَمه؛ فإن كفّارتَه أن يُعتقه" (¬1). وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَن كانت له جارية، فعلَّمها فأحسن إليها، ثمّ أعتقَها وتزوَّجَها كان له أجران" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يَقُلْ أحدكم: عبدي، أَمَتي، وليقُل: فتاي وفتاتي وغلامي" (¬3). وعن عليّ -رضي الله عنه- قال: "كان آخر كلام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الصلاةَ (¬4)، الصلاةَ، اتقوا الله فيما ملكت أيمانُكم" (¬5). ربط الأسير وحبْسُه فيه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بَعَثَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجل مِن بني حَنيفة، يقال له ثُمامة بن أُثال، فرَبطوه بساريةٍ مِن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1657. (¬2) أخرجه البخاري: 2544، ومسلم: 154. (¬3) أخرجه البخاري: 2552، ومسلم: 2249. (¬4) بالنّصب على تقدير فِعْل، أي: الزموا الصلاة، أو أقيموا أو احفظوا الصلاة بالمواظبة عليها ... "عون المعبود" (13/ 44). (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (4295)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2184) وانظر "الإرواء" (2178).

نفي جواز قتل الحربي إذا أتى ببعض أمارات الإسلام

سواري المسجد" (¬1). نفيُ جوازِ قتْلِ الحربيّ إذا أتى ببعضِ أَمارات الإسلام (¬2) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "مرّ رجل مِن بني سُليم على نَفَر مِن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومعَه غنَم فسلَّم عليهم، فقالوا ما سلَّم عليكم إلاَّ ليتعوّذ مِنكم، فعدَوا عليه فقتلوه، وأخذوا غنَمه، فأتوا بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ... } (¬3) إلى آخر الآية" (¬4). تحرير الرقاب (¬5) لقد فَتَح الإسلام أبواب تحرير الرِّقاب، وبيَّنَ سُبُل الخلاص، واتخذ وسائل شتّى لإنقاذ هؤلاء مِن الرِّقّ؛ منها: 1 - أنّه طريقٌ إلى رحمةِ الله وجنّته، يقول الله -سبحانه-: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4372، ومسلم: 1764 وتقدّم. (¬2) هذا العنوان من "صحيح ابن حبان" انظر "التعليقات الحِسان" (7/ 130). (¬3) النساء: 94. (¬4) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن، وابن حبان "التعليقات الحِسان" (4732) وغيرهما، وفيه: وقد أخرجَه البخاري: 4591، ومسلم: 3025 وغيرهما، من طريق عطاء، عن ابن عباس به، ببعض الاختصار. (¬5) عن "فقه السُّنَّة" (3/ 476) بتصرف وزيادة من "تفسير ابن كثير" وغيره. (¬6) البلد: 11 - 13.

عن البراء -رضي الله عنه- قال: "جاء أعرابي فقال: يا نبيّ الله علِّمْني عَمَلاً يُدخلني الجنة، قال: لئن كنت أقصَرْتَ الخُطبة لقد أعرضْتَ المسألة (¬1)، أعتق النَّسَمَة (¬2)، وفُكَّ الرَقَبَة. قال: أوليستا واحداً؟ قال: لا؛ عتق النَّسَمَة: أن تعتق النَّسَمَة (¬3)، وفكُّ الرَّقبةِ: أن تُعين على الرقبة" (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيُّما رجلٍ أعتَق امرَءاً مسلماً؛ استنقَذَ الله بكل عضوٍ عضواً منه مِن النار" (¬5). وفي رواية "مَن أعتقَ رقبةً مسلمة؛ أعتقَ اللهُ بكلِّ عضوٍ منه عضواً مِنه مِن النار، حتى فَرجَه بفرجِه" (¬6). 2 - وأنّ العِتق كَفّارة للقتل الخطأ. يقول الله -عزّ وجل-: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬7). 3 - وأنّه كفَّارةٌ للحَنْث في اليمين لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬8). ¬

_ (¬1) أي جئت بالخطبة قصيرة، وبالمسألة واسعة كثيرة. "النّهاية". (¬2) النَّسَمَة: النفس والروح، أعتق النَّسَمَة: أعتق ذا روح، وكل دابة فيها روح فهي نَسَمَة، وإنّما يُريد النّاس. "النّهاية". (¬3) أي: تنفرد بِعتْقها، وفكُّ الرقبة أن تُعين في عِتْقها. (¬4) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب المفرد" (50) وغيره. (¬5) أخرجه البخاري: 2517، ومسلم: 1509. (¬6) أخرجه البخاري: 6715، ومسلم: 1509. (¬7) النساء: 92. (¬8) المائدة: 89.

4 - وأنّ العِتق كفّارة في حالة الظِّهار، يقول الله -سبحانه-: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬1). 5 - وجعَل الإسلامُ من مصارف الزكاة شراءَ الارقاء وعِتْقَهم، يقول الله -تعالى-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} (¬2). 6 - ومَن نَذَر أن يُحرّر رقبةَ، وجَب عليه الوفاء بالنذر متى تحقَّق له مقصوده. وبهذا يتبيّن أنّ الإسلام ضيَّق مصادر الرَّق، وعامَل الأرقاء معاملةً كريمةً، تمهيداً لتحريرهم. 7 - وأمَرَ الله -سبحانه- بمكاتبة العبد على قَدْرِ من المال، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا (¬3) وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (¬4). والكتابة: أن يكاتِب الرجلُ عبده على مالٍ يؤديه إليه مُنجَّماً (¬5)، فإذا أدّاه صار حُرّاً، وسُمّيت كتابةً لمصدر كتَب كأنه يكتُب على نفسه لمولاه ثمنه، ويكتب ¬

_ (¬1) المجادلة: 3. (¬2) سورة التوبة: 60. (¬3) قال بعضهم: أمانة، وقال بعضهم: صِدْقاً، وقال بعضهم: مالاً، وقال بعضهم: حيلةً وكسْباً. قلت: وهذه الأقوال يُفسّر بعضها بعضاً، ولا يمتنع الجمع بينها. والله -تعالى- أعلم. (¬4) النور: 33. (¬5) قال في "النّهاية": " ... ومنه تنجيم المكاتَب ونجوم الكتابة، وأصْلُه أنّ العرب كانت تجعل مطالعَ منازل القمر ومساقطَها مواقيتَ لحلول ديونها وغيرها، فتقول: إذا طلَع النجم؛ حلّ عليك مالي: أي الثريا، وكذلك باقي المنازل.

مولاه له عليه العِتق، وقد كاتبتُه مكاتبةً والعبد مكاتَب (¬1). وقد ذهب بعض العلماء إلى أنّ هذا أمرُ إرشاد واستحباب، والسيّدُ مخيَّرٌ في ذلك، وذهَب آخرون إلى وجوب ذلك. والآية تدل على وجوب المكاتبة، بشرط أن يكون للمملوك حيلة وقوة وكسْبٌ ومال؛ يؤدي إلى سيده ما شارطه على أدائه. والأثران الآتيان يدلان على الإيجاب: عن ابن جريج قلتُ لعطاء: "أواجبٌ عليَّ إذا علِمْتُ له مالاً أن أكاتِبَهُ؟ قال: ما أراه إلاَّ واجباً". وقال عمرو بن دينارٍ: "قلتُ (¬2) لعطاء: أتأثُرُه (¬3) عن أحد؟ قال: لا، ثمّ أخبَرَني أن موسى بنَ أنس أخبَره أنّ سيرين سأَل أنسَاً المكاتَبَة وكان كثير المال، فأبى، فانطلَق إلى عمر -رضي الله عنه- فقال كاتِبه، فأبى، فضربَه بالدِّرَّة ويتلو عمر: {فَكاتِبوُهُم إنْ عَلِمتُم فِيهِم خيراً} فكاتَبهُ" (¬4). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنّ سيرين أراد أن يُكاتِبه، فتلكَّأَ ¬

_ (¬1) "النّهاية". (¬2) القائل: ابن جريج. (¬3) أي: أترويه. (¬4) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في "كتاب المكاتَب" (باب المكاتَب ونجومه في كلّ سنة نجم)، ووصلَه إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" بسندٍ صحيح عنه، وكذلك أخرجَه عبد الرزاق والشافعي من وجهين آخرين عن ابن جُريج، وانظر "فتح الباري" (5/ 186) و"مختصر البخاري" (2/ 179) لشيخنا -رحمه الله-.

الفيء

عليه، فقال له عمر: لتُكاتِبنَّه" (¬1). الفيء الفيء: ما حصَل للمسلمين، وأفاءه الله -تعالى- عليهم مِن أموال الكُفار من غير حربٍ ولا جهاد. وأصْل الفيء: الرجوع، يُقال: فاء يفيء فئةً وفُيُوءاً؛ كأنّه كان في الأصل لهم فرجَع إليهم، قال الله -تعالى-: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2) (¬3). *لأنَّ الله أفاءه على المسلمين؛ فإنّه خَلَقَ الخَلْق لعبادته، وأحلَّ لهم الطيبات، ليأكلوا طيِّباً، ويعملوا صالحاً، والكُفّار عبدوا غيره، فصاروا غيرَ مُستحقّين للمال، فأباحَ للمؤمنين أن يعبدوه، وأن يسترِقّوا أنفسهم (¬4)، وأن يسترجعوا الأموال منهم، فإذا أعادَها الله إلى المؤمنين منهم فقد فاءت، أي: رجَعَت إلى مُستحقّيها* (¬5). وقد تنزّل ذِكر الفيء في القرآن الكريم قال الله -تعالى-: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير -رحمه الله- في "تفسيره"، وصحح الإمام ابن كثير -رحمه الله- إسناده في "تفسيره". (¬2) البقرة: 226. (¬3) "النّهاية" بزيادة مِن "حلية الفقهاء". (¬4) أي: أنفس الكفار. (¬5) ما بين نجمتين من "مجموع الفتاوى" (28/ 563).

وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 275): "فذكر -سبحانه وتعالى- المهاجرين والأنصار والذين جاءوا مِنْ بَعدِهم على ما وصَف فدخَل في الصنف الثالث، كلّ مَن جاء على هذا الوجه إلى يوم القيامة؛ كما دخلوا في قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} (¬2) وفي قوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} (¬3) وفي قوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬4) ". وقال -رحمه الله- (ص 276): "وسمّيَ فيئاً؛ لأنَّ الله أفاءَه على المسلمين، أي ردَّه عليهم مِن الكفار؛ فإنّ الأصل أن الله -تعالى- إنّما خلَق الأموال إعانةً على عبادته؛ لأنه إنّما خلَق الخلْق لعبادته. فالكافرون به أباحوا أنفسهم التي لم يعبدوه بها، وأموالهم التى لم يستعينوا بها على عبادته؛ لعباده المؤمنين الذين ¬

_ (¬1) الحشر:6 - 10. (¬2) الأنفال: 75. (¬3) التوبة: 100. (¬4) الجمعة: 3.

إنفاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهله نفقة سنتهم من الفيء، وجعل الباقي في مجعل مال الله

يعبدونه، وأفاء إليهم ما يستحقّونه، كما يُعاد على الرجل ما غُصِبَ مِن ميراثه؛ وإن لم يكن قَبَضَه قبل ذلك". إنفاق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أهله نفقةَ سَنتِهِم مِن الفيء، وجعْل الباقي في مَجْعَل مال الله عن عمرو بن عَبَسَة -رضي الله عنه- قال: "صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بعيرٍ مِن المغنم، فلمّا سلَّم أخَذ وبرة من جنب البعير، ثمّ قال: ولا يَحلّ لي من غنائمكم مثل هذا، إلاَّ الخُمُس والخُمُس مردودٌ فيكم" (¬1). وعن عطاء في قوله- عزّ وجل-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} (¬2). قال: خُمُس الله وخُمُس رسولِه، واحد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يحمل منه، ويعطي منه، ويضعه حيث شاء، ويصنع به ما شاء" (¬3). وعن عمر -رضي الله عنه- قال: "إنّ الله قد خصَّ رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الفيء بشيء؛ لم يُعْطِه أحداً غيره ثمّ قرأ: {وما أفاء الله على رسوله منهم} إلى قوله {قَدِير}. فكانت هذه خالصةً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووالله ما احتازها دونكم، ولا استأثَرَ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2393) والبيهقي والحاكم وصححه شيخنا - رحمه الله- في "الإرواء" (1240). وتقدّم. (¬2) الأنفال: 41. (¬3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (3862) وقال شيخنا -رحمه الله -: صحيح الإسناد مُرسَل.

بها عليكم، قد أعطاكموها، وبثَّها فيكم، حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنفِق على أهله نفقةَ سَنتَهم مِن هذا المال، ثمّ يأخُذ ما بقي، فيجعله مَجْعَل مال الله، فَعمِل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك حياتَه" (¬1). وعن عمر -رضي الله عنه-: "كانت أموال بني النّضير مما أفاءَ الله على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مما لم يوجِف (2) المسلمون عليه بخيل ولا ركاب (¬2)، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة، وكان يُنفِق على أهله نفقة سنته (¬3)، ثمّ يجعل ما بقي في السلاح والكُراع (¬4)؛ عُدّةً (¬5) في سبيل الله" (¬6). *قال أبو عبيد -رحمه الله- في كتاب "الأموال" (ص 264): "وقد كان رأيُ عمرَ الأول؛ التفصيل على السوابق والغَنَاء عن الإسلام، وهذا هو المشهور مِن رأيه، وكان رأي أبي بكرٍ التسوية، ثمّ قد جاء عن عمرَ شيءٌ شبيهٌ بالرجوع إلى رأي أبي بكر". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3094، ومسلم: 1757. (¬2) يوجف: الإيجاف: هو الإسراع في السير، [والركاب: الإبل]، أي: لم يعملوا فيه سعْياً؛ لا بالخيل ولا بالإبل. "شرح الكرماني" (12/ 167). (¬3) قال النّووي -رحمه الله-: "أي: يعزل لهم نفقَة سنة، ولكنه كان يُنفِقه قبل انقضاء السنة في وجوه الخير، فلا تَتِمّ عليه السنة، ولهذا تُوفِّي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودرعه مرهونةٌ على شعير؛ استدانَه لأهله، ولم يشبع ثلاثة أيام تباعاً، وقد تظاهَرَت الأحاديث الصحيحة؛ بكثرة جوعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجوع عياله". (¬4) أي: الخيل. (¬5) قال العيني في "عمدة القاري" (14/ 185): "قوله عُدّةً: وهي الاستعداد، وما أعدَدْته لحوادث الدهر مِن سلاحٍ ونحوه". (¬6) أخرجه البخاري: 2904، ومسلم: 1757.

يراعى في قسم الفيء قدم الرجل في الإسلام وبلاؤه، وعياله وحاجته

وروى (ص 263) بسند صحيح عن عمرَ خطبتَه بالجابية، قال: أمّا بعد؛ فإنّ هذا الفيءَ شيءٌ أفاءه الله عليكم؛ الرفيع فيه بمنزلة الوضيع. ... إلخ. وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعْتُ عمر يقول: "لئن عِشت إلى هذا العام المقبِل؛ لأُلحقنّ آخر النّاس بأولهم؛ حتّى يكونوا بياناً (¬1) واحداً". وسنده حسن. وذكر عن شيخه عبد الرحمن بن مهدي قال: بياناً واحداً: أي: شيئاً واحداً* (¬2). يُراعى في قَسْم الفيء قِدَمُ الرجل في الإسلام وبلاؤُه، وعِيالُه وحاجتُه عن مالك بن أوس بن الحدَثان قال: ذكَر عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه- يوماً الفيء، فقال: "ما أنا بأحقَّ بهذا الفيء منكم، وما أحدٌ منّا بأحقَّ به من أحدٍ، إلاَّ أنّا على منازلنا مِن كتاب الله -عزّ وجلّ- وقَسْمِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالرجلُ وقِدَمُه (¬3)، والرجل وبلاؤه، والرجل وعِياله والرجل وحاجته" (¬4). ¬

_ (¬1) كذا وردت في المصادر المذكورة، وتقدّم قبل صفحات في (حُكم الأرض المغنومة) في قول عمر -رضي الله عنه- في "الصحيحين" بلفظ "ببّاناً" وهذا الراجح من خلال هذه الرواية وكلام الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" والله أعلم. (¬2) ما بين نجمتين من كتاب "صحيح سنن أبي داود" (الأمّ) (8/ 302) لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (¬3) أي: في الإسلام. (¬4) أخرجه أبو داود وقال شيخنا -رحمه الله- في "هداية الرواة" (3990): "في إسناده عنعنة ابن إسحاق وقال في "صحيح سنن أبي داود" (الأمّ) (8/ 301): لكن له شاهد يأتي =

إعطاء المتزوج حظين والعزب حظا واحدا

إعطاء المتزوج حظّين والعزب حظاً واحداً فيه الحديث المتقدم: " ... والرجل وعِياله والرجل وحاجته". وعن عوف بن مالك "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أتاه الفيء؛ قسَمَه في يومه، فأعطى الآهل (¬1) حظين (¬2)، وأعطى العَزبَ (¬3) حظّاً، فدُعينا، وكنت أدعى قبل عمّار فدُعيت، فأعطاني حَظَّين وكان لي أهل، ثمّ دُعي بعدي عمّار بن ياسر، فأُعطي له حظّاً واحداً" (¬4). جاء في "المرقاة" (7/ 658): "والظاهر أنّ في معناه؛ مَن له أحدٌ ممن يَجِب عليه نفقته" أي: له حظّان". استيعاب الفيء عامّة المسلمين عن مالك بن أوس الحدَثان قال: قَرَأ عمرُ بنُ الخطاب {إنما الصدقات للفقراء والمساكين ... } حتّى بلَغ: {عليم حكيم}، فقال: هذه لهؤلاء، ثمّ قَرَأ: {واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأنَّ لله خُمُسَهُ ... } حتى بلَغ: {وابن السَبِيلِ}، ثُمّ قال: هذه لهؤلاء، ثُمّ قرَأ: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ... } حتّى بلَغ: ¬

_ = ذِكْره، إن شاء الله -تعالى-، وقال في تخريج "سنن أبي داود" (2950): "حسن موقوف". (¬1) الآهل -بالمد وكسر الهاء- أي: المتأهل الذي له زوجة، قال في "النيل": "وفيه دليلٌ عمليّ على أنّه ينبغي أن يكون العطاء؛ على مقدار أتباع الرجل الذي يلزم نفقتهم مِن النّساء وغيرهنّ، إذ غير الزوجة مثلها في الاحتياج إلى المؤونة" وانظر "عون المعبود" (8/ 120). (¬2) أي: نصيبَين. (¬3) العزب: مَن لا زوجة له. (¬4) أخرجه أبو داود، "صحيح سنن أبي داود" (2560) وانظر "المشكاة" (4057).

{للفقراء}، ثمّ قرأ: {والذين جاءوا من بعدهم ... }، ثمّ قال: هذه استوعَبَت المسلمين عامّة، فلئِن عشْتُ فليأتينّ الراعي -وهو بِسَرو حِمْيَر (¬1) - نصيبُه منها، لم يَعْرَق فيها جَبينه" (¬2). وفي رواية: "ما مِن أحدٍ؛ إلاَّ وله في هذا المال حقّ أُعطِيَه أو مُنِعَه؛ إلاَّ ما ملكَت أيمانكم" (¬3). بل وردَ عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قسَم للحُرّة والأَمَة. فعن عائشة: "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بظَبْية (¬4) فيها خَرَزٌ، فقسَمها للحُرّة والأَمَة. قالت عائشة: وكان أبي يَقْسِم للحُرّ والعبد" (¬5). ¬

_ (¬1) وهو بسَرو حمير: -بفَتْح السين وسكون الراء المهملتين-: اسم موضع بناحية اليمن، وحِمْيَر -بكسر المهملة وسكون الميم وفتح التحتية-، وهو أبو قبيلة من اليمن أضيف إليهم، لأنه محلتهم، وقيل: سرو حِمير موضع من بلاد اليمن وأصل السَّرو ما ارتفع من منحدر، أو ما انحدر من مرتفع، وإنما ذَكَر سِرْو حِمْيَر؛ لما بينه وبين المدينة من المسافة الشاقّة، وذكر الراعي مبالغة في الأمر الذي أراده من معنى التعميم؛ في إيصال القسم إلى الطالب وغيره، والقريب والبعيد، والفقير والحقير، وذلك لأن الراعي يشغله الرعي عن طَلَب حقّه أو لحقارته، يظنّ أنّه لا يُعطى له شيء، بل قلّ أن يُعلَم أنّ له حقّاً في ذلك. "المرقاة" (7/ 662). (¬2) انظر "هداية الرواة" (3991) و"الإرواء" (5/ 84). (¬3) أخرجه الشافعيّ، وعنه البيهقي، وقال: هذا هو المعروف عن عمر -رضي الله عنه-، قال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" وإسناده صحيح. (¬4) بظبية: هي جراب صغير عليه شعر، وقيل: هي شِبه الخريطة والكيس "النّهاية". (¬5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2559)، وقال شيخنا -رحمه الله- في "هداية الرواة" (3989) وإسناده صحيح.

عطاء المحررين

قال القاري: "أي يُعطي كلّ واحد مِن الحرّ والعبد، بقدْر حاجته مِن الفيء ... " (¬1). عطاء المحرَّرين عن زيد بن أسلم: "أنّ عبد الله بن عمر دخل على معاوية -رضي الله عنهم أجمعين- فقال: حاجَتَك (¬2) يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: عطاء المحرَّرين (¬3)، فإنّي رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول ما جاء شيء بدأ بالمحرَّرين" (¬4). *قال الخطابي -رحمه الله-: "يريد بالمحرَّرين المعتَقين، وذلك أنهم قوم لا ديوان لهم، وإنّما يدخلون تبعاً في جملة مواليهم"، وقال القاضي الشوكاني: "فيه استحباب البداءة بهم، وتقديمهم عند القِسمة على غيرهم"* (¬5). كيفية تجزئة النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفيء عن مالك بن أوس بن الحدَثان قال: "كان فيما احتجَّ (¬6) به عمر ¬

_ (¬1) انظر "عون المعبود" (8/ 120). (¬2) حاجتك بالنصب: أي اذكر حاجتَك؛ ما هي؟. (¬3) عطاء المحرَّرين: جمع مُحرَّر، وهو الذي صار حُراً بعد أن كان عبداً. "عون المعبود". (¬4) أخرجه "أبو داود" (2951) "صحيح سنن أبي داود" (2558) وقال: شيخنا -رحمه الله- في "هداية الرواة" (3988) وإسناده حسن. (¬5) ما بين نجمتين مِن "عون المعبود" (8/ 120). (¬6) أي استدلَّ به على أن الفيء لا يُقسَم، وذلك بمحضرٍ من الصحابة -رضي الله عنهم- ولم يُنكِروا عليه.

-رضي الله عنه- أنّه قال: كانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث صفايا (¬1): بنو النضير (¬2) وخيبر وفَدَك (¬3)، فأمّا بنو النضير فكانت حُبْساً (¬4) لنوائبه (¬5)، وأمّا فَدَك فكانت حُبْساً لأبناء السبيل (¬6)، وأمّا خيبر؛ فجزَّأَها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أجزاء: جزأين بين المسلمين، وجزءاً نفقةً لأهله، فما فَضَل عن نفقة أهله؛ جَعَله بين فقراء المهاجرين" (¬7). وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- مُفصِّلاً في الفيء: *"وهو الذي ذَكَرَه الله -تعالى- في "سورة الحشر" حيث قال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} معنى قوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} أي ما حرَّكتم ولا أعملتم ولا ¬

_ (¬1) صفايا: جَمْعُ صفية وهو: ما يُصطفى ويُختار، قال الخطابي -رحمه الله-: الصفيّ: ما يَصْطفيه الإمام عن عُرْضِ الغنيمة من شيء قبل أن يُقسم؛ من عبدٍ أو جاريةٍ أو فرسٍ أو سيفٍ أو غيرها. وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخصوصاً بذلك مع الخُمُس له خاصة، وليس ذلك لواحدٍ من الأئمة بعده. قالت عائشة رضي الله عنها: "كانت صفيةُ من الصفيّ أي: كانت صفيةُ بنتُ حُيي -زوجُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- مِن صفيّ المغنم". (¬2) أي أراضيهم. (¬3) فَدَك -بفتحتين-: قرية بناحية الحجاز. (¬4) حُبْساً: -بضمّ الحاء المهملة، وسكون الموحّدة- أي: محبوسة. (¬5) لنوائبه: أي لحوائِجه وحوادثِه؛ من الضيفان والرُّسُل وغير ذلك من السلاح والكراع [أي الخيل: كما تقدم]. (¬6) كانت حُبْساً لأبناء السبيل: قال ابن المَلَك: يُحتمَل أن يكون معناه؛ أنها كانت موقوفةً لأبناء السبيل، أو مُعدَّةً لوقت حاجتهم إليها وَقْفَاً شرعياً. ملاحظة: استفدت من المرقاة (7/ 663) في شرح الحديث السابق. (¬7) أخرجه أبو داود (2967) وقال شيخنا -رحمه الله- في "هداية الرواة" (3992) إسناده حسن.

مصادر الفيء

سُقتم [خيلاً ولا إبلاً]. يقال وجَف البعير يَجِف وُجوفاً وأوجَفْته: إذا سار نوعاً مِن السير، فهذا هو الفيء الذي أفاءه الله على رسوله، وهو ما صار للمسلمين بغير إيجاف خيلٍ ولا رِكاب، وذلك عبارة عن القتال، أي: فما قاتلوا عليه، كان للمقاتِلةِ، وما لم يُقاتِلوا عليه؛ فهو فيء. مصادر الفيء وهذا الفيء يدخُل فيه جزية الرؤوس التي تُؤخَذ مِن أهل الذمّة، ويدخُل فيه ما يُؤخَذ منهم مِن العشور، وأنصاف العشور، وما يُصالَح عليه الكُفَّار مِن المال؛ كالذي يحملونه، وغيرِ ذلك، ويدخُل فيه ما جَلَوا عنه وتركوه خوفاً مِن المسلمين؛ كأموال بني النضير التي أنزل الله فيها "سورة الحشر" وقال: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ}. وهؤلاء أجلاهم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانوا يَسكُنون شرقيَّ المدينة النبوية فأجلاهم بعد أنْ حاصَرهم، وكانت أموالهم مما أفاء الله على رسوله.* (¬1). وقال -رحمه الله- (28/ 276): "والمال الذي يُصالَح عليه العدو أو يهدونه إلى سلطان المسلمين؛ كالحِمل الذي يُحمَل مِن بلاد النصارى ونحوهم؛ وما يُؤخَذ من تجار أهل الحرب -وهو العشر- ومِنْ تُجّار أهل الذِّمَّة إذا اتجَرَوا ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "مجموع الفتاوى" (28/ 512).

مصارف الفيء

في غير بلادهم -وهو نصف العشر- هكذا كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - يأخذ، وما يُؤخَذ مِن أموال مَنْ ينقُض العهد منهم، والخَراج الذي كان مضروباً في الأصل عليهم أيضاً -وإن كان قد صار بعضه على بعض المسلمين- ثمّ إنّه يجتمع مِن الفيء جميعُ الأموال السلطانية التي لبيت مالِ المسلمين؛ كالأموال التي ليس لها مالك مُعيَّن مثل من مات من المسلمين وليس له وارث مُعيَّن؛ وكالغصوب، والعواري، والودائع التي تَعذَّر معرفة أصحابِها، وغير ذلك مِن أموال المسلمين: العقار والمنقول، فهذا ونحوه مال المسلمين". مصارف الفيء * [وذكر- ربنا سبحانه- مصارف الفىء بقوله]: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬1). فهؤلاء المهاجرون والأنصار؛ ومَن جاء بعدهم إلى يوم القيامة، ولهذا قال مالك وأبو عبيد وأبو حكيم النهرواني -من أصحاب أحمد وغيرهم-: "إنّ مَن ¬

_ (¬1) الحشر: 7 - 10.

سَبَّ الصحابة؛ لم يكن له في الفيء نصيب". ومِن الفيء ما ضَرَبه عمر -رضي الله عنه- على الأرض التي فتحها عَنْوَة (¬1) ولم يَقْسِمها؛ كأرض مصر، وأرض العراق -إلاَّ شيئا يسيرا منها- وبَرّ الشام وغير ذلك. فهذا الفيء لا خُمُس فيه عند جماهير الأئمة: كأبي حنيفة ومالك وأحمد. وإن يرى تخميسه الشافعيّ، وبعض أصحاب أحمد، وذُكر ذلك رواية عنه، قال ابن المنذر: لا يُحفَظ عن أحدٍ قبل الشافعي؛ أنّ في الفيء خُمُساً كخُمُس الغنيمة. وهذا الفىء لم يكن ملكاً للنبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته عند أكثر العلماء وقال الشافعى وبعض أصحاب أحمد: كان ملكاً له. وأمّا مصرفه بعد موته؛ فقد اتفَق العلماء على أن يُصْرَف منه أرزاقُ الجند المقاتِلين الذين يُقاتِلون الكُفّار؛ فإنَّ تقويتَهم تُذلّ الكُفَّار؛ فيُؤخَذ منهم الفيء. وتنازعوا هل يُصَرف في سائر مصالح المسلمين، أم تَخْتَصّ به المقاتِلة؟ على قولين للشافعي، ووجهين في مذهب الإمام أحمد، لكن المشهور في مذهبه -وهو مذهب أبي حنيفة ومالك-: أنّه لا يَخْتَص به المقاتِلة؛ بل يصرف في المصالح كلِّها. وعلى القولين؛ يُعطَى مَن فيه منفعةٌ عامة لأهل الفيء، فإنّ الشافعيّ قال: ينبغي للإمام أن يَخُصّ مَن في البلدان مِن المقاتِلة -وهو مَنْ بَلَغ، ويُحصي الذُّرّية- وهي من دون ذلك والنساء- إلى أن قال: ثمّ يُعطي المقاتِلة في كلّ عام عطاءهم ويُعطي الذرية والنساء ما يكفيهم لسنتهم. ¬

_ (¬1) عَنْوَة: أي قهراً وغَلَبة.

قال: والعطاء مِن الفيء لا يكون إلاَّ لبالغٍ يُطيق القتال. قال: ولم يختلف أحدٌ ممن لقيه، في أنّه ليس للمماليك في العطاء حقّ ولا للأعراب الذين هم أهل الصدقة. قال: فإنْ فَضُل مِن الفيء شيء؛ وَضَعه الإمام في أهل الحصون والازدياد، في الكُراع والسلاح، وكلّ ما يقوى به المسلمون. فإنِ استغنَوا عنه وحَصَلت كلّ مصلحةٍ لهم فُرِّق ما يبقى عنهم بينهم؛ على قدْر ما يستحقّون مِن ذلك المال. قال: ويعطي من الفيء رزقَ العمال والولاة وكلّ مَن قام بأمر الفيء؛ مِن والٍ وحاكم وكاتب وجندي؛ ممن لا غنى لأهل الفيء عنه. وهذا مُشْكِلٌ مع قوله: إنه لا يُعطى من الفيء صبيٌّ ولا مجنون ولا عبدٌ ولا امرأة ولا ضعيف لا يَقْدِر على القتال؛ لأنه للمجاهدين. وهذا إذا كان للمصالح؛ فيُصرَف منه إلى كلِّ مَن للمسلمين به منفعةٌ عامّة؛ كالمجاهدين وكولاة أمورِهم؛ مِن ولاة الحرب ووُلاة الديوان، وولاة الحُكم، ومَن يقرئهم القرآن، وُيفتيهم ويُحدّثهم ويؤمّهم في صلاتهم ويُؤَذِّن لهم. ويُصرَف منه في سداد ثغورهم وعمارةُ طُرقاتهم وحصونهم ويُصرَف منه إلى ذوي الحاجات منهم أيضاً ويُبدَأ فيه بالأهم فالأهم، فيقدَّم ذوو المنافع الذين يَحْتاج المسلمون إليهم على ذوي الحاجات الذين لا مَنفَعة فيهم. هكذا نصَّ عليه عامّة الفقهاء مِن أصحاب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرِهم. قال أصحاب أبي حنيفة يُصرَف في المصالح ما يُسَدُّ به الثغور من القناطر والجسور ويُعطَى قضاة المسلمين ما يكفيهم، ويُدفَع منه أرزاقُ المقاتِلة وذوو الحاجات يُعطَون من الزكوات ونحوها. وما فَضُل عن منافع المسلمين قُسم بينهم.

عقد الأمان

لكن مذهب الشافعي، وبعض أصحاب أحمد؛ أنّه ليس للأغنياء الذين لا منفعةَ للمسلمين بهم فيه حقٌّ إذا فضُل المال واتسع عن حاجات المسلمين كما فعَل عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه- لمّا كَثُر المال أعطى منهم عامّة المسلمين؛ فكان لجميع أصناف المسلمين فرضٌ في ديوان عمر بن الخطاب؛ غنيّهِم وفقيرِهم. لكن كان أهلُ الديوان نوعين: مقاتلة -وهم البالغون- وذرية -وهم الصغار والنساء الذين ليسوا من أهل القتال-؛ ومع هذا فالواجب تقديمُ الفقراءِ على الأغنياء الذين لا منفعةَ فيهم فلا يُعطَى غنيٌّ شيئاً حتى يَفضُل عن الفقراء. هذا مذهب الجمهور؛ كمالك وأحمد في الصحيح من الروايتين عنه. ومذهب الشافعي -كما تقدم- تخصيص الفقراء بالفاضل"* (¬1). عقد الأمان إذا طلَب الأمانَ أيُّ فردٍ مِن الأعداء المحاربين، قُبِل منه، وصار بذلك آمناً؛ لا يجوز الاعتداء عليه؛ بأيّ وجهٍ مِن الوجوه، يقول الله- سبحانه وتعالى-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). (¬3). قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "يقول تعالى لنبيِّه -صلوات الله وسلامه عليه-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين أمَرْتُكَ بقتالهم، وأحلَلْتُ لك استباحة ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين من "مجموع الفتاوى" (28/ 564). (¬2) التوبة: 6. (¬3) انظر "فقه السُّنَّة" (3/ 48).

نفوسهم وأموالهم، {اسْتَجَارَكَ} أي: استأمَنك، فأجِبْه إلى طِلْبته {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} أي: القرآن تقرؤه عليه وتذكُر له شيئاً من أمر الدين تُقيم عليه به حُجَّة الله، {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي: وهو آمِنٌ مُستمرّ الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنِه، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} أي: إنما شَرَعْنا أمانَ مِثْلِ هؤلاء ليعلموا دين الله، وتنتشر دعوة الله في عباده. وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في تفسير هذه الآية، قال: "إنسانٌ يأتيك ليسمع ما تقول، وما أُنزِل عليك، فهو آمِنٌ حتى يأتيَك فيسمعَ كلام الله، وحتى يبلغَ مأمنَه حيث جاء". ومِن هذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعطي الأمان لمن جاءه، مُسترشداً أو في رسالة، كما جاءه يوم الحديبية جماعةٌ مِن الرسُل مِن قريش، منهم: عروة بن مسعود، ومِكْرَز بن حفص، وسهيل بن عمرو، وغيرهم؛ واحداً بعد واحد، يتردّدون في القضية بينه وبين المشركين، فرأَوا مِن إعظام المسلمين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بَهَرهم وما لم يشاهدوه عند مَلِكٍ ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم فأخبَروهم بذلك، وكان ذلك وأمثالُه مِن أكبر أسباب هداية أكثرِهم (¬1). ¬

_ (¬1) قلت: يُشير الحافظ ابن كثير -رحمه الله- إلى قصة الحديبية وفيها" ... ثمّ إنّ عروةَ جَعَل يرمُق أصحاب النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعينيه، قال فوالله ما تنخَّم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُخامةً إلاَّ وقعَت في كفِّ رجلٍ منهم، فدَلَكَ بها وجهَه وجِلده وإذا أمَرَهم ابتدروا أمْرَه وإذا توضَّأ كادوا يَقْتتِلون على وَضوئه، وإذا تكلَّم خَفضوا أصواتَهم عنده، وما يُحدّون إليه النَّظَر تعظيماً له، فرجَع عروة إلى أصحابه، فقال: أيْ قومِ، والله لقد وَفَدْت على الملوك، ووفدْتُ على قيصر وكسرى والنجاشيّ، والله إنْ رأيت مَلِكاً قطُّ يُعظِّمه أصحابه ما يُعظِّم أصحابُ محمّد =

ولهذا أيضاً لمّا قَدِم رسولُ مسيلمةَ الكذّاب على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال له: "أتشهدُ أنَّ مسيلمة رسول الله؟ قال: نعم، فقال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لولا أن الرسلَ لا تُقتَل لضَربْتُ عُنُقَك" (¬1). وقد قيّض الله له ضَرْب العُنُق في إمارة ابن مسعود على الكوفة، وكان يقال له: ابن النواحة، ظَهَر عنه في زمانِ ابن مسعودٍ أنّه يشهد لمسيلمةَ بالرسالة، فأرسَل إليه ابن مسعودٍ فقال له: إنك الآن لستَ في رسالة، وأمَرَ به فضُرِبت عنقُه، لا رَحِمَه الله ولَعَنه (¬2). والغرض أنّ مَن قَدِمَ من دار الحرب إلى دار الإسلام، في أداء رسالة أو تجارة، أو طَلَبِ صُلحٍ أو مهادنة أو حَمْلِ جِزية، أو نحو ذلك من الأسباب، فطلَب من الإمام أو نائبه أمانًا -أُعطي أماناً ما دام مُتردّدًا في دار الإسلام، وحتى يرجع ¬

_ = - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محمداً، والله إنْ يتنخم نخامة إلاَّ وقَعَت في كفِّ رجلٍ منهم؛ فدلَك بها وجهه وجِلْده وإذا أمَرهم ابتدروا أمْرَه وإذا توضَّأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلَّم خَفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحدّون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عَرَض عليكم خُطَةَ رُشْدِ فاقبلوها" أخرجه أحمد، والبخاري (2731، 2732). يرمُق: اْي يَلحظ، قال الحافظ -رحمه الله-: وذكَر الثلاثة [قيصر، وكسرى، والنّجاشي] لكونهم أعظمَ ذلك الزَّمان. (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2399) وغيرهما. (¬2) عن حارثةَ بنِ مُضرب أنّه أتى عبد الله فقال: "ما بيني وبين أحدٍ من العرب حِنَةٌ وإني مرَرْتُ بمسجدٍ لبني حنيفة، فإذا هم يؤمنون بمسيلمة، فأرسل إليهم عبد الله، فجيء بهم فاستتابَهم، غير ابن النواحة قال له: سمعْت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لولا أنك رسولٌ لضربتُ عنقَك. فأنت اليوم لست برسول، فأمَر قَرظَة بن كعب، فضَرَب عُنُقَه في السوق، ثمّ قال: مَن أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلاً بالسوق". أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2400) وغيره.

من أمنه أحد المسلمين صار آمنا

إلى مأمِنه ووطنه. لكن قال العلماء: لا يجوز أن يمكَّن مِن الإقامة في دار الإسلام سنة، ويجوز أن يمكَّن مِن إقامة أربعة أشهر، وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعةِ أشهر ونقَص عن سنة قولان؛ عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء، رحمهم الله". انتهى. قلت: والذي يبدو أن الأمر يرجع إلى الحاكم، فهو الذي يرجّح المُدّة ما بين الأربعة أشهر والسنة، مع تحرّي المصلحة، والله -تعالى- أعلم. مَن أَمّنه أحد المسلمين صارَ آمناً عنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عنْ أَبيه قَالَ: "خَطَبَنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍّ (¬1)، وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَقَالَ: وَالله مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلَّا كِتَابُ اللهِ وَمَا فِي هَذِه الصَّحِيفَةِ، فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا أَسَنَانُ الْإِبِلِ (¬2)، وإذَا فِيهَا: المدِينَةُ حَرَمٌ مِن عَيْرٍ إِلَى كَذَا، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله وَالملَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفاً وَلَا عَدْلاً (¬3)، وَإِذَا فِيهِ: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ (¬4)، ¬

_ (¬1) آجُرٍّ: هو الطوب المشويّ. (¬2) أسنان الإبل: أي إبِل الدّيات؛ لاختلافها في العمد وشبهه والخطأ، وانظر "شرح الكرماني" (25/ 46). (¬3) لا يقبل الله صرفاً ولا عدلاً: قال الكرماني -رحمه الله- (25/ 46): "الصرف: الفريضة، والعدل: النافلة، وقيل بالعكس". (¬4) ذمّة المسلمين واحدة: قال الإمام النّووي -رحمه الله-: "المراد بالذِّمّة هنا الأمان، معناه أنّ أمان المسلمين للكافر صحيح"، وقال الحافظ -رحمه الله- في الفتح (4/ 86): "أي أمانهم صحيح فإذا أمّن الكافرَ واحدٌ منهم؛ حَرُم على غيره التعرّض له".

يَسْعَى بِهَا أدْنَاهُمْ (¬1)، فَمَنْ أَخْفَرَ (¬2) مُسْلِماً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالملَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفاً وَلَا عَدْلاً، وَإِذَا فِيهَا: مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَاليهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله وَالمُلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفاً وَلَا عَدْلاً" (¬3). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمّتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم (¬4)، وهم يدٌ على مَن سواهم ... " (¬5). جاء في "الروضة النديّة" (2/ 759): "وقد أجمَعَ أهل العِلم على أنّ مَن أمّنه أحدُ المسلمين؛ صار آمناً. وأمّا العبد، فأجاز أمانَه الجمهور، وأمّا الصبيّ، فقال ابن المنذر: أجمَعَ أهل العِلم على أنّ أمانَ الصبيّ غيرُ جائز. انتهى. وأمّا المجنون فلا يصحّ أمانُه بلا خلاف. قلت: [أي: صاحب الروضة]: إنّما يصحّ الأمان مِن آحاد المسلمين، إذا أَمَّن واحداً أو اثنين، فأمّا عَقْد الأمان لأهل ناحيةٍ على العموم؛ فلا يَصحّ إلاّ مِن ¬

_ (¬1) يسعى بها أدناهم: أي: يتولّاها ويذهب ويجيء، والمعنى أنّ ذمّة المسلمين سواءٌ صدَرَت مِن واحد، أو أكثر، شريفٍ أو وضيع؛ فإذا أمّن أحدٌ من المسلمين كافراً وأعطاه ذمّة؛ لم يكن لأحدٍ نَقْضُه، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحرّ والعبد، لأن المسلمين كنفسٍ واحدة. "الفتح" (4/ 86). (¬2) أخفرَ مسلماً: أي نقض العهد، وقال الإمام النّووي -رحمه الله-: "قال أهل اللغة: يقال: أخفرت الرجل إذا نقضْت عهده وخفرْته: إذا أمنته". (¬3) أخرجه البخاري: 7300، وهذا لفْظُه، ومسلم: 1370. (¬4) أي: أبعدهم. (¬5) أخرجه أحمد وأبو داود (2751) "صحيح سنن أبي داود" (2390).

الإمام على سبيل الاجتهاد وتحرّي المصلحة كَعَقْد الذّمّة؛ ولو جُعِل ذلك لآحاد النّاس؛ صار ذريعةً إلى إبطال الجهاد". انتهى. قلت: أمّا جواز أمانِ المرأة؛ فلعموم النصوص الواردة المتقدّمة؛ فهي تمضي على الرجل والمرأة، وقد قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "النساء شقائق الرجال" (¬1). ولا دليل على تخصيص ذلك بالرجال. بل إنه قدر وَرد حديث صريحٌ يدلّ على صحة أمان المرأة. فعن أمّ هانئ (بنت أبي طالب) قالت، قلت: "يا رسول الله زَعَم ابن أمّي (¬2) أنّه قاتِلٌ رجلاً قد أجرْتُه، فلانَُ بنُ هُبَيرَة فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد أجَرْنا مَن أجرْتِ يا أمّ هانئ" (¬3). قال الإمام النّووي -رحمه الله- (5/ 232): "واستدلَّ بعضُ أصحابنا وجمهور العلماء بهذا الحديث؛ على صحّة أمان المرأة". وجاء في "الروضة الندية" (2/ 759): "قال ابن المنذر: أجمَع أهل العِلم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (98) وانظر "المشكاة" (441) وتقدّم في "كتاب الآذان". (¬2) قال الإمام النّووي -رحمه الله-: "وإنما قالت: ابن أمّي مع أنّه ابن أمّها وأبيها؛ لتأكيد الحرمة والقرابة والمشاركة في بطن واحد، وكثرة ملازمة الأمّ، وهو موافق لقول هارون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {يَبنَؤُمَّ لَا تَأخُذ بِلِحيتِي}. انتهى. قلت: وهو عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- كما في روايةٍ عند البخاري: (3171)، ومسلم: (1/ 489) (كتاب صلاة المسافرين وقِصَرها) "باب استحباب صلاة الضحى" (336 - 82). (¬3) أخرجه البخاري: 357، ومسلم: 336.

تحريم قتل المؤمن

على جواز أمان المرأة" (¬1). وأمّا عدم قَبولِ أمانِ الصبيّ والمجنون؛ فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لي: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبيّ، حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يَعْقِل" (¬2). تحريم قتل المؤمَّن عن أنس -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لكل غادر لواء يوم القيامة يُعرَف به" (¬3). وعن رفاعة بن شداد القِتباني قال: "قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أمَّنَ رَجُلاً على دَمِهِ فَقَتَلَهُ؛ فأَنا بريءٌ مِن القاتل، وإنْ كان المقتول كافِراً" (¬4). وفي رواية: "من أَمَّن رجلاً على دمه فقتَله، فإنّه يحمل لواء غدرٍ يوم القيامة" (¬5). حُكم الرسول كالمؤَمّن وحُكم الرسول كحُكم المؤَمّن. ¬

_ (¬1) انظر "الإجماع" لابن المنذر (ص 61) (رقم 247). (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3703) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1150) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1661)، وانظر "الإرواء" (297). (¬3) أخرجه البخاري: 3186، 3187، ومسلم: 1737. (¬4) أخرجه البخاري في "التاريخ"، والطحاوي في "المشكل"، والطبراني في "الصغير" وغيرهم، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- إسناده في "الصحيحة" تحت (440). (¬5) أخرجه البخاري في "التاريخ"، وابن ماجه وغيرهما وانظر "الصحيحة" (440).

عن نُعَيم بن مسعود الأشجعي قال: "سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لهما (¬1) حين قَرَأ كتاب مسيلمة: ما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، قال: أمَا والله لولا أنّ الرسل لا تُقتَل لضربْتُ أعناقَكما" (¬2). وعن أبي رافع -رضي الله عنه- قال: "بَعَثَتْني قريش إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلمّا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أُلقيَ في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله إني والله لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني لا أخِيسُ (¬3) بالعهد ولا أحبِس البُرُد (¬4)، ولكن ارجِعْ، فإنْ كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع (¬5)، قال: فذهبت، ثمّ أتيت النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلمْتُ" (¬6). قال في "سُبل الإسلام" (4/ 120): "وفي الحديثِ دليلٌ على حِفظ العهد ¬

_ (¬1) أي: لرسولي مسيلمة الكَذّاب. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2399) وغيره وانظر "المشكاة" (3982). وتقدّم. (¬3) أي: لا أغدر. (¬4) البُرُد: جمع بريد؛ وهو الرسول. (¬5) أي: لا تُقِم بين ظَهرانَينا وتُظهرَ الإسلام، ولكن ارجع إليهم، فإن ثبَتّ على ما أنت عليه الآن، فارجِع مِن الكُفّار إِلينا، ثمّ أسْلِم لأنّي لو قَبِلْتُ منك الإسلام الآن، وما أرُدُّك عليهم؛ لغَدرت، قاله ابن الملك، وفيه أنّ قَبولَ الإسلام منه لا يكون غدراً، ولا يُتصوّر أن يكون عدمُ حَبْسه له غدراً، بل المراد منه أنّه لا يُظهر الإسلام، ويرجع إليهم حيث يتعذر حبْسه، فإنّه أرفق، ثمّ بعد ذلك يرجع إلى الحقّ على الطريق الأحقّ. "المرقاة" (7/ 537). (¬6) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2396) وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (702).

المستأمن

والوفاء به ولو لكافر، وعلى أنّه لا يُحبَس الرسول، بل يُرَدُّ جوابه فكأنّ وصولَه أمانٌ له؛ فلا يجوز أن يُحبَس بل يُردّ". وجاء في "السيل الجرار" (4/ 560) -في تأمين الرُّسُل-: " ... وجْهُه أنّ تَأمينَ الرُّسلِ ثابت في الشريعة الإسلامية ثبوتاً معلوماً، فقد كان رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يَصِل إليه الرّسلُ من الكفار، فلا يتعرّض لهم أحد مِن أصحابه، وكان ذلك طريقةً مستمرة وسُنّةً ظاهرة، وهكذا كان الأمر عند غيرِ أهل الإسلام مِن ملوك الكفر، فإن النبيّ -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يُرَاسلهم من غير تَقدُّم أمانٍ منهم لرُسُلِه، فلا يتعرض لهم مُتعرّض. والحاصل أنّه لو قال قائل: إنّ تأمين الرسل قد اتفقت عليه الشرائع، لم يكن ذلك بعيداً، وقد كان أيضاً معلوماً ذلك عند المشركين أهل الجاهلية عَبَدة الأوثان، ولهذا إنّ النبيّ -صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لَوْلا أنَّ الرُّسلَ لا تُقْتلُ لضربتُ أعْناقَهُما" قاله لرسولي مسيلمة أخرجه أحمد وأبو داود فقوله: "لولا أنَّ الرُّسَلَ لا تُقْتلُ" فيه التصريح بأنَّ شأنَ الرُّسل أنهم لا يُقتلون في الإسلام وقبلَه". المستأمَن *المستأمَن: هو الحربيّ الذي دخَل دار الإسلام بأمان، دون نيةِ الاستيطان بها، والإقامةِ فيها بصفةٍ مستمرّةٍ، بل يكون قصْدُه إقامةَ مدّةٍ معلومةٍ، لا تزيد على سَنةٍ، فإن تجاوَزَها (¬1)، وقصَد الإقامة بصفةٍ دائمةٍ، فإنه يتحوّل إلى ذميّ، ويكون له ¬

_ (¬1) هذا كلام الفقهاء؛ وتقدم قول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "لكن قال العلماء: لا يجوز أن يُمكَّن مِن الإقامة في دار الإسلام سَنَة، ويجوز أن يمكَّن مِن إقامة أربعة أشهر، وفيما =

حُكم الذّمّي في تبعيَّته للدولة الإسلامية، ويتبعُ المستأمنَ في الأمان، ويلحقُ به زوجتُه وأبناؤُه الذكور القاصرون، والبناتُ جميعاً، والأمّ، والجدات، والخدَم، ما داموا عائشين مع الحربي الذي أُعطي الأمان. وأصْل هذا قول الله- سبحانه وتعالى-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (¬1). وجاء في "المغني" (10/ 605): "وليس لأهلِ الحرب دخولُ دارِ الإسلام بغير أمان؛ لأنه لا يُؤمَن أن يَدْخُل جاسوساً، أو مُتلصّصاً، فيُضِرّ بالمسلمين، فإنْ دخَل بغيرِ أمانٍ، سُئل، فإنْ قال: جئت رسولاً، فالقول قوله؛ لأنه تتعذر إقامة البينة على ذلك، ولم تزل الرُسل تأتي من غير تَقَدُّمِ أمان. وإنْ قال: جئتُ تاجراً، نظرنا؛ فإنْ كان معه متاع يبيعه، قُبِل قوله أيضاً، وحُقن دمُه؛ لأنَّ العادةَ جارية بدخول تُجارهم إلينا، وتُجّارنا إليهم، وإنْ لم يكن معه ما يُتّجَر به، لم يُقبل قوله؛ لأن التجارة لا تحصُل بغير مال، وكذلك مُدّعي الرسالة، إذا لم يكن معه رسالة يؤديها، أو كان ممن لا يكون مثله رسولاً. وإنْ قال: أمَّنَني مُسلم، فهل يُقبَل منه؟ على وجهين؛ أحدهما، يُقبَل، تغليباً لحقْن دَمهِ، كما يُقبَل من الرسول والتاجر. والثاني: لا يُقبَل؛ لأن إقامَة البيّنة عليه ممكنة، فإنْ قال مسلم: أنا أمَّنتُه قُبلَ ¬

_ = بين ذلك؛ فيما زاد على أربعةِ أشهر ونقَص عن سنة قولان؛ عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء، رحمهم الله". (¬1) التوبة: 6.

حقوقه

قوله؛ لأنه يملك أن يُؤمِّنه، فقُبِل قوله فيه؛ كالحاكم إذا قال: حَكَمْت لفلان على فلان بحقّ. وإنْ كان جاسوساً، خُيّر الإمام فيه بين أربعة أشياء؛ كالأسير". حقوقه وإذا دخَل الحربيُّ دار الإسلام بأمان؛ كان له حقُّ المحافظةِ على نفسه وماله وسائِر حقوقه ومصالحه؛ مادام مُستمسِّكا بعقد الأمان ولم ينحرف عنه. ولا يحل تقييد حُريتِه، ولا القبض عليه مُطلَقاً، سواء قُصِدَ به الأسر، أو قُصِد به الاعتقال -لمجرَّد أنهم رعايا الأعداء، أو لمجرّد قيامِ حالِة الحرب بيننا وبينهم. الواجب عليه وعليه المحافظة على الأمن والنظام العامّ، وعدم الخروج عليهما، بأن يكون عيناً، أو جاسوساً، فإن تجسَّسَ على المسلمين لحساب الأعداء، حلَّ قَتْلُه إذ ذاك. تطبيق حكم الإسلام عليه تُطبَّق على المستأمَنِ القوانين الإسلامية بالنسبة للمعاملات المالية، فيَعقِد عَقْد البيع وغيره مِن العقود؛ حسب النظام الإسلامي، ويُمنَع ِمن التعامل بالربا، لأن ذلك محُرَّم في الإسلام. وأمّا بالنسبة للعقوبات، فإنّه يعاقَب بمقتضى الشريعة الإسلامية إذا اعتدى على حقّ مسلم.

مصادرة ماله

وكذلك إذا كان الاعتداء على ذمّي، أو مستأمَن مِثلِه؛ لأنّ إنصافَ المظلوم مِن الظالم وإقامةَ العدل مِن الواجبات التي لا يَحلّ التساهلُ فيها. وإذا كان الاعتداء على حقٍّ مِن حُقوق الله؛ مثل اقتراف جريمة الزنا؛ فإنّه يُعاقَب كما يُعاقَب المسلم؛ لأنّ هذه جريمةٌ مِن الجرائم التي تُفسد المجتمع الإسلامي (¬1). مُصادرة ماله ومال المستأمَن لا يُصادَر إلاَّ إذا حارَب المسلمين، فأُسِر واستُرِقّ، وصار عبداً، فإنه في هذه الحال؛ تزول عنهُ مُلكيّة مالِه، لأنه صار غيرَ أهلٍ للملكية. ولا يستحق الوَرَثة، -ولو كانوا في دار الإسلام- شيئاً، لأنَّ استحقاقهم يكون بالخلافة عنه، وهي لا تكون إلاَّ بعد موته، وهو لم يمت، وماله في هذه الحال يؤول إلى بيت مال المسلمين، على أنّه من الغنائم [والله -تعالى- أعلم]. ميراثه إذا ماتَ المستأمَن في دار الإسلام، أو في دار الحرب، فإنَّ ملكيته لماله لا تَذهب عنه، وتَنْتقل إلى وَرَثَتِه عند الجمهور، خلافاً للشافعي. وعلى الدولة الإسلامية؛ أن تَنْقُل مالَه إلى وَرَثَتِه، وتُرسلَه إليهم، فإنْ لم يكن له ورثة، كان ذلك المال فيئاً للمسلمين.* (¬2) [والله -تعالى- أعلم]. ¬

_ (¬1) وانظر الجزء السادس من هذا الكتاب "الموسوعة" (باب وجوب الحدّ على الكافر والذمّي). (¬2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 485، 486) بحذف، وإضافة ما جاء في "المُغني" (10/ 605).

العهود والمواثيق

العهود والمواثيق *احترامُ العهود: إنَّ احترامَ العهودِ والمواثيق واجبٌ إسلاميّ؛ لما له مِن أثرٍ طيِّب، ودورٍ كبير في المحافظة على السلام، وأهميةٍ كبرى في فضِّ المشكلات، وحَلِّ المنازعات، وتسوية العلاقات. والله -سبحانه- يأمُر بالوفاء بالعهود، سواءٌ أكانت مع الله، أم مع النّاس، فيقول: {يا أيُّهُا الذين آمَنُوَا أَوفُوا بالعُقُودِ} (¬1). وأيّ تقصيرٍ في الوفاء بهذا الأمر يُعَدُّ إثماً كبيراً؛ يستوجِب المقت والغضَب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬2). وكل ما يقطعه الإنسان على نفسه مِن عهدٍ، فهو مسؤول عنه، ومحاسَبٌ عليه: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (¬3). [وحقُّ العهد مُقدَّم على حقِّ نَصْرِ مَن استنصَر في الدين لقوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬4)]. ¬

_ (¬1) المائدة: 1. (¬2) الصف: 2 - 3. (¬3) الإسراء: 34. (¬4) الأنفال: 72.

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يقول -تعالى-: وإن استنصروكم هؤلاء الأعراب، الذين لم يُهاجروا في قتالٍ دينيّ، على عدوٍّ لهم فانصُروهم، فإنّه واجبٌ عليكم نَصْرهم؛ لأنهم إخوانكم في الدّين، إلاَّ أن يستنصروكم على قومٍ مِن الكُفَّار {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أي: مُهادنة إلى مُدّة، فلا تخفِروا ذمَّتكم، ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم. وهذا مرويٌّ عن ابن عباس -رضي الله عنهما-" انتهى. والوفاء جُزءٌ من الإيمان، عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنّ حُسنَ العهد مِن الإيمان" (¬1). وليس للوفاء جزاءٌ إلاَّ الجنَّة: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬2). ولقد كان الوفاء خُلُقَ الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (¬3). وقد عاهدَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الهجرة اليهود عهداً، [أَمَّنَهم على دمائهم، وأموالهم]، بشرط ألا يُعينوا عليه المشركين، فنقَضُوا العهد، ثمّ اعتذروا، ثمّ ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم وغيره وانظر "صحيح الجامع" (2052) و"الصحيحة" -لزاماً- تحت رقم (216). (¬2) المؤمنون: 8 - 11. (¬3) مريم: 54.

رجَعوا فنقضوه مرّةً أخرى، فأنزَل الله- عزّ وجلّ-: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (¬1)} (¬2). وفي التشنيع على الناقضين للعهود، يقول الله -عزّ وجلّ-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "آيةُ المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَد أخلَف، وإذا أؤتمُن خان" (¬4). وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن قَتَل ¬

_ (¬1) قال ابن كثير -رحمه الله-: "أخبَر -تعالى- أنّ شرَّ ما دبّ على وجه الأرض؛ همُ الذين كفَروا فهم لا يؤمنون، الذين كلّما عاهدوا عهداً نَقضوه، وكلّما أكّدوه بالأيمان نَكثوه، {وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} أي: لا يخافون مِن الله في شيءٍ ارتكبوه مِن الآثام. {فإما تثقفنهم في الحرب} أي: تَغْلبهم وتظفر بهم في حرب، {فَشَرِّدْ بِهِم مَنْ خلفَهُم} أي: نكِّل بهم، [قاله: ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره] ومعناه: غَلِّظ عقوبَتَهم، وأثخِنْهم قَتْلاً، ليخاف مَن سواهم مِن الأعداء -مِن العرب وغيرهم- ويصيروا لهم عِبرة". (¬2) الأنفال: 55 - 57. (¬3) النحل: 91 - 92. (¬4) أخرجه البخاري: 33، ومسلم: 59.

شروط العهود:

مُعاهَداً (¬1) في غير كُنهِهِ (¬2) حرّم الله عليه الجنّة" (¬3). شروط العهود: ويشترط في العهود التي يجب احترامها والوفاء بها، الشروط الآتية: 1 - ألا تخالف حُكْماً مِن الأحكام الشرعية المتَّفق عليها. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما كان مِن شرط ليس في كتاب الله فهو باطل؛ وإنْ كان مائةَ شرط" (¬4). 2 - أن تكون عن رضا واختيار، فإنَّ الإكراه يَسْلُب الإرادة، ولا احترامَ لعقْدٍ لم تتوفر فيه حريتُها. 3 - أن تكون بيّنةً واضحةً، لا لُبْس فيها ولا غموض؛ حتى لا تؤوّلَ تأويلاً يكون مثاراً للاختلاف عند التطبيق. نقض العهود: ولا تُنقَضُ العهود إلاّ في إحدى الحالات الآتية: 1 - إذا كانت مؤقتةً أو مُحدَّدةً بظرف، وانتهت مدّتُها أو ظرفُها. ¬

_ (¬1) المعاهَد: مَن كان بينك وبينه عهد، وأكثر ما يُطلَق في الحديث على أهل الذمّة، وقد يُطلَق على غيرهم من الكُفار؛ إذا صولحوا على تَرْك الحرب مُدّة ما. "النّهاية". (¬2) كُنه الأمر: حقيقته وقيل: وقْتُه وقَدره، وقيل: غايته، يعنيَ من قَتَلَه في غير وَقْتِه أو غاية أمرِه الذي يجوز فيه قَتْلُه. "النّهاية". (¬3) أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2398)، وغيرهما. (¬4) أخرجه البخاري: 2729، ومسلم: 1504.

عن سُلَيم بن عامر -رجلٍ مِن حِمْيَر- قال: "كان بين معاويةَ وبينَ الروم عهدٌ، وكان يسيرُ نحو بلادِهم؛ حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجلٌ على فرَس أو بِرذَون (¬1)، وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غَدر، فنظروا فإذا عمرو بن عَبَسَة، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال: سمعْتُ رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: مَن كان بينه وبين قوم عهد؛ فلا يشدَّ عقدةً ولا يحُلّها (¬2) حتى ينقضيَ أمدُها أو يَنْبِذَ (¬3) إليهم (¬4) على سواء (¬5)، فرجع معاوية (¬6) " (¬7). قال الله- تعالى-: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (¬8). ¬

_ (¬1) قال في "المرقاة" (7/ 535): "المراد بالفرس هنا العربيّ، والبِرذَون التركي من الخيل". (¬2) يَحُلُّها مِن الحلّ، بمعنى نقْض العهد، والشدّ ضدّه، والظاهر أنّ المجموع كناية عن حِفظ العهد، وعدم التعرض له، ولفظ الترمذي "فلا يحلّن عهداً ولا يشدنّه" قال في "المرقاة" (7/ 536): "أراد به المبالغة عن عدم التغيير، وإلا فلا مانع من الزيادة في العهد والتأكيد، والمعنى: لا يُغيّرنّ عهداً ولا ينقضنّه بوجه ... قال الطيبي: هكذا بجملته عبارة عن عدم التغيير في العهد، فلا يذهب على اعتبار معاني مفرداتها". (¬3) أي يرمي عهدَهم. (¬4) بأن يُخبرهم أنّ نقض العهد على تقدير خوفِ الخيانة منهم "المرقاة" (7/ 536). (¬5) قال الطيبي: "قوله: (على سواء): حال. قال المظهر: أي يُعلمهم أنّه يريد أن يغزوَهم، وأنّ الصلح قد ارتفَع، فيكون الفريقان في عِلم ذلك سواء". انظر"المصدر السابق". (¬6) أي بالناس، وهي بعض الروايات الثابتة. وانظر "صحيح سنن الترمذي" (1285). (¬7) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2397) والترمذي، "صحيح سنن الترمذي" (1285)، وانظر "المشكاة" (3980). (¬8) التوبة: 4.

2 - إذا أخلّ العدو بالعهد: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (¬1). {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬2). 3 - إذا ظهرت بوادر الغدر، ودلائل الخيانة: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (¬3). قلت: قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- لنبيّه صلوات الله وسلامه عليه {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} قد عاهدْتهم {خِيَانَةً} أي: نَقْضًا لما بينك وبينهم؛ مِن المواثيق والعهود، {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} أي: عَهْدَهم {عَلَى سَوَاءٍ} أي: أعْلِمْهم بأنك قد نقضْتَ عهدَهم؛ حتى يبقى عِلمُك وعِلْمَهم بأنك حرْبٌ لهم، وهم حَرْبٌ لك، وأنه لا عهدَ بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهم في ذلك، قال الراجز: فَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدّر الأعْداء ... حتى يجيبوك إلى السواء وعن الوليد بن مسلم أنّه قال في قوله: {فانبِذْ عَلَى سَوَاءٍ} أي: على مهل، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} أي: حتى ولو في حقّ الكافرين، لا يحبّها أيضاً. ¬

_ (¬1) التوبة: 7. (¬2) التوبة: 12 - 13. (¬3) سورة الأنفال: 58.

الإعلام بالنقض تحرزا عن الغدر

الإعلام بالنقض تحرُّزاً عن الغدر إذا عَلِم الحاكم الخيانة ممّن كان بينهم وبين المسلمين عَهْد؛ فإنّه لا تَحِلّ محاربتُهم إلاَّ بعد إعلامهم بنبذ العهد، وبلوغِ خَبرِهِ إلى القريب والبعيد، حتى لا يُؤخَذوا على غِرّة. يقول الله- سبحانه- في سورة الأنفال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (¬1). قال محمّد بن الحسن في كتاب "السير الكبير": لو بَعث أمير المسلمين إلى مَلِك الأعداء، مَن يُخبره بنبذ العهد عند تحقّق سبَبه، فلا ينبغي للمسلمين أن يُغيروا عليهم وعلى أطراف مملكتهم؛ إلاَّ بعد مُضيّ الوقت الكافي، لأن يبعثَ الملِك إلى تلك الأطراف؛ خَبَر النبْذ حتى لا نأخذَهم على غِزة. ومع ذلك إذا عَلِم المسلمون يقيناً أن القوم لم يأتهم خبرٌ مِن قِبَل مَلِكِهم؛ فالمستَحبّ لهم أن لا يُغيروا عليهم حتى يعلموهم بالنبذ؛ لأن هذا شبيه الخديعة. وكما على المسلمين أن يتحرزوا مِن الخديعة، عليهم أن يتحرزوا من شبه الخديعة. وحدث أنّ أهل قبرص أحدثوا حَدَثاً عظيماً في ولاية عبد الملك بن مروان، فأراد نَبْذ عهدِهم ونقْض صُلحهم، فاستشار الفقهاءَ في عصره، منهم الليث بن سعد ومالك وأنس، فكتَبَ الليث بن سعد: إن أهل قبرص لا يزالون متّهمين ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: 58.

إقرار القوانين الدولية في تحريم قتل الرسل

بغش أهل الإسلام ومناصحة أهل الأعداء -الروم- وقد قال الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} وإنّي أرى أن تنبِذَ إليهم، وأنْ تنظرَهم سنة. أمّا مالك بنُ أنس فكتب في الفتيا يقول: إنَّ أمان أهلِ قبرص وعهدهم؛ كان قديماً متظاهراً مِن الولاة لهم، ولم أجِدْ أحداً مِن الولاة نقَضَ صُلحَهم، ولا أخرَجَهم من ديارهم، وأنا أرى أن لا تعجلَ بمنابذتهم؛ حتى تتجه الحُجَّة عليهم؛ فإن الله يقول: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (¬1). فإن لم يستقيموا بعد ذلك، ويدَعَوا غشَّهم ورأيت الغدر ثابتاً فيهم؛ أوقعْتَ بهم بعد النبذ والإعذار، فرُزِقْتَ النصر، فرُزقْتَ النصر* (¬2). قلت: والمتأمّل فيما سَبَق من أقوال الفقهاء؛ يرى اتفاقهم؛ لكن موطن الخلاف: هل التخوّف كائنٌ؛ من خيانة أهل قبرص العهد أم لا، وعليه؛ فإنّ الأمر يرجع إلى تقدير الإمام والله -تعالى- أعلم. إقرار القوانين الدّولية في تحريم قتل الرسل عن نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِي قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لهما (¬3) حِينَ قَرَأَ كِتَابَ مُسَيْلِمَةَ: مَا تَقُولانِ أَنْتما؟ قَالَا: نَقُولُ كَمَا قَالَ، قَاَلَ: أمَا وَاللهِ لَوْلَا ¬

_ (¬1) التوبة: 4. (¬2) ما بين نجمتين من فقه السُّنَّة (3/ 487 - 491) بحذف وإضافة بعض النصوص وتفسير ابن كثير -رحمه الله-. (¬3) أي: لرسولي مسيلمة الكَذّاب.

قتال البغاة

أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا" (¬1). قلت: فالمصلحة تقتضي عدم قَتْل الرُّسل؛ الذين يُبتعثون للتفاوض والتفاهم والحوار، مهما بلغ فسادُ اعتقادهم، إذ لو مضى القتل في هؤلاء الرُّسل؛ لما كان هناك مجالٌ لتبليغ الدعوة، أو تحقيق المصالح، أو دفْع المفاسد. قتال البغاة البغاة: هم الذين لهم مَنَعة وشُبهة، فنصَّبوا رئيساً، وخرجوا على الإمام العدل (¬2). ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحقّ؛ لقوله- تعالى-: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬3). فأوجَب الله -سبحانه- قتال الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله، ولا فَرْق بين أن يكون البغي مِن بعض المسلمين على إمامهم، أو على طائفةٍ منهم. ويُستفاد حُكم البغاة مِن أثر علي -رضي الله عنه- حين قاتل أهل البصرة، وأهل الشام وأهل النّهروان (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2399) وغيره. وانظر "المشكاة" (3982). وتقدّم. (¬2) عن "الروضة الندية" (2/ 769) بتصرف. (¬3) الحجرات: 9. (¬4) انظر "الروضة الندية" (2/ 769).

لا يجهز على الجريح منهم ولا يسلب القاتل ولا يطلب المولي

والحاصل: أنّ أصلَ دم المسلم وماله؛ العِصمَة، ولم يأذن الله -عزّ وجلّ- سوى بقتال الطائفة الباغية حتى تفيء، فيجب الاقتصار على هذا (¬1). وعن عرفجة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقول: "إنّه ستكون هَنات وهَنات، فمن أراد أن يُفرّق اْمر هذه الأُمّة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً مَن كان" (¬2). وفي لفظ: "مَن أتاكم وأمرُكم جميع، على رجل واحد، يُريد أن يَشُقّ عصاكم؛ أو يُفرّق جماعتكم؛ فاقتلوه" (¬3). لا يُجهز على الجريح منهم ولا يُسلب القاتل ولا يُطلب المولّي عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: "شهدت صفّين فكانوا لا يجيزون على جريح (¬4)، ولا يطلبون مُوَليّاً، ولا يسلِبون قتيلاً" (¬5). ¬

_ (¬1) قال الإمام النّووي -رحمه الله-، (7/ 169)، عقب قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُم فَإنَ فِي قَتْلِهِم أجْراً" [سيأتي تخريجه إن شاء الله]: "هَذَا تَصْرِيح بِوُجُوبِ قِتَال الْخوَارِج وَالْبُغَاة، وَهُوَ إِجْمَاع الْعُلَمَاء، قَالَ الْقَاضِي: أجْمَعَ الْعُلَمَاء، عَلَى أنَ الْخوَارِج، وَأشْبَاهَهُمْ مِنْ أهل الْبِدَع وَالْبَغْي؛ مَتَى خَرَجُوا عَلَى الْإِمَام وَخَالَفُوا رَأْي الجماعَة وَشَقُّوا الْعَصَا؛ وَجَبَ قِتَالهمْ بَعْد إِنذَارهمْ، وَالاعْتِذَار إِلَيْهم. قَالَ الله - تَعَالَى-: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ... ، وَهَذَا كُلّه مَا لم يَكْفُرُوا بِبِدْعَتِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ بِدْعَة مما يَكْفُرُونَ بِهِ جَرَتْ عَلَيْهِمْ أحْكَام المرتدِّينَ". (¬2) أخرجه مسلم: 1852. (¬3) أخرجه مسلم: 1852. (¬4) لا يجيزون على جريح: أي: مَن صُرع منهم وكُفِي قِتالُه، لا يُقْتَل؛ لأنهم مسْلِمون، والقصْد مِن قتالهِم دَفْعُ شَرِّهِم، فإذا لم يُمْكِن ذلك إلاَّ بقَتْلهم قُتِلوا. "النّهاية". (¬5) أخرجه الحاكم، وعنه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2463).

وعن الزهري قال: "قد هاجَت الفتنة الأولى، وأدركَت -يعني الفتنة- رجالاً ذوي عددٍ مِن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ممن شهد معه بدراً، وبلَغَنا أنهم كانوا يرون أن يُهدَر أمر الفتنة، ولا يُقام فيها على رجلِ قاتِلٍ في تأويلِ القرآن قِصاصٌ فيمن قتل (¬1)، ولا حدٌّ (¬2) في سباءِ امرأةٍ سُبيَت (¬3)، ولا يُرى عليها حدٌّ (¬4)، ولا بينها وبين زوجها ملاعنة (¬5)، ولا يُرى أن يَقْفُوها أحدٌ إلاَّ جُلد (¬6)، ويُرى أنْ تُردَّ إلى زوجها الأول؛ بعد أنْ تعتدّ فتقضى عدّتَها مِن زوجها الآخر (¬7)، ويُرى أنْ يَرِثَها زوجُها الأوّل (¬8) " (¬9). وفي لفظ: "ولا مالٌ استحلَّه بتأويلِ القرآن إلاّ أنْ يوجَدَ شيء بعينه (¬10) " (¬11). والزهري لم يدرك الفتنة المشار إليها، وهي وقعة صفّين. ¬

_ (¬1) أي: لا يُقتَل قِصاصاً بقتله، لأنّه مُتَأوّلٌ بالقرآن. (¬2) ولا حد: تقدير الجملة: لا يُقام حدّ. (¬3) أي: فمَن سباها بتأويلِ فلا يُقام عليه الحدّ. (¬4) وكذلك هي لا تُنزّل منزلة الزانية، فلا حدّ عليها. (¬5) يعني: لا يَرَون أن تكون ملاعنةٌ بينها وبين زوجها، وما يَتْبع ذلك مِن أمور؛ كالتفريق مَثلاً. (¬6) أي: إذا اتَّهمَها أحد أو قذَفها بالزنا؛ أُقيم عليه حدّ الجلد. (¬7) وذلك عودةً إلى الأصل واستبراءً للأرحام. (¬8) يعني: إذا تُوفيت وَرِثها زوجها الأول، ولا يرثها الثاني. (¬9) أخرجه البيهقي وصحَّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2465). (¬10) يعني: مَن عَرَف شيئاً مِن ماله مع أحد فليأخذه، ولا يجوز له تملُّك المال الذي ساقه بتأويلِ القرآن. (¬11) أخرجه البيهقي بإسناد صحيح، انظر "المصدر السابق".

وليس مِن البغي إظهارُ كونِ الإمام سلَك في اجتهاده في مسألة، أو مسائل؛ طريقَ مخالفةٍ لا يقتضيه الدليل؛ فإنّه ما زال المجتهدون هكذا، ولكنه ينبغي لمن ظهَر له غلط الإمام أن يُناصحه، ولا يُظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد؛ بل كما ورَد في الحديث: "أنّه يأخذ بيده، ويخلو به، ويَبذُل له النصيحة، ولا يُذِلّ سلطان الله (¬1) " (¬2). ولا يجوز الخروج على الأئمّة -وإن بلَغُوا في الظلم أيَّ مبلغ- ما أقاموا الصلاة، ولم يَظهر منهم الكفر البَوَاح، والأحاديث الواردة بهذا المعنى متواترة، ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله، ويعصيَه في معصية الله؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (¬3). ¬

_ (¬1) وقد ثبت في السنّة التعبير بسلطان الله، فعن زياد بن كُسيبٍ العدوي قال: "كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطُب، وعليه ثياب رِقاق فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفُسّاق، فقال أبو بكرة: اسكت، سَمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: مَن أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله". أخرجه الترمذي، "صحيح سنن الترمذي" (1812)، وانظر "الصحيحة" (2296). (¬2) وفي هامش "التعليقات الرضية" (3/ 504) إشارة إلى كتاب "السُّنَّة" (1096) لابن أبي عاصم. قلت: ولا بد مِن ذِكْر هذا الحديث لتحقيق الفائدة، فقد ساق المصنف -رحمه الله- بإسناده إلى شريح بن عبيد قال: قال عياض بن غُنم لهشام بن حكيم: ألم تسمع بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن أراد أن ينصح لذي سلطان، فلا يُبدِه علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإنْا قَبِل منه فذاك، وإلا كان قد أدّى الذي عليه" وصححه شيخنا -رحمه الله- بمجموع طُرُقه، وانظر تفصيل تخريجه في الكتاب المذكور. (¬3) انظر "الروضة الندية" (3/ 774).

أقسام البغاة وما جاء في تأويلهم

أقسام البغاة وما جاء في تأويلهم قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلى" (12/ 497) تحت مسألة (2158) -بتصرف يسير-: قال الله- تعالى-: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬1). فكان قتال المسلمين فيما بينهم على وجهين: قتالِ البغاة وقتالِ المحاربين، فالبغاة قسمان لا ثالث لهما. إمّا قِسْم خرجوا على تأويلِ في الدين، فأخطئوا فيه؛ كالخوارج وما جرى مجراهم مِن سائر الأهواء المخالِفة للحقّ. وإمّا قِسْم أرادوا لأنفسهم دنياً، فخرجوا على إمام حقّ، أو على مَن هو في السيرة مثلهم، فإن تعدت هذه الطائفة إلى إخافة الطريق، أو إلى أخْذ مال مَن لقوا أو سفْك الدماء هملاً؛ انتقل حُكمهم إلى حكم المحاربين، وهم ما لم يفعلوا ذلك في حُكم البغاة. فالقِسم الأول مِن أهل البغي يُبيََّن حُكمهم [ثمّ ساق بإسناده إلى أمّ سَلَمة - رضي الله عنها-]: أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في عمار "تقتلك الفئة الباغية" (¬2) قال أبو ¬

_ (¬1) الحجرات: 9. (¬2) أخرجه البخاري: (447)، (2812)، بلفظ: "ويح عمّار تقتله الفئة الباغية"، ومسلم (2916): "تقتلك الفئة الباغية".

محمّد -رحمه الله-: وإنما قَتَل عمّاراً -رضي الله عنه- أصحابُ معاوية -رضي الله عنه- وكانوا متأولين تأويلهم فيه، وإنْ أخطئوا الحقَّ مأجورون أجراً واحداً لقصْدِهم الخير. ويكون مِن المتأولين قومٌ لا يُعذَرون ولا أجر لهم؛ كما روينا من طريق البخاري [ثم ساق بإسناده إلى عليّ -رضي الله عنه- أنّه قال]: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "سيخرُج قومٌ في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام (¬1) يقولون من قول خير البرية (¬2)، لا يُجاوزُ إيمانُهم حناجرَهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة (¬3)، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قَتَلهم يوم القيامة" (¬4) وروينا من طريق مسلم [ثم ساق بإسناده إلى] أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكَر قوماً يكونون في أمّته يخرجون في فِرقةٍ من النّاس سيماهم (¬5) التحالق هم شرّ الخلق -أو من شرّ الخلق-، تَقْتُلهم أدنى الطائفتين إلى الحق" (¬6). وذكَر الحديث. قال أبو محمّد -رحمه الله-: "ففي هذا الحديث نصٌّ جليٌّ بما قلنا وهو أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر هؤلاء القوم؛ فذمّهم أشدَّ الذم وأنهم مِن شر الخلق، وأنهم يخرجون ¬

_ (¬1) أحداث الأسنان سفهاء الأحلام: معناه صغار الأسنان، صغار العقول، "شرح النّووي". (¬2) معناه في ظاهر الأمر؛ بقولهم: لا حُكم إلاَّ لله، ونظائره من دعائهم إلى كتاب الله -تعالى- والله أعلم، "شرح النّووي". (¬3) الرَّمِيَّة: الصيد الذي ترميه؛ فتقصده، وينفُذُ فيه سهمك، "النّهاية". (¬4) أخرجه البخاري: 3611، ومسلم: 1066 وهذا لفظه. (¬5) السيما: العلامة. (¬6) أخرجه مسلم: 1065.

في فرقة مِن النّاس، فصحّ أنّ أولئك أيضاً مفترقون، وأنّ الطائفة المذمومة تقتلها أدنى الطائفتَين المفترِقَتَين إلى الحقّ، فجعَل -عليه السلام- في الافتراق تفاضلاً، وجعَل إحدى الطائفتين المفترقتين لها دنواً من الحقِّ -وإنْ كانت الأخرى أولى به- ولم يجعل للثالثة شيئاً من الدنو إلى الحقّ. فصحّ أنّ التأويل يختلف، فأيّ طائفةٍ تأوَّلَت في بُغيتها طمساً لشيء من السّنة كمن قام برأي الخوارج ليُخرِجَ الأمر عن قريش، أو ليُردَّ النّاس إلى القول بإبطال الرجم، أو تكفيرِ أهل الذنوب، أو استقراضِ المسلمين، أو قتلِ الأطفال والنساء وإظهار القول بإبطال القدر، أو إبطال الرؤية، أو إلى أن الله تعالى لا يعلم شيئاً إلاّ حتى يكون، أو إلى البراءة عن بعض الصحابة أو إبطال الشفاعة، أو إلى إبطال العمل بالسنن الثابتة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ودعا إلى الردّ إلى مَن دون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَو إلى المنع مِن الزكاة، أو مِن أداء حقّ مِن مسلم أو حقٍّ لله -تعالى- فهؤلاء لا يُعذَرون بالتأويل الفاسد؛ لأنها جهالةٌ تامةٌ. وأمّا مَن دعا إلى تأويل لا يُحِلّ به سُنّة، لكن مِثل تأويل معاوية في أن يقتص مِن قَتَلَة عثمان قبل البيعة لعليّ، فهذا يُعذَر؛ لأنه ليس فيه إحالة شيء مِن الدِّين، وإنّما هو خطأ خاصٌّ في قصّة بعينها لا تتعدّى. ومَن قام لعرض دنيا فقط؛ كما فَعَل يزيد بن معاوية، ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان في القيام على ابن الزبير، وكما فعَل مروان بن محمّد في القيام على يزيد بن الوليد، وكمن قام أيضاً على مروان، فهؤلاء لا يُعذَرون لأنهم لا تأويل لهم أصلاً وهو بغي مجرد. وأما مَن دعا إلى أمر بمعروف أو نهي عن منكر وإظهار القرآن والسنن

والحُكم بالعدل؛ فليس باغياً بل الباغي مَن خالفَه وبالله -تعالى- التوفيق". وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (35/ 75): "وكلُّ مَن كان باغياً، أو ظالماً، أو معتدياً، أو مرتكباً ما هو ذنب؛ فهو قسمان: متأوِّل، وغير متأول. فالمتأوّل المجتهد؛ كأهلِ العِلم والدّين؛ الذين اجتهدوا، واعتقد بعضُهم حِلَّ أمور، واعتقَد الآخر تحريمَها، كما استحلّ بعضُهم بعضَ أنواعِ الأشربة، وبعضُهم بعضَ المعاملات الربوية، وبعضُهم بعضَ عقودِ التحليل والمتعة، وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثالُه مِن خِيار السلف، فهؤلاء المتأوِّلون المجتهدون غايتهم أنَّهم مخُطئون، وقد قال الله -تعالى-: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (¬1)، وقد ثبت في "الصحيح" أن الله استجابَ هذا الدعاء. وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- أيضاً (35/ 76): "أمّا إذا كان الباغي مجتهداً متأولاً، ولم يتبين له أنّه باغ، بل اعتقَد أنّه على الحقّ وإنْ كان مخطئاً في اعتقاده: لم تكن تسميته باغياً موجبةً لإثمه -فضلاً عن أن توجب فِسْقه- والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين؛ يقولون مع الأمر بقتالهم: قتالنا لهم لدفع ضررِ بغيهم؛ لا عقوبةً لهم؛ بل للمنع مِن العدوان. ويقولون: إنهم باقون على العدالة؛ لا يَفْسُقون، ويقولون: هم كغير المكلَّف، كما يُمنَع الصبي والمجنون والناسي والمغمى عليه والنائم من العدوان؛ أن لا يَصْدُر منهم، بل تمُنْع البهائم من العدوان. ¬

_ (¬1) البقرة: 286.

ويجب على مَن قتل مؤمنا خطأً الدية بنصّ القرآن؛ مع أنّه لا إثم عليه في ذلك، وهكذا مَن رُفع إلى الإمام مِن أهل الحدود وتاب بعد القدرة عليه فأقام عليه الحدّ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والباغي المتأول يُجلَد عند مالك والشافعي وأحمد ونظائره متعددة". وجاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 545): "وقد اتفقَ علماءُ المسلمين؛ على أنّ الطائفةَ الممتنعةَ إذا امتنعَت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة؛ فإنه يَجِب قتالها؛ إذا تكلَّموا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلاة والزكاة، أو صيامِ شهر رمضان أو حجّ البيت العتيق، أو عن الحُكم بينهم بالكتاب والسنّة، أو عن تحريم الفواحش، أو الخمرِ، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن استحلالِ النفوس والأموال بغير حقّ، أو الربا، أو الميمسر، أو الجهاد للكُفّار، أو عن ضربِهم الجزيةَ على أهل الكتاب، ونحو ذلك من شرائع الإسلام، فإنهم يُقاتَلون عليها حتى يكون الدينُ كلُّه لله. ثمّ ذكر قول أبي بكر -رضي الله عنه-: "والله لو منعوني عَناقاً" ثمّ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يحقر أحدكم صلاته ... " ثمّ قال: "وقد اتفق السلف والأئمة على قتال هؤلاء". وفيه أيضاً (ص 556): "وسُئل الشيخ: عن قومٍ ذوي شوكة مقيمين بأرض، وهم لا يُصلُّون الصلوات المكتوبات، وليس عندهم مسجد، ولا أذان، ولا إقامة، وإنْ صلّى أحدهم صلّى الصلاة غير المشروعة. ولا يؤدّون الزكاة مع كثرةِ أموالهم مِن المواشي والزروع. وهم يَقْتَتِلون فيَقْتُل بعضُهم بعضاً، ويَنْهَبون مالَ بعضِهم بعضاً، ويَقْتُلون الأطفال، وقد لا يمتنعون عن سَفْك الدماء وأخْذِ الأموال، لا في شهر رمضان ولا في الأشهر الحُرُم ولا غيرِها، وإذا أَسَرَ بعضهم

بعضاً باعوا أسراهم للإفرنج. ويبيعون رقيقهم مِن الذكور والإناث للإفرنج عَلانية، ويسوقونهم كسوق الدوابّ. ويتزوجون المرأة في عِدَّتها. ولا يُوَرّثون النساء. ولا ينقادون لحاكِم المسلمين. وإذا دُعِي أحدهم إلى الشرع قال: أنا الشرع. إلى غير ذلك. فهل يجوز قتالهُم والحالة هذه؟ وكيف الطريق إلى دخولهم في الإسلام مع ما ذُكِر؟ فأجاب: نعم يجوز؛ بل يَجب بإجماع المسلمين قتالُ هؤلاء وأمثالهِم؛ من كلّ طائفة ممتنعَةٍ عن شريعةِ مِن شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة؛ مِثْل الطائفة الممتنعة عن الصلوات الخمس، أو عن أداء الزكاة المفروضة إلى الأصناف الثمانية التي سماها الله تعالى في كتابه، أو عن صيام شهر رمضان، أو الذين لا يمتنعون عن سَفْك دماءِ المسلمين وأخْذ أموالهم، أو لا يتحاكمون بينهم بالشرع الذي بَعَث الله به رسولَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قال أبو بكر الصديق وسائر الصحابة -رضي الله عنهم- في مانعي الزكاة، وكما قاتل عليُّ بن أبي طالب وأصحاب النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخوارج، الذين قال فيهم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرَهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قَتَلَهم يوم القيامة". وذلك بقوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (¬1). وبقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ ¬

_ (¬1) الأنفال: 39.

هل البغاة والخوارج لفظان مترادفان أم لا؟

الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬1). والربا آخر ما حرَّمه الله ورسوله، فكيف بما هو أعظم تحريماً. ويُدْعَون قبل القتال إلى التزام شرائع الإسلام فإنِ التزموها استُوثِق منهم، ولم يُكْتَفَ منهم بمجرّد الكلام ... ". هل البغاة والخوارج لفظان مترادفان أم لا؟ جاء في "مجموع الفتاوى" (35/ 53): "وسُئل -رحمه الله- عن البغاة والخوارج: هل هي ألفاظ مترادفة بمعنى واحد؟ أم بينهما فَرْق؟ وهل فرَّقَت الشريعة بينهما في الأحكام الجارية عليهما أم لا؟ وإذا ادّعى مُدّعٍ أنّ الأئمّة اجتمعَت على أن لا فرق بينهم إلاّ في الاسم؛ وخالفَه مخُالِف مستدلاً بأنّ أمير المؤمنين علياً -رضي الله عنه- فرَّق بين أهل الشام وأهل النهروان: فهل الحقّ مع المدّعي؟ أو مع مخالفه؟ فأجاب: الحمد لله، أمّا قول القائل: إنّ الأئمّة اجتمعَت على أن لا فرْقَ بينهما إلاَّ في الاسم، فدعوى باطلة، ومدعيها مجُازِف فإنَّ نفيَ الفرق؛ إنما هو قول طائفة مِن أهل العلم مِن أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم؛ مثل كثير من المصنّفين في قتال أهل البغي؛ فإنهم قد يجعلون قتالَ أبي بكر لمانعي الزكاة، وقتالَ عليٍّ الخوارجَ وقتالَه لأهل الجمل وصِفّين إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الإسلام؛ مِن باب قتال أهل البغي". وقال -رحمه الله- أيضاً (ص 56): "وأيضاً؛ فالنبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَر بقتال الخوارج ¬

_ (¬1) البقرة: 278 - 279.

قبل أن يُقاتلِوا. وأمّا أهل البغي فإنّ الله -تعالى- قال فيهم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فلم يأمر بقتال الباغية ابتداءً، فالاقتتال ابتداءً ليس مأموراً به؛ ولكن إذا اقتتلوا أمرَ بالإصلاح بينهم؛ ثم إنْ بغَت الواحدة قوتلت؛ ولهذا قال مَن قال مِن الفقهاء: إنّ البغاة لا يُبتدَءون بقتالهم حتى يُقاتلوا، وأمّا الخوارج فقد قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة" (¬1)، وقال: "لئن أدركتُهم لأقتلنّهم قَتْل عاد" (¬2). وكذلك مانعو الزكاة؛ فإنّ الصّدِيق والصحابة ابتدءوا قتالهم، قال الصّديق -رضي الله عنه-: "والله لو منعوني عَناقاً (¬3) كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتَلْتُهم عليه" (¬4). ¬

_ (¬1) تقدّم. (¬2) أخرجه البخاري: 3444، ومسلم: 1064. (¬3) العَناق: هي الأُنثى مِن أولاد المعز؛ ما لم يتمّ له سنة، "النّهاية". (¬4) أخرجه البخاري: 1400، ومسلم: 20، بلفظ "لو منعوني عقالاً ... " وقال الإمام النّووي -رحمه الله- بحذف: "هَكَذَا فِي مُسْلِم عِقَالاً، وَكَذَا فِي بَعْض رِوَايَات الْبُخَارِي، وَفِي بَعْضهَا عَنَاقاً -بِفَتْحِ العَيْن وَبِالنُّونِ- وَهِيَ الأُنثَى مِنْ وَلَد المعْز، وَكِلاَهُمَا صَحِيح، وَهُوَ مَحْمُول عَلَى أنَّهُ كَرَّرَ الْكَلَام مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ فِي مَرَّة: عِقَالاً وَفِي الْأُخْرَى: عَنَاقاً فَرُوِيَ عَنْهُ اللَّفْظَانِ. فأمَّا رِوَايَة الْعَنَاق فَهِيَ مَحْمُولَة عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ الْغَنَم صِغَاراً كُلّهَا؛ بِأنْ مَاتَت أماتها فِي بَعْض الحَوْل، فَإِذَا حَال حَوْل الْأُمَّات؛ زَكَّى السِّخَال بِحَوْلِ الْأُمَّات =

إذا بغت طائفة ولم تقبل الصلح كانت بمنزلة الصائل

وهم يقاتَلون إذا امتنعوا مِن أداء الواجبات وإنْ أقرّوا بالوجوب. ثمّ تنازع الفقهاء في كُفر مَن مَنَعهما وقاتَل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، كالروايتين عنه في تكفير الخوارج. وأمّا أهل البغي المجرد فلا يُكفَّرون باتفاق أئمّة الدين؛ فإنّ القرآن قد نصَّ على إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي. والله أعلم". إذا بغت طائفة ولم تَقْبَل الصلح كانت بمنزلة الصائل وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- (ص 35/ 78): "ولكن إذا اقتَتَلت طائفتان مِن المؤمنين؛ فالواجب الإصلاح بينهما؛ وإن لم تكن واحدة منهما مأمورةً بالقتال، فإذا بغَت الواحدة بعد ذلك قوتلت؛ لأنها لم تترك القتال ولم تُجِب إلى الصلح؛ فلم يندفع شرّها إلاَّ بالقتال، فصار قتالها بمنزلة قتال الصائل الذي لا يندفع ظُلْمُه عن غيره إلاَّ بالقتال، كما قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومَن قُتِل دون دمه فهو شهيد، ومَن قُتِل دون دينه فهو شهيد ... " (¬1)، ¬

_ = سَوَاء بَقِيَ مِنْ الْأُمَّات شَيء أمْ لَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيح المشهُور ... وَأمَّا رِوَايَة عِقَالاً، فَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء قَدِيماً وَحَدِيثاً فِيهَا؛ فَذَهَبَ جَمَاعَة مِنْهُمْ إِلَى أنَّ المرَاد بِالْعِقَالِ؛ زَكَاة عَام ... وَذَهَبَ كَثِيرُونَ مِنْ المحَقَّقِينَ إِلَى أنَّ المرَاد بِالْعِقَالِ؛ الحَبْل الَّذِي يُعْقَل بِهِ الْبَعِير ... ". وقال في النّهاية: "أراد بالعقال: الحبل الذي يُعقل به البعير الذي يُؤخذ في الصدقة؛ لأنّ على صاحبها التسليم ... "، ثم ذكر أقوالاً أخرى. (¬1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3993)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3817)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1148)، وغيرهم، انظر أحكام الجنائز (ص 57)، والشطر الأوّل أخرجه البخاري 2840، ومسلم: 141.

العدل بين الطائفتين وما يترتب على ذلك من ضمان وقصاص وحمالة.

قالوا: فبتقدير أنّ جميع العسكر بغاة، فلم نُؤمَر بقتالهم ابتداءً؛ بل أُمِرنا بالإصلاح بينهم". العدل بين الطائفتين وما يترتّب على ذلك مِن ضمان وقِصاص وحَمالة (¬1). جاء في "مجموع الفتاوى" (35/ 79): "وسُئل -رحمه الله- عن الفتن التي تقع مِن أهل البرّ وأمثالها؛ فيقْتُل بعضهم بعضاً ويستبيح بعضُهم حرمة بعض، فما حُكم الله -تعالى- فيهم؟ فأجاب: الحمد لله، هذه الفِتن وأمثالها مِن أعظم المحرَّمات، وأكبر المنكرات، قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) الحَمالة -بالفتح- ما يتحمّله الإنسان عن غيره مِن دَيّة أو غرامة، مثل أن تقع حَربٌ بين فريقين تسفك فيها الدماء فيدخل بينهم رجل يتحمّل ديات القتلى ليُصلِح ذات البين، والتَحمُّل: أن يحملها عنهم على نفسه "النّهاية". (¬2) آل عمران: 102 - 106.

وهؤلاء الذين تفرَّقوا واختلفوا حتى صار عنهم مِن الكُفر ما صار، وقد قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ترجعوا بعدي كُفّاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض" (¬1) فهذا مِن الكُفر؛ وإنْ كان المسلم لا يُكفَّر بالذنب، قال -تعالى-: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. فهذا حُكم الله بين المقتتلين من المؤمنين: أخبر أنهم إخوة، وأمر أوّلاً بالإصلاح بينهم إذا اقتتلوا {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} ولم يَقْبَلوا الإصلاح {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} فأمَر بالإصلاح بينهم بالعدل بعد أن {تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي ترجعَ إلى أمر الله، فمَن رجَع إلى أمر الله؛ وجَب أن يُعدَل بينه وبين خصمه، ويُقسَط بينهما، فَقَبْل أن نُقاتِل الطائفة الباغية وبعد اقتتالهما؛ أُمِرنا بالإصلاح بينهما مطلقا؛ لأنه لم تُقهَر إحدى الطائفتين بقتال. وإذا كان كذلك؛ فالواجب أن يُسعى بين هاتين الطائفتين بالصلح الذي أَمَر الله به ورسوله، ويقال لهذه: ما تَنْقِم من هذه؟ ولهذه: ما تَنْقِم من هذه؟ فإنْ ثبَت على إحدى الطائفتين أنها اعتدت على الأخرى: بإتلاف شيءٍ من الأنفس، والأموال؛ كان عليها ضمان ما أتلفته، وإنْ كان هؤلاء أتلفوا لهؤلاء وهؤلاء أتلفوا لهؤلاء تقاصّوا بينهم، كما قال الله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 7077، ومسلم: 66.

وقد ذكَرَت طائفة من السلف أنها نَزَلت في مِثل ذلك في طائفتين اقتتلتا فأمَرَهم الله بالمقاصة، قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} والعفو الفضل، فإذا فَضُل لواحدة مِن الطائفتين شيء على الأخرى {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} والذي عليه الحقّ يؤديه بإحسان. وإن تعذَّر أنْ تضمن واحدة للأخرى؛ فيجوز أن يتحمَّل الرجل حَمَالةً يؤديها لصلاح ذات البين، وله أن يأخذها بعد ذلك مِن زكاة المسلمين، ويسأل الناس في إعانته في هذه الحالة وإنْ كان غنياً، قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقبيصة بن مخارق الهلالي: "يا قبيصةُ إنّ المسألة لا تحلُّ إلاَّ لأحد ثلاثة: رجلٍ تحمَّل حَمالة، فحَلّت له المسألة؛ حتى يصيبها ثم يُمسك، ورجل أصابته جائحة (¬1) اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قِواماً (¬2) من عيش (أو قال سِداداً (2) من عيشٍ) ورجل أصابته فاقة؛ حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجا (¬3) من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقةٌ؛ فحلَّت له المسألة حتى يصيب قِواماً من عيش (أو قال سِداداً من عيشٍ) " (¬4). ¬

_ (¬1) الجائحة: هي الآفة التي تُهلك الثمار والأموال وتستأصلها، "النّهاية". (¬2) القِوام والسِّداد -بكسر القاف والسين- وهما بمعنى واحد، وهو ما يغني من الشيء، وما تُسدّ به الحاجة، "نووي". (¬3) (حَتَى يَقُوم ثَلَاثَة مِنْ ذَوِي الحجَا مِنْ قَوْمه) قال النّووي -رحمه الله-: "هَكَذَا هُوَ فِي جميع النُّسَخ: يَقُوم ثَلَاثَة، وَهُوَ صَحِيح. أي يَقُومُونَ بِهَذَا الأمْر فَيقُولُونَ: لَقَدْ أصَابَتْهُ فَاقَة. والحجا، مقصور، وَهُوَ العَقل، وَإِنمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْ قَوْمه لِأَنهُمْ مِنْ أهل الخبرَة بِبَاطِنِهِ، وَالمال مما يَخْفَى فِي العَادَة، فَلَا يَعْلَمهُ إلاَّ مَنْ كَانَ خَبيراً بِصَاحِبِهِ، وَإنَّمَا شَرَطَ الحجَا تَنْبِيهاً عَلَى أنَّهُ يُشتَرَط فِي الشَّاهِد التَّيَقُّظ؛ فَلَا تُقْبَل مِنْ مُغَفَّلٍ". (¬4) أخرجه مسلم: 1044، ولقد أحببت أن أذكره بلفظ مسلم، وكان شيخ الاسلام -رحمه الله- قد ذكره بتقديم مفرداتها وتأخيرها.

ثواب صبر من يظن أنه مظلوم مبغي عليه

والواجب على كل مسلم قادر أن يسعى في الإصلاح بينهم ويأمرهم بما أمر الله به مهما أمكن". ثواب صبر مَنْ يظُنّ أنّه مظلوم مبغيٌّ عليه وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- (35/ 82): "ومَن كان مِن الطائفتين يظنّ أنّه مظلوم مَبْغيٌّ عليه فإذا صبَر وعفا أعزَّه الله ونصرَه؛ كما ثبت في الصحيح عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلاَّ عِزّاً، وما تواضَع أحدٌ لله إلاَّ رفعَه الله؛ ولا نقَصَت صدقة مِن مال" (¬1). وقال -تعالى-: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وقال -تعالى-: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}. فالباغي الظالم يَنْتقم الله منه في الدنيا والآخرة؛ فإن البغي مصرعُه، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ولو بغَى جبلٌ على جبلٍ لجعل الله الباغي منهما دكاً" (¬2). ومن حِكمة الشعر: قضى الله أنّ البغي يُصرَع أهلُه ... وأنّ على الباغي تدور الدوائر ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 2588. (¬2) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الأدب المفرد" برقم (457).

ما يفعله ولاة الأمور مع أقوام لم يصلوا ولم يصوموا ...

ويشهد لهذا قوله -تعالى-: {إنَمَا بَغيُكم على أنفُسِكُم متاعَ الحياة} الآية، وفي الحديث: "ما مِن ذنب أحرى أن يُعجَّل لصاحبه العقوبةُ في الدنيا مِن البغي، وما حَسَنَة أحرى أن يُعجَّل لصاحبها الثواب مِن صلة الرحم" (¬1) فمن كان من إحدى الطائفتين باغياً ظالماً فليتق الله وليتُب، ومَن كان مظلوماً مبغيّا عليه وصَبر كان له البشرى مِن الله، قال -تعالى-: {وبشر الصابرين} قال عمرو بن أوس: "هُم الذين لا يَظْلِمون إذا ظُلِموا، وقد قال -تعالى- للمؤمنين في حقّ عدوّهم: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} ". وقال يوسف -عليه السلام- لَمّا فعَل به إخوته ما فَعَلوا، فصبر واتقى حتى نَصَره الله، ودخلوا عليه وهو في عِزّه {قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}. فمَن اتقى الله مِن هؤلاء وغيرهم بصِدْق وعدل، ولم يتعدّ حدود الله، وصبَر على أذى الآخر وظُلْمِه؛ لم يضرَّه كيد الآخر؛ بل ينصرُه الله عليه". ما يفعله ولاة الأمور مع أقوام لم يصلّوا ولم يصوموا ... وجاء في "مجموع الفتاوى" (35/ 89): "وسُئل- رحمه الله- عن أقوامٍ لم يُصلّوا ولم يصوموا، والذي يصوم لم يُصَلِّ، ومالهُم حرام، ويأخذون أموال الناس، ويُكرمون الجار والضعيف، ولم يُعرَف لهم مذهب، وهم مسلمون؟ ¬

_ (¬1) انظر "الصحيحة": (918، 978)، "التعليقات الحِسان": (441).

لا يجوز لإحدى الطائفتين أن تقول: نأخذ حقنا بأيدينا

فأجاب: الحمد لله، هؤلاء وإنْ كانوا تحت حُكم ولاة الأمور؛ فإنه يَجب أن يأمروهم بإقامة الصلاة، ويعاقبوا على تركها، وكذلك الصيام، وإنْ أقروا بوجوب الصلوات الخمس وصيام رمضان والزكاة المفروضة؛ وإلا فمَن لم يُقِرّ بذلك فهو كافر، وإنْ أقرّوا بوجوب الصلاة وامتنعوا عن إقامتها؛ عوقبوا حتى يقيموها، ويجب قَتْل كلِّ مَن لم يُصلِّ إذا كان بالغاً عاقلاً عند جماهير العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد، وكذلك تقام عليهم الحدود، وإنْ كانوا طائفةً ممتنعةً ذاتَ شوكة؛ فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا أداء الواجبات الظاهرة والمتواترة؛ كالصلاة، والصيام، والزكاة، وتَرْك المحرمات، كالزنا، والرّبا، وقطع الطريق، ونحو ذلك. ومن لم يُقرّ بوجوب الصلاة والزكاة؛ فإنه كافر يستتاب، فإنْ تاب وإلا قُتِل". لا يجوز لإحدى الطائفتين أن تقول: نأخذ حقّنا بأيدينا جاء في "مجموع الفتاوى" (35/ 88): "وأما إذا طَلَبت إحدى الطائفتين حُكم اللهِ ورسولِه، فقالت الأخرى: نحن نأخذ حقنا بأيدينا في هذا الوقت؛ فهذا مِن أعظمَ الذنوب الموجبة عقوبةَ هذا القاتل الظالم الفاجر، وإذا امتنعوا عن حُكم الله ورسوله ولهم شوكة؛ وجَب على الأمير قتالهم، وإن لم يكن لهم شوكة؛ عُرِف مَن امتنع مِن حُكم الله ورسوله، وألزم بالعدل". مَن قَتَل أحداً بعد إصلاح جاء في "مجموع الفتاوى" (35/ 88): "وأمّا مَن قتل أحداً مِن بعد الإصطلاح أو بعد المعاهدة والمعاقدة؛ فهذا يستحِقّ القتل، حتى قالت طائفةٌ مِن

بيان طرق الإصلاح المذكور في قوله تعالى: {فأصلحوا بين أخويكم}

العلماء: إنه يُقتَل حدّاً، ولا يجوز العفو عنه لأولياء المقتول، وقال الأكثرون: بل قَتْلُه قِصاص، والخيار فيه إلى أولياء المقتول". بيان طُرُق الإصلاح المذكور في قوله تعالى: {فأصلِحوا بين أخويكم} قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (35/ 85): "والإصلاح له طُرُق؛ منها أن تُجمَع أموال الزكوات وغيرها حتى يُدفع في مِثل ذلك فإنّ الغرم لإصلاح ذات البين؛ يبيح لصاحبه أن يأخذ من الزكاة بقَدْر ما غرم؛ كما ذكَره الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كما قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقبيصة بن مخارق -رضي الله عنه-: "إن المسألة لا تحلُّ إلاَّ لثلاثة: ... " (¬1). ومِن طُرُق الصلح أن تعفو إحدى الطائفتين أو كلاهما عن بعض مالها عند الأخرى من الدماء والأموال {فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين}. ومِن طُرق الصلح أن يُحكَم بينهما بالعدل، فيُنظَر ما أتلفته كلّ طائفة من الأخرى؛ من النفوس والأموال؛ فيتقاصّان {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}. وإذا فَضُل لإحداهما على الأخرى شيء؛ {فاتباع بالمعروف وأداء إليه بأحسانٍ}؛ فإنْ كان يُجهَل عدد القتلى، أو مقدار المال؛ جُعِل المجهول كالمعدوم. وإذا ادَّعَت إحداهما على الأخرى بزيادة؛ فإمّا أن تُحلّفها على نفي ذلك، وإمّا أن تقيم البيِّنة، وإمّا تمتنع عن اليمين، فيقضى بردّ اليمين أو النكول. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ومعناه غير بعيد.

محاورة الخوارج والمتمردين على الإمام

فإنْ كانت إحدى الطائفتين تبغي بأن تمتنع عن العدل الواجب، ولا تُجيب إلى أمر الله ورسوله، وتُقاتِل على ذلك، أو تَطلُب قتالَ الأخرى وإتلافَ النفوس والأموال، كما جرَت عادتهم به؛ فإذا لم يُقدَر على كفّها إلاَّ بالقتل؛ قوتلت حتى تفيء إلى أمر الله؛ وإنْ أمكَن أن تُلزَم بالعدل بدون القتال، مِثل أن يُعاقَب بعضُهم، أو يُحبَس؛ أو يُقتَل مَن وجَب قَتْلُه منهم، ونحو ذلك: عُمِل ذلك، ولا حاجة إلى القتال". محاورة الخوارج (¬1) والمتمرّدين على الإمام لا بُدّ من محاورةِ الخوارج والبغاة، ومراسلتِهم، وإزالةِ شُبَهِهِم، لمنْع الفتنة، وحقْنِ الدماء، والتوصُّل للحقّ، واجتماع الكلمة. عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: "قَدِمت عائشةُ -رضي الله عنها-، فبينا نحن جلوس عندها مرجعَها مِن العراق لياليَ قوتِل عليّ -رضي الله عنه- إذ قالت: يا عبدَ الله بن شدّاد، هل أنت صادقي عمّا أسألك عنه؟ حدِّثني عن هؤلاء القوم الذين قَتَلَهم عليّ، قلت: ومالي لا أَصْدُقُك؟ قالت: فحدّثني عن قصتهم. قلت: إنّ عليّاً لمّا كاتبَ معاوية وحَكم الحكَمَين؛ خرَج عليه ثمانية آلاف مِن قُرّاء الناس، فنزلوا أرضاً مِن جانب الكوفة يُقال لها: حروراء، وإنهم أنكروا عليه، ¬

_ (¬1) الخوارج: فرقةٌ خَرَجت لقتال عليّ بن أبي طالب بسبب التحكيم، ومذهبُهم التبرّؤ من عثمانَ وعليّ -رضي الله عنهما-، والخروج على الإمام، وتكفير صاحب الكبيرة، وتخليده في النّار، والخوارج فِرَقٌ كثيرة. انظر "معجم ألفاظ العقيدة" (ص 177).

فقالوا: انسلخْتَ مِن قميصٍ ألبسَكَه اللهُ وأسماك به، ثمّ انطلقْتَ فحَكمْتَ في دين الله ولا حُكم إلاَّ لله، فلمّا أنْ بلَغَ عليّاً ما عتبوا عليه وفارقوه، أمَر فأَذّن مُؤذِّن: لا يدخُل على أمير المؤمنين إلاَّ رجلٌ قد حَمَل القرآن. فلمّا أن امتَلأَ مِن قُرّاء الناس الدار؛ دعا بمُصحفٍ عظيم فوضَعَه عليٌّ -رضي الله عنه- بين يديه فطفِق يصكّه بيده، ويقول: أيّها المصحف حدِّث الناس، فناداه الناس، فقالوا: يا أميرَ المؤمنين، ما تسأله عنه، إنما هو وَرَقٌ ومِداد، ونحن نتكلّم بما روينا منه فماذا تريد؟ قال: أصحابكم الذين خَرَجوا بيني وبينهم كتاب الله -تعالى-، يقول الله -عزّ وجلّ- في امرأةٍ ورجل: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله} (¬1) فأمّة محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعظمُ حرمةً مِن امرأةٍ ورجل. ونقموا عليَّ أنّي كاتبْتُ معاويةَ وكتْبتُ عليَّ بن أبي طالب، وقد جاء سهيل ابن عمرو ونحن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية حين صالح قومُه قريشاً، فكتبَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل: لا تكتب (بسم الله الرحمن الرحيم)، قال: فكيف أكتب؟ قال: اكتب باسمك اللهمّ. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اكتبه، ثمّ قال: اكتب: مِن محمّد رسول الله، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله لم نخالفك، فكتب: هذا ما صالَح عليه محمّدُ بنُ عبدِ الله قريشاً. يقول الله في كتابه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (¬2). ¬

_ (¬1) النساء: 35. (¬2) الأحزاب: 21.

فبعَث إليهم عليّ بن أبي طالب عبد الله بن عباس، فخرجْت معه حتى إذا توسَّطنا عسْكَرهم، قام ابن الكواء فخطَب الناس فقال: يا حَمَلَة القرآن إنّ هذا عبدُ الله بن عباس، فمن لم يكن يعرفه، فأنا أعرفه مِن كتاب الله هذا، مَن نَزَل في قومه: {بل هم قومٌ خصمون (¬1)} (¬2) فرُدوه إلى صاحبه، ولا تواضعوه كتاب الله -عز وجل-، قال: فقام خطباؤُهم فقالوا: والله لنواضعنَّه كتاب الله، فإذا جاءنا بحقٍّ نعرفه اتبعناه، ولئن جاءنا بالباطل لنبكتنه بباطله، ولنردنّه إلى صاحبه، فواضَعوه على كتاب الله ثلاثة أيام. فرجع منهم أربعة آلاف كلّهم تائب، فأقبل بهم ابن الكواء، حتى أدخَلَهم على عليّ -رضي الله عنه- فبعثَ عليٌّ إلى بقيّتهم، فقال: قد كان مِن أمرنا وأمْرِ الناس ما قد رأيتم، قِفوا حيث شئتم حتى تجتمعَ أمّة محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتنزلوا فيها حيث شئتم، بيننا وبينكم أن نقيَكم رماحنا؛ ما لم تقطعوا سبيلاً، وتطلبوا دَماً، فإنكم إنْ فعلتم ذلك فقد نبذْنا إليكم الحرب على سواء، إنّ الله لا يُحبّ الخائنين. فقالت عائشة -رضي الله عنها-: يا ابن شداد فقد قَتَلَهُم؟ فقال: والله ما بعَث إليهم حتى قطَعُوا السبيل، وسفكُوا الدماء، وقَتلُوا ابن خباب واستحلّوا أهلَ الذمّة فقالت: آلله؟ قلتُ: آلله الذي لا إله إلاَّ هو لقد كان. ¬

_ (¬1) عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما ضَل قومٌ بعد هُدًى كانوا عليه، إلاَّ أُوتُوا الجدَل، ثمّ تلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}. أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2593)، وابن ماجه "صحيح ابن ماجه" (45)، "السُّنَّة" لابن أبي عاصم (101). (¬2) الزخرف: 58.

متى يقاتل الخوارج والمتمردون على الإمام

قالت: فما شيء بلغني عن أهل العراق يتحدّثون به يقولون: ذو الثدي ذو الثدي، قلت: قد رأيتُه ووقفتُ عليه مع عليّ -رضي الله عنه- في القتلى فدعا الناس، فقال: هل تعرفون هذا؟ فما أكثر من جاء يقول: قد رأيته في مسجد بني فلان يصلّي، ورأيته في مسجد بني فلان يصلّي، فلم يأتوا بثَبْتٍ يعرف إلاَّ ذلك. قالت: فما قول عليّ حين قام عليه كما يزعم أهل العراق؟ قلت: سمعْتُه يقول: صدَق الله ورسوله، قالت: فهل سمعت أنت منه قال غير ذلك؟ قلت: اللهم لا، قالت: أجل؛ صَدَق الله ورسوله، يَرحم الله عليّاً، إنّه مِن كلامه كان لا يرى شيئاً يعجبه إلاّ قال: صدَق الله ورسوله" (¬1). متى يُقاتَل الخوارج والمتمرّدون على الإمام لا يجوز مبادرة الخوارج والمتمرّدين على الإمام بالقتال، لقولِ عليّ -رضي الله عنه- في الحرورية: "لا تبدؤوهم بقتال" (¬2). ويُقتَل المتمرِّدون على الإمام إذا قطَعوا السبيل، وسفَكوا الدماء، واستحلّوا الحُرُمات؛ كما في الأثَر المتقدِّم، قال عليٌّ -رضي الله عنه- للخوارج: "قد كان مِنْ أمرِنا وأمْرِ النّاس ما قد رأيتم قفوا حيث شئتم، حتى تجتمعَ أمّه محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتنزلوا فيها حيث شئتم، بيننا وبينكم أن نقيَكم رماحنا؛ ما لم تقطعوا سبيلاً وتطلبوا دماً، فإنكم إنْ فعلتم ذلك، فقد نبَذْنا إليكم الحرب على سواء، إنّ الله لا يُحبّ الخائنين. ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم، وعنه البيهقي وأحمد، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2459). (¬2) حسنه شيخنا -رحمه الله في "الإرواء" (2469).

ما جاء من نصوص تبين بعض أمارات الخوارج ومثيري الفتن

فقالت عائشة -رضي الله عنها-: يا ابن شداد فقد قَتَلَهُم؟ فقال: والله ما بعَث إليهم حتى قطَعُوا السبيل، وسفكُوا الدماء، وقتلوا ابن خباب واستحلُّوا أهل الذمّة فقالت: آلله؟ قلت: آلله الذي لا إله إلاَّ هو، لقد كان". فائدة: قال في "منار السبيل" (2/ 352): "وكلُّ مَن ثبَتَت إمامتُه؛ حَرُم الخروج عليه وقتاله، سواءٌ ثبَتَت بإجماع المسلمين عليه: كإمامة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، أو بعهدِ الإمام الذي قبله إليه: كعهد أبي بكر إلى عمر، -رضي الله عنهما-، أو باجتهاد أهل الحلّ والعقد؛ لأنّ عمرَ جعَل أمْرَ الإمامة شورى بين ستةٍ من الصحابة، -رضي الله عنهم- فوقع الاتفاق على عثمان أو بقهره للناس، حتى أذعنوا له، ودعوه إماماً: كعبد الملك بن مروان؛ لمّا خرجَ علي ابن الزبير فقتَله، واستولى على البلاد وأهلِها حتى بايعوه طوعاً وكرهاً، ودعوه إماماً، لأنّ في الخروج على مَن ثبتَت إمامته بالقهر شقَّ عصا المسلمين، وإراقةَ دمائهم، وإذهابَ أموالهم. قال أحمد في رواية العطار: "ومَن غَلَب عليهم بالسيف حتى صار خليفة، وسُمِّي أمير المؤمنين؛ فلا يحلّ لأحدٍ يؤمن بالله أن يبيت، ولا يراه إماماً بَرّاً كان أو فاجراً. وقال في "الغاية ": ويتجه؛ لا يجوز تعدّد الإمام، وأنه لو تغلَّب كلُّ سلطان على ناحية كزماننا؛ فحُكمه كالإمام". ما جاء مِن نصوص تبيّن بعض أمارات الخوارج ومثيري الفتن عن أبي سعيد الخدري قال: "بَعَثَ عليٌّ -رضي الله عنه- وهو باليمن

بِذَهَبةٍ (¬1) في تُربَتِها (¬2) إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقَسَمَها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس الحنظلي، وعُيينة بن بدر الفزاريّ، وعلْقَمَةُ بن عُلاثة العامريّ، ثمّ أحَد بني كِلاب، وزيد الخير الطائي، ثمّ أحَد بني نبهان. قال: فغَضِبَت قريش فقالوا: أتعطي صناديد (¬3) نجد وتَدَعُنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّي إنّما فعلْتُ ذلك لأتألّفَهُم، فجاء رجل كثُّ اللحية (¬4)، مُشرف الوجنتين (¬5)، غائر العينين (¬6)، ناتئ الجبين (¬7) محلوق الرأس، فقال: اتّق الله يا محمّد، قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فمن يُطِع الله إنْ عصيتُه! أيأمَنُنِي على أهلِ الأرض ولا تأمَنُوني؟ قال: ثمّ أدبَر الرجل، فاستأذَن رجلٌ من القوم في قَتْله -يرَوْن أنّه خالد بن الوليد-، فقال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّ مِن ضئضئ (¬8) هذا قوماً؛ يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يَقْتُلون أهل الإسلام ويَدَعُون أهل الأوثان، يمرُقون من ¬

_ (¬1) قال الإمام النّووي -رحمه الله-: "هكذا هو في جميع نُسَخِ بلادِنا -بفتح الذال-، وكذا نقَلَه القاضي عن جميع رواة مسلم عن الجلودي، قال: وفي رواية ابن ماهان (بذُهَيبَة) على التصغير". (¬2) أي: هي مستقِرّة فيها غير مميَّزة عنها. (¬3) صناديد نجدٍ أي: ساداتها. (¬4) أي: كثيرها. (¬5) مُشرف الوجنتين: غليظهما، والوَجْنة: لحم الخدّ. (¬6) يعني: داخلتين في الرأس، لاصقتين بقعر الحدقة. "الكرماني". (¬7) مُرتفِعُه؛ مِن النّتوء. (¬8) أي: الأصل والنسل. "شرح الكرماني".

الإسلام كما يمرُق السهم من الرَّميّة، لئن أدركتُهم لأقتلنّهم قَتْل عاد" (¬1). وفي رواية: قال أبو سعيد -رضي الله عنه-: "بينا نحن عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يَقسِم قَسْماً، أتاه ذو الخويصِرة -وهو رجلٌ من بني تميم- فقال: يا رسول الله اعدِل، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ويلك، ومَن يَعدِل إنْ لم أعدِل؟ قد خِبتَُ وخسرتَُ إنْ لم أعدل، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دعه فإنّ له أصحاباً يحقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامَه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيَهم (¬2)، يمرقون من الإسلام؛ كما يمرُق السهم مِن الرميّة" (¬3). وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "أتى رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجِعْرانَة مُنْصَرَفَه (¬4) مِن حُنين وفي ثوب بلالٍ فضّة، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبض منها يُعطي الناس، فقال: يا محمّد اعدل، قال: ويلك ومَن يَعدِل إذا لم أكن أعدِل؟ لقد خبتَُ وخسِرْتَُ إن لم أكن أعدل. فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: دعني يا رسول الله فأقتلَ هذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 7432، ومسلم: 1064. (¬2) التراقي: جمع تَرْقُوة، وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، وهما تَرقُوتان مِن الجانبين. والمعنى: أن قراءتهم لا يرفعها الله، ولا يقبلها، فكأنها لم تتجاوز حلوقهم "النّهاية". (¬3) أخرجه مسلم: (1064 - 148). (¬4) أي: حين انصرافه -عليه الصلاة والسلام-.

المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أَقْتُل أصحابي، إنّ هذا وأصحابَه يقرأون القرآن؛ لا يُجاوِز حناجرهَم، يمرُقون منه كما يمرق السهم مِن الرّميّة" (¬1). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكَر قوماً يكونون في أمّته، يخرُجون في فرقة مِن الناس، سيماهم التحالُق (¬2)، قال: هم شرّ الخلق (أو مِن أشرّ الخلق) (¬3)، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحقّ (¬4). قال: فضرَب النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم مَثَلاً أو قال قولاً: الرجل يرمي الرميّة (أو قال الغَرَض) فينظر في النصل فلا يرى بصيرة (¬5)، وينظر في النضيّ (¬6) فلا يرى بصيرة، وينظر في الفُوق (¬7) فلا يرى بصيرة، قال: قال: أبو سعيد وأنتم قتلتموهم يا أهل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3138، ومسلم: 1063. (¬2) أي: حلْق الرؤوس، والسيما: العلامة. (¬3) تأوَّله الجمهور بمعنى أشرّ المسلمين ونحوه. وانظر "شرح النّووي". (¬4) قال النّووي -رحمه الله- (7/ 167): "وفي رواية: أولى الطائفتين بالحقّ، وفي رواية: تكون أمّتي فرقتين، فتخرج مِن بينهما مارقة، تلي قَتْلهم؛ أولاهما بالحق، هذه الروايات صريحة في أنّ علياًّ -رضي الله عنه- كان هو المصيب المُحِقّ، والطائفة الأخرى أصحاب معاوية -رضي الله عنه- كانوا بغاة متأوّلين، وفيه التصريح بأنّ الطائفتين مؤمنون لا يخرجون بالقتال عن الإيمان ولا يفسقون، وهذا مذهبنا ومذهب موافقينا". (¬5) هي الشيء من الدم، أي: لا يَرى شيئاً من الدم يستدلّ به على إصابة الرميّة. "شرح النّووي". (¬6) هو القدح. (¬7) موضع الوتر من السهم، وهذا تعليقٌ بالمُحال، فإنّ ارتدادَ السهم على الفوق محُال، فرجوعهم إلى الدين أيضاً محُال. "عون المعبود".

العراق" (¬1). وفي رواية من حديث أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "سيكون في أمّتي اختلافٌ وفُرقة، قومٌ يُحسنون القِيلَ ويسيئون الفِعل، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيَهم، يَمرقون مِن الدين مروق السهم مِن الرميّة، لا يرجعون حتى يرتد على فُوقِه، هم شرُّ الخلق والخليقة، طوبى لمن قَتَلَهم وَقَتلوه، يَدْعون إلى كتاب الله، وليسوا منه في شيء، مَن قاتَلَهم كان أولى بالله منهم، قالوا: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال: التّحليق" (¬2). وعن سويد بن غَفَلَة قال: قال عليّ -رضي الله عنه-: "إذا حدَّثتُكم عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلأَنْ أخِرَّ مِن السماء أحبُّ إليَّ مِن أن أقول عليه ما لم يَقُل، وإذا حدَّثتُكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خَدْعة، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: سيخرج في آخر الزمان قومٌ أحداثُ الأسنان سفهاءُ الأحلام (¬3)، يقولون مِن خير قول البريّة (¬4)، يقرأون القرآن لا يُجاوز حناجرهم، يَمرقون مِن الدين كما يَمرُق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قَتَلهم عند الله يوم القيامة" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3610، 6163، 6933، ومسلم: 1065. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3987). (¬3) صغار الأسنان صغار العقول "شرح النّووي". (¬4) أي: في ظاهر الأمر؛ كقولهم: لا حُكم إلاَّ لله، ونظائره من دعائهم إلى كتاب الله تعالى -والله أعلم-. "شرح النّووي". (¬5) أخرجه البخاري: 3611، 5057، 6930. ومسلم: 1066 وتقدّم.

وعن عبيد الله بن- أبي رافع: "أنّ الحروريّة (¬1) لمّا خَرَجت وهم مع عليِّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- قالوا: لا حُكم إلاَّ لله، قال عليّ: كلمةُ حقٍّ أريد بها باطل، إن رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصَفَ ناساً إني لأعرِف صِفَتَهم في هؤلاء، يقولون الحقّ بألسنتهم، لا يجوز (¬2) هذا منهم، وأشار إلى حَلْقِه، مِن أبغض خَلْق الله إليه، منهم أسود، إحدى يديه طُبْيُ (¬3) شاة، أو حلمة ثدي، فلمّا قتلَهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. قال: انظروا، فنظَروا، فلم يجدوا شيئاً، فقال: ارجعوا فوالله ما كَذَبتُ ولا كُذِّبتُ -مرتين أو ثلاثاً-، ثمّ وجدوه في خَرِبَة، فأتَوا به حتى وضعوه بين يديه، قال عبيد الله وأنا حاضر ذلك مِن أمرِهم وقولِ عليّ -رضي الله عنه- فيهم" (¬4). عن أبي رزين: "لما وقَع التحكيم، ورجَع عليٌّ من صِفّين رجعوا مبايِنين له، فلمّا انتهوا إلى النهرِ؛ أقاموا به فدخَل عليُّ في الناس الكوفة، ونزلوا بحروراء، فبعث إليهم عبدَ الله بن عباس، فرجَع ولم يصنع شيئاً، فخرَج إليهم عليٌّ فكلَّمَهم، حتى وقع الرضا بينه وبينهم، فدخلوا الكوفة، فأتاه رجُل فقال: إنّ الناس قد ¬

_ (¬1) الحرورية: فِرْقةٌ مِن فِرَق الخوارج، وهي نسبة إلى حروراء، وهي بقرب الكوفة، كان أوّل اجتماع الخوارج بها، قال الهروي: تعاقدوا في هذه القرية فنُسِبوا إليها. وانظر "شرح النّووي" (4/ 27). وجاء في الفتح (1/ 422): "ويُقال لمن يَعْتقِد مذهب الخوارج (حروريّ) لأن أولَ فرقةٍ منهم؛ خرجوا على عليّ -رضي الله عنه- بالبلدة المذكورة، فاشتهروا بالنسبة إليها وهم فِرَقٌ كثيرة". (¬2) لا يجوز: مِن المجاوزة. (¬3) الطُّبي: حَلَمةُ الضّرع التي فيها اللبن والتي يرضع منها الرضيع. (¬4) أخرجه مسلم: 1066.

تحدثوا أنّك رجحْتَ لهم عن كُفرك، فخطَب الناسَ في صلاة الظهر فذكَر أمْرَهم فعابه، فوثبوا من نواحي المسجد يقولون: لا حُكم إلاّ لله، واستقبله رجل منهم واضع أصبعيه في أذنيه فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1) فقال عليّ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (¬2) " (¬3). ومِن أجل فهم مُراد عليٍّ -رضي الله عنه- لا بُد من معرِفة سياق الآية، قال الله -تعالى-: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (¬4). يعني: مِن شأن الكافرين إذا رأوا الآيات البيّنات والمُعجِزات الباهرات، أن يحكُموا ببطلان مَن جاء بها؛ لأنّه قد طُبع على قلوبهم فهم لا يفقهونها، فأمرَ الله -تعالى- نبيّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصبر على مخالفتهم وعنادهم وأذاهم، فالعاقبة له ولمن اتبعَه في الدارَيْن. وأمَرَه -سبحانه- ألاّ يستخفنّ حِلْمه ورأيه (¬5) أولئك المشركين الذين لا ¬

_ (¬1) الزمر: 65. (¬2) الروم: 60. (¬3) أخرجه ابن جرير في "تاريخه"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2468). (¬4) الروم: 58 - 60. (¬5) انظر تفسير الإمام الطبري -رحمه الله- لقوله -تعالى-: {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}.

السمع والطاعة للإمام ما لم يأمر بمعصية وما جاء في عدم منازعة الأمر أهله

يوقنون بالمعَاد، ولا يؤمنون بالبعث بعد الممات، بل عليه بالثبات على الحقّ، وعدم العدول عنه. فذِكر ذلك الخارجي الآية: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} هو حُكمٌ على عليّ -رضي الله عنه- بأنه مُبطل، كما هو شأن الكفّار في اتهام النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولمّا أمَرَ الله -تعالى- نبيه بالصبر وأنّ وعده -سبحانه- حقّ، فإنّ علياً أراد أن يقول لهذا الخارجي: إنّ الله -تعالى- يأمرني أن أصبر على مخالفتك وعنادك وأذاك، وهو ناصري ومُعيني، وهو -سبحانه- يأمرني بالصبر والثبات؛ على ما أنا عليه مِن الحقّ، وعدم العدول عنه. السمع والطاعة للإمام ما لم يَأْمُر بمعصية وما جاء في عدم منازعة الأمر أهله قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (¬1). جاء في تفسير ابن كثير -رحمه الله-: "قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يعني: أهلَ الفقه والدين، وكذا قال مجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يعني: العلماء. والظاهر -والله أعلم- أنّ الآية عامّة في جميع أولي الأمر مِن الأمراء والعلماء، -كما تقدّم-، وقد قال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ¬

_ (¬1) النساء: 59.

وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (¬1)، وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬2). وفي الحديث الصحيح المتفق عليه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومَن عصاني فقد عصى الله، ومَن أطاع أميري فقد أطاعني، ومَن عصى أميري فقد عصاني" (¬3). فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء، ولهذا قال -تعالى-: {أطِيعُوا الله} أي: اتبعوا كتابه {وَأَطِيعُوا اَلرسولَ} أي: خذوا بسنَّته {وأولي الأمر منكم} أي: فيما أمروكم به من طاعة الله، لا في معصية الله؛ فإنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الله، كما تقدم في الحديث الصحيح: "إنما الطاعة في المعروف" (¬4). وعن عمرانَ بن حصين، عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا طاعة في معصية الله" (¬5). وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قال مجاهد وغيرُ واحدٍ مِن السلف: أي: إلى كتاب الله وسُنّة رسوله. وهذا أمْرٌ من الله -عزّ وجلّ-، بأنّ كلَّ شيء تنازَع الناس فيه من أصول الدين وفروعه، أن يُرَدّ التنازع في ذلك إلى الكتاب والسُّنّة، كما قال تعالى: {وَمَا ¬

_ (¬1) المائدة: 63. (¬2) النحل: 43. (¬3) أخرجه البخاري: 7137، ومسلم: 1835. (¬4) أخرجه البخاري: 4340، 7145، ومسلم: 1840. (¬5) أخرجه أحمد والطيالسي، والطبراني في "الكبير" وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (180).

اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (¬1) فما حَكَم به كتابُ الله وسُنّةُ رسولِه وشهدا له بالصّحّة فهو الحق، وماذا بعد الحقّ إلاَّ الضلال. ولهذا قال -تعالى-: {إن كنتم تُؤمِنُونَ بِاَللهِ وَاَليومِ الآخِرِ} أي: رُدّوُا الخصومات والجهالاتِ إلى كتاب الله وسُنّة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجَر بينكم {إن كنتم تُؤمِنُونَ بِاَللهِ وَاَليومِ الآخِرِ}. فدلَّ على أنَّ مَن لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتابِ والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك؛ فليس مُؤمِناً بالله ولا باليوم الآخر. وقوله: {ذلك خيرٌ} أي: التحاكُم إلى كتاب الله وسُنة رسوله. والرجوع في فصل النزاع إليهما خير {وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً} أي: وأحسنُ عاقبةً ومآلاً؛ كما قاله السدي وغير واحد. وقال مجاهد: وأحسن جزاءً. وهو قريب". عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: "السمع والطاعة حقّ؛ ما لم يُؤمَر بمعصية، فإذا أُمِرَ بمعصية، فلا سمْعَ ولا طاعة" (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من رأى مِن أميره شيئاً يكرهه؛ فليصبِر عليه؛ فإنه مَن فارق الجماعة شبراً فمات؛ إلاّ مات ميتة جاهلية" (¬3). وعن جُنادةَ بن أَبي أميّة قال: "دخَلْنا على عُبادة بنِ الصامت وهو مريض، قُلنا أصلحَك الله، حدِّث بحديثٍ ينفعك الله به، سمعْتَه من النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: دعانا ¬

_ (¬1) الشورى: 10. (¬2) أخرجه البخاري: 2955، ومسلم: 1839. (¬3) أخرجه البخاري: 7054، ومسلم: 1849.

النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبايعناه، فقال فيما أخذَ علينا؛ أن بايَعَنا على السمع والطاعة، في مَنْشَطنا (¬1) ومَكْرَهنا (¬2) وعُسرنا ويُسرنا، وأثَرَةٍ (¬3) علينا، وأن لا نُنازع الأمرَ أهلَه (¬4) إلاَّ أن تروا كُفراً بَواحاً (¬5)؛ عندكم من الله فيه بُرهان (¬6) " (¬7). وعن عبد الرحمن بن عبد ربِّ الكعبة، قال: "دخلتُ المسجد، فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالسٌ في ظِلِّ الكعبة، والناس مجتمِعون عليه، فأتيتُهم ¬

_ (¬1) مَنشطنا: أي في حالة نشاطنا. (¬2) مَكرهنا: في الحالة التي نكون فيها عاجزين عن العمل بما نُؤمَر به. (¬3) الأثَرَة -بفتح الهمزة والثاء-: الاسمُ من آثَر يُؤثرُ إيثَاراً: إذا أعْطى، أراد أنَّه يُستأثر عليكم، فيُفضَّل غيرُكم في نَصيبه مِنَ الفَيْء. والاسْتِئْثَار: الانْفِرَادُ بالشيء. "النّهاية". وقال الحافظ -رحمه الله-: "والمُراد أنّ طواعيتهم لمن يتولّى عليهم؛ لا تتوقف على إيصالهم حقوقَهم بل عليهم الطاعة ولو منعهم حقّهم". (¬4) وأن لا ننازع الأمر أهله: أي الملك والحكم. (¬5) بَواحاً: ظاهراً بيّناً. (¬6) عندكم من الله فيه برهان: [قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (13/ 8): "أي: نصُّ آيةٍ أو خبرٌ صحيح لا يَحْتَمل التأويل، ومُقتضاه أنّه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فِعْلهم يَحتمل التأويل، قال النّووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: "لا تُنازِعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تَعترِضوا عليهم إلاّ أن تروا منهم مُنكَراً محُقَّقاً تعلمونه مِن قواعد الإسلام؛ فإذا رأيتم ذلك فأنكِروا عليهم وقولوا بالحقّ حيثما كنتم انتهى. وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر، فلا يُعتَرض على السلطان إلاَّ إذا وَقَع في الكفر الظاهر، والذي يظهر حَمْلُ روايةِ الكُفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية؛ فلا ينازِعه بما يقدَح في الولاية إلاَّ إذا ارتكَب الكُفر، وحَمْل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يُقدَح في الولاية؛ نازَعه في المعصية بأن يُنكِر عليه برفقٍ ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عُنف، ومحلّ ذلك إذا كان قادراً، والله أعلم".] (¬7) أخرجه البخاري: 7056، ومسلم: 1709.

فجلسْتُ إليه، فقال: كنّا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفَر فنزلنا منزلاً، فمنّا من يُصلح خِباءَه ومنا من يَنتضِلُ (¬1) ومنّا من هو في جَشَرِه (¬2) إذ نادى منادي رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الصلاةَ جامعةً، فاجتمعْنا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنه لم يكن نبيٌّ قبلي، إلاَّ كان حقّاً عليه أن يدُلّ أمّته على خيرِ ما يعلمُه لهم، ويُنذرَهم شرَّ ما يعلمه لهم، وإنَّ أمّتكم هذه جُعِل عافيتُها في أولها، وسيصيب آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها، وتجيء فتنة، فيُرقِّق (¬3) بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مُهلِكتي، ثمّ تنكشف وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحَبَّ أن يُزَحزَحَ عن النار وَيُدْخَل الجنة؛ فلتأته منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يُحبّ أن يُؤتَى إليه (¬4)، ومن بايع إماماً فأعطاه صفْقَة يدِه وثمرةَ قلبه (¬5) فليطعه إن استطاع، فإنْ جاء آخرُ ينازعه؛ فاضربوا عُنُق الآخر. فدنوت منه فقلت له: أنشدك الله آنت سمعْتَ هذا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ¬

_ (¬1) ينتضِل: هو من المناضلة، وهي المراماة بالنُّشَّاب. "شرح النّووي". (¬2) جَشَره- بفتح الجيم والشين-: وهي الدوابُّ التي تَرعى وتَبيت مكانها. (¬3) يُرقق -بضم الياء وفتحِ الراء-: قال النّووي -رحمه الله- (12/ 233): "أي: يصير بعضها رقيقاً، أي: خفيفا لعِظَم ما بعده، فالثاني يجعل الأول رقيقا، وقيل: معناه يشبه بعضها بعضا، وقيل: يدور بعضُها في بعض، ويذهب ويجيء، وقيل: معناه يسوق بعضها إلى بعض بتحسينها وتسويئها". انتهى. قلت: والأوّل أرجح، والله -تعالى- أعلم. (¬4) وليأت إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتى إليه: قال النّووي -رحمه الله-: "هذا من جوامع كَلِمِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبديع حكمه، وهذه قاعدة مهمّة فينبغي الاعتناء بها، وأن الإنسان يلزم ألا يفعل مع الناس، إلاَّ ما يُحبّ أن يفعلوه معه". (¬5) صفقة يده، وثمرة قلبه: أي خالص عهده. "النّهاية".

فأهوى إلى أذنيه وقلبِه بيديه وقال: سَمِعَتْه أذناي ووعَاه قلبي. فقلت له: هذا ابن عَمِّك معاوية يأمُرنا أن نأكلَ أموالَنا بيننا بالباطل، ونقتُلَ أنفسنا، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (¬1) إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} قال: فسكَت ساعة ثمّ قال: أطِعه في طاعة الله (¬2)، واعصه في معصية الله" (¬3). وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خِيارُ أئمّتكم الذين تحبّونهم ويُحبّونكم، ويُصلّون عليكم (¬4)، وتصلّون عليهم، وشرار أئمّتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل: يا رسول الله أفلا ننابذُهُم بالسيف؟ فقال: لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة (¬5)، وإذا رأيتم مِن ولاتكم شيئاً تكرهونه، فاكرهوا عَمَله، ولا تنزِعوا يَداً مِن طاعة" (¬6). قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 170): ¬

_ (¬1) المقصود بهذا الكلام: أنّ هذا القائل لمّا سمِع كلام عبدِ الله بن عمرو بن العاص، وذكر الحديث في تحريم منازعة الخليفة الأول، وأن الثاني يقتل، فاعتقد هذا القائل هذا الوصف في معاوية؛ لمنازعته عليّاً -رضي الله عنه-، وكانت قد سَبَقت بيعةُ عليّ، فرأى هذا أنّ نفقة معاوية على أجناده وأتباعه في حرب عليِّ ومنازعته ومقاتلته إياه، مِن أكْل المالِ بالباطل، ومِنْ قَتْلِ النفس؛ لأنه قتالٌ بغيرِ حقّ، فلا يستحقّ أحدٌ مالاً في مقاتلته". (¬2) قال الإمام النّووي -رحمه الله-: "هذا فيه دليلٌ لوجوب طاعة المتولّين للإمامة بالقهر، مِن غير إجماع ولا عهد". (¬3) أخرجه مسلم: 1844. (¬4) يُصلّون عليكم: أي يَدْعون لكم. (¬5) قال النّووي -رحمه الله- (12/ 243): "فيه معنى ما سَبَق أنّه لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق، ما لم يُغيِّروا شيئاً مِن قواعد الإسلام". (¬6) أخرجه مسلم: 1855.

السلام في الإسلام

وأولوا الأمر أصحاب الأمر وذووه؛ وهم الذين يأمُرون الناس؛ وذلك يشترك فيه أهلُ اليد والقدرة وأهلُ العلم والكلام؛ فلهذا كان أولوا الأمر صنفين: العلماء؛ والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسَد الناس؛ كما قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- للأحمسية لما سألته: "ما بقاؤنا على هذا الأمر؟ قال: ما استقامت لكم أئمّتكم"، ويدخُل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان؛ وكل مَن كان متبوعاً فإنه مِن أولي الأمر. وعلى كل واحد من هؤلاء أن يَأْمُر بما أمرَ الله به، وينهى عمّا نهى عنه، وعلى كل واحدٍ ممن عليه طاعته، أن يطيعه في طاعة الله؛ ولا يطيعه في معصية الله ... ". السلام في الإسلام إنّ حامل هذه الرسالة هو حاملُ راية السلام، لأنه يَحْملُ إلى البشرية الهدى، والنور، والخير، والرشاد. وهو يُحدّث عن نفسه، فيقول: "إنما أنا رحمة مهداة" (¬1). ويحدث القرآن عن رسالته، فيقول: {وما أرسلناك إلاَّ رحمةً للعالمين} (¬2). يقول الله- تعالى-: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} (¬3). قال الله -تعالى-: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" وانظر "غاية المرام" برقم (1) و"الصحيحة" (490). (¬2) الأنبياء: 107. (¬3) النساء: 94. (¬4) الأنفال: 61.

أسباب النصر والتمكين

أسباب النصر والتمكين (¬1) 1 - التوحيد قال -تعالى-: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} (¬2). ولا يُلقى الرعب في قلوب الكُفّار؛ إلاَّ إذا كان المسلمون موحِّدين حقّاً، ألا ترى ما كان مِن شأن الأعداء زمن الصحابة -رضي الله عنهم- فإنّه لم يكن لهم عليهِم مِن سبيل، ولكننا نراهم الآن قد تسلّطوا على المسلمين! فلا بُدّ من التوحيد، فإنّه حقّ الله على عباده، وهو سعادة الدارين. وكيف ينصُر الله -تعالى- أُناساً يُؤلهّون الملائكة والأنبياء والأولياء؟! كيف ينصُر الله أناساً اعتقدوا أنّ الله تفرّد بالخلق، ولم يتفرّد بالاستجابة؛ إلاّ بواسطة مخلوقاته؛ مِن أحياء وأموات، يرفعون له الدعاء والاستغاثة والتوسل؟! قال الله -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬3). ¬

_ (¬1) وسأذكر هذه الأسباب بإجمال، غير سالك الاستقصاء -وإن كنت أتمنّاه- بما يتفق مع المنهج الفقهي للكتاب، وهناك نقاط متفرّعة من أسباب رئيسة، قد أفردتها وأبرزتُها للأهمية. (¬2) آل عمران: 151. (¬3) النور: 55.

قال ابن كثير -رحمه الله -بحذف-: "هذا وَعْدٌ مِن الله لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بأنه سيجْعَل أمّته خلفاء الأرض، أي: أئمّة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلُح البلاد، وتخضع لهم العباد، ولَيُبدلَنّ بعد خوفهم من الناس أمناً وحُكماً فيهم، وقد فعَل تبارك -وتعالى- ذلك، وله الحمد والمِنّة، فإنه لم يمت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى فتَح الله عليه مكّة وخيبر والبحرين، وسائرَ جزيرة العرب، وأرض اليمن بكمالها، وأخَذ الجزية مِن مجوس هَجَر، ومِن بعض أطراف الشام، وهاداه هِرَقْل مَلِك الروم وصاحب مصر والاسكندرية -وهو المقوقس- وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة، الذي تَملَّك بعد أصْحَمة -رحمه الله وأكرمه-. ثمّ لمّا مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واختار الله له ما عنده مِن الكرامة، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، فلمَّ شَعْث ما وَهَى عند موته - عليه الصلاة والسلام- وأطَّدَ جزيرة العرب ومهَّدها، وبعَث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، ففتحوا طَرَفاً منها، وقتلوا خلقاً مِن أهلها، وجيشاً آخر صحبة أبي عبيدة -رضي الله عنه-، ومَن معه مِن الأمراء إلى أرض الشام، وثالثاً صحبة عمرو بن العاص -رضي الله عنه- إلى بلاد مصر، ففتَح الله للجيش الشاميّ في أيامه بُصرى ودمشق ومَخَاليفهما من بلاد حوران، وما والاها، وتوفاه الله -عز وجلّ-، واختار له ما عنده مِن الكرامة. ومَنّ على الإسلام وأهله؛ بأن أَلهْمَ الصِّديق أن استخلَف عمرَ الفاروق، فقام في الأمر بعده قياماً تامّاً، لم يَدُر الفَلَك بعد الأنبياء -عليهم السلام- على مثله، في قوة سيرته وكمال عَدْله، وتمّ في أيامه فتْح البلاد الشاميّة بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكَسَّر كسرى وأهانه غاية الهوان، وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقَصَّر قيصر، وانتزع يدَه عن بلاد الشام فانحاز إلى القُسطنطينة،

وأنفَق أموالَهما في سبيل الله، كما أخبَر بذلك ووعَد به رسول الله -عليه مِن ربّه أتمّ سلام وأزكى صلاة-. ثمّ لمّا كانت الدولة العثمانية (¬1)، امتدَّت المماليك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففُتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك: الأندلس، وقبرص، وبلاد القيروان، وبلاد سَبْتَةَ؛ مما يلي البحر المحيط، ومِن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقُتِل كسرى، وباد مُلْكُه بالكُلّية، وفُتحت مدائن العراق، وخُراسان، والأهواز، وقَتَل المسلمون مِن الترك مقتلةً عظيمةً جداً، وخذَل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجُبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمْعِه الأمّة على حِفظ القرآن. ولهذا ثبَت في الصحيح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "إن الله زَوَى (¬2) لي الأرض، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وسيبلغُ ملك أمّتي ما زُوي لي منها" (¬3). فها نحن نتقلب فيما وعَدَنا الله ورسوله، وصدَق الله ورسوله، فنسأل الله الإيمان به، وبرسوله، والقيام بشُكره على الوجه الذي يُرضيه عنّا. قال الإمام مسلم بن الحجاج في "صحيحه": حدَّثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سَمُرَة قال: "سمعتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لا يزال أمْرُ الناس ماضياً ما وَلِيَهم اثنا عشر رجلاً ثمّ تكلَّم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكلمة ¬

_ (¬1) أي في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-. (¬2) أي: جمع وضمّ. (¬3) أخرجه مسلم: 2889.

خَفِيت عني فسألْتُ أبي: ماذا قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: كُلُّهم مِن قريش" (¬1). ورواه البخاري من حديث شعبة، عن عبد الملك بن عمير، به (¬2). وهذا الحديث فيه دِلالة على أنّه لا بُدّ من وجود اثني عشَر خليفةً عادلاً وليسوا هم بأئمّة الشيعة الاثني عشَر؛ فإنَّ كثيراً مِن أولئك لم يكن إليهم مِن الأمر شيء، فأمّا هؤلاء؛ فإنهم يكونون مِن قريش، يَلُون فيَعْدِلون، وقد وقَعَت البِشارة بهم في الكتب المتقدمة. ثمّ لا يُشتَرط أن يكونوا متتابعين، بل يكون وجودهم في الأمّة متتابعاً ومتفرّقاً، وقد وُجِد منهم أربعة على الولاء، وهم: أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ عليّ -رضي الله عنهم-، ثمّ كانت بعدهم فترة، ثمّ وُجِد منهم ما شاء الله، ثمّ قد يُوجَد منهم مَن بقي في وقتٍ يعلمه الله، ومنهم المهدي الذي يطابق اسمه اسمَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكُنيته كنيتَه، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما مُلئت جوراً وظلماً. [وعن] سعيد بن جُمْهان، عن سَفِينة -مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثمّ يكون مُلكاً (¬3) " (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1821. (¬2) أخرجه البخاري: 7222، 7223. (¬3) في الأصل كلمة (عَضوضاً) وقد حذفتها لعدم ورودِها في المصادر، وقد وردت هذه الكلمة في بعض الأحاديث الأخرى على اختلاف بين العلماء على ثبوتها، وثبت معناها في "الصحيحة" رقم (5). (¬4) أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبّان في "صحيحه" وغيرهم، وصححه شيخنا - رحمه الله- في "الصحيحة" (459).

وقوله -تعالى-: {كما استخلف الذين من قبلهم} كما قال -تعالى- عن موسى -عليه السلام-، أنّه قال لقومه: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (¬1)، وقال -تعالى-: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (¬2). وقوله: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (¬3). ثمّ ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بعضاً مِن حديث عديِّ بن حاتم، وأرى مِن الفائدة أن أسوقه بتمامه: قال -رضي الله عنه-: "بَينا أنا عند النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ أتاه رجُلٌ فشكا إليه الفاقَةَ، ثمّ أتاه آخر فشكا إليه قَطْع السبيل، فقال: يا عديّ هل رأيت الحِيْرَة؟ قلت: لم أرها وقد أُنبِئتُ عنها. قال: فإنْ طالت بك حياة لتَرَّين الظّعينة (¬4) ترتحل من الحِيرَة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحداً إلاَّ الله -قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دُعّار (¬5) طَيئ الذين قد سَعّروا البلاد؟ - ولئنْ طالت بك حياة لتُفتَحنّ كنوزُ كسرى، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، ولئنْ طالت بك حياة لتَرّين الرجل ¬

_ (¬1) الأعراف: 129. (¬2) القصص: 5 - 6. (¬3) النور: 55. (¬4) المرأة في الهودج. (¬5) وهو الشاطر الخبيث المُفسد. "الفتح".

يُخرج ملءَ كفّه مِن ذهبٍ أو فِضة؟ يطلُب مَن يقبلُه منه فلا يجد أحداً يَقْبَلُه منه. ولَيلقَينّ الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه تُرجمانٌ يُترجم له، فيقولَنّ له ألم أبْعَث إليك رسولاً فيُبلّغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أُعطك مالاً وأُفْضل عليك؟ فيقولُ بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلاّ جهنّم وَينظر عن يساره فلا يرى إلاَّ جهنّم. قال عديّ: سمعْتُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اتقوا النّار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد شِقّ تمرة، فبكلمة طيّبة. قال عديّ: فرأيت الظعينة ترتحل مِن الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلاَّ اللهَ، وكنتُ فيمن افتتَح كنوز كسرى بن هرمز، ولئنْ طالت بكم حياة لترونّ ما قال النبيّ أبو القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخرج مِلءَ كفّه" (¬1). ثمّ ساق الحافظ ابن كثير بإسناد الإمام أحمد -رحمهما الله- إلى أُبيّ بن كعبٍ - رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "بَشّر هذه الأُمّة بالسَّناء والرفعة، والدين والنّصر والتمكين في الأرض، فمَن عَمِل منهم عَمَل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب" (¬2). ثمّ قال -رحمه الله-: وقوله: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}. ثمّ ذكَر حديث أنس، أنّ معاذَ بنَ جبل حدّثه قال: "بينا أنا رديف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ليس بيني وبينه إلاّ أَخِرَة الرَّحْل، قال: يا معاذ، قلت: لبيّك يا رسول الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3595. (¬2) أخرجه أحمد وابن حبان في "صحيحه" وغيرهم، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (23، 24).

2 - اتباع منهج النبي - صلى الله عليه وسلم -

وسَعْديك، قال: ثمّ سار ساعة، ثمّ قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيّك يا رسول الله وسعديك، ثمّ سار ساعة، ثمّ قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيّك يا رسول الله وسعديك. قال: هل تدري ما حقّ الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنّ حقَّ الله على عباده أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً. قال: ثم سار ساعة، ثمّ قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيّك يا رسول الله وسعديك، قال: فهل تدري ما حقّ العباد على الله إذا فعلوه؟، قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنّ حقّ العباد على الله أن لا يُعذّبهم" (¬1). وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: فمن خرَج عن طاعتي بعد ذلك، فقد فَسَقَ عن أمر ربّه، وكفى بذلك ذنباً عظيما. فالصحابة - رضي الله عنهم-، لمّا كانوا أقومَ النّاس بعد النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأوامر الله -عزّ وجلّ-، وأطوعَهم لله- كان نصرُهم بحسبهم، وأظهروا كلمةَ الله في المشارق والمغارب، وأيّدهم تأييداً عظيماً، وتحكّموا في سائر العباد والبلاد، ولما قَصَّر الناس بعدهم في بعض الأوامر، نقَص ظهورُهم بحسبهم". ثم ذكَر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- حديث الطائفة الظاهرة المنصورة بروايات متعددة، انتهى. 2 - اتباع منهج النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن أسباب النصر اتباع مَنهجِ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال الله -تعالى-: {وَمَاَ آتاكم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 5967، ومسلم: 30.

الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (¬1). وفي الحديث: "نُصرت بالرعب مسيرةَ شهرٍ" (¬2). وقال لنا شيخنا -رحمه الله- في بعض مجالسه- بعد أن ذكَر الحديث الشريفَ: "وإذا تمسَّكَت الأُمّة بما كان عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإنّها تُنصَر مسيرةَ شهرٍ". قال شيخنا -رحمه الله- في كتاب "منزلة السنّة في الإسلام وبيان أنّه لا يُستغنى عنها بالقرآن" (ص 6) -بحذف-: "تعلمون جميعاً أنّ الله -تبارَك وتعالى- اصطفى محمّداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنبوته، واختصّه برسالته، فأنزل عليه كتابه القرآن الكريم، وأمَرَه فيه -في جُملة ما أمرَه فيه- أن يُبيِّنَه للنّاس، فقال -تعالى-: {وَأَنزَلْنَاَ إِليكَ اَلذكرَ لِتُبَين للنَّاسِ مَا نُزِلَ} (¬3). والذي أراه أن هذا البيان المذكور في هذه الآية الكريمة؛ يشتمل على نوعين من البيان: الأول: بيان اللفظ ونَظْمه، وهو تبليغ القرآن وعدم كتمانه، وأداؤه إلى الأمّة، كما أنزَله الله -تبارك وتعالى- على قلبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو المراد بقوله -تعالى-: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (¬4). والآخر: بيان معنى اللفظ أو الجملة أو الآية الذي تحتاج الأمَّة إلى بيانه، ¬

_ (¬1) الحشر: 7. (¬2) أخرجه البخاري: 335، ومسلم: 521. (¬3) النحل: 44. (¬4) المائدة: 67.

3 - اتباع منهج السلف الصالح

وأكثر ما يكون ذلك في الآيات المُجْملة أو العامّة، أو المطلقة، فتأتي السنّة فتُوضّح المُجْمَل، وتُخصّص العام، وتُقيِّد المُطلق، وذلك يكون بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما يكون بفِعله وإقراره". 3 - اتباع مَنْهج السلف الصالح ولا يتيسّر اتباع نبيّنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاّ بحبّ السلف الصالح واتباع مَنهجهم السديد، وسبيلِهم الرشيد، فهم الذين نقَلُوا كتاب الله -تعالى- وسُنّة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفَهْمُهم الكتاب والسُّنة، وعملُهم بذلك؛ مرجِعٌ ومَنْهَجٌ لمن بعدهم. قال -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬1). وكان شيخنا -رحمه الله- كثيراً ما يستدل بهذه الآية؛ مُبيِّناً أهمية العمل بمقتضى الكتاب والسُّنة؛ بفهم سلفِ الأُمّة. ولا يغيب عن بال كلِّ عاقل؛ أنّ فَهْمَ الكتاب والسنّة على منهج أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ سبب اجتماعٍ وائتلافٍ، ودرءٌ للخصام والاختلاف، وهذا سبيل النصر بإذن الله -تعالى-. وعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: "وعظَنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موعظةً بليغة وَجِلت منها القلوب، وذَرَفَت منها العيون: فقلنا: يا رسول الله! كأنّها موعظة مُودِّع فأوصِنا قال: أوصيكم بتقوى الله والسّمع والطاعة، وإنْ تأمَّر عليكم عبدٌ حبشيّ، وإنه مَن يَعِش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم ¬

_ (¬1) النساء: 115.

بسنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضّوا عليها بالنواجذ (¬1) وإيّاكم ومحُدثات الأمور، فإنّ كُل بدعة ضلالة" (¬2). وفي رواية: "فقلنا يا رسول الله! إنّ هذه لموعظة مودعِّ، فماذا تَعْهَد إلينا؟ قال: قد تركْتكم على البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلاَّ هالك، مَن يَعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتُم مِن سُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضّوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة، وإنْ عبداً حبشياً، فإنما المؤمن كالجمل الأنِف (¬3)، حيثما قِيْدَ انْقَاد" (¬4). لقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فعليكم بسنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديّين، عَضّوا عليها بالنواجذ" ولم يقل عضّوا عليهما، إذ ليس هنا أمرٌ باتباع سُنّتين، بل هما سُنّة واحدة، ولأنّ الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- يعملون بسنة النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولقد أخَذ الصحابة عن الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم أجمعين- وكانوا أحرص الناس على الخير. وفي الحديث: "ألا إنّ مَن قبلكم مِن أهل الكتاب، افترقوا على ثنتين ¬

_ (¬1) أي: ألزموا السنّة، واحرِصوا عليها؛ كما يلزم العاضّ على الشيء بنواجذه؛ مخافة ذَهابه وتفلُّته، والنواجذ: الأنياب، وقيل: الأضراس. (¬2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3851) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2157)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (40) وغيرهم. (¬3) الأنِف: قال في "النّهاية": وهو الذي عقَرَ الخِشَاشُ أنْفَه، فهو لا يَمْتَنِع على قائدِه للْوَجَع الذي به. وقيل الأنِفُ الذَّلُول. والخِشاش: ما يُدخل في عظم أنف البعير من خشب. "المحيط". (¬4) "صحيح سنن ابن ماجه" (41).

وسبعين ملّة، وإنّ هذه الملّة، ستفترق على ثلاث وسبعين، ثِنتان وسبعون في النّار، وواحدة في الجنة، وهي الجَماعة" (¬1). وفي رواية: "ما عليه أنا وأصحابي" (¬2). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لا تسبّوا أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلمقام أحدهم ساعة، خيرٌ مِن عمل أحدكم عُمُرَه" (¬3). بعد أن فهِمْنا أن الصحابة أخَذُوا مِن الخلفاء الراشدين، نعلم إنّ اتباع منهاج الصحابة -رضي الله عنهم- اتباع لمنهاج الخلفاء، واتباع للسُنّة كذلك، واتباع السنّة؛ اتباعٌ للقرآن العظيم. إذا عرفْنا هذا التّدرج والتسلسل؛ علمْنا إذن أنّ مَن أخَذ عن الصحابة - رضي الله عنهم- فقد أخذَ عن الله -سبحانه- ومَن رفض منهاج الصحابة؛ فقد رفَض كتاب الله -عزّ وجلّ-. وهنا نفهم سرّ ضلال وزيغ من كفَّر الصحابة -عياذاً بالله- إلاّ بضعاً منهم -على اختلاف رواياتهم-!!! فإنك ترى الذين كفّروا الصحابة -رضي الله عنهم- هم أنفسهم الذين لم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والدارمي وأحمد وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (204). (¬2) حسن بطرقه وشواهده، وتفصيله في "الصحيحة" (203، 204) (التحقيق الثاني). (¬3) أخرجه ابن ماجة "صحيح سنن ابن ماجة" (133)، وابن أبي عاصم "كتاب السنة"، ورجال إسناده ثقات رجال الشيخين غير نُسير بن ذعلوق، وقد وثّقه جمع من الأئمة، وروى عنه جمع مِن الثقات، في الكتاب الآنف الذكر، برقم (1006) كما ذكر لي شيخنا -رحمه الله- وأودعهُ في (التحقيق الثاني)، وفي كتابه "تيسير انتفاع الخلاّن بكتاب ثقات ابن حبّان".

4 - العلم

يؤمنوا بالقرآن والسُّنّة، فلم تَعُدْ لهم ضوابطُ صحيحة تَحْكُمُهم. وما ضلّ الضالون وانحرف المُنحرفون، إلاّ لأنهم لم يتقيدوا بمنهاج السلف الصالح، ذلك لأنهم أطلقوا لعقولهم العنان في فهم الكتاب والسنّة، وبذلك تعدّدت المناهج والأفكار والدعوات والأحزاب، والكل يقول: نحن على الكتاب والسّنّة. وكلٌّ يدَّعي وصلاً بليلى ... وليلى لا تُقرُّ لهم بذاك (¬1). 4 - العلم ومن أسباب النصر والتمكين؛ العلم، والعمل بمقتضاه، قال الإمام البخاري -رحمه الله-: "باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله -تعالى-: {فاعلم أنّه لا إله إلاَّ الله} (¬2)، فبدأ بالعلِم ... " (¬3). وقال الإمام البخاري -رحمه الله- أيضاً: "باب قول النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تزال طائفة مِن أمّتي ظاهرين على الحقّ يُقاتِلون، وهم أهل العلم (¬4) " (¬5). ثمّ ذَكر حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا ¬

_ (¬1) انظر كتابي "وصية مودع" (ص 34). (¬2) محمد: 19. (¬3) انظر "صحيح البخاري" (كتاب العلم) (باب - 10). (¬4) انظر للمزيد من الفائدة "السلسلة الصحيحة" تحت عنوان "من هي الطائفة المنصورة" (برقم 270). (¬5) انظر "صحيح البخاري" كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (باب - 10).

5 - تزكية النفوس والائتمار بما أمر الله -تعالى- والانتهاء عما نهى -سبحانه-.

يزال طائفة من أمّتي ظاهرين حتى يأتيهم أمْرُ الله وهم ظاهرون" (¬1). ثمّ ذكَر حديث حميد قال: سمعت معاويةً بن أبي سفيان -رضي الله عنه- يخطب قال: سمعتُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "مَن يُرد الله به خيراً يُفقّهه في الدين، وإنّما أنا قاسم ويُعطي الله، ولن يزال أمْرُ هذه الأُمّة مستقيماً؛ حتى تقوم الساعةُ أو حتى يأتيَ أمرُ الله" (¬2). قلت: وذِكْر الإمام البخاري- رحمه الله- هذا الحديث تحت الباب المذكور، يعني أنّ الذين وُفّقوا للتفقُّه في الدين، هم الطائفة المنصورة الظاهرة على الحقّ والله -تعالى- أعلم. وقال عمر -رضي الله عنه-: "تفقّهوا قبل أن تُسوَّدوا" (¬3). قال أبو عبد الله -يعني الإمام البخاري -رحمه الله-" ... وبعد أن تُسوَّدوا، وقد تعلّم أصحاب النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كِبَر سنّهم". 5 - تزكية النفوس والائتمار بما أمر الله -تعالى- والانتهاء عما نهى -سبحانه-. قال -تعالى-: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 7311، ومسلم: 1921. (¬2) أخرجه البخاري: 7312، ومسلم: 1037. (¬3) رواه البخاري في "صحيحه" مُعلقاً مجزوماً به في كتاب العلم (باب الاغتباط في العلم والحكمة) ووصله أبو خثيمة في (العلم) (9) بسند صحيح وكذا ابن أبي شيبة، وانظر "مختصر صحيح البخاري". (¬4) آل عمران: 160.

وقال -سبحانه-: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقويٌّ عزيزٌ} (¬1). وقال: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} (¬2). وقال -تعالى-: {وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين} (¬3). فمن هم المؤمنون المنصورون؟ قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬4). فمِن شأن المؤمنين أن تخاف قلوبُهم وتفزع عند ذكر الله -تعالى- فيسارِعون بالطاعات وأداءِ الفرائض والسُّنن، واجتناب المحرّمات والنواهي، وإِذا تُليت عليهم آياته -سبحانه- زادتهم تصديقاً، فخضَعت قلو بهم وجوارحهم وألسنتهم لله، بل وأقبلوا على الله بيقين. إنهم يتوكلون على ربِّهم -سبحانه- لا يرجون غيره، ولا يرغبون إلاّ إليه، وهم يوقنون أنّه لن يُخيِّبهم أو يردّهم. إنهم يقيمون الصلاة بالمحافظة على مواقيتها وما فيها من الأركان والواجبات والسنن، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم ¬

_ (¬1) الحج: 40. (¬2) محمد: 7. (¬3) الروم: 47. (¬4) الأنفال: 2 - 4.

6 - ترك الذنوب والمعاصي والأهواء

وصلاتهم وإخلاصهم" (¬1). إِنهم ينفقون مما أعطاهم الله -سبحانه-: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (¬2). ثمّ قال -سبحانه-: {أُولَئِكَ هُمُ المؤمُنونَ حَقّاً} (¬3). قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "أي المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حقّ الإيمان". ويتضمّن ما سَبق: 6 - ترْك الذنوب والمعاصي والأهواء قال الله -تعالى-: {فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله} (¬4)، فكيف تريد أمةٌ حَربَ المشركين والكفّار والملحدين وقد آذَنَها الله بالحرب. فالله أكبر مِن خلقه جميعاً، والله أعزُّ مما يُخاف ويُحذَر. فعلينا أن نزيل الخطر الذي ذكَر الله -تعالى- بكتابه، ولا ملجأ منه إليه، بترك اجتراح الخطايا واقتراف الذنوب، ثمّ نلتفت إلى ما بعده. وعن أبي عامر الهوزني قال: سمعت معاوية -رضي الله عنه- يقول: "يا ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2978)، وانظر "الصحيحة" (2/ 409)، وقد ذكَرْته في باب (الانتصار بالضعفاء: بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم). (¬2) المعارج: 24 - 25. (¬3) الأنفال: 4. (¬4) البقرة: 279.

معشر العرب، والله لئن لم تقوموا بما جاء به نبيّكم لَغَيركم مِن الناس؛ أحرى أن لا يقوم به، إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام فينا يوماً فذكَر أنّ أهل الكتاب قبلكم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة في الأهواء، ألا وإنّ هذه الأمّة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين فرقةً في الأهواء" (¬1). وقال الله -تعالى-: {إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم} (¬2). وجاء في "التفسير القيّم" (ص 545): "وهل زالت عن أحد قطّ نعمةٌ إلاّ بشؤم معصيته، فإنّ الله إذا أنعم على عبدٍ نعمة حَفِظَها عليه، ولا يُغيّرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} (¬3)، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬4). ومَن تأمَّل ما قصَّ الله في كتابه مِن أحوال الأُمم الذين أزال نِعَمَه عنهم، وجَد سبب ذلك جميعه؛ إنما هو مخالفة أمره، وعصيان رُسُله -عليهم السلام-، وكذلك مَن نظَر في أحوال أهل عصره، وما أزال الله عنهم مِن نِعمه، وجَد ذلك كلَّه مِن سوء عواقب الذنوب، كما قيل: إذا كنت في نعمةٍ فارْعَها ... فإنّ المعاصي تزيل النِّعَم ¬

_ (¬1) انظر تخريج شيخنا -رحمه الله- لكتاب "السُّنَّة" لابن أبي عاصم (68، 69). (¬2) الرعد: 11. (¬3) الرعد: 11. (¬4) الأنفال: 53.

فما حُفظت نعمةُ الله بشيءٍ قطّ، مِثْل طاعتهِ، ولا حَصَلت فيها الزيادة بمثلِ شُكره. ولا زالت عن العبد نعمة بِمثل معصيته لربّه، فإنها نار النعم التي تعمل فيها؛ كما تعمل النار في الحطب اليابس، ومَن سافر بفكره في أحوال العالم؛ استغنى عن تعريف غيرِه له". وقال شيخنا عقب كلام الحافظ ابن حجر -رحمهما الله تعالى- بعد وصف تردي الأحوال: "ما أشبه الليلة بالبارحة، بل الأمر أسوأ، فإنّه لا خليفةَ اليوم لهم، لا اسماً ولا رسماً، وقد تغلَّبت اليهود والشيوعيون والمنافقون على كثير مِن البلاد الإسلامية. فالله -تعالى- هو المسؤول أن يوفّق المسلمين أن يأتمروا بأمره في كل ما شَرَع لهم، وأن يُلْهِم الحُكّام منهم أن يتحدوا في دولة واحدة تَحْكُمْ بشريعته، حتى يُعزّهم الله في الدنيا، ويُسعِدَهم في الآخرة، وإلاّ فالأمر كما قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬1). وتفسيرها في الحديث الصحيح: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذُلاّ لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم"، فإلى دينكم أيها المسلمون حُكّاماً ومحكومين" (¬2). وقال شيخنا -رحمه الله- تحت عنوان (الخلافة في قريش ما أطاعوا الله) ¬

_ (¬1) الرعد: 11. (¬2) انظر "الصحيحة" المجلد السادس، القسم الثاني، تحت الحديث (2856) وتقدّم.

7 - ترك التحايل

وبعد ذِكر الحديث المتعلِّق به: "وهذا الحديث عَلَمٌ مِن أعلام نبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد استمرّت الخلافة في قريش عدّة قرون، ثمّ دالت دولتهم، بعصيانهم لربهم، واتباعهم لأهوائهم، فسلّط الله عليهم مِن الأعاجم مَن أخذ الحُكم من أيديهم وذلَّ المسلمون مِن بعدهم، إلاَّ ما شاء الله، ولذلك فعلى المسلمين إذا كانوا صادقين في سعيهم لإعادة الدولة الإسلامية، أن يتوبوا إلى ربهم، ويرجعوا إلى دينهم، ويتّبعوا أحكام شريعتهم، ومِن ذلك أنّ الخلافة في قريش بالشروط المعروفة في كُتُب الحديث والفقه، ولا يحكِّموا آراءهم وأهواءهم، وما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم، وإلاّ فسيظلون محكومين مِن غيرهم، وصدَق الله إذ قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} والعاقبة للمتقين" (¬1). 7 - ترك التحايل (¬2) ويتفرّع من تزكية النفس والائتمار بأمر الله -تعالى- واجتناب نواهيه ترْك التحايل. أقول: ودراسة الحديث المُشار إليه "إذا تبايَعْتُم بالعِيْنَة (¬3) وأخذتم أذناب ¬

_ (¬1) انظر "الصحيحة" تحت الحديث (1552). (¬2) قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (29/ 29): "ودلائل تحريم الحِيَل من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كثيرة؛ ذكَرنا منها نحوا من ثلاثين دليلاً؛ فيما كتبناه في ذلك". (¬3) العِينة: هو أن يبيعَ رجل سلعة؛ بِثَمنٍ مَعْلوم إلى أجَلٍ مُسَمّىً، ثمّ يَشْتَرِيها منه بأقلَّ من الثَّمن الذي باعَها به، وسُمِّيت عِينَةً لحصُول النَّقْد لصاحب العِينَة لأنَّ العَيْن؛ هو المَال الحاضِرُ من النَّقْد، والمُشْتَرِي إنما يَشْتريها ليَبِيعَها بعَيْن حاضِرَة؛ تَصِل إليه مُعَجَّلَة. "النّهاية".

البقر، ورضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه عنكم؛ حتى ترجعوا إلى دينكم" (¬1)، مِن أهم النصوص في مبحثنا هذا؛ لاستجلاب النصر ورفع الذلّة والهوان، وكان شيخنا -رحمه الله- يُكثر مِن افتتاحه بهذا الحديث العظيم؛ ليبيّن كيف تسعد الأمّة في الدارين. كيف تَنْتصر أمّة؛ وفيها مَن يتحايل في بيعها وشرائها؟! كيف تَنتصر أمّة؛ وفيها مَن همُّه الاستكثار من المال، مِن غير مبالاةٍ أمِن حرامٍ هو أمْ مِنْ حلال؟! لا بُدَّ مِن التجرُّد مِن أهواء النفوس وحظوظها. لقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمة بيّنةً واضحة: "سلّط الله عليكم ذُلاً؛ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (¬2) ". فمن قال: هذه فروع وقشور؛ فإنه مخُالِفٌ هدي النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد بيّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ الذّل لا يُنزع إلاّ بأمور؛ منها تَرْك التحايل. وليس ببعيدٍ عنّا ما جرى لليهود مِن ضروبٍ مِن التحايل ورَد ذكرها في الكتاب والسُنّة؛ كانت سبباً في عذابهم وإذلالهم. ومن ذلك قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود، وانظر تفصيل تخريجه في "الصحيحة" (11) وتقدّم. (¬2) وما هو الدين الذي نرجع إليه؟ إنه الكتاب والسنّة بمنهج الصحابة -رضي الله عنهم- وسلف الأمّة، وها نحن نزعم أننا متمسكون بالدين، فأين نحن مِن نزع الذلّة والهوان؟!.

قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (¬1). قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وَلَقَدْ علمتم يا معشرَ اليهود، ما حَلّ مِن البأس بأهل القرية التي عصَت أمر الله وخالفوا عهدَه وميثاقه؛ فيما أخَذَه عليهم مِن تعظيم السبت والقيام بأمره، إذ كان مشروعاً لهم، فتحيّلُوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت، بما وضعوه لها من الشصوص (¬2) والحبائل والبِرَك قبل يوم السبت، فلمّا جاءت يومَ السبت على عادتها في الكثرة؛ نَشِبَت بتلك الحبائل والحِيَل، فلم تخلُص منها يومها ذلك، فلمّا كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلمّا فعلوا ذلك؛ مسَخَهم الله إلى صورة القِرَدة، وهي أشبه شيء بالأناسيّ في الشكل الظاهر، وليست بإنسانٍ حقيقة. فكذلك أعمالُ هؤلاء وحيَلُهم لمّا كانت مشابِهةً للحقّ في الظاهر ومخالِفةً له في الباطن، كان جزاؤهم مِن جنس عملهم. وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف، حيث يقول -تعالى-: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (¬3)، القصة بكمالها". وذكر أهل التفسير أقوالاً في المراد بقوله -سبحانه-: {لما بين يديها وما خلفها}. وقد رجّح ابن كثير منها أنّ المراد مَنْ بِحَضْرَتِها من القرى التي يبلغهم ¬

_ (¬1) البقرة: 65 - 66. (¬2) جمع الشِّص: وهو حديدة عقفاء، يُصاد بها السمك، "القاموس المحيط". (¬3) الأعراف: 163.

8 - ترك البدع

خبرُها، وما حلّ بها، كما قال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬1)، وقال -تعالى-: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} (¬2)، وقال: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} (¬3). فجعلهم عبرةً ونكالاً لمن في زمانهم، وعبرة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال: {وَمَوْعِظَةً للمُتَّقِينَ} ". وفي الحديث: "لعَن الله اليهود إن الله حرّم عليهم الشحوم؛ فباعوها وأكلوا أثمانها وإنّ الله إذا حرّم على قوم أكْل شيء؛ حرّم عليهم ثمنَه" (¬4). 8 - ترْك البِدَع ومن أسباب النصر والتمكين ترْك البِدع، ففي حديث العرباض بن سارية المتقدّم: " ... إنّه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ... ". ثمّ كان بيان الدواء النبوي: " ... وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإنّ كلّ بدعة ضلالة". فقد بيَّن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ البدع سببٌ في الاختلاف الكثير، وأنّ تَرْك المحدثات طريق النجاة والائتلاف. وإذا كانت كلّ بدعة ضلالة؛ فكيف يَنتصرُ الضالون؟! ¬

_ (¬1) الأحقاف: 27. (¬2) الرعد: 31. (¬3) الأنبياء: 44. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2978).

وإذا كانت البدعة تستجلب غضب الله؛ فكيف ينصرنا وهو غاضب علينا؟! وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ الله حجَب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدَع بدعته" (¬1). وهل ينتصر إلاّ التائبون. ولا تنس أنّ المبتدع قد يبلغ أمره إلى حمْل السلاح ومقاتلة أهل الحقّ. فعن الحَكَم بن المبارك عن عمر بن يحيى قال: سمعْتُ أبي يحدِّث عن أبيه قال: "كنّا نجلس على بابِ عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرَج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أخرَج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرَج، فلمّا خرَج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! إنّى رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرْتُه، ولم أرَ والحمد لله إلاَّ خيراً، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه. قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً، ينتظرون الصلاة، في كلّ حلقةٍ رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبّروا مائة، فيكبّرون مائة، فيقول: هلِّلوا مائة، فيهلّلون مائة، ويقول: سبِّحوا مائة، فيسبّحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلتُ لهم شيئاً انتظار رأيك -أو انتظار أمرك-، قال: أفلا أمرْتَهم أن يعدّوا سيئاتهم، وضمِنْت لهم أن لا يضيع مِن حسناتهم شيء؟ ثمّ مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة مِن تلك الحلق، فوقَف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعدُّ به التكبير ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" وغيره، وانظر "صحيح الترغيب" (54) و"الصحيحة" (1620).

9 - الإعداد العسكري

والتهليل والتسبيح، قال: فعدُّوا سيئاتكم فأنا ضامنٌ أن لا يضيعَ مِن حسناتكم شيءٌ؛ ويْحَكم يا أمّة محمّد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متوافرون، وهذه ثيابه لم تَبْل، وآنيته لم تُكْسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملّة هي أهدى من ملّة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا والله: يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلاَّ الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدّثنا: أنّ قوماً يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم! ثمّ تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: فرأينا عامّة أولئك الحلق يُطاعنونا يوم النّهروان مع الخوارج" (¬1). وهكذا لمّا ذكَر القومُ ربَّهم بغير هُدى أو نور مِن الكتاب والسنّة، واختاروا صراط البدعة؛ كانت عاقبة أمرهم أن يُطاعِنوا المسلمين ويقاتلوهم يوم النهروان مع الخوارج. وهكذا خَرج هؤلاء عن سبيل المؤمنين ابتداءً مِن التسبيح والتهليل والتكبير وهم لا يريدون إلاّ الخير بزعمهم، وكذلك ما أرادوا إلاّ الخير في قتال المسلمين يوم النهروان! فأيّ خير هذا الذي أبلَغَهم؛ أن يُطاعنوا المسلمين، ويسفِكوا دماءهم؟! (¬2). 9 - الإعداد العسكري قال الله -تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي (1/ 68)، وإسناده صحيح، رجاله كلّهم ثقات وانظر "الردّ على التعقّب الحثيث" (ص 47) لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (¬2) انظر كتابي "وصيّة مودِّع" (ص 53). (¬3) الأنفال: 60.

عن أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من فرسٍ عربيّ؛ إلاَّ يُؤذَن له عند كل سَحَر، بكلمات يدعو بهنّ: اللهم خوّلتني (¬1) مِن بني آدم، وجعلتني له، فاجعلني أحبَّ أهلهِ ومالِه، أو مِن أحبِّ أهلهِ ومالِه إليه" (¬2). هذا ولا بد من الإفادة مِن أهل العسكرية، وما يَتْبَع ذلك مِن تقنيات في ضوء الاستطاعة والقُدرة، مِن غير تقصير، ولكن ينبغي للمسلمين أن لا تضعُف هممهم ولا تفتر عزائمهم؛ إذا رأوا أَنهم أقلّ مِن الأعداء؛ عدداً أو عُدّةً أو سلاحاً، فهذا الحال الذي كان عليه النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه -رضي الله عنهم-، وعليهم استكمال الأسباب المطلوبة الأخرى؛ مع عدم الإعجاب بالقوّة أو الكثرة. قال الله -تعالى-: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "يذكُر -تعالى- للمؤمنين فضْله عليهم وإحسانَه لديهم في نَصْرِه إياهم في مواطنَ كثيرةٍ مِن غزواتهم مع رسوله، وأنّ ذلك من عنده -تعالى-، وبتأييده وتقديره، لا بعَدَدِهم ولا بعُدَدِهم ونبَّهَهم على أنّ النصر مِنْ عِنْده، سواء قلَّ الجمع أو كثُر، فإنّ يوم حُنين أعجَبَتْهم كثرتُهم، ومع هذا ما أجدى ذَلك عنهم شيئاً فولَّوْا مُدبرين إلاَّ ¬

_ (¬1) التخوُّل: التمليك والتّعهُد. (¬2) أخرجه النسائي وصححه -شيخنا رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1251) وتقدّم. (¬3) التوبة: 25 - 27.

القليلَ منهم مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثمّ أنزَل الله نصرَه وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه ... ، ليُعلِمهم أنّ النصر مِن عنده -تعالى- وحده وبإمداده - وإنْ قلّ الجمع-، فكم مِن فئةٍ قليلةٍ غلبَت فئةً كثيرةً بإذن الله، والله مع الصابرين". عن صهيبٍ -رضي الله عنه- قال: "كان إذا صلّى (¬1) هَمس، فقال: أفطنتم لذلك؟ إني ذكَرْت نبيّاً من الأنبياء؛ أعطِيَ جنوداً مِن قومه، فقال: من يكافئ هؤلاء أو مَن يُقاتل هؤلاء؟ أو كلمةً شبهها، فأوحى الله إليه أنِ اختر لقومك إحدى ثلاث: أن أسَلِّط عليهم عدوَّهم أو الجوع أو الموت. فاستشار قومه في ذلك؟ فقالوا: نَكِلُ ذلك إليك أنت نبيّ الله، فقام فصلّى وكانوا إذا فَزِعوا، فزعوا إلى الصلاة، فقال: يا رَبّ أمّا الجوع أو العدوّ فلا، ولكن الموتَ، فسلّط عليهم الموت ثلاثة أيام، فمات منهم سبعون ألفاً، فهَمْسِي الذي تَرون أنّي أقول: اللهمّ بك أقاتل وبك أصاول (¬2) ولا حولَ ولا قوّةَ إلاّ بك" (¬3). وكأنّ الله -تعالى- قضى أنْ يتفوَّق الكُفَّار في العدد، والعُدّة، والتقدم العلميّ؛ لتظهَر معجزة أهل الإيمان، مع الإعداد الممكن، كما في قوله -تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (¬4). ¬

_ (¬1) أي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬2) أصاول: أسطو وأقهر، والصولة: الحملة والوثبة. "النّهاية". (¬3) أخرجه ابن حبان في "التعليقات الحسان" (4738)، وابن نصر في "الصلاة" وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (1061)، وفي بعض الطرق أنّ الصلاة هي صلاة الفجر، وأنّ الهمس كان بعدها، وفي أيام حنين كما في "المسند" وانظر المصدر المذكور. (¬4) الأنفال: 60.

10 - الإعداد المعنوي

10 - الإعداد المعنوي (¬1) وهو الاستبشار بالنصر والتمكين والغَلَبة والفوز والنّجاح، وهو كذلك شجاعة النفس في الإقدام على الأمور بثقة واطمئنان وتفاؤُل. ويجب أن يكون هذا المعنى عند الإمام والقائد والعسكر والجُند والشعب وعامّه المجتمع. وينبغي على الحاكم أن يُوظّف الأجهزة التي تخدم هذا الهدف النبيل؛ بأحسن الوسائل وأفضلها، ويكون هذا بالفأل الصالح وعدم الطِّيرَة. وقال الإمام البخاري -رحمه الله-: في كتاب "الأدب المفرد" (باب التبرّك بالاسم الحسَن) (¬2)، ثمّ ذكَر حديثَ عبد اللهِ بن السائب -رضي الله عنه- أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الحديبية، حين ذكَر عثمانُ بنُ عفانَ أنّ سهيلاً قد أرسَلَه إليه قومه، فصالحوه، على أن يرجع عنهم هذا العام، ويخلوها لهم قابلَ ثلاثة، فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أتى. فقيل: أتى سُهيل، "سهَّلَ الله أمرَكم" (¬3). وعن أنس -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا عدوى (¬4) ولا ¬

_ (¬1) المعنوي: خلاف الماديّ، وهي كلمة محُدَثة، والمحدَث: هو الذي استعمله المحدَثون في العصر الحديث، وشاع في لغة الحياة العامّة، انظر "المعجم الوسيط". (¬2) انظر الكتاب المذكور (باب - 362). (¬3) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (رقم 703)، وابن حبان انظر "التعليقات الحِسان" (4852)، وأصل الحديث مُطوَّل في "صحيح البخاري" (2731، 2732). (¬4) العدوى: اسم مِن الإعداء، أعداه الدّاء بأن يُصيبه مِثلَ ما بصاحب الداء، بأن يكونَ =

طِيَرة (¬1) ويعجبني الفأل (¬2) الصالح: الكلمة الحسنة" (¬3). وقد نهى الإسلام عن اليأس والقنوط، قال -تعالى-: {إنه لا ييأسُ من روحِ الله ¬

_ = ببعيرٍ جَرُب مثلاً؛ فيتقي مخالطته بإبِلٍ أخرى؛ حذراً أن يتعدّى ما به من الجرَب إليها، ويظنّون أنّه بنفسه يتعدّى، فأبطَلَه الإسلام وأعلَمَهم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن الله يُمرِض، ويُنزِل الداء، ولذا قال: فمَن أعدى الأوّل، أي مَن صار فيه الجرَب، أي لا عدوى بطبْعِه، ولكن بقضائه وإجراء العادة. "مجمع بحار الأنوار". وحديث "مَن أعدى الأوّل" أخرجه البخاري: 5771، ومسلم: 2220. (¬1) الطِّيرَة -بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تُسكَن-: "هي التشاؤم بالشيء، وهي مصدر تَطَيَّر، يُقال: تطيَّر طِيرَةً، وتَخَيَّر خِيَرةً، ولم يجيء مِن المصادر هكذا غيرهما. وأصْلُه فيما يُقال أنّ أهل الجاهلية إذا خرجوا لحاجة أو سفر؛ فإنْ رَأَوا الطيور أخذَت ذاتَ اليمين؛ تيَمّنوا بها واستمرّوا ومضَوا، وإنْ أخذَت ذاتَ الشِّمال، رجَعوا عن سفرِهم وحاجتِهم وتشاءموا بها، فكانت تصدُّهم في كثيرٍ من الأوقات عن مصالحهم، فنفى الشرعُ ذلك وأبطلَه ونهى عنه". ملتقط من "النّهاية" و"شرح النّووي" (14/ 219). (¬2) قال الإمام النّووي -رحمه الله- في "شرحه" (14/ 219): -بحذف، في تفسير كلمة الفأل-: "وقد فسَّره النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكلمة الصالحة والحسنة والطيّبة، قال العلماء: يكون الفأل فيما يَسُرُّ، وفيما يَسوء، والغالب في السرور، قال العلماء: وإنما أحبَّ الفأل؛ لأنّ الإنسان إذا أمّل فائدة الله -تعالى- وفضله عند سبب قويٍّ أو ضعيف؛ فهو على خيرٍ في الحال، وإنْ غلط في جهة الرجاء؛ فالرجاء له خير، وأما إذا قَطع رجاءه وأملَه من الله -تعالى- فإنّ ذلك شرٌّ له، والطِّيَرة فيها سوء الظنّ وتوقُّع البلاء، ومِن أمثال التفاؤل: أن يكون له مريض، فيتفاءل بما يسمعه، فيسمع مَن يقول: يا سالم، أو يكون طالب حاجة، فيسمع من يقول: يا واجد، فيقع في قلبه رجاء البرء، أو الوجدان والله أعلم". (¬3) أخرجه البخاري: 5756، ومسلم: 2224.

11 - التآلف واجتماع الكلمة، وعدم التفرق والاختلاف

إلاَّ القومُ الكافرون} (¬1). ووجْه ذِكْر هذه الآية الكريمة؛ أنّ يعقوب حينما أُخبر بفقد ولده يوسف -عليهما السلام- حَزِن حُزناً شديداً، ثمّ أُخبر أنّ ابناً آخر له قد سَرَق، فازداد همُّه وبثُّه، ومع ذلك فإنّ يعقوبَ -عليه السلام- قد قَوي رجاؤُه بالله -سبحانه-؛ أن يردّ له ولديه؛ كما قال -تعالى- في حقّه: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬2). وقال -سبحانه- في حقّه أيضاً: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}. فتأمّل قوة رجائه بالله، وإحسانه الظنّ به -سبحانه-، مع ما قد عَلِمنا من عِظَم المصيبة وصعوبة الأمر. ومِن أفضل الوسائل في تحقيق المراد في القوة (المعنوية)؛ الإفادة من النّصوص المبشّرة بالنصر، وانتشار الإِسلام، وقد ذكَرْتُ ما تيسَّر منها تحت عنوان: (البشرى بانتصار المسلمين وانتشار الإِسلام) فالحمد لله تعالى على مَنّه وكرمه وإنعامه وتوفيقه. 11 - التآلف واجتماع الكلمة، وعدم التفرق والاختلاف *لقد جاء الإسلام ليجمعَ القلبَ إلى القلب، ويَضمّ الصفّ إلى الصفّ، مُستهدِفاً إقامة كيان موحَّد، ومُتّقِياً عوامل الفُرقة والضعف، وأسبابَ الفشل ¬

_ (¬1) يوسف: 87. (¬2) يوسف: 83.

والهزيمة، ليكون لهذا الكيان الموحَّد القدرةُ على تحقيق الغايات السامية، والمقاصدِ النبيلة، والأهدافِ الصالحة التي جاءت بها رسالته العظمى؛ مِن عبادة الله -تعالى-، وإعلاءِ كلمتِه، وإقامةِ الحقّ، وفِعْلِ الخير، والجهاد، من أجل استقرارِ المبادئ التي يعيش الناس في ظلّها آمنين. فهو لهذا كلِّه يُكوِّن روابط وصلات بين أفراد المجتمع، لتُنشئ هذا الكيان وتدعمه، وليست هذه كغيرها مِن الروابط المادية، التي تنتهي بانتهاء دواعيها، وتنقضي بانقضاء الحاجة إليها. إنّها روابطُ أقوى مِن روابط الدم، واللون، واللغة، والوطن والمصالح المادّية، وغير ذلك مما يَربِطُ بين الناس. وهذه الروابط مِن شأنها أن تجعل بين المسلمين تماسُكاً قويّاً، وتُقيمَ منهم كياناً يستعصي على الفرقة وينأى عن الخَلل. إِنّه رباط الإيمان، فهو المحور الذي تلتقي عنده الجماعة المؤمنة، فالإيمان يجعلُ في المؤمنين إخاءً أقوى مِن إخاء النسب: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ} (¬1)، {والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياءُ بعضٍ} (¬2). وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المسلم أخو المسلم لا يَظْلِمه، ولا يُسْلِمُه، ومَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجتهِ" (¬3). ¬

_ (¬1) الحجرات: 10. (¬2) التوبة: 71. (¬3) أخرجه البخاري: 2442، ومسلم: 2580.

وطبيعة الإيمان تَجْمَع ولا تُفرّق، وتُوحّد ولا تُشتّت. عن جابر -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: المؤمن يَألَفُ ويُؤْلَفُ، ولا خير فيمن لا يَأَلف ولا يُؤلَف" (¬1). والمؤمن قوّةٌ لأخيه. عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضاً" (¬2). وهو يحس بإحساسه، ويشْعُر بشعوره، فيفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، ويرى أنّه جزء منه. عن النعمان بن بشير قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطُفهم كمَثلِ الجسدِ؛ إذا اشتكى عُضوٌ تداعى له سائر جسده بالسَّهَر والحُمّى" (¬3). والإسلام يدعم هذا الرباط، ويقوّي هذه العلاقة، بالدعوة إلى الاندماج في الجماعة، والانتظام في سِلْكها، وينهى عن كلّ ما مِن شأنه أن يوهن مِن قُوّته، أو يُضعف مِن شدّته، فالجماعة دائماً في رعاية الله وتحت يده. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يدُ الله مع الجماعة" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني والضياء المقدسي وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (426). (¬2) أخرجه البخاري: 2446، ومسلم: 2585. (¬3) أخرجه البخاري: 6011، واللفظ له، ومسلم: 2586. (¬4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1759) وغيره.

وهي المتنفس الطبيعي للإنسان، ومن ثمّ كانت رحمة. عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: "قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الجماعة رحمة، والفُرقة عذاب" (¬1). فالصلاة تُسَنُّ فيها الجماعة، وهي تَفْضُل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة الجماعة تفضُل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة" (¬2). والزكاةُ معاملةٌ بين الأغنياء والفقراء، والصيامُ مشاركةٌ جماعية، ومساواةٌ في الجوع؛ في فترةٍ مُعيَّنة مِن الوقت، والحجّ ملتقى عامّ [يجتمع فيه مَن استطاع مِن المسلمين مِن أطراف الأرض كلّ عام، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاجتماع على قراءة القرآن وتدارُسه]: "وما اجتمعَ قوم في بيتٍ مِن بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلاَّ نَزَلَت عليهم السكينة، وغَشِيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكَرَهم الله فيمن عنده" (¬3). ولقد كان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحرص على أن يجتمع المسلمون، [ظاهراً وباطناً] إذ الارتباط بين الظاهر والباطن وثيق لا انفصام بينهما. قال شيخنا -رحمه الله- في "حجاب المرأة المسلمة" (ص 108): "وهذا الارتباطُ بين الظاهر والباطن؛ ممّا قرَّره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله الذي رواه النعمان بن بشير ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وغيره، وانظر "الصحيحة" (667) و"السُّنّة" لابن أبي عاصم (93). (¬2) أخرجه البخاري: 645، ومسلم: 650. (¬3) أخرجه مسلم: 2699.

قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسوّي صفوفَنا حتى كأنما يسوي بها القِداح (¬1)، حتى رأى أنّا قد عَقَلْنا عنه، ثمّ خرَج يوماً فقال: عبادَ الله لتُسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالِفنّ اللهُ بين وجوهكم (¬2)، وفي رواية: قلوبكم" (¬3). فأشار إلى أنّ الاختلاف في الظاهر -ولو في تسوية الصفِّ- مما يوصل إلى اختلاف القلوب، فدلَّ على أنّ الظاهر له تأثيرٌ في الباطن، ولذلك رأيناه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن التفرُّق حتى في جلوس الجماعة، ويحضرني الآن في ذلك حديثان: 1 - عن جابر بن سمرة قال: "خرَج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرآنا حِلَقاً فقال: مالي أراكم عزين؟! (¬4) " (¬5). 2 - عن أبي ثعلبة الخشني قال: "كان الناس إذا نَزَلوا منزلاً تفرّقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّ تفرّقَكم في هذه الشعاب والأودية إنّما ذلكم مِن الشيطان، فلم ينزل بعد ذلك منزلاً، إلاَّ انضَمَّ بعضُهم إلى بعض، حتى يُقال: لو بُسط عليهم ثوب لعمَّهم" (¬6). ¬

_ (¬1) القِداح -بكسر القاف- هي خَشَب السهام حين تُنحت وتُبرى، واحدها (قِدح) -بكسر القاف- معناه: يبالغ في تسويتها حتى تصير كأنما يُقَوِّم بها السهام؛ لشدة استوائها واعتدالها. "شرح النّووي" (4/ 157). (¬2) أخرجه مسلم: 436، وأصله في البخاري: 717. (¬3) انظر "صحيح سنن أبي داود" (616) و"صحيح الترغيب والترهيب" (512). (¬4) قال النّووي -رحمه الله- (4/ 153): "أي: مُتفرّقين جماعة جماعة -وهو بتخفيف الزاي الواحدة- عِزَة، معناه النهيُ عن التفرّق والأمرُ بالاجتماع". (¬5) أخرجه مسلم: 430. (¬6) أخرجه أحمد، وأبو داود (2628)، وابن حِبّان وغيرهم، وانظر "حِجاب المرأة المسلمة" (ص 109).

وقال شيخنا -رحمه الله- في التعليق: "إذا كان مثل هذا التَفرُّق الذي إنما هو في أمر عاديّ مِن عمل الشيطان، فما بالك بالتّفرُّق في الدين، وفي أعظم أركانه العملية؛ كالصلاة مَثَلاً، حيث نرى المسلمين يتفرقون فيها وراء أئمّة متعدّدة في مسجدٍ واحد، أفليس ذلك مِن الشيطان؟ بلى وربي، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (¬1) " انتهى. وإذا كانت الجماعة هي القوةَ التي تحمي دين الله، وتحرُس دنيا المسلمين، فإنّ الفرقة هي التي تقضي على الدين والدنيا معاً. ولقد نهى الإسلام أشد النهي عن الفُرقة، إذ هي الطريق المفتوح للهزيمة، ولم يؤتَ أهل الإسلام مِن جهةٍ كما أُتيَ مِن جهةِ الفُرقة التي ذهَبَت بقوّتهم، والتي تخلّف عنها: الضر، والفشل، والذلّ، وسائر ما يعانون منه. قال -تعالى-: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬2)، وقال -تعالى-: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحُكُم} (¬3)، وقال -تعالى-: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} (¬4). قال الإمام ابن جرير -رحمه الله-: "أي تعلّقوا بأسباب الله جميعاً؛ يريد بذلك -تعالى ذِكْره- وتمسّكوا بدين الله الذي أمَرَكم به، وعَهْدِه الذي عَهِده ¬

_ (¬1) ق: 37. (¬2) آل عمران: 105. (¬3) الأنفال: 46. (¬4) آل عمران: 103.

إليكم؛ في كتابه إليكم؛ من الألفة والاجتماع على كلمة الحقِّ، والتَّسليم لأمر الله". قال ابن كثير -رحمه الله-: "أمَرَهُم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديثُ المتعددة بالنهي عن التفرق، والأمر بالاجتماع والائتلاف، كما في "صحيح مسلم" (¬1) من حديث سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا، يَرْضى لَكُمْ: أنْ تَعْبدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وأنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاّهُ اللهُ أمْرَكُمْ؛ وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا: قيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وإِضَاعَةَ المالِ" (¬2) وهكذا يعمل الإسلام على تحقيق هذه الروابط، حتى يبنيَ مجُتمَعاً متماسِكاً، وكياناً قوياً، يستطيع مواجهةَ الأحداث، وردَّ عدوان المعتدين، وما أحوجَ المسلمين في هذه الآونة إلى هذا التجمّع. إنهم بذلك يقيمون فريضةً إسلاميةً، ويحققون قُوّةً عسكريةً، تحمي وجودهم، ووحدة اقتصاديةً توفّر لهم كلّ ما يحتاجون إليه مِن ثروات. لقد ترَك الأعداء آثاراً سيئةً، مِن ضعفٍ في التديّن، وانحطاطٍ في الخُلُق، وتخلُّفٍ في العِلم، ولا يمكن القضاء على هذه الآفات الاجتماعية الخطيرة، إلاَّ إذا عادَت الأمّة مُوحّدةَ الهدف، مُتراصّة البنيان، مجُتمِعة الكلمة؛ كالبنيان المرصوص، ¬

_ (¬1) برقم (1715). (¬2) عزاه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- إلى "صحيح مسلم" وانظره برقم (1715)، وفيه بعض الألفاظ المختلفة، وهذه الرواية أقرب لما جاء في "الأدب المفرد" (442).

يشدُّ بعضه بعضاً.* (¬1) والتآلف والاعتصام؛ لا يكون إلاَّ على حبل الله، فهذا هو الاجتماع الممدوح المشروع. وحبل الله: هو كتاب الله- تعالى- المتضمّن سنّة نبيِّه المطهرة. عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كتاب الله: هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض" (¬2). وعن أبي شريح الخزاعي قال: "خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أبشروا أبشروا؛ أليسَ تشهدونَ أنْ لا إله إلاَّ الله وأني رسول الله؟ قالوا: نعم، قال: فإنّ هذا القرآن سببٌ طَرَفُهُ بيد الله، وطَرَفُهُ بأيديكم، فتمسّكوا به؛ فإنكم لنْ تَضِلّوا ولن تَهْلَكُوا بعدَهُ أبداً" (¬3). وقد ضُمِنتْ لهم العِصْمةُ -عند اتفاقهم- من الخطأ، كما وردَت بذلك الأحاديث المتعددة أيضاً، وخِيفَ عليهم الافتراق، والاختلاف، وقد وقَع ذلك في هذه الأمّة؛ فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومُسَلّمة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه. عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تختلفوا، فإنّ ¬

_ (¬1) ما بين نجمتين عن "فقه السُّنَّة" (3/ 378) بتصرف وحذف وزيادة. (¬2) أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما وانظر "الصحيحة" (2024). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" وعنه ابن حبان والطبراني في "المعجم الكبير" وغيرهم وانظر "الصحيحة" (713).

مَن كان قبلكم اختلفوا فهلكوا" (¬1). ولن تصلَ الجماعة إلى تماسُكها؛ إلاَّ إذا بذَلَ لها كلّ فردٍ مِن ذات نفسه، وذاتِ يده، وكان عَوْناً لها في كلّ أمرٍ من الأمور التي تهمّها؛ سواءٌ أكانت هذه المعاونة معاونةً ماديةً أو أدبيةً، وسواءٌ أكانت معاونةً بالمال، أم العلم، أم الرأي، أم المشورة، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير الناس أنفعهم للناس" (¬2). وعن أبي موسى -رضي الله عنه- أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "اشفعوا فَلْتُؤْجَروا" (¬3) وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكفُّ عليه ضيعتَه (¬4)، ويَحُوطُه (¬5) مِن ورائه" (¬6). قال الله- تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 2410. (¬2) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"، وانظر "الصحيحة" (426). (¬3) أخرجه البخاري: 7476، ومسلم: 2627. (¬4) ما يكون معاشاً كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك، فالمعنى هنا: أي يمنع عن أخيه تَلَف ذلك وخسرانه، وكل ما يُحتَمل ضياعُه. انظر "عون المعبود" (13/ 178) و"بذل المجهود" (19/ 159) وكتابي "شرح صحيح الأدب المفرد" (178/ 239). (¬5) قال في "النّهاية": "أحاطه يحوطه حوطاً وحياطةً: إذا حَفِظه وصانه وذبّ عنه، وتَوفّر على مصالحه". (¬6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (4110) والبخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب المفرد" (178)، وانظر "الصحيحة" (926). (¬7) الصف: 4.

لماذا هزم المسلمون؟

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "فهذا إِخبارٌ مِن الله -تعالى- بمحبته عبادَه المؤمنين إذا اصطفُّوا مُواجِهين لأعداء الله في حومة الوَغى، يُقاتِلون في سبيل الله مَن كفَر بالله، لتكونَ كلمةُ الله هي العليا، ودينُه هو الظاهر العالي على سائر الأديان. وقال ابن عباس: {كأنهم بنيانٌ مرصُوصٌ} مُثبَت لا يزول، مُلصَقٌ بعضُه ببعض. وقال قتادة: {كأنهم بنيانٌ مرصُوصٌ} ألم تَرَ إلى صاحِب البنيان، كيف لا يُحبُّ أن يَخْتَلف بنيانه؟. فكذلك الله -عزَّ وجلَّ- لا يُحبُّ أن يختلفَ أمرُه، وإنّ الله صفَّ المؤمنين في قتالهم، وصفَّهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله، فإنه عِصمةٌ لمَن أخَذ به ... " (¬1) لماذا هُزِم المسلمون؟ لقد كثُرت على المسلمين النكبات والمصائب بعد القرون الخيرية، وطمع فينا الأعداء، وتداعَوا على أمّتنا؛ كما تتداعى الأكَلَةُ على قصعتها. لقد احتلَّ المشركون والكُفَّار كثيراً من بلاد المسلمين وتسلَّطوا على أهلها، وعاثوا فساداً فيها؛ تقتيلاً وتذبيحاً وإهانةً وإذلالاً. لقد مضى فينا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يوشِك الأممُ أن تَدَاعى عليكم كما تَدَاعى الأكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، فقال قائل: ومنْ قلةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ؛ ولكنَّكم غثاءٌ كغثاء السَّيْلِ، ولَيَنْزعنَّ اللهُ مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وَلَيقْذِفنَّ الله في قلوبكم الوَهْنَ. فقال قائلٌ: يا رسول الله! وما الوَهْنُ؟ قال: حبُّ الدنيا وكراهية ¬

_ (¬1) مُلتقط من "تفسير ابن كثير".

الموت" (¬1). وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "يُوشِكُ أهل العراق أنْ لا يُجْبَى إليهم قَفِيزٌ ولا دِرهم. قلنا: مِنْ أين ذاك؟ قال: من قِبَلِ العَجَم. يمنعون ذاك. ثم قال: يُوشِك أهل الشَّأْم أن لا يُجْبَى إليهم دينار ولا مُدْيٌ. قلنا: مِن أين ذاك؟ قال مِن قِبَلِ الرُّوم ثمّ أسْكَتَ (¬2) هُنَيَّةً (¬3). ثمّ قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يكون في آخر أمَّتي خليفةٌ؛ يَحثي المال حَثْياً لا يَعُدُّه عدداً" (¬4). قال: قلتُ لأبي نضرةَ وأبي العلاء: أتريان أنّه عمرُ بن عبد العزيز؟ فقالا: لا. وقد قال الله- تعالى-: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} (¬5). وقال -سبحانه-: {وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين} (¬6). وقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره، وصحَّحه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (958). (¬2) سكَتَ وأسْكَت: لغتان بمعنى صمت، وقيل: أسكت بمعنى أطرق وقيل بمعنى أعرض، "شرح النّووي". وانظر للمزيد من الفائدة ما قاله ابن الأثير -رحمه الله- في "النّهاية". (¬3) هُنَيَّةً: أي قليلاً من الزمان، وهو تصغير هَنَة. "النّهاية". (¬4) أخرجه مسلم: 2913. (¬5) النساء: 141. (¬6) الروم: 47. (¬7) محمد: 7.

وقال -سبحانه-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (¬1). والنُّصوص التي تبشّر بالنَّصر في هذا الباب كثيرة معلومة قد ذَكَرْتُها تحت عنوان مستقلّ. تأمّلات في الآيات المتقدّمة: إنّ المتأمِّل في الآيات الكريمة يجد أنّ الله- تعالى- قد وعَد المؤمنين بالنَّصر، واشترط على الناس أن ينصروه حتى ينصرهم، وفي الآية الأخيرة قال ربُّنا - سبحانه-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}. فظهور الأمَّة على سائر الأمم؛ لا يكون إلاَّ بالعمل بمقتضى الرسالة: وهو الهدى ودين الحقِّ. ولا بدَّ لنا أن نتعرَّف على صفات المؤمنين الذين لن يجعل الله للكافرين عليهم سبيلاً، والذين أخذ الله الحقَّ على نفسه؛ أن ينصُرهم ويجعلَهم سادة الأمم. وهذه نماذجُ من صفات المؤمنين: قال -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (¬2). قلوبهم وجلة بذكره -سبحانه-، وإيمانهم يزداد بتلاوة آياته. ¬

_ (¬1) التوبة: 33. (¬2) الأنفال: 2 - 4.

فكيف بمن هجَر الآيات؟! وكيف بمن يفرح بالمعازف والأغاني؟! وهل المعازف والأغاني هي مادَّة النّصر وسلاح المنتصرين؟!. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، ولم يَفْهَم معنى التوكُّل إلاَّ القليل، وإذا ذكَّرْتهم بالتوكُّل على الله -تعالى- في الطعام والشراب قالوا: " ... فإنّ السماء لا تمُطِر ذَهَباً ولا فِضّةً" لا بدَّ من أخْذ الأسباب. أوَليس النصر يا قوم يتطلَّب الأسباب! وهل السماءُ تمُطِر نصراً!!!. {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، بالمحافظة على مواقيتها وإسباغ الطَّهور فيها وإتمام ركوعها وسجودها ... فكيف بمن لا يُصلَّي!. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، إنها الزكاة والصدقة التي تطهرهم، قال -تعالى-: {خُذْ من أموالهم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكّيهم بها} .... {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، أي: المتصِّفون بهذه الصفات هم المؤمنون حقَّ الإيمان -كما قال المفسِّرون-، لا بالدعوى ولا بالزعم؛ أنّ القلوب نقيَّة والأفئدة تقيّة ولو لم تُقَم الصلاة وتُؤْتَ الزكاة! وكم من قائلٍ هذه المقولة مِمَّن يحلمون بالنّصر!. وقال- تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ

الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1). ومن نماذج المجاهدين الخاشعين المنتصرين ما رواه جابر -رضي الله عنه- قال: "خرَجْنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني في غزوة ذات الرِّقاع - فأصاب رجلٌ امرأةَ رجلٍ من المشركين، فحَلَف: أن لا أنتهيَ حتى أهريق دماً في أصحاب محمد، فخرَج يتبع أثرَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنزلَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منزلاً، فقال: مَنْ رجلٌ يكْلَأُنا (¬2)؟ فانتُدِب رجلٌ من المهاجرين، ورجلٌ من الأنصار، فقال: كُونا بفَمِ الشِّعْبِ. قال: فلمّا خرَج الرجلان، إلى فم الشعب اضطجع المهاجريُّ، وقام الأنصاريُّ يُصلّي، وأتى الرجل، فلمّا رأى شخصه؛ عَرَف أنّه ربيئةٌ (¬3) للقوم، فرماه بسهمٍ فوضَعَه فيه، فنزعَه حتى رماه بثلاثة أسهم، ثمّ ركَع وسجَد، ثمّ انتبهَ صاحبه، فلمّا عَرَف أنهم نَذِروا (¬4) به هَرَب، ولمّا رأى المهاجريُّ ما بالأنصاريِّ مِن الدماء قال: سبحان الله! ألا أنبهتني أوّلَ ما رمى، قال: كنتُ في سورةٍ من القرآن فلم أُحِبَّ أن أقطعَها" (¬5). {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}، معرضون عن الباطل المتضمِّن الشركَ والمعاصي وما لا فائدة فيه مِن الأقوال -كما قال بعض المفسِّرين-. ¬

_ (¬1) المؤمنون: 1 - 11. (¬2) أي: يحفظنا ويحرسنا. (¬3) هو العين والطليعة الذي ينظر للقوم؛ لئلاَّ يدهمَهم عدوٌّ، ولا يكون إلاَّ على جبلٍ أو شَرَفٍ ينظُر منه. "النّهاية". (¬4) أحسُّوا بمكانه. (¬5) أخرجه أبو داود وغيره، وحسَّنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح سنن أبي داود" (182).

{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}، إلاَّ ما استثناه ربُّنا -سبحانه-، فكيف بمن يشتري بماله الأجهزة الفاسدة التي تملأ سمْعَه لغواً وتَعْرِض له العورات من أقصى البلاد؟ وكيف بمن يدفع بنفسه ليكون من العادين؟! وهل ينتصر العادون. {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}. عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "القَتْل في سبيل الله يُكفِّر الذنوبَ كلَّها إلاَّ الأمانة". قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة -وإنْ قُتِلَ في سبيل الله-، فيقال: أدِّ أمانَتَك، فيقول: أيْ ربِّ! كيف وقد ذهَبَتِ الدنيا؟ فيُقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فيُنْطَلَقُ به إلى الهاوية، وتمُثَّل له أمانتُه؛ كهيئتها يوم دُفِعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على مَنْكِبَيْه، حتى إذا ظنَّ أنّه خارجٌ؛ زلَّت عن مَنْكِبَيْه، فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين. ثمّ قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، -وأشياءَ عدَّدَها-، وأشدُّ ذلك الودائع" (¬1). وناشدتكم الله؛ هل ينتصر خائنُ أمانةٍ وناقضُ عهدٍ!. وقال- تعالى-: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والبيهقي موقوفاً، وحسَّنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (2995)، ولهذا حكم الرفع؛ لأنه لا يُقال في الغيبيات من قبيل الرأي.

الْمَصِيرُ} (¬1). فأين موالاة المؤمنين؟ وأين معاداة الكافرين؟ وهل تأملون نصراً ممَّن وصفه الله بقوله {فليس من الله في شيءٍ}؟ وأين نحن من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ترى المؤمنين في تراحُمهم وتوادِّهم وتعاطُفهم؛ كَمَثَلِ الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ؛ تداعى له سائر جسده، بالسهر والحمى" (¬2)؟ وأين نحن من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المؤمن للمؤمن كالْبُنيان يشدُّ بعضه بعضاً" (¬3)؟ وقال- سبحانه-: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬4)، فكيف بمن يأمر بالمنكَر وينهى عن المعروف. وقد قال- تعالى-: {إِلاَّ تَفعَلُوهُ} أي: أن يكون بعضكم أولياء بعض؛ كما هو شأن الكُفَّار في هذه المسألة. {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (¬5)، ألسنا نعاين هذه الفتنة ونشهد هذا الفساد!. وقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (¬6)، فأين طاعة الله في توحيده واتِّباع نبيِّه واجتناب البدع!. ¬

_ (¬1) آل عمر ان: 28. (¬2) أخرجه البخاري: 6011 - واللفظ له-، ومسلم: 2586. (¬3) أخرجه البخاري: 6026، ومسلم: 2585. (¬4) التوبة: 71. (¬5) الأنفال: 73. (¬6) النساء: 59.

أين طاعة الله في الائتمار بما أمَر والانتهاء عمّا نهى وزجَر. وقال -سبحانه-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (¬1)، فأَمارة الإيمان بالله واليوم الآخر هو الردُّ إلى الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند التنازع. فكيف بمن يدرس القانون البشري ليردَّ إلى الأحكام الوضعيَّة. وهل يجلب النصرَ من يردُّ أموره وشؤونه إلى غير الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! وقد قال -سبحانه-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬2)، فمن كانت له الخِيَرة فيما يقضيه الله ورسوله من أمر؛ فليس له الخِيَرَة أن يطلب النَّصر أو المجد أو العزَّة. وقال -سبحانه-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬3)، وكيف ينتصر مَن كثُر حرجُه ممّا قضى لهم الشرع، وكانوا بمنأى عن التسليم له. وقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (¬4)، وكم مِن هذه الأمّة ممّن قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون، فكيف بمن نأى عن السماع وفرَّ من الاستماع؟! ¬

_ (¬1) النساء: 59. (¬2) الأحزاب: 36. (¬3) النساء: 65. (¬4) الأنفال: 20 - 21.

عوامل الهزيمة وأسباب الدمار:

وهل هذه سمات المنتصرين!!. وإليك - سدّدني الله وإياك: عوامل الهزيمة وأسباب الدَّمار (¬1): 1 - ضعف الاهتمام بترسيخ الاعتقاد والإيمان وتحقيق التوحيد. وسنَّةُ الله -تعالى- ماضيةٌ في نصر الدعاة إلى التوحيد؛ مِن الأنبياء والرُّسل - عليهم السلام- والصحابة -رضي الله عنهم-. 2 - ضعف الاهتمام بترسيخ التأسي والاقتداء بالنبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والصحابة الكرام -رضي الله عنهم- ومنهج سلف الأمّة. 3 - وكذلك الخَلَل في التوكل على الله -سبحانه-، قال -تعالى-: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬2). 4 - التنازع والاختلاف، وضعف الائتلاف. قال الله -تعالى-: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬3). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تختلفوا فإنّ مَنْ كان قبلكم اختلفوا فهلكوا" (¬4). ¬

_ (¬1) وسأذكرها بإجمالٍ دون تفصيل مخافة التطويل؛ بما يتناسب مع موضوع كتابنا -نفَع الله به- علماً بأنَّ لي كتاباً مستقلاً بعنوان: لماذا هُزم المسلمون؟ يسَّر الله -تعالى- إخراجه. (¬2) التوبة: 51. (¬3) الأنفال: 46. (¬4) أخرجه البخاري: 2410.

عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جدِّه أنَّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعَث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن قال يسِّرا ولا تُعسِّرا، وبشّرا ولا تُنَفِّرا، وتطاوَعا ولا تختلفا" (¬1). 5 - التحايل على الدين، ولاسيّما في أمور التجارة والبيع والشراء وتقدّم غير بعيد حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إذا تبايعتم بالعِينَة، ... ". 6 - إدخال المظهريات الجوفاء والشكليات الخاوية في أمور الدين. "إذا زوَّقتم مساجدكم وحلَّيْتُم مصاحفكم فالدمار عليكم" (¬2). وأقول: وفي الحديث: "أيُّما أهلُ بيتٍ مِن العرَب والعجَم، أراد الله بهم خيراً، أدخَل عليهم الإسلام، ثمّ تقع الفتن كأنها الظُّلل (¬3) " (¬4). "وخرَج عمر بن الخطاب إلى الشام، ومعه أبو عبيدة بن الجراح، فأتَوا على مخاضةٍ (¬5) وعمرُ على ناقة، فنزَل عنها، وخلَع خفَّيه، فوضعَهما على عاتقه، وأخَذ بزمام ناقته، فخاض بها المخاضة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 3038، ومسلم: 1733، وتقدّم. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" وهناك خلاف بين رفْعه ووقْفه على أبي الدرداء -رضي الله عنه- وانظر تخريجه في "الصحيحة" (1351)، وفيه رجَّح شيخنا رفْعه. قلت: ذكر شيخنا -رحمه الله- أن ابن أبي شيبة رواه مرفوعاً، وعزاه إلى مخطوطة الظاهرية. أقول: هي في المطبوعة برقم (3148) موقوفة على أبي سعيد: فالإسناد هكذا ... عن سعيد بن أبي سعيد قال: قال أبي: وذكَره. (¬3) الظُّلل: واحدتها ظُلَّة، كل ما أظلَّك؛ أراد كأنَّها الجبال والسُّحُب. "النّهاية". (¬4) أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما، وصحَّحه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (51). (¬5) الخوض: المشي في الماء، والموضع مخاضة: وهو ما جاز الناس فيها مشاة وركباناً. "لسان العرب".

فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! أأنت تفعل هذا؟! تخلع خُفَّيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟! ما يسرُّني أنَّ أهل البلد استشرفوك! فقال عمر: أَوْهِ (¬1)! لو يقل ذا غيرك يا أبا عبيدة؛ جعلته نَكالاً (¬2) لأمَّة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إنَّا كنَّا أذلَّ قوم، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزَّ بغير ما أعزَّنا الله به، أذلَّنا الله" (¬3). وفي رواية: "يا أمير المؤمنين! تلقاك الجنود وبطارقة الشام؛ وأنت على حالك هذه؟! فقال عمر: إنَّا قوم أعزَّنا الله بالإسلام، فلن نبتغي العزَّ بغيره" (¬4). 7 - القتال تحت الرايات العُمِّيَّة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَنْ خَرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات مِيتَةً جاهليِّةً. ومَنْ قاتل تحت رايةٍ عُمِّيَّةٍ، يغضب لِعَصَبَةٍ، أو يدعو إلى عَصَبَةٍ، أو يَنْصُر عَصَبةً، فقُتِل، فقِتْلَةٌ جاهليَّةٌ، ومَنْ خرَج على أمّتي، يضرب بَرَّها وفاجرَها، ولا يتحاشَ (¬5) مِن ¬

_ (¬1) كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجُّع، وبعضهم يفتح الواو مع التشديد فيقول: "أوَّه". "النّهاية". (¬2) أي: عِبرة. (¬3) رواه الحاكم (1/ 61 - 62) من طريق طارق ابن شهاب وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، قال شيخنا -رحمه الله- وهو كما قالا، وانظر "السلسلة الصحيحة" تحت الحديث (51). (¬4) انظر المصدر السابق. (¬5) في بعض النسخ والروايات يتحاشى أي: لا يكترث بما يفعله فيها، ويخاف وبالَه وعقوبَته، وانظر "شرح النّووي".

مؤمنها، ولا يفي لذي عهْدٍ عَهْدَه، فليس منّي ولست منه" (¬1). فعجباً كيف يقود الأعمى المبصرين إلى ساحة الوغى! وعن أبي العَجْلان المُحارِبي قال: "كنت في جيش ابن الزبير، فتوفي ابن عمٍّ لي، وأوصى بجَمَلٍ له في سبيل الله، فقلت لابنه: ادفع إليَّ الجمل؛ فإنّي في جيش ابن الزبير، فقال: اذهب بنا إلى ابن عمر حتى نسألَه. فأتينا ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن! إنّ والدي تُوُفِّيَ، وأوصى بجملٍ في سبيل الله، وهذا ابن عمي، وهو في جيشِ ابن الزبير، أفأدفع إليه الجمل؟ قال ابن عمر: يا بُنيّ! إنّ سبيل الله كلُّ عملٍ صالح، فإنْ كان والدك إنّما أوصى بجمله في سبيل الله -عزَّ وجلَّ-، فإذا رأيت قوماً مسلمين يغزون قوماً مِن المشركين، فادفع إليهم الجمل؛ فإنّ هذا وأصحابَه في سبيل غلمانِ قومٍ أيُّهم يضع الطابَع" (¬2). 8 - عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "والذي نفسي بيده، لتأْمُرُنَّ بالمعروف، ولتنْهونَّ عن المنكر، ولَيوشكنَّ الله أن يبعثَ عليكم عِقاباً منه، ثمّ تدعونه فلا يستجيب لكم" (¬3). 9 - استيلاء الغفلة والشهوة والذنوب، قال -تعالى-: {إنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1848. (¬2) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وانظر "صحيح الأدب المفرد" (284). (¬3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1762)، وحسَّنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (2313).

بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنفُسِهِمْ} (¬1). 10 - عدم تحمُّل المسؤولية، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته: الإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته، والرجل راعٍ في أهله، وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها، ومسؤولةٌ عن رعيَّتها، والخادم راعٍ في مال سيِّده وهو مسؤولٌ عن رعيَّته" (¬2). 11 - البحث عن العزة بغير الدَّين، قال الله -تعالى-: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (¬3)، وقال -تعالى-: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬4)، وفيه قول عمر -رضي الله عنه- المتقدِّم: "إنَّا كنَّا أذلَّ قومٍ، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما طلبنا العزَّ بغير ما أعزَّنا الله به، أذلَّنا الله". 12 - عدم معرفة قدْر العلماء الرَّبانيين، قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬5). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سلك طريقاً يلتمس فيهِ علماً سهَّل الله له طريقاً إلى الجنّة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإنّ العالِم لَيسْتَغْفِرُ له مَن في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفَضْل العالم على العابد كفَضْل القمر على سائر الكواكب، وإنّ العلماء وَرَثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يُورِّثوا ¬

_ (¬1) الرعد: 11. (¬2) أخرجه البخاري: 893، واللفظ له، ومسلم: 1829. (¬3) النساء: 139. (¬4) المنافقون: 8. (¬5) فاطر: 28.

ديناراً ولا درهماً إنما ورَّثوا العلم فمن أخذَه أخذَ بحظٍّ وافر" (¬1). وإنّ العلماء وَرَثة الأنبياء، فيجب تحكيم ورثته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد وفاته. وإنّك لتسمع في المصائب والملمّات والنّكبات: أين العلماء؟!. فأقول: إن قوّة العلماء باستجابة الأمّة والمجتمعات. وهل أنتم مستجيبون لتوجيهات العلماء؟! أين استجابتكم في تحقيق التّوحيد تفقُّهاً وعَمَلاً بمقتضاه؟! أين استجابتكم في تحقيق اتباع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واجتناب البدعِ والضَّلالات؟! أين استجابتكم في الاقتداء بالصحابة -رضي الله عنهم-؟! أين استجابتكم في ترْك الربا والغيبة والنميمة؟! أين استجابتكم في الائتمار بأوامِر الله واجتناب نواهيه؟! فأين أنتم؟! أين أنتم؟! أين أنتم؟!. 13 - الخلاف بين الراعي والرعيَّة. عن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خِيارُ أئِمَّتكم الذين تحبُّونهم ويحبُّونكم، ويُصلُّون عليكم وتُصلُّون عليهم، وشرارُ أئمّتكم الذين تُبغِضونهم ويُبغِضونكم وتَلْعنونهم ويَلْعنونكم. قيل: يا رسول الله! أفلا نُنَابذُهم بالسّيف؟ فقال: لا؛ ما أقاموا فيكم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وحسَّنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (70).

الصلاة، وإذا رأيتم مِن وُلاتِكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمَله ولا تَنْزِعوا يداً مِن طاعةٍ" (¬1) واعلم -رحمني الله وإياك- أنّ المجتمع يتكوَّن من الراعي والرعيّة والعلماء، فإذا لم يكن الحبُّ والتآلف والطاعة؛ كان الدَّمار والهزيمة، وتعطيل الجهاد في سبيل الله -تعالى-. فيجب السعي لتحصيل التوافق المذكور؛ إذ هو من السُّنَنِ الكونية التي لا يمكن تجاهلها والتغافل عنها. فالواجب على الحُكَّام أن يعلموا دورهم ومسؤوليتهم العظيمة؛ بالحكم بما أنزَل الله -تعالى-، والعمل بمقتضى الكتاب والسنَّة؛ والرجوع إلى العلماء الرَّبانيين؛ للإفادة منهم في ذلك. وعلى الأُمَّه طاعة الحُكّام والسلاطين والأمراء. قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 170): "وأولو الأمر: أصحابُ الأمر وذووه؛ وهم الذينَ يَأْمُرون الناس؛ وذلك يشترك فيه أهلُ اليد والقدرة وأهل العلم والكلام؛ فلهذا كان أولوا الأمر صنفين: العلماء؛ والأمراء. فإذا صلَحوا صَلَح الناس، وإذا فَسَدوا فَسَد الناس". وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 394): "فإذا كان المقصودُ بالسلطان والمالِ؛ هو التقربَ إلى الله وإنفاقَ ذلك في سبيله، كان ذلك صلاحَ الدين والدنيا. وإنِ انفردَ السلطان عن الدين، أو الدين عن السلطان؛ فسَدَت أحوالُ الناس، وإنّما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته بالنية ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 1855.

والعمل الصالح؛ كما في "الصحيحين" (¬1) عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبِكم وأعمالِكم".". وكذا ينبغي على العلماء أن يكونوا ربانيين، عاملين بمقتضى عِلْمهم، حتى يظلّوا في مقام الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة. 14 - ترك الجهاد في سبيل الله -تعالى- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا تبايعتم بالعِينَة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتُم بالزَّرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذُلاًّ لا يَنْزِعُه حتى ترجعوا إلى دينكم" (¬2). وعن أبي بكرٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما ترَك قوم الجهاد؛ إلاَّ عمَّهم الله بالعذاب" (¬3). قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (تحت الحديث 2663): "والحديث مِن أعلام نبوّته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما يشهَد بذلك واقع المسلمين في كثيرٍ مِن البلاد، وما حادِثةُ مهاجمةِ اليهود للمسلمين، وهم سجود صُبْح الجمعة مِن رمضان، هذه السنة (1414) في مسجد الخليل في فلسطين ببعيد. وصدَق الله: {ومَا أصَابَكُمْ مِن ¬

_ (¬1) انظر "صحيح مسلم" (2564)، ولم أجده في "صحيح البخاري". (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني في "الكبير"، وخرَّجَه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" برقم (11)، وتقدّم. (¬3) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وخرجه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2663)، وتقدّم.

عجبا من التخبط والعشوائية في طلب النصر

مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬1). أسال الله -تعالى- أن يُلهم المسلمين الرجوع إلى فَهْم دينهم فَهْماً صحيحاً، والعمل به ليُعزَّهم وينصرهم على عدوِّهم". عجباً من التخبُّط والعشوائية في طلب النَّصر بعد هذا أقول: لا يكاد ينتهي عجبي مِن الموازين المقلوبة، التي يَزِن بها أكثر الناس اليوم في شأن النَّصر والغَلَبة. إنّهم يريدون النصر، ولكن لا أعلم بأيِّ ميزان -وإن كنت أعلم-!! فلا هم بميزان الكُفَّار يَزِنون، فيقارنون القوة بالقوة والسلاح بالسلاح، والإعداد بالإعداد والأعداد بالأعداد. ولا هم بميزان المؤمنين يَزِنون، من الإعداد العقدي والروحي والمعنوي والمادي الممكن! إنّها الدعوة إلى الجهاد مِن غير إعداد. إنها الدعوة إلى الإغراق في حروب دون معرفة ما يُعَدُّ للحروب. إنّها الدعوة إلى ميدان العسكرية؛ مع تجاهُل ما تتطلّبه العسكرية. وإذا لم يأخذ المسلمون بأسباب النصر؛ وحصَلَت الهزيمة -لا قدر الله، فلْيَحْذروا من اتهام الله- تبارك وتعالى- بما قضاه لهم به. عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه- قال: "إن رجلاً أتى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا نبى الله! أيُّ العمل أفضل؟ قال: الإيمان بالله، وتصديقٌ به، وجهادٌ في سبيله. ¬

_ (¬1) الشورى: 30.

البشرى بانتصار المسلمين وانتشار الإسلام

قال: أريد أهونَ مِن ذلك يا رسول الله! قال: السَّماحة والصبر. قال: أريد أهون مِن ذلك يا رسول الله! قال: لا تتَّهم الله -تبارك وتعالى- في شيءٍ قضَى لك به" (¬1). وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬2). البشرى بانتصار المسلمين وانتشار الإسلام لقد ورَدَت نصوص عديدة؛ تُبشّر بانتصار المسلمين وظهور الإسلام على الأديان كلِّها، والذي أَرمي إليه من هذا المبحث؛ ألاّ ييأس المسلم إذا رأَى ما عليه المسلمون الآن؛ مِن ضعف وهوان وشتات وضياع، ولتنبعثَ الِهمَم وتنشط، ويقوى الرجاء في القلوب ويعظُم، وليكون الإعداد للجهاد، كما أمَرَ الله -تعالى- والنصر آت بإذن الله، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. *قال الله -عزّ وجلّ-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (¬3). تُبشّرنا هذه الآية الكريمة بأنّ المستقبل للإسلام بسيطرته وظهوره وحُكمه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والطبراني، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1307)، و"الصحيحة" (3334). (¬2) الشورى: 30. (¬3) التوبة: 33.

على الأديان كلِّها، وقد يَظنُّ بعض الناس أنّ ذلك قد تحقَّق في عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعهد الخلفاء الراشدين والملوك الصالحين، وليس كذلك، فالذي تحقَّق إنما هو جزءٌ مِن هذا الوعد الصادق؛ كما أشار إلى ذلك النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: "لا يذهبُ الليل والنهار حتى تعبد اللاّت والعُزّى، فقالت عائشة: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أنّ ذلك تامّاً، قال: إنّهُ سيكونُ من ذلك ما شاء الله" (¬1) الحديث. وقد وَرَدت أحاديثُ أخرى؛ توضح مبلغ ظهورِ الإسلام ومدى انتشاره؛ بحيث لا يَدَعُ مجالاً للشكِّ في أن المستقبل للإسلام -بإذن الله وتوفيقه-. قال شيخنا -رحمه الله-: "وها أنا أسوق ما تيسَّر من هذه الأحاديث؛ عسى أن تكون سبباً لشحذِ هِمَم العاملين للإسلام، وحُجةً على اليائسين المتواكلين: "إنّ الله زَوَى (¬2) لي الأرض، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإنّ أمّتي سيبلغ مُلكُها ما زُوي لي منها" (¬3). الحديث. وأوضح منه وأعمّ الحديث التالي: "ليَبْلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلَغ الليلُ والنّهار، ولا يَتركُ الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلاَّ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 2907. (¬2) أي: جَمَعَ وضَمَّ. (¬3) أخرجه مسلم: 2889.

أدخَله الله هذا الدين بعزِّ عزيزٍ، أو بذُلِّ ذليلٍ، عزّاً يُعزُّ الله به الإسلام، وذُلاًّ يُذِلُّ به الكُفرَ" (¬1). ومما لا شكّ فيه؛ أن تحقيق هذا الانتشار، يستلزم أن يعود المسلمون أقوياء؛ في معنوياتهم وماديّاتهم وسلاحهم، حتى يستطيعوا أن يتغلّبوا على قوى الكفر والطغيان، وهذا ما يُبشِّرنا به الحديث [الآتي]: "عن أبي قَبيلٍ قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص وسُئل: أيُّ المدينتين تُفتَحُ أولاً: القسطنطينيةُ أو رُومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حِلَق، قال: فأخرَج منه كتاباً (¬2)، قال: فقال عبد الله: بينما نحنُ حول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نكتبُ؛ إذ سُئلَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيّ المدينتين تُفتَح أولاً أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مدينةُ هِرَقْل تُفْتَح أوّلاً. يعني قُسْطَنطينيَّة" (¬3). و (رومية): هي روما، كما في "معجم البُلدان" وهي عاصمة إيطاليا اليوم. وقد تحقَّق الفتح الأول على يدِ محمّد الفاتح العثماني؛ -كما هو معروف-، وذلك بعد أكثر من ثمانمائة سنة مِن إخبار النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفتح، وسيتحقّق الفتح الثاني بإذن الله -تعالى- ولا بد، ولتعلمنَّ نبأه بعد حين. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والطبراني في "المعجم الكبير" وابن حبان في "صحيحه" وغيرهم، وانظر "تحذير الساجد" (ص 118) و"الصحيحة" برقم 3. (¬2) قال شيخنا -رحمه الله- في التعليق: قول عبد الله هذا رواه أبو زرعة أيضاً في "تاريخ دمشق" (96/ 1) وفيه دليلٌ على أنّ الحديث كُتِب في عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬3) أخرجه أحمد، والدارمي، وابن أبي شيبة في "المصنف" وغيرهم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال شيخنا -رحمه الله-: هو كما قالا، وانظر "الصحيحة" برقم (4).

ولا شك أيضاً أنّ تحقيق الفتح الثاني؛ يستدعي أن تعود الخلافة الراشدة إلى الأمّة المسلمة، وهذا ممّا يُبشّرنا به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله في الحديث: "تكون النُّبوَّة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثمّ يرفعها الله إذا شاء أن يرفعَها، ثمّ تكون خلافة على مِنهاج النُّبوَّة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثمّ يرفعها إذا شاء أن يرفعَها، ثمّ تكون مُلكاً عاضّاً (¬1) فيكون ما شاء الله أن تكون، ثمّ يرفعها إذا شاء الله أن يرفعَها، ثمّ تكون مُلكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثمّ يرفعها إذا شاء أن يرفعَها، ثمّ تكون خلافة على منهاج النُّبوَّة، ثمّ سكَت" (¬2).* (¬3) انتهى. ولمّا اشتدت العداوة مع اليهود؛ فلا بدّ من ذِكْر البُشرى بالانتصار عليهم. فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تقاتلون اليهود حتى يختبيَ أحدهم وراء الحجر، فيقول: يا عبد الله هذا يهودي ورائي فاقتله" (¬4). والنصوص في انتصار المسلمين وفتوحاتهم القادمة كثيرة والحمد لله، وأكتفي بما تقدّم. -تم بحمد الله تعالى- ¬

_ (¬1) أي: يُصِيبُ الرَّعيَّة فيه عسْفٌ وظُلْم؛ كأنَّهم يُعَضُّون فيه عَضّاً. وانظر "النّهاية". (¬2) أخرجه أحمد وغيره وانظر "الصحيحة" برقم (5). (¬3) ما بين نجمتين من "السلسلة الصحيحة" بتصرّف يسير، تحت عنوان (المستقبل للإسلام) انظر الأحاديث (1 - 5). (¬4) أخرجه البخاري: 2925، ومسلم: 2921.

§1/1